المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 7.0 الادب والفنون في المعركة > قراءات ومراجعات > دراستان حول أدب غسان كنفاني وكتاب في الأدب الصهيوني

5 تشرين الأول (أكتوبر) 2022

دراستان حول أدب غسان كنفاني وكتاب في الأدب الصهيوني

مرفق بي دي اف الكتاب للتنزيل

- ريادة غسان كنفاني في دراسة أدب المقاومة، والأدب الصهيوني في ضوء دراساته

د. محسن عتيق خان
في العقد السابع من القرن العشرين، أصدر غسان كنفاني دراستين اكتشف فيهما لأول مرة الإنتاجات الأدبية المتواجدة في الأرض المحتلة التي كانت صلتها بالعالم العربي قد انقطعت بعد الاحتلال الصهيوني. فإنه، عن طريق هاتين الدراستين، فتح للعرب نافذة على الأدب العربي الفلسطيني الذي مليئ بالحيوية والأفكار الثورية، و رغم كل أسباب القمع لا يخلو عن الأمل والإيمان بالنجاة.

أدب المقاومة:

أما الدراسة الأولى، فقد صدرت من دار الآداب بـ”بيروت” عام 1966م بعنوان “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، و هي تحتوي على ثلاثة فصول، الفصل الأول يتناول الإنتاجات الأدبية الفلسطينية بعد النكبة، والثاني يدرس البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني، والثالث يعرض نماذج من الشعر الفلسطيني.

و هذه الدراسة تعطي غسان مكان الريادة من ناحيتين، في ناحية إنه وضع مصطلحا خاصا للانتاجات الأدبية الثورية التي وجدت في فلسطين المحتلة لأول مرة، و هو مصطلح “أدب المقاومة” كما يبدو من عنوان دراسته. فقد عبر غسان عن الأدب الفلسطيني بـ”أدب المقاومة” لأن هذا الأدب يقوم ضد جميع أسباب القمع، و يشجع على الوقوف في وجه الاحتلال، و يحرض على الثورة، والمشي في سبيل الحرية رغم أن الطريقة شائكة. و هذا المصلطح الخاص لم يقتصر على الأدب العربي، بل سرعان ما سرى إلى الآداب العالمية الأخرى و تلقي بالقبول في الدول المحتلة من العالم. و قد اعترف بريادة غسان في هذا المجال النقاد الكثيرون، بل لا أبالغ إذا قلت أنه لا تخلو أية دراسة من دراسات أدب المقاومة عن ذكر غسان، فهو يمثل اللبنة الأولى التي قام عليها القصر الشامخ لأدب المقاومة.

و من ناحية أخرى، إنه عرض الأدب العربي الفلسطيني أمام العالم العربي لأول مرة و أتاح الفرصة لقراء العربية أن يتعرفوا على هذا الأدب الفلسطيني الذي أكثر مقاوما من الأدب العربي في أي مكان آخر.

كان غسان قد كتب هذه الدراسة قبل نكسة 1967 التي انهزمت فيها القوات العربية على يدى إسرائيل و أتاحت لها الفرصة أن تحتل غزة، و نهر الأردن، و الضفة الغربية. و بما أن المصادر لم تكن متوفرة بسبب الحدود الإسرائيلية المغلقة على العرب، والقمع الإسرائيلي للعرب في داخل إسرائيل، إنه سمى الأوضاع التي كان الفلسطينيون يعيشون فيها في الأرض المحتلة بـ”الحصار الثقافي”، و في الحقيقة دراسته هذه تبدو كأنها نقب في هذا الحصار إذ حاول أن تكون دراسته هذه وثيقة أكثر من أن تكون تحليلا نقديا للنص الوارد فيها.

لم يختر غسان منهجا أكاديميا في هذه الدراسة بل سلك سبيله في جمع المواد و حفظها بصورة تكون وثيقة للأجيال القادمة التي قد تفقد هذا التراث القيم بسبب الظروف القاسية التي كان يمر بها الأدباء والكتاب والشعراء الفلسطينيون.

و لم يقصر كنفاني “مصطلح أدب المقاومة” على الأدب العربي الفصيح فقط بل أطلقه على الشعر الشعبي أيضا الذي يمثل عنده قلعة المقاومة التي لا تهدم، فقد تناقلته الأجيال عن طريق الحفظ، و تغنت بها الأمهات لأبنائها الناشئين، والفتيات لإخوانها الصغار.

إنه يميز في هذه الدراسة بين الأدب الذي كتب في الأرض المحتلة و سماه “أدب الاحتلال”، و الأدب الذي كتب في أرض الشتات و في المنافي و المخيمات و سماه بـ”أدب المنفى”، و عنده أدب الأرض المحتلة أدب الإشراق، والثورة، والأمل حينما أدب المنفى عبارة عن النواح والبكاء، و اليأس والحنين إلى الوطن. و تقول باربارا هارلو “هذا التمييز يدل على علاقة أناس الخاصة بالأرض المشتركة، وبالهوية المشتركة، و بالقضية المشتركة بينهم، و على أساس هذا الاشتراك، يمكن الفصل بين شكلين من الوجود التاريخي والسياسي، و هما الاحتلال والمنفى. و هذا التمييز يدل على قوة محتلة أخضعت شعبا أو نفتهم، و بالإضافة إلى ذلك، إنها تدخلت في التطور الأدبي والثقافي للذين سلبت أراضيهم، و احتلت مناطقهم. و في ألفاظ أخرى، إن الناقد (غسان كنفاني) قد عرض الأدب كمجال للكفاح.”[1]

في عام 1966 عندما كتب كنفاني دراسته هذه، كان أدب الأرض المحتلة مجهولا في العالم العربي و غير معروف خارج الحدود الإسرائيلية بسبب القيود الرسمية و القمعية. و لذلك ركز كنفاني عمله و جهوده على توثيق الانتاجات الأدبية الفلسطينية التي ولدت تحت السلطة الإسرائيلية التي أطلق عليها غسان مصطلح “الحصار الثقافي”. و نفس الأوضاع السياسية التي قامت بتحديد الانتاجات الأدبية في إسرائيل، أدت دورا مهما في تحديد الموازين و والمناهج في الكتابة النقدية الأدبية الفلسطينية في المنفى.

الأدب الفلسطيي المقاوم:

أما دراسته الثانية التي صدرت عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، لأول مرة عام 1968 بعنوان “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، فكانت خطوة ثانية في هذا المجال كما يوضح ذلك غسان في مقدمتها “لا بد من الإشارة إلى أن البحث التالي ليس طبعة جديدة أو منقحة لكتابي الذي أصدرته دار الآداب باسم أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، بل يمكن اعتباره إلى حد بعيد دراسة مكملة، خطوة ثانية في هذا النطاق، ولا يسعني إلا أن أشير إلى أن الكتاب الأول يعتبر مقدمة ضرورية لهذا الكتاب، سواء من حيث التحليل أو من حيث النماذج.”[2]

كتب غسان هذه الدراسة بعد الدراسة الأولى بسنتين، و استفاد من الحدود الإسرائيلية المفتوحة حديثا بين إسرائيل والضفة الغربية، و أكد على العلاقة المتكاملة بين المقاومة المسلحة و المقاومة الأدبية،[3] و ادعى على أنه “ليست المقاومة المسلحة قشرة، هي ثمرة لزرعة ضاربة جذورها عميقا في الأرض.” إنه يضع الخصوصية التاريخية لحركة المقاومة ضمن النضال الأكبر الجماعية في جميع أنحاء العالم، و يؤكد على أهمية الأشكال المعينة للمقاومة الثقافية في تحديد الاستراتيجيات العامة للمنظمة المقاومة كما يقول “إذا كان التحرير ينبع من فوهة البندقية، فإن البندقية ذاتها تنبع من إرادة التحرير، و إرادة التحرير ليست سوى النتاج الطبيعي والمنطقي والحتمي للمقاومة في معناها الواسع: المقاومة على صعيد الرفض، وعلى صعيد التمسك الصلب بالجذور والمواقف.” ولدى كنفاني “إن الشكل الثقافي في المقاومة يطرح أهمية قصوى ليست أبدا أقل قيمة من المقاومة المسلحة ذاتها.”[4]

و حاول كنفاني أن تكون نماذجها غير النماذج التي كانت قد أصبحت متوفرة إثر النكسة كما يقول بنفسه “إن معظم النماذج التي اخترناها في هذه المجموعة حرصنا على أن تكون من خارج نطاق النماذج التي باتت متوفرة الآن، والتي ستطبع في مجموعات شعرية منفصلة خلال الفترة الوجيزة القادمة.”[5]

و هذه الدراسة التي تحمل عنوانا تتشابه بالدراسة الأولى، تناولت نفس الموضوع و عرضت الأدب الفلسطيني المقاوم على الطريقة التي عرضت الدراسة الأولى، و هي لا تختلف من الأولى من حيث النقد والتحليل إلا أنها تفرد فصلا لدراسة الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة حينما كانت الدراسة الأولى قد خصت فصلا لدراسة البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني. و غسان قد تكلم عن نوعية هذا البحث في المقدمة فيقول “إن ما يهم هذه الدراسة، في الأساس، هو أنها تحاول تقديم وثيقة أخرى للأدب الفلسطيني المقاوم بعد الوثيقة الأولى التي جاءت قبل ثلاث سنوات في كتاب أدب المقاومة في فلسطين المحتلة، فإذا حققت ذلك فإنها لا تطمع إلى شيئ آخر.”[6]

فصول الدراسة:

إن هذه الدراسة تتضمن على ثلاثة فصول يتناول أولها الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة، والثاني يدرس أبعاد و ومواقف أدب المقاومة الفلسطيني، والثالث يعرض نماذج من الشعر، والقصة، المسرحية.

الفصل الأول: الوضع الثقافي لعرب فلسطين المحتلة

كما يبدو من عنوان هذا الفصل، إنه عرض الأوضاع الخطرة التي كان ولا يزال يعيش فيها الشعب العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة عرضا مقنعا كباحث عن طريق استخدام المصادر والمراجع بما فيها المجلات والوثائق والتقارير المختلفة. إنه أطلق على هذه الأوضاع مصطلح “النضال الثقافي” و ذكر الدور الذي لعبت هذه الأوضاع في الانتاج الأدبي العربي كما يقول: “إن الحرب النفسية، والاقتصادية، والسياسية، والبدنية التي تشنها السلطات الإسرائيلية على الثقافة العربية والمثقف العربي كان لها الأثر الأكبر في بلورة الانتاج الأدبي العربي في فلسطين المحتلة على الصورة التي سنراها، و من ذلك اللجوء غالبا إلى الرمز.”[7]

و حاولت حسب مقدوري أن أقوم بتحديد أنواع الحرب التي تشنها إسرائيل على الشعب العربي المسلم والتي ذكرها غسان في هذا الفصل، و هي -حسب دراستي لهذا الفصل- كما يلي:

أولا: سياسة التجهيل المتعمد

عدم تعليم اللغة العربية في المعاهد والمدارس الرسمية
تخفيض مستوى المدارس العربية عن قصد
تهديد الطلاب في الجامعات والكليات
إغلاق أبواب الكليات والجامعات الإسرائيلية على المسلمين

ثانيا: نسف الجذور الثقافية العربية

إلقاء المثقفين العرب خلف القضبان و الإقامة الجبرية.
طرد المثقفين العرب عن الوظائف و الرقابة على انتاجاتهم
حقن المجتمع العربي بسموم الثقافة الهجينة
الدعوة إلى ترك اللغة العربية الفصحى.

ثالثا: نهب الوسائل الاقتصادية

إضاقة الخناق على خريجى المدارس و تحريمهم عن الوظائف
امتلاك أراضي العرب جبرا
طرد المثقفين العرب عن الوظائف

الفصل الثاني: أدب المقاومة الفلسطيني: أبعاد و مواقف

بعد عرض أنواع الحروب التي تشنها إسرائيل على سكانها العرب في الفصل الأول، اتجه غسان إلى تناول الأدب الفلسطيني المقاوم الذي يكافح ضد عمليات إسرائيل الشنيعة، و تكلم في كيفية مواجهته للتحديات الإسرائيلية، و تحدث عن الأبعاد و المواقف لهذا الأدب الفلسطيني المقاوم الذي برز إلى حيز الوجود لالتزام الشعراء والأدباء بقضيتهم رغم كل أسباب القمع كما يقول كنفاني: “الغالبية الساحقة من أدباء المقاومة في فلسطين المحتلة يمدون التزامهم إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية، إنهم منتسبون فعلا إلى الحركة الوطنية بصورة أو بأخرى، و يناضلون من خلال تنظيماتها، و يذوقون في سبيلها، نتائج القمع الإسرائيلي، لقد بات معروفا – مثلا – أن الشاعر محمود درويش قد أودع السجن مرارا، و أن الشاعر سميح القاسم قد ذاق بدوره مرارة الأحكام العسكرية. و قد مارست الحكومة الإسرائيلية ضغطا متواصلا على شركة أهلية لتطرد من بين موظفيها الشاعر فوزي الأسمر بسبب شعره، و نضاله السياسي معا.”[8]

و قد ذكر غسان عدة أبعادا لهذا الأدب المكافح في مقدمتها كما يلي:

البعدلاجتماعي
البعد العربي
البعد العالمي

البعد الاجتماعي: يقصد غسان بالبعد الاجتماعي تناول الأديب الفلسطيني قضايا التقاليد الكابحة داخل المؤسسة الاجتماعية العربية، و رفضها في سبيل تجديد دماء المجتع العربي ليكون قادرا على مواصلة مسؤوليات المقاومة، والمضي فيها إلى مداها، و ذلك في مقاومة و مكافحة للمحاولات الإسرائيلية في تفتيت المجتمع العربي في الأرض المحتلة و تأليبه على بعضه. و قد أورد غسان في هذا المجال شعر سميح القاسم، و محمود درويش، وراشد حسن ثم قال:

“في الخمسينات سنقرأ شعرا كثيرا، في الأرض المحتلة، يركز تركيزا متواصلا على قطاع ضيق من الإشكال الاجتماعي، و في هذا النطاق ترد أسماء القاسم و الدرويش، و حسين، و كذلك فهد أبو خضرة (و هو شاعر موهوب و صاعد لم نعد نسمع عنه)، و أحمد حسين، و عصام عباس، و إبراهيم مؤيد، و غيرهم كثيرون.

و لكن بعد ذلك بعدة سنوات سيأخذ ذلك التنبه الجزئي آفاقه الأبعد، و أبعاده الأعمق، و ففي ذلك الوقت المبكر كانت الكارثة الفلسطينية ما تزال حارة، و كان الغضب المجرد، بصورة فاجعة و مذهلة، يطفو إلى السطح، شأنه في ذلك شأن ما حدث في أعقاب 5 حزيران 1967 في البلاد العربية حين مضى عدد من الكتاب والشعراء يصبون غضبهم على جبهة جزئية، إلا أن ذلك الغضب ما لبث أن تبلور في صيغة موقف، و مما لا شك فيه أن محمود درويش، و سميح القاسم هما طليعة لافتة للنظر في هذا الشأن.”[9]

البعد العالمي: هو تناول الشعراء الفلسطينيين لقضايا الاحتلال خارج بلدهم، و تأثرهم بالثورات التي قامت في البلدان المحتلة الأخرى في العالم، و انسجامهم مع أولئك الثائرين، كما يقول غسان: “عالميا يدرك شعر المقاومة التزامه بحركة الثورة في العالم، التي هي في نهاية المطاف المناخ الذي تنمو داخله الحركة الثورية المحلية، تؤثر به و تتأثر منه.”[10] و نجد قصائد كثيرة لدى شعراء الأرض المحتلة في هذا الشأن، فلمحمود درويش قصائد في ثورات كوبا منها “أناشيد كوبية”، و ديوانه الأول “عصافير بلا أجنحة” في معظمه غناء لثورات إفريقيا، و لفوزي الأسمر قصائد بهذا المعنى، أبرزها، “أنا عبد” موجهة لشعب إفريقيا، و لسميح القاسم عدة قصائد عن باتريس لومومبا، و إفريقيا، و زنوج أميركا، و له أيضا في قصيدته الطويلة “ارم” مقطع أسمه “بطاقات إلى ميادين المعركة” و هي سلسلة من القصائد القصيرة الموجهة إلى المغني الزنجي بول روبنسون، و فيدل كاسترو، و كريستوف غبانيا، و ثوار الفيتكونغ. و في هذا النطاق نجد قصيدة لراشد حسين عن آسيا “”بلد الرجال الثائرين على مماطلة الزمان” و قصيدة أخرى لإبراهيم مؤيد إسمها “أنشودة زنجي”، و نجد عددا كبيرا من القصائد، في نفس النطاق، لمحمود دسوقي، و قصائد ذا أهمية قصوى لحنا أبو حنا عن كوبا و عن إفريقيا المشرقة.[11]

و يقول غسان عن هذا البعد: “إن الالتزام بالبعد العالمي للمعركة كان دائما من ميزات شعر المقاومة، و مع ذلك فإن هذا الالتزام لم يؤد إلى تمييع الالتزام بالصيغة المباشرة للنزال، ولكنه أغناه و أعطاه معنى و عمقا و حافزا.” و يضيف قائلا: “إن وعي الالتزام بحركة الثورة في العالم يكتسب قيمته مما يؤديه إلى وعي الالتزام بالثورة المحية، و ليس من كونه صيغة رومانطيكية ذات طابع تنصلي عن طريق المزايدة، و هذا الإدراك الذي عبر عنه أدب المقاومة العربي بوضوح و مباشرة و حسم يضع البعد الإنساني في المقاومة في مكانه الصحيح، الذي يشكل حافزا و مسؤولية، في آن واحد.”[12]

البعد العربي: أما البعد العربي فهو عناية أدباء الأرض المحتلة البالغة بالثورات و التحولات و القضايا في العالم العربي كما يقول غسان “الأمر يختلف من حيث الكم و النوع، حين يتعامل أدب المقاومة مع واحد من أبعاده الأساسية، و هو البعد العربي. إن طبيعة القضية الفلسطينية تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية، وبالتالي فإن شعر المقاومة في فلسطين المحتلة يمكن أن يوصف بأنه الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها.”

في ديوان شعر المقاومة ليس بالإمكان مرور أي حدث عربي دن أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، و كذلك كانت ثورة الجزائر، و ثورة اليمن، و بناء السد العالي، و في هذا النطاق بالذات تبدو ولاءات المقاومة العربية والاجتماعية ممتزجة بصورة عضوية لا تحتمل الفكاك.”[13]

قد ساق غسان في هذا السياق قصائد عديدة تتعلق بالعدوان الثلاثي على مصر(1958)، و بالثورة الجزائرية، وثورة العراق(1956) للشعرءا البارزين من أمثال محمود درويش، سميح القاسم، و عصام عباسي، و حبيب قهوجي، محمود دسوقي. و بعد ذكر هذه القصائد، والبحث في بنائها الفني يقول كنفاني: “و في الحقيقة، فإن البعد العربي في الأدب الفلسطيني كان دائما ظاهرة أساسية. و ليس ارتباط أدب المقاومة الفلسطيني الراهن بهذا البعد، و تعميقه و وعيه، إلا استمرارا لتلك الظاهرة تاريخيا.”[14]

و توصلا إلى النتيجة يقول غسان عن هذه الأبعاد الثلاثة: “إن هذه الارتباطات الثلاثة، في إطارها من الالتزام الفني المسؤول، تظل تدور حول محور أساسي هو التصدي الشجاع للمعركة المباشرة، اليومية والقاسية، والباهظة الثمن، مع العدو المحتل الذي يجثم بثقل مباشر على صدر الوجود العربي، في فلسطين المحتلة.”[15] ثم يقول غسان عن هذه المقاومة المباشرة “وقف شعر المقاومة العربي في فلسطين المحتلة مؤرخا ليوميات المقاومة الجماهيرية، جاعلا من انتكاساتها و عذابها وقودا لتجديد توق ملتهب.”[16] و قد ساق غسان في هذا السياق قصائد لحبيب قهوجي و راشد حسين و محمود درويش الذين سجلوا مجزرة كفرقاسم التي جزرت فيها القوات الصهيونية خمسين عرب عشية العدوان الثلاثي، والتي شكلت نقطة انعطاف أساسية في الموقف المقاوم لشعراء المحتلة العرب، إذ من النادر أن لا يأتي ذكر كفر قاسم كشهادة دائمة على المقاومة. و كذلك ذكر قصيدة لسميح القاسم بعنوان “كرمئيل” و هو إسم المدينة التي ابتناها الإسرائيليون في الجليل، فوق أراض سلبوها من عرب قرى “دير الأسد”، و “البعثة”، و “نحف”، ضمن خطتهم لتهويد الجليل. و قد أطلق القاسم على هذه المدينة إسم “مدينة الحقد و الجوع والجماجم”. للشعراء المذكورين أعلاه آنفا قصائد عن الحكم العسكري كقضية يومية يعاني عرب الأرض المحتلة منها، و عن الجواسيس الذين يندسون في التجمعات العربية، و عن سلب الأراضي من الفلاحين العرب، و إلى آخر ما هنالك من قضايا يومية.[17]

الفصل الثالث: نماذج من الشعر والأقصوصة، والمسرحية

إن هذا الفصل بمثابة وثيقة، فقد قدم غسان قصائد لثماني شعراء، مع تعريفاتهم المؤجزة، وهم حنا أبو حنا، محمود درويش، سميح القاسم، توفيق زياد، فوزي الأسمر، نزيه خير، راشد حسين، محمود دسوق. و بعد ذكر قصائد هؤلاء الشعراء، إنه أورد غسان أقصوصة بعنوان “و أخيرا: نور اللوز” لـ”أبو سلام”، وبعد هذه الأقصوصة، قدم غسان نموذجا لمسرحية بعنوان “بيت الجنون”، للكاتب توفيق فياض.

و جملة القول، في هذا البحث القيم، درس غسان أولا الحروب التي تشنها إسرائيل لتهويد المجتمع العربي، و المجازر التي تقام لإبادة العرب، والمؤامرات التي تتبناها السلطات الإسرائيلية لدفع العرب إلى التخلف، و نهب أراضيهم، هدم قراهم، و سلب ممتلكاتهم، و التعذيب الذي يلقى المثقفون العرب. ثم درس الأدب المقاوم الذي تصدى لتفويت مؤامرات الصهاينة، و صرخ في وجه السلطات الظالمة رغم كل القيود، والمصائب، والمشكلات. أما الفصل الثالث فليس إلا امتدادا للفصل الثاني، تثبيتا أكثر لدور المقاومة في الصمود والرفض لكل أشكال القمع الإسرائيلي.

في الأدب الصهيوني:

هذه الدراسة التي صدرت لأول مرة عام 1967 بعنوان “في الأدب الصهيوني”، في بيروت، تأتي بين الدراستين المذكورتين أعلاه، فنشرت بعد الدراسة الأولى بسنة، و قبل الدراسة الثانية بسنة، و يبدو أن هذه الدراسة جاءت مكملة أو امتدادا للفصل الثاني من الدراسة الأولى، الذي تناول “البطل العربي في الرواية الصهيونية مقابل الأدب العربي الفلسطيني”، و كذلك يبدو أن غسان كان يدرس الأدب الصهيوني أيضا بالإضافة إلى دراسته للأدب الفلسطيني المقاوم، كما يقول محمود درويش في مقدمته للمجلد الرابع من الأعمال الكاملة المحتوية على دراسات غسان كنفاني: “في الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتاب الأرض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة و إحدى مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية، و دورها في تشكيل الوعي والكيان، الصهيونيين. و بكلمات أخرى كان يدرس فاعلية الكتابة لدى العدو، فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية.”[18]

فكان غسان كنفاني في كتابته عن الأدب الصهيوني أيضا كاشفا و رائدا مثلما كان في كتابته عن الأدب المقاوم، وقد نعته عادل الأسطة أيضا بالريادة في الدراسة عن الأدب الصهيوني كما نعته محمود درويش فيما سقت آنفا من قوله، فيقول عادل أسطة: “قد كان كنفاني أول من كتب دراسة باللغة العربية حول الأدب الصهيوني.”[19] و في الحقيقة، كان غسان قد بدأ دراسة الأدب لدى العدو قبل أن يبدأ دراسة الأدب المقاوم في الأرض المحتلة، و يدل على ذلك بحثه الذي أعده بعنوان “العرق والدين في الأدب الصهيوني” عندما كان طالبا بجامعة دمشق في وقت مبكر من حياته.

قد ساعد غسان في دراسته للأدب الصهيوني إلمامه باللغة الانجليزية، فقد كان تعلم في مدرسة في يافا كانت تركز على الانجليزية. و خلال دراسته للأدب الصهيوني المكتوب أو المترجم بالإنجليزية، أدرك غسان الدور الهام لهذا الأدب الذي استخدمه الصهاينة في حملاتهم الدعوية، و نشر رؤيتهم في العالم، وإقناع دول أوربا في إقامة دولة لهم، فالأدب الصهيوني -بغض النظر عن لغة الكاتب، وبلده، ودينه، وعرقه- ليس إلا السلاح الذي خدم حركة الصهاينة لاستعمار فلسطين كما يقول كنفاني “ربما كانت تجربة الأدب الصهيوني هي التجربة الأولى من نوعها في التاريخ حيث يستخدم الفن في جميع أشكاله ومستوياته للقيام بأكبر وأوسع عملية تضليل وتزوير تتأتى عنها نتائج في منتهى الخطورة.”[20] و ذهب غسان في هذا الكتاب إلى “أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية، وما لبثت أن استولدتها وقامت الصهيونية السياسية بعد ذلك بتجنيد الأدب في مخططاتها ليلعب الدور المرسوم له في تلك الآلة الضخمة التي نُظمت لتخدم هدفاً واحداً.“[21]

خلاصة القول:

من خلال دراساته المذكورة أعلاه، قام غسان كنفاني بتجسيد حكمتين: أولا “اعرف نفسك”، و ثانيا “إعرف عدوك”. فعن طريق دراستيه “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966″، و “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، إنه جسد الحكمة الأولى أى “اعرف نفسك”، حينما عن طريق الدراسة الثالثة “في الأدب الصهيوني” إنه قام بتجسيد الحكمة الثانية يعني “إعرف عدوك”، كما يقول بنفسه: “وكل ما تطمح إليه هذه الدراسة هو أن تلقي ضوءاً آخر على الشعار الصعب اعرف عدوك.”[22] و ذلك ليس للمعرفة الباردة أو التأملية فقط، بل للرصد، والاستعداد، والصراع. و يقول أنيس صائغ الذي عرف غسان طويلا و كتب مقدمة لهذا الكتاب فيما بعد “جمعت بيني و بين غسان أسباب كثيرة، أولها و أكثرها أهمية شعار إعرف عدوك…كان غسان مهجوسا بمعرفة كل ما له علاقة بالعدو الصهيوني، بل إنه قرأ تاريخ فلسطين الحديث من وجهة نظر الدمار الذي ألحقه الصهيونيون به[23]” و كان غسان في كل ذلك رائدا و مكتشفا منفردا.

مراجع الفصل:

[1] Harlow Barbara (1987), Resistance Literature, New York, Methuen, Page no.02.

[2] كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، عام 1968، صـ 10.

[3] Harlow Barbara (1987), Resistance Literature, New York, Methuen, Page no.10.

[4] كنفاني، غسان، الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، عام 1968، صـ 9.

[5] نفس المصدر، صـ 11

[6] نفس المصدر، صـ 11

[7] نفس المصدر، صـ 19

[8] نفس المصدر، صـ 45-46

[9] نفس المصدر، صـ 50-51

[10] نفس المصدر، صـ 63

[11] نفس المصدر، صـ 64 و 66.

[12] نفس المصدر، صـ 67.

[13] نفس المصدر، صـ 68.

[14] نفس المصدر، صـ 72.

[15] نفس المصدر، صـ 75.

[16] نفس المصدر، صـ 76.

[17] نفس المصدر، صـ 84.

[18] عادل الأسطة، استقبال شعر المقاومة في النقد الأدبي في العالم العربي، مقال قرئ في مؤتمر “ثقافة المقاومة”، في جامعة فلاديلفيا، الأردن، في نيسان عام 2005، صـ 2.

[19] عادل الأسطة، الأديب الفلسطيني والأديب الصهيوني، منشورات شمس في فلسطين، 1993، صـ 10.

[20] كنفاني، غسان، في الأدب الصهيوني، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1967.

[21] نفس المصدر، صـ

[22] نفس المصدر، صـ 28.

[23] فيصل دراج، مجموعة برقوق نيسان والقميس المسروق و قصص أخرى، وزارة الثقافة والفنون والتراث، قطر، صـ 69

-قراءة وعرض دراسة في "الأدب الصهيوني" لغسان كنفاني

فيصل علي

قبل الولوج في شخصية غسان كنفاني ودراسته، أحب أن أشير إلى عدة قضايا متعلقة بما يحدث في اليمن منها؛ أن اليمن اليوم تتشكل فيها حالة غليان تمتد إلى يوم 21 سبتمبر الأسود 2014 منذ انقلاب الهاشمية السياسية وداعميها على الدولة والشعب والحياة في اليمن، حالة الغليان هذه تبحث عن مخرج من هذا الوضع بشتى السبل وأهمها المقاومة المسلحة، ونشر الوعي بخطر الهاشمية السياسية على الأمة اليمنية، وما تيسر من المقاومة السلمية، وقد اتخذت حالة الغليان بُعداً هوياتياً يعود بنا إلى دخول الهاشمية السياسية إلى اليمن في عام 899 م.

ينقص هذا الغليان الاستناد إلى مسألتين في غاية الأهمية؛ هما الأدب اليمني المقاوم للكهنوت، والفلسفة التي تشرح وتفسر وتنظر وتبرر عمل المقاومة لهذا المشروع الذي يعد أقرب للغزو منه للانقلاب.

تشكلت المقاومة اليمنية المُسلحة في مختلف مناطق اليمن وأربكت الانقلاب وجعلته يترنح في العديد من الجبهات، مع أنه ورث الدولة التي كان يُسيطر على مختلف مفاصلها ومؤسساتها العسكرية والأمنية، نجحت المقاومة اليمنية بشكل عام في صد تمدد النفوذ الإيراني من الانتشار في اليمن، لكنها أخفقت في جوانب أخرى، ومازال أمامها الكثير في معرفة عدوها ومعرفة مبرراته التي تملأ كتب التراث الديني والأدبي والتي تمجد فكرة الهاشمية السياسية والتي وُجدت في التراث تحت مسمى آل البيت.

ما الذي يجعلنا في هذه المقدمة لدراسة حول الأدب الصهيوني نتحدث عن الهاشمية السياسية؟ يعود السبب لقناعة راسخة بأهمية خلق مُقاومة يمنية شاملة - والتركيز على خلق أدب يمني مقاوم- وإلى تشابه الفكرتين الصهيونية والهاشمية في عدة قضايا منها؛ ادعاء المظلومية والحق الإلهي، فكلاهما ينفذان مقاصد الله في الأرض، بالإضافة إلى تسييس الدين في اليهودية والإسلام، واختلاق الدولة من العرق والدين في تعصب طائفي عرقي سلالي، ومع أن الفكرتين سياسيتين في الأساس إلا أنهما عملتا على تسييس الدين، واختلاق مرويات شوهت الدين لدى الهاشمية السياسية تدعمها وتبرر وجودها في التراث الديني وترسخها في الأدب، بينما الصهيونية ارتكزت على الأدب ومسخته لتبرير وجودها، كما أن رهبانها قد قاموا بالواجب في تحريف الدين منذ القدم، وهناك تشابه أيضاً يتعلق بينهما في أنهما لم تُظهرا وجهيهما السياسي إلا بعد إظهار وجهيهما من خلال الأدب كما فعلت الصهيونية، ومن خلال التراث الديني والأدبي كما فعلت الهاشمية.

نجحت المقاومة الفلسطينية في معرفة عدوها مبكراً من خلال قراءة الأدب الصهيوني كما هو حال هذه الدراسة، لكن المقاومة اليمنية ما زالت بحاجة إلى مراجعات فكرية للتراث الديني وتصفيته من الموروث السلالي، من خلال نقده نقداً موضوعياً لإزالة الغشاوة عن أعين الشعب الذي تنطلي عليه المقولات ذات الصبغة الدينية المنحرفة، هناك جهود بُذلت قديماً في مواجهة أول موجات الهاشمية السياسية مبكراً كما فعل الهمداني ونشوان بن سعيد الحميري، إلا أن الواقع اليوم بحاجة إلى جهد أكبر في نفس المسار، هذا الجهد سيتحتم عليه الفصل بين التراث الديني وبين المرويات الرامية إلى تسييس الدين، وجعل السياسة من أصول الإسلام، بينما هي من المصالح المُرسَلة والتي تعود إلى المجتمع والشعب وحاجاته التي يتطلبها في تسيير أمور حياته لا أكثر، بالإضافة إلى قراءة الأدب الذي مجد الهاشمية السياسية ومهد لها من المدائح النبوية خاصة تلك التي دخلت فيها مفردات آل البيت، إلى الشعر الغنائي الذي مجد آل البيت وجعل حضورهم صفة ملازمة للأغاني والأناشيد الخاصة بالمناسبات الدينية والاجتماعية والتي تم دسها في الأغاني بفعل فاعل فلا شيء صدفة.

غسان كنفاني بمجموع كتاباته نموذج مُقاوم يُحتذى به وبأدبه، ويستحق القراءة والتوقف عنده للإسهام في إنضاج تجربة المقاومة اليمنية والتي يحتاجها الشعب اليوم وسيحتاجها غداً، فالأمة بكل أوقاتها وحالاتها تحتاج إلى استحضار المقاومة لتثبيت الدولة وحمايتها وحماية مُكتسباتها، والمقاومة هنا ليس المقصود بها فقط المُقاومة المسلحة بل المُقاومة الشاملة من الفكر إلى التصنيع، ومن تثبيت الدولة إلى تثبيت برامج حمايتها، ومن الفكرة إلى المُرابطة في مختلف الميادين. هناك لصوص ومقاولين وقطاع طرق شوهوا أو حاولوا مسخ فكرة المقاومة في بدايتها القصيرة إذ لم يتجاوز عمرها حالياً سبع سنوات، لكنهم ليسوا حُجة على المقاومة كفكرة فهم لم يعرفوا معنى المقاومة ولم يرتبطوا بها فكرياً، ولا حُجة على الشعب كأفراد تحولوا من المقاومة إلى المقاولة والإثراء على حساب الأمة.

الدراسة

صادف يوم الثامن من يوليو الجاري الذكرى 49 لاستشهاد الأديب والمقاوم الفلسطيني غسان كنفاني (1936-1972)، والذي تم تفجير سيارته في بيروت في 8 يوليو 1972م، واستشهد برفقة ابنة شقيقته فايزة، الطفلة لميس ذات السابعة عشرة ربيعاً. غسان كنفاني مُقاوم فلسطيني انضم إلى حركة القوميين العرب وانضم إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وكان قد نزح مع عائلته من فلسطين إلى لبنان عام 1948م وعمره 12 عاماً تنقل بين بيروت ودمشق والكويت، بدأت رحلته مع الكتابة منذ 1952م وأصدر 18 كتابا متنوعاً بين المقاومة الثقافة والسياسة والقصة والرواية والمسرحية، ونُشرت كتاباته ومقالاته بعد استشهاده، وتُرجمت أعماله إلى عشرين لغة. بهذه المناسبة نقوم بعرض دراسة لغسان كنفاني صدرت عام 1966م بعنوان " في الأدب الصهيوني" أما هذه الطبعة التي بين أيدينا فقد صدرت في 2015م.

في هذه الدراسة والتي اشتملت على مقدمة وثمانية فصول، جاء في مقدمتها أن الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب قتالاً يُوازي قتالها بالسلاح السياسي، حيث استخدمت الصهيونية السياسية الأدب على أوسع نطاق لخدمة حملاتها الدعائية والسياسية والعسكرية، بل أن الصهيونية الأدبية سبقت الصهيونية السياسية ثم اختلقتها، وفيما بعد قامت الصهيونية السياسية بتجنيد الصهيونية الأدبية في مخططاتها، ويرى كنفاني أن الصهيونية السياسية هي أيضا نتاج للتعصب والعرقية، لذا كانت الصهيونية الأدبية هي أولى إرهاصات ذلك التعصب وتلك العرقية، كما أن التيار التعصبي العرقي وتسيس الدين اليهودي عبّر عن نفسه أولاً بالأدب، وقام هذا الأدب بلعب دور دليل العمل للتيار اليهودي المتعصب، والذي ما لبث أن بلور نفسه في الحركة الصهيونية السياسية. ويرى غسان أن الأدب رسالة إنسانية للمعاني النبيلة لكن الصهيونية الأدبية أو الأدب الصهيوني قام بعملية تضليل ثقافي طالت الكثير من البشر في أنحاء العالم، كتجربة متفردة قامت بمسخ لمفهوم الأدب المتعارف عليه، وكان من أولى هذه النتائج أن أدت عملية من هذا النوع إلى غسل دماغ جماعي في كل ناحية من أنحاء العالم استخدمت في تحقيقها وسيلة الأدب والتي لا يزال الإنسان يعتبرها وسيلة تنوير وتوسيع أفق وكشف حقائق.

جبهة اللغة

تناول الفصل الأول من هذه الدراسة "الصهيونية تقاتل على جبهة اللغة" وفيه أوضح غسان الأهمية البالغة التي أولتها الصهيونية السياسية بجبهة اللغة، مختلقة بذلك رابطة قومية لليهود المنتشرين في العالم عن طريق اللغة العبرية، لقد حوّلت الصهيونية اللغة العبرية من لغة دينية يتمتم بها المتدينين اليهود في طقوسهم أينما كانوا - حتى بدون أن يكونوا يفهمون هذه اللغة فهي لغة عبادة وابتهالات دينية - إلى لغة سياسية ورابطة قومية اُستبدلت بها كل اللغات المحلية التي نشأ عليها اليهود في العديد من مناطق العالم، وجعلوها لغة الدولة الرسمية بعد احتلال فلسطين وحصلوا على اعتراف عالمي بها.

اعتبرت الصهيونية أن من مهامها الأولى جعل العبرية لغة قومية، وكانت المبادرة في هذا الأمر من قبل "آحاد هاعام" وهو أحد رواد الصهيونية السياسية، من خلال مقالاته التي قوضت فكرة الاندماج لدى يهود أوروبا الشرقية في مجتمعاتهم المحلية، وهو الذي وضع فكرة بديلة لهذا الاندماج باختلاق فكرة "آخر يهودي وأول عبري" هذه الجملة التي تحولت إلى شعاراً صهيونياً في الميدان الثقافي. وقد استطاعت الصهيونية السياسية خلق رابط قومي وديني في قالب واحد باستخدام اللغة العبرية كلغة قومية ووحدت المصطلحين القومي والديني في مصطلح واحد فالدولة القومية تعني الدولة اليهودية بمعنى دولة الدين اليهودي. كما أن تعريف الدين اليهودي في الفكر الصهيوني هو دين وقومية واليهودي الذي يخرج عن دينه تسقط عنه القومية ولا يمكن اعتباره فرداً من أفراد الشعب اليهودي.

ولادة الصهيونية الأدبية

الفصل الثاني "ولادة الصهيونية الأدبية" في بداية هذا الفصل يقول غسان واصفاً الصهيونية بأنها تعني "الحركة اليهودية السياسية باتجاه فلسطين" وأنها لم تكن وليدة مؤتمر بازل بسويسرا في نهاية أغسطس 1897م، ولكن هذا المؤتمر كان تتويجاً علنياً لسلسلة من الضغوط التي لعب فيها الأدب الصهيوني دوراً أساسياً. وتشير الدراسة إلى أن ظهور الصهيونية السياسية يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، مع أن الصهيونية الأدبية بدأت قبل ذلك التاريخ، حيث كتب عنها هيس وبنسكر، وناحوم سوكولوف، وآحاد هاعام، وثيودور هيرتزل وغيرهم. كما أن ذروة الإنتاج الأدبي الصهيوني جاءت في الفترات التي تحسنت فيها أحوال اليهود نسبياً في مختلف دول أوروبا، أي الفترات التي أُعطي اليهود فيها حقوق المواطنة في الدول التي يعيشون فيها، والأهم من ذلك هو أنه في هذه الفترات بالذات نمت الأفكار التي رسمت قاعدة الصهيونية العريضة. لقد تحقق الإنتاج للصهيونية الأدبية في فترات الانفراج وليس في فترات الاضطهاد، وأرجعت الدراسة هذا الأمر بالإضافة إلى رفض الاندماج في فترات الانفراج، إلى وجود عنصرية وعرقية وطبقية داخل اليهود وعبرت عنها بالطبقة اليهودية الخاصة، وهذا ما أنتج الصهيونية السياسية من موقع عنصري لهذه الطبقة الخاصة على حساب الطبقات اليهودية المضطهدة.

العرق والدين في الأدب الصهيوني

الفصل الثالث " العرق والدين في الأدب الصهيوني يستولدان الصهيونية السياسية" خرج هذا الفصل بخلاصة تشير إلى أن اليهود رفضوا الاندماج والذوبان في المجتمعات الأوروبية حين انتشرت أفكار الثورة الفرنسية في العدالة والمساواة والحرية، ويعود السبب في ذلك الرفض إلى تكون طبقة يهودية متعصبة لها امتيازات سياسية واجتماعية واقتصادية هي التي أنتجت الصهيونية السياسية، هذه الطبقة وصل أفرادها إلى مناصب السلطة العليا في إنجلترا وغيرها من دول أوروبا، لقد حدث في النصف الأخير من القرن التاسع عشر ما أسمته الدراسة بالانعطاف نحو تسييس الشخصية اليهودية في الأدب، هذا التسييس هو الذي بموجبه تم رفض عملية الاندماج في المجتمعات الأوروبية التي يعيش فيها اليهود كحل للمشكلة اليهودية. واستعرضت الدراسة العديد من الروايات والأعمال الأدبية اليهودية التي بدأت بتصوير اليهودي الطيب واليهودي الرومانسي مثل روايتي (هارنغتون) لماريا إدجورث، ورواية (ايفانهو) للسير والتر سكوت لتأتي فيما بعد رواية (دافيد آلروي) للسياسي البريطاني من أصل يهودي بينجامين دزرائيلي فيما بعد لتختلق اليهودي السياسي البطل والمُنقذ قبل حوالي نصف قرن من ولادة الصهيونية السياسية رسمياً في بازل، هذه الرواية رفضت فكرة الاندماج وأظهرت الموقف العنصري والمتطرف لليهود واشتهرت بعبارة جاءت في مواضع مختلفة منها مفادها: "إن كل شيء عرق، وليس ثمة حقيقة أخرى". وتشير الدراسة إلى أن تفوق وتميز البطل اليهودي في رواية "دافيد آلروي" ما هو إلا تفوق وتميز عرقي مفاده كما تشير الرواية نصاً إلى نقاوة وصفاء وتميز العرق اليهودي "العبريين عرق غير مختلط".

اليهودي التائه

الفصل الرابع تناول "شخصية اليهودي التائه: نشأتها وتطورها" أثارت شخصية اليهودي التائه الجدل في الأوساط الشعبية الأوروبية، وهي في مجملها تشير إلى العلاقة بين التطور في أوروبا وبين أوضاع اليهود الاجتماعية والمالية والدينية، وتصل إلى مفهوم ملاحقة اليهودي التائه كما رسمته الصهيونية الأدبية. اليهودي التائه يعود إلى الحلقة الدينية التي أنتجته، تنقلت هذه الشخصية من موقف المذنب إلى موقف المتذمر، ومن موقف المُخطئ إلى موقف المُعذب، من موقف سوء الطالع إلى موقف علامة الخير، بدأ هذا التنقل عفوياً في المجال الشعبي، كتعبير عن العلاقة الاجتماعية والدينية بين اليهود والأوروبيين وهي تتراوح بين العصبية والتنوير الذي كانت تعيشه أوروبا. وقد تطور اليهودي التائه في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين إلى اليهودي الجوال، وهو ترميز إلى أنه أصبح حامل رسالة سياسية يتجول بها في أنحاء العالم. وتشير الدراسة إلى أن اليهودي الجوال ركب الموجة التي ركبتها بطلة رواية ديفيد آلروي وبطل رواية دانييل ديروندا، وهي موجة تحويل العرق والدين إلى قضية عنصرية، ظهرت شخصية اليهودي التائه في مسرحيات وروايات جسدت شخصية اليهودي الجوال غزير المعرفة.

يبدو أن هذه الشخصية قادمة من عمق الأساطير الدينية التي تدعي الرجعة بعد الموت، وهي موجودة في الديانات الإبراهيمية الثلاث، التقى رجل بالمسيح وهو في المحكمة قبل أن يصلب وبشره المسيح أنه لن يموت وسينتظر عودته متجولاً في الأرض، وهي هنا تقترب من رواية المهدي المنتظر ونزول المسيح عند المسلمين، المختلف في الأمر هي قدرة الصهيونية الأدبية التي أعادت إنتاج هذه الشخصية لأغراض عنصرية تصب في مصلحة الصهيونية السياسية، تذكرنا هذه الأسطورة بأسطورة ولاية الفقيه التي جاء بها الخميني في إيران عبر لقاءه بالمهدي المُنتظر وتفويضه كنائب ومتحدث باسمه فيما عرف بنظرية ولاية الفقيه التي غيرت المذهب الجعفري الاثني عشري وحولت الشيعي من مظلوم ينتظر المهدي المنتظر، إلى جندي يفحش في القتل لأجل عودة الإمام الغائب.

على كلٍ هذا الفصل في دراسة كنفاني أشار إلى إن "شخصية اليهودي التائه كانت نتاجاً لسبب مزدوج يتمثل في موقف الكنيسة من اليهودي من ناحية، والدور الذي يلعبه اليهود في المجتمع الذي يعيشون فيه، من ناحية أخرى. كما أن نقل فكرة اليهودي التائه من الأسطورة الشعبية إلى الرواية الأدبية جاء لحساب خلق التعصب اليهودي القائم على التمييز العرقي والديني والذي صب في مصلحة الصهيونية السياسية فيما بعد.

الارتباط بين الأدب والسياسة

الفصل الخامس " الأدب الصهيوني يضبط خطواته مع السياسة" تشير الدراسة إلى أنه بكُتاب مثل (دانييل ديروندا) ومسرحية (اليهودي الأزلي) قفزت الصهيونية الأدبية إلى مهمتها المباشرة في مطلع القرن العشرين مدفوعة من قبل حركة سياسية مُنظمَة هيأت كل فرص الرواج لهذا الأدب، لقد قامت الصهيونية الأدبية بمهمة مزدوجة من ناحية المشاركة في التعبئة العامة لليهود عبر خلق جو عالمي متعاطف مع قضيتهم، ومن ناحية أخرى طمس كل ما من شأنه عرقلة ظهور الدعاية للصهيونية والتي كانت قد ضبطت خطواتها في مختلف الجبهات كما تشير الدراسة. تسلحت الصهيونية الأدبية بأسلحة التزوير والمبالغة وطمس الحقائق والانتهازية لتحقيق أهدافها السياسية، وتذهب الدراسة إلى أن الآلة الصهيونية الدعائية استطاعت أن تمنع ظهور أية فضائح تتعلق بالأدب الصهيوني الموجه، والذي عمل على غسل الأدمغة.

وتوضح الدراسة أن ثيودور هرتزل هو أول من أعلن هذا الاتجاه بصراحة في مطلع القرن العشرين، حين نُشرت روايته المعنونة بـ "الأرض الجديدة القديمة" هذه الرواية التي حولت هرتزل نفسه من موقعه ككاتب صحفي في الصهيونية الأدبية إلى دوره المتعاظم في الصهيونية السياسية، وكانت حافزًا لتحويل هرتزل "الفنان" إلى هرتزل "السياسي"، ترك نشاطه الأدبي في قافلة الصهيونية الأدبية وانتقل إلى العمل بوضوح في إطار إنشاء منظمة الصهيونية السياسية، وقد اعترف أن الهدف من روايته سابقة الذكر لم يكن فنياً بل هدفاً دعائياً، مهدت هذه الرواية لاحتلال فلسطين، وقدوم المؤسسات من البلاد المتحضرة إلى الأرض الموعودة، مُبشرة بإسرائيل الدولة القومية التي تجمع بين العرق والدين في إطار هذه الدولة، وقيامها بدور متحضر في كل من آسيا وإفريقيا المتخلفتين. تقول الدراسة لقد مثلت شخصية مردخاي دور الداعية الذي يتحدث ويعظ في رواية (دانييل ديورندا) مثله مثل سيدونيا في (دافيد آلروي) ومثل بينسكي في مسرحية (اليهودي الأزلي)، تطرح هذه الشخصيات وجهات نظرها بشكل فلسفي وفكري أيضاً، إلا أن بطل رواية الأرض الجديدة القديمة لهرتزل قد شرع في العمل، وصار جزءًا من حركة سياسية ذات بنيان فكري واضح وأهداف قابلة للتنفيذ الميداني.

توصلت الدراسة في هذ الفصل إلى أن الصهيونية الأدبية صنعت قضية مشتركة للكُتاب الصهاينة، هذه القضية بدورها أدت إلى وجود خط مشترك ومتسلسل في جميع الروايات التي كتبت عن إنشاء إسرائيل، ولهذا جرت أحداث الروايات الصهيونية وفقاً لخمس محددات تشكل الخط العريض للرواية الصهيونية:

- قدوم البطل من أوروبا نتيجة للاضطهاد فاراً من مذبحة النازية، فقد فيها أهله ومُفتشاً عن مكان نظيف هادئ ويروي أشواقه القومية الكامنة في أعماقه ويرمم كبريائه، (التفوق اليهودي المطلق والبطل المعصوم).

- يقع بطل أو بطلة الرواية في غرام شخص غير يهودي وغير عربي، يقوم البطل بشرح فكرة الصهيونية ووجهات نظرها ومبرراتها يظهر فيها قصة العذاب التي مرَّ بها فيؤمن الطرف الآخر بالفكرة الصهيونية، بعد أن يكتشف أنه طرف في المأساة فيأتي إيمانه كتكفير عن ذنب ارتكب في مكان آخر، فيتحول إلى صهيوني، (مفهوم الاقناع بالفكرة الصهيونية).

- يبرز العرب في الرواية بصفتهم الطرف المضاد على أنهم بلا قضية متخلفين ومجرد مأجورين من قوة خارجية أو من قِبل السلطة الاقطاعية، ويُستثني منهم من يؤمن بأن الصهيونية هي الحل، (الموقف المُعلن من العرب وبقية الشعوب).

- تظهر الرواية تماسك اليهود ضد الاضطهاد الذي تعرضوا له والهجوم على الشعوب الأخرى بتحقيرها، وكل ذلك في سبيل تبرير عدم اندماج اليهود في المجتمعات التي قدموا منها، (المبررات الصهيونية لغزو فلسطين).

- يظهر الدين والعرق كدافع داخلي بالإضافة الى الدوافع الخارجية - مذابح هتلر- لهذه الهجرة نحو فلسطين، (الشخصية اليهودية وعلاقتها بإسرائيل).

العصمة الهودية

الفصل السادس " العصمة اليهودية أمام عدم جدارة الشعوب الأخرى" يضعنا هذا الفصل أمام تفسير الكاتب الصهيوني روبن وولنرود لعصمة البطل اليهودي وتفوقه المُطلق بقوله إن الكاتب اليهودي يفقد كثيراً من موضوعيته بسبب شعوره الكامل بهويته، وما يترتب على هذه الهوية من مسؤوليات، ولذلك فإن القرب الشديد من الأحداث والشخصيات تعطي كتاباته حيوية، كما أنها تعطيها نوعاً من المايوبيا -قصر النظر- كما تشير الدراسة في هذا الفصل إلى أن الكاتب الصهيوني القريب من الأحداث يفقد موضوعيته بالقدر الذي يفقدها الكاتب الصهيوني الذي تناول الأحداث عن بعد. وتشير الدراسة إلى أن الرواية الصهيونية لا تضخم الحقائق فقط بل أنها تقوم باختراعها إذ لم تجدها، ولذا أظهرت العديد من الروايات الصهيونية تبجحاً بالشعور العميق بالتفوق العنصري المطلق، إلى جانب العصمة الغيبية للشخصية اليهودية، كل هذا قد أدى إلى بروز العرقية اليهودية أمام بقية العرقيات والشعوب.

وتصل الدراسة هنا إلى أن الرواية الصهيونية عملت على تبرير رفض اندماج اليهود في المجتمعات التي عاشوا فيها، وتبرير اقتلاع شعب كامل من أرضه. قدمت الرواية الصهيونية البطل الصهيوني المعصوم الذي يمثل التفوق المطلق، على جميع المستويات، وهذا ما يقول عنه غسان بأنه ليس قصر النظر الذي تحدث عنه روبن وولنرود، بل هي عقدة نفسية مستعصية على الشفاء، تخفي ورائها شعوراً بالتفوق العنصري المطلق لليهود.

مبررات اغتصاب فلسطين

الفصل السابع " المبررات الصهيونية أمام اغتصاب فلسطين" في هذا الفصل استشهدت الدراسة بقول أرنولد توينبي "أستطيع أن أفهم مطالب اليهود بعد كل الذي عانوه على أيدي الألمان، بأنها مطالب ترمى إلى إعطائهم ولاية في مكان ما من العالم ليمارسوا سيادتهم الخاصة فيه، وإذا كان لا بد من حدوث ذلك، فتلك الولاية ينبغي أن تكون على حساب الغرب الذي ارتكب أقصى الفظائع مع اليهود، وليس على حساب العرب. إن هذه النقطة تبدو لي سهلة وسليمة، ولكن حين أشرتُ إليها مرة في بلد غربي، وهو ليس ألمانيا ولا إنجلترا؛ قُوبلت بموجة من الصياح الضاحك". وتوضح الدراسة أن الدعاية الصهيونية رسخت في الذهن موقفاً بعيداً للغاية عن هذه العملية الحسابية الإنسانية البسيطة التي وضعها توينبي، بتلك السهولة والتقريب، وينعكس هذا الترسيخ، بصورة أوضح في الرواية الصهيونية. وتصل الدراسة في هذا الفصل إلى أن المبررات الصهيونية اعتمدت لغزو فلسطين في جوهرها على فكرة الرد على المذابح التي قام بها هتلر ضد اليهود خصوصاً، وعلى الاضطهاد الذي تعرض له اليهود عموماً، ولذلك فإنه من المستحيل أن يجد المرء رواية صهيونية عن فلسطين لا يكون المدخل إليها قد بني عبر المذابح الهتلرية، ويبدو أن المؤلف الصهيوني يعي قيمة هذا السيف الدموي الذي يسلطه منذ البدء على ذهن القارئ الغربي، فيضمن من الصفحات الأولى كسبه إلى جانبه، مهما ارتكب من أخطاء.

وتؤكد الدراسة على تساؤل منطقي يتمثل في سؤال: ما شأن عرب فلسطين بدفع ثمن مذابح ارتكبها الغرب ضد اليهود، خصوصاً، وأن اليهود عاشوا في المجتمع العربي على مر العصور في انفراج مستمر؟ لذا فهذا السؤال على بداهته، ظل بعيداً عن الإجابة، وكل المحاولات التي تبذلها الرواية الصهيونية للإجابة عنه من بعيد سقطت في تناقض مهلك ومضحك.

استشهدت الدراسة في هذا الفصل بقول أكسودس أن المذابح العربية ضد اليهود لم تبلغ ما بلغت المذابح في أوروبا، لأن العرب انشغلوا في حياكة المؤامرات ضد بعضهم البعض عن الاهتمام باليهود. لكن العديد من الروايات الصهيونية بررت العنف الصهيوني على أساس انه نتاج لوراثة وصلت من الأجيال الماضية، ومضت الرواية الصهيونية تقول إن العرب جهلة ويقاتلون لأجل الاقطاعيين والأفندية، ولم يقرأوا ماركس، ومازالوا في القرن الثالث عشر، أما اليهود فقد أوجدوا في فلسطين وطناً فيه الحياة والاخضرار وحولوا هذه الأرض من مستنقعات مهملة وصحراء قاحلة إلى جنة، وكل ذلك لتبرير احتلال فلسطين.

الفصل الثامن " من جائزة نوبل إلى عدون 5 حزيران" تشير الدراسة في هذا الموضع إلى أنه في عام 1966م منحت جائزة نوبل للكاتب الصهيوني شموئيل يوسف عغنون وبررت اللجنة منحه هذه الجائزة بأن كتاباته تمثل رسالة إسرائيل إلى عصرنا، وكافحت في تقديم التراث الثقافي للشعب اليهودي عن طريق الكلمة المكتوبة، مع أن كتاباته عنصرية ومتطرفة ورجعية وعرقية، وفي 5 حزيران/ يونيو1967م حيث سُمي بعام النكسة بالنسبة للعرب، حين استعرضت إسرائيل تفوقها العسكري عليهم، حينها كان الإعلام الغربي يصور تلك الحرب بأنها رسالة مشابهة لرسالة عغنون، لقد قام الإعلام بتبرير ومباركة العدوان الإسرائيلي باعتباره تفوقاً عرقياً وعنصرياً، لقد وصل التعصب والعنصرية إلى ذروتهما على الصعيدين الثقافي والسياسي. وتصل الدراسة إلى القول إن لجنة نوبل التي منحت عغنون جائزة نوبل للسلام تفسر مباركة الغرب لعدوان 5 حزيران 1967م وهي خطيئة أخرى يرتكبها ضمير العالم المُضَلل نتيجة للدعاوي الصهيونية التي سبقت العدوان بنصف قرن.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

7 من الزوار الآن

878943 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق