المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > الثورة الروسية.. خبرات ودروس

8 حزيران (يونيو) 2019

الثورة الروسية.. خبرات ودروس

الثورة الروسية.. خبرات ودروس

مقدمة: لماذا نقرأ تاريخ الثورات؟

تعلمنا الماركسية أن الثورات كفعل هي دخول قطاعات ضخمة من الجماهير في العمل السياسي المباشر، ولم لا؟ طالما أن العمل السياسي الحقيقي، حتى في أكثر البلدان ديمقراطية (بالمفهوم الليبرالي للكلمة) يبقى دائمًا حكرًا لطبقة معينة، هي الطبقة الرأسمالية في المجتمعات الحديثة، فيخدم مصالحها ويرسخ سلطتها على المجتمع ككل، من خلال ممثلي هذه الطبقة أو من ينوب عنهم من أحزاب ومراكز قوى، وربما حتى أشخاص من خارج هذه الطبقة.
في أعرق الديمقراطيات حتى، تظل مشاركة الأفراد العاديين في الفعل السياسي قاصرة على بضع دقائق كل عدة سنوات، يختار فيها مئات الآلاف، وربما الملايين فردًا واحدًا يمثلهم في البرلمان أو المواقع التنفيذية، مع ما يحمله هذا من تأثير ضخم لمسألة الدعاية ومدى قدرة المرشحين على إنفاق الأموال، وحجم صلاتهم بمراكز القوى الرأسمالية ووسائل الإعلام، إلخ. وهؤلاء هم من يتولون الفعل السياسي الحقيقي لسنوات تالية، بينما يعود الأفراد العاديون إلى بيوتهم وأعمالهم ويكتفون بمقاعد المتفرجين.
الطبقة الحاكمة لا تكتفي فقط بإيهام الأفراد في المجتمع بأن هذا الشكل من أشكال الديمقراطية هو الأمثل والأنضج، وأنه يكفل للجميع حقوقًا متساوية وفرصًا متكافئة للمشاركة في العمل السياسي، لكنها بفضل سيطرتها المباشرة أو غير المباشرة على جهاز الدولة (التي تُوهِم الجميع أنه كيان محايد تمامًا)، وبفضل سيطرتها على وسائل الإنتاج الفكرية، فإنها لا تمل من خلال التعليم والإعلام والمؤسسات الدينية والثقافية وغيرها، من نشر وتعميق الأفكار والقيم التي تمكنها من بسط سيطرتها على المجتمع وتخدم مصالحها هي، وترسخ وجودها، وتمارس هذه الأفكار والقيم دورها جنبًا إلى جنب مع التشريعات القانونية والقرارات السياسية والإجراءات الحكومية، ومع احتفاظ الطبقة الحاكمة بعد كل ذلك، من خلال سيطرتها على جهاز الدولة، بالقدرة على استخدام العنف والقوة المسلحة إذا ما فشلت كل الوسائل السابقة في كبح فعل المقهورين في المجتمع والاحتفاظ به في الحدود المسموح بها.
من هنا يمكن أن نتبين تمامًا معنى أن الثورة هي دخول قطاعات (أخرى) كبيرة في الفعل السياسي، بل إن الثورة هي الوسيلة الوحيدة حقًا في كل المجتمعات الطبقية عبر التاريخ لدخول الطبقات المضطهدة والمستغَلة في الفعل السياسي المباشر، وتوجيه إدارة المجتمع لصالحها.
لن نبتعد عن الحقيقة إذن لو اعتبرنا الماركسية بشكل ما منهجًا لقراءة وفهم وتطبيق الثورات، من حيث هي ذروة الفعل الذي تقوم به الطبقات المستغَلة والقطاعات المضطهدة لتحطيم السلطة السياسية للطبقة الحاكمة وسلبها السيطرة على قوى الإنتاج المادية والفكرية التي تمكنها من رسم المجتمعات وتسييرها بما يرسخ وجودها ويخدم مصالحها.
ولا ينطبق هذا على الثورات في المجتمعات الرأسمالية الحديثة فحسب، فالمنهج الماركسي وتشريحه للصراع الطبقي لا غنى عنهما لفهم حركة التاريخ في مجتمعات ما قبل الرأسمالية وقراءة ثوراتها. ولعل الثورة الفرنسية 1789 تعد مثالًا ساطعًا على هذا، بوصفها ثورة حطمت المجتمع الإقطاعي الفرنسي، وأزاحت طبقة الملك والنبلاء والكنيسة من أعلى هرم المجتمع، مع ما تطلبه ذلك من سلبهم السيطرة السياسية وهدم المنظومة الفكرية والقيمية التي كان يعاد إنتاجها على مدى قرون سابقة، لتحل محلها القيم الفكرية والأخلاقية الجديدة للطبقة البرجوازية الفتية التي اعتلت هذا الهرم لترسم شكلًا جديدًا لعلاقات إنتاج رأسمالية تسمح باستمرار نمو قوى الإنتاج، بعد أن ضاقت عليها علاقات الإنتاج الإقطاعية القديمة.
والدروس التي تقدمها لنا تلك الثورة لفهم سيرورة الثورات عمومًا أكثر من أن تُحصى، وكذلك مسألة فهم ضرورات كل مرحلة تاريخية، وتأثيرها على مسار أي ثورة وأفقها ومآلها في النهاية، وحتى الفرز بالغ القسوة الذي يحدث في خضم تطور الثورة وتجذيرها.
أما ثورات القرن التاسع عشر كثورة 1848، وكوميونة باريس 1871، فهي تخبرنا الكثير عن تناقضات النظام الرأسمالي، ورجعية البرجوازية وتوقفها عن أن تكون طبقة ثورية، كما تضع لنا مسألة التمثيل السياسي للطبقة العاملة من خلال حزبها الثوري كضرورة ثورية، وترسم لنا ملامح – ولو مشوَّشة – عن حكم البروليتاريا الممكن ومجتمعها الجديد.
وتأتي لنا ثورات القرن العشرين بدروس بالغة الأهمية والثراء، بحيث لا سبيل لنجاح أية ثورة مقبلة دون استيعابها والبناء عليها، بدءًا من الثورة الروسية 1905، والثورة الألمانية 1918 – 1923، وحتى ثورات العالم الثالث. ولعل أهم ما تقدمه لنا هذه الثورات من بين دروس كثيرة هي أهمية وجود الحزب الثوري المرتبط عضويًا بالطبقة العاملة، والحامل لمشروع تحرر كافة أطياف المجتمع وقطاعاته التي تعاني من الاستغلال والاضطهاد والتهميش والإقصاء، وتقدم لنا هذه الثورات خبرات مهمة عن وجوب وجود ذلك الحزب بشكل ناضج قبل اندلاع الثورات كشرط لنجاحها، وتضعنا كذلك أمام العديد من أشكال الانحرافات والأمراض الخطيرة التي قد تصيب هذه الأحزاب والتنظيمات الثورية، والتي قد تؤدي إلى تدميرها، وإلى إفشال الثورات أو حرفها عن مسارها، كأمراض العصبوية والتطرف اليساري، والانحرافات الإصلاحية والاقتصادوية والنقابوية، والنهج أو التأثيرات الستالينية، وغيرها.
لكن رغم هذا المعين الثري والمتنوع الذي تمدنا به كل هذه الثورات، إلا أنه بعد كل ذلك تبقى للثورة البلشفية 1917 أهمية كبرى وخصوصية ساطعة، فما تحدثنا به تلك الثورة قد لا نجده في أية ثورة أخرى رغم أهميته، فالثورة البلشفية وضعت مسألة تحطيم المجتمع الرأسمالي واقتلاعه من جذوره كحقيقة ممكنة واقعية ومجرَّبة تاريخيًا في سجل الثورات، وتمكنت في سنوات عمرها القليلة من تأسيس مجتمع جديد دعائمه الحرية والعدالة والديمقراطية الجذرية ونمط الإنتاج الاشتراكي لأول مرة في التاريخ على أنقاض النظام القديم، وحمل ذلك معه ثورة حقيقية أخرى في نظرة ذلك المجتمع الغضّ للعلم والفن والثقافة والأخلاق، وقيم المساواة بين البشر، وتحرر المرأة وكافة المضطهدين دينيًا وعرقيًا وحصولهم على كامل حقوقهم المسلوبة، كل ذلك جرى رغم محنة الحرب الدموية التي خاضتها قوى الثورة المضادة والدول المجاورة لإجهاض هذه الثورة ومنع امتدادها لباقي أوروبا.
تقدم لنا تلك الثورة أيضًا صورة ملموسة عن شكل السلطة العمالية التي تؤسس للمجتمع الجديد من خلال سلطة سوفييتات العمال والجنود، وهي أنضج أشكال الديمقراطية الجذرية المباشرة على مر التاريخ، ورغم أن هذا الشكل قد تم بناؤه اعتمادًا على خبرة ثورة 1905، إلا أن وضعه كسلطة بديلة تطيح بالسلطة القديمة وتدير المجتمع بصورة فعلية لم يتحقق إلا بعد 12 عامًا في ثورة 1917.
تراث الثورة البلشفية أيضًا وضع شكل التنظيم اللينيني للحزب البلشفي على محك الاختبار التاريخي، وأثبت عمليًا أن هذا الشكل، مع ما يحمله من مرونة وتماسك تنظيمي ومركزية ديمقراطية وإعداد دؤوب في سنوات الجذر الثوري، لا غنى عنه لبقاء الحزب واستمراره، ناهيكم عن قيادته للثورة وانتصارها.
أثبتت الثورة البلشفية أيضًا صحة تحليل تروتسكي لمسألة التطور المركب اللامتكافئ في الدول الرأسمالية المتخلفة كروسيا، وما يترتب عليه هذا من إمكانية قيام الثورات الاشتراكية ونجاحها في دول العالم الثالث، وأصبحت نظرية تروتسكي عن الثورة الدائمة بفضل هذا التطبيق العملي ركنًا ركينًا في الماركسية الثورية، بما تعنيه من إمكانية خروج الثورات من إطار الأفق الديمقراطي التي تنطلق به في البداية إلى شكلها الاجتماعي الصريح، في عملية تجذير متصلة ومستمرة وغير مجزأة، من خلال نضوج لبها الاشتراكي الكامن فيها منذ البدء.
وبفضل هذا الدرس التاريخي الهام أمست نظرية الثورة الدائمة درعًا صلبًا أمام أطروحات الثورة المجزأة على مراحل، وأكذوبة ضرورة الانتقال إلى الشكل الرأسمالي الناضج والديمقراطية البرجوازية الكاملة قبل الحديث عن الثورة الاشتراكية، وهي الأساطير التي أودت بالكثير من الأحزاب والتنظيمات الاشتراكية التي تدعي الماركسية، وأسقطتها في بئر الإصلاحية والنقابوية بلا عودة.
حتى اندحار الثورة البلشفية وهزيمتها بعد سنوات قليلة تقدم لنا دروسًا لا تقل في أهميتها عن دروس انتصارها، فصعود البيروقراطية الحزبية الذي تعزز بفضل استنفاد الطبقة العاملة والكوادر والقيادات الحزبية على خطوط القتال مع الثورة المضادة لسنوات، يجسد لنا خطر سيطرة البيروقراطية على الأحزاب الماركسية الثورية، وكيف يمكن أن يودي بالحزب والثورة كلها إلى الحضيض الذي تمثل في صعود الستالينية التي قادت المجتمع لشكل جديد من الرأسمالية هو رأسمالية الدولة، تحت شعارات اشتراكية مفرغة من أي مضمون، وبالتوازي مع قمع غير مسبوق للطبقة العاملة في الجمهوريات السوفييتية.
كما ثبت بما لا يدع مجالا لشك استحالة استمرار الاشتراكية في بلد واحد، وهو جانب آخر من نظرية الثورة الدائمة، لقد أقر لنا التاريخ مرة أخرى صحة ما رآه تروتسكي من أنه لا مناص من اتساع الثورة الاشتراكية وامتدادها لتضرب المعاقل الرأسمالية الأكثر قوة، كضمانة أساسية للإطاحة بالنظام الرأسمالي ككل، ولتضع الثورة الاشتراكية أوزارها.
تحليل الثورات ودراستها واستخلاص خبراتها وتقديمها للطبقة العاملة والثوريين، هو عمل ثوري من الطراز الأول، وهو واجب من واجبات الأحزاب والمنظمات الماركسية حول العالم، وفي هذا الإطار يأتي هذا الكراس عن الثورة البلشفية الملهمة، ليكون بما فيه من دروس وعِبر، من بين ذخائر الثوريين الذين يحلمون ويعملون من أجل مجتمع أفضل، تتحرر فيه الإنسانية من نير الاستغلال والاضطهاد والقهر، مرة واحدة وإلى الأبد.

1- كيف مُهّد الطريق للثورة الروسية؟

بقلم: آلان ماس

ترجمة: محمود نبوي

إنَّ الثورة الروسية عام 1917 تذكرةٌ بأن النضالات التي تُغيّر العالم كثيرا ما تتخذ طرقا غير متوقعة، حيث تبدو احتمالات نجاحها ضئيلة.
كانت روسيا القيصرية، واحدة من أكثر الديكتاتوريات البشعة في التاريخ. حيث كان يعيش الغالبية العظمى من الروس في ظروف فقيرة، والتي تغيرت قليلا منذ قرون. كان الكل يخضع للسلطة الحديدية من قبل النظام القيصري والنبلاء الروس. وكان تأثير محاولات إصلاح النظام -أوفرض التغيير من خلال مؤامرات اغتيال فاشلة – ضعيفًا جدًّا في حياة الروس.
كانت روسيا حتى ذلك الوقت تُعِد للثورة التي أعطتنا اللمحة الدائمة والوحيدة عما سيبدو عليه مستقبل المجتمع الاشتراكي؛ حيث جماهير العمال هي التي تحكم المجتمع بشكل جماعي وديمقراطي.
إنّ الثورة الروسية هي قصة ملايين الناس ممن صنعوا التاريخ، هي قصة تحديد الجماهير لمصيرهم بالقوة – كما عبّر عنهاالزعيم الثوري الروسي ليون تروتسكي.
استمرت تجربة روسيا في ظل حكم الطبقة العاملة لبضع سنوات قصيرة. فقد أعاد نظام الثورة المضادة، الذي بُنيَ على أنقاض الثورة، إنتاج كل أشكال ظلم النظام القيصري القديم وقهره، وبرر لهم بخطاب الاشتراكية. بالرغم من ذلك، فإن الإنجازات التي حققتها الثورة -في إسقاط أحد أقسى الطغاة في العالم، وفي خلق الطرق الأولى للديمقراطية العمالية الجماهيرية، وفي إعادة مواهب وآمال مجتمع بأكمله – مازالت مصدر إلهام حتى اليوم.
تخلف اقتصادي واجتماعي
كانت روسيا القيصرية متساوية مع الممالك الأخرى؛ من حيث الإسراف والغطرسة. ولكن في نفس الوقت كانت الدولة الأكثر تخلفا في أوروبا في باقي المجالات.
عاش 80% من السكان كفلاحين، مرتبطين بالأرض وخاضعين لطبقة النبلاء الإقطاعية. وفي مطلع القرن الـ 20، كان نصيب الفرد من الدخل في الولايات المتحدة أعلى من ثمانية إلى 10 مرات مما كان عليه في روسيا.
حكم القيصر ونبلاؤه هذا المجتمع بقبضة من حديد، واعتبروا إمبراطوريتهم متفوقة وراثيا عن الآخرين. تلك الإمبراطورية التي وصلت من طرف أوروبا عبر آسيا؛ “بسبب الفتوحات الهائلة التي كان من ضمنها 20 دولة مستعبدة”، كما قال الفوضوي إليزي ريكلوس.
عُرفت روسيا القيصرية بمعاداتها للسامية؛ “فمن الممكن تنفيذ أي نوع من المجازر، يشمل 10 أشخاص إذا أردت، أو 10 آلاف”، كما قال مسئول في الشرطة.
في كتاب تاريخ الثورة الروسية، يوضح تروتسكي فساد النظام القديم من خلال وصف القيصر نيكولاس الثاني:
“كان هذا الرجل التافه، الهادئ، المتزن، “المُربى جيدا”، شخصا قاسيا إلى درجة الإجرام. ولم تكن قسوته إيجابية فعالة تعمل لتحقيق أهداف تاريخية كقوة إيفان الهائلة أو قسوة بطرس، ولكنها كانت قسوة جبانة كقسوة شخص خائف من الإحساس بأنه محكوم عليه؛ فلقد هنأ في مطلع حكمه “رجال فوج فاناغوريا الشجعان” الذين أطلقوا النار على العمال. وكان يقرأ دائما “بكل شغف” كيف جُلد الطلاب “ذوو الشعور القصيرة” بالسياط الجلدية، وكيف هُشمت رؤوس أشخاص عُزّل من السلاح في معابد اليهود، كان ذلك الشخص “الجذاب” فاقد الإرادة والهدف والخيال، أشد رهبة وإجرامًا من كافة طغاة التاريخ القديم والحديث”.
وتأكيدًا لهذه النقطة، اقتبس تروتسكي من المذكرات الشخصية للقيصر – عندما كان كبار الوجهاء وعدد كبير من أفراد الدوائر الليبرالية يعيشون حالة قلق وخوف من تطور الأمور – ما يلي: “7 يوليو، الجمعة. صباح مليء بالمشاغل. تأخرت نصف ساعة عن حضور غداء الضباط، وهبَّت عاصفة ثقيلة، وكان الجو خانقا. تنزهنا معا. استقبلت غوريميكين، ووقعت المرسوم الخاص بتعطيل اجتماعات مجلس الدوما (البرلمان الروسي)! تعشيت مع أولغا وبيتيا، وقرأت طوال السهرة”. إن إشارة التعجب المكتوبة بعد نبأ تعطيل اجتماعات مجلس الدوما، تمثل أقصى انفعالات القيصر.
كان هناك وجه آخر لروسيا في هذه السنوات الأولى من القرن الـ 20. ففي ظل الركود الاقتصادي والتدهور السياسي من النظام الإقطاعي القديم، وتطور الرأسمالية في مدن روسيا – والأهم في العاصمة بتروجراد – نتج عن ذلك بعض الظروف الأكثر تقدما في العالم.
لم تظهر الرأسمالية بنفس الوتيرة المتزايدة كما كانت في أوروبا الغربية، ولكن على المستوى التكنولوجي والإنتاجي كانت على نفس الخُطى بل تخطت الغرب. في عام 1914، في الولايات المتحدة، كان يعمل 17.8 في المئة من القوى العاملة في المشاريع العملاقة من 1000 عامل أو أكثر. ولكن في روسيا، وصل المعدل لـ 41.4%. وكان مصنع بوتيلوف في بتروجراد أكبر مصنع في العالم، ويعمل به أكثر من 30 ألف عامل في عام 1917.
كان لهذا”التطور المتفاوت”، على حد تعبير تروتسكي، العديد من العواقب السياسية. أولا، بينما كان النظام القيصري على رأس البلاد، كان يُعدّ للإطاحة به والمجىء بنظام أكثر ديمقراطية، وثانيًا فإنّ الطبقة التي أدت لهذه الثورات في الغرب -الطبقة الرأسمالية -كانت ضعيفة وخجولة ومتراجعة. وكانت البرجوازية الروسية تملك آلاف الطرق للسيطرة على الرأسمالية الدولية التي تمولها، وترتيبات وتنازلات شتى مع النظام القيصري.
وفي الوقت نفسه، ونظرا لتطور الرأسمالية السريع في المدن، بينما كانت الطبقة العاملة الروسية لا تزال أقلية في المجتمع ككل، كانت أكثر تقدما نسبيا من حيث التنظيم الطبقي، وبالتالي كانت الطبقة العاملة–على مستوى الوعي الطبقي-أكثر استعدادا بكثير لأخذ زمام المبادرة في النضال ضد النظام القيصري.
“برميل بارود” ينتظر الانفجار
كانت المدن في روسيا عبارة عن “برميل بارود” من الظلم ينتظر الانفجار. فقد كانت ساعات العمل في المصانع الجديدة هي الأطول، وكانت الأجور متدنية. “حياة عامل الروسي، حتى في سان بطرسبرج، كانت مظلمة وفقيرة بشكل قاسي”، كما كتب المؤرخ الاشتراكي فيما بعد. “وكانت وسيلة الترفيه الوحيدة للعامل هي الحانة؛ وكانت عائلته لا تملك شيئا على الإطلاق”.
أعلن القيصر في عام 1904حربًا كارثية ضد اليابان سرعان ما تسببت في المزيد من نقص الموارد والفقر.
عند وصول الوضع إلى مرحلة حرجة وحاسمة، لم يتجه العمال نحو الاشتراكيين في روسيا، بل اتجهوا لأحد القساوسة وهو “الأب جابون”، الذي كان على قمة جمعية عمال المصانع والورش الروسية، وهي نقابة حكومية بوليسية معترف بها من قبل النظام.
نظم جابون في يناير 1905مسيرةً إلى “قصر الشتاء” لمناشدة القيصر -اعتبرتها الأغلبية هادفة، ولكنهم خُدعوا من قبل “مستشاري السوء” -لإجراء إصلاحات. فتح جنود القيصر النار على المتظاهرين العُزل، مما أسفر عن مقتل أكثر من ألف عامل وأسرهم.
فجّرت هذه المجزرة -المعروفة باسم الأحد الدامي -الإضرابات الجماهيرية، واضطر أصحاب المصانع للموافقة على تقديم بعض التنازلات، التي سبق وطلبها المتظاهرون من القيصر.
امتدت الثورة إلى الريف، فأحرق الفلاحين 2000 عقار من عقارات المُلّاك، ووزعوا مخزوناتها بينهم. تمرد الجنود الروس بسبب الحرب خاسرة ضد اليابان. تمردت البحرية أولا، واستولى البحارة على السفينة الحربية “بوتميكين” لصالح الثورة.
اتجه النظام إلى تجربة تكتيك جعل اليهود فيه كبش فداء، وأطلق العنان للمئات من العصابات السوداء التي تخصصت في المذابح. نُفَذت الاعتداءات -بتواطؤ من مسؤولين حكوميين – وانتشرت بمرور الوقت، ولكن ليس في المناطق التي كان يسيطر عليها العمال والجنود. ففي بتروجراد، على سبيل المثال، لم يكن هناك مذابح بسبب التدابير المتخذة من قبل منظمات العمال، والتي شكلت ميليشيات مسلحة ضد العصابات السوداء.
حاول القيصر ونظامه استعادة السيطرة على الوضع من خلال تقديم تنازلات. واتفق الجانبان على تشكيل مجلس الدوما، على الرغم من أنه لن يكون له أي سلطة حقيقية ولن يمثِّل العمال أو الفلاحين. في أغسطس، قررت الحكومة الدخول في الحرب الكارثية.
ومع ذلك، استمر تمرد العمال وبلغ ذروته، وبدأوا إضرابًا عامًا في أكتوبر، والذي قاده العمال في موسكو، وامتد إلى بتروجراد ثم إلى المدن الأخرى عبر السكك الحديدية.
اضطر القيصر إلى أن يعد العمال بعمل دستور. وبعد شهر آخر من المعارك كان النظام واثقًا بما يكفي في قدرته على قمع التمرد ومحاولة اعتقال زعماء الطبقة العاملة.
استعاد النظام السيطرة على البلاد في نهاية المطاف، ولكن ليس قبل أن تعطي الثورة الريادة إلى السوفييت، أو مجلس العمال – في أول ظهور لقوة جديدة تقف أمام النظام القديم، ويمكن من خلالها أن يمارس جماهير العمال سلطتهم.
نمت السوفيتات من قلب المجالس التي شُكلت لتنظيم النضال في أماكن العمل. حيثُ انتُخب ممثلو المصانع لتلبية القرارات في الأحياء واتخاذها، ومن ثم على مستوى المدينة.
وصف تروتسكي – الذي انتُخب رئيسا لسوفييت بتروجراد في سن 26 عاما – كيف تتركز كل قوى الثورة في نظام مجلس العمال:
“كانت المنظمة المخولة، وحتى الآن ليس لديها أي تراث، فقد ضمت كتلا متفرقة من مئات الآلاف من الناس في حين تفتقد عمليا أي أجهزة تنظيمية، ووحدت التيارات الثورية في البروليتاريا، وكانت قادرة على الحكم والسيطرة بشكل عفوي، والأهم من كل هذا، كانت تخرج من تحت الأرض في 24 ساعة”.
كان الثأر من أولئك الذين شاركوا في تمرد 1905له أثره على الحركة. إن ثوار روسيا في الحزب البلشفي، والذي لعب دورا هاما في 1905، أشاروا إلى بقية العقد باسم “سنوات من رد الفعل”. ومع ذلك، كان تقييم الزعيم البلشفي لينين بأن “ليس علينا سوى الانتظار. ستأتي 1905 مرة أخرى. هذه هي الطريقة التي ينظر بها العمال إلى الأمور”.
جاءت 1905 مرة أخرى، وبسرعة أكبر مما توقع الكثيرون. وبالفعل خلال ما يزيد قليلا على عقد من الزمان. جاءت حرب إمبريالية أخرى، هي الحرب العالمية الأولى هذه المرة – استقبلت في البداية بحماس وطني، ولكن سرعان ما تحول الحماس إلى إحباط بسبب الظروف التي جلبتها تلك الحرب.
ومرة أخرى، تولى عمال بتروجراد زمام المبادرة. حيث تركوا في اليوم العالمي للمرأة عام 1917 وظائفهم للمشاركة في مظاهرات عفوية ضد الحرب ونقص المواد الغذائية -فيما أصبح اليوم الأول للثورة.

2- ثـورة فبراير

بقلم: كرستين روبرتس

ترجمة: محمود نبوي

كتبت الثورية البولندية روزا لوكسمبورج، قائلة إن البشرية تواجه خيارين، إما الهمجية المستمرة للرأسمالية أو التحول الثوري للمجتمع لخلق عالم يصلح للعيش فيه. ظهر هذا الاختيار بشكل صارخ في السنوات ما بين 1914 و1917، في شكل مذابح الحرب العالمية الأولى. كان اندلاع الحرب العالمية في عام 1914 نقطة تحول، فقد مزقت قناع “التقدم” الذي كانت ترتديه الثورة الصناعية لتكشف النقاب عن الصراع الإمبريالي ووحشيته.
كانت الحرب العالمية الأولى نتاجًا بشعًا للرأسمالية، كما ساعد التصنيع السريع في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في انتشار الرأسمالية في جميع أنحاء العالم، وأصبحت أغنى الدول حبيسة التنافس على الموارد والأسواق في العالم.
كانت أكثر الجوانب المروعة للحرب هي عدم التوافق بين استخدام تكتيكات الحرب للقرن التاسع عشر، وأسلحة القرن العشرين، مثل المدافع الرشاشة والأسلحة الكيميائية. وساهم ذلك في خسائر بشرية هائلة، حيث قتل عشرة مليون شخص نتيجة الحرب، وفقدت روسيا وحدها ما يقرب من 2 مليون نسمة.
استُخدمت حرب الخنادق على نطاق واسع في الحرب العالمية الأولى، وكان حفر الجنود خندقًا لأنفسهم تحت الأرض لفصلهم عن العدو في “المنطقة المُحرَّمة” من أبشع المشاهد؛ لأنه غالبا ما يكون قبرًا لهم.
جرت في مدينة فيردون الألمانيةأطول معركة في الحرب، فقد أطلقت حوالي 100 قذيفة في الدقيقة لمدة خمسة أشهر، وكان مجموع القذائف 23 مليون قذيفة. قاتل ما يقربمن مليوني جندي في فيردون، وفي نهاية المعركة كان نصفهم قد قضوا نحبهم. وفي النهاية كانت خطوط المعركة تقريبًا حيث كانت في البداية.
وقفت روسيا ضد ماكينة الحرب الألمانية المتفوقة تقنيًا واقتصاديًا، وألقى القادة الروس جبلاً من الجثث البشرية أمام تلك الماكينة؛ وبالطبع كانوا من الفلاحين الفقراء الذين لم تكترث الدولة لأرواحهم. وقعت المعركة الكبرى الأولى على الجبهة الشرقية، عندما حاصرت القوات الألمانية الجيش الروسي ودمرته في معركة تانينبرج. قُتل ما يقرب من ربع مليون جندي روسي في هذه المعركة، بسبب عدم كفاءة جنرالات القيصر.
بالإضافة إلى هذه المأساة، تخلت الغالبية العظمى من الأحزاب السياسية للطبقة العاملة في جميع أنحاء أوروبا عن موقفها السابق ضد الحرب. وأدى هذا إلى إحباط وإرباك للحركة العمالية الأوروبية. بينما كان الحزب البلشفي في روسيا، بقيادة لينين، من القلائل الذين حافظوا على الموقف الأممي المُعارض للحرب.
ثورة عارمة
تسببت همجية الحرب الحمقاءفي انهيار النظام القيصري في روسيا ودخوله في أزمة عام 1917. خسرت الإمبراطورية الروسية 25% من أغنى أراضيها أمام ألمانيا، بالإضافة إلى قتل وإصابة وأسر حوالي 6 ملايين جندي روسي.
واكب الدمار الذي أحدثته الحرب، انهيار كبير في الاقتصاد الروسي. وارتفعت الأسعار وأصبحت أعلى بكثير من الأجور، وتناقصت المواد الغذائية والوقود. وفي أوائل عام 1917، كانت تقضي المرأة العاملة من بتروجراد 40 ساعة في الأسبوع في طابور الخبز.
وصل فساد النظام القيصري وانعدام كفاءته إلى أعلى مستوياته داخل المجتمع الروسي، حتى أن هذا دفع بعض الموالين للقيصر “نيقولا” الثاني للتحرك ضد نظامه. انتشرت الإضرابات والمظاهرات المطالبة بتحسين الأجور والتحكم في الأسعار ومعارضة التربح من الحرب، وازدادت في الأعداد والنضالية خلال عامي 1915 و1916.
ذكر تقرير للشرطة في أوائل عام 1917 إن الطبقة العاملة في روسيا كانت:
“على حافة اليأس، أي انفجار بسيط، ومهما كانت الذريعة تافهة، سيؤدي إلى أعمال شغب لا يمكن السيطرة عليها، عدم القدرة على شراء السلع، والإحباط من الانتظار في الطوابير، وارتفاع معدل الوفيات نظرا للظروف المعيشية السيئة، والبرد بسبب نقص الفحم. كل هذا خلق حالة استعداد عند معظم العمال للشروع في تجاوزات وحشية وأعمال شغب بسبب نقص الغذاء”.
تحول هذا اليأس في 23 فبراير 1917 (8 مارس)إلى ثورة. كان هذا هو يوم المرأة العالمي، احتفل الاشتراكيون والطبقة العاملة بنضالات النساء العاملات لتحرير أنفسهن وطبقتهن. كما كتب ليون تروتسكي، أحد قادة الثورة الروسية، بعد ذلك:
“الحلقات الاشتراكية الديمقراطية كانت تنوي تنظيم الاجتماعات وإلقاء الخطب وتوزيع المنشورات. لم يتخيل أحد أنه قد يصبح اليوم الأول للثورة. لم تدع أية منظمة للإضراب في ذلك اليوم”.
ولكن عاملات النسيج في بتروجراد بدأن الإضراب، وجررن خلفهن الحزب البلشفي الذي كان يقود عمال المعادن في مقاطعة فيبورج. بادر الحزب البلشفي – حزب العمال الأكثر ثورية في روسيا – بحثّ عضويته على عدم المشاركة في الإضرابات، خوفاً من عدم استعداد الحركة العمالية حتى الآن للدفاع عن نفسها ضد القمع الذي لا مفر منه من قبل الحكومة.
ولكن البلشفية اتجهت إلى تطوير التمرد، بنشطاء أكثر من الحزب لهم خبرة على أرض الواقع ليأخذوا زمام المبادرة، كما أن الجماهير اتخذت إجراءات أكثر حسماً. وفي نهاية اليوم العالمي للمرأة، كان حوالي 90 ألف عامل قد شاركوا في الإضراب. وفي اليوم التالي، انضم حوالي نصف عمال بتروجراد للإضراب، وخرجت أعداد كبيرة للتظاهر في الشوارع. كتب تروتسكي أن “شعار “الخبز” سرعان ما استُبدِلَ بشعارات أخرى: يسقط الاستبداد، تسقط الحرب”.
في اليوم الثالث، انضم عدد كبير من الجنود الذين حُشِدوا لسحق المظاهرات إلى الثورة، وأطلقوا النار على مراكز الشرطة لتحرير السجناء السياسيين. ومنذ رفض سلاح المشاة إطلاق النار على الشعب، اعتمدت الحكومة على نخبة قواتها وأكثرها موثوقية “القوزاق”. ولكنهم أيضاً رفضوا إطلاق النار على العمال.
بدلاً من ذلك، وفقاً لشهود عيان كانوا في المظاهرة، تآخى القوزاق مع المتظاهرين. وكان القادة يراقبون الجنود وهم يسمحون للمتظاهرين بالمرور بلا حول ولا قوة، وكانوا يتظاهرون بأنهم لا يلاحظون زحف العمال تحت خيولهم وفي الشوارع.
في 27 فبراير، بدأت ثكنات الجنود الفلاحين في المدن، والذين تدربوا على اتخاذ دورهم في الخنادق على الجبهة، في التمرد علناً، ووقف الجنود إلى جانب الثورة. حُشدت أعدادٌ كبيرة من هؤلاء الجنود من قبل العمال الأكثر نضالية للاستيلاء على مراكز الشرطة واعتقال المسئولين الحكوميين وضباط الجيش الموالين للقيصر، وطرد القوات الموالية للحكومة خارج المدن.
هرب بعض وزراء القيصر وأُلقيَ القبض على البعض الآخر. وأخيراً، في 2 مارس، انتهت ثلاثة قرون من حكم رومانوف، عندما تنازل القيصر عن الحكم.
الحزب البلشفي والثورة
الكثير من التحركات الأكثر حسماً للثورة والتي أسقطت القيصر كانت عفوية ولم يكن مُخطط لها. ولكن من الخطأ أن نتجاهل الدور الحاسم للثوار ذوي الخبرة في أماكن العمل وداخل الجيش خلال انتفاضة فبراير، خاصةً أعضاء الحزب البلشفي الذين لعبوا دوراً رئيسياً في الإضرابات، والمعارك في الشوارع والمظاهرات.
لم يتنبأ أي حزب يساري بالتاريخ أو المسار الدقيق الذي ستتخذه الثورة، وكان واضحاً للجميع – باستثناء القيصر الأحمق – أن المجتمع الروسي يواجه أزمة شديدة أدت إلى تداعيات الثورة.
برز الحزب البلشفي، ولكن ليس لقدرته على التنبؤ بانفجار الثورة، بل لتفانيه في توجيه قوة العمال في تغيير المجتمع منذ الثورة الروسية الأولى عام 1905. وتأثير هذه الأفكار – التي ناد بها عدد من نشطاء الحزب ذوي الخبرة في أماكن العمل في روسيا – كان له أهمية حاسمة في قيادة الثورة إلى النصر.
مرة أخرى، شرح تروتسكي الديناميكية:
“المذهب الغامض للعفوية لا يشرح شيئاً… داخل الطبقة العاملة، كانت تجري عملية مستقلة وعميقة للنمو، ليس فقط لكراهية حكامهم، ولكن للفهم النقدي لعجزهم، ولتراكم الخبرات والوعي الخلّاق الذي يكمل تمردهم الثوري ويؤدي لانتصارهم.
ورداً على سؤال، “من الذي قاد ثورة فبراير؟”: بشكل قاطع هم العمال ذوو الوعي الذين تدرب الجزء الأكبر منهم في مدرسة حزب لينين”.
كانت ثورة فبراير منارة لإلهام العمال والمظلومين في جميع أنحاء العالم. وقد كان بديل الرعب من الحرب العالمية الأولى هو الإطاحة بمن قادوا البلاد للحرب.
كتب الصحفي الإنجليزي مورجان فيليبس برايس، الذي كان في روسيا في ذلك الوقت، من روح هذه الأيام الدامية:
“كنت أعرف أن هذا سيحدث عاجلا أم آجلا، ولكن لم أعتقد أنه سيحدث بهذه السرعة. كل البلد كانت في سعادة عارمة، ويلوحون بالأعلام الحمراء ويغنون (النشيد الثوري الفرنسي). لقد تجاوزت الأحداث أحلامي، وبالكاد أصدق أن هذا حقيقي. عاشت روسيا العظمى، التي أنارت للعالم الطريق إلى الحرية. فقد تحزو ألمانيا وإنجلترا خطواتها”.
خطت الطبقة العاملة الروسية والفلاحون الخطوات الأولى نحو تحررهم. بدأ العمال والجنود بتشكيل مجالس عبر روسيا، مباشرةً بعد تنحي القيصر، كما كان الحال في عام 1905.
ولكن في حين أثبتت الطبقة العاملة في فبراير أنها قادرة على إسقاط ذلك النظام المكروه والفاسد، أثبتت أيضاً أنها غير قادرة على تولي السلطة. وبدلاً من أن تبقي السلطة في قبضتها، كانت مازالت في أيدي الطبقة الرأسمالية في روسيا.
وسوف تُثبت المقالات القادمة أن هذا التناقض الظاهري لن يستمر طويلاً.

3- لينين يُعدّ البلاشفة

بقلم: تود كريتيان

ترجمة: ندى المخزنجي

أطاحت ثورة فبراير في 1917 بسلالة رومانوف واستبدلتها بحكومتين متتاليتين. الحكومة المؤقتة الأولى شُكِّلت بشكل خاص من ملاك الأراضي الكبار والرأسماليين الأغنياء. صار الأمير “لفوف”، أحد الأرستقراطيين الكبار، رئيسًا للحكومة، بينما أصبح أليكساندر كرينسكي، المحام الراديكالي وعضو الحزب الثوري الاشتراكي، وزيرًا للعدل؛ مما أعار الحكومة نفحة من الراديكالية.
طالب “لفوف” بتحالف بين القادة العسكريين والطبقات الحاكمة، وقطاعات عريضة من الإنتلجنسيا والفئات الأكثر تحفظًا من الطبقة العاملة والفلاحين. على الجانب الآخر مثّلت سوفييتات العمال والجنود والفلاحين كل فئات العمال في المدن والجنود في الخنادق وقطاعات واسعة من الفلاحين. وبينما استندت الحكومة المؤقتة على السلطة القانونية لهيئة التشريع الاستشارية التابعة للقيصرية (عديمة الصلاحيات)، والتي انتخبت باقتراع محدود، انتُخب مندوبو السوفييتات مباشرةً، وكان من المُتاح استدعائهم من مناصبهم على الفور.
على الرغم من أن هذا لم يكن واضحًا لجميع المنخرطين في الأمر، إلا أن شكلي الحكومة كانا متناقضين بطبيعتهما كنتيجة للتناقضات القصوى بين احتياجات الطبقات الحاكمة للربح والحرب، ورغبات الطبقات المقهورة في الأرض والخبز والسلام.
حوربت ثورة 1917 الروسية حول أيُّ شِق من هذه السلطة المزدوجة سيحل محل الشِّق الآخر، وكما حوربت حول مواقف الأحزاب السياسية المختلفة تجاه هذه المواجهة.
الحركة الاشتراكية الروسية
الأحزاب المحافظة والليبرالية المسيطرة على الحكومة المؤقتة أدركت أن السوفييتات كانت قوية بحيث من الصعب محوها هكذا ببساطة، بمجرد التمني. ولم يعد القمع العسكري الذي استخدمه القيصر خلال ثورة 1905 ممكنًا لتدمير السوفييتات؛ لأن الجنود أصبحوا ينظرون إلى المجالس العمالية على أنها حكومتهم الشرعية المنتخبة.
وهكذا قضوا مدتهم آملين أن تتراجع الموجة الثورية وتقدم لهم فرصة قمع السوفييتات. وفي هذه الأثناء قاموا بما في وسعهم لاستكمال مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى، وللدفاع عن ملاك الأراضي واحتواء للحركة العمالية المصنعية.
كان الثوريون الاشتراكيون (وهو حزب عريض يمثل الفلاحين الأثرياء والمحترفين والطلاب والعمال وضباط الجيش ذوي الرتب الصغيرة، وخصوصًا الجزء الأكبر من الفلاحين المجندين) منقسمين انقسامًا عميقًا. من ناحية، كان كرينسكي قد انضم إلى الحكومة المؤقتة، وتبعه قادة الثوريين الاشتراكيين الآخرين. ومن ناحية أخرى حظى هؤلاء بأغلبية في السوفييتات مباشرة بعد تكوينها.
أمل الاشتراكيون أن الحكومة المؤقتة في نهاية الأمر ستضع حدًا للحرب، وهو ما كانوا سيدعمونه دعمًا نقديًا، بالإضافة إلى تفعيل الإصلاح الزراعي، وكذلك ضمان حق الاقتراع المتساوي وديمقراطية الانتخابات.
أما المناشفة (الجناح الأكثر اعتدالاً في الحركة الاشتراكية الروسية)، فقد رفضوا الانضمام للحكومة المؤقتة في البداية، وكانوا مُمثَلين بغزارة في السوفييتات، خصوصًا سوفييتات العمال. كان لديهم أيضًا آراء متفاوتة حول السلطة المزدوجة، نابعةً من الأمل أن كلتا المؤسستين يمكن أن تعملا معًا كنوع من الحكومة المتحدة من المنازل العليا والدنيا، إلى جناح راديكالي أكثر أملاً في إجبار السوفييتات الحكومة المؤقتة على إنهاء الحرب وتنفيذ إصلاحات لها معنى.
بعض المناشفة دعموا استمرار الحرب بشكل دفاعي وآخرين كانوا مع الإنهاء الفوري لها. كما دعم جميعهم إصلاحات مثل يوم عمل من 8 ساعات فقط، ولكنهم آمنوا أن البرجوازية يجب بالضرورة أن تحكم روسيا بينما تظل الطبقة العاملة معارضة راديكالية مطيعة.
على الجانب الآخر، كان البلاشفة (الجناح الراديكالي من الحركة الاشتراكية الروسية) أيضاً منقسمين. بعض القادة، مثل جوزيف ستالين وليف كامينيف والعديد من الكوادر القيادية القديمة، كان لديهم موقفًا مماثلاً من الحكومة المؤقتة كجناح أيسر للمناشفة. وهكذا لم يثقوا في الحكومة المؤقتة لإنهاء الحرب أو لتنفيذ إصلاحات، بل رأوا الأمر كتمثيل للطبقات الحاكمة وكانوا معارضين تمامًا أن يكونوا أعضاءً بها.
بالرغم من ذلك، لم يجادلوا من أجل أن تسيطر السوفييتات على السلطة. في الصحيفة البلشفية، ذهب ستالين وكايمينف إلى أبعد من ذلك، وأعلنوا أن البلاشفة سيدافعون عن روسيا في الحرب ضد ألمانيا. آخرون ضمن الـ25 ألف عضو في الحزب البلشفي رأوا هذا الرضوخ لسلطات حكومة الأمير “لفوف” كخيانة.
لينين يعود من المنفى
عاد القيادي البلشفي لينين من المنفى إلى روسيا في الثالث من أبريل، وقدّم فورًا سياسة راديكالية جديدة إلى الحزب البلشفي المنقسم. قدم لينين أطروحته إلى جمعٍ صغير من الأعضاء القياديين من كلا الحزبين البلشفي والمنشفي في 4 أبريل، والتي نُشرت بالتبعية في جريدة برفدا البلشفية. وهذه مقتطفات من النقاط الأساسية:
– ظلت الحرب في ظل حكومة “لفوف” الجديدة وشركائه، دون شك، على الجانب الروسي، حربًا إمبريالية ضارية كنتيجة للطبيعة الرأسمالية لتلك الحكومة، دون الإطاحة برأس المال، من المستحيل إنهاء الحرب بسلام ديمقراطي حقيقي، سلام لا يُفرَض بالعنف.
– تمر البلاد من المرحلة الأولى للثورة والتي – كنتيجة للوعي الطبقى غير الكاف وغياب التنظيم بين صفوف البروليتاريا – وضعت السلطة في أيدي البرجوازية، إلى المرحلة الثانية من الثورة والتي يجب أن تضع السلطة في أيدي البروليتاريا والقطاعات الأكثر فقرًا من الفلاحين.
– لا دعم للحكومة المؤقتة، يجب أن يُفضح الزيف الكامل لكل وعود الحكومة.
– إدراك حقيقة أن في معظم سوفييتات نواب العمال، كان حزبنا أقلية، يجب فتح عيون الحشود أن سوفييتات العمال هي الشكل الوحيد الممكن من الحكومة الثورية، وهكذا هذه هي مهمتنا لنقدم تفسيرًا وشرحًا صبورًا منظمًا ومثابرًا لأخطاء تكتيكاتهم، تفسيرًا ملائمًا بالخصوص لاحتياجات الحشود العملية الحقيقة.
هوجمت أطروحات أبريل اللينينية من قبل كل الأحزاب الليبرالية المحافظة. ولكن العداء الذي تلقتها من قادة الاشتراكيين والمناشفة كشف الهوة الواسعة بين رؤية لينين للثورة الاشتراكية والمبنية على التحرر الذاتي للعمال والفلاحين المُعدَمين ورؤية الأحزاب الاشتراكية الأخرى للديمقراطية الرأسمالية المبنية على السلطة المتشاركة بين ملاك الأراضي والفلاحين، بين الضباط والجنود، ورؤساء العمل والعمال.
حتى معظم قادة الحزب البلشفي ترددوا في قبول أفكار لينين. لكن، في غضون أسابيع قليلة، حظت سياسات لينين بتأييد البلاشفة من أعلى إلى أسفل.
أرجع أغلب المؤرخين هذا التحول السريع في المسار إلى سيطرة لينين الديكتاتورية على الحزب. والحقيقة أن لينين وضع أفكاره في صحافة الحزب، ومن ثم دافع عنها في سلسلة من الاجتماعات، وأخيرًا في مؤتمر مندوبي الحزب في أواخر أبريل.
يرجع الفضل الأكبر في تغيير الحزب البلشفي لخطة السياسي، ليس لهيبة وتأثير لينين، بقدر ما هو بسبب السياسات الغادرة للحكومة المؤقتة، وأيضًا االمعتقدات الثورية الأصيلة للغالبية العظمى من أعضاء وقادة البلاشفة
أظهرت الحماسة تجاه تكتيكات لينين الجديدة أيضًا عمق الجذور البلشفية في أوساط الجنود والعمال. من المحتمل أن بعض القادة الحزبيين تخيلوا أن الأمور يمكن حلها سلميًا بين الحكومة المؤقتة والسوفييتات، ولكن بالنسبة للجنود، فإن إنهاء الحرب كان حرفيًا مسألة حياة أو موت. وبالنسبة للعمال، لم يكن من الممكن ترك الانخفاض الهائل في الأجور، والقبضة العسكرية في المصانع، والغياب التام للحقوق النقابية، لتنفيذها في وقتٍ ما في المستقبل غير معلومٍ بالنسبة لهم.
وهكذا وبحلول أواخر أبريل أنهى البلاشفة ترددهم الأوّلي، وأعلنوا عن أنفسهم بوضوح كالحزب السياسي الجدي الوحيد الذى لديه خطة للمطالب الأساسية التي أشعلت ثورة فبراير – الأرض والخبز والسلام.
وكما توقع لينين، هذا التحول الراديكالى أكسب البلاشفة أعداءً كُثر بين الأحزاب الراديكالية الأخرى، وجعلهم عُرضة لاتهامات التهور والاستهتار في عقول العديد من العمال والجنود الذين استيقظوا لتوهم على الحياة السياسية. وهكذا، ومع استمرار الحرب، تدهور الاقتصاد، وتصاعدت الأزمة في الريف، وأصبحت الإطاحة بالطبقة الحاكمة المسئولة عن كل هذه الفوضى حلاً جدير بالتصديق.
بدأ “الشرح الصبور” لخطط الحزب الثورية المُعلنة في جذب العمال والجنود أكثر فأكثر، وبحلول مايو كانت عضوية البلشفى قد نمت إلى أكثر من 100 ألف عضو، بينما خملت الأحزاب الراديكالية الأخرى أو بدأت في التحلل والانقسام على نفسها.

4- كيف نظم العمال قواهم؟

بقلم: إيمي مولدون

ترجمة: ندى المخزنجي

“ما الذى نحتاجه هو جمعية تأسيسية إلى حين تنظيم سوفييتاتنا، حيث يجتمع مندوبونا ويقررون كل شيء ويعرفون كيف يتصرفون في كل الأمور”.
الجندي الروسي الذي أطلق هذه الكلمات، كان يتحدث نيابةً عن ملايين من العمال الفقراء والفلاحين والجنود الذين حملوا على عاتقهم مشروع إنهاء استبداد القيصر وبناء مجتمع حر خالٍ من الحكام المستغلين الذين لا يُعوَّل عليهم.
آمن الاشتراكيون بالثورة الروسية، ليس فقط بسبب الإطاحة بالقيصر المستبد الكريه، بل لأن النظام القيصري ككل قد أطاحت به حركة ديمقراطية عملاقة للمُضطهَدين، لم يشهد التاريخ مثلها. أما السوفييتات، فقد مثَّلت آلية التحول في الثورة، وفرضت نفسها كنموذج لإبداع وكفاءة الحكم الذاتي للعمال.
كانت السوفييتات قد ظهرت للمرة الأولى في روسيا في ثورة 1905، وبدات بمعركة ساعات أقل ليوم العمل، لكن سرعان ما توجهت إلى الهجوم السياسي على استبداد القيصرية.
فى البداية، نبعت السوفييتات من لجان الإضراب، وتطورت سريعًا لمراكز منظمة للطبقة العاملة في العديد من المدن الروسية الكبرى، لمناقشة وتطبيق التكتيكات في الصراع. كانت السوفييتات سلاحًا لسلطة العمال ضد النظام القديم وبداية لبديل ديمقراطي.
وصف الثورى الروسى ليون تروتسكي، الذي انتُخِبَ لقيادة السوفييت في العاصمة بتروجراد في 1905 ومجددًا في 1917، مولد السوفييتات كما يلي:
“البروليتاريا التي دفعها مسار الأحداث لارتجال نشاطات ثورية لم يُسمَع بها، كان يجب، أيًا كان الثمن، أن تنتج من عمقها منظمة مناظرة لأبعاد الصراع والمهام الضخمة. هذه المنظمة كانت السوفييتات، خُلقت على أرض الواقع بالثورة الأولى ومثلت أداة الإضراب العام وصراع القوى”.
كانت السوفييتات، التي ارتكزت في عضويتها على أساس المندوبين المنتخبين، أو النواب من كل مكان عمل (فى حالة الفلاحين تبعًا للمنطقة، وفي حالة الجنود تبعًا للوحدة العسكرية) حسَّاسة للغاية للتغيرات المزاجية والمطالب الشعبية. بدون شروط مكتبية، أو مصادر تمويل حملات، كان ممثلو السوفيتات يمثلون أصوات وأماني ناخبيهم، ومن لم يؤدِ ذلك منهم كان يُستبدل سريعًا.
وبالرغم من هزيمة ثورة 1905 وانتصار القيصرية وكبحها جماح الصراع، إلا أن تجربة السوفييتات وذكراها تركت انطباعًا عميقًا في الطبقة العاملة وحزب لينين البلشفي. وحينما قادت الحرب العالمية الأولى المجتمع الروسي إلى حافة الانهيار، وأشعلت تحركات ثورية، عاودت السوفييتات الظهور مرة أخرى عبر البلاد لنظم وتوجيه نضال العمال. ولكن هذه المرة أُعيد إنتاج السوفييتات على نطاق أوسع، فظهرت بين الفلاحين والجنود وحتى الطلاب وربات البيوت واجتمعوا بأشكال تنظيمية أخرى.
كيف نشأت السوفييتات؟
اندلعت ثورة فبراير بعد شهور من إضرابات العمال المتصاعدة، واحتجاجات سكان المدن، ومصادرة الأراضي من قبل الفلاحين، وتمرد وانشقاق الجنود عن الجيش. في المدن، واجه العمال انهيار الصناعة، لأن أرباب العمل لم يستطيعوا تأمين المواد اللازمة أو رفضوا التفاوض مع العمال المطالبين بأجورأفضل أو ساعات عمل أقل.
في العديد من المصانع رفض الموظفون منح يوم الـ 8 ساعات عمل. تجذرت النقابات في الكثير من الصناعات التي لم يسبق لها أن شهدت نضالًا منظمًا. أسس العمال أيضًا لجانًا بالمصانع للإشراف على الإنتاج، بما أن الملاك والمديرين هم الذين أحدثوا كل هذه الفوضى.
مفتقرين إلى البيروقراطية الراسخة للحركة العمالية الحديثة، ارتجل العمال الروس فورًا وسائل للتعبير عن سخطهم على مديريهم، أشهرها على الإطلاق إلقاء المدير على عربة يدوية ودفعه خارج المصنع، أحيانًا التخلص منه في نهر قريب أو قناة.
صارت اللجان في المصنع أكثر قوة في مواقع العمل، ابتداءً بمراقبة أرباب العمل، ومن ثم الانتقال إلى الإشراف ومراقبة التعيين والتسريح من العمل، مرورًا بالإنتاج وتأمين المواد، انتهاءً بالتوزيع. أخذت اللجان على عاتقها، في مواقع العمل الأكبر، مطالبات العمال بالطعام ورعاية الأطفال.
لم يبدأ العمال والجنود الروس هذه العملية بهدف استبدال الرأسمالية بالاشتراكية، ولكن نموذج المجلس العمالي المتجسد في السوفييتات وفَّر لهم آلية للمضي قدمًا في محاولة حل الأزمة الروسية.
إذا كان الموظفون يخربون الاقتصاد، فإن سوفييتات العمال كانت وسيلة تقرير كيفية عمل وتوزيع الاحتياجات بديمقراطية. في الجيش انتخب الجنود مجالس نواب لفرض مطالبهم على الضباط، كما تمرد الفلاحون وصادروا الأراضي، في أغلب الأحيان تحت تأثير أفراد العائلة المجندين الذين اكتسبوا خبرة الفعل المباشر في الجيش من قبل.
ظهر التغير السريع في الوعي وتدفق خلال السوفييتات، مسببًا تغير متكرر في بنية السوفييتات ما بين الإطاحة بالقيصر في فبراير والإطاحة بالحكومة المؤقتة في أكتوبر.
فى البداية، سعت الأحزاب الاشتراكية المعتدلة، التي سيطرت على مؤتمر اللجنة التنفيذية لسوفييتات عامة روسيا، للإبقاء على السوفيتات كشريك أقل شأنًا للحكومة المؤقتة، التي تألفت من أحزاب ملاك الأراضي وأرباب العمل والطبقات المتوسطة. كان هذا متوافقًا مع توقعات أكثرية الشعب، الذين اعتقدوا أنه برحيل القيصر ستجلب الديمقراطية البرلمانية السلام والعدل. ولكن المشاركة المباشرة للملايين في الثورة وضعت السوفييتات في مواجهة تصادمية مع الحكومة المؤقتة، وأثارت حس أعمق بين العمال حول الاحتمالات الممكنة.
كمثالعلى ذلك، كانت لجنة متاجر قطاع نارفا بيترهوف لأكبر مصانع روسيا (مصنع بتيلوف) قد نشرت بيانًا حول إنشاء لجان المصانع في أبريل 1917:
“بعد اعتيادهم على الإدارة الذاتية، يُحضِّر العمال أنفسهم للوقت الذي ستختفي فيه الملكية الخاصة للمصانع. ووسائل الإنتاج، إلى جانب جانب المباني التي بُنيت بأيدي العمال، ستنتقل ملكيتها إلى الطبقة العاملة ككل. وبالتالي، وبينما نحن مشغولون بالأشياء الصغيرة، علينا أن نحمل دومًا في أذهاننا الهدف العظيم الذي يسعى إليه العمال”.
أظهرت أحداث الثورة ككل قدرة السوفييتات الفورية على العمل كمركز سياسي واقتصادي، وحتى كمركز عسكري، وفشل الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال لافر كورنيلوف لهو أبرز دليل على ذلك.
مع انتشار التهديد الذي يمثله كورنيلوف، شكلت السوفييتات المحلية لجانًا للنضال جمعت العمال والجنود من الأحزاب السياسية المختلفة كميليشيات تسلمت أسلحة من اللجان المصنعية، ومركبات من السائقين ومن نقابات النقل، والطعام من المطاحن وعمال المطاعم.
رفضت نقابة العاملين بالمطابع طبع الصحف المعادية للثورة، كما خرَّب عمال السكك الحديد خطوط السكك الحديدية، أحيانًا بتحطيم القضبان لمنع قوات اليمين من دخول بتروجراد.
عندما أُخبر الجنود، الذين حسبهم كورنيلوف أوفياء، بماهية مهمتهم، من خلال العمال والجنود الذين أحاطوا قطارهم وخاطبوهم، رفعوا علمًا أحمرًا مكتوبًا عليه “الأرض والحرية” في مقر قيادتهم، وألقوا القبض على قائدهم عندما أبدى اعتراضه.
ذهب هؤلاء الجنود إلى أبعد من وقف الانقلاب، فشكلوا لجنة ثورية خاصة لمنع أي محاولة للاعتداء على بتروجراد، إذ كان التكافل والتضامن يمثلان قلب المزاج الثوري، لنشر الخبر للوحدات الأخرى كي ترفض المهمة.
صحوة المُضطهَدين
في اليوم التالي لانتفاضة أكتوبر (الحدث الأخير في ثورة 1917)، كتبت جريدة نوفو فورميا، اليومية المحافِظة، ما يلي:
“دعونا نفترض للحظة أن للبلاشفة بالفعل اليد العليا، من سيحكمنا حينها؟ ربما الطباخون، هؤلاء الخبراء بشرائح اللحم البقري وتقطيعها؟ أو ربما رجال الإطفاء؟ سائسو الخيول أو السائقون؟ أو ربما ستهرع الممرضات لاجتماع مجلس الدولة بين جلسات غسيل الحفاضات؟ من إذن؟ أين رجال الدولة؟ ربما سيدير الميكانيكيون المسارح، والسباكون الشئون الخارجية والنجارون مكتب البريد”.
كانت رد ثورة أكتوبر بمثابة “نعم” حاسمة في وجه هذه الأسئلة. عندما انتزع عمال روسيا ومظلوموها السيطرة على الجوانب المختلفة من إدارة المجتمع، توقفوا حينها عن كونهم مجرد طباخين ونجارين.
وكما كتب تروتسكي، فإن الثورة “أعطت الأرض للفلاحين، أعطت السلطة للعمال والفلاحين: كانت هذه إنجازات عظيمة، ولكن لا يوجد إنجاز أهم للثورة من صحوة الشخصية الإنسانية في كل فرد مظلوم ومذلول”.
أعطتنا روسيا في 1917 لمحة لنوع الديمقراطية التي يستطيع المُضطهَدون والمستغلون خلقها – نظام المجالس العمالية الذي استطاع أن يكون منبرًا للتفتح الكامل للتحرر الإنساني.

5- الثورة ضد إمبراطورية القيصر

بقلم: سارة نوب

ترجمة: محمود نبوي

عندما أطاحت ثورة فبراير 1917 بالقيصرية الروسية، كان 43% فقط من السكان روس والباقي من جنسيات أخرى. عاشت غالبية الشعوب – في بولندا، وفنلندا، وأستونيا، ولاتفيا، وفي العصر الحديث روسيا البيضاء، وأوكرانيا، وجورجيا، وأذربيجان التركية، وآسيا الوسطى – تحت احتلال حكومة لغتها وقوانينها لم تكن خاصة بهم. وبالإضافة إلى ذلك، عانى اليهود وعانت الأقليات العرقية المنتشرة في جميع أنحاء “روسيا العظمى” من المذابح والاضطهاد. أُصدرت مئات القوانين لتقييد حقوق اليهود وجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية.
كيف يمكن للثورة الروسية أن تؤثر على هذه الإمبراطورية العظمى؟ ينبغي على البلدان التي يضطهدها القيصر أن يكون لها الحق في تقرير مصيرها؟ وترتبط تلك الأسئلة ارتباطًا وثيقًا بمسألة ملكية الأرض – والتي تشهد تنافسًا شديدًا في أوساط الحركة الاشتراكية.
القومية والمسألة الزراعية
قدمت الثورية البولندية روزا لوكسمبورج وجهة نظرها، حيث قالت أنه يجب على الاشتراكيين أن يعارضوا القومية في بولندا وأوكرانيا والدول الأخرى التي ترزح تحت وطأة القيصر. أما بالنسبة للأمميين، قالت لوكسمبورج أن التحرر القومي فكرة متأخرة، خاصةً في وقت الحرب العالمية الأولى، وأصبحت البرجوازية – القادة التقليديين لحركات الاستقلال – في المستعمرات ضعيفة جدًا وخطرة بسبب علاقاتها بالإمبريالية والتي لن تمكنها من قيادة النضال التقدمي.
لكن الثورة في روسيا أظهرت ديناميكية أخرى، وكما كتب ليون تروتسكي في كتابه تاريخ الثورة الروسية، فإن “القومية قد قيدت المسألة الزراعية، والتي كانت كامنة في مناطق مثل أوكرانيا، وأطلقها انفجار ثورة فبراير”.
في معظم تلك الأماكن، عانى الفلاحون تحت حُكم المُلاك من الطبقات الحاكمة من الأمم الأقوى. في الفولجا والقوقاز وآسيا الوسطى، على سبيل المثال، استولى الأثرياء الروس على الأراضي من قبائل مثل باشكير والقرغيز. وهكذا؛ فإن اضطهاد الفلاحين كان مستمرًا جنبًا إلى جنب مع الاضطهاد القومي ومتداخلًا معه.
تصاعد النضال من أجل الاستقلال القومي في أوساط الطبقات الدنيا في جميع المناطق المُستعمرة، بجانب صحوة الروح البشرية التي أحدثتها الثورة. قاتل الفلاحون الفقراء من تلك المناطق تحت راية القومية، ولكن كما كتب تروتسكي “كانت قوميتهم القشرة الخارجية للبلشفية غير الناضجة فقط”.
في مارس 1917، صوّتت الجمعية التأسيسية الأوكرانية (الرادا) على تدريس اللغة الأوكرانية في المدارس، كما دعا إلى الاستقلال الذاتي الإقليمي. ولكن في العاصمة الروسية بتروجراد، ظلت الحكومة المؤقتة التي تولت السُلطة بعد ثورة فبراير ملتزمة بالدفاع عن مصالح البرجوازية والحد من اتساع رقعة الديمقراطية. حظرت كل الإجراءات التي قامت بها الرادا الأوكرانية، ومنعت مؤتمر الجنود الأوكرانيين، وفي نهاية المطاف رفضت الاعتراف بالرادا كممثل رسمي للشعب الأوكراني.
ولكن هذه لم تكن نهاية المسألة القومية، فبعد النظر إلى نموذج أوكرانيا، بدأ المسلمون في آسيا الوسطى المطالبة بحق تقرير مصيرهم. ومع ذلك، استمرت الحكومة المؤقتة في محاولات يائسة للحفاظ على إمبراطورية كانت تتهاوى. لا يكن بمقدورها تقديم الدعم بشكل حقيقي للحق في تقرير المصير بسبب خدمتها لمصالح البرجوازية واحتياجاتها، وهذا يعني أنها تريد الفحم من دونتس، والمواد الخام من كريفورج، وملايين الأفدنة من الأراضي الزراعية المنتجة التي تملكها شعوب المستعمرات.
كل التيارات الاشتراكية المختلفة في روسيا، سواء تلك التي دعمت وشاركت في الحكومة المؤقتة (على رأسها الثوريون الاشتراكيون والمناشفة)، أو أولئك الذين حاولوا الإطاحة بها (البلاشفة بقيادة لينين وتروتسكي)، قالت أنها تدعم حق تقرير المصير. لكن برغم تطابق البرامج، كان المضمون مختلفًا.
ألغى أليكساندر كرينسكي، الثوري الاشتراكي، الذي كان وزيرًا للحرب ورئيسا للوزراء في ربيع وصيف عام 1917، “القوانين الاستثنائية” – التدابير التي تُدني من حقوق الدول المستعمرة والقوميات المضطهدة. كانت الحكومة المؤقتة مستعدة للتخلص من تلك القوانين الخاصة التي تستهدف الأقليات والجماعات المُضطهدة قوميًا – مثل تلك قوانين التي فُرضت على السود في جنوب الولايات المتحدة في ذلك الوقت.
ولكن في نفس الوقت، كانت الحكومة المؤقتة و”الاشتراكيين” المشاركين فيها مؤيدين للمواطنة الإجبارية في روسيا – لا يحق لأحد الانفصال. وكان منطقهم أنه في ظل الحكومة “الثورية” الجديدة، ومع إلغاء القوانين الاستثنائية، لم يعد هناك حاجة للانفصال.
في الواقع، وهذا يعني أن الجنسيات الأخرى سوف “ترعاها الحكومة، وتتعامل معها بتسامح، ثم تضطهدها”، كما كتب تروتسكي، مشيرًا إلى مصير الوحدة القومية التي تتشكل داخل الجيش الروسي. في النهاية، أيّد هؤلاء الاشتراكيون، الذين ادعوا دعم “حق تقرير المصير”، الجنسية الإجبارية تحت قيادة “الحكومة الثورية، فأصبحوا على النقيض تمامًا.
التحرر القومي والثورة الاشتراكية
في أكتوبر 1917، سقطت الحكومة المؤقتة واستُبدلت بمجالس العمال (أو السوفييتات)، وكان الأغلبية من البلاشفة. بعد الاستيلاء على السلطة مباشرةً، أصدرت الحكومة الجديدة مرسومًا بمنح الحقوق الكاملة لتقرير المصير، بما في ذلك الحق في الانفصال. أُقيمت جمهوريات الاستقلال الذاتي في كثير من المستعمرات الروسية السابقة.
كانت روزا لوكسمبورج مُحقة في أن القادة البرجوازيين في المستعمرات سيحاولون القيادة في اتجاه رجعي. كان التجار والمعلمون والموظفون وضباط الجيش الصغار في بولندا، على سبيل المثال، قد بدأوا يتحدثون عن الانفصال والاستقلال الذاتي الإقليمي عندما صار واضحًا أن العمال في موسكو وبتروجراد كانوا في طريقهم لإسقاط الحكومة المؤقتة.
الأكثر أهمية من ذلك أن فكرة التحرر الوطنية أدت إلى رفع مطالب لم يكن من الممكن أن تُنتزع من أجل أغلبية الشعب في ظل حكم البرجوازية، ألا وهي مطالب الأرض للفلاحين والديمقراطية في الاقتصاد، والتحرر من الحكم العسكري، والمساواة الاجتماعية والتشريعية.
لهذا السبب، لم يرى البلاشفة “القادة” البرجوازيين من حركات التحرر الوطنية “تقدميين”. وأعربوا عن تأييدهم للتحرر القومي لأسباب منها أنه من شأنه رفع الطموحات بأن فقط سلطة العمال والفلاحين هي من تستطيع تحقيق هذا التحرر القومي.
وعلى المستوى الأممي، اعترف البلاشفة أن الكفاح من أجل تحرير الشعوب المضطهدة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالكفاح ضد الرأسمالية. وأشار القائد البلشفي جريجوري زينوفييف أن أربع دول (بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان) تضطهد أكثر من مليار شخص في مستعمراتها. إن النضال من أجل حق تقرير المصير في المستعمرات يساعد على كسر الرأسمالية العالمية، الأمر الذي كان حاسمًا في الحفاظ على السيطرة العمالية في روسيا.
وتيسيرًا لذلك، استضافت الأممية الشيوعية – ائتلاف الأحزاب الاشتراكية الثورية في العديد من البلدان، التي تشكلت بمبادرة من البلاشفة – مؤتمر شعوب الشرق في باكو بأذربيجان، في سبتمبر 1920. ضم المؤتمر الشيوعيين وغير الشيوعيين من الهند، والصين، وبلاد فارس، وتركيا، والشرق الأوسط، والمستعمرات الروسية السابقة، والإمبراطورية العثمانية، فضلًا عن ممثلين من الدول المُستبدة. كان الهدف من المؤتمر هو المُضي قدمًا في النضال من أجل حق تقرير المصير. كتب لينين في عام 1920:
“يجب على جميع الأحزاب الشيوعية تقديم المساعدات المباشرة للحركات الثورية في الدول التابعة والمحرومة (على سبيل المثال، أيرلندا والزنوج في أمريكا، إلخ) وفي المستعمرات.
بدون هذا الشرط الأخير، سيكون النضال ضد الاضطهاد من الدول التابعة والمستعمرات، وكذلك حقهم في الانفصال، مجرد لافتة كاذبة”.
وفي حين كان المؤتمر في باكو يشجع فكرة التحرر القومي، أكد أن النضال كان ضد جميع الأثرياء. وقال زينوفييف، في المؤتمر:
“الأهمية الكبرى للثورة التي تبدأ في الشرق لا تكمن في طلب السادة البريطانيين أن يزيحوا أقدامهم من على الطاولة، ومن ثم السماح للسادة الأتراك بأن يضعوا أقدامهم هم مكانهم. لا، نحن نريد أن نطلب من جميع الأثرياء، ولو بطريقة مهذبة، أن يزيحوا أحذيتهم القذرة جميعًا من على الطاولة”.
“الحق في تقرير المصير” بعد هزيمة الثورة
هُزمت الثورة الروسية بعد بضع سنوات فقط. كان صعود جوزيف ستالين رمزًا للثورة المضادة، حيث ترأس نظامًا جديدًا من الاستغلال والقمع. كانت أهم الخطوات التي اتبعها ستالين للوصول إلى السلطة هي إعادة فرض الاضطهاد القومي.
بدأ الالتزام بحق تقرير المصير للشعوب في التراجع حتى قبل وصول ستالين إلى السُلطة، ولم يكن ذلك إلا تحت ضغط دولي على الدولة العمالية الجديدة، والحرب الأهلية الناتجة عنها، وهلاك الطبقة العاملة الروسية. أنشأ الجيش الأبيض التابع للنظام القيصري السابق، والمدعوم من الدول الإمبريالية، قواعدًا في المستعمرات الروسية السابقة لشن هجمات على الدولة العمالية. وهكذا كانت بولندا تُستخدم كقاعدة لتنظيم قوى الثورة المضادة.
وبناءًا على قرار عسكري خاطئ في 1920، لاحق الجيش الأحمر التابع للحكومة العمالية الروسية الجيش الأبيض في بولندا في محاولة لهزيمته وبناء جسر للعمال الثوريين في ألمانيا. وحتى لو كان البولنديين ضد الثورة المضادة التي يقودها الجيش الأبيض، فقد اعتبروا مسيرة الجيش الأحمر إلى وارسو بمثابة غزو لبلادهم، في تناقض تام مع الالتزام المعلن بالاعتراف بالحق في تقرير المصير.
من خلال هذه النقطة، ظهر اتجاهين متناقضين. من ناحية، حاول المؤتمر الذي عُقد في باكو تنظيم ومواصلة النضال من أجل التحرر القومي، ومن جهة أخرى، خلق توتر الحرب الأهلية ضغطًا على القادة الثوريين وجعلهم ينتهكون بعضًا من مبادئ ثورة أكتوبر – من بينها حق تقرير المصير.
بحلول عام 1922، جرد ستالين – الذي وصل إلى مناصب قيادية، خاصة بعد إصابة لينين بسلسلة من الجلطات – العديد من الجمهوريات المستقلة حديثًا، مثل جورجيا، من استقلالها الحقيقي. أعاق المرض لينين في معركتة السياسية الأخيرة ضد انحطاط البلاشفة في عدم التزامهم بحق تقرير المصير.
واصل ستالين الحديث عن التحالفات مع “البرجوازية الثورية” للدول المستعمرة (مثل الصين في ذلك الوقت). لكن هدفه في هذه الحالات هو إخضاع مصالح العمال في البلدان الفقيرة للبرجوازية المحلية. في الصين، دفع عشرات الآلاف من أعضاء الحزب الشيوعي من أجل هذا حياتهم عندما انقلب القادة القوميون على حلفائهم الشيوعيين، وحطموا تنظيم العمال.
وفي غضون ذلك، أعاد ستالين ونظامه تجميع القطع القديمة من الإمبراطورية القيصرية وفرض – بتكلفة بشرية هائلة – سيطرة “روسيا العظمى” على عدد كبير من الشعوب المضطهدة. ومع ذلك، تؤكد مبادىء الثوريين الروس على أهمية المسألة القومية في النضال من أجل الاشتراكية – والتزامنا بالنضال ضد كل أشكال القمع.

6- الثورة تتوطد

بقلم: بول داماتو

ترجمة: محمود نبوي

خلقت ثورة فبراير حكومتين في روسيا. إحداها كانت رسمية، وهي الحكومة المؤقتة التي سيطر عليها الرأسماليون الروس، والذين كانوا يهابون الثورة وعازمون على وضع حد لها في أسرع وقت ممكن. والأخرى غير رسمية، وهي سوفييتات مندوبي العمال والجنود التي مثّلت أعماق المجتمع الروسي في الثورة.
اعتقد الاشتراكيون المعتدلون – المناشفة والاشتراكيين الثوريين – أن هاتين المؤسستين يمكنهما التعايش سويًا. وبالفعل بعد ثورة فبراير، أصروا على تولي البرجوازية السلطة وليس السوفييتات. وعلى الرغم من أن السوفييتات كان أقوى من الحكومة المؤقتة بكثير، أصروا على ضرورة خضوع الأولى للأخيرة.
كان القطبان متناقضين؛ فالأول يمثل مصالح الرأسماليين وملاك الأراضي، والآخر يعبر عن مصالح الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء. في وقت من الأوقات، كان لابد أن ينتصر أحدهما على الآخر.
الحزب البلشفي فقط هو من أبرز تلك الحقيقة بوضوح وصراحة. أعلن تروتسكي في خطابه الأول في السوفييت لدى عودته إلى روسيا في مايو بشكل واضح (على الرغم من أنه لم يكن في ذاك الوقت عضوًا في الحزب) رسالة البلاشفة للعمال والشعوب المضطهدة في روسيا: “لا تثقوا في البرجوازية، ولا بالزعماء؛ استندوا فقط إلى قوتكم”. أما جميع الأحزاب الأخرى، فقد تحفظوا على موقف البلاشفة لينجوا بأنفسهم أمام الجماهير الروسية.
حتى نيقولاي تشخيدزه، رئيس السوفييت المنشفي، كان قد أعلن في البيان الذي يُلزم السوفييتات بدعم المجهود الحربي أن شعار الثورة هو “يسقط ويلهلم”. في ذلك الوقت، كان الجيش الروسي قد انتهى كقوة مقاتلة. كان الغرض من الترويج للحرب بالنسبة للبرجوازية الروسية وحلفائها الدوليين هو تضييق الخناق على الثورة.
“الشرح بصبر”
بدت خطة لينين للبلاشفة واضحة وبسيطة: “الشرح بصبر” أن على السوفييتات أن تتولى السُلطة، وأن تجربة الجماهير الكادحة من الممكن أن تجذبهم نحو اليسار. أثبت هذا النهج نجاحه بشكل مذهل، وانضم الآلاف من الأعضاء الجدد للحزب. لكن هذه الخطة أيضًا أثارت أسئلة تكتيكية جديدة أصعب تتعلق بعدم تكافؤ الصراع؛ أي كيف يمكن تجنب التحرك السريع للقطاعات الأكثر تقدمًا من الطبقة العاملة والجنود في بتروجراد عن باقي أجزاء البلاد، وبالتالي خلق حالة تجعلهم معزولين ومن السهل سحقهم من قبل الثورة المضادة؟
هذا الخطر خلقته عدة عوامل. أولًا، صارت حامية بتروجراد، ذات الـ300 ألف جندي، أكثر جذرية، حيث عارض الجنود الهجوم العسكري، خاصةً وأنهم كانوا مُعرَّضين للانتقال للجبهة في أي وقت، وشعروا أن عليهم التحرك. ثانيًا، في يونيو إن لم يكن في وقت سابق، ذهب عمال بتروجراد، وخاصة في منطقة فيبورج حيث تتواجد أكبر مصانع في روسيا، لدعم مطالب البلاشفة. والشيء نفسه كان ينطبق على بحارة كرونشتاد وأسطول بحر البلطيق. ثالثًا، كان الأناركيون يحرِّضون بشكل علني على الإطاحة الفورية بالحكومة المؤقتة، وبالفعل كسبوا مؤيدين.
كل هذه العوامل جذبت بلاشفة بتروجراد نحو اليسار وأجبرتهم على التحرك.
كانت النتيجة سلسلة من المظاهرات. واحدة في أبريل، وواحدة في يونيو، وأخرى في يوليو – في كل مرة أكبر، وأفضل تسليحًا وأكثر نضالية. كانت هذه المظاهرات تهدد بالتحول إلى قتال الشوارع كمحاولات سابقة لأوانها للاستيلاء على السلطة في بتروجراد.
كانت المظاهرات ضرورية كأسلوب من أساليب اكتشاف العدو، وحساب موازين القوى. ولكن كان هناك خطر دائم من المواجهات السابقة لأوانها. مرات عديدة، كان لينين واللجنة المركزية البلشفية يتوجهون لتهدئة بعض الأعضاء المتهورين.
دفعت أزمة أبريل زعيم حزب كاديت بول ميليوكوف، الذي صار لاحقًا وزيرًا للحرب في الحكومة المؤقتة، لإرسال مذكرة إلى الحلفاء تؤكد على التزام روسيا بدورها في الحرب. نظم العمال والجنود المسلحون مظاهرة على عجالة في 20 أبريل، شارك فيها نحو 30 ألف شخص، وانتهت باشتباكات مع القوات اليمينية. وعلى سبيل دعم الاحتجاج، أطلقت لجنة بلاشفة بتروجراد شعارات للإطاحة الفورية بالحكومة المؤقتة، بالرغم من الحجة التي قدمها لينين قبل بضعة أيام من تلك الاحتجاجات:
“شعار “تسقط الحكومة المؤقتة” غير موفق في الوقت الراهن، لأنه في حالة عدم دعم… الغالبية العظمى من الشعب للبروليتاريا الثورية، يصبح هذا الشعار عبارة فارغة، أو بموضوعية، يرقى إلى محاولات ذات طابع مغامر”.
انتقد لينين بعد ذلك لجنة بتروجراد على رد فعلها الذي اتجه إلى اليسار أكثر من اللازم في حين لم يكن الأمر يتطلب الدخول في معركة، بل “استطلاع سلمي لقوى العدو”. تسببت أزمة أبريل في تغيير مجلس الوزراء للمرة الأولى، مما أتى بالاشتراكيين المعتدلين بدلًا من ميليوكوف في الحكومة المؤقتة.
لم تكن النتيجة تحول الحكومة المؤقتة نحو اليسار، بل على العكس تمامًا، سقط الاشتراكيون المعتدلون أكثر من أعين الجماهير الذين أدركوا أن حتى مع الاشتراكيين ظلت الحكومة ملتزمة بالحرب ورفض الإصلاح الزراعي.
الوقت لم يحن بعد
في يونيو، كان من الواضح أن البلاشفة حظوا على الأقل على تأييد أغلبية الطبقة العاملة في بتروجراد، بالإضافة إلى عدد كبير من الحشود العسكرية المتمركزة في المدينة. اتفق البلاشفة على أهمية كسب الجنود لصفوفهم – الذين بدون دعمهم لن تنجح الإطاحة الثورية بالحكومة – وأنشأوا تنظيمًا خاصًا (التنظيم العسكري) لإدارة العمل التنظيمي والدعاية بين الحشود.
بمبادرة من التنظيم العسكري، دعا الحزب إلى مظاهرة في 10 يونيو. وعلى الرغم من أن قادة الحزب، مثل لينين، نظروا إلى تلك المظاهرة على أنها فرصة لاستعراض القوى، كان يأمل قادة التنظيم العسكري أن تكون إشارة البدء لمواجهة مسلحة مع الحكومة المؤقتة. ومع ذلك، ألغت اللجنة المركزية المظاهرة حين تقدمت اللجنة التنفيذية للسوفييت بطلب شديد اللهجة لإلغائها – وهي الخطوة التي خلقت الكثير من الغضب في صفوف الحزب.
بعد ذلك، قررت اللجنة التنفيذية للسوفييت الدعوة لمظاهرة خاصة بها يوم 18 يونيو للإعلان عن قوتها أمام الجماهير. كان الاحتجاج ضخم، وقد شارك فيه ما يقرب من نصف مليون متظاهر. ولكن ما حدث هو أن سار قادة السوفييت ومعظم عمال المصانع وأغلبية الحشود العسكرية تحت الشعارات البلشفية – “كل السلطة للسوفييتات”، “فليسقط الوزراء الرأسماليين العشرة”.
أقنعت مظاهرة يونيو قادة التنظيم العسكري أن الوقت قد حان للاستيلاء على السُلطة.
السؤال في ذلك الوقت لم يكن هل من الممكن الاستيلاء على السُلطة في بتروجراد؟ بل كان هل هذا الاستيلاء من شأنه أن يخلق وضع “كوميونة باريس”، في العاصمة التي أصبحت معزولة عن بقية البلاد؟
في مؤتمر التنظيم العسكري يوم 19 يونيو، قال لينين: “إذا كنا الآن قادرين على الاستيلاء على السلطة، فمن السذاجة أن نعتقد أننا سنكون قادرين على الاحتفاظ بها”. وأشار أن الحزب لم يحصل حتى ذلك الوقت على أغلبية ممثلي السوفييتات في بتروجراد وموسكو، ناهيك عن باقي البلاد.
كان الضغط من أجل مظاهرة أخرى عظيما. فقد مُهد الطريق الآن لصدام أكبر بكثير مما كان عليه في أبريل.
وسط صخب كبير من الأحزاب اليمينية والبرجوازية والليبراليين والاشتراكيين المعتدلين، أعلن وزير الحرب أليكساندر كرينسكي عن هجوم عسكري يوم 18 يونيو (سرعان ما انهزم، ولم يمض وقت طويل حتى بدأت القوات الألمانية في الهجوم المضاد).
تحت ضغط شديد من الجنود الذين لا يريدون الذهاب إلى الجبهة، دعا التنظيم العسكري لمظاهرة مسلحة في 3 يوليو. حاولت اللجنة المركزية للحزب البلشفي في البداية وقف الاحتجاجات، ولكن عندما أيقنت أنه سيحدث في كل الأحوال، قررت الانضمام ومحاولة إضفاء طابع سلمي على الاحتجاجات بقدر الإمكان.
كان الارتباك في تحديد هدف المظاهرة واضحًا، ففي الحقيقة لم يكن المشاركون في المظاهرة يمكنهم أن يقرروا ما إذا كانت تلك المظاهرة تهدف إلى الضغط على السوفييتات للاستيلاء على السلطة (موقف اللجنة المركزية)، أو العصيان المسلح للإطاحة بالحكومة المؤقتة (موقف التنظيم العسكري وبحارة كرونشتاد).
في النهاية، أسفرت الاحتجاجات المسلحة الفاشلة عن مقتل المئات. كانت بروفة لثورة أكتوبر، وسمحت للثوار بقياس قدرة العدو وكذلك قدرتهم، لكن النتائج الأوَّلية لشهر يوليو كانت أن بزغت الرجعية وإطلاق موجة من الهجمات على الحزب البلشفي.

7- القمع والانتفاضة

بقلم: بول داماتو

ترجمة: أشرف عمر

مع نهاية يونيو، ضاق الكثير من العمال الروس ذرعًا بالقادة المعتدلين في السوفييت، الذين رفضوا أخذ السلطة من الحكومة المؤقتة، التي شنت من جديد هجومًا عسكريًا كارثيًا، وكانت ترفض اتخاذ خطوة جدية في قضية الأرض، ولم تكن تفعل شيئًا فيما يخص أزمة المجاعة.
يذكر ليون تروتسكي، في “تاريخ الثورة الروسية” أن حتى العمال الذين كانوا أعضاءً في الحزب البلشفي كان صبرهم قد نفذ مع الحزب، متسائلين متى يمكن للحزب أن يتحرك بحسم للتعامل مع الوضع، وبالتالي كانوا سريعي التأثر بالتحريض الفوضوي على التحرك الفوري للإطاحة بالحكومة المؤقتة. أما لينين، وغيره من القيادات البلشفية، فكانوا يصرون على أن التوقيت ليس صحيحًا. كتب لينين في صحيفة البرافدا البلشفية في 21 يونيو: “نتفهَّم مرارتكم، لكن نقول لكم: أيها الرفاق، الهجوم الفوري لن يكون مناسبًا”.
رأى لينين أن الجماهير يجب أن تشعر بفشل الهجوم العسكري قبل اتخاذ أي خطوات أكثر حسمًا. لكن دور التهدئة هذا لم يعتد عليه العمال المناضلون في الحزب، بل لقد اعتبروه فعلًا مقيتًا، وهكذا بدأ الضغط في اتجاه مظاهرة مسلحة في بداية يوليو.
أصرت اللجنة المركزية أولا على عدم تنظيم المظاهرة، ثم أصرت على ألا تكون مسلحةً، لكنها لم تسيطر على مسار الأمور في هذا الشأن. قرر قادة الحزب في نهاية المطاف أن يضعوا أنفسهم على رأس المظاهرة لتوجيهها بقدر الإمكان بغرض تحاشي مواجهة مسلحة. لكن، على صعيدٍ آخر، لم تكن لدى أولئك الذين كانوا يدفعون في اتجاه تنظيم مظاهرة مسلحة – الفوضويين وأعضاء التنظيم العسكري البلشفي على السواء – خطةٌ ملموسة بما هو مستهدف إنجازه من هذه المظاهرة.
كان الفوضوي بليخمان يجادل بأن كل ما في الأمر أن تخرج الجماهير إلى الشوارع وفي أيديها السلاح وستسقط الحكومة المؤقتة، تمامًا كما سقط القيصر في فبراير. فيما رأى الكثيرون هذه الخطوة مجرد احتجاج تهديدي لقادة السوفييت، للضغط على اللجنة التنفيذية للسوفييت وإجبارها على التحرك.
أما ميليوكوف، زعيم حزب الكاديت، فقد ذكر أن عاملًا طويل القامة لوَّح بقبضته في قصر توريد في وجه تشيرنوف، الثوري الاشتراكي والقيادي في السوفييت الذي صار وزيرًا للزراعة في حكومة كرينسكي، صارخًا “خُذ السلطة يابن العاهرة عندما تُقدَّم لك هذه السلطة”.
لكن الكثير من هؤلاء المشاركين أنفسهم كان لديهم آمال وتوقعات ضبابية حول إمكانية ذهاب هذه الاحتجاجات إلى ما هو أبعد من ذلك. كان على تروتسكي أن يَقدُم وينقذ تشيرنوف من القتل على يد مجموعة من البحارة.
اعتبر قادة السوفييت المعتدلين، الذين ظلوا ملتزمين بالتعاون مع الرأسماليين، هذه المظاهرات تطالب بسلطة السوفييت – أي أن يأخذوا هم أنفسهم السلطة بين أيديهم – تهديدًا مريعًا لابد من وضع حدٍ له. وهكذا ذهبوا إلى اتهام البلاشفة بالتآمر ضد الثورة. دافع البلشفي المعتدل كامينيف عن الحزب في السوفييتات، قائلا: “لم نطلق نحن هذا النداء، بل لقد خرجت الجماهير بنفسها إلى الشوارع… وبمجرد أن تخرج الجماهير، فمكاننا بينهم”.
“نصف ثورة”
مع بدء المظاهرات، سار عشرات الآلاف من المحتجين المسلحين تجاه قصر توريد، حيث مقر السوفييت، فيما توجهت كتلٌ من العمال والجنود إلى قصر كشيسينسكايا، الذي اتخذه البلاشفة مقرًا لهم، مطالبين إياهم بإلقاء الخطب. لكن لينين أحبط المحتجين بحثِّهم على الصبر وضبط النفس.
أطلق المحرضون النار على القوزاق وبعض القوات التي كانت قد استُدعيت من الجبهة لقمع المظاهرة، مما أدى إلى تبادل لإطلاق النار بين الطرفين. وبعد سلسلة من الصدامات المسلحة عديمة الجدوى، والتي تضمنت استخدام البنادق الآلية وقنص المتظاهرين من نوافذ أحياء بتروجراد البرجوازية، أصدر البلاشفة نداءً في 5 يوليو لإنهاء المظاهرة. فتفرَّق المشاركون بعدما شعروا أن المظاهرة قد استهلكت نفسها.
لخَّص تروتسكي “التناقض” الكامن في أيام يوليو: “أراد متظاهرو يوليو نقل السلطة إلى السوفييتات، ولأجل ذلك كان على السوفييتات الموافقة على استلامها”، لكن هذا ما لم يحدث. بل على العكس، أظهر يوليو أن “المعتدلين” كانوا أقرب إلى التحالف مع البرجوازية لكسر المبادرة الثورية منهم إلى قبول السلطة. تلك المبادرة التي نادتهم بالاستيلاء على السلطة.
يذكر تروتسكي في “تاريخ الثورة الروسية” أن يوليو كان بمثابة “نصف ثورة”:
“نموذجٌ من أيام يوليو يمكن أن نجده في كل الثورات القديمة، بنتائج غير مُحبذة وأحيانًا كارثية مختلفة – لكن في نفس الإطار العام. هذه المرحلة مُتضمَّنة في الآليات الداخلية للثورة البرجوازية، حيث أن الطبقة التي تضحِّي أكثر من أجل نجاح الثورة وتتولد لديها أكبر الآمال فيها، تجني أقل القليل”.
كان القانون الطبيعي لهذه العملية واضحًا تمامًا. الطبقة المالكة التي تأتي إلى السلطة من خلال الثورة تميل إلى التفكير بأن هذه الثورة قد أنجزت مهمتها بالفعل، وبالتالي يتركز اهتمامها على أن تُظهر للقوى الرجعية أنه يمكن الوثوق بها. تُحفِّز هذه البرجوزاية “الثورية” غضب الجماهير الشعبية بنفس الوسائل التي تسعى بها لنيل رضا الطبقات التي أطاحت بها. يأتي إحباط الجماهير بعد ذلك سريعًا جدًا، حتى قبل أن تهدأ طليعتها بعد النضال الثوري.
يظن الناس أن بضربة جديدة يمكنهم تحقيق، أو تصحيح، ما لم ينجزوه من قبل بما يكفي من حسم، وبالتالي تتصاعد الرغبة في دفعة جديدة تجاه ثورة جديدة، ثورة من دون ترتيب وتجهيز، ومن دون برنامج، ومن دون تقديرٍ للقوى في الواقع، ومن دون حساب العواقب. على الجانب الآخر، تنتظر الشرائح البرجوازية التي أتت إلى السلطة هَبَّة عاصفة من أسفل لتحاول من جديد تصفية الحسابات مع الشعب. هذه هي القاعدة الاجتماعية والنفسية لهذه النصف ثورة المكمِّلة، التي تتحوَّل، في مرات عديدة في التاريخ، إلى نقطة انطلاق لثورة مضادة منتصرة.
السوفييتات والبلاشفة والحملة الرجعية
بدا أن الرجعية قد انتصرت في الأسابيع القليلة التي تلت مظاهرات يوليو، حيث انتشرت حالة من الركود والموات في أوساط العمال والجنود. شُنَّت الكثير من الهجمات السياسية، وحتى بالاعتداءات الجسدية، على الحزب البلشفي وأعضائه، لكنها كانت حملة رجعية شاملة استهدفت اليسار كله. اعتُقل المئات، منهم كامينيف والقيادي البلشفي راسكولنيكوف من كرونشتاد، وغيرهما من القيادات البلشفية.
اختبأ لينين حفاظًا على حياته، وهكذا فعل زينوفيف، فيما اعتُقل تروتسكي أيضًا، وقُتِلَ ناشطًا بلشفيًا بالسيف بعد القبض عليه أثناء توزيعه بعض المنشورات. أُغلِقَ مقر الحزب في قصر كشيسينسكايا، وكذلك أُغلقت مطابعه. كما هوجمت الكثير من مكاتب الحزب المحلية ودُمِرَ ما فيها.
أصدرت اللجنة التنفيذية للسوفييت في الثّامن من يوليو بيانًا تطالب فيه الحكومة بمواجهة كافة التحركات الفوضوية، مُنعت التجمعات في الشوارع، وأُعيدت عقوبة الإعدام داخل الجيش في منطقة الحرب. ومن ثم بدأت قوى اليمين في العمل بشكل مفتوح وبثقة أكبر. والأكثر أهمية من ذلك أن الحكومة قد أصدرت أمرًا لكل المواطنين بتسليم أسلحتهم.
اتُهم لينين بالعمالة لألمانيا، وكانت لهذه الحملة الشعواء تأثيرًا بالأخص بين العمال والجنود الأقل وعيًا. توقف تجنيد الأعضاء للحزب، ولفترة من الوقت استُبعِدَ البلاشفة من ثكنات الجيش. لكن في النهاية، لم تستمر الحملة الرجعية إلا فترة قصيرة، وفي غضون شهر، استعادت الحركة عافيتها بشكل أقوى وأعمق وأوسع. ولأن العمال الروس كانوا مازالوا غير واثقين في الحكومة، وفي نفس الوقت متأهبين لمواجهة وحش الثورة المضادة، رفضوا تسليم أسلحتهم.
كلما زاد خطر الرجعية وتهديدها، زاد ترحيب الجماهير بالبلاشفة باعتبارهم حرَّاس الثورة وجناحها اليساري. وبينما توقف التجنيد إلى الحزب بعض الوقت، فقد الحزب أعدادًا قليلة للغاية من الأعضاء، وعبرت منظمة الحزب هذه الفترة كما هي دون مساس.
أما السوفييتات المحلية، والتي كانت على صلة مباشرة بمزاج وميول القواعد الجماهيرية، فلم تكن مهتمة بمهاجمة البلاشفة، بل ما كان يشغل بالها هو منع الحكومة من نزع سلاح العمال، وإيقاف إرسال الجنود اليساريين إلى الجبهة، ومقاومة إعادة العمل بعقوبة الإعدام في الجبهة، ومواجهة تغلغل اليمين المتطرف. كل هذه الأهداف أدت مرة أخرى، وبشكل مباشر، إلى عودة البلاشفة إلى المشهد، وتقليص مساحات قادة السوفييت المعتدلين، الذين اصطفوا إلى جانب الحكومة المؤقتة بشكل أكثر قوة مما كانوا عليه قبل أيام يوليو.
ومع بداية أغسطس، لاحظ المناشفة والثوريون الاشتراكيون انتقالا جماعيًا لكتلٍ من أعضاء حزبيهما إلى الحزب البلشفي، وفي نفس الوقت مرر عمال السوفييت بأغلبية ساحقة قرارًا ينددون فيه بملاحقة البلاشفة والقبض عليهم. ومرة أخرى، كان نفوذ البلاشفة يتوسع بشكل كبير في حامية بتروجراد العسكرية.
كان لينين نفسه يبالغ في عمق الحملة الرجعية، حيث رأى أن السوفييتات قد استهلكت نفسها كأجهزة ثورية للسلطة، وأن هذه السلطة لا يمكن انتزاعها سلميًّا كما ظن سابقًا. كما طرح أن على الحزب الآن أن يتخلى عن شعار “كل السلطة للسوفييتات”، مجادلا بأن نداء الانتفاضة المقبلة يجب أن يُطلق من خلال الحزب ولجان المصانع.
لم يتفق الكثير من الأعضاء البلاشفة، الأكثر احتكاكًا مع التطورات في بتروجراد، مع طرح لينين هذا. وفي المؤتمر السادس للحزب، في 26 يوليو، طرح إيرينيف، أحد معاوني تروتسكي (كان لا يزال في السجن في ذلك الوقت)، أن شعار “كل السلطة للسوفييتات” كان مناسبًا حتى وإن كانت الانتفاضة ضرورية لتحقيقه، كما أن العمل من خارج السوفييتات، وضدها، سيؤدي إلى الانشقاق بين العمال الثوريين والفلاحين الفقراء الذين يدينون بالولاء للسوفييت.
أما فولودارسكي، أكثر خطباء الحزب شعبية، فقد قال:
“هل نحن بحاجة إلى الحفاظ على شعار “كل السلطة للسوفييتات” بنفس الشكل الذي كان عليه قبل أيام 3 إلى 5 يوليو؟ كلا بالتأكيد… علينا فقط أن نعدِّل في الشعار الذي يؤيده الفلاحون الفقراء والديمقراطية الثورية المنظمة في سوفييتات مندوبي العمال والجنود والفلاحين”.
رأى البلشفي دجاباريدزه، من باكو، الذي انتُخِبَ عضوًا مُرشحًا في اللجنة المركزية، أن على الحزب ألا يساوي بين السوفييتات المحلية في المقاطعات واللجنة التنفيذية للسوفييت. لقد كان صائبًا في طرحه، كما ستثبت الفترة اللاحقة، أن على الحزب ألا يعطي ظهره للسوفييتات، بل أن يحشد الجماهير حول سلطة السوفييت وأن يكسب أغلبية بلشفية فيه.
إلا أن لينين كان، في نفس الوقت، محقًا في إصراره داخل الحزب من أجل إدراك أن السلطة يمكن انتزاعها فقط عن طريق الانتفاضة. وبرغم أن المؤتمر السادس للحزب رفض رسميًا شعار “كل السلطة للسوفييتات” طوال شهر أغسطس (وما يثير السخرية هنا أن هذا القرار قد اتُخِذَ في وقت كان وضع البلاشفة يشهد حالة من الازدهار داخل سوفييتات كثيرة)، إلا أن الشعار قد انبعث من جديد بعد محاولات انقلاب كورنيلوف في نهاية الشهر. كان الجزء المتبقي من مجادلة لينين هو التشديد على أهمية وضرورة إعداد الحزب والطبقة العاملة من أجل الانتفاضة ضد الحكومة المؤقتة، حيث بدا واضحًا أن الحزب يحظى بأغلبية كبيرة بين العمال والجنود والبحارة في بتروجراد وموسكو وغيرها من المدن.

8- كيف هُزم كورنيلوف؟

بقلم: جين روش

ترجمة: أشرف عمر

نمت شعبية الحزب البلشفي بشدة في الفترة خلال أواخر يوليو وأغسطس. حيث وصلت عضوية الحزب في مؤتمره السادس، الذي بدأ أعماله في 26 يوليو، إلى 240 ألف عضو.
ترعرعت هذه الشعبية الكبيرة على خلفية الإحساس المتزايد لدى الجماهير بأن الحكومة الائتلافية الثانية، بزعامة أليكساندر كرينسكي، ليست مستعدة للدفاع عن الثورة في مواجهة اليمين. كان يُنظر لكرينسكي باعتباره يسعى للتوفيق والتصالح مع الجنرالات والرأسماليين، وفي نفس الوقت اعتبر الكثيرون السوفييتات ضعيفة، حيث صار كورنيلوف يسيطر على المزيد من السلطة بين يديه.
بدأت في ذلك الوقت القرارات التي يتخذها البلاشفة ويدافعون عنها تُمرَّر في السوفييتات، وتزايد استيلاء الفلاحين على الأراضي، كما استمر الجنود في الفرار من الجيش بأعداد كبيرة، وتصاعدت نضالية عمال المصانع.
أقلقت هذه التطورات السريعة كلا من الليبراليين والمحافظين في الطبقة الرأسمالية، وكذلك كبار الضباط وكبار ملاك الأراضي. علّق الكثيرون آمالهم على أن يؤدي تحالفٌ بين الأحزاب المعتدلة إلى الحد من الثورة وتوجيهها إلى تشكيل حكومة برجوازية مستقرة. لكن هذه القوى، أيضًا، نفذ صبرها وبدأت في البحث عن حلٍ عسكري. كان زعيم حزب الكاديت الليبرالي، بافل ميليوكوف، قد عبّر عن هذه الرؤية بوضوح في خطابه للجنة المركزية لحزبه، حينما قال إن “علينا ألا نلزم أنفسنا بالثورة بعد الآن، بل على العكس؛ علينا أن نعد العدة لمجابهتها”.
وجد كرينسكي نفسه آنذاك في موضع حرج، فقد خشى أن تؤدي محاولاته القمعية إلى الدفع بالجماهير إلى الشوارع مجددًا، وبالتالي تهديد حكومته بالانهيار، وفي نفس الوقت لم يكن بمقدوره توحيد الحكومة حول برنامج إصلاحي لتهدئة غضب العمال والجنود والفلاحين. لذا فقد حاول الحفاظ على نوعٍ من التوازن الصعب، لكنه وجد نفسه معزولا أكثر فأكثر. من ناحيةٍ، كان هناك البلاشفة الذين تتوطد صلتهم بجماهير العمال والجنود. أما من ناحيةٍ أخرى، فقد كان هناك الرأسماليون وكبار الضباط وكبار ملاك الأراضي الذين سرعان ما أداروا ظهورهم لحكومته.
قوى اليمين تلتف حول كورنيلوف
برزت هذه التطورات بشكل أكثر وضوحًا في مؤتمر الدولة بموسكو، المنعقد في أيام 12 – 14 أغسطس، والذي اعتبره كرينسكي جهازًا استشاريًّا من أجل جلب الدعم. وعلى الجانب الآخر، دعا البلاشفة لإضراب عام احتجاجًا على المؤتمر، وبرغم الاعتراض الذي أبداه سوفييت موسكو، كان الإضراب ناجحًا بشكل كبير. سجّل أحد أعضاء لجنة موسكو البلشفية شهادته عن الإضراب قائلا إنه “بدا مبهرًا. لم يكن هناك أي أضواء، توقفت قطارات الترام، وأُغلقت المصانع والمحال، وكذلك أفنية ومحطات السكك الحديدية، حتى نادلو المطاعم خاضوا الإضراب أيضًا”. أما ميليوكوف، فقد أكد أن “المندوبين القادمين لحضور المؤتمر لم يجدوا قطارات تقلّهم ولا مطاعم يتناولون فيها غداءهم”.
وصف ليون تروتسكي الوضع بأنه “على الرغم من قرارات السوفييتات… اتبعت الجماهير البلاشفة. دخل 400 ألف عامل في الإضراب في موسكو وضواحيها وفقًا لدعوة حزب ظل يتعرض لضربات مستمرة لخمسة أسابيع متتالية، وظل قادته إما في المخبأ أو في السجن”.
سيطرت قوى اليمين على المؤتمر، وظهر الجنرال كورنيلوف كرمز بازغ التفّت حوله هذه القوى. كان كرينسكي نفسه هو من عيَّن كورنيلوف قائدًا للقوات المسلحة في مطلع يوليو، وقد جذب كورنيلوف أنظار اليمين حينما أعاد فرض عقوبة الإعدام في الجيش. لقد رغب أيضًا في تطبيق إجراءات قاسية حتى خارج الجيش، حيث دعا لإعلان الأحكام العرفية في المصانع والسكك الحديدية والمناجم. كانت الجماهير تعتبر كورنيلوف وجهًا للثورة المضادة.
تبنى كرينسكي الإجراءات القاسية التي فرضها كورنيلوف داخل الجيش، لكنه تهرَّب من إطلاق هجمة شاملة على السوفييتات، وهجمة كتلك كان برنامج كورنيلوف يسعى إلى شنها بالفعل. غادر كرينسكي المؤتمر معزولا ومغمومًا، فيما ترك موقفه الوسطي، وفي 17 أغسطس أعطى أوامره لتنفيذ ما يطالب به كورنيلوف من إجراءات وتدابير. وقد مهّد ذلك الطريق للمواجهة بين قوى الثورة وقوى الثورة المضادة.
بدأ كورنيلوف في حشد قواته على الطريق إلى العاصمة بتروجراد، بموافقة من كرينسكي. لكن في اللحظة الأخيرة، أدرك كرينسكي، متأخرًا، أن انتصار كورنيلوف لن يعنيَ فقط هزيمة البلاشفة، بل هزيمة حكومته هو أيضًا. وفي 27 أغسطس، صرَّح بأن كورنيلوف يزحف إلى بتروجراد بغرض فرض الديكتاتورية، كما طالب كورنيلوف بالاستقالة فورًا من منصبه.
مجابهة كورنيلوف
أما بين الجماهير، فقد كانت هناك عملية أخرى قيد الإعداد؛ الدفاع العملي عن بتروجراد من خلال الحراك الشعبي. في 27 أغسطس، عقدت اللجنة التنفيذية للسوفييتات اجتماعًا استمر طيلة الليلة لمناقشة قضيتين أساسيتين: الموقف من حكومة كرينسكي التي تواطئت مع كورنيلوف، والدفاع عن بتروجراد. ومن ثم أنشأت اللجنة التنفيذية جهازًا عسكريًّا دفاعيًّا سُمِّيَ بلجنة النضال ضد الثورة المضادة.
في كل الأحوال، فإن تشكيل البلاشفة تحالف مع الأحزاب التي كانت تطاردهم وتسجنهم، كان يمثل قضية حاسمة. أوضح المؤرخ المنشفي سوخانوف الأمر كما يلي:
“كان على اللجنة، أثناء استعداداتها الدفاعية، أن تتوجه لتحفيز جماهير العمال والجنود. لكن الجماهير، أو القطاعات المُنظَمة منها، كانت مُنظَمة بواسطة البلاشفة، بل وتتبع البلاشفة. في ذلك الوقت، كان البلاشفة يمثلون التنظيم الأكبر والأكثر تماسكًا وانضباطًا، والأكثر اتصالا بالمستويات الديمقراطية الأدنى في العاصمة. من دون هذا التنظيم، لكانت اللجنة عاجزة تمامًا.
من دون البلاشفة، لكان الوقت قد مرَّ فقط ببعض النداءات والخُطب الكسولة من أفواه خطباء فقدوا مصدر سلطتهم. أما مع البلاشفة، كانت اللجنة تحوز القوى الأكبر للعمال والجنود المنظمين تحت تصرفها”.
حينما كان لينين مختبئًا، كتب خطابًا ينصح فيه البلاشفة، قائلا: “سنحارب، سنحارب ضد كورنيلوف، تمامًا كما ستفعل قوات كرينسكي، لكننا لا نؤيد كرينسكي. بل على العكس، نحن نفضح ضعفه. هناك فرق… ينبغي أن تُشن الحرب على كورنيلوف على نحوٍ ثوري، بدفع الجماهير فيها”.
في الأيام الحاسمة، ألقى البلاشفة والطبقة العاملة في بتروجراد بأنفسهم في النضال ضد كورنيلوف. وفي ظل حالة الشلل التي سيطرت على الحكومة الرسمية، صارت لجنة النضال ضد الثورة المضادة مركزًا قياديًّا للدفاع عن بتروجراد، وقد التف حولها حراكًا جماهيريًّا هائلا من أسفل، وانتشرت اللجان الثورية كالنار في الهشيم. وبين 27 و30 أغسطس، صار هناك أكثر من 240 لجنة ثورية في كل أرجاء روسيا، وقد قادت المنظمات المحلية القتال في كل منطقة.
طالب البلاشفة بتسليح العمال، كما شكَّلوا ميليشيات عمالية. كانت هناك طوابير من العمال الراغبين في الانضمام إلى “الحرس الأحمر”، وقد تولى التنظيم العسكري البلشفي تدريبهم وتوزيعهم. أما العمال غير المسلحين، فقد عملوا على بناء المتاريس، وحفر الخنادق، ونصب أسيجة الأسلاك الشائكة على مشارف المدينة.
في مصنع بوتيلوف، عمل العمال ليل نهارٍ للانتهاء من تجهيز الأسلحة التي أُرسلت بعد ذلك لميدان المعركة دون اختبار. نقل عمال التعدين السلاح للميدان وأعادوا ضبطه هناك. كما اضطلع عمال التلغراف والسكك الحديدية بدورٍ حاسم. يصف تروتسكي الأحداث بأن:
“قام عمال السكك الحديدية خلال تلك الأيام بما ينبغي عليهم عمله. استُخدمت أساليب غامضة جعلت قطارات القطعات تغير مسارها، وتسير مبتعدة عن النقاط المُحدَّدة لها. اختلطت الأفواج بفرق لم تكن تابعة لها، وحُشرت وحدات المدفعية في ممرات لا مخرج منها، وفقدت هيئات الأركان اتصالها مع قطعاتها… عمال التلغراف أيضًا كانوا يوقفون أوامر كورنيلوف. كانت المعلومات السيئة بالنسبة للكورنيلوفيين تُطبع فورًا على عدة نسخ، وتُنقل إلى الجهات المُختصة، وتُعلق على الجدران، وتنتقل من شخص إلى آخر”.
علّق تروتسكي أيضًا على ذلك قائلا إن “الجنرالات كانوا قد اعتادوا، خلال سنوات الحرب، على التعامل مع وسائل النقل والاتصالات باعتبارها مسائل تقنية، لكنهم اكتشفوا بعد ذلك أنها مسائل سياسية”.
أُرسلت فِرَقٌ من المحرضين للتحدث علانيةً مع جنود كورنيلوف. أعدادٌ غفيرة منهم لم يُخبروا من قبل لماذا يُرسلون للزحف إلى بتروجراد، وانقبوا على ضباطهم. في واحدة من فِرَق كورنيلوف، رفع الجنود راية مكتوبًا عليها عبارة “الأرض والحرية”، وألقوا القبض على ضابطهم.
هزيمة كورنيلوف
خلال أربعة أيام، آلت مؤامرة كورنيلوف إلى الفشل. تبعثرت قواته، حيث احتل العمال والجنود قلب الثورة المركزي. أوضح تروتسكي الانهيار المدهش لمحاولة الانقلاب كالتالي:
“كان كل من يبني أحكامه على البرقيات والتهاني ومقالات الصحف، يظن أن عدد هؤلاء الأنصار والمؤيدين كبير إلى حد بعيد. لكن الغريب حقًّا هو أنه ما إن حلَّت الساعة المحددة لظهورهم حتى اختفوا.
لم يكمن السبب في أغلب الأحيان في الجُبن الفردي؛ إذ كان بين الضباط الكورنيلوفيين عددٌ كبيرٌ من الشجعان، لكن شجاعتهم لم تجد نقطة استناد. ومنذ اللحظة التي بدأت فيها الجماهير بالتحرك، لم يعد للأفراد المنعزلين أي مجال للمشاركة في الأحداث. ووجد كبار الصناعيين ورجال المصارف والأساتذة والمهندسون، بالإضافة إلى الطلاب والضباط المحنَّكين، أنفسهم مُبعدين، مُختفين، مُدفوعين إلى الخلف. كانوا يراقبون الأحداث الجارية وكأنهم ينظرون إليها من شرفة عالية”.
وصف المؤرخ أليكساندر رابينوفيتش الدفاع عن بتروجراد في مواجهة كورنيلوف بأنه كان انتفاضة جماهيرية عفوية، فكتب أن “من الصعب إيجاد نهوض سياسي موحَّد وعفوي بشكل كبير ومؤثر وأكثر قوة في التاريخ الحديث”. تروتسكي أيضًا وصف الأحداث بأن الطابع الجماهيري والديمقراطي فيها قد تولَّد من جديد:
” ولم تنتظر التنظيمات السوفييتية القاعدية بدورها صدور الأوامر من الأعلى. وتركز العمل الرئيسي في الأحياء. في ساعات الترددات الكبيرة التي عاشتها الحكومة، والمباحثات العقيمة التي قامت بها اللجنة التنفيذية مع كرنسكي، ضمت سوفييتات الأحياء صفوفها وتعاونت فيما بينها، وقررت إعلان عقد اجتماع المناطق بصورة دائمة، وإدخال ممثليه في هيئة الأركان التي شكلتها اللجنة التنفيذية، وخلق مليشيا عمالية، وقيام سوفييتات الأحياء بمراقبة مفوضي الحكومة، وتشكيل مجموعات متحركة مهمتها اعتقال المحرضين المضادين للثورة.
ولم تكن هذه التدابير بمجملها تعني أن سوفييتات الأحياء قررت القيام بجزء كبير من الوظائف الحكومية فحسب، بل القيام بوظائف سوفييت بتروغراد أيضًا. وكان منطق الموقف يفرض على أعلى الأجهزة السوفييتية أن تضغط نفسها لتترك المكان لأجهزة القاعدة. وما أن دخلت أحياء بتروغراد حلبة الصراع، حتى تبدل اتجاه هذا الصراع وحجمه بصورة مفاجئة.
وكشفت التجربة من جديد حيوية التنظيم السوفييتي التي لا تنضب؛ لقد شلت قيادة التوفيقيين هذا التنظيم من الأعلى، فتحرك في اللحظة الحاسمة من الأسفل، بدفع من الجماهير”.
لكن، في خضم هذه الانتفاضة العفوية، كان واضحًا أن المُنظمين البلاشفة جاهزون جيدًا لأخذ المبادرة للدفاع عن الثورة. وكقيادات للطبقة العاملة، فقد اضطلعوا بدورٍ مركزيٍ في توحيد العمال والجنود في الدفاع عن المدينة. ذكر تروتسكي أن “في كل مكان كانت تنشأ اللجان وتُنظَّم من أجل الدفاع الثوري، ولم يكن البلاشفة يمثلون سوى أقلية لدى دخولهم هذه اللجان. لم يواجهوا عراقيل في سعيهم للاضطلاع بدور قيادي فيها… لقد حطموا كافة الحواجز التي تحول بينهم للوصول إلى العمال المناشفة، بالأخص الجنود الثوريين الاشتراكيين”.
حينما زارت مجموعة من البحارى تروتسكي وغيره من الثوريين في السجن، سألوهم ما إذا كان الوقت مناسبًا لاعتقال كرينسكي. جاء الرد: “كلا، لم يحن بعد… ضعوا البندقية على كتف كرينسكي، وأطلقوا النار على كورنيلوف. وسنسوّي الحسابات مع كرينسكي فيما بعد”.
مع هزيمة كورنيلوف، واجهت الطبقة العاملة الحية والمنظمة، والتي تضاعفت راديكاليتها، قضية اتجاه وأهداف الثورة. خلال الأزمة، لم ينفك البلاشفة عن الإشارة إلى أن كرينسكي هو من رصف الطريق أمام كورنيلوف. الكثير من العمال والجنود رأوا بأم أعينهم أن البلاشفة هم من دافعوا عن المدينة بكل حيوية وحزم.
في الأوّلِ من سبتمبر، اليوم الذي اعتُقل فيه كرينسكي، أصدر سوفييت بتروجراد لمندوبي العمال الجنود قرارًا يدعو فيه لانتقال السلطة إلى البروليتاريا الثورية والفلاحين ولإعلان جمهورية ديمقراطية. صار الطريق الآن مفتوحًا أمام المرحلة الأخيرة والنهائية للثورة.

9- الحزب والثورة

بقلم: بول داماتو

ترجمة: أشرف عمر

كانت روسيا أول بلدٍ، بل البلد الوحيد، الذي نجح في إنجاز ثورة اشتراكية؛ أي مجتمع يقبض فيه الناس العاديون بأيديهم مقاليد السلطة.
لهذا السبب وحده، لا يمكن أن يسمح حُكَّام العالم الرأسماليين للثورة الاشتراكية أن تنهض على هذه الأسس، وبالتالي فهم يقدمون ما لحق بالثورة فيما بعد من تدهور وتحلل إلى البيروقراطية واستبداد حكم الحزب الواحد، كدليل يثبتون به أن الفشل كان مصيرٌ محتمٌ على الثورة.
هذا ما تهدف إليه المئات من الدراسات التي أعدها “الخبراء” المتخصصين في الشئون الروسية، الذين يصوّرون لينين والحزب البلشفي كاستبداديين قساة لا يرحمون. وفقًا لأغلب هذه الدراسات، لم تنخرط الجماهير في الثورة لتقرير مصيرهم بأنفسهم، بل كان الأمر محصورًا بين يدي حفنة من الأفراد الذين عكفوا على استغلال الغضب الجماهيري وتسخيره لخدمة أغراضهم. هذا الإطار العام، في الحقيقة، يخدم غرضين اثنين؛ فهو أولا يُعلي من دور الأفراد في صناعة التاريخ، وثانيًا يقلل في نفس الوقت من دور العمال العاديين الذين يُعتبرون وفقا لهذا المنظور مغفلين وسُذَّج.
صُوِّرَ لينين كمجنون أخرق، مارس ديكتاتورية الفرد الواحد برغبة محمومة لا تُقاوم في السلطة. المؤرخ روبرت باين، على سبيل المثال، كتب عن لينين على نحو سخيف أن “رغبته الجنونية في السلطة تشبه رافعة عملاقة يحاول بها قذف العالم كله في مدار يروق له، لكن لأنه ضغط بشدة على الرافعة، لا تزال الأرض ترتعد”.
الحقيقة أن الحزب البلشفي صار حزبًا جماهيريًّا في مجرى الثورة نفسها، حيث حاز ولاء العمال الأكثر نضالية. وبعكس ما يُقال بأن الحزب لم يكن سوى ذراعًا للينين، شكَّلَ البلاشفة حزبًا حيًّا بالنقاشات والخلافات، بكُتل وقطاعات مختلفة تتجادل فيما بينها حول مسارات الثورة.
بالتأكيد كان لينين القيادي الأكثر تقديرًا في الحزب، لكنه كان تقديرًا مُكتسبًا من دوره كمُنظِّر وقيادي عملي، وليس بالتنويم المغناطيسي واقتياد الحزب. كان لينين بالفعل أحيانًا ما يجد نفسه في موضع الأقلية، وبالتالي كان عليه أن يناضل من أجل كسب الحزب. والأكثر من ذلك أن في عددٍ من الحالات، جانب الصواب بعضًا من وجهات نظر لينين في قضايا تكتيكية، وما كان من الحزب إلا أن يرفضها أو يصوّبها.
حينما عاد لينين إلى روسيا في أبريل 1917، اعتبر البلاشفة رؤيته – بأن تنتقل كل السلطة إلى أيدي السوفييتات – غير ملموسة بالمرة، بل وحتى رؤية فوضوية. لقد تطلب الأمر منه أسابيع من الجدال المرير لكسب الحزب إلى وجهة نظره. كان على لينين أيضًا أن يناضل بكل إصرار لإقناع الحزب بضرورة الإعداد للانتفاضة فور ما حاز البلاشفة الأغلبية في سوفييتيّ بتروجراد وموسكو.
على الجانب الآخر، ثَبُتَ أن لينين كان على خطأ بعد أيام يوليو حينما رأى أن السوفييتات صارت وقتها مؤسسات مفلسة. أما الحزب، فبرغم أنه صوّت لرفض شعار “كل السلطة للسوفييتات”، إلا أنه لم يرفض الشعار على المستوى المحلي على الإطلاق.
كان لينين أيضًا على خطأ عندما رأى أن الانتفاضة لابد أن تبدأ من موسكو، في حين كان بتروجراد القلعة الثورية الأكبر في روسيا، وكذلك في إصراره على ضرورة أن تُنظَّم الانتفاضة بواسطة الحزب البلشفي في استقلال عن السوفييتات. استطاع قادة آخرون، مثل ليون تروتسكي، أن يرسموا مسارات أفضل في هذه القضايا.
حزب ديمقراطي
تتغافل الحجة القائلة أن البلاشفة “عرقلوا” الثورة عن حقيقة أن الحزب البلشفي كان فقط واحدًا من ضمن أحزاب سياسية كثيرة تتنافس على تأييد الشعب الروسي لها. تمكن البلاشفة من كسب التأييد الجماهيري من الثوريين الاشتراكيين والمناشفة، لكن ذلك لم يكن بسبب قواهم الخارقة في الإقناع أو امتثالهم الأعمى للأوامر، لكن بسبب برنامجهم. كان الحزب البلشفي هو الحزب الوحيد الذي طالب بالأرض للفلاحين والمصانع للعمال وكل السلطة للسوفييتات وبإنهاء الحرب.
كتب المؤرخ أليكساندر رابينوفيتش ذات مرة أن “كل المجموعات السياسية الكبرى فقدت مصداقيتها بسبب تعاونها مع الحكومة وإصرارها على التضحية بصبر لصالح المجهود الحربي”. باختصار، بينما لعبت الأحزاب الأخرى دور كوابح الثورة، أراد البلاشفة استكمالها حتى النهاية.
في نفس الوقت، لم يكن الحزب يهدف إلى شكل من أشكال انقلاب الأقلية على الحكومة المؤقتة بزعامة كرينسكي. عمل لينين وقادة الحزب الآخرين على كبح جماح الحركة حينما رأوا أن تمردًا غير ناضج كان يهدد الحركة كلها بالهزيمة. حريٌ بنا أن نتذكر أن موقف لينين كان أن على الحزب أن “يشرح بصبر” مطالبه ويكسف أغلبية الطبقة العاملة قبل المضي قدمًا في أي خطوة حاسمة ضد الحكومة المؤقتة.
كانت قيادة لينين الجريئة والحازمة، وكذلك وحدة وانضباط الحزب البلشفي مقارنةً بالأحزاب السياسية الأخرى، عوامل هامة في نجاح الثورة. لكن هذه الوحدة وهذا الانضباط لم يكونا بيروقراطيَين، بل عضويَين وسياسيَين. كان الحزب يتناقش ويصوّت على كل القضايا الرئيسية التي تواجهه، فيما كان للمنظمات المحلية قدر كبير من حرية التصرف في المبادرات المستقلة.
يُعزي رابينوفيتش قدرًا كبيرًا من نجاح الحزب البلشفي في التحول من حزب ذي 25 ألف عضو في ذروة ثورة فبراير إلى حزب جماهيري قادر على قيادة النضال بنجاح إلى السلطة بعضوية تصل إلى ربع مليون، إلى “الهيكل الداخلي الديمقراطي والقادر على التحمل للحزب، وأسلوب العمل، وكذلك الطابع المنفتح والجماهيري بشكل أساسي له”.
فُرضَت الأشكال التآمرية السرية للمنظمات البلشفية التي سبقت الفترة الثورية كضرورة على كافة الأحزاب غير الشرعية كنتيجة لظروف القمع القيصري. كان البلاشفة بالفعل على استعداد دائم للتحول إلى أساليب تنظيمية ديمقراطية ومنفتحة، حين تسنح الظروف بذلك. هذه الحقيقة البسيطة يتجاهلها عملياً الكثير من المؤرخين.
أما “المركزية الديمقراطية” التي كان يعمل الحزب البلشفي وفقها، فكانت تُطبَّق بالضبط كما يعني المصطلح: حرية النقاش، ممزوجة بالالتزام التام بالقرارات فور اتخاذها. هذا ما منح الحزب قدرته على “قراءة” ما يجري في المسارات المختلفة للنضال، وتعميم الخبرات عليها وإرشادها. الديمقراطية من دون مركزية ليست إلا منتدى للنقاش، والمركزية من دون ديمقراطية ليست إلا بيروقراطية تعزل القيادات عن القواعد. وكما كتب تروتسكي، فإن:
“كيف لمنظمة ثورية حقيقية، تضع نصب عينيها مهمة الإطاحة بالعالم، وتوحيد الثوار والمناضلين والمتمردين تحت رايتها، أن تحيا وتتطور دون صراعات فكرية، دون مجموعات وتشكيلات مؤقتة لكتل داخلية؟
تستند اللجنة المركزية إلى هذا التأييد الديمقراطي العارم. تشتق من هذا التأييد الجرأة على اتخاذ القرار وإعطاء الأوامر. دقة وصواب القيادة في كل المراحل الحرجة هما ما يمنحا هذه القيادة السلطة الأعلى وهي رأس مال المركزية الذي لا يُقدَّر بثمن”.
أوضح رابينوفيتش ذلك في كتابه “البلاشفة يصلون إلى السلطة”، بالتفصيل، قائلا إن “كانت النقاشات المستمرة والحرة الحية تسود منظمة الحزب البلشفي في بتروجراد، في كل مستوياتها عام 1917، حول القضايا النظرية والتكتيكية الأساسية”، وأن الحزب قد تمكن من جذب التيارات الوسطية والمعتدلة داخله إلى اليسار. “القادة الذين كانوا يختلفون مع الأغلبية، كانت لديهم الحرية في النضال من أجل كسب الآخرين لوجهة نظرهم، وفي كثير من الحالات كان لينين ينهزم في هذه الصراعات”.
حزب جماهيري
مما يثير العجب لدى أغلب المعلقين البرجوازيين أو الفوضويين أن الطابع المنفتح والديمقراطي للحزب البلشفي كان ناتجًا عن التزامه بالتحرر الذاتي للطبقة العاملة.
عادةً ما تُقدَّم فكرة لينين وإصراره على بناء حزب منضبط من الثوريين وكأنها ناتجة عن “عدم الثقة” في الإمكانيات الثورية للطبقة العاملة. بينما، في الحقيقة، بنى لينين حياته السياسية بأكملها على أساس الافتراض الذي أُطَق في السنوات الأولى للحركة الماركسية الروسية، والذي يقول إن “الحركة الثورية في روسيا لا يمكنها إحراز النصر إلا كحركة ثورية للعمال”.
لم يكن المؤرخ المنشفي، نيقولاي سوخانوف، بالطبع مؤيدًا للبلاشفة في 1917، لكنه شهد الحزب وراقبه عن كثب يقود وهو يمهِّد الطريق لثورة أكتوبر، وقال واصفًا الترابط الوثيق بين الحزب والطبقة العاملة إن:
“كان البلاشفة يعملون بعزم وعناد دون توقف. كانوا بين الجماهير، على الطاولات في المصانع، كل يوم دون توقف. عشرات المتحدثين، كبارًا وصغارًا، كانوا يلقون الخطب في سان بطرسبورج، في المصانع والثكنات، كل يوم.
كانت الجماهير تعتبر البلاشفة منهم بالفعل، لأنهم كانوا معهم دائمًا، يأخذون زمام المبادرة دومًا، سواء في التفاصيل أو في الأمور الهامة في المصانع والثكنات. لقد صاروا يمثلون الأمل الوحيد… لقد عاشت الجماهير وتنفست مع البلاشفة”.
يبدو أن سوخانوف لم يفهم أن البلاشفة أنفسهم كانوا عمالا؛ عمالا قياديين على الأرض في النضالات اليومية. لم يهبط البلاشفة على العمال بالمظلات والمناطيد، بل كانوا بينهم بالفعل.
في وقت مبكر، وتحديدًا في يونيو 1917، هيمن المندوبون البلاشفة على لجان المصانع. لم تكن الطليعة البلشفية نخبة معزولة، بل كانوا عمالا مناضلين منظمين صُقِلوا بالخبرات والسياسات المشتركة، وتطوروا خلال تفاعلهم مع زملائهم العمال.
إنّ أحد الدروس التي تقدمها لنا الثورة الروسية أن العمال يمكنهم السيطرة على مقاليد المجتمع وأن الثورات يمكن أن تنتصر. بالطبع هناك درسٌ آخر تقدمه لنا ثورات أخرى هُزمت من قبل (1905 في روسيا، أو 1919 – 1923 في ألمانيا، على سبيل المثال)، وهو أن الانتصار ليس مضمونًا. درسٌ آخر لا يقل أهمية هو أن الثورات يمكن أن تنتصر، كما حدث في روسيا، فقط حينما يكون للطبقة العاملة حزبها الثوري الذي يرشد طريقها إلى السلطة.

10- الفصل الأخير للثورة
بقلم: ميشيل بولينجر
ترجمة: أشرف عمر
مهّد الانتصار على محاولة انقلاب الجنرال اليميني كورنيلوف، في نهاية أغسطس، الطريق للفصل الأخير من الثورة. أما الحكومة المؤقتة، فقد صار العمال الروس يرونها متواطئة أكثر فأكثر. استكمل كرينسكي الحرب وكان متواطئًا في المقام الأول في تعيين كورنيلوف في موضع سلطة في البداية.
لكن الأحزاب الاشتراكية “المعتدلة” (المناشفة والثوريين والاشتراكيين)، برغم أن اشتراكهم وتعاونهم مع الحكومة المؤقتة كان من شأنه أن يشوّه سمعتهم وينال من مكانتهم، كانوا لا يزالوا محتفظين بتأييد قطاع واسع من العمال والجنود والفلاحين. على العكس، حظى البلاشفة بنفوذ أكبر بين الجماهير بسبب الدور الحاسم الذي اضطلع به أعضاؤهم في إلحاق الهزيمة بكورنيلوف والتزامهم الشديد بالدفاع عن السوفييتات. وبحلول سبتمبر، صاروا يمثلون الأغلبية في سوفييتات بتروجراد وموسكو وغيرها في أرجاء روسيا، وانتُخب ليون تروتسكي رئيسًا لسوفييت بتروجراد.
كتب المؤرخ أليكساندر رابينوفيتش أن “المزاج الجماهيري لم يكن على وجه التحديد بلشفيًا بمعنى أنه يعكس رغبة في حكومة بلشفية… وخلال المجريات السياسية فيما بعد هزيمة كورنيلوف، انجذب العمال والبحّارة أكثر من أي وقتٍ مضى نحو هدف تأسيس حكومة سوفييتية توحد كل القطاعات المشاركة في السوفييتات. كان البلاشفة يبزغون في أعينهم مناضلين من أجل السلطة السوفييتية، من أجل الديمقراطية السوفييتية”.
الوضع غير المستقر بطبيعته للسلطة المزدوجة، حيث السوفييتات على جانب، والحكومة المؤقتة على الجانب الآخر، كان لابد له من حل. وصف تروتسكي هذا الوضع باعتباره “قضية أن ينتفض أحد طرفيّ السلطة المزدوجة على الآخر”.
الطريق نحو الانتفاضة
صار شعار “كل السلطة للسوفييتات” بشكل واضح، إن يكن بشكل كامل تمامًا، يمثل تطلعًا للعمال والجنود والكثير من الفلاحين الروس. لكن ذلك لم يكن هدفًا للأحزاب الاشتراكية الروسية – المناشفة والثوريين الاشتراكيين، وحتى بعض البلاشفة الذين كانت لهم رؤية ضبابية حول ضرورة بناء حكومة اشتراكية ائتلافية واسعة لإنجاح حكومة كرينسكي المؤقتة.
بحلول منتصف سبتمبر، توجه البلاشفة للتأثير في مؤتمر الدولة الديمقراطي، ذلك الكيان الذي أسسه القادة المناشفة والثوريون الاشتراكيون لمنافسة مؤتمر سوفييتات عامة روسيا. كان من المفترض أن يمهِّد مؤتمر الدولة الديمقراطي الطريق أمام برلمان يمثل كل الطبقات في روسيا، وقد ترأس كرينسكي جلسته الافتتاحية.
لكن بالنسبة للينين، كان هذا التوجه خاطئًا تمامًا، فقد رأى أن البلاشفة بذلك يهدرون فرصة لن تتكرر للتجهيز للإطاحة بكرينسكي واستيلاء السوفييتات على السلطة. لقد شنَّ حملة داخل الحزب – أولًا داخل قيادة الحزب، ثم بعد ذلك على مستوى القواعد – لاتخاذ خطوات فورية لتنظيم الانتفاضة. أما الإحجام عن تبني دعوة لينين، فقد جاءت بسبب الخوف من أن يكرر البلاشفة تجربة أيام يوليو، حيث أن تحركات في ظرف لم ينضج بعد ستؤدي إلى نتائج معاكسة.
لكن لينين أصر على أن الموقف قد اختلف بالفعل، وكتب في نداء عام:
“أيها الرفاق، انظروا حولكم، انظروا ماذا يحدث في الريف، انظروا ماذا يحدث في الجيش، وستجدون أن الفلاحين والجنود لا يطيقون الأوضاع أكثر من ذلك… اذهبوا إلى الثكنات، اذهبوا إلى وحدات القوزاق، اذهبوا إلى العمال واشرحوا لهم الحقيقة. إذا آلت السلطة إلى أيدي السوفييتات، فستكون هناك حكومة عمال وفلاحين في روسيا، ستعرض على الفور، دون تأخير ولو يوم واحد، سلامًا عادلًا لكل الشعوب المتحاربة… إذا آلت السلطة إلى أيدي السوفييتات، ستُعلن أراضي كبار المُلاك ملكية جماعية للشعب… كلا، لن يعاني الناس التأخير والتأجيل ولو ليوم إضافي واحد”.
اجتمعت اللجنة المركزية للحزب البلشفي في 10 أكتوبر، وكانت تلك المرة الأولى التي ناقش فيها لينين رفاقه وجهًا لوجه في الوضع الجديد. أصر لينين على أن “الوضع السياسي ناضجًا تمامًا لنقل السلطة”، وحظى طرحه بأن الاستيلاء على السلطة هي “قضية اليوم” بعشرة أصوات مقابل اثنين. لكن النقاشات استمرت مع اثنين من الرفاق كانا أكثر من عاوناه لفترة طويلة، جريجوري زينوفيف وليف كامينيف، اللذين عارضا قرار الانتفاضة. كان الرجلين متشككَين في قوة البلاشفة من ناحية، وضعف الحكومة المؤقتة من ناحية أخرى.
رأى زينوفيف وكامينيف أن على الحزب أن يحافظ على “موقفٍ دفاعي” ويستكمل خططه في العمل داخل جمعية تأسيسية كان كرينسكي قد وعد بانعقادها. كان منظورهم لسلطة الطبقة العاملة أن على “السوفييتات أن تكون مسدسًا موجهًا إلى رأس الحكومة، بمطلب عقد الجمعية التأسيسية، وأن تتصدى للمؤامرات الكورنيلوفية”.
أجاب لينين: “هل ثمة مسدس يعمل من دون طلقات؟ إذا كان المسدس يضرب الطلقات، فهذا لا يعني، من زاوية الإعداد التقني للانتفاضة، إلا شراء الطلقات وتجهيزها، وحشوها في المسدس – الطلقات وحدها لن تكون كافية”.
أثبت لينين صحة طرحه بضرورة الإعداد للانتفاضة، لكنه كان مخطئًا في تصور كيفية حدوثها، سواء في جداله بأنها يجب أن تنطلق باسم البلاشفة نيابةً عن السوفييتات، أو في اقتراحه أن تبدأ من موسكو. أما تروتسكي وبعض القادة البلاشفة، فقد مكّنهم وضعهم بشكل أفضل من إدراك أن تأييد البلاشفة إنما هو ناتجٌ عن إخلاصهم للسوفييتات وللسلطة السوفييتية. لقد بدأوا في تطوير استراتيجية للإعداد للانتفاضة تستفيد من قوة السوفييتات نفسها.
أنشأ سوفييت بتروجراد لجنة ثورية عسكرية لتنظيم الدفاع عن الثورة. وفي ظل قيادة تروتسكي، بدأت اللجنة في التصدي لكل محاولة قمع تشنها الحكومة المؤقتة، ليس فقط للدفاع بل لتوسيع نطاق السلطة السوفييتية.
السوفييتات تنتزع السلطة
جاءت اللحظة الحاسمة في أكتوبر، حينما أعلنت حكومة كرينسكي فجأة عن خطتها لنقل حامية بتروجراد، التي كانت مركزًا هامًا للثورة مثلها مثل مصانع المدينة، إلى الجبهة. كتب رابينوفيتش عن رد فعل الحامية على ذلك أن “القوات ببساطة أعلنت عدم ثقتها في الحكومة المؤقتة، وطالبت بنقل السلطة للسوفييتات”.
أرسلت اللجنة العسكرية الثورية مفوضيها للإحلال محل ممثلي الحكومة في كل وحدات الحاميات، كما أصدرت قرارًا بأن “أي توجيهات للحامية ليس مُوَّقعة باسم اللجنة العسكرية الثورية لا تُعتبر سارية”. تمكن السوفييت من السيطرة الفعلية على القوات المسلحة في بتروجراد بعيدًا عن كرينسكي. وفي هذا الصدد، كتب رابينوفيتش أن ذلك كان بمثابة “نزع سلاح الحكومة المؤقتة دون إطلاق رصاصة واحدة”.
في تلك الأثناء، كان المؤتمر الثاني لسوفييتات عامة روسيا قيد التجهيز، وقد كان البلاشفة واثقين أنهم سيحوزون أغلبية المندوبين. في ذروة المؤتمر، أخرجت الحكومة المؤقتة آخر ما في جعبتها للهجوم؛ فعلى سبيل المثال أمر كرينسكي بأن تُرفع الجسور في وسط العاصمة لتعطيل الحركة – تمامًا كما فعل القيصر أثناء ثورة فبراير.
كان اللجنة العسكرية الثورية تتخذ من معهد سمولني مقرًا لها لتنسيق أعمالها. كان المعهد في الأصل مدرسة داخلية للطالبات، واتُخذ بعد قيام الثورة مقرًا مركزيًا لسوفييت بتروجراد، وكان يتجمع فيه قادة البلاشفة والمجموعات الثورية الأخرى. كتب عنه تروتسكي أنه كان موضع التقاء “المحرضين والمنظمين وقيادات المصانع والمفارز والسرايا والمقاطعات… يتلقون الأخبار عما يحدث ويشرفون على الأنشطة المختلفة ثم يعودون إلى مواقعهم”.
في النهاية، استولى العمال المسلحون والجنود على السلطة ببساطة تثير الدهشة. كتب تروتسكي أن مجموعة من الجنود “كانت قد تولت مهمة السيطرة على محطة قطارات نيقولاييفسكي، في خلال ربع ساعة احتلوا المحطة دون طلقة واحدة”. كافة المباني الحكومية والمحطات والجسور ومراكز الاتصالات احتلتها هي الأخرى كتائب وسرايا ومفارز مشابهة. وبسهولة بالغة، سيطرت مجموعة من 40 بحّار على مبنى بنك الدولة المطل على قناة إيكاترينينسكي.
علّق تروتسكي قائلًا: “أُنجزَت المهمة، لم يكن من الضرورة استخدام القوة، فلم تكن هناك ثمة مقاومة. رفعت الجماهير المنتفضة أذرعها لتزيح سادة الأمس جانبًا”.
في 25 أكتوبر، استولت فِرَقٌ من العمال المسلحين على قصر الشتاء، حيث كان يتحصّن كرينسكي ومسئولون مرموقون آخرون في الحكومة المؤقتة. كان كرينسكي نفسه قد لاذ بالفرار قبل ذلك بعدة ساعات، بينما أُلقيَ القبض على الوزراء المتبقين دون قتال.
وأثناء نقله إلى زنزانته في قلعة تروبيستسكوي، اكتشف أليكساندر كونوفالوف، وزير التجارة والصناعة في حكومة كرينسكي، “فجأة أن ما من سجائر معه، فطلب من البحّار المرافق له، بخجل وحذر، سيجارة. لم يعط البحّار له ورقًا وتبغًا فقط، بل حين رأى ما بدا عليه من ارتباك، لف له السيجارة جاهزة للتدخين”.
مع كل خطوة خطتها الجماهير الروسية في طريق تحررها، كانت تفضح التهديدات الفارغة التي أطلقتها البرجوازية، والاشتراكيون المعتدلون أيضًا مثل المناشفة، حيث حذروا من الفوضى التي ستعم البلاد. حتى تقارير الشرطة تلك الليلة أشارت إلى غياب تام لأي شكل من أشكال الفوضى.
في صباح اليوم التالي، انعقد المؤتمر الثاني لسوفييتات عامة روسيا، وأصدر مرسومًا بنقل السلطة للسوفييتات. أُسقطت الحكومة المؤقتة، وصار شعار “كل السلطة للسوفييتات” – التجسيد العملي لحكم الطبقة العاملة الديمقراطي – واقعًا حقيقيًا.

11-تراث 1917

بقلم: آلان ماس

ترجمة: أشرف عمر

شنت اللجنة العسكرية الثورية التابعة لسوفييت بتروجراد، ليلة 24 أكتوبر، الانتفاضة التي أزاحت كافة بقايا وآثار سلطة الحكومة المؤقتة. وحينما انعقد مؤتمر سوفييتات عامة روسيا في صباح اليوم التالي، بمندوبين من كل أرجاء روسيا، كان البلاشفة يمثلون حزب الأغلبية بـ 390 مندوبًا من إجمالي 650 في افتتاح أعمال المؤتمر.
ثاني أكبر حزب كان الثوريون الاشتراكيون، بما يقرب من 200 مندوبًا أغلبيتهم من الجناح اليساري للحزب الذي أيّد الانتفاضة. أما المناشفة، الذين شاركوا في الحكومة المؤقتة بزعامة أليكساندر كرينسكي، فكان لهم 80 مندوبًا فقط. الأحزاب الأكثر اعتدالًا تحدت موقف البلاشفة بأن على السوفييتات أن تمسك بين أيديها كل السلطة في روسيا. واحدٌ من القرارات المنشفية كان ينص على أن “المؤامرة العسكرية للبلاشفة… سوف تُغرق البلاد في شقاق مدني… وتؤدي إلى انتصار الثورة المضادة”.
بعد الرد على كافة أطروحاتهم وهزيمتها، غادر المناشفة المؤتمر، جنبًا إلى جنب مع الجناح اليميني من الثوريين الاشتراكيين. هذا الزعم بأن البلاشفة كانوا قد نفذوا انقلابًا صار بعد ذلك مشتركًا في التأريخ للثورة، في حين أن أغلبية الناس في روسيا في ذلك الوقت، بما فيهم معارضي وخصوم البلاشفة، أدركوا الأمر على نحو مختلف.
على سبيل المثال، أصرَّ المنشفي نيقولاي سوخانوف، الذي أرَّخ للثورة الروسية، على أن “التحدث عن مؤامرة عسكرية بدلًا من انتفاضة على المستوى القومي اتبعت فيها الأغلبية الساحقة من الشعب البلاشفة، حينما ظفر الحزب فعليًا بكل السلطة، لهو حقًا أمر سخيف”. ما تلى أعمال مؤتمر السوفييتات، الذي قادته الأغلبية البلشفية، أكد أيضًا على الطابع الشعبي لثورة أكتوبر.
حينما ظهر لينين في اليوم التالي، بدأ حديثه ببساطة بالتصريح التالي: “سنبدأ الآن في بناء النظام الاشتراكي”. أما الأيام اللاحقة، فقد شهدت الكثير من القرارات والمراسيم التي لم تقل، بل تجاوزت وتفوَّقت على الإنجازات السياسية لأي بلد في العالم في ذلك الوقت.
صوّت المؤتمر لصالح تنسيق السيطرة العمالية عبر لجان مصنعية مُنتَخبة، كما أصدر مرسومًا بإلغاء ملكية الأرستقراطيين وتوزيعها على الفلاحين. أُمِمَت البنوك الروسية، وأُلغيَت إمبراطورية القيصر الاستعمارية لإعطاء الأمم المقهورة التي خضعت لسيطرتها الحق في تقرير المصير. تم الاعتراف أيضًا بالحق في اعتناق الأديان المختلفة، وممارسة شعائرها، أو عدم اعتناق أي دين على الإطلاق.
وكبداية لتأسيس القاعدة المادية لمجتمع المساواة، مُنحت المرأة كافة حقوق الطلاق، وشُرِّع الإجهاض وفق الطلب، كما أُلغيت القوانين التي تُجرِّم المثلية الجنسية. كانت تلك فقط هي البداية، فقد وقفت سلطات الدولة الجديدة وراء الجهود الرامية إلى إنشاء مغاسل ومطابخ ومطاعم جماعية، من أجل أن تشارك النساء بشكل كامل في المجتمع، ليس فقط على مستوى القوانين والتشريعات، بل في الواقع الحيّ.
كانت مشاركة روسيا في الحرب العالمية الأولى من أكثر القضايا الملحّة فور انتصار الثورة، وقد صوّت مؤتمر السوفييتات فورًا لصالح إلغاء الديبلوماسية السريّة، ودعا عمال البلدان المتحاربة الأخرى لطلب سلام عادل. وفي غضون أسابيع قليلة، فُتحت المفاوضات مع الحكومة الألمانية.
كان ثمن إنهاء الحرب باهظًا، فقد طالبت ألمانيا بتنازلات هائلة، وقد أثار ذلك نقاشات حادة حول المسار الذي يتوجب على الحكومة العمالية الجديدة أن تتخذه. وقد عمل البلاشفة على تحفيز هذه النقاشات من خلال نشر المواقف المختلفة على أوسع نطاق في كل أرجاء البلاد.
في النهاية، تسيّد موقف لينين، بأن على البلاشفة أن يقبلوا بمعاهدة سلام، مهما بلغت الشروط من إجحاف، وإلا سيفقدون الثورة والدعم المُقدَّم لها. وُقِّعت اتفاقية بريست – ليتوفسك في مارس 1918. فقدت روسيا جزء كبير من أراضيها التي تضمنت حوالي ثُلث السكان، ونصف الصناعة و90% من مناجم الفحم.
برغم ذلك، كان هذا أول نضال في التاريخ تقوده الجماهير العمالية في بلد لإيقاف الحرب التي شنها الحُكَّام. تحقق هدف لينين، وكل البلاشفة، أن تقدم روسيا نموذجًا للجرأة والتحدي لعمال البلدان الأخرى الذين يعانون ويلات الحرب، بحلول نهاية العام، حينما هبَّ العمال والجنود الألمان في وجه قيصرهم.
الثورة والثورة المضادة
على الرغم من ذلك، ما يعرفه أغلب الناس عن الثورة الروسية ليست هذه الإنجازات الهائلة، بل ان الصورة السائدة عن روسيا “الاشتراكية” تتجسّد في دولة “الأخ الأكبر” البوليسية، وعلى رأسها زعماء الحزب وبيروقراطييه. صارت روسيا هكذا بعد خنق الثورة بالحرب الأهلية والتدخل الإمبريالي العنيف والأزمات الاقتصادية المُدمِرة.
لكن هزيمة الثورة الروسية قد اتخذت شكلًا لم يتوقعه أحد، على الأقل الاشتراكيون الذين ساهموا في انتصار 1917. لم ينتج ذلك عن تدخلٍ إمبريالي أو انقلابٍ عسكري ديكتاتوري، بل لقد عاد الحكم الطبقي مفروضًا على الجماهير في ظل بيروقراطية الدولة بزعامة جوزيف ستالين، الذي استمر رغم ذلك في ترديد نغمة الثورة والاشتراكية. لقد استمرت السلطة البيروقراطية في ترديد لغة وتعابير سلطة العمال وليَّها من أجل تبرير الاضطهاد والاستغلال.
ليس ذلك مختلفًا عن بلدان مثل الولايات المتحدة التي تتخفى في عباءة “الديمقراطية” اليوم. إلا أن وحشية روسيا الستالينية تُستخدم دومًا في الجدالات ضد الاشتراكية، حيث يُقال أن كل محاولات تغيير المجتمع جذريًا مُحتمٌ عليها التمخُض عما هو أسوأ. حتى الكثير من الناس، ممن ينتمون إلى اليسار والمتعاطفين مع ثورة 1917، يؤمنون رغم ذلك أن بذور الستالينية إنما كانت كامنة فيما أقدم عليه البلاشفة في ظل لينين من إجراءات.
لذا، فمن المهم لكل من ينظر إلى الثورة الروسية كمثال يستلهم منه الدروس والخبرات أن يصير قادرًا على توضيح كيف انتصرت هذه الثورة المضادة، التي صعدت باسم “الاشتراكية” ثم باسم “الشيوعية”.
الإجابة الرئيسية تكمن في حقيقة أن الاشتراكية ممكنة فقط في ظل الوفرة، أي حينما يكون هناك ما يكفي لتلبية احتياجات الجميع، ويمكن تسخير موارد المجتمع في سبيل تحفيز الحرية والديمقراطية. أما دولة العمال الروسية، فقد تأسست منذ البداية، على النقيض، في ظل حصار لم يكن بمقدورها تجنبه.
خلال أيام الانتفاضة، كان عمال بتروجراد ينظمون عملية الدفاع في مواجهة جيشٌ من الثورة المضادة بقيادة الجنرال بيوتر كراسنوف، الذي كان يسعى لاستعادة كرينسكي مرة أخرى على رأس السلطة. وعلى مدار خمسة أعوام، كانت هناك “جيوش بيضاء” أخرى، بقيادة جنرالات ينتمون للنظام القيصري، تهدد الدولة العمالية. كانت الجيش الأبيض مدعومًا بحكومات 14 دولة إمبريالية ترسل السلاح والعتاد والقوات – حوالي 200 ألف جندي في المجمل – مسانَدةً للثورة المضادة.
لقد كانت روسيا أفقر بلدان أوروبا، بنظامٍ اقتصادي بعثرته الحرب وعبثت به. أغلبية السكان كانوا لا يزالون فلاحين، مربوطين بالأرض، يعيشون حياةً لا تختلف كثيرًا عما عاشه أسلافهم منذ قرون مضت. كان بإمكان العمال الروس الإطاحة بالحكومة المؤقتة، لكن الثورة لم يكن بوسعها الاستمرار حية بمفردها لوقت طويل. كان البلاشفة على قناعة تامة بأن روسيا ستحتاج مساندة ثورة اشتراكية أممية.
كتب لينين: “إننا بعيدين تمامًا حتى عن المرحلة الانتقالية من الرأسمالية إلى الاشتراكية. لم نأمل يومًا في إنجاز الاشتراكية دون دعم البروليتاريا الأممية”. لم يكن ذلك وهمًا أو خيالًا، بل أن الثورة الروسية كانت قد جاءت في ذروة موجة من الانتفاضات التي اجتاحت أوروبا وما وراءها.
في ألمانيا، سقط القيصر في نهاية العام 1918، مما فتح الباب أمام خمس سنوات من الانتفاض كانت السلطة العمالية فيهم احتمالًا وشيكًا. قامت جمهوريات سوفييتية في المجر وبلغاريا، لم تعش طويلًا. كان احتلال المصانع يهز أركان إيطاليا. وحتى في الولايات المتحدة، وقعت مدينة سياتل بين أيدي العمال خلال إضراب 1919 العام.
كان فيكتور سيرج قد كتب في كتابه “العام الأول من الثورة الروسية” أن:
“كانت الصحف مذهلة في تلك الفترة. كل يوم كانت تنشر آخر البرقيات وأحدثها، كانت الإشاعات الغامضة تلتقطها الآذان وتتناقلها الأفواه: تمرد في باريس، تمرد في ليون، ثورة في بلجيكا، ثورة في القسطنطينية، انتصار السوفييتات في بلغاريا، تمردات كبيرة في كوبنهاجن. في الحقيقة، كانت أوروبا برمتها تزلزلها الحركات الجماهيرية، كانت السوفييتات تظهر في كل مكان، حتى في جيوش الحلفاء. كان كل شيء ممكنًا، كل شيء”.
في النهاية، انحسرت الموجة الثورية بدون انتصارات ممتدة مثلما حدث في روسيا. كانت العواقب مُدمِرة، ليس فقط للعمال الألمان، لكن أيضًا لمصير روسيا نفسها.
صعوبات خطيرة
كانت الثورة على وشك الانهيار أثناء الحرب الأهلية. في إحدى مراحل الحرب، أدت هجمات الجيش الأبيض المُعادي للثورة إلى تقليص المساحات تحت سيطرة الدولة العمالية فقط إلى موسكو وما حولها (كانت العاصمة قد انتقلت إلى موسكو في ذلك الحين). لكن انتصر الجيش الأحمر في النهاية بفضل الإخلاص والتضحيات الجمَّة التي قدمها العمال الروس للثورة. انتصر الجيش الأحمر، لكن بعد أن دفع ثمنًا باهظًا، حيث انخفض إنتاج كل شيء في روسيا، من غذاء ومواد أوَّلية وسلع صناعية، إلخ.
تقول بعض التقديرات أن روسيا عانت خلال سنوات الحرب الأهلية تقليص رهيب في وسائل الإنتاج بشكل أكبر كارثية مما شهدته أي بلد أخرى في التاريخ الحديث. أُهلكت الطبقة العاملة الروسية – الطبقة التي صنعت الثورة وقادتها – وتقلّصت أعدادها حرفيًا إلى النصف بعد الخسائر الضخمة التي تكبدتها البلاد في الحرب، وإثر النزوح الجماعي من المدن هربًا من المجاعة.
إلا أن هذه الإحصائية ليست دقيقة في تبيان الاختفاء الرهيب للعمال الواعين طبقيًا والأكثر تقدمًا، فلقد تطوَّع هؤلاء في الجبهة أثناء الحرب الأهلية، أو حُشروا في أجهزة الدولة ليحاولوا يائسين جمع شتات المجتمع الروسي والحفاظ عليه سويًا. لم يكن أي بلشفي يتوقع أن يحل كل هذا، أن يكون ثمن الدفاع الناجح عن الثورة هو تدمير الطبقة التي أخرجتها إلى الحياة.
في ظل كل هذه الضغوط الهائلة، بدأت أواصر ديمقراطية الطبقة العاملة في التمزق. لمدة 18 شهرًا، لم تجرِ أي انتخابات في سوفييت موسكو. في 1919، انقلبت النسبة بين وزنيّ عمال المصانع وموظفي جهاز الدولة، حيث صار العاملين بالدولة أكبر خمس مرات في العدد من العمال الصناعيين. في ظل هذه الظروف، بذل البلاشفة جهودًا كبيرة ومتميزة في إثراء النقاش حول قضايا جوهرية، مثل معاهدة بريست – ليتوفسك، ودور النقابات كما طرحته المعارضة العمالية بزعامة أليكساندرا كولونتاي.
لكن الظروف الموضوعية للحرب والفوضى الاقتصادية دفعت قيادات الثورة في اتجاه مختلف ناتجٍ عن خوفهم الحقيقي من الانتقام البربري للجيش الأبيض إذا استولى على السلطة. وكما كتب المراسل الأمريكي من روسيا آنذاك، ويليام هنري تشامبرلين، فإن:
“تشيرنوف لن يأتي بديلًا عن البلاشفة، إن لم ينجوا من الحرب الأهلية، ليفتتح الجمعية التأسيسية المُنتخبة وقفًا للقواعد الأكثر حداثة للمساواة في حق الاقتراع والتمثيل النسبي، بل سيأتي ديكتاتور عسكري – كولتشاك أو دينيكين – زاحفًا إلى موسكو على حصانٍ أبيض يزفّه رنين أجراس مئات من كنائس العاصمة”.
أو، مثلًا، كما وصف تروتسكي، بأن الجيش الأبيض إذا انتصر، لكان مصطلح “فاشية” ليُقدَّم إلى العالم باللغة الروسية وليس الإيطالية.
لذلك، اضطر البلاشفة لوضع الأولوية القصوى للتصدي للتهديدات العسكرية، على أمل أن تساندهم الثورة في ألمانيا أو في أي مكانٍ آخر. لم يكن هناك متسع لوضع الاقتصاد الاشتراكي قيد التنفيذ، خاصةً وأن الصناعة الروسية كانت في حالة يُرثى لها، مُدمَّرةً بالأزمة التي أعقبت الثورة. بسبب الحرب الأهلية، صارت مركزة الصناعة مسألة حياة أو موت، وقد أدركت لجان المصانع وتقبَّلت الكثير من الإجراءات من أجل ذلك.
المثل بالمثل داخل الجيش الأحمر، كان لابد من ضمان التزام حديدي. خارج الجيش، استنتج البلاشفة أن حتى المظاهر العادية للمعارضة السياسية قد تشكل تهديدًا على حياة الدولة العمالية. وكما كتب المؤرخ إي. إتش. كار، فـ”إذا كان صحيحًا أن النظام البلشفي لم يكن جاهزًا، فيما بعد الشهور القليلة الأولى، لتقبُّل معارضة منظمة، فبالمثل كان صحيحًا أيضًا أن لم تكن هناك أي معارضة جاهزة للظهور في إطار واضح”.
لم يكن هذا ما أراده أيٌ من البلاشفة في تنظيم المجتمع الاشتراكي، ففي كل خطوة كان البلاشفة يتعاملون مع سلسلة لا نهائية من الأحداث الطارئة، فقد كانوا يضطرون بشكل متزايد لخرق الديمقراطية العمالية. كانت هذه هي الظروف التي دفعت لينين ليصف روسيا بأنها “دولة عمالية، لكن مع تشوُّهات بيروقراطية”.
كان لذلك تأثيرٌ لا يمكن تجاهله على قادة الثورة أنفسهم، خاصةً بيروقراطيي الدولة المتحولقين حول جوزيف ستالين، ذلك البلشفي القديم الذي لعب دورًا أقل أهمية في 1917 من أيٍ من قادة الحزب الآخرين. وصف تروتسكي لاحقًا الدور السلبي لأولئك الذين سيطروا على سلطة اتخاذ القرارات للإبقاء على الدولة العمالية، مع اقتران مستقبل الثورة بسلطتهم التي بدت لا تقبل أي تحدٍ:
“لقد أضفت الحرب الأهلية طابعًا لا يزول على الحكومة السوفييتية نفسها، حيث اعتاد الكثير جدًا من المديرين، شريحة كبيرة منهم، على الخضوع غير المشروط لأوامرهم… ليس هناك من شك أن ستالين، مثل آخرين كُثُر، قد تشكَّل وتطبَّع على ظروف وبيئة الحرب الأهلية”.
كل ذلك تولَّد من الظروف الموضوعية للحرب والمجاعة والأزمة الاقتصادية، وليس من أية مؤامرة من البلاشفة “المتعطشين للسلطة” ليحكموا المجتمع. كان ستالين وأعوانه يستخدمون سلطاتهم ويتصرفون، دون وضع ديمقراطية السوفييتات في الاعتبار، لأن السوفييتات نفسها صارت ضعيفة بشكل قاتل. كانت تصرفاتهم تُبرَّر باعتبارها طوارئ مؤقتة، لكن ماذا يحدث حينما تصبح الطوارئ المؤقتة دائمة؟ في النهاية، صار البيروقراطيون حول ستالين يطابقون بين مستقبل الثورة ومستقبلهم هم واستمرارهم هم في السلطة.
البلشفية والستالينية
كان هناك بالطبع اختلافًا نوعيًا بين قيادة الستالينيين الفاسدة على رأس “دولة العمال التي تشوبها التشوهات البيروقراطية”، والنظام الجديد المقبل للحكم الطبقي. فبالنسبة للبيروقراطية الستالينية، فلم يكن هناك من بُد غير الانقلاب على كل إنجازات 1917، لتوطيد سلطتها والظهور بمظهر حُكَّام روسيا المُنزهين عن الأخطاء.
لم يكن صعود ستالين إلى السلطة مفروشًا بالورود، أو أنه قد حدث دون مقاومة. ففي 1922، كان لينين، أثناء المعاناة التي عاشها من السكتات الدماغية التي شلَّته وأدت إلى وفاته لاحقًا، قد كتب خطابًا يوصل فيه بأن يُزاح ستالين من منصب الأمين العام للحزب الشيوعي بسبب أسلوبه المتعالي والاستبدادي، خاصةً فيما يتعلق بالمسألة القومية.
نظم ليون تروتسكي المعارضة اليسارية داخل الحزب للترويج لسياسات اقتصادية تؤكد وتشدد على التطوير الصناعي والمزيد من الديمقراطية وتجديد الالتزام بالأممية الثورية. حظت المعارضة اليسارية بتأييد الكثير من الرفاق المخضرمين الذين خاضوا الثورة والحرب الأهلية، لكن كان انتصار تروتسكي على ستالين والبيروقراطية يتطلب نضالًا حيًا لأغلبية الطبقة العاملة الروسية، في وقت كانت فيه الطبقة مُنهكة من الحرب والانهيار الاقتصادي.
أتت المرحلة الفاصلة الأخيرة في أواخر العشرينات، حينما هزم الستالينيون آخر أكبر أندادهم، وشنوا برنامجًا للتجميع الزراعي وتكثيف الصناعة. يمكن ملاحظة التحوُّل الذي جرى للمجتمع الروسي في هذه المرحلة على وجه التحديد، على كل المقاييس الاقتصادية والسياسية؛ حيث تحوَّل الإنتاج من السلع الاستهلاجية إلى السلع الصناعية، انخفضت الأجور إلى النصف في غضون سبع سنوات، بعد أن كانت قد ارتفعت بنسبة بسيطة رغم الأزمة في العشرينات، انقلبت القواعد التي من المفترض أن تقيّد إيرادات البيروقراطيين، وزادت أعداد العاملين في معسكرات العمل 22 ضعف بين 1928 و1930، كما انقضت البيروقراطية على المراسيم والقرارات التي ظفرت بها ثورة 1917 في تشريع المساواة بين النساء والرجال وحقوق الأقليات القومية.
منذ هذه المرحلة، من المستحيل القول بأن عمال روسيا يديرون ويتحكمون في المجتمع بأي شكلٍ كان، أو أنهم مثلًا يمكن أن يسيطروا على مقاليد الأمور في المستقبل ببعض الإصلاحات السياسية. استمرت ملكية الدولة كما هي. لكن من كان “يملك” الدولة نفسها؟ الإجابة بالتأكيد ليست العمال الروس.
ومن أجل ضمان الانتصار بشكل نهائي، اتُهم تقريبًا كافة قيادات الثورة بمعاداة “الاشتراكية”، وكان مصيرهم بين السجن والإعدام أو الاغتيال. وكما كتب تروتسكي في الثلاثينات، فإن “المحاكمات الصورية” للقيادات البلشفية السابقة قد:
“رسمت بين البلشفية والستالينية، ليس فقط خطًا داميًا، بل نهارًا كاملًا من الدماء. إن الإبادة التي حصلت للجيل الأقدم من البلاشفة، وجزءٍ كبير من الجيل الأوسط الذي شارك في الحرب الأهلية، والقطاع من الشباب الذي حمل التراث والتقاليد البلشفية بكل جدية، تُظهِر التعارض بين البلشفية والستالينية، ليس فقط على المستوى السياسي، بل تمامًا على المستوى المادي”.
اللافت للنظر في النظام الذي قبع ستالين على رأسه هو أوجه التشابه مع الرأسمالية على الطراز الغربي، في المضمون إن لم يكن في الشكل أيضًا. صارت بيروقراطية الدولة تحدد وحدها كيف تُوظَّف موارد روسيا. والأكثر من ذلك أن كان هناك تركيز كبير على التصنيع الثقيل، لا سيما الدبابات والطائرات وكل ما يتعلق بالجيش.
ومثل الرأسمالية، كان القوة الدافعة للإنتاج في ظل حكم ستالين لروسيا هي خدمة أغراض المنافسة. الفرق الوحيد أن المنافسة لم تكن بين شركات على نصيب أكبر في السوق، بل بين الدول المتبارية على السيطرة العسكرية على العالم. وصلت هذه العملية إلى ذروتها بعد الحرب العالمية الثانية، مع نشوب الحرب الباردة بين القوتين الأكبر في العالم – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
لقد عكس إصرار ستالين على أن الاتحاد السوفييتي أمام مسارين؛ إما اللحاق بالغرب اقتصاديًا، بل وتجاوزه، أو الهزيمة، كيف جرت الأمور في روسيا وفق قوانين الرأسمالية من خلال ضرورة التنافس العسكري. كان الحكم الطبقي الجديد المفروض على روسيا بعد هزيمة الثورة هو رأسمالية الدولة.
أما الانهيار النهائي الذي شهده النظام الستاليني، فقد كان مثلما في 1917، بيد جماهير الشعوب التي هبت ضد الاستبداد، حينما انتفض العمال ضد دول الاتحاد السوفييتي في الكتلة الشرقية في 1989، لتمهِّد الطريق لتفكك الاتحاد نفسه بعد سنوات قليلة لاحقة.
تغيير المجتمع
على الرغم من كل ما فعلته الستالينية في تشويه الاشتراكية، لم يتوقف المدافعون عن الأوضاع الراهنة والراضون عنها عن الافتراء على الثورة الروسية. فحتى باعتبارها ذكرى نضالية منذ زمن بعيد ولى في ظل ظروف مختلفة تمامًا، تظل تمثل تهديدًا.
وبصرف النظر عن أي شيء، فإن التراث الأكثر استمرارية وإلهامًا للثورة كان المثال الذي قدمته لمجتمع يمكن أن يُبنى ويظهر في الوجود من خلال النضال من أجل عالمٍ أفضل. وكما طرح تروتسكي، فإن:
“إن العلامة المميزة للثورة هي مدى المشاركة المباشرة في الأحداث التاريخية. وسواء كانت الدولة ملكية أم ديمقراطية، فإنها تسيطر عادة على الأمة، ويصنع التاريخ أولئك الذين امتهنوا هذه المهنة: كالملوك، والوزراء، والبيروقراطيين، والنواب، والصحفيين. وفي المنعطفات الحاسمة، وعندما يصبح النظام القديم غير محتمل من قبل الجماهير، تحطم هذه الجماهير الحواجز التي تفصلها عن المسرح السياسي، وتقلب ممثليها التقليديين، وتخلق بذلك وضع انطلاق لنظام جديد… تاريخ الثورة بالنسبة لنا هو قبل كل شيء تدخُّل عنيف تقوم به الجماهير في المجال الذي تتقرر فيه مصائرها”.
الآفاق التي انفتحت بأيدي الجماهير، أمامها، هيمنت على ذكريات الاشتراكيين الذين عاشوا الثورة ولعبوا دورًا فيها. تتذكر كروبسكايا، زوجة لينين والتي كانت واحدة من الرواد البلاشفة القدامى، أن “كان مشهد الشوارع في تلك الأيام مثيرًا للفضول؛ في كل مكان كان الناس يتجمعون في كتل بشرية، يتجادلون بحماس، ويناقشون الأحداث الأخيرة… كان المنزل الذي عشنا فيه يطل على فناء، وحتى في هذا الفناء كنا، فور أن نفتح النافذة، نسمع جدالًا ساخنًا… ليالي بتروجراد مرتبطة في ذهني دائمًا الآن بتلك النقاشات السياسية التي كانت تستمر طوال الليل”.
كانت روسيا، في بداية العام 1917، البلد الأكثر تأخرًا في أوروبا كلها، إلا أن الفن والثقافة قد شهدا انفتاحًا وازدهارًا كبيرًا على يد الثورة. لوناتشارسكي، الذي تتفق الكثير من الروايات على أنه كان أكبر الخطباء البلاشفة، يُقال أن حشودًا من الناس كانوا يتجمعون مسحورين بمحاضراته عن شكسبير. حركات جديدة في الفن والأدب والموسيقى بدأت في الصعود وكان لها تأثيرًا ملحوظًا على المستوى الدولي.
المسارح الروسية صارت منارة ثقافية للعالم، وحتى في الثلاثينات، حين كان ستالين يُحكِم السيطرة على مقاليد السلطة، انبهر فنانون أمريكيون بالمظاهر الفنية التي شهدوها. آرثر رانسوم، مؤلف كتب الأطفال البريطاني، وصف المسرح الروسي – الذي كان من قبل حصريًا على النخبة القيصرية – في زيارته لروسيا كما يلي:
“تفقّدت بعناية نوعية الناس الذي يملئون المكان في ظل الحكم الجديد، واستقريت على أن هناك بالفعل تغيير كبير قد حصل في العقول… خلال تلك الليلة، انتقلت عينيّ من وجهٍ إلى آخر، وتصورت أن هناك عدد قليل من الناس في ذلك المسرح يمكنهم أن يحظوا بوجبة عشاء جيدة. لكن، من فرط حرصهم، أتخيل، من وجهة نظر الممثلين، أن عرضًا أفضل على المسرح سيكون جيدًا لو الجمهور أقل”.
هناك الكثير مما كُتِبَ عن أن الثورة قد غيّرت بالفعل كل ما وصلت إليه من مساحات الثقافة والمجتمع، وفي كل ركن من روسيا. في الجزء الثاني من عمله الرائع “تاريخ الثورة الروسية”، يقتبس تروتسكي من جنرال قيصري سابق، تلخِّص كلماته الكراهية الشديدة التي ضمرتها الطبقة الحاكمة الروسية للثورة:
“من يصدق أن صبيًا من غلمان البلاط، أو حارسًا في قصر العدل، وصل فجأة إلى منصب الرئاسة في مجلس قضاة الصلح؟ أو أن ممرضًا غدا رئيسًا لوحدة إسعاف؟ وأن حلاقًا ارتقى حتى أصبح موظًفًا كبيرًا، وأن حاجبًا أو عاملًا مأجورًا غدا حاكم منطقة بأسرها! إن من كان بالأمس يشحم عجلات القاطرات أصبح اليوم رئيس قسم من شبكة المواصلات أو مدير محطة… ويعمل صانعًا لأقفال الآن رئيس ورشة!”.
من بالفعل يمكن أن يصدق هذا؟ كان هذا وعد الثورة الروسية، ومأساة هزيمتها بعد سنوات قليلة لاحقة؛ أن المجتمع يمكن إعادة بناءه دون امتيازات أو سلطة لقلة منه، أن يُعاد بناءه دون أن تولد أقلية لتحكم الآخرين؛ أن يُعاد بناءه دون اضطهاد واستغلال، دون اغتراب يصيب الجميع تقريبًا في ظل الرأسمالية.
يبقى هذا الوعد منتظرًا حتى يتحقق في الواقع، ولذلك فإن تاريخ الثورة الروسية يجب أن يفهمه جيلٌ جديدٌ من الثوريين، للاستفادة من دروسه في النضال الجاري من أجل مجتمع اشتراكي.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

3 من الزوار الآن

876741 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق