المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الثقافة الجماهيرية > القضية الفلسطينية بين 1948-1973

16 كانون الثاني (يناير) 2023

القضية الفلسطينية بين 1948-1973

إعداد:د. عثمان عثمان

القضية الفلسطينية بين 1948-1973

مقدمة

شكلت الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى في عام 1948، وهو العام الذي يعرف بعام النكبة، نقطة تحول كبيرة في مسار القضية الفلسطينية بشكل خاص، وفي طبيعة الصراع العربي- الإسرائيلي وتطوراته بشكل عام، إضافة إلى أبعادهما على السلم والأمن الإقليميين والدوليين معاَ. فقد أسفرت تلك الحرب عن نتائج خطيرة على صعيد القضية الفلسطينية تمثلت بقيام إسرائيل واحتلالها لما نسبته حوالي 77% من مساحة فلسطين التاريخية، وكذلك تشريد وتهجير ما يقرب من ثلثي الشعب الفلسطيني قسراً من بيوتهم وقراهم إلى أماكن اللجوء والشتات. كما أحدثت التطورات الإقليمية والدولية في السنوات اللاحقة تغييرات كبيرة في موازين القوى بين الدول العربية وإسرائيل، نجم عنها حروب متواصلة كان لها تأثيرات كبيرة في طبيعة قضايا الصراع ، وعلى رأسها قضيتي التحرير والعودة ، وكذلك في الأطراف المشاركة، ومن ضمنها القوى الكبرى من جهة، ومنظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى.
هذا ما سيتم تناوله في هذه الوحدة، وذلك من خلال ثلاثة مباحث رئيسية:
المبحث الأول، وهو بعنوان سقوط البلاد، ويستعرض الظروف المحلية والدولية في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية وما بعدها، وبالأخص العوامل التي تسببت في تقسيم البلاد، وتهجير الفلسطينيين حتى حرب عام 1948 التي سيتم تناولها تفصيلاَ من حيث الوقائع والنتائج.
المبحث الثاني، وهو بعنوان منظمة التحرير الفلسطينية، وفيه يجري دراسة المنظمة من حيث عوامل نشأتها وميثاقها ونظامها ومؤسساتها وفصائلها.
المبحث الثالث، وهو بعنوان حروب متواصلة، ويتناول الحروب العربية الإسرائيلية التي وقعت خلال الفترة الزمنية لهذه الوحدة، ومنها العدوان الثلاثي عام 1956، وحرب حزيران عام 1967.

المبحث الأول

سقوط البلاد
من زاوية موازين القوى وما تنطوي عليه من تنظيم وتدريب وتسليح ووضوح الرؤية والأهداف يمكن اعتبار عام 1937 عام الوطن القومي اليهودي. انتهى الإضراب في ذلك العام بلا فائدة وبناء على وعود غير مباشرة من بريطانيا التي قامت سياستها على تهويد فلسطين، وتم عزل الجماهير عن الثورة والثوار من خلال الإجراءات البريطانية القاسية بحق السكان، ومن خلال صراعات القيادات العائلية المتنفذة التي نشرت الفساد واستغلت الثورة لتصفية حساباتها الخاصة فيما بينها. تراجعت الثورة الفلسطينية إلى درجة أنها لم تعد مؤثرة إلى الحد الذي يجبر بريطانيا على تغيير سياساتها. هذا فضلا عن تدخل قادة عرب لصالح البحث عن تفاهم "ودي" مع الدولة المستعمِرة.
لكن الظروف المحلية والدولية لم تكن تأذن بإقامة الوطن القومي أو الدولة اليهودية عام 1937 وتم التريث حتى نضوج ظروف تقود إلى مخرج قانوني دولي لتنفيذ المهمة. كانت الثورة الفلسطينية مستمرة ولكن بوتيرة متناقصة الحدة، وكان من المحتمل أن تؤدي سياسة التعجيل بإقامة الوطن القومي إلى تأجيج المشاعر وزيادة حدة الثورة. فضلا عن أن دول الغرب والصهيونية كانت منشغلة إلى حد كبير بما يحضر له هتلر، ولم يكن لديها ما تستند إليه قانونيا في استكمال إجراءات طرد أهل فلسطين لصالح اليهود.
انشغلت الدول الغربية خلال الحرب العالمية الثانية، لكن الحركة الصهيونية استمرت في تعزيز تواجدها في فلسطين وحضورها على الساحة الدولية. عززت المستوطنات في فلسطين وحسنت من قدراتها العسكرية بخاصة تلك المتعلقة بحرب العصابات. أما على الساحة الدولية فعملت على عدم معاداة أي من الدول المشاركة في الحرب بما فيها ألمانيا وذلك لكي تبقى في مأمن مهما كانت نتيجة الحرب. وهناك من الأبحاث التي قام بها غربيون ما يؤكد تعاون الصهيونية مع هتلر المتهم بإبادة ملايين اليهود. تعاونت الحركة الصهيونية مع هتلر لكي تدفع باليهود خارج ألمانيا وبالتحديد نحو فلسطين. أما على مستوى دول الحلفاء فقد عملت على تشكيل بعض الكتائب العسكرية للمساعدة في الحرب ضد ألمانيا، وسخرت وسائل إعلامها للترويج لصالح الحلفاء. وفي هذه الأثناء كانت الحركة قد بدأت بنقل مقرها الرئيس من أوروبا إلى الولايات المتحدة، حيث نما التواجد اليهودي بشكل كبير، ولأن أمريكا أخذت تبرز بطريقة تشير بأنها ستكون القوة الأولى في العالم. فالالتصاق بالقوي هو من سياسة الحركة الصهيونية. ونتيجة للتركيز على الولايات المتحدة، عقدت الحركة الصهيونية مؤتمرها العام عام 1942 في مدينة بلتيمور وأعلنت أنها تعمل على إقامة دولة في فلسطين وليس مجرد وطن قومي، والتمييز بين هذا جعل من الممكن أن تكون لقوم معين بقعة أرض يقطنونها لكنهم لا يقيمون عليها دولة ويبقون جزءا من دولة كبيرة تشمل عددا من القوميات.
بعكس الحركة الصهيونية، لم يعمل الشعب الفلسطيني على لعق جراحه وإعادة ترتيب أوضاعه الداخلية وتنظيم صفوفه، وبقي منهمكا في صراعات عائلية ألحقت أضرارا هائلة بالشعب الفلسطيني. ولم تقتصر المنافسات العائلية على العائلات القيادية الإقطاعية وإنما امتدت إلى مختلف القرى بحيث وجد الناس متسعا من الوقت للتلهي بما عرف "بالطوشات" والتي بدورها عززت التعصب العائلي والانغلاق على حساب المصلحة الوطنية العامة. تتحمل القيادات العائلية المتنفذة الجزء الأكبر من المسؤولية، لأنه كان بإمكانها أن تطور البرامج الضرورية لحشد الطاقات ولكنها فضلت الاستمرار فيما اعتادت عليه. ضاعت ست سنوات حرجة من عمر الشعب الفلسطيني كان من الممكن أن يؤثر استغلالها وطنيا على المسيرة التاريخية للتآمر الغربي على الشعب والأرض.
مرحلة ما بعد الحرب العالمية
وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945 وذلك بانتصار الحلفاء. وكما هو متوقع بدأ المنتصرون بترتيب الأمور العالمية بالطريقة التي يرونها مناسبة والتي –بالتأكيد- تخدم مصالحهم وأهدافهم. يقتصر الحديث هنا حول القضية الفلسطينية دون التوسع على المستوى العالمي. ولعل ظهور الولايات المتحدة كأقوى دولة في العالم يعطينا أحد المتغيرات الرئيسة التي لها انعكاساتها على القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
ظهرت الولايات المتحدة برئاسة ترومان متحمسة جدا لفكرة إقامة الوطن القومي اليهودي، علما أنها كانت تدخلت سابقاً من خلال سفيرها في الآستانة وذلك في نهاية القرن التاسع عشر؛ لتسهيل بيع بعض الأراضي لليهود. ومع دخول أمريكا حلبة الساحة الدولية بقوة، طلب الرئيس ترومان من بريطانيا السماح لأعداد متزايدة من المهاجرين اليهود بالدخول إلى فلسطين. ويبدو أن بريطانيا قد قدرت اهتمام الولايات المتحدة ليس فقط بإقامة وطن قومي لليهود، وإنما بإقامة دولة يهودية في فلسطين، فبدأت بالتفكير بالخروج من فلسطين.
أصبح لدى بريطانيا مبرر قوي للخروج من البلاد بعدما بدأ اليهود حرب عصابات ضدها أسموها حرب الاستقلال. ببساطة، قال اليهود لبريطانيا بعد انتهاء الحرب إنها دولة استعمارية وإن عليها أن ترحل عن "بلادهم"، وإن لم يكن سلما فحربا. وفعلا قام اليهود بشن هجمات عسكرية ضد بريطانيا كان من بينها تفجير فندق الملك داود في القدس وأصابوا حوالي مائة من الجنود بين قتيل وجريح. وقررت بريطانيا إعدام ثلاثة من اليهود، فقام اليهود باختطاف اثنين من البريطانيين وأعدموهما وعلقوا الجثتين على شجرة. وعندما ذهب الإنكليز لأخذ الجثتين سقطت إحداهما على لغم زرع تحت الشجرة فتناثرت إلى أشلاء.
حاولت بريطانيا أن تصل إلى حل يرضي العرب واليهود على حد سواء لكنها فشلت، فلجأت إلى هيئة الأمم المتحدة التي شكلتها الدول المنتصرة في الحرب عام 1945. قالت بريطانيا إنها لم تعد قادرة على السيطرة على الوضع في فلسطين وإنها قررت حمل القضية إلى هيئة الأمم وريثة عصبة الأمم التي أقرت الانتداب البريطاني على فلسطين، ومن ثم على الأمم المتحدة أن تقرر ما تراه مناسبا.
الهيئة العربية العليا
غرقت القيادات العائلية المبعثرة بالخلافات الداخلية ومنافساتها التقليدية على ما يسمى بالوجاهة والزعامة. في حين قامت الجامعة العربية بتشكيل قيادة فلسطينية بهدف التنسيق معها في مختلف الأمور، علما أن الجامعة اتخذت قراراً خاصاً في اجتماع أنشاص عام 1946 بأن القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فحسب، وإنما قضية العرب جميعاً، ودعت إلى دعم الشعب الفلسطيني بالمال من أجل المحافظة على الأرض، وهددت بأن استمرار الدولتين اللتين وصفتا بالصديقتين، بريطانيا وأمريكا، بسياسة دعم المشروع الصهيوني، يهدد العلاقات الطيبة بينهما وبين العرب.
بعد التشاور مع الفلسطينيين، أعلنت الجامعة العربية في اجتماعها المنعقد في بلودان في حزيران، يونيو/1946 عن تشكيل الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني وعضوية كل من جمال الحسيني وأحمد حلمي عبد الباقي وحسين فخري الخالدي وإميل الغوري لتمثل الشعب الفلسطيني وتقوده إلى الخلاص. اعترفت مختلف الفئات الفلسطينية من أحزاب ومنتديات وجمعيات بالهيئة وقالت إنها ستتعاون معها. وكان من المتوقع أن تتولى الهيئة ترتيب أوضاع الشعب الفلسطيني وتشكيل هيئات إدارية تعتني بمختلف الشؤون الداخلية، وكذلك القيام بالنشاطات الخارجية، مثل: أعمال الإعلام السياسي وشرح القضية الفلسطينية والاتصال بمختلف الدول وبالأمم المتحدة للوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني.
لم يكن بإمكان الحاج أمين الحسيني العودة إلى البلاد بسبب رفض بريطانيا السماح له وذلك بناء على أمر أصدرته عام 1937. ولهذا أقام الحاج مكتبا بالقاهرة بالإضافة إلى مكتب القدس الذي كان يديره جمال الحسيني، وقد رفع الحاج عدد أعضاء الهيئة وذلك بإضافة خمسة جدد بهدف تغطية مختلف النشاطات المطلوبة. وقد تم إنشاء عدد من الدوائر المختصة بالنشاطات الداخلية والخارجية، إلا أن أهمها كان إنشاء الجهاد المقدس وهو الجيش الفلسطيني بقيادة عبد القادر الحسيني. وبالتالي فقد حصل الحاج على أموال من جهات عربية رسمية وغير رسمية لتمويل مختلف النشاطات، لكنها لم تكن كافية.
حاولت الهيئة العربية العليا الوصول إلى دول كثيرة بهدف إقناعها بعدالة القضية الفلسطينية وبطلان الادعاءات الصهيونية، لكن جهودها كانت تصطدم بالنفوذ الأمريكي والبريطاني والصهيوني، هذا فضلا عن أن أغلب دول أوروبا الغربية والشرقية بما فيها الاتحاد السوفييتي كانت منحازة بشكل واضح لصالح إسرائيل. لكن من المهم الإشارة أيضا إلى أن تشكيل الهيئة جاء متأخرا جدا وفي وقت كانت الصهيونية قد وقفت على أرض صلبة وأصبحت جاهزة لإقامة الوطن القومي. أي أن الهيئة لم تكن سوى العمل الأخير النابع من "حلاوة الروح".
التقسيم
استمرت بريطانيا في محاولة التنصل من مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني وذلك بتسليم القضية لهيئة الأمم المتحدة. نوقشت المسألة مرارا واستقر الرأي على إحالتها إلى لجنة ضمت في عضويتها أستراليا وكندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وغواتيمالا وأروغواي وإيران والهند وبيرو وهولندا والسويد. على الرغم من احتجاج العرب والفلسطينيين على فكرة اللجنة من حيث أن المسألة قيد البحث قد أشبعت نقاشا إلا أن أحدا لم يسمع. استمرت اللجنة في عملها وانقسمت في النهاية إلى قسمين: الأكثرية والأقلية. قدمت الأكثرية مشروعا تضمن تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية على أن تحوزا على الاستقلال بعد سنتين اختباريتين يتم خلالهما ترتيب العلاقات فيما بينهما. أما الأقلية والتي شملت يوغوسلافيا وإيران والهند فقد اقترحت إقامة حكومة اتحادية في فلسطين على أن تشمل كيانين عربي ويهودي يتمتع كل منهما بحكم ذاتي.
مالت الأمم المتحدة لصالح مشروع الأكثرية، وكانت النتيجة أن قبل اليهود المشروع ورفضه العرب والفلسطينيون. عُرض المشروع على الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/ تشرين الثاني، نوفمبر/1947 للتصويت، بعد أن بذلت الولايات المتحدة جهودا ضخمة لاستقطاب أغلبية الثلثين المطلوبة لتمرير المشروع. واستعملت أمريكا العصا والجزرة من أجل إجبار الدول على التصويت لصالح الصهيونية. وجاءت نتيجة التصويت: 32 صوتاً لصالح المشروع، و13 ضده،بينما امتنع 10، وتغيب عضو واحد. ويذكر أن سبع دول من التي صوتت لصالح التقسيم وقفت ضده أثناء أعمال اللجنة الخاصة المكلفة بمناقشته.
تم تقسيم فلسطين حسبما هو مبين في الخريطة رقم (1) إلى سبع مناطق: ثلاث منها وهي الجليل الشرقي والسهل الساحلي الشمالي والنقب لليهود، وثلاث أخرى للعرب وهي الجليل الغربي والسهل الساحلي الجنوبي ومنطقة الوسط الجبلية على أن تشمل مدينة يافا الواقعة داخل المنطقة المخصصة لليهود، ومنطقة سابعة مدّولة تشمل القدس وبيت لحم والقرى المجاورة. (انظر الخريطة رقم 2). خصص التقسيم حوالي 45% (12200 كم2) من مساحة فلسطين الانتدابية للعرب، وحوالي 53.3% (14400 كم2) لليهود، وحوالي 1.5% كمنطقة دولية. علما أن عدد الفلسطينيين كان يقدر في حينه بحوالي مليون ونصف بينما قُدّر عدد اليهود بحوالي ستمائة ألف. فقد ساد منطق الشرعية الدولية للأمم المتحدة وليس منطق الشرعية الإنسانية أو المتناسبة مع الحق.

- تهجير الفلسطينيين

امتلك اليهود جيشا في تلك الفترة قوامه حوالي 68,000 جندي، وكانت لديهم عدة تشكيلات عسكرية يأتي في مقدمتها الهاجاناة (الدفاع) التي كانت تابعة لحزب العمل على رأسها. إضافة إلى منظمة أخرى امتهنت أعمال العنف والتدمير وهي الأرغون أو الليحي بقيادة مناحيم بيغن. شعر اليهود بعد التقسيم بأن ورقة هامة قد أصبحت في أيديهم وهي ورقة القرار الدولي الذي يشكل شرعية دولية، فأخذوا يستعدون لطرد العرب. ولهذا بدأت المنظمات الصهيونية بالاستعداد لترهيب الناس وتخويفهم من خلال القتل والعدوان عساهم يرحلون.
كان جيش الجهاد المقدس قد شُكّل، لكنه كان ضعيفاً بالمقارنة مع جيش اليهود وتنقصه العدة والعدد. فضلا عن أن الجيش كان متركزا في منطقة القدس، ولم يكن منتشرا في أنحاء البلاد. خاض الجهاد عددا من المعارك وأبلى فيها لكنه لم يكن حقيقة قادرا على الاحتفاظ بالمناطق التي كان يدخلها بسبب ضغط اليهود العسكري. إن قائد الجيش عبد القادر الحسيني استشهد في معركة القسطل بالقرب من القدس في نيسان 1948. بعد أن حاول أن ينقذ القسطل من الاحتلال اليهودي، وتقدم جنوده محاولا اقتحام المواقع اليهودية إلا أنه تدرج بدمائه مجبولا بتراب فلسطين.
كانت معركة باب الواد أهم معارك الجهاد المقدس. فهذا الباب -باب الواد- عبارة عن ممر هام يصل السهل الساحلي بالقدس ويستطيع من يسيطر عليه أن يتحكم بحركة المواصلات في تلك المنطقة شرقا وغربا. رأى الجهاد المقدس أن يسيطر على الممر بهدف عزل القدس مما قد يؤدي إلى انهيار اليهود في القدس الغربية وتحرير المدينة من وجودهم. بدأت المعارك مع بداية آذار/ مارس 1948. استطاع الجهاد المقدس أن ينصب الكمائن ويوقع خسائر كبيرة بصفوف الصهاينة سواء في النفوس أو في العتاد. وقد هب المسلحون الفلسطينيون من مختلف أنحاء فلسطين للمشاركة في المجهود الحربي، وكذلك الشيخ هارون بن جازي من شرقي الأردن الذي أتى على رأس متطوعين للقتال ضد الصهاينة.
على الرغم من قدرة الجهاد المقدس على إيقاع الخسائر في صفوف اليهود إلا أنه لم يستطع إحكام الحصار على القدس واستطاع اليهود فكه وإدخال التموين والمياه إلى المدينة. لكن المعارك استمرت وبمشاركة قوات جيش الإنقاذ بقيادة الضابط العراقي محمد مهدي العاني حتى 15 أيار / مايو 1948 عندما دخل الجيش الأردني ساحة المعركة. تكبد الصهاينة خسائر كبيرة لكن الجهاد المقدس لم يستطع أن يحسم المعركة.
أثر غياب القدرة العسكرية كثيرا على معنويات الناس وشعورهم بالأمن والأمان وفتح المجال أمام اليهود لينكلوا بهم كيفما شاؤوا، هذا ما خططت له بريطانيا وهذا ما حصل، ودفع ثمنه الشعب الفلسطيني غاليا. كان الجو ملائما بالنسبة لليهود فأعملوا السلاح بالرقاب، فهاجموا دير ياسين وقتلوا حوالي 250 من سكانها العزل، وهاجموا بيت دراس في جنوب غرب فلسطين، وارتكبوا مذبحة بلد الشيخ بالقرب من حيفا، وناصر الدين بالقرب من طبريا، والطنطورة جنوب حيفا، والدوايمة جنوب غرب الخليل، وأبو شوشة بالقرب من القدس، وبيت الخوري على نهر الأردن، ومجزرة مسجد دهمش في اللد حيث قُتل الشباب داخل المسجد.
قام اليهود بهذه المجازر وغيرها بهدف إرهاب الناس وإجبارهم على الفرار خارج البلاد. أراد الصهاينة البلاد خالية من السكان بهدف إسكان اليهود وتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود لا ينازعهم فيه أحد. وقد نجح اليهود إلى حد كبير في هذا حيث هرب العديد من الناس إلى المناطق المجاورة في شرقي الأردن وسوريا ولبنان. إذ غادر فلسطين العديد من الناس تحت ضغط الخوف على الحياة وعلى الأعراض، ولكن على أمل ألا يطول الغياب، إذ أن تفاؤلا قد ساد نتيجة رفض العرب للتقسيم وتصميمهم على حشد الجيوش والدخول إلى فلسطين بعد إتمام البريطانيين انسحابهم من البلاد. وهذا ما أذن بحرب عام 1948 والتي يستطيع القارئ أن يجد بعض تفاصيلها في الفصل الخاص بالحروب.

- حرب عام 1948

بناء على ما تقدم من شرح حول تطور الهجرة الصهيونية إلى فلسطين وأداء القيادات الفلسطينية نحو السيطرة على الأوضاع وتحقيق استقلال فلسطين، فإن تمكن الحركة الصهيونية بمساعدة حليفتها بريطانيا بات واضحا منذ عام 1937، وأن اغتصابها للبلاد لم يكن سوى مجرد وقت. فقد الفلسطينيون السيطرة على الأمور وأثبتت القيادة الفلسطينية عجزها عن الأخذ بزمام المبادرة مما شجع بريطانيا على طرح مشروع التقسيم لعام 1937. رفضت الحركة الصهيونية المشروع؛ لأنها أرادت دولة أكثر اتساعا من الناحية الجغرافية مما خُصص، ورفضه الفلسطينيون؛ لأن في ذلك تنازلا عن الأرض والوطن.
انشغلت بريطانيا في الحرب العالمية الثانية التي نشبت عام 1939، وكثف اليهود جهودهم لترسيخ أقدامهم في البلاد، أما الفلسطينيون فقد انشغلوا كثيرا في صراعاتهم الداخلية ولم يعدوا العدة للمستقبل. فلم يكن للفلسطينيين قيادة تجمعهم تحت مظلة واحدة، إذ كان الحاج أمين الحسيني خارج البلاد، ولم يكن أحد من القيادات داخل البلاد قادرا على جمع الناس.
برزت قضية فلسطين على جدول أعمال الدول العربية خلال السنة الأخيرة للحرب العالمية الثانية، وبالتحديد أثناء التحضير لإقامة جامعة الدول العربية. فقد اتفق القادة العرب الذين اجتمعوا في الإسكندرية أواخر عام 1944 على أن فلسطين ركن أساسي من أركان البلاد العربية، وأكد ميثاق الجامعة العربية -كما أشرت سابقا- على استقلال فلسطين كبلد عربي. وفي عام 1946 اتفق القادة العرب الذين اجتمعوا في أنشاص بالقرب من القاهرة على أن قضية فلسطين ليست قضية الفلسطينيين وحدهم وإنما قضية العرب جميعا، ومسؤولية المحافظة على عروبتها تقع على عاتق العرب. وحتى يكون بمقدور القادة العرب التنسيق مع الفلسطينيين قرروا إنشاء قيادة لهم باسم الهيئة العربية العليا. اتخذ مجلس الجامعة العربية هذا القرار في جلسته المنعقدة في بلودان في الفترة مابين 8-12 حزيران / يونيو 1946.
حذر قادة العرب ومعهم الفلسطينيون من تقسيم فلسطين والتآمر على عروبتها، ودعوا إلى حشد الطاقات واتخاذ التدابير التي تضمن إبقاء فلسطين عربية، لكن الدول الغربية وعلى رأسها بريطانيا لم تأبه بتحذيرات العرب وتهديداتهم. توجهت بريطانيا إلى الأمم المتحدة لتتحمل مسئوليتها بحجة أنها (أي بريطانيا) أصبحت غير قادرة على الاستمرار في القيام بدورها كدولة منتدبة بخاصة أن اليهود أعلنوا " حرب التحرير الشعبية" ضدها بهدف " تحقيق الاستقلال" . اتخذت الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين في 29 تشرين ثاني / نوفمبر1947 وذلك بدعم وتأييد كبير من الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يتلكأ العرب في الرد على قرار التقسيم إذ اجتمعت اللجنة السياسية للجامعة العربية في القاهرة في الفترة ما بين 12-18 كانون أول / ديسمبر 1947 وأعلنت القرارات التالية:

1- وقوف الحكومات العربية وشعوبها مع أهل فلسطين حتى تحقيق استقلالهم.
2- رفض مشروع التقسيم.
3- خوض المعركة وذلك من أجل منع التقسيم.
4- التأكيد على مبادئ الأمم المتحدة وانعكاساتها على الأرض المقدسة التي من المفروض أن تسودها العدالة والمساواة بين جميع الناس.
تمشيا مع هذه القرارات، قررت الدول العربية حشد جيوشها من أجل دخول فلسطين وتحقيق استقلالها في 15 أيار / مايو 1948، أي في اليوم نفسه الذي يخرج فيه آخر جندي بريطاني من فلسطين. بدأ جيش الجهاد المقدس الذي أنشأته الهيئة العربية العليا بمساعدة الدول العربية بالاستعداد للحرب، وأخذت الدول العربية بحشد جيوشها. حشدت الأردن ومصر والعراق وسوريا ولبنان والسعودية جيوشها بالإضافة إلى جيش الإنقاذ الذي تألف من متطوعين عرب بقيادة فوزي القاوقجي. ووضعت هذه الجيوش جميعها تحت قيادة الملك عبد الله بن الحسين ملك الأردن آنذاك.

- الوضع العسكري قبيل الحرب

لم يكن الوضع العسكري قبل الحرب مطمئنا للعرب، إذ أن استعدادهم للحرب كان ضئيلا بالنسبة لاستعداد اليهود الصهاينة، فقد بدأ الصهاينة استعدادهم العسكري لبناء دولة ودحر أي اعتداء عليهم منذ بدؤوا الهجرة إلى فلسطين، وكثفوا هذا الاستعداد مع بداية الانتداب البريطاني الذي قدم لهم الحماية والتسهيلات والدعم على مختلف أشكاله. أما العرب فكانت همومهم بعيدة عن مسألة الاستعداد لمواجهة الصهاينة ولم يكن قد تبلور لديهم في ذلك الوقت شعور بالأمن القومي أو بالدفاع ضد العدوان الخارجي.
اختلفت ملامح المرحلة التاريخية لدى الصهاينة عنها لدى العرب. فاليهود كانوا قد دخلوا عصر الثورة الصناعية وما تبعها من تطور تقني وعلمي واقتصادي، وعايشوا مرحلة الاستعمار الأوروبي والبعث القومي والتنافس بين الشعوب والأقوام، أما العرب فكانت المرحلة بالنسبة لهم مرحلة البحث عن الذات وعن موقعهم في الصراع بين الأقوام الأخرى. فضلا عن أنها كانت مرحلة تخّلف مقيت على مختلف المستويات، وكانت الفجوة الحضارية بينهم وبين الصهاينة واسعة جدا، ففي الوقت الذي كان يعمل فيه الصهاينة على إنشاء المراكز العلمية والزراعية في فلسطين، لم يكن يعرف العربي والفلسطيني بالتحديد الوقت المناسب لحراثة الأرض.
فضلا عن أن الاستعمار الغربي قدم كل الدعم الممكن لليهود وحجبه عن العرب، بل عمل على تسيير العرب بالطريقة التي رآها متناسبة لتحقيق أهدافه بما فيها تحويل فلسطين إلى وطن قومي يهودي. وقد عمل على خلق تركيبة سياسية في الدول العربية لا تقوى على الأخذ بزمام المبادرة أو على اتخاذ القرار المستقل، وبقيت هذه التركيبة عرضة للتأثر المباشر بما تريده الدول الغربية الاستعمارية. ولهذا جاء الميزان العسكري مختلا بصورة كبيرة لصالح اليهود الصهاينة.

في الوقت الذي صدر فيه قرار التقسيم كان لدى اليهود في فلسطين حوالي 68,000 مقاتل بينما توزعت القوات العربية التي شاركت في بداية حرب عام 1948 كالتالي:

1- قوات الجهاد المقدس الفلسطيني حوالي 8000 مقاتل.
2- القوات المصرية حوالي 5000 مقاتل.
3- القوات الأردنية حوالي 4500 مقاتل.
4- القوات العراقية حوالي 3000 مقاتل.
5- القوات السورية حوالي 2500 مقاتل.
6- القوات اللبنانية حوالي 1000 مقاتل.
7- قوات جيش الإنقاذ حوالي 3000 مقاتل.
8- القوات السعودية كانت هامشية.
أي بلغ مجموع القوات العربية بما فيها قوات الجهاد المقدس حوالي 27,000 مقاتل. هذا بالإضافة إلى قوات صغيرة من المتطوعين المصريين الذين جندتهم حركة الإخوان المسلمين للقتال من أجل تحرير فلسطين.
إن مستوى تسليح الجيش اليهودي كان أفضل بكثير من مستوى التسليح العربي، كما أن الجيش اليهودي كان مدربا ومنظما بينما كان التدريب العربي ضعيفا والتنظيم قريبا من الفوضى. أما مستوى التنسيق بين القوات العربية فكان بدائيا على الرغم من وجود قيادة واحدة لها.
للتمكن من سير الأمور العسكرية، عملت قيادة الجيش اليهودي على تخفيف الضغط البشري الفلسطيني عليها قبل الحرب من خلال عدد من المجازر والانتهاكات اللاإنسانية لإرغام الفلسطينيين على الخروج هربا من قراهم ومدنهم. أعمل اليهود، كما أشرت سابقا، القتل بالمدنيين الفلسطينيين في دير ياسين وحيفا وقرى الجليل ويافا واللد، مما أحدث ذعرا عند الناس، دعاهم للنجاة بأنفسهم في مناطق أكثر أمنا مما حسن من الوضع القتالي لليهود.
مجريات الحرب
دخلت الجيوش العربية فلسطين في منتصف ليلة 15 أيار 1948 من عدة نقاط بهدف ضرب القوات الصهيونية والمحافظة على عروبة فلسطين وتحقيق استقلالها، وكان هجومها مركزا على عدة محاور:
أ- الجبهة الشمالية: تقدمت القوات اللبنانية نحو قريتي المالكية وقَدَس وسيطرت عليهما فاتحة الطريق نحو وادي الأردن باتجاه بحيرة الحولة. وقد ساعدتها في ذلك قوات جيش الإنقاذ بقيادة القاوقجي التي توغلت في منطقة الجليل ما بين صفد وعكا.
في الوقت ذاته تقدمت القوات السورية نحو بلدة سمخ الواقعة جنوب-شرق بحيرة طبريا وسيطرت عليها مما دعا اليهود الصهاينة إلى إخلاء بعض مستوطناتهم القريبة. صُدت القوات في هجومها على بعض المستوطنات الصهيونية، لكنها استطاعت أن تحتل مستعمرة مشمار هياردن مما سهل من إمكانية الاتصال بالقوات اللبنانية وجيش الإنقاذ.
ب- الجبهة الشرقية: تقدمت القوات العراقية أولا نحو جنوب طبريا واحتلت مستعمرة يهودية تدعى غيشر، لكنها لم تستطع البقاء فيها فانسحبت ودخلت فلسطين نحو مدينة نابلس. واصل الجيش تقدمة نحو المناطق التي خصصها قرار التقسيم للعرب حتى وصل إلى بعد عشرة كيلومترات من مستعمرة ناتانيا على شاطئ البحر الأبيض المتوسط في مقابل مدينة طولكرم. واستطاع الجيش طرد الصهاينة من مدينة جنين بعد أن كانوا قد احتلوها.
أما الجيش الأردني فتقدم داخل المناطق المخصصة للعرب حسب قرار التقسيم وأقام في مدينتي اللد والرملة. ثم سيطر على مستعمرة عطاروت الواقعة شمال مدينة القدس، وسيطر على منطقة المصرارة وحاصر الحي اليهودي حتى استسلم. حاولت القوات الأردنية محاصرة القدس الجديدة (غربي القدس) والاستيلاء على مستوطنات يهودية في منطقة جبل المشارف إلا أنها فشلت في ذلك. بينما قامت القوات العراقية في المنطقة بالسيطرة على مستوطنة النبي يعقوب، مما أتاح المجال أمام القوات الأردنية بالتحرك نحو مدينة بيت لحم للالتقاء بالقوات المصرية.
ج- الجبهة الجنوبية: تقدمت القوات المصرية عبر سيناء نحو النقب واحتلت مستعمرتي نيريم وكفار دروم. ودخلت القوات غزة وتوجهت شمالا نحو المجدل وسيطرت في طريقها على مستعمرة ياد مردخاي. ثم توجه جزء من القوات نحو أسدود، وجزء آخر نحو بئر السبع فدخلها وتوجه شمالا ليلتقي مع القوات الأردنية في بيت لحم. وبذلك استطاع الجيش المصري أن يعزل المستوطنات اليهودية جنوبي فلسطين عن المناطق الشمالية.
باختصار استطاعت الجيوش العربية على قلة عدد أفرادها وضعف عدتها وعتادها أن تسيطر على أغلب المساحة التي خصصت للعرب حسب قرار التقسيم وعلى أجزاء من تلك التي خصصت لليهود الصهاينة. كان الوضع العسكري العربي جيدا وأبدت الجيوس العربية تفوقا قتاليا على اليهود على الرغم من ميل الميزان العسكري لصالح اليهود.
الهدنة الأولى
هبت الدول الغربية لدعم إسرائيل بعد ما رأته من تقهقر عسكري يلحق بقواتها، وتوجهت نحو مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. فعين المجلس وسيطا دوليا هو "الكونت برنادوت" للبحث عن حل للأزمة في 20 أيار 1948. وفي 22 أيار 1948 اتخذ المجلس قراره رقم (50) والقاضي بوقف إطلاق النار في فلسطين. رفض العرب القرار أولا ثم قبلوه -بعد ضغوط من قبل بريطانيا والولايات المتحدة-. بتاريخ 29 أيار1948 وأصبح نافذ المفعول في 11 حزيران 1948.
نص قرار مجلس الأمن أيضا على ضرورة المحافظة على الوضع العسكري القائم سواء على الأرض أو على مستوى التسليح، أي أنه حّرم على الطرفين تحسين وضعيهما العسكري سواء من ناحية التقدم العسكري على الأرض أو تحسين مستوى التسليح أو تعزيز القوات المتواجدة في الميدان.
التزم العرب بنصوص قرار مجلس الأمن، علما أن سبلهم نحو التزود بالمزيد من الأسلحة لم تكن مفتوحة. أما الدول التي أصدرت قرار مجلس الأمن فقد فتحت مخازنها أمام إسرائيل وطلبت من دول أخرى أن تزود إسرائيل بالسلاح. أتى متطوعون إلى إسرائيل خاصة من الطيارين، وزودت إسرائيل بطائرات من بريطانيا وتشيكوسلوفاكيا والولايات المتحدة، وحصلت على مدافع ودبابات من تشيكوسلوفاكيا. تأهلت إسرائيل للانتقال إلى الهجوم وخرقت قرار مجلس الأمن واحتلت بعض المواقع قبل موعد انتهاء الهدنة في 8 تموز 1948، وسيطرت على بعض القرى العربية وطردت سكانها.
مرحلة التراجع العربي
بدأ القتال للمرة الثانية في 9 تموز 1948 حيث أخذت تميل الكفة لصالح إسرائيل. حاولت إسرائيل دحر القوات العربية على مختلف الجبهات فنجحت في بعض المواقع وفشلت في أخرى. فمثلا فشلت في دحر القوات العراقية في منطقة جنين، لكنها حققت إنجازا بسيطا في منطقة طولكرم. كذلك نجحت القوات الإسرائيلية في احتلال مدينة اللد ومطارها ومدينة الرملة وتقهقر الجيش الأردني أمامها، لكنها فشلت في الاستيلاء على مدينة القدس داخل الأسوار. وعلى الجبهة الجنوبية، تم صد العديد من الهجمات الإسرائيلية، لكن القوات الإسرائيلية استطاعت احتلال بعض القرى العربية.

- الهدنتان الثانية والنهائية

أصدر مجلس الأمن قرارا بوقف إطلاق النار وأصبح نافذ المفعول في 18 تموز 1948. لكن إسرائيل لم تحترم القرار ولم تضغط عليها دول مجلس الأمن. حتى أن إسرائيل أقدمت على قتل المبعوث الدولي برنادوت في 17 أيلول 1948 لأنه كان يفكر بتقديم مشروع تقسيم جديد للأمم المتحدة. واستمرت إسرائيل بهجومها على القوات العربية فدحرت الجيش المصري وحاصرت جزءا من قواته في الفالوجة، وسيطرت على منطقة الجليل بعد دحر القوات اللبنانية والسورية، وسيطرت على منطقة النقب بما فيها ميناء أم الرشراش على خليج العقبة.
من المهم الإشارة هنا إلى أن الدول العربية المشاركة في الحرب قامت ببعض الإجراءات التي أشارت بوضوح إلى سوء نوايا تجاه مجريات الحرب. فمثلا قامت الحكومة العراقية بتغيير القيادات العسكرية الميدانية وزودتها بخرائط جديدة حول الحرية في العمل العسكري، وحرمت قواتها من اجتياز الخطوط الجديدة المشار إليها. أما الجيش الأردني فانسحب فجأة من اللد والرملة وتمركز في شرقي القدس وبيت لحم. في حين تم تزويد الجيش المصري بأسلحة جديدة فاسدة تقتل حاملها وليس الطرف المقابل. بمعنى أن الدول الغربية المهيمنة على الحكومات العربية تعاونت مع هذه الحكومات؛ لتمكين إسرائيل من دحر القوات العربية. وكانت النتيجة أن تم سلب المزيد من الأراضي الفلسطينية وسقوط العديد من الجنود العرب في ساحة المعركة وهم يظنون أن قياداتهم جادة. للمزيد حول هذا الموضوع يمكن للقارئ أن يقرأ كتاب عبد الله التل، كارثة فلسطين. إذ كان التل ضابطا في الجيش الأردني ووقف على حقيقة بعض الأنظمة العربية وتحالفها مع إسرائيل.
انسحبت القوات المصرية من مختلف المناطق وبقيت في منطقة ساحل غزة، وصمتت المدافع على مختلف الجبهات، وأصبحت القوات الإسرائيلية تسيطر على حوالي 76% من مساحة فلسطين. وعندها أصبحت مساحة إسرائيل حوالي 21,000 كيلومتر مربع بعد أن كانت حوالي 14,400 كيلومتر مربع حسب قرار التقسيم، بينما تقلصت المساحة في إيدي العرب من حوالي 12000 كيلومتر مربع إلى حوالي 6000 كيلومتر مربع. تشمل هذه المساحة منطقة الوسط الشرقي الممتدة من مدينة جنين حتى الظاهرية، ومن منطقة ساحل مدينة عزة ومنطقة الحمة على الحدود السورية-الأردنية-الفلسطينية. هذا وتبين الخريطة رقم (2) الأراضي التي احتلتها إسرائيل علاوة على ما خصص لها في قرار التقسيم.
على إثر الهزيمة التي منيت بها الدول العربية عقدت محادثات بين هذه الدول وإسرائيل من أجل عقد هدنة دائمة وذلك في جزيرة رودس. بدأت المحادثات في 13/كانون أول/1948. وقعت مصر أول اتفاقية مع إسرائيل في 24 شباط 1949 ثم تلتها لبنان فالأردن فسوريا. كان هدف هذه المحادثات فصل القوات المتحاربة عن بعضها وتثبيت خطوط وقف إطلاق النار (وليس الحدود) بين الأطراف. وقد وضعت بذلك خطوط تفصل بين القوات العربية واليهودية لكن دون أن يكون لها مرجعية قانونية. أي أن الخطوط لم تشكل اعترافا عربيا بها ولم تصدر الأمم المتحدة قراراً يعتبرها حدوداً لإسرائيل.
سارت محادثات الهدنة بدون تفاعلات تُذكر إلا مع الجانب الأردني. جادلت إسرائيل بأن خصرها أو وسطها عند منطقة طولكرم ضيق جدا وأنها بحاجة إلى توسيعه بعض الشيء، واقترحت على الجانب الأردني أن يعطيها بعض المساحة من منطقة المثلث التي هي جنين-نابلس-طولكرم. وقد وافق الملك عبدالله على تسليم المنطقة المعروفة الآن بالمثلث والممتدة من أم الفحم شمالا إلى كفر قاسم جنوبا. لكن الملك اشترط عدم طرد سكان القرى العربية وإبقائهم في منازلهم، وعلى هذا وافقت إسرائيل. وبذلك أصبحت مساحة إسرائيل حوالي 77% من مساحة فلسطين. وبالرغم من ذلك ما زالت إسرائيل ترى أن المساحة لم تكن كافية وأن خصر إسرائيل لم يتضخم بما فيه الكفاية.

- إعلان الاستقلال

قدم الحاج أمين الحسيني -إبان الحرب- إلى غزة من أجل ترتيب الأوضاع في فلسطين، إلا أن الهزيمة كانت سريعة وغير متوقعة. على إثر محادثات الهدنة العربية مع إسرائيل رأى الحاج أن يسلك طريقا مستقلا، فدعا إلى تشكيل مجلس وطني فلسطيني من شخصيات من القطاع وهذا ما حصل. إذ اجتمع المجلس وأعلن استقلال فلسطين وتشكيل حكومة عموم فلسطين. وتم الإعلان عن فلسطين دولة مستقلة ذات حكم برلماني، ويجد القارئ ضمن الوثائق النص الكامل لإعلان الاستقلال الذي صدر بتاريخ 1 تشرين أول 1948، وهذا هو نصه:
بناء على الحق الطبيعي والتاريخي للشعب العربي الفلسطيني في الحرية والاستقلال، هذا الحق المقدس الذي بذل في سبيله زكي الدماء، وقدم من أجله الشهداء وكافح دونه قوى الاستعمار والصهيونية التي تألبت عليه وحالت بينه وبين التمتع به، فإننا نحن أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في غزة هاشم، نعلن هذا اليوم الواقع في الثامن والعشرين من ذي القعدة سنة 1367 وفق أول تشرين الأول سنة 1948 استقلال فلسطين كلها التي يحدها شمالاً سورية ولبنان، وشرقاً سورية وشرق الأردن وغرباً البحر الأبيض المتوسط وجنوباً مصر استقلالاً تاماً وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة يتمتع فيها المواطنون بحرياتهم وحقوقهم وتسير هي وشقيقاتها الدول العربية متآخية في بناء المجد العربي وخدمة الحضارة الإنسانية. مستلهمين في ذلك روح الأمة وتاريخها المجيد مصممين على صيانة استقلالنا والذود عنه، والله تعالى على ما نقول شهيد.
لكن عمر الحكومة لم يطل، إذ أرسلت القاهرة للحاج أمين الحسيني واحتجزته، وبعثت بقواتها إلى غزة واعتقلت رئيس الوزراء وأعضاء الوزارة، وبهذا تكون الأنظمة العربية أول من قضى على المحاولة الفلسطينية لإقامة دولة مستقلة.

المبحث الثاني

- منظمة التحرير الفلسطينية

منذ النكبة الفلسطينية وسقوط البلاد عام 1948، بدأ الحديث يدور بشكل جدي حول موضوعة التمثيل الفلسطيني، والبحث عن الهوية السياسية، التي يمكن أن تكون عليها الحالة الفلسطينية. كانت هناك العديد من المؤتمرات الفلسطينية التي عقدت وسبقت هذا التاريخ، كما أن العديد من الهياكل السياسية كانت تشكلت للنهوض بالحالة الفلسطينية ومقاومة مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وبالذات منذ أواسط الثلاثينيات وعلى أبواب حرب عام 1948.
إلا أن سقوط البلاد بيد الإسرائيلين عام 1948م، واحتلال إسرائيل لفلسطين وقيام الدولة الإسرائيلية على ما نسبته 77,6% من مساحة فلسطين، وتهجير ما يقارب 900 ألف فلسطيني إلى خارج ديارهم، بات يطرح سؤالاً حول مصير الأراضي الفلسطينية التي لم يتم احتلالها وخاصة الضفة الغربية وقطاع غزة، وكذلك حول قضية الهوية بالنسبة للاجئين الفلسطينيين المقيمين في مخيمات في الدول العربية المجاورة. مع العلم أن القوات الأردنية والمصرية كانت تتواجد في هذه المناطق. هذه الإشكالية كانت مدار جدل بين مختلف الفاعلين السياسين سواءَ الفلسطينين أم العرب، فبعضهم كان يعتبر أن قيام دولة فلسطينية على الجزء الذي لم يتم احتلاله يعني الاعتراف بإسرائيل، والآخر كان يعتبر أنه يجب أن تقام دولة فلسطينية على الجزء المتبقي، ومن ثم العمل على تحرير ما تم احتلاله، هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن موضوع قيام الدولة بالنسبة للمعارضين، قد ارتكز على مدى قدرة هذه الدولة على حل إشكالية اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية.
شجعت مصر قيام حكومة عموم فلسطين في قطاع غزة، إذ تشكلت أول حكومة فلسطينية في التاريخ المعاصر بقيادة أحمد حلمي عبد الباقي، بيد أن الأردن عارض هذا الموقف نتيجة للخلافات التي كانت بينه والحاج أمين الحسيني، وتبعا لهذه الخطوة أعلن عن مؤتمر أريحا عام 1948، والذي طالب بوحدة الضفتين، وانتهى بقرار مجلس النواب الأردني عام 1951 بالإعلان الرسمي عن وحدة الضفتين الشرقية والغربية والذي بقي قائماَ لغاية عام 1988 (فك الارتباط بين الضفتين) . رافق قرار وحدة الضفتين مجموعة من الإجراءات السياسية والميدانية منها:
1- إلغاء الاعتراف بحكومة عموم فلسطين، وأصبح أحمد حلمي باشا ممثلاً للشعب الفلسطيني في جامعة الدول العربية بدلاً من أن يكون ممثلاً لحكومة عموم فلسطين.
2- صار الأردن هو المسؤول الإداري والسياسي عن الضفة الغربية.
3- أصبح مجلس النواب الأردني يضم بين أعضائه نواباً يتم انتخابهم من الضفة الغربية.
بقي وضع التمثيل السياسي للضفة الغربية وقطاع غزة على ما هو عليه لغاية عام 1963-1964، حيث شهدت هذه المرحلة تغيرين رئيسيين: الأول، وفاة أحمد حلمي باشا. والثاني، مشروع إسرائيل، تحويل مياه نهر الأردن.
إلا أن هناك أسباباَ أخرى شكلت العمود الفقري لإنشاء المنظمة كان على رأسها رغبة جمال عبد الناصر بإنشاء جسم فلسطيني يقوم بعملية تمثيل الشعب الفلسطيني، ويقود الحياة السياسية الفلسطينية ضمن الرؤية الخاصة لجمال عبد الناصر، وهذا العامل أخذ دوراًَ مميزاً بعد ظهور تنظيم حركة فتح عام 1959 الذي بدأ يسحب البساط من تحت أقدام النظام الرسمي العربي، وتوافد الشباب الفلسطيني على التنظيم الوليد الجديد الذي رفع فكرة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين.
ولم يكن خافياَ كذلك الرغبة الفلسطينية الداخلية في تشكيل جسم سياسي يكون بمثابة المؤسسة القادرة على تحقيق الهوية الفلسطينية وتكريسها التي عمد الكيان الصهيوني إلى انكارها وتدميرها . كل هذه الدوافع والأسباب كانت المحرك الأساسي لظهور الفكرة ، ومنشط لتبنيها في جامعة الدول العربية، لذا وأثناء انعقاد مؤتمر القمة العربي في كانون الثاني عام 1964 في القاهرة من أجل مناقشة قرار إسرائيل تحويل مياه نهر الأردن، إستغل جمال عبد الناصر الحالة، وتم استصدار قرار من جامعة الدول العربية بتكليف السيد أحمد الشقيري باستمزاج مختلف قطاعات الشعب الفلسطيني بخصوص إنشاء كيان يمثل الفلسطينيين. غير أن الشقيري ذهب أبعد من ذلك، وتحرك باتجاه إنشاء الكيان الفلسطيني، وقد ساعده في ذلك التفويض الذي حصل عليه من جامعة الدول العربية، فقام بزيارة المخيمات الفلسطينية، وخاطب مختلف القطاعات السياسية في الضفة والقطاع. وقد كانت نتيجة هذه المناقشات أن استطاع أحمد الشقيري عقد المؤتمر الفلسطيني الأول عام 1964 في مدينة القدس، الذي جمع شخصيات اعتبارية، ورؤساء مجالس، وأعضاء نقابات واتحادات، واعتبر هذا المؤتمر بمثابة المؤتمر التأسيسي لمنظمة التحرير الفلسطينية .

- المؤتمر التأسيسي الأول 1964 م

انعقد المؤتمر بمدينة القدس، وقد حضره 397 شخصية فلسطينية اعتبروا منذ ذاك التاريخ أعضاء في المجلس الوطني الفلسطيني، وتقرر في المؤتمر الإعلان عن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وإقرار الميثاق القومي الفلسطيني، وتم اختيار أحمد الشقيري رئيسا للنمظمة، ومنحه توكيلاً باختيار أعضاء اللجنة التنفيذية وعددهم 15 عضوا مضافا إليهم رئيس المنظمة.
جاء المؤتمر التأسيسي ليشكل اللبنه الأولى لإنشاء الكيان الفلسطيني الجديد، إلا أنه وفي الوقت نفسه حاول توجيه البوصلة الفلسطينية باتجاه:
أولاً: التركيز على عروبة فلسطين.
ثانياً: التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في المقاومة.
ثالثاً: تجاوز بعض الخلافات العربية باتجاه القضية الفلسطينية ومنها الأردن، فقد أكد الميثاق القومي لاحقاً على عدم الولاية الجغرافية لمنظمة التحرير الفلسطينيه، وأنها، أي المنظمة، وجدت من أجل حشد الطاقات الفلسطينية باتجاه التحرير.
رابعاً: ركز أحمد الشقيري على مسالة التجنيد والاستعداد العسكري لتحرير فلسطين، وطالب الدول العربية بإنشاء جيش فلسطيني، غير أنه وتحت ضغط بعض الدول العربية تم إنشاء ألوية داخل الجيوش العربية ( لواء اليرموك في الأردن، وحطين في سوريا، والقادسية في العراق، وقوات بدر في مصر)، وتم تشكيل جيش التحرير الفلسطيني الذي منحه أحمد الشقيري 90% من ميزانية المنظمة، وعين وجيه المدني قائداً عاماً لجيش التحرير الفلسطيني.
وهكذا يكون أحمد الشقيري قد نجح في تجاوز العقبات التي كانت تحول دون قيام أي جسم سياسي فلسطيني، فتم التجاوب مع النفس القومي الذي كان سائداً في المنطقة، وتم ضمان تأييد مصر وسوريا، وكذلك تم تجاوز العقبة الأردنية ضمن حل عدم الولاية الجغرافية لمنظمة التحرير الفلسطينية. مما قاد إلى تشكليل منظمة التحرير بمؤسساتها الثلاث: المجلس الوطني واللجنة التنفيذية جيش التحرير.
التحول من القومي إلى القطري
تعرضت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بعد حرب عام 1967 لهزة عنيفة على التوازي مع الأنظمة العربية المهزومة. هزمت مصر بقيادة جمال عبد الناصر وسوريا بقيادة حزب البعث، وحيث أن القيادتين كانتا ضمن اتجاه قومي وتسعيان إلى تحقيق الوحدة العربية فإن صورة القومية العربية قد اهتزت ومعها صورة القوميين العرب، فجاءت هزيمة حزيران 1967 ضربة قوية للفكرة القومية وأدت إلى تراجعها بشكل كبير، وتراجع حاملوها والمدافعون عنها، وملأ القوميون الوطن العربي صراخاً بتهديداتهم ضد إسرائيل ووعيدهم بإنهاء الوجود الصهيوني في فلسطين وصنعوا آمالاً لدى الجماهير العربية بأن التحرير قاب قوسين أو أدنى، لكن الهزيمة كانت ساحقة إلى درجة فقدان الثقة بالطروحات الرسمية الصادرة عن الأنظمة العربية.
لم تسلم قيادة منظمة التحرير من النقد الشديد، خاصة أن أحمد الشقيري شارك في الصراعات العربية التي كانت سائدة قبل الحرب وحمل أفكار الرئيس جمال عبد الناصر وسياساته، واستغل الإذاعة لتهييج الجماهير دون أن يكون مرتكزاً على أرض صلبة. لقد كان جزءاً من السياسة الخطابية التي لم تأت على العرب والفلسطينيين بالنفع، وقد وجد الشقيري نفسه في وضع حرج إثر ظهور البندقية الفلسطينية بشكل بارز على الساحة. بدأ الفلسطينيون بقيادة حركة فتح القيام بعمليات عسكرية ومهاجمة الدوريات والمواقع الإسرائيلية خاصة في الضفة الغربية على طول نهر الأردن. ولم يعد للكلام مكان بعد البندقية، ووجد الشقيري أن عليه أن يقدم استقالته ويفسح المجال أمام الفئات المقاتلة لتقود الشعب الفلسطيني.
استقال الشقيري أمام اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير في كانون أول/ ديسمبر 1967، فقبلتها واختارت أحد أعضائها وهو يحيى حمودة ليقوم بأعمال الرئيس ريثما يجتمع المجلس الوطني الفلسطيني؛ ليقرر ما يناسب المرحلة، وعلى الفور بدأت الرئاسة الجديدة بإجراء اتصالاتها مع القوى الفلسطينية الفاعلة لتشكيل مجلس وطني جديد، وقد تكثفت تلك الاتصالات مع فصائل وقوى المقاومة؛ لأنها أصبحت سيدة الساحة الفلسطينية وعنواناً للبندقية العربية التي تحمل استعادة العزة والكرامة، ونجحت في تشكيل مجلس من مئة عضو وعقدت له اجتماعاً عرف بالدورة الرابعة بتاريخ 10/7/1968. من الجدير ذكره أن المجلس الوطني الفلسطيني الأول عدّ 397 عضواً وارتفع الرقم في الدورة الثانية، وقفز عن 500 في الدورة الثالثة.
تمثلت جميع فصائل المقاومة الفلسطينية في المجلس الجديد، وكان واضحاً أنه مجلس مقاتلين وليس مجلس سياسيين، وذلك انسجاماً مع ظروف المرحلة، وتركزت الجهود على عمل إصلاحات إدارية وتنظيمية ووضع أسس العمل المستقبلي الذي كان من المتوقع أن يولي عناية كبيرة بالكفاح المسلح. تم التمديد ليحيى حمودة في رئاسة المنظمة لعدة أشهر، وسحبت من يد الرئيس صلاحية تعيين أعضاء اللجنة التنفيذية لتصبح من صلاحيات المجلس، وخفض عدد أعضاء اللجنة من 15 عضواً إلى 11 عضواً. واتخذ المجلس عدداً من القرارات السياسية، كان أهمها التمسك بتحرير الأرض الفلسطينية بأكملها بالكفاح المسلح، والعمل على حشد كل الطاقات الفلسطينية نحو هذا الهدف، وعلق المجلس على دعوات بشأن إقامة حكم ذاتي فلسطيني أو عودة الإدارة الأردنية إلى أغلب الأراضي المحتلة عام 1967، قائلاً بأنها مشبوهة وتهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، ورفض المجلس قرار مجلس الأمن 242 بصورة قاطعة.
لكن أهم القرارات السياسية تمثلت باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية المظلة التي تحتضن كل القوى الفلسطينية التي تعمل على تحرير الأرض الفلسطينية، وإحلال الميثاق الوطني الفلسطيني محل الميثاق القومي الفلسطيني والتمسك به كدستور للمنظمة، وقد كان في تعديل الميثاق القومي خطوة سياسية رسمت معالم جديدة في التوجهات الرسمية الفلسطينية، أهمها الابتعاد عن البعد القومي لصالح البعد القطري، وهذا توجه ينسجم مع توجه حركة فتح، كبرى فصائل المقاومة الفلسطينية حينئذ وأكثرها نفوذاً، فالحركة ذات توجه قطري على الرغم من تأكيدها على أهمية الوحدة العربية، وأكدت باستمرار على البعد الفلسطيني في عملية التحرير.
عقد المجلس الوطني دورته الخامسة في الفترة 1-4 شباط / فبراير1969 في القاهرة وانتخب لجنة تنفيذية جديدة للمنظمة. فقد انتخبت اللجنة ياسر عرفات رئيسا لها، والذي بقي على رئاسة المنظمة حتى وفاته.
بناء على التوجه القطري، حرصت منظمة التحرير على وضعها التمثيلي أمام الدول، بخاصة الدول العربية، وعلى التعامل بندية مع الحكومات المختلفة من حيث أن الفلسطينيين عبارة عن شعب على قدم المساواة مع الشعوب العربية التي حققت الاستقلال وأقامت دولاً خاصة بها. وهذا ما يفسر اهتمام منظمة التحرير المتواصل عبر السنوات بنيل اعتراف الدول بها وبحق الشعب الفلسطيني في إقامة الدولة المستقلة، وقد طغى هذا الاهتمام على الاهتمام بالتحرير الذي كان الهدف المعلن الأول لكل من حركة فتح ومنظمة التحرير.
الميثاق بين القومي والوطني
شهدت منظمة التحرير الفلسطينية إثر حرب حزيران عام 1967 وتصاعد العمل الفدائي المسلح تطورات هامة على الصعيدين السياسي والتنظيمي. وكانت إحدى ثمرات هذه التطورات إقرار المجلس الوطني الفلسطيني في دورته الرابعة (القاهرة 10-17/7/1968) الميثاق الوطني الفلسطيني الذي جاء تعديلا جوهريا للميثاق القومي الفلسطيني.
احتوى الميثاق الوطني الفلسطيني على 33 مادة (أي بزيادة أربع مواد على الميثاق القومي) متسلسلة من غير تبويب. ولكن عدد المواد ليس الفارق الوحيد بين الميثاقين، فقد تم حذف عدد من مواد الميثاق وإضافة مواد جديدة وتعديل مواد أخرى.
تناول التعديل أولاً اسم الميثاق فسمي "الميثاق الوطني الفلسطيني" بدلا من "الميثاق القومي الفلسطيني" كما تم حذف المقدمة التي تصدرت الميثاق السابق، فيما يلي بنود الميثاق مع إبراز أهم الفروق بين الميثاقين:
1- نصت المادة الأولى من الميثاق الوطني الفلسطيني على أن "فلسطين وطن الشعب الفلسطيني وهي جزء لا يتجزأ من الوطن العربي الكبير، والشعب الفلسطيني جزء من الأمة العربية". وقد عززت هذه المادة النزعة الفلسطينية إلى التمسك بالشخصية الفلسطينية والاستقلال الفلسطيني فحلت عبارة ((فلسطين وطن الشعب العربي الفلسطيني)) محل عبارة ((فلسطين وطن عربي)) التي وردت في مطلع المادة الأولى من الميثاق القومي السابق.
2- تطابق نص المادة الثانية من الميثاق الوطني مع نص مثيلها في الميثاق القومي السابق فقررت أن "فلسطين بحدودها التي كانت قائمة في عهد الانتداب البريطاني وحدة إقليمية لا تتجزأ".
3- أما المادة الثالثة فقد تناولت حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وأن "الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه ويقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه وفق مشيئته وبمحض إرادته واختياره". وهذه المادة قرنت حق الشعب الفلسطيني في وطنه بحقه في تقرير مصيره في مادة واحدة، في حين تضمنت المادة الثالثة من الميثاق السابق مطلع هذه المادة مقترنا بعبارة ((وهو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية)) وجاء النص على حقه في تقرير مصيره مادة مستقلة.
4- تناولت المادة الرابعة من الميثاق الوطني الشخصية الفلسطينية، فبينت أنها "صفة أصيلة لازمة لا تزول، وهي تنتقل من الآباء إلى الأبناء" مستخدمة المادة الخامسة من الميثاق السابق بعد أن أضافت إليها عبارة "وأن الاحتلال الصهيوني وتشتيت الشعب العربي الفلسطيني نتيجة النكبات التي حلت به لا يفقدانه شخصيته وانتماءه الوطني الفلسطيني في وجه محاولات العدو الصهيوني إلى إذابة معالم الشخصية الفلسطينية والانتماء الوطني".
5- عرّفت المادة الخامسة –الفلسطينيين- من الميثاق الوطني الفلسطيني كما عرفتها المادة السادسة من الميثاق السابق بأنهم "المواطنون العرب الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى عام 1947، سواء من أخرج منها أم من بقي فيها، وكل من ولد لأب عربي فلسطيني بعد هذا التاريخ داخل فلسطين أو خارجها هو فلسطيني".
6- حددت المادة السادسة اليهود الفلسطينيين قائلة إن "اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية في فلسطين حتى بدء الغزو الصهيوني لها يعتبرون فلسطينيين". وجاء نص هذه المادة مختلفا اختلافا واسعا عن نصها في الميثاق السابق، فقد حدد اليهودي الفلسطيني كما حدد العربي الفلسطيني بصفة الإقامة العادية في فلسطين، وهذا أمر أغفلته مادة الميثاق السابق، ثم إنه أسقط الشروط التي وضعها النص السابق، وهي الرغبة "بأن يلتزموا العيش بولاء وسلام في فلسطين"، وأسقط كذلك الشرط الغامض حول الأصل الفلسطيني لليهودي، ولكن نص هذه المادة لم يحدد تاريخ بدء الغزو الصهيوني لفلسطين، شأنه في ذلك شأن مادة الميثاق السابق.
7- جاء في المادة السابعة من الميثاق الوطني أن "الانتماء الفلسطيني والارتباط المادي والروحي والتاريخي بفلسطين حقائق ثابتة، وأن تنشئة الفرد الفلسطيني تنشئة عربية ثورية واتخاذ كافة وسائل التوعية والتثقيف لتعريف الفلسطيني بوطنه تعريفا روحيا وماديا عميقا وتأهيله للنضال والكفاح المسلح والتضحية بماله وحياته لاسترداد وطنه حتى التحرير واجب قومي". وبذلك أضافت إلى المادة الثامنة من الميثاق السابق عبارات جديدة تحمل معاني ذات دلالات هامة، فقد عدّت الانتماء الفلسطيني والارتباط المادي والروحي والتاريخي بفلسطين حقائق ثابتة، وتوجهت إلى الفرد الفلسطيني عندما نصت على "تنشئة الفرد الفلسطيني تنشئة عربية ثورية" بدلا من "الجيل الفلسطيني" في عبارة المادة الثامنة من الميثاق السابق. وحددت كمثيلاتها السابقة وسائل التنشئة بأنها التوعية والتثقيف، ولكنها أضافت تهيئة الفرد للنضال والكفاح المسلح والتضحية بالمال والحياة لتحرير الوطن.
8- وصفت المادة الثامنة طبيعة المرحلة النضالية التي يمر بها الشعب العربي الفلسطيني، فقالت إن "المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني هي مرحلة الكفاح الوطني لتحرير فلسطين، ولذلك فإن التناقضات بين القوى الوطنية الفلسطينية هي نوع من التناقضات الثانوية التي يجب أن تتوقف لصالح التناقض الأساسي بين الصهيونية والاستعمار من جهة والشعب العربي الفلسطيني من جهة ثانية، وعلى هذا الأساس فإن الجماهير الفلسطينية سواء من كان منها في أرض الوطن أم في المهاجر تشكل منظمات وأفرادا جبهة وطنية واحدة تعمل لاسترداد فلسطين وتحريرها بالكفاح المسلح". وقد جاءت هذه المادة تعديلا جوهريا لنص مضمون المادة التاسعة من الميثاق السابق. فقد حددت طبيعة المرحلة النضالية وطبيعة الوحدة الوطنية الفلسطينية بعبارات واضحة وتحليل دقيق للواقع النضالي الفلسطيني، وهو ما لم تتطرق إليه مثيلاتها في الميثاق السابق. كما أنها أسقطت النص السلبي المعادي للانتماء الحزبي والإيمان العقائدي التي اتسمت به المادة التاسعة من الميثاق السابق، ودعت إلى توظيف كل الجهود لصالح التناقض الرئيسي مع الصهيونية والاستعمار، وإلى انتهاج أسلوب الكفاح المسلح في حل هذا التناقض، وإلى تشكيل جبهة وطنية من منظمات وأفراد، وهي أمور غابت عن الميثاق السابق.
9- قدمت المادة التاسعة من الميثاق الوطني نصاً جديداً. إذ قررت أن "الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً، ويؤكد الشعب العربي الفلسطيني تصميمه المطلق وعزمه الثابت على متابعة الكفاح المسلح والسير قدما نحو الثورة الشعبية المسلحة لتحرير وطنه والعودة إليه وعلى حقه في الحياة الطبيعية فيه وممارسة حق تقرير مصيره فيه والسيادة عليه". وقد وضعت هذه المادة بتأثير الكفاح المسلح الذي بدأت منظمات المقاومة الفلسطينية تمارسه قبل وضع هذا الميثاق بعدة سنوات، ووضعت لمواجهة مشاريع التسوية التي طرحت بعد عدوان الخامس من حزيران لتصفية القضية الفلسطينية.
10- أتت المادة العاشرة من الميثاق الوطني بجديد حين قالت إن "العمل الفدائي يشكل نواة حرب التحرير الشعبية الفلسطينية، وهذا يقتضي تصعيده وشموله وحمايته وتعبئة كافة الطاقات الجماهيرية والعلمية الفلسطينية وتنظيمها وإشراكها في الثورة الفلسطينية المسلحة وتحقيق التلاحم النضالي الوطني بين مختلف فئات الشعب الفلسطيني وبينها وبين الجماهير العربية ضمانا لاستمرار الثورة وتصاعدها وانتصارها"، وكانت هذه المادة منسجمة مع حجم العمل الفدائي.
11- نصت المادة الحادية عشرة على أن "يكون للفلسطينيين ثلاثة شعارات: الوحدة الوطنية، والتعبئة القومية، والتحرير"، وجاء هذا النص متطابقا مع مطلع المادة العاشرة من الميثاق السابق، إذ حذفت المادة الجديدة عبارة" وبعد أن يتم تحرير الوطن يختار الشعب الفلسطيني لحياته العامة ما يشاء من النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية".
12- تطابق ما جاء في المادة الثانية عشرة من الميثاق الوطني مع ما جاء في المادة الحادية عشرة من الميثاق السابق، فقد قالت كلتاهما إن "الشعب العربي الفلسطيني يؤمن بالوحدة العربية، ولكي يؤدي دوره في تحقيقها يجب عليه في هذه المرحلة من كفاحه الوطني أن يحافظ على شخصيته الفلسطينية ومقوماتها، وأن ينمي الوعي بوجودها وأن يناهض أيا من المشروعات التي من شأنها إذابتها أو إضعافها".
13- أكد نص المادة الثالثة عشرة من الميثاق الوطني ما جاء في نص المادة الثانية عشرة من الميثاق السابق حول علاقة الوحدة العربية بتحرير فلسطين. فذكر أن" الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان متكاملان يهيئ الواحد منهما لتحقيق الآخر. فالوحدة العربية تؤدي إلى تحرير فلسطين وتحرير فلسطين يؤدي إلى الوحدة العربية والعمل لهما يسير جنبا إلى جنب".
14- تطابق نص المادة الرابعة عشرة مع نص المادة الثالثة عشرة من الميثاق السابق في أن "مصير الأمة العربية، بل الوجود العربي بذاته، رهن بمصير القضية الفلسطينية، ومن هذا الترابط ينطلق سعي الأمة العربية وجهدها لتحرير فلسطين، ويقوم شعب فلسطين بدوره الطليعي لتحقيق هذا الهدف القومي المقدس".
15- أدخلت المادة الخامسة عشرة على المادة الرابعة عشرة من الميثاق السابق تعديلا جوهريا دل على رؤية جديدة لدور الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية في تحرير فلسطين. فقد نصت على أن "تحرير فلسطين من ناحية عربية هو واجب قومي لرد الغزوة الصهيونية والإمبريالية عن الوطن العربي الكبير وتصفية الوجود الصهيوني في فلسطين تقع مسؤولياته كاملة على الأمة العربية شعوبا وحكومات وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني. ومن أجل ذلك فإن على الأمة العربية أن تعبئ جميع طاقاتها العسكرية والبشرية والمادية والروحية للمساهمة مساهمة فعالة مع الشعب الفلسطيني في تحرير فلسطين، وعليها بصورة خاصة في مرحلة الثورة الفلسطينية المسلحة القائمة الآن، أن تبذل للشعب الفلسطيني وتقدم له كل العون وكل التأييد المادي والبشري وتوفر له كل الوسائل والفرص الكفيلة بتمكينه من الاستمرار للقيام بدوره الطليعي في متابعة ثورته المسلحة حتى تحرير وطنه". وبذلك جعلت هذه المادة تحرير فلسطين واجبا قوميا ربطته بالخطر الصهيوني الذي يتهدد الوطن العربي بأسره، لا فلسطين وحدها، كما دللت على ذلك حرب حزيران 1967 عندما استطاعت (إسرائيل) أن تستولي على أراضي دول عربية أخرى.
16- طابقت المادة السادسة عشرة مثيلتها من الميثاق السابق حين قررت أن "تحرير فلسطين، من ناحية روحية، يهيئ للبلاد الإسلامية جوا من الطمأنينة والسكينة تصان في ظلاله جميع المقدسات الدينية وتكفل حرية العبادة والزيارة للجميع من غير تفريق ولا تمييز، سواء على أساس العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين، ومن أجل ذلك فإن أهل فلسطين يتطلعون إلى نصرة جميع القوى الروحية في العالم".
17- أتت المادة السابعة عشرة بنص جديد يتعلق بالدافع الإنساني الكامن وراء تحرير فلسطين؛ لأن "تحرير فلسطين، من ناحية إنسانية، يعيد إلى الإنسان الفلسطيني كرامته وعزته وحريته، لذلك فإن الشعب العربي الفلسطيني يتطلع إلى دعم المؤمنين بكرامة الإنسان وحريته في العالم".
18- بينت المادة الثامنة عشرة من الميثاق أن " تحرير فلسطين، من ناحية دولية، هو عمل دفاعي تقتضيه ضرورات الدفاع عن النفس، ومن أجل ذلك فإن الشعب الفلسطيني الراغب في مصادقة جميع الشعوب يتطلع إلى تأييد الدول المحبة للحرية والعدل والسلام لإعادة الأوضاع الشرعية إلى فلسطين وإقرار الأمن والسلام في ربوعها، وتمكين أهلها من ممارسة السيادة الوطنية والحرية القومية". وقد تماثلت هذه المادة مع المادة السادسة عشرة من الميثاق السابق، ولكنها أسقطت عبارة "كما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة" الواردة في النص السابق، وربطت التحرير بحق الدفاع عن النفس، وهو حق طبيعي معترف به وليس مقيدا بما هو منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة فقط.
19- فيما يتعلق برفض قرار التقسيم لعام 1947 ووعد بلفور وصك الانتداب، نصت المادة التاسعة عشرة من الميثاق الوطني، كما نصت المادة السابعة عشرة من الميثاق السابق، على أن "تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام دولة إسرائيل باطلان من أساسهما مهما طال عليهما الزمن لمغايرتهما لإرادة الشعب الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه، ومناقضتهما للمبادئ التي نص عليها ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها حق تقرير المصير".
20- جاء نص المادة العشرين متطابقا كذلك مع ما جاء في الميثاق السابق عدا فارق بسيط. فقد أورد النص الجديد عبارة تصريح بلفور بدلا من وعد بلفور وأصبحت العبارة "يعتبر باطلا كل من تصريح بلفور وصك الانتداب وما ترتب عليهما. وإن دعوى الترابط التاريخية أو الروحية بين اليهود وفلسطين لا تتفق مع حقائق التاريخ ولا مع مقومات الدولة في مفهومها الصحيح. وإن اليهودية بوصفها دينا سماويا ليست قومية ذات وجود مستقل، وكذلك فإن اليهود ليسوا شعبا واحدا له شخصيته المستقلة وإنما مواطنون في الدول التي ينتمون إليها".
21- أضاف الميثاق الوطني مادة جديدة لم ترد في الميثاق السابق، وهي المادة الحادية والعشرون التي أكدت أن " الشعب العربي الفلسطيني، معبرا عن ذاته بالثورة الفلسطينية المسلحة، يرفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريرا كاملا، ويرفض كل المشاريع الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، أو تدويلها" في مقابل ما طرح على الساحتين العربية والدولية بعد الخامس من حزيران 1967 من ترويج للتسوية السياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لعام 1967.
22- عرّفت المادة الثانية والعشرون الصهيونية بأنها "حركة سياسية مرتبطة ارتباطا عنصريا بالإمبريالية العالمية، ومعادية لجميع حركات التحرر والتقدم في العالم، وهي حركة عنصرية تعصبية في تكوينها، عدوانية توسعية استيطانية في أهدافها، وفاشية ونازية في وسائلها، وأن إسرائيل هي أداة الحركة الصهيونية وقاعدة بشرية جغرافية للإمبريالية العالمية، ونقطة ارتكاز ووثوب لها في قلب الوطن العربي لضرب أماني الأمة العربية في التحرر والوحدة والتقدم، إن إسرائيل مصدر دائم لتهديد السلام في الشرق الأوسط والعالم أجمع، ولما كان تحرير فلسطين يقضي على الوجود الصهيوني والإمبريالي فيها ويؤدي إلى استتباب السلام في الشرق الأوسط، لذلك فإن الشعب الفلسطيني يتطلع إلى نصرة جميع أحرار العالم وقوى الخير والتقدم والسلام فيه، ويناشدهم جميعا على اختلاف ميولهم واتجاهاتهم تقديم كل عون وتأييد له في نضاله العادل المشروع لتحرير وطنه". وقد أتى هذا التعريف أكثر دقة وشمولا مما ورد في المادة التاسعة عشرة من الميثاق السابق، فقد أظهر بوضوح الصلة العضوية بين الصهيونية والإمبريالية العالمية وأكد أن هدف النضال الفلسطيني المسلح هو القضاء على الوجود الصهيوني والإمبريالي في فلسطين مفندا بذلك مزاعم الدعاية الصهيونية التي رددت باستمرار أن الفلسطينيين يريدون القضاء على اليهود وشهرت بالنضال الوطني الفلسطيني ووصفته بأنه معاد للسامية، كما بينت هذه المادة بجلاء دور إسرائيل كقاعدة متقدمة للحركة الصهيونية والإمبريالية العالمية في المنطقة العربية أقيمت بهدف تنفيذ خطط الدوائر الإمبريالية ومصالحها في التصدي للطموحات العربية إلى التحرر والتقدم والوحدة.
23- أتت المادة الثالثة والعشرون متطابقة مع المادة العشرين من الميثاق السابق فنصت على أن " دواعي الأمن والسلم ومقتضيات الحق والعدل تتطلب من الدول جميعها، حفظا لعلاقات الصداقة بين الشعوب واستبقاء لولاء المواطنين لأوطانهم، أن تعتبر الصهيونية حركة غير مشروعة وتحرم وجودها ونشاطها".
24- احتفظت المادة الرابعة والعشرون بمطلع المادة الحادية والعشرين من الميثاق القومي القائل: "يؤمن الشعب العربي الفلسطيني بمبادئ الحرية والعدل والسيادة وتقرير المصير والكرامة الإنسانية وحق الشعوب في ممارستها" وحذفت المقطع التالي: " ويؤيد جميع المساعي الدولية إلى إقرار السلم على أسس الحق والتعاون الدولي الحر" تجنبا لأي انطباع يفهم منه أن واضعيه قد يؤيدون المساعي الدولية التي كانت تبذل في ذلك الوقت لتحقيق تسوية سياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 242. كما تم حذف المادة الثانية والعشرين من الميثاق السابق وهي تقول "يؤمن الشعب الفلسطيني بالتعايش السلمي على أساس الوجود الشرعي، إذ لا يتعايش مع العدوان ولا سلم مع الاحتلال والاستعمار".
25- جاءت المادة الخامسة والعشرون من الميثاق الوطني مماثلة للقسم الأول من المادة الثالثة والعشرين من الميثاق السابق فنصت على أنه " تحقيقا لأهداف هذا الميثاق ومبادئه تقوم منظمة التحرير الفلسطينية بدورها الكامل في تحرير فلسطين". ولكنها حذفت عبارة ((وفق النظام الأساسي لهذه المنظمة)) لورود مادة خاصة عن النظام الأساسي في الميثاق.
26- نصت المادة السادسة والعشرون على أن " منظمة التحرير الفلسطينية الممثلة لقوى الثورة الفلسطينية مسؤولة عن حركة الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل استرداد وطنه وتحريره والعودة إليه، وممارسة حق تقرير مصيره فيه، في جميع الميادين العسكرية والسياسية والمالية وسائر ما تتطلبه قضية فلسطين على الصعيدين العربي والدولي". فعدلت بذلك نص المادة الخامسة والعشرين من الميثاق السابق انسجاما مع التطورات التي شهدتها الساحتان الفلسطينية والعربية، وفي مقدمتها أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل لقوى الثورة الفلسطينية، مؤكدة بذلك شرعية الثورة بالإضافة إلى تأكيدها ارتباط حقوق العودة وتقرير المصير بالتحرير.
27- أما المادة السابعة والعشرون فقد تماثل جزء منها مع ما جاء في المادة السادسة والعشرين من الميثاق السابق، وهي: " تتعاون منظمة التحرير الفلسطينية مع جميع الدول العربية كل حسب إمكانياتها"، ثم أضافت عبارة: "وتلتزم بالحياد فيما بينها في ضوء مستلزمات معركة التحرير وعلى أساس ذلك". وعادت المادتان لتتطابقا في النهاية بقولهما: " ولا تتدخل في الشؤون الداخلية لأية دولة عربية".
28- أضاف الميثاق الوطني مادة جديدة لم تكن في الميثاق السابق وهي المادة الثامنة والعشرون التي نصت على ما يلي: " يؤكد الشعب العربي الفلسطيني أصالة ثورته الوطنية واستقلاليتها، ويرفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية".
29- كما أضاف الميثاق الوطني مادة جديدة هي المادة التاسعة والعشرون التي قررت أن: " الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الأول والأصيل في تحرير واسترداد وطنه، ويحدد موقفه من كافة الدول والقوى على أساس مواقفها من قضيته ومدى دعمها له في ثورته لتحقيق أهدافه". وقد انعكس في هاتين الإضافتين التطور الذي حصل على الساحتين الفلسطينية والعربية. ففي حين أكد الميثاق الوطني عدم تدخل منظمة التحرير الفلسطينية في الشؤون الداخلية للدول العربية والتزام الحياد فيما بينها على ضوء مستلزمات معركة التحرير وعلى أساس ذلك ثبت بالمقابل مبدأ رفض كل أنواع التدخل والوصاية والتبعية الذي غاب عن الميثاق السابق. كما أكد الميثاق الوطني أن موقف الشعب العربي الفلسطيني من كافة الدول والقوى يتحدد على ضوء مواقفها من قضيته ومدى دعمها له في ثورته لتحقيق أهدافه.
30- حملت المادة الثلاثون من الميثاق الوطني شيئا جديد لم يرد في الميثاق السابق وهو " المقاتلون وحملة السلاح في معركة التحرير هم نواة الجيش الشعبي الذي سيكون الدرع الواقي لمكتسبات الشعب العربي الفلسطيني".
31- تطابقت المادة الحادية والثلاثون مع مثيلتها السابعة والعشرين من الميثاق السابق بالنص على أن " يكون لهذه المنظمة علم وقسم ونشيد، ويقرر ذلك في نظام خاص".
32- تطابقت المادة الثانية والثلاثون مع الثامنة والعشرين من الميثاق السابق فنصتا على أن " يلحق بهذا الميثاق نظام يعرف بالنظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية تحدد فيه كيفية تشكيل المنظمة وهيئاتها ومؤسساتها واختصاصات كل منها وجميع ما تقتضيه الواجبات الملقاة عليها بموجب هذا الميثاق".
33- كانت المادة الثالثة والثلاثون كمثيلتها التاسعة والعشرين من الميثاق السابق إذ قالت: " لا يعدل هذا الميثاق إلا بأكثرية ثلثي مجموع أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطيني في جلسة خاصة يدعى إليها من أجل هذا الغرض".
وعلاوة على هذه التعديلات والإضافات التي أدخلها الميثاق الوطني الفلسطيني على الميثاق السابق تم إسقاط مادتين من مواده هما:
1- المادة التاسعة التي نصت على أن " المذاهب العقائدية سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية لا تشغل أهل فلسطين عن واجبهم الأول في تحرير وطنهم، والفلسطينيون جميعا جبهة وطنية واحدة يعملون لتحرير وطنهم بكل مشاعرهم وطاقاتهم الروحية والمادية". فقد كان وجود هذه المادة غير منسجم واقعيا مع تطور الحركة الوطنية الفلسطينية وفكرها السياسي، ولهذا تم إسقاطها من الميثاق الوطني الفلسطيني. كما أن القوى الفلسطينية التي ساهمت في وضع الميثاق الوطني وكانت تنتمي إلى تيارات سياسية وفكرية متعددة وافقت على صيغة ائتلاف جبهوي وطني ضمن إطار منظمة التحرير الفلسطينية.
2- المادة الرابعة والعشرون التي نصت على أن "لا تمارس هذه المنظمة أية سيادة إقليمية على الضفة الغربية في المملكة الأردنية الهاشمية ولا قطاع غزة ولا في منطقة الحمة. وسيكون نشاطها على المستوى القومي الشعبي في الميادين التحريرية والتنظيمية والسياسية والمالية". فقد تم وضعها في الميثاق السابق استجابة لشروط أطراف عربية منحت تأييدها لمنظمة التحرير الفلسطينية مقابل وضع هذه المادة. وقد أسقطت هذه المادة من الميثاق الوطني بعد أن أكدت مواد الميثاق حق الشعب العربي الفلسطيني في السيادة على وطنه وتقرير مصيره فيه. وبذلك مثل الميثاق الوطني الفلسطيني التطورات والتغيرات التي شهدتها الساحتان الفلسطينية والعربية، وفي مقدمتها تصاعد الكفاح المسلح، ولا سيما بعد الخامس من حزيران 1967، وبروز الدور القيادي لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني.

- مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية:

شكلت منظمة التحرير الفلسطينية العديد من المؤسسات من أجل القيام بالمهام الملقاه على عاتقها، سواء المؤسسات التشريعية كالمجلس الوطني الفلسطيني، أوالمهام التنفيذية التي شكلت اللجنة التنفيذية من أجل تنفيذ ما يقره المجلس الوطني من سياسات، كما تم إنشاء جيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي، وقد نص النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية على هذه المؤسسات، وفصل مهامها وواجباتها ضمن مواده ال 32 ، التي جاءت في خمسة أبواب رئيسة:
أولاً: المجلس الوطني الفلسطيني :
هو السلطة العليا لمنظمة التحرير، وهو الذي يضع سياسات المنظمة وبرامجها وخططها، مدة المجلس الوطني الفلسطيني ثلاث سنوات، ومقره الدائم هو القدس، وينعقد في القدس أو غزة، أو أي مكان آخر. ينتخب أعضاء المجلس الوطني بالاقتراع المباشر من قبل الشعب الفلسطيني، وإذا تعذر ذلك استمر المجلس الوطني قائما إلى أن تتهيأ ظروف الانتخابات .
مهام المجلس الوطني الفلسطيني:
1-التقرير السنوي الذي تقدمه اللجنة التنفيذية عن إنجازات المنظمة وأجهزتها.
2- التقرير السنوي للصندوق القومي واعتماد الميزانية.
3- الاقتراحات التي تقدم إليه من اللجنة التنفيذية وتوصيات لجان المجلس .
لغاية يومنا هذا لم تجر انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني، وبقي توزيع أعضاء المجلس على الفصائل الفلسطينية والقوى الشعبية والنقابات واللجان والاتحادات . يواجه المجلس الوطني الفلسطيني اليوم إشكاليتين مركزيتين: الأولى، إشكالية الآداء ، فالمجلس الوطني الفلسطيني لم ينعقد منذ عام 1993 ولغاية 2010 سوى مرة واحدة، على الرغم أن القانون الأساسي للمجلس ينص على انعقاده مرة كل سنه، وهذا بات يطرح تساؤلاَ حول دوره الرقابي والتشريعي على اللجنة التنفيذية.
الثانية: إشكالية العضوية والتمثيل، كان عدد أعضاء المجلس الوطني عشية دخول الفصائل الفلسطينية إلى المجلس الوطني عام 1968 هو 100عضو، إلا أن عدد أعضائه اليوم، وحسب بعض المصادر، فيصل إلى 787 عضواً .

ثانياً: اللجنة التنفيذية:
هي أعلى سلطة تنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية، وتكون دائمة الانعقاد ومسؤولة أمام المجلس الوطني الفلسطيني ،ويتم انتخاب جميع أعضائها من قبل المجلس الوطني الفلسطيني، وهي تقوم بانتخاب رئيسها. ويبلغ عدد أعضائها من 15-18 عضوا بمن فيهم رئيس الصندوق القومي الفلسطيني .

مهام اللجنة التنفيذية:
1- تمثيل الشعب الفلسطيني.
2- الإشراف على تشكيلات المنظمة.
3- إصدار اللوائح والتعليمات الخاصة بتنظيم أعمال المنظمة، على ألا تتعارض والنظام الأساسي.
4- تنفيذ السياسة المالية للمنظمة وإعداد ميزانيتها.
ثالثاً: المجلس المركزي:
هو هيئة دائمة منبثقة عن المجلس الوطني الفلسطيني ، تم تشكيله عام 1973 ، من 32 عضواَ، يضاف إليهم 6 أعضاء مراقبين، إلا أن عدد أعضاء المجلس المركزي آخذ بالارتفاع، فوصل عام 1979 إلى 59 عضواَ، واليوم يبلغ عدد أعضائه ما يزيد على المائة عضو. ينعقد المجلس المركزي مرة كل ثلاثة شهور ، أو بدعوة من رئيسه، أو ثلث اعضائه.

مهام المجلس المركزي:
1- اتخاذ القرارات في القضايا التي تطرحها عليه اللجنة التنفيذية في إطار مقررات المجلس الوطني.
2- إقرار الخطط التنفيذية المقدمة إليه من اللجنة التنفيذية.
3- متابعة اللجنة التنفيذية في تنفيذ قرارات المجلس الوطني.
4- تشكيل لجان دائمة من بين أعضاء المجلس الوطني ويكون رؤساء اللجان الدائمة من أعضاء المجلس المركزي.
5- تكون مهمة اللجان الدائمة إعداد الدراسات والبحوث في المسائل المحالة من المجلس المركزي أو اللجنة التنفيذية.
6- الاطلاع على سير عمل دوائر المنظمة وتقديم التوصيات اللازمة.

رابعاً: جيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني :
نصت المادة 22 من النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية على إنشاء جيش من أبناء فلسطين، تكون له قيادة مستقله تعمل تحت إشراف اللجنة التنفيذية، وواجبه القومي أن يكون الطليعة في تحرير فلسطين. كما نصت المادة 24 على تشكيل الصندوق القومي الفلسطيني ليقوم بتمويل أعمال المنظمة. وتقوم إيراداته بشكل أساسي على ضريبة ثابته على الفلسطينيين تجبى بنظام خاص، وكذلك من التبرعات الرسمية وغير الرسمية .

خامساً: دوائر منظمة التحرير

من الناحية الإدارية، تم تشكيل دوائر منظمة التحرير الفلسطينية، تكون مسؤولة أمام اللجنة التنفيذية للمنظمة، وبالتالي أمام المجلس الوطني وذلك لمتابعة مختلف النشاطات والاهتمامات على الساحة الفلسطينية. لم يستقر عدد هذه الدوائر على مدى أيام منظمة التحرير وتعددت حسب الاحتياجات، وتتلخص هذه الدوائر فيما يلي:
1. أمانة السر: تقوم على حفظ الملفات وإعداد محاضر اللجنة التنفيذية وجدول الأعمال وتنسيق مختلف القضايا الواجب طرحها أمام اللجنة.
2. الصندوق القومي الفلسطيني: يقوم على شؤون الإيرادات والنفقات ويراقب مصروفات كل مؤسسات المنظمة ويدققها.
3. الدائرة العسكرية: مسؤولة عن جيش التحرير الفلسطيني، وتقوم على شؤون التعبئة والتدريب والتنظيم والتسليح، وتوفير الاحتياجات التموينية للمقاتلين سواءَ على مستوى الجيش أم فصائل المقاومة.
4. الدائرة السياسية: تشرف على العلاقات الخارجية للمنظمة سواء على مستوى الدول أم الأحزاب أم المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة، وهي تشرف على ممثليات منظمة التحرير في الخارج وتنسق نشاطاتها وتوجيهها.
5. دائرة الإعلام والثقافة: تقوم على متابعة النشاطات الثقافية، وتشرف على الجهود الإعلامية بهدف الوصول إلى أوسع القطاعات عالمياً بهدف دعم قضية الشعب الفلسطيني، وذلك من خلال النشرات أو البث الإذاعي أو المؤتمرات الثقافية والبحثية.
6. دائرة الشؤون الاجتماعية: تعمل على تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين الذين يعانون الفاقة وضنك العيش في مختلف تجمعاتهم في البلاد العربية، وتقوم على رعاية أسر الشهداء والجرحى والمعتقلين وتوفير التعليم اللازم لأبناء الشهداء.
7. دائرة التنظيم الشعبي: تهتم بقضايا التمثيل الشعبي والتنظيم الثقافي من حيث الإشراف على الانتخابات لمختلف الاتحادات والنقابات والمشاركة في مؤتمراتها العامة.
8. دائرة شؤون الوطن المحتل: مسؤولة عن دراسة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الأرض المحتلة عام 1967 بهدف تطويرها بطريقة ترفع من مستوى الناس التعليمي والمادي وتعزز صمودهم في مواجهة الاحتلال. وقد تأسست هذه الدائرة عام 1979 على إثر قرار مؤتمر القمة العربي تخصيص أموال لدعم صمود الشعب في الأراضي المحتلة عام 1967.
9. دائرة التربية والتعليم: تشرف على الوضع التعليمي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده بهدف الرقي بالعملية التعليمية من خلال بناء المدارس وتحسين ظروفها وكذلك من خلال ايفاد الطلاب الفلسطينيين إلى الخارج للتحصيل الجامعي.
10. دائرة العلاقات القومية: ومهمتها تنسيق العلاقات مع المنظمات والأحزاب العربية ومع جمعيات الصداقة والتضامن الدولية، وهي دائرة لم يتضح لها انفصال عن الدائرة السياسية.
11. الدائرة الإدارية: هي أشبه ما تكون بديوان الموظفين الذي يعني بشؤون العاملين بمختلف دوائر ومؤسسات المنظمة .
هذا وقد تم إلغاء بعض هذه الدوائر بعد قيام السلطة الفلسطينية في أجزاء من الضفة الغربية وغزة حيث لم يعد لوجودها ضرورة.

- منظمة التحرير على الساحة الدولية

لاقت منظمة التحرير الفلسطينية قبولاً واسعاً عند دول العالم الثالث ودول العالم الشيوعي في حينه. وعدت المنظمة من قبل شعوب كثيرة ودول عديدة على أنها حركة تحرر عالمي تناهض الاستعمار والاستغلال وتسعى نحو ترسيخ حق الشعوب في الحرية وتحقيق المصير. ولهذا سارعت دول عظمى مثل الاتحاد السوفيتي إلى التعامل معها وتقديم الدعم السياسي وبعض الدعم العسكري، ولم تتخلف الصين ففتحت أبوابها لتدريب بعض الفلسطينيين عسكرياً وتقديم الخبرات العسكرية المختلفة، وكذلك كان شأن دول أخرى مثل فياتنام الشمالية (في حينه) وكوريا الشمالية وكوبا وألمانيا الشرقية وبولندا ويوغوسلافيا وغيرها.
لكن منظمة التحرير لم تكن تكتفي بتأييد الدول المناهضة للاستعمار والمؤيدة لحق الشعب الفلسطيني في استرداد حقوقه، وإنما سعت إلى تواجد دولي أكثر اتساعاً يتيح لها مجال لعب دور على المستوى الديبلوماسي الباحث عن مستقبل الصراع بين العرب وإسرائيل. لقد كانت المنظمة مرتاحة لتأييد الدول التي كانت تصف نفسها بالثورية، لكنها أرادت خوض غمار الساحة التي بإمكانها التنسيق لحل وفق الأطر الدولية التي تتصدرها الأمم المتحدة والدول الكبرى والقادرة على تحديد اتجاه التيارات السياسية, ومن حيث أن الولايات المتحدة لاعبة رئيسة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، تطور لدى المنظمة طموح بالتحدث مع الولايات المتحدة علّ الأخيرة تعترف بمأساة الشعب الفلسطيني وتؤيد استعادته لبعض حقوقه. ولم تكن المنظمة حينئذ متفائلة بضغط أمريكي من أجل استعادة كامل الحقوق الفلسطينية، لكنها كانت ترى في العلاقات المتبادلة أو المحادثات معها إنجازاً قد يؤدي إلى حالة جديدة تقود إسرائيل إلى التفكير في الاعتراف بالشعب الفلسطيني وبحقوقه، فقيادة المنظمة لم تكن تختلف في تقييمها للدور الأمريكي عن تقييم القيادات العربية، على الرغم من أن قرارات المجالس الفلسطينية دأبت على التأكيد على الدور الأمريكي المنحاز لإسرائيل وعلى المشاريع الأمريكية المشبوهة.
أتاحت حرب عام 1973 -كما سيتم تناوله تفصيلاَ في الوحدة الثالثة- فرصة أمام منظمة التحرير الفلسطينية للدخول إلى الأمم المتحدة ولتصبح لاعباً سياسياً يتم أخذه بعين الاعتبار على صعيد المداولات والقرارات التي يمكن اتخاذها داخل الأقبية العالمية، كسبت الدول العربية مداً مؤيداً على الساحة العالمية بعد حرب عام 1973، وكان لها تأثير على العديد من دول العالم الثالث ودول المؤتمر الإسلامي التي قطع عدد منها العلاقات مع إسرائيل خاصة الإفريقية منها، وكذلك تمتع الاتحاد السوفيتي بتأييد عدد لا بأس به من الدول بخاصة الدول الاشتراكية والشيوعية، وبحشد قوى التأييد، استطاع العرب والاتحاد السوفيتي اتخاذ عدد من القرارات في الجمعية العامة للأمم المتحدة أكدت على أن الشعب الفلسطيني هو الطرف الأساسي المعني بقضية فلسطين، ودعت منظمة التحرير الفلسطينية الممثلة للشعب الفلسطيني إلى الاشتراك في دورات الجمعية العامة بشأن القضية الفلسطينية في جلساتها العامة بصفة مراقب، وأكدت حق المنظمة في الاشتراك بتلك الصفة في مختلف المؤتمرات والدورات العالمية التي تتم برعاية الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية على قدم المساواة مع مختلف الأطراف المعنية، وأصرت الجمعية على أن أي حلول للقضية يجب أن تتم من خلال الأمم المتحدة وميثاقها وقراراتها التي تقوم على أساس نيل الشعب الفلسطيني لحقوقه ومن ضمنها "حق العودة والحق في الاستقلال الوطني والسيادة الوطنية في فلسطين، وباشتراك منظمة التحرير الفلسطينية في هذه الاتفاقيات".
من الجدير ذكره أن دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة وإسرائيل صوتت ضد هذه القرارات، وأحياناً كانت تقف إسرائيل وأمريكا وحدهما في المعارضة وتلوذ أوروبا الغربية إلى الامتناع عن التصويت.
اتضح مع الزمن أن الأمم المتحدة ليست الجهة التي تحسم الأمور بالنسبة للقضية الفلسطينية، وأن كل القرارات الدولية الخاصة، إن لم تكن مقبولة أمريكيا وإسرائيليا، لا ترتقي في النهاية إلا إلى نص قانوني يمكن التغني به في المحافل الدولية، ولهذا سعت منظمة التحرير إلى البحث عن وسيلة للتحدث مع الولايات المتحدة، ونتيجة للسعي الحثيث أبلغت أمريكا عام 1975المنظمة أنها على استعداد للاعتراف بها إن هي اعترفت بإسرائيل وبقراري مجلس الأمن 242 و 338 ( يجد القارئ القرارين نصا ضمن الجزأين الخاصين بحربي 1967 و 1973) ونبذت الإرهاب، ولكن لم تكن الظروف مناسبة، ولم تلب المنظمة هذه الشروط إلا عام 1988، كما سيرد فيما بعد.

- فصائل المقاومة الفلسطينية

حاول الشعب الفلسطيني منذ البدء تشكيل تنظيمات وأحزاب من أجل تحرير وطنه، لكن الظروف القاسية التي مر بها بعد التهجير كانت تحول دون نضوج الفكرة وتطبيقاتها العملية، فحاول بعض الشباب في غزة تشكيل تنظيمات، ونظموا هجمات فدائية ضد إسرائيل وأوقعوا في صفوفها الخسائر، وكذلك كان الأمر في الضفة الغربية. فقد ساعدت الظروف السياسية التي سادت في غزة قبل عام 1956 على نمو العمل الفدائي، أما في الضفة الغربية فكان النظام "الهاشمي" حريصا على احترام اتفاقية الهدنة ووظف جيشه لمراقبة خط وقف إطلاق النار ومنع تسلل الفدائيين، وقد أصبح المنع سياسة النظام في مصر بعد حرب السويس إذ وضعت إسرائيل مسألة مراقبة خطوط وقف إطلاق النار ومنع تسلل الفدائيين ضمن شروطها للانسحاب من سيناء.
لم تكن إسرائيل من جهتها مكتفية بما اغتصبته من الأرض وإنما عملت أيضا على إشاعة الذعر في مناطق الجوار من أجل أن يستسلم العرب ويسيروا نحو الصلح معها والاعتراف بها، فكانت معنية بإثبات تفوقها العسكري على العرب من أجل أن يقتنعوا أن لا مفر أمامهم من الجلوس على طاولة المفاوضات للاستسلام. اجتازت إسرائيل خطوط وقف إطلاق النار مرارا بخاصة في الضفة الغربية ونفذت عمليات قتل وتدمير، مثل تدمير الآبار الارتوازية في قلقيلية، وكانت مذبحتا قبية وغزة أبرز ما نفذته، فقد عبرت قواتها خط وقف إطلاق النار في 14-15 تشرين أول،أكتوبر/1953 ودخلت قرية قبية القريبة من القدس. وهدمت قواتها عشرات البيوت وقتلت حوالي 70 شخصا وعادت دون أن تلقى مقاومة جادة من قبل الجيش الأردني، على الرغم من أن المفرزة الأردنية التي تواجدت بقيادة محمود عبد العزيز قد تصدت للمهاجمين واستشهد أغلب أفرادها، ودخلت إسرائيل غزة في 28 شباط، فبراير/1955 وهاجمت العديد من مواقع الجيش المصري مما أسفر عن استشهاد حوالي 40 جنديا، شجعت هذه الأعمال العديد من الفلسطينيين على التفكير بالاستعداد للرد على إسرائيل وتحرير الوطن.

- حركة فتح

في الوقت ذاته الذي كانت تجري فيه الاستعدادات لتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، دأب عدد من الفلسطينيين على التفكير بإنشاء منظمة فلسطينية تقوم على تحرير الوطن باستقلالية عن الأنظمة العربية. قاد هذا التفكير عدد من الطلاب النشطاء في اتحاد طلبة فلسطين في القاهرة كان على رأسهم ياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف. لم ينضج هذا التفكير إلا في الكويت حيث التقى عرفات وزملاؤه بفلسطينيين وافدين من فلسطين ولبنان والأردن وسوريا. نشطت الاتصالات بين الفلسطينيين أوائل الستينيات، وأخذت الفكرة تتبلور بشكلها النهائي.
لم يكن هؤلاء الفلسطينيون على جهل بنوايا جمال عبد الناصر في تبني منظمة فلسطينية، وكان الشقيري على دراية بما يخطط له هؤلاء، جرت اتصالات بين الطرفين محاولا كل طرف إقناع الآخر بوجهة نظره، إلا أن أحدا لم يقتنع وسار كل منهما في طريق. تمثلت وجهة نظر الشباب في أنه لا خير في الأنظمة العربية التي تستمر في تقديم الوعود دون القيام بعمل حقيقي يدعم الأقوال. الأنظمة العربية، بالنسبة لهم، تستعمل قضية فلسطين كورقة لتدعيم سلطانها لكنها غير جادة في الاستعداد من أجل التحرير؛ وهي أنظمة تغرق في خصوماتها الخاصة التي تستهلك الجهود بلا طائل. وعليه فإن على الشعب الفلسطيني أن يحذرَ الدخول في المشاكل الداخلية للأنظمة العربية وألا يطوّع نفسه أداة بيد أي نظام، ورأوا بأن على الشعب الفلسطيني أن يركز على تحرير وطنه وأن يحشد مختلف الطاقات من أجل تحقيق هذا الهدف.
استمرت الحركة الجديدة غير المعلنة بالتبلور ووجدت لها نصيرين في سوريا والجزائر. كانت سوريا مهتمة بالورقة الفلسطينية وألا تدع الأمور تقع تماما بيد عبد الناصر، فأذنت للحركة بإقامة معسكرات تدريب على الأرض تحت سلطانها. أما الجزائر فكانت حديثة الاستقلال (استقلت عام 1962) وكانت رائدة في مقاومة الاستعمار وموقع إعجاب الجماهير العربية فسمحت للحركة بالنشاط على أراضيها.
اختارت الحركة أن تعلن عن نفسها بعد انعقاد مؤتمر القمة العربي المنعقد في كانون ثاني، يناير 1964. اتخذ مؤتمر القمة عدة قرارات منها حشد الطاقات من أجل التحرير والبحث في إمكانية إقامة منظمة تمثل الفلسطينيين وأن يُصار إلى تحويل مياه نهر الأردن. حتى تستبق الحركة الحدث، قررت أن تقوم بعمل عسكري يحمل رسائل إلى الدول العربية وإلى منظمة التحرير وإلى العدو الصهيوني، فزرعت قنبلة في ليلة 28-29/12/1964 في نفق عيلبون في شمال-شرق فلسطين وفجرتها. ثم أعقبت ذلك ببيان يعلن ولادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح).
على الرغم من أن التفجير كان صغيرا بالنسبة لحجم النفق، إلا أن الحدث كان هاماً، بحيث لفت أنظار الصديق والعدو، وقد كرست فتح هذا الأمر ببيانها وبرنامجها المعلنين فيما بعد، فأكدت الحركة أن الأفعال يجب أن تسبق الأقوال، وأنها قررت أن تخوض المعركة من أجل تحرير الوطن، وقالت إن هدفها هو تحرير فلسطين من أيدي الصهاينة الغزاة وإن هذا التحرير لا يتحقق إلا بالكفاح المسلح، وقالت بأنها حركة الجماهير الفلسطينية وأبوابها مفتوحة أمام كل الفلسطينيين للانضمام وممارسة حقهم في تحرير وطنهم. وأكدت الحركة أنها لا تعمل على التدخل في الشؤون الداخلية العربية، وترفض في الوقت ذاته تدخل الدول العربية في الشؤون الفلسطينية، وعلى الرغم من توجهها نحو الأمة العربية وتأكيدها على أهمية الوحدة العربية إلا أن الحركة لبست ثوب القطرية باعتبار القضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين أولا.
لم تكن حركة فتح حركة عقائدية وإنما حركة تحرير تعتمد الكفاح المسلح، وأبوابها بقيت مفتوحة أمام كل من أراد القتال بغض النظر عن آيديولوجيته أو عقيدته، وبقيت الحركة تحت نقد الحركات الإسلامية بأنها حركة علمانية، إلا أن هذا النقد لا مكان له بسبب حركية الحركة والتزامها بهدف محدد. لكن الحركة أخذت تتجاوز ما أعلنت عنه عبر الزمن إلى حد جنوح قيادة منظمة التحرير التي هي في الغالب قيادة فتحاوية، نحو توقيع الاتفاقات مع إسرائيل. يقول خصومها إنها تخلت عن مبادئها، وهي تقول إنها تناور من أجل تحقيق أهدافها.
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
انبثقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أساساً عن حركة القوميين العرب، بعد أن انعكست هزيمة عام 1967 سلبيا على الفكر القومي والأحزاب القومية، فعمل الأعضاء الفلسطينيون في حركة القوميين وعلى رأسهم جورج حبش ووديع حداد على تشكيل فصيل فلسطيني مقاتل من أجل رد العدوان وتحرير الأرض, اجتمع التنظيم المسلح لحركة القوميين العرب (أبطال العودة) وجبهة التحرير الفلسطينية وعدد من الناصريين والمستقلين وشكلوا الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وأصدروا بيانهم الأول في 11/كانون أول، ديسمبر/ 1967. وقد حصل خلاف مبكر داخل صفوفها أدى إلى انسحاب جبهة التحرير الفلسطينية التي شكلت الجبهة الشعبية-القيادة العامة.
تبنت الجبهة الكفاح المسلح واهتمت منذ اللحظة الأولى بتدريب عناصرها وتثقيفهم إلى الدرجة التي يتطلبها النضال الفلسطيني انطلاقا من أن الذي لا يعرف ماهية الصراع يصعب عليه توجيه البندقية بشكل سليم، وقد استطاعت الجبهة أن تستقطب العديد من العناصر وأن تحصل على تأييد واسع في الشارع الفلسطيني والعربي. لكن الجبهة استهلكت الكثير من جهدها في القضايا الأيديولوجية وعلاقاتها مع حركات التحرر العالمية، بحيث طغت على قضايا الصراع ضد الاحتلال الصهيوني. مما أدى إلى إنشقاقها فإضعافها.
خاضت الجبهة الشعبية معارك ناجحة ضد الاحتلال بخاصة عبر نهر الأردن وفي ساحل غزة. وقد اكتسبت شهرة بسبب سياستها في خطف الطائرات، ونظراً لردود الفعل السلبية التي واكبت عمليات الخطف، رأت الجبهة أن تغير من سياستها، هذا وقد تأثرت الجبهة سلبيا على مستوى المد الجماهيري بعد تبنيها الخط الماركسي، ومن الناحية العملية فقد حققت الجبهة نجاحاً أكبر وهي تحت المظلة القومية.
انضمت الجبهة إلى منظمة التحرير الفلسطينية، لكنها كانت تصطدم بين الحين والآخر بسياسات فلسطينية لا تتوافق مع طروحاتها مثل برنامج النقاط العشرة لعام 1974. وزيارة عرفات لمصر عام 1983 والتي في نظرها خالفت مقررات المجالس الفلسطينية التي دعت إلى مقاطعة النظام المصري ما دام يتمسك باتفاقيات كامب ديفيد، وقد انسحبت الجبهة أكثر من مرة من منظمة التحرير وعادت إليها دون زوال الأسباب التي كانت تؤدي إلى الانسحاب.
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
تأسست الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في 22/شباط، فبراير/1969 بقيادة نايف حواتمة إثر انشقاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتبنى جناح في الجبهة الشعبية الفكرة الماركسية-اللينينية ووجدوا أنهم يستطيعون تنفيذها خارج إطار الجبهة ذات البعد القومي، فركزت الجبهة على الطبقة العاملة على اعتبار أنها رائدة التحرر وحاملة شعلة الصراع ضد المستعمرين والمحتلين، وبنت آمالها على الكادحين والفلاحين وعموم جماهير البروليتاريا التي ستنتصر حتما.
الجبهة الديمقراطية فصيل فلسطيني مقاتل، وقد قامت عبر تاريخها الطويل بالعديد من العمليات العسكرية كان بعضها ناجحا، لكنها لم تصر على البعد الثوري للماركسية اللينينية خلال مسيرتها ولم تركز على إسقاط الأنظمة البرجوازية المتحالفة مع أعداء البروليتاريا واتجهت نحو الاعتراف بالواقع وقبوله والتعامل معه من منطلقات ممكنة، أي أنها اتبعت القول بأن السياسة عبارة عن فن الممكن وليس الإصرار على ما هو ممكن، ولهذا أيدت الطروحات السلمية ورأت أنه من الممكن إقامة سلام مع إسرائيل على أساس دولتين لشعبين وبناء على قرارات ما يُعرف بالشرعية الدولية.
الجبهة الشعبية-القيادة العامة
تعود الجبهة الشعبية-القيادة العامة إلى عام 1959 عندما تشكلت جبهة التحرير الفلسطينية التي دعت إلى حرب التحرير الشعبية أو حرب العصابات. امتلك القائمون على الجبهة وعلى رأسهم أحمد جبريل الرغبة القوية في العمل إلا أن الإمكانيات كانت ضعيفة، لكن الجبهة أعلنت عن عدد من المبادئ على رأسها أن الشعب العربي الفلسطيني يتحمل مع جماهير الأمة العربية المسؤولية الأولى عن تحرير فلسطين؛ وأن الوصاية على الشعب الفلسطيني مرفوضة كما أن الحلول التصالحية للقضية مرفوضة أيضا.
رفضت الجبهة فكرة إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية من قبل القمة العربية واعتبرتها محاولة لامتصاص حماس الجماهير الفلسطينية. وفي المقابل عملت على تشكيل مجموعات قتالية مثل مجموعة المجاهد عز الدين القسام، وقامت ببعض الأعمال العسكرية عام 1966 مثل مهاجمة مستعمرة ديشوم التي سقط فيها أول شهداء الجبهة وهو خالد الأمين.
انضمت الجبهة عام 1967 إلى جانب حركة القوميين وشكلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكنها ما لبثت أن انشقت وشكلت الجبهة الشعبية-القيادة العامة، وهي تؤمن بالعمل المسلح ضد إسرائيل وأن فلسطين لن تتحرر إلا بالقتال، ولهذا ركزت على الدقة في البناء العسكري. وهي تعتقد بعروبة القضية وإسلاميتها، وترى أن حصر القضية بالفلسطينيين عبارة عن خطأ استراتيجي، ولهذا ترفض الجبهة التحركات السلمية وما نجم عنها من اتفاقيات.
سمات سلبية للفصائل الفلسطينية
من الملاحظ أن عدد الفصائل الفلسطينية ذات البعد الوطني أو القومي متعددة، وأن منها من هو تابع لدول عربية وممول مباشرة منها من أجل أن تبقى ضمن دائرتها. حاولت الدول العربية المجاورة لفلسطين تشكيل تنظيمات فلسطينية تابعة لتسهيل تدخلها في الشؤون الفلسطينية، وأغلب هذه الفصائل لا تقوم بأعمال قتالية ضد إسرائيل إلا على الورق أو على الجدران. وعملها محصور في أغلب الأحيان في إصدار البيانات.
وفيما يخص الفصائل عموما، يُلاحظ التالي:
أولا: عانت الفصائل من انشقاقات داخلية متعددة إلى درجة أنه حصل انشقاق في الانشقاق.
ثانيا: لم تلتزم أغلب الفصائل بما أعلنته من مبادئ وأخذت تتنازل عنها تدريجيا.
ثالثا: طورت الفصائل عقلية التبرير من أجل أن تواجه الانتقادات التي وجهت إليها بسبب تنازلاتها عن مبادئها وشعاراتها.
رابعا: طورت أغلبها الولاء السياسي على حساب الانتماء الوطني وجعلت الفصيل فوق الوطن، كما وضعت الشخص القائد فوق الفصيل.
خامسا: قادة هذه الفصائل شبيهون بالقادة العرب من حيث التمسك بالكرسي.
سادسا: عدد الفصائل أكبر من حجم الشعب الفلسطيني. إذ بلغ عدد الفصائل في وقت ما أكثر من أربعين، وعلى الرغم من تقلص العدد مع الزمن إلا أن العدد ما زال كبيرا.

المبحث الثالث

- حروب متواصلة

لم تهدأ المنطقة العربية منذ بدء الغزو الصهيوني لفلسطين عام 1897، وابتليت بحروب متتالية بين فترة وأخرى، وجاء قرار الصهيونية العالمية بالهجرة إلى فلسطين لأسباب عدة منها: الهروب من الاضطهاد وتحقيقاً للرخاء والهدوء، لكنهم لم يحققوا مبتغاهم بالهدوء والاستقرار، وانعكس ذلك جحيماً على العرب، وجاء الصهاينة ومعهم الحرب وسفك الدماء والخراب والدمار، ونشبت عدة حروب حتى الآن، لكنه من المحتمل أن الحروب الأكثر دموية والأشد فتكا لم تحصل بعد، فالمنطقة مرشحة لمزيد من الحروب والويلات ما دامت إسرائيل تقوم على تشريد شعب فلسطين وسلب حقوقه وحقوق العرب والمسلمين وإنكارها.
يستعرض الكتاب في هذا المبحث الحروب الرئيسة التي نشبت منذ عام 1956 حتى الآن، بعد استعراض حرب عام 1948. هُزم العرب في هذه الحروب بحدة متفاوتة إلا في بعض معارك الجنوب اللبناني والسبب، كما سيظهر لنا، لا يتعلق بالأمة أو بالشعوب وإنما بالحكام العرب الذين قرروا مسبقا أن يكونوا أدوات بأيدي غيرهم وأن يطوعوا الأمة لإرادتهم، فلم تخض الأمة معركة حقيقية فوق التشكيك إلا معركة واحدة بقيادة حزب الله وانتصرت بها، أما باقي الحروب تصدرتها جيوش عربية تأتمر بأوامر الأنظمة، بمعنى أن الحروب الحقيقية في مواجهة إسرائيل لم تأخذ مداها بعد، ولن تأخذ المدى إلا إذا تخلصت الأمة من أوضاع القمع والاستبداد التي يمارسها ضدها حكامها.
حرب عام 1956
أثارت تطورات الأحداث التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حصل في مصر في 23 تموز1952 وأطاح بالملك فاروق حفيظة الدول الغربية وبالأخص بريطانيا وفرنسا وسببت قلقا متزايدا لإسرائيل. فقادة الانقلاب وفي مقدمتهم جمال عبد الناصر، الذي استلم مقاليد الرئاسة عام 1953، أتوا بعقلية قومية تتطلع نحو الوحدة العربية وبناء الأمة العربية لتعود لها أمجاد الماضي التليد، فبدؤوا بقدر إمكاناتهم وحدود وعيهم السياسي والثقافي ببث الوعي القومي وتحريض العرب على العمل معا من أجل بناء الصرح العربي والدولة العربية التي تقف على قدم المساواة مع الدول الأخرى.
من منطلق وعيهم بضرورة الوحدة العربية، وقف حكام مصر الجدد ضد الاستعمار والدول التي تفرض الهيمنة على بعض البلدان العربية ونهب ثرواتها، وضد سياسة الدول الاستعمارية في تقسيم البلاد العربية إلى دويلات وأجزاء صغيرة متناثرة، ولهذا لعبوا دورا تحريضيا من أجل طرد الدول الاستعمارية خاصة فرنسا وبريطانيا، مما دعا هذه الدول إلى اتخاذ مواقف غير ودية اتجاه مصر، فضلا عن أن مصر آحضنت الثورة الجزائرية وقدمت لها الدعم وطلبت من العرب شعوبا وحكومات دعم الثورة الجزائرية مما أثار غضب فرنسا وانعكس على سياستها نحو تسليح إسرائيل، إذ تبنت فرنسا مسألة تحديث الجيش الإسرائيلي وزودته بأغلب الأسلحة التي كان يحتاجها إليها.
تحركت مصر نحو اتخاذ سياسات جديدة، مما زاد من الشكوك الغربية حول نية القيادة المصرية، إذ وقفت مصر ضد حلف بغداد الذي ضم العراق وتركيا وكان من المخطط له أن يضم إيران وباكستان والأردن فضلا عن الدول الغربية الداعمة من ناحية؛ ومن ناحية أخرى، توجهت نحو معسكر الاتحاد السوفيتي وبالتحديد نحو تشيكوسلوفاكيا لشراء السلاح، فقد رأت القيادة المصرية أن الأحلاف العسكرية تضعف العرب وتجعلهم تحت هيمنة الدول الغربية واعتبرت بالتالي معادية للطموحات العربية، وحاولت في الوقت نفسه شراء السلاح للوقوف في وجه العدوان خاصة ذلك الذي تمثله إسرائيل وتمارسه، لكن الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة رفضت تزويدها بالأسلحة مما دفع مصر للبحث عن مصدر آخر خاصة من الاتحاد السوفييتي الذي كان يبحث عن باب يدخل منه إلى المنطقة العربية.
نظرت الدول العربية إلى صفقة الأسلحة مع تشيكوسلوفاكيا نظرة عدائية واعتبرتها تحديا لسياستها في تطويق الاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة التي كانت على أشدها، ولهذا ألغت الولايات المتحدة تمويلا لبناء السد في أسوان الذي عرف بالسد العالي، فصعدت مصر إجراءاتها نحو استقلاليتها في اتخاذ القرار، عندما أعلن الرئيس عبد الناصر تأميمه لقناة السويس في 26 تموز 1956، أي أنه وضع القناة تحت السيادة المصرية وألغى الامتياز البريطاني والفرنسي والهيمنة العسكرية على القناة، وكانت تلك الخطوة بمثابة الصاعقة على بريطانيا وفرنسا، وأدركت القيادة المصرية خطورة قرارها وما سيترتب عليه، فوجهت الجهود الدبلوماسية نحو مصر للتراجع عن قرارها إلا أنها أصرت على موقفها.
التحضير للعدوان:
اتفقت بريطانيا وفرنسا على ضرورة فرض سيطرتها على القناة لأهميتها الاقتصادية والعسكرية واتجه تفكيرهما نحو القيام بحملة عسكرية ضد مصر بالتعاون مع إسرائيل التي كان لها مصلحة في ذلك، وبخاصة أن إسرائيل كانت معنية بشن حرب على مصر للأسباب التالية:
أولا: توجيه ضربة وقائية تقضي على القوة العسكرية المصرية التي كانت تشكل القوة العربية الرئيسة، فنظرية الأمن الإسرائيلية تقوم أساسا على التفوق العسكري والقضاء على قوة العدو قبل أن تشكل تهديدا جديا لها، لقد اشترت مصر الدبابات والمدافع والزوارق والطائرات، وأصبح لديها قوة لا يستهان بها.
ثانيا: فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية، بعد أن سيطرت مصر على مدخل خليج العقبة المعروف بمضيق تيران وعلى الجزيرتين الواقعتين عليه وهما تيران ومناقير وأغلقته في وجه الملاحة الإسرائيلية، فكانت إسرائيل بحاجة إلى فتح المضيق لأسباب اقتصادية تتعلق بالتجارة، وفكرت أكثر من مرة بالقيام بعملية عسكرية محدودة للاستيلاء على شرم الشيخ في سيناء والسيطرة على المضيق.
ثالثا: القضاء على الهجمات الفدائية التي كانت تنطلق من منطقة غزة ضد الأهداف الإسرائيلية، إذ اعتادت إسرائيل القيام بغزوات مفاجئة ضد المناطق العربية في ساحل غزة الذي عرف بقطاع غزة وفي الوسط الشرقي من فلسطين والذي عرف بالضفة الغربية، وكان الرد ضدها من خلال العمل الفدائي الذي هاجم مواقعها العسكرية ومستوطناتها، ومن حيث أن إسرائيل حساسة للمسألة الأمنية فهي لا تستطيع تحمل هجمات مباشرة ضدها، ولا تقبل أن تقوم معركة على أرض تحت نفوذها، ولهذا كان من مصلحتها شن حرب ضد مصر تكسر شوكتها وتجبرها على منع العمل الفدائي.
رابعا: القضاء على القيادة المصرية إن أمكن، على الرغم من أن اهتمام إسرائيل كان منصبا على تحقيق إنجاز عسكري ومصلحة اقتصادية وأمنية، إلا أنها كانت تفضل أيضا القضاء على القيادة المصرية التي صنعت جوا من التشويش والتحريض ضد إسرائيل وحلفائها الغربيين، فأملت أن يؤدي إنجازها العسكري إلى سقوط عبد الناصر وحكومته.
خامسا: تحقيق صلح مع العرب من الممكن أن يؤدي إلى اعتراف متبادل وتطبيع العلاقات والقبول بإسرائيل كجزء طبيعي من المنطقة. كان يرى قادة إسرائيل وعلى رأسهم بن غوريون أن العرب لن يعترفوا بإسرائيل إلا من خلال كسر أنوفهم في ساحة الحرب، وأنهم لن يفعلوا ذلك إذا بقي لديهم ظن بأنهم قادرون على هزيمة إسرائيل وإزالتها من الوجود، ولهذا رؤوا ضرورة إقناع العرب بعجزهم وضرورة استسلامهم للأمر الواقع من خلال إلحاق الهزائم بهم، وقد نقل عن بن غوريون رغبته في رشوة أي زعيم عربي مجاور مقابل دخوله الحرب ضد إسرائيل وذلك ليقتنع الشعب العربي أن الأمة العربية لا تملك أملا في تحرير فلسطين.
التقت إسرائيل بمصالحها المشتركة مع فرنسا وبريطانيا اللتين كانتا معنيتين أيضا بإسقاط القيادة المصرية وتنصيب قيادة جديدة يمكن التفاهم معها والمحافظة على المصالح الغربية من خلالها، فاتفقت الدول الثلاث على القيام بحملة عسكرية أصبحت تعرف بالعدوان الثلاثي وذلك في 29 تشرين أول 1956 حسب الترتيب التالي:
1- تقوم إسرائيل بالهجوم على شبه جزيرة سيناء برا عبر خطوط وقف إطلاق النار وبإنزال جوي عبر ممر متلا الإستراتيجي، وهذا القدوم سيدفع القيادة المصرية إلى إرسال قواتها إلى سيناء لصد الهجوم.
2- تقوم بريطانيا وفرنسا بالهجوم على منطقة قناة السويس من بور سعيد بداية ثم إلى السويس والإسماعيلية وذلك من البحر الأبيض المتوسط، حيث تحتشد القوات قبالة الساحل المصري.
3- تقوم القوات المشتركة بالقضاء على الجيش المصري الذي يصبح محاصرا في سيناء.
4- تقوم قوات بريطانيا وفرنسا بالالتفاف على القاهرة من الجنوب وتسقط القيادة المصرية.
5- تبقى الخطة سرية ويبقى تدخل بريطانيا وفرنسا تحت ذريعة حماية قناة السويس حتى لا تحدث إثارة عالمية أو غضب عربي على الدولتين وبالأخص على بريطانيا التي كانت تعتبر صديقة لعدد من الدول العربية.
في مقابل هذا الترتيب، كان هناك ترتيب مصري، إذ كانت القيادة على يقين بأن بريطانيا وفرنسا ستهاجمان مصر على جبهة قناة السويس وأعدت الخطة التالية لمواجهة الموقف:
1- إرسال جزء من الجيش المصري لمواجهة العدوان الإسرائيلي في سيناء.
2- توظيف جزء آخر من الجيش في منطقة القناة لمواجهة الهجوم البريطاني الفرنسي.
3- الإبقاء على جزء آخر تحت تصرف القيادة لنقله إلى مناطق حشد عسكري غير متوقع.
4- تجنيد المتطوعين ضمن جهود الدفاع الشعبي.
العدوان
قامت إسرائيل بهجومها حسب الترتيب المعد مسبقا فأنزلت قواتها المحمولة في ممر متلا واجتازت خط الهدنة إلى سيناء، فتصدت القوات المصرية للمهاجمين، وعبرت القناة ألوية مصرية إضافية للتعامل مع القوات الغازية، واضطرت القوات الإسرائيلية إلى خوض قتال كانت تريد أن تتجنبه لغاية إنزال القوات البريطانية –الفرنسية، لكن تأخر الإنزال فرض على الإسرائيليين القتال الذي أوقع الخسائر بين الطرفين.
لم تقم فرنسا وبريطانيا بضرب مصر إلا في 31 تشرين أول 1956 متأخرة حوالي اليوم عن الموعد المقرر، عندها أمر الرئيس المصري بتركيز القوة المصرية على القناة، لأنها هي المحور الرئيس للقتال. وبذلك فقد المعتدون أول رهان لهم وهو تدمير الجيش المصري بالحصار، عندها اضطر العرب المصريون إلى تركيز قواتهم في منطقة القناة الغربية خاصة، بسبب عدم قدرتهم على نشر جيشهم على جبهات متعددة في مواجهة قوات تفوقهم عدداً وعدة، ففي القوات البرية والمدافع والدبابات كانت النسبة بين قوات المعتدين وقوات مصر 3 : 1، وكان الأعداء متفوقين بصورة كبيرة في القوات البحرية و بصورة كبيرة جدا في القوات الجوية، ولهذا كان لا بد من تركيز القوات المصرية في المنطقة التي يمكن أن يشكل سقوطها خطرا كبيرا على مصر.
احتدم العدوان على مصر على مدخل قناة السويس وفي سيناء، وفي منطقة غزة قذفت الطائرات قنابلها ودكت المدافع المواقع العسكرية والمدنية وقصفت القوات المصرية من البحر والبر والجو. استطاعت إسرائيل أن تلتف حول شرم الشيخ وتحتله، وأن تلتف على ساحل غزة وتعزله. أما القوات الفرنسية والبريطانية فلاقت مقاومة مصرية عنيدة ومستميتة. وعلى الرغم من شدة الحمم وهول القوة المحتشدة لم يستطع الفرنسيون والبريطانيون إلا احتلال منطقة بور سعيد وبور فؤاد على مدخل القناة. أما محاولتهم توسيع رأس الجسر فلاقت مقاومة مصرية عنيفة منعتهم من الوصول إلى الإسماعيلية. تكرر الهجوم الفرنسي-البريطاني على محور القناة لكنه أجهض مرارا واستطاع الجيش المصري مع القوات الشعبية أن يقفوا سدا منيعا في وجه تقدمه، حتى أن رأس الجسر لم يسلم من الهجمات الفدائية السريعة التي قام بها المصريون.

- الدور العربي في القتال

وقعت دول جامعة الدول العربية اتفاقية دفاع مشترك فيما بينهما، بحيث تقوم دول الجامعة بالدفاع عن أي دولة عربية عضو في الجامعة العربية ضد أي عدوان أو غزو، وكذلك تم توقيع اتفاقات دفاع مشترك ثنائية وثلاثية بين الدول العربية، فمثلا كانت هناك اتفاقية دفاع مشترك بين سوريا ومصر، وأخرى بين مصر والسعودية واليمن، واتفاقية بين مصر والأردن، إلا أن الدور العربي اقتصر على بيانات التأييد لمصر والتنديد بالعدوان وإبداء الاستعداد لتقديم الدعم لمصر وبث الأناشيد والخطابات عبر الإذاعات.

- انتهاء الحرب

لم يكن العدوان على مصر مقبولا من قبل الدولتين الأعظم عندئذ : الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، إذ تحركت كل من الدولتين على انفراد نحو إدانة العدوان والتحذير من استمراره، وصدر في كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي إنذارا منفردا للدول المعتدية دعتا فيه إلى وقف العدوان والانسحاب من المواقع التي سيطرت عليها، وصدر بعد ذلك قرار عن مجلس الأمن بوقف القتال. علماً أن القتال توقف صباح يوم 7 تشرين ثاني 1956 وبدأت معه جهود تسوية الأزمة.
تقرر انسحاب بريطانيا وفرنسا من رأس الجسر الذي أقيم في بور سعيد وانسحاب إسرائيل من سيناء، وانسحبت بريطانيا وفرنسا في 22 كانون الأول 1956 وإسرائيل في 6 آذار 1957.
نتائج الحرب
أولا: فشلت كل من بريطانيا وفرنسا في تحقيق أي هدف فلم تسيطر الدولتان على القناة ولم تسقط القيادة المصرية، بل أنهما وجدتا نفسيهما في وضع حرج أمام شعبيهما وأمام العالم.
ثانيا: فشلت إسرائيل في بعض أهدافها، لكنها حققت ما يلي:
1- فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية.
2- السيطرة على منطقة العوجا على الحدود مع سيناء التي كانت منطقة منزوعة السلاح منذ عام 1948، وطرد القبائل البدوية التي كانت متواجدة فيها إلى سيناء.
3- وقف الهجمات الفدائية من ساحل غزة وتعهد الحكومة المصرية بمراقبة الحدود وتشديد الإجراءات الأمنية.
ثالثا: انتشرت قوات الطوارئ الدولية على الجانب المصري من خطوط وقف إطلاق النار وفي منطقتي شرم الشيخ وغزة، كما رفضت إسرائيل أن ترابط هذه القوات على الأرض التي تحتلها، وفي المقابل وضع بقاء القوات رهنا بموافقة الحكومة المصرية التي لها الحق بالتوجه إلى أمين عام الأمم المتحدة لسحبها.
رابعا: أصبحت قناة السويس تحت السيطرة المصرية وسيادتها.
خامسا: أغلقت قناة السويس في وجه الملاحة الإسرائيلية بعد أن كانت مفتوحة قبل الحرب.
سادسا: ارتفعت معنويات العرب قيادة وجماهيرا، وأصبحت القيادة المصرية ذات شعبية واسعة.
حرب عام 1967
لم تكن حرب عام 1956 شافية بالنسبة لإسرائيل، إذ لم تحقق إلا شيئا قليلا من أهدافها، تمثلت في فتح خليج العقبة أمام الملاحة الإسرائيلية ووقف العمليات الفدائية، وركزت إسرائيل آنذاك على إزالة التهديد العسكري العربي لها والاطمئنان إلى عدم وجود قوة عربية يمكن أن تشكل تهديدا مستقبلياً، لكن هذا لم يتحقق، بل إن قوة الدول العربية العسكرية خاصة القوة المصرية أخذت بالتصاعد مع مرور الأيام بفعل التسهيلات السوفييتية واهتمام الاتحاد السوفييتي في استمالة العرب أو بعضهم إلى جانبه في الحرب الباردة.
بعد أن ضمنت إسرائيل هدوءاً أمنياً في منطقة غزة بعد حرب عام 1956، وعلى طول خط الهدنة مع مصر، وتوقفت العمليات الفدائية، بعد أن شدد الجيش المصري الرقابة على خطوط وقف إطلاق النار، لمنع المتسللين الفلسطينيين والمصريين من مهاجمة إسرائيل، لكن القيادة المصرية، من ناحية ثانية، أخذت تشتري كميات كبيرة من الأسلحة واتخذت خطوات جادة نحو التصنيع العسكري، فشعرت إسرائيل بالقلق واستمرت في التفكير في سبل القضاء على القوة المصرية وعلى أي قوة عربية أخرى يمكن أن تنمو، فضلا عن هاجسها الأمني الذي يتطلب صلحا مع العرب، فمع امتلاك العرب لأسباب القوة العسكرية، فكرت إسرائيل في حرب جديدة وحضرت لها، لعدة أسباب منها:
أولا: التوسع: لم يكن قادة إسرائيل مقتنعين بأن المساحة التي اغتصبوها عام 1948 كافية لاستيعاب يهود العالم أو غالبيتهم، ولهذا تطلعوا نحو التوسع على كافة الاتجاهات لتوفير مساحات من الأراضي تلبي متطلبات المستقبل، هذا فضلا عن أن التوسع يخدم غرض الوصول إلى خطوط جديدة يسهل الدفاع عنها، فمن وجهة نظر العسكريين كانت هناك صعوبة في ضمان الأمن لإسرائيل خاصة في الاتجاهين الشرقي والشمالي. فمن ناحيتي الشرق والشمال تتداخل المناطق مع بعضها ولا يوجد فواصل أو موانع جغرافية تعيق حركات الجيوش العربية أو الفدائيين العرب، ولهذا رأت القيادة العسكرية في التوسع وسيلة جديدة للوصول إلى خطوط وقف إطلاق نار جديدة يسهل الدفاع عنها بسبب الموانع الجغرافية، ويسهل من خلالها نقل المعارك إلى داخل الأراضي التي يسيطر عليها العرب، فبالنسبة لهم يشكل كل من نهر الأردن ومرتفعات الجولان ومنطقة الجنوب اللبناني حتى نهر الليطاني مناطق دفاعية يجب ألا تكون تحت السيطرة العسكرية العربية.
ثانيا: تحويل مياه نهر الأردن: عملت إسرائيل على إقامة مشاريع مائية مختلفة لتحقيق أقصى استغلال للمياه المتوفرة وكان من ضمنها مشروع تجفيف بحيرة الحولة الذي تم في الخمسينيات، ومشروع تحويل مياه نهر الأردن الذي أصبح معروفا لدى العرب عام 1963. اجتمعت الدول العربية على هذا المشروع وأطلق الرئيس المصري دعوته لعقد مؤتمر قمة عربي لتدارس الوضع، وبالفعل التأم قادة الدول العربية في القاهرة في مؤتمر القمة العربي الأول في كانون ثاني 1964.
قرر القادة العرب تحويل مياه نهر الأردن عبر مرتفعات الجولان لتعبر شرقي الأردن عبر قناة تصب من جديد في مجرى نهر الأردن، ورصدت الأموال اللازمة لذلك، لكن إسرائيل لم تكن لتسلم بالأمر. فمن ناحية، عملت على ضرب كل إنجاز عربي يتم على الأرض لتحويل النهر؛ ومن ناحية أخرى، بدأت تفكر في السيطرة على منابع نهر الأردن لتبقى المياه في مأمن من التهديد العربي.
ثالثا: ظهور المقاومة الفلسطينية: ظهرت في الخمسينيات بوادر التنظيمات الفلسطينية المسلحة وقامت بعض العمليات العسكرية المحدودة ضد أهداف إسرائيلية، لكن فترة الستينيات تميزت بتنظيمات فلسطينية أكثر جدية في تنظيم الفلسطينيين بغرض القيام بحرب عصابات ضد إسرائيل، وقد بات واضحا بالنسبة لإسرائيل تصميم الفلسطينيين على المضي في خطاهم، ولمست هذا الأمر من خلال عمليات عسكرية بدأت تقوم بها حركة التحرير الوطني الفلسطيني، فتح. فقد قامت الحركة بأول عملياتها في أواخر كانون أول عام 1964 وأعلنت عن نفسها رسميا في 1 كانون ثاني 1965. كان الأمر خطيراً بالنسبة لإسرائيل؛ لأنه يضيف عنصرا جديدا إلى معادلة الصراع في المنطقة، ويدخل الفلسطينيين أصحاب الحق المباشر في مواجهة مع إسرائيل مما يهدد أمنها وأمن مستوطناتها، لذلك لم يكن من مفر لمواجهته.
رابعا: الوضع الأمني على الجبهة السورية: لم تكن الجبهة السورية هادئة من حيث تبادل إطلاق النار بين القوات السورية والإسرائيلية، إذ استمر الإسرائيليون قصفهم للمواقع السورية خاصة من الجو، واستمر السوريون بقصف المواقع الإسرائيلية في إصبع الجليل ومحيط بحيرة طبرية بالمدفعية، واستمرت المناوشات العسكرية بطريقة لم تعد محتملة بالنسبة للإسرائيليين مما دعاهم للتفكير الجدي بإبعاد القوات السورية عن مرتفعات الجولان التي يسهل وجودهم عليها عملية القصف والتمكن العسكري من التجمعات السكانية اليهودية والقواعد العسكرية.
خامسا: عقد اتفاقيات صلح مع الدول العربية: لم تعترف الدول العربية بإسرائيل، ورأت إسرائيل أن هزيمة عسكرية ستقنع العرب بالاعتراف بها والتخلي عن حلمهم بتحرير فلسطين، وستنتهي إلى قبول إسرائيل كدولة من دول المنطقة وإلى تطبيع العلاقات معها وفتح الأسواق العربية أمام منتجاتها، وكذلك فتح فنادقها ومنتجعاتها أمام السياح العرب.
التمهيد للحرب
قامت إسرائيل بعرض عضلاتها العسكرية التي كانت بمثابة رسائل واضحة لقادة العرب. فقد قامت بالهجوم على قرية السموع في منطقة الخليل بحجة ملاحقة الفدائيين الفلسطينيين الذين يتسللون إلى داخل فلسطين المحتلة لمهاجمة المواقع الإسرائيلية، فدخلت القرية بالدبابات وهدمت عددا من البيوت وقتلت حوالي 200 شخص. أما على الجبهة المصرية، فقامت الطائرات الإسرائيلية بإسقاط طائرتين مصريتين فوق سيناء. بينما على الجبهة السورية حصلت مواجهة جوية سقطت خلالها ست طائرات سورية، وقد تراوح الرد العربي بين إصدار بيانات عسكرية غير صحيحة وبين الشكوى لمجلس الأمن.
مع تصاعد حدة التوتر على الجبهة السورية ، ومع استمرار العمل في مشروع تحويل نهر الأردن، حصلت الحكومة الإسرائيلية من اللجنة الأمنية في الكنيست (مجلس الشعب الإسرائيلي) على موافقة للتصرف عسكريا ضد سوريا وذلك في 9 أيار 1967. وهذا ما حصل إذ قامت إسرائيل بحشد قواتها على جبهة الجولان وأخذت تلوح بالحرب (لكن هذا تم التشكيك فيه فيما بعد من حيث أن الأنباء عن الحشد الإسرائيلي على جبهة الجولان كانت فقط مجرد أنباء لدفع مصر للتحرك عسكريا). أثارت الحشودات مصر التي كانت على خلاف كبير مع سوريا وأعلنت أنها تلتزم باتفاقيات الدفاع المشترك الموقعة من قبل الدولتين عام 1966، وبناء عليه قررت مصر حشد قواتها قي سيناء واتخاذ التدابير العسكرية المختلفة لمواجهة العدوان.
قام العرب خاصة مصر بتظاهرة عسكرية أمام العالم، وفاض قادة العرب بالتهديدات لإسرائيل، وفاضوا بالوعود للعرب بقرب تحرير فلسطين وعودة الفلسطينيين إلى بيوتهم. حتى أن أحد معلقي الإذاعة المصرية طلب من الأسماك أن تتعمد عدم الأكل انتظارا للوجبة الشهية عندما يُلقى اليهود في البحر. استعرض العرب عضلاتهم وانشغلت ألسنتهم بالخطب الرنانة ووظفت الإذاعات لبث أناشيد الحرب والنصر، في الوقت ذاته كانت إسرائيل تستعد للحرب بصمت، وأمام العالم كانت تبدو كالحمل الوديع، فقط استنجدت بالعالم لإنقاذها من تهديدات "المارد" العربي واستغلت تصريحات القادة وتعليقاتهم الإذاعيين لاستدرار تعاطف العالم معها، وكلما ظهرت بمظهر الضعيف ضاعف العرب من بهرجتهم الإعلامية.
يبدو أن إسرائيل كانت معنية بجر الدول العربية إلى حرب؛ لأنها كانت تدرك تماما الفرق بينها وبين العرب في الاستعداد، فالعرب يملكون قطعا كثيرة من الأسلحة لكنهم غير مستعدين لمعركة أو لحرب، ولهذا سرعان ما حشدت قواتها على الجبهة المصرية حيث هي الجبهة التي من المتوقع أن تكون ساخنة، وأصبح معلوما بعد الحرب أن إسرائيل خططت للحرب على مدى عدة سنين ووضعت التجهيزات والآليات اللازمة للتنفيذ، فقد كانت تنتظر الوقت المناسب لشن الحرب، وكانت سنة 1967 ملائمة جدا من حيث الوضع العربي الذي كان مفتتا وممزقا، فالدول العربية على عداء أرعن ضد بعضها، والإذاعات العربية منشغلة قبل الحرب في السباب والشتائم وكيل الاتهامات ونشر الفضائح. السعودية ضد مصر، ومصر ضد سوريا، وسوريا ضد الأردن، والأردن ضد مصر، ومصر ضد العراق، والعراق ضد السعودية، الخ. وكان مظهرا مخزيا في التاريخ العربي. في ذلك الوقت، كانت تجري حرب في اليمن بين السعودية ومصر، وكان كل منهما يدعم طرفا في حرب أهلية مما استنزف طاقات الدولتين.
فضلا عن أن الوضع العربي كان مثاليا لإلحاق هزيمة بالعرب، استغلت إسرائيل الوضع الدولي الذي لم يكن آبها بما يجري بالنسبة للعرب وخاصة في العالم الغربي، فالدول الغربية وعلى رأسها فرنسا وألمانيا عملت على تسليح إسرائيل ودعمها اقتصاديا وسياسيا، ولم يكن لدى الولايات المتحدة ما يعترض جهود إسرائيل الحربية، بل إن الولايات المتحدة كانت معنية برؤية جمال عبد الناصر ونظامه مقهورا مهزوما.
صعد العرب من استعراضهم عندما طلب الرئيس عبد الناصر من أمين عام الأمم المتحدة سحب قوات الطوارئ الدولية التي وضعت في سيناء عقب حرب عام 1956. وهكذا فعل. ثم عمدت مصر إلى إغلاق مضائق تيران أمام الملاحة المتوجهة من وإلى إسرائيل، عندها اعتبرت إسرائيل أن ما يقوم به عبد الناصر عملا من أعمال الحرب لا يمكن السكوت عنه، واستغلت الأمرين على الساحة الدولة لاستقطاب المزيد من الدعم السياسي والإعلامي لها.
مع توتر الأوضاع بدأت القوات العربية الراغبة في المساندة في الوصول إلى مصر مثل القوات السودانية والكويتية، وقرر الملك حسين ملك الأردن الالتفاف إلى الخلف والصلح مع عبد الناصر، إذ قام الملك حسين بزيارة مصر وعقد اتفاقية دفاع مشترك معها وقرر أن يلتزم بمحاربة إسرائيل إذا ما نشبت الحرب. ونتج عن هذه الزيارة صلح بين الملك وأحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية الذي أقل طائرة العودة التي حملت الملك إلى عمّان، أما في إسرائيل فقد اتخذت إجراءات استعدادا للحرب وتم تعيين عدد من القادة العسكريين في مواقع حساسة تمهيدا لشن الحرب.
الهجوم الإسرائيلي
بينما كانت الجماهير العربية تنتظر النصر الذي وُعدت به بفارغ الصبر، قامت إسرائيل بهجوم خاطف على مصر لم تشهد الحروب الحديثة بسرعته وقدرته على إلحاق الأضرار الفادحة والدمار في الطرف الآخر، بدأت إسرائيل هجوما جويا على القواعد الجوية المصرية في منطقتي الدلتا وسيناء عند الساعة السابعة صباحا (الثامنة بالتوقيت الصيفي المصري آنذاك) يوم 5 حزيران 1967. توجهت الطائرات الإسرائيلية على علو منخفض غربا داخل البحر الأبيض المتوسط، حتى إذا قطعت مسافة كافية استدارت شرقا وهاجمت المطارات من ناحية الغرب، أسقطت الطائرات قنابلها على الطائرات المصرية لمدة ثلاث ساعات قضت خلالها على العمود الفقري للجيش المصري وهو سلاح الطيران، ولم ينج من الطائرات إلا العدد القليل بخاصة تلك الطائرات التي كانت بعيدة عن متناول الطائرات الإسرائيلية.
أشير هنا إلى ملاحظتين وهما أن الطيارين المصريين لم يكونوا في أغلبهم مستعدين للقتال صبيحة ذلك اليوم بسبب حفل ليلي ساهر أقيم لهم من قبل قائد الطيران المصري والتي مولها جاسوس إسرائيلي كان يقيم في القاهرة على أنه تاجر خيول تركي، وأن الإسرائيليين اختاروا الساعة السابعة والنصف صباحا لكي يبدأ القصف في الفترة الواقعة بين 7:45 وبين 8:00 وهي الفترة التي تشهد مصر أثناءها تغيير وردية المناوبين الليليين بوردية المناوبين الصباحيين، أي أنها فترة متميزة بنوع من الفوضى وانقطاع العمل.
بعد هذه الموجة من القصف، أكمل الطيران الإسرائيلي طلعاته ليلاحق طائرات في مطارات أكثر بعدا عن المطارات الإسرائيلية، ولضرب معسكرات الجيش وأماكن تجمعه، ومع القصف الجوي، تدفقت القوات البرية الإسرائيلية إلى ساحل غزة وسيناء، واشتبكت في ساحل غزة مع جيش التحرير الفلسطيني المتواجد هناك وواجهت مقاومة عنيفة، أما في سيناء، فقد أخذت القوات عددا من المسارب وكان اهتمامها منصبا على تجاوز القوات المصرية والالتفاف عليها والسير قدما نحو شرم الشيخ بمحاذاة ساحل خليج العقبة ونحو قناة السويس، ولاقت هذه القوات بعض المواجهات العنيفة من قبل القوات المصرية، إلا أن الجيش المصري، بصورة عامة، وجد نفسه مكشوفا أمام الطيران الإسرائيلي دون أن تكون لديه الدفاعات الكافية، ولهذا سرعان ما انهار الجيش المصري وتمزقت أواصره وانهمك أفراده في البحث عن مفر. كثيرون من الضباط المصريين هم الذين استقلوا السيارات العسكرية وتوجهوا غربا هاربين وتركوا الجنود وراءهم يتدبرون أمورهم، فاستشهد في سيناء الآلاف وأسر منهم آلاف، وحاول بعضهم الوصول إلى قناة السويس، وفي النهاية حسمت المعركة مع مصر خلال الساعات الأولى من الهجوم الإسرائيلي وانتهت عمليا بعد حوالي ثمانين ساعة من القتال.
أما على الجبهة الأردنية فلم يختلف الوضع عما كان عليه في مصر، فقد دُمرت أغلب الطائرات الأردنية على أرض المطار، وبقيت القوات الأردنية الموجودة غربي النهر بدون غطاء جوي. دار قتال بري محدود في منطقتي القدس وجنين، لكن الجيش الأردني كان ضعيفا عددا وعدة ولم يستطع الصمود، فانهار الجيش ظهر اليوم الثاني للحرب واضطر أفراده للهرب شرقا نحو خط الدفاع الثاني وهو نهر الأردن.
لم تكن الجبهة السورية أحسن حالا، فقد هاجمت الطائرات الإسرائيلية الطائرات والمطارات السورية عند الظهر تقريبا ودمرتها، لكن القتال البري بقي محدودا بسبب تشتت القوات الإسرائيلية على عدد من الجبهات، وما أن أنهت القوات الإسرائيلية مهامها الرئيسة على جبهة مصر وجبهة الأردن، ازداد الضغط الإسرائيلي على مرتفعات الجولان واستطاعت أن تتسلق المرتفعات وتحتلها في اليوم السادس للحرب، ومن الجدير ذكره أن سوريا أعلنت عن سقوط الجولان قبل أن تعلن إسرائيل عن الاستيلاء عليها، إذ تم سحب الجيش السوري من الجولان قبل أن يستولي عليها الجيش الإسرائيلي بعدة ساعات.
ربما تكون حرب 1967 من أكثر الحروب الحديثة إثارة للسخرية والتساؤلات ذات الاستغراب والاستهجان، فالحرب دارت بين دولة صغيرة ذات عدد قليل من السكان وبين دول عربية زمجرت وأرعدت وملأت الدنيا صراخا وتهويلا ووعيدا، دول ذات مساحات شاسعة وأعداد سكانية كبيرة ولا ينقصها السلاح أو العتاد أو المال، حرب تقوم فيها الدولة الصغيرة بمشوار بسيط أشبه ما يكون بنزهة عسكرية ويندحر أمامها العرب فارين مذعورين، فمنهم من أطلق لعجلات سيارته العسكرية العنان في سباق صحراوي، ومنهم من لم يجد سوى ساقيه تحملانه نحو الأمان، ومنهم من تاه في الصحراء فقتله القيظ والعطش، ومنهم من بحث عن رداء امرأة يستر به نفسه من أعين الأعداء.
نقلت وسائل الإعلام العالمية وشاشات التلفزة هذه الصورة التي هزت العرب وحطت من قدرهم على مدى عشرات سنين قادمة، لقد كانت حربا مخزية للعرب ووصمة عار يصعب محوها من صفحات التاريخ، فإن حارب أحد من الجيوش العربية، فقد حارب على مسئوليته الشخصية وهو بطل لذاته من أجل الأمة، أما الجيوش كمؤسسات سرعان ما أدارت ظهرها تسجل هزيمة مُرّة وقبيحة ألحقت العار بالعرب كأمة وجماعات وأفراد، وما كان أكثر قبحا من الهزيمة أن قادة الهزيمة العرب استمروا في مواقعهم يحكمون والشعوب لم تخرج تحاسبهم على ما اقترفوه. فقط أعلن جمال عبد الناصر استقالته في اليوم الرابع للحرب، إلا أن جماهير الأمة خرجت في شوارع القاهرة تطالبه بالعدول والبقاء في موقعه. أما الملك حسين ونور الدين الأتاسي فلم يتصرفا حسب مقتضيات الوضع الخطير. فضلا عن هذا الإذلال الرهيب الذي لحق بالحرب، ويمكن أن نجمل ننائج الحرب بالآتي:
1- احتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي العربية. فقد احتلت منطقة ساحل غزة ومساحتها حوالي 363 كم مربع، ومنطقة الوسط الشرقي (الضفة الغربية) ومساحتها 5878 كم مربع ومرتفعات الجولان ومساحتها 1250كم مربع وشبه جزيرة سيناء ومساحتها 61168 كم مربع (كما هو مبين بالخريطة رقم 5).
2- تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين، فقد هرب من الوسط الشرقي الآلاف من الفلسطينيين (عددهم غير معروف بدقة) إلى شرقي الأردن، وهرب أغلب سكان مرتفعات الجولان الذين قدر عددهم في حينه بحوالي ثمانين ألف نسمة، ولم يبق في الجولان إلا سكان خمس قرى فقط.
3- سيطرت إسرائيل على مصادر مياه نهر الأردن، فقد وصلت قواتها إلى جبل الشيخ حيث المنابع وأبعدت خطر التحويل.
4- وصول القوات الإسرائيلية إلى حدود جديدة بعيدة عن الأماكن السكنية الإسرائيلية، وهي حدود اعتبرتها إسرائيل قابلة للدفاع عنها وتشكل خطوطا يمكن أن تدور حولها معارك بعيدة عن المدن والمستوطنات اليهودية.
5- كشف حقيقة القيادات العربية ومدى استعدادها للدفاع عن أراضي العرب وحياضهم، وكشف كذبهم على الناس وتضليلهم للجماهير العربية.
6- فتحت إسرائيل مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية.
7- تدمير القوة العسكرية لكل من مصر وسوريا والأردن.
كانت هناك جهود ديبلوماسية قبل الحرب لمنع وقوعها، لكن هذه الجهود أصبحت موضع شك بعد تكشف الأمور بعد ذلك، إذ كان من الواضح أن أمريكا، على الأقل، كانت معنية بالحرب، لكسر شوكة العرب وجرهم نحو الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات اعتيادية معها، وقد تبين خلال الحرب أن أمريكا غير مستعدة للضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
اجتمع مجلس الأمن الدولي في السادس من حزيران وأصدر قرارا بوقف إطلاق النار لكن إسرائيل لم تنفذه، فأعاد المجلس الكرة يوم السابع من حزيران ولم تنفذ إسرائيل، وهكذا حصل يوم التاسع من حزيران. ولم يتوقف القتال إلا عندما وصلت القوات الإسرائيلية إلى المناطق التي أرادت الوصول إليها، وقد رفضت الولايات المتحدة أن يتضمن مشروع وقف إطلاق النار دعوة القوات المتحاربة للعودة إلى الأماكن التي تواجدت فيها قبل الحرب،. على إثر الحرب، صدر قرار مجلس الأمن رقم 237 والذي يدعو فيه إلى عودة العرب الفارين من الحرب بخاصة من الضفة الغربية والجولان إلى بيوتهم ويدعو إسرائيل إلى تسهيل عودتهم ولكنهم لم يعودوا حتى الآن.
أما بخصوص وضع حل للنزاع، صدر قرار مجلس الأمن رقم 242 بتاريخ 22/تشرين الثاني/1967 وفيما يلي نصه:
إن مجلس الأمن، إذ يعرب عن قلقه المتواصل بشأن الوضع الخطر في الشرق الأوسط ويؤكد عدم القبول بالاستيلاء على أراضي الغير بقوة الحرب، والحاجة إلى العمل من أجل سلام دائم وعادل تستطيع كل دول المنطقة أن تعيش فيه بأمن. وإذ يؤكد أيضا أن جميع الدول الأعضاء بقبولها ميثاق الأمم المتحدة قد التزمت بالعمل وفقا للمادة (2) من الميثاق:
1- يؤكد أن تحقيق مبادئ الميثاق يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط ويستوجب تطبيق كلا المبدأين التاليين:
أ‌- سحب القوات المسلحة الإسرائيلية من أراض احتلتها في النزاع الأخير.
ب‌- إنهاء جميع ادعاءات أو حالات الحرب واحترام واعتراف بسيادة ووحدة أراضي كل دولة في المنطقة، واستقلالها السياسي وحقها في العيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها وحرة من التهديد أو أعمال القوة.
2- يؤكد أيضا الحاجة إلى:
أ‌- ضمان حرية الملاحة في الممرات الدولية في المنطقة.
ب‌- ضمان تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين.
ج- ضمان المنعة الإقليمية والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة عن طريق إجراءات بينها إقامة مناطق مجردة من السلاح.
3- يطلب من الأمين العام تعيين ممثل خاص للذهاب إلى الشرق الأوسط؛ كي يقيم ويجري اتصالات مع الدول المعنية بغية إيجاد اتفاق، ومساندة الجهود لتحقيق تسوية سلمية ومقبولة وفقا لنصوص ومبادئ هذا القرار.
4- يطلب من الأمين العام أن يرفع تقريرا إلى مجلس الأمن حول تقدم جهود الممثل الخاص في أقرب وقت ممكن.
قبلت كل من مصر والأردن قرار مجلس الأمن ولم تعارضه إسرائيل، ونشطت الديبلوماسية العالمية بعد ذلك من أجل تسهيل حل سياسي، إلا أن الجهود لم تفلح، إذ أصر العرب على عدم القيام بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل، وأصرت إسرائيل على التالي: التوصل إلى حل سلمي مع العرب ممكن فقط من خلال المفاوضات الثنائية المباشرة، وأن على العرب ألا يتمسكوا كثيرا بقرارات دولية وأن عليهم أن يعترفوا بإسرائيل المهيأة دائما للتفاوض معهم، وأن يدركوا أن الحل هو ما تأتي به طاولة المفاوضات وليس المقررات الدولية، أما بخصوص الضفة الغربية وغزة فقد دعت الملك حسين (ملك الأردن آنذاك) أن يعود إلى الضفة الغربية بإدارته وليس بجيشه على اعتبار أن إسرائيل لا تسمح أن يكون هناك جيش عربي غربي النهر، واشترطت أيضا ضم مدينة القدس ومنطقتي اللطرون والأغوار والخليل القديمة، لكنها أبدت الاستعداد لإقامة ممر يربط شرقي الأردن عبر أريحا برام الله، وممر آخر يلتف شرقي القدس ويربط الخليل برام الله.
انتظر وزير الدفاع الإسرائيلي هاتفا من جمال عبد الناصر يعلن فيه الاستسلام ويطلب الجلوس على طاولة التوقيع على شروط إسرائيل، لكن عبد الناصر لم يتصل، ولم يحصل الاتصال إلا في عهد الرئيس محمد أنور السادات.

- مؤتمر الخرطوم

التقى الزعماء العرب في أيلول عام 1967 في الخرطوم للتداول في ظروف الهزيمة، ذهب التيار القومي بقيادة عبد الناصر إلى المؤتمر مطأطئ الرأس، بينما ذهب التيار المؤيد للدول الغربية بقيادة السعودية بحجة قوية ضد الذين وصفوا أنفسهم بالثوريين والتقدميين، انكمش عبد الناصر وحزب البعث بعد الهزيمة بينما تمددت السعودية، وأصبحت السعودية في موقع قيادة وأخذ دورها على الساحة العربية يتسع ويمتد إلى أن أصبح لا يقل أهمية وتأثيرا عن دور مصر، وجه الملك السعودي اللوم الشديد لعبد الناصر، إلا أنه وعد بدعم الجهود العربية في مواجهة إسرائيل.
قرر مؤتمر الخرطوم ما عُرف باللاآت الثلاث: لا مفاوضات مع إسرائيل ولا صلح ولا اعتراف. وقرر دعم دول المواجهة، مصر وسوريا والأردن، من أجل إعادة بناء جيوشها وإزالة آثار العدوان، أي تحرير الأرض التي تم احتلالها عام 1967، عاد الزعماء من الخرطوم وهم مصممون على إعادة الاستعداد لملاقاة إسرائيل عسكريا، هذا ما حصل بالفعل إذ بدأت الجهود على قدم وساق بمساعدة الاتحاد السوفييتي الذي لم يتردد في تزويد العرب بأسلحة دفاعية، شمّر العرب عن سواعدهم استعدادا للحرب التي نشبت عام 1973.

- د. عثمان عثمان

ملاحظة

. النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية .الباب الثاني. المادة 5، 6، 7، 8.
. النظام الأساسي .الباب الثاني. المادة 10
. لمزيد من المعلومات انظر. صالح محسن .قراءة نقدية في تجربة المجلس الوطني الفلسطيني .المعرفة .الجزيرة نت.
. النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المادة 13، 14، 15.
. النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، المادة 16.
. انظر مركز الإعلام الفلسطيني .وثائق المجلس المركزي الفلسطيني ، وقرار المجلس الوطني، تشكيل المجلس المركزي الفلسطيني. http://www.palestine-pmc.com/arabic/inside1.asp?x=2887&cat=3&opt=1
. نفس المصدر. مركز الإعلام الفلسطيني .وثائق. المجلس المركزي الفلسطيني .مهام واختصاصات.
. النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ، الباب الرابع ، المادة 22،24
النظام الاساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية ، الباب الثالث. مادة 18
نشأت حركة فتح عام 1959 وأخذت تبني التنظيم ، محاولة الاستفادة من إمكانية أن تكون المنظمة الغطاء السياسي ، والحركة هي الجناح العسكري كما هي الحركة الصهيونية وبعد مداولات عدة بين ياسر عرفات وأحمد الشقيري لم يتم التوصل إلى اتفاق مما أدى إلى انطلاق حركة فتح منفردة، فجاءت الانطلاقة العسكرية لفتح في 1/1/1965.
انظر النظام الداخلي لحركة فتح. الجزء الثالث: مبادئ وأهداف وأسلوب حركة فتحWWW.FATEH.ORG.
البيان التأسيسي للجبهة الشعبية.11/12/1967 م الموقع الرسمي للجبهة الشعبية . http://www.pflp.ps
صايغ يزيد.الحركة الوطنية الفلسطينية 1949-1993 الكفاح المسلح والبحث عن الدولة.مؤسسة الدراسات الفلسطينية .بيروت 2003 ص 497.
لمزيد من المعلومات حول أهداف ومواقف الجبهة الديمقراطية يرجى الرجوع إلى تاريخ فلسطين. السيرة الذاتية لشخصيات فلسطينية- الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .
http://www.palestinehistory.com/arabic/biography/palbio.htm#DFLP
انظر الموسوعة الحرة. وكيبيديا. الجبهة الشعبية القيادة العامة.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

2 من الزوار الآن

876915 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق