المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل - الحلقة 6

19 نيسان (أبريل) 2019

الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل - الحلقة 6

الفصل الأول

« تنظيمات الغضب الإسلامي في مصر السبعينات »

أولا: جماعة المسلمين « التكفير والهجرة »

نشأة الجماعة ومكانتها

تعود أصول نشأة هذه الجماعة إلى بذور « التكفير» و« التجهيل» التي أطلقها بعض دعاة « الإخوان المسلمين» في سجون الستينات وفي مقدمتهم الشيخ علي إسماعيل . ولا شك أن الدعوة راجت في غياب بديل أيديولوجي أو سياسي يخفف من ضربات السلطة أو يواسي عذابات السجناء. وقد اكتشفت المخابرات المصرية أمر هذه الجماعة سنة 1969 حين التحقيق مع الجماعات الإسلامية، إذ تَقدَّم شاب يدعى شكري أحمد مصطفى من مدير المخابرات رفقة ثلاثة عشر فردا مخاطبا إياه: « أرفض الحوار معك لأنك كافر وحكومتك كافرة » . ومع مجيء الرئيس أنور السادات إلى الحكم (1970) أفرج عن « مصطفى» وبقية أعضاء الجماعات الإسلامية. وعاد إلى موطنه الأصلي في محافظة أسيوط بصعيد مصر حيث انطلق من هناك في بناء الجماعة ولم يلبث أن اتسع التنظيم خلال خمس سنوات ليصل عدد أعضاءه إلى خمسة آلاف عضو تتراوح أعمارهم ما بين 14 سنة – 70 سنة ذكورا وإناثا من بينهم أسر كاملة وحتى عائلات ممتدة وعدد كبير من الطلبة والموظفين وصغار التجار وعاطلين عن العمل. وحتى ذلك الحين كانت هذه الجماعة هي الوحيدة التي تضم نساءً وفتيات. وسيطرت الجماعة على الجمعيات الدينية في كليات تجارة القاهرة، وهندسة عين شمس، وطب الإسكندرية، وعلوم وهندسة وزراعة المنصورة وبعض كليات جامعة أسيوط. كما أن تنظيماتها معروفة علنا في الكثير من المدن والقرى المصرية خاصة في محافظات المنيا وأسيوط والجيزة .

ويمكن القول أن الجماعة مثلث أخطر انشقاق واجهته جماعة « الإخوان المسلمين» التي رفضت أفكارها لِمَا خلفته من بلبلة داخل صفوف الجماعة في السجون كلما تم ترحيل شكري مصطفى « المشاغب» إلى أحد السجون، ولأن الجماعة لعبت دورا هاما في إبراز حركة الإحياء الإسلامي على ساحة العمل السياسي المصري حين قدمت نفسها كطرح جذري لكافة أشكال العمل الإسلامي التي كانت سائدة تحت مظلة « الإخوان المسلمين» . وميزة الجماعة تتمثل في الطرح العقائدي الفريد الذي بلغ حدا كفَّرت فيه كل من لا ينتمي إليها ونفضت يدها من كل التراث الإسلامي الفقهي وتحصنت في القرآن والسنة واعتبرت كل ما عداهما تقليد. والتقليد كفر ما لم يثبت بالدليل القطعي المتصل بالله. وللتعرف على فكرة الجماعة والأطروحات الأساسية لأفكارها فلا يحتاج الأمر إلى جهد كبير للربط بينها وبين سيد قطب ربطا مباشرا من خلال كتاب « معالم في الطريق» حيث يرى « قطب» أنه لا مجال للتصالح مع مجتمع جاهلي وأنه لا بد من عملية بعث إسلامي عبر صفوة تبني مجتمعا إسلاميا يكون نواة حركية تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب، ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة مستندة في ذلك إلى المنهج القرآني في التلقي والتنفيذ، تماما كما كانت الجماعة المسلمة الأولى خلال العهد المكي . ولكن هذا الطرح كما تفهمه الجماعة ليس بالضرورة هو الذي قصده سيد قطب. كما أن أفكار الجماعة ليست هي أفكار « قطب».

على كل حال، تقدم أقوال واعترافات مؤسس الجماعة أمام محكمة أمن الدولة العسكرية العليا في مطلع العام 1977 إثر إلقاء القبض عليه وعلى بعض أفراد جماعته منظومة فكرية متكاملة حول الدين والمجتمع والدولة. وهي حسب شكري مصطفى لا تعدو أن تكون جزء من تراث فكري ضخم وضعه في أكثر من أربعة آلاف صفحة عدا كتابات أخرى وضعها مفكرون غيره في الجماعة وصادرتها كلها أجهزة أمن الدولة والنيابة العسكرية ، كما أن موقف الجماعة حول اعتزال المجتمع لم يقع عرضه على المحكمة وهو ما أشار إليه شكري مصطفى .

دعوى الجماعة ومسألة قتال اليهود

ويلاحظ من وثيقتي « الاعتراف» و « الخلافة» أن دعوى الجماعة المؤسسة على « تبني الدعوة إلى الله وإقامة الدولة الإسلامية» يمكن ملاحظتها في الموقف الذي تتبناه من الدولة والمجتمع القائمين ومدى تطابقهما مع المجتمع المكي إبان انطلاقة الدعوة المحمدية في الجزيرة العربية. ومبدئيا تفترض الجماعة كفر المجتمع والدولة بكل محتوياتهما المؤسسية والقيمية والفكرية والعلائقية بحيث لا يتبقى فيه شيء صالحا إلا للهدم وإعادة البناء من جديد. غير أن الكفر الشائع لا يستوجب إقامة الحدود في الوقت الحاضر لأن « الجماعة المسلمة» مستضعفة وعاجزة ولا بد من تحقيق الشروط الموصلة إلى « التمكين» وهو ما لا يتأتى قبل أن تمر الجماعة « بحالة الاستضعاف وكف اليد والصفح والعفو والدفاع والقتال على الجزية والمعاهدات، ثم قتال على الإسلام لذات الإسلام». وعليه فلا بد من الهجرة والانعزال عن المجتمع بهدف بناء الجماعة التي ستمر بمرحلتين « الأولى يكون مقرها الكهوف والجبال والصحراء .. والثانية هي بناء يثرب المعاصرة» أي مجتمع المدينة الذي أتاح للمسلمين فتح مكة . وما يعنينا في فكر هذه الجماعة أكثر من غيره موقفها من قتال اليهود. فالمرحلة الأولى تحول دون القيام بأية مواجهة لأية قوة حتى لو كان المقصود بذلك اليهود. وقد وجهت المحكمة لأمير الجماعة سلسلة من الأسئلة تتصل بقتال اليهود واحتلال فلسطين والتجنيد العسكري في الجيش المصري أو غزو مصر. ويمكن تلخيص الإجابات على النحو التالي:

« بما أن أرض الإسلام هي الأرض جميعا، كل الأرض، فإن الأرض التي احتلها اليهود ليست إلا جزءً من أرض الإسلام التي يحتلها سائر الكافرين قبل احتلال اليهود… والخطة الإسلامية لإعادتها تحت السلطان المباشر للجماعة الإسلامية ليست بالضرورة أن تبدأ بقتال اليهود… فالرسول أمر بقتال غيرهم قبلهم … وقتال العرب الآن لليهود لا يمكن بحال أن يسمى قتالا إسلاميا … وافتراضيا سأقاوم دخول اليهود بيتي. أما عمليا فلن يكون سلوكي بالضرورة هو تقديم شباب الجماعة للموت في هذه المعارك. إنما… ترك مصر وينتهي الأمر… فالأصل أن الحركة الإسلامية تبنى في أول أمرها على قضية الفرار… الفرار من العدو الوافد تماما كالفرار من العدو المحلي وليس مواجهته … » لذا فإن الجماعة ترحب بتباشير السلام مع اليهود لـ « تأثيره الحسن على الحركة الإسلامية في مصر وغيرها" أما شرعيا فقتال اليهود فرض على الجماعة… وهو ما سنفعله إن شاء الله حين التمكين». ولكن متى يحين قتال اليهود؟ أو متى تنتهي مرحلة التمكين؟

أفردت وثيقة الخلافة صفحات طويلة اشتملت على مسألة الجهاد وأطروحات أخرى معمقة وردت غالبيتها في وثيقة الاعتراف. ومن خلالهما يلاحظ أن الجماعة تشخص الواقع الذي تعيشه بالاستناد إلى فرضيتين:

• فرضية المكان

فالدولة والمجتمع، حيث تتواجد الجماعة المسلمة، - مصر - كافران. وبما أنها الجماعة الوحيدة على منهج القرآن والسنة في هذا العالم فإن القوى المعادية تشمل، إلى جانب الكفار، المنافقون والدول والأمم كافة وفي مقدمتهم اليهود الذين وصفهم القرآن بالـ ﴿ أشد عداوة للذين آمنوا﴾ أي الأشد كرها وبغضا، والروم الذين قال عنهم الرسول « أشد الناس على أمتي» أي الأشد قسوة وبطشا. فاليهود منطلقون في علوهم (سواء الأول أو الأخير) إلى غايتهم الهادفة إلى قهر العالم والسيادة عليه. ووسيلتهم في ذلك أن يجعلوا أعداءهم يدمر بعضهم بعضا. وفي إطار هذه الفرضية تماثل الجماعة بين وضعيتها الحالية ووضعية المسلمين الأُوَل فتقرر أنها تعيش في العهد المكي لـ « أن الحركة الإسلامية حين تنشأ تكون قطرة - ليس إلا - في بحر الكفر العالمي قوة وخطة». وهي بالتالي غير معنية بقتال أحد حتى تحين ساعة التمكين والتي لم تكن، بأي حال، في مكة إنما في المدينة المنورة - يثرب - ولذا لا بد من الهجرة سعيا إلى التمكين.

• فرضية الزمان

تجتهد الجماعة في تقصي المدة الزمنية التي تبشر بقرب أوان الهجرة. ولكنها لا تحدد مكانا لها. وتعتقد أن المدة الزمنية تمثل فترة انتقالية بين أواخر العهد المكي وبداية العهد المدني. وهذه الفترة تقع في « بضع سنين» تترواح بين 3 - 9 سنوات. فمن أين جاء هذا التحديد الزمني؟ بطبيعة الحال من القرآن والسنة النبوية باعتبارهما الحُجَّة الوحيدة للجماعة. ففي وثيقة الخلافة ثمة أهمية خاصة توليها الجماعة لسورة الروم لاسيما فاتحة آياتها: ﴿ غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد … (الآية 2-4) ﴾. فقد بشر القرآن بهزيمة الإمبراطورية الفارسية في بضع سنين من هزيمتها النكراء للإمبراطورية الرومانية. لذا راهن الصحابي الجليل أبو بكر الصديق على الحاجة إلى سبع سنين كيما تتمكن « الروم» من إعادة الكرّة وإلحاق الهزيمة بغريمتها « فارس» غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يمدد الرهان إلى تسع سنين. وفعلا تحققت النبوءة القرآنية وهُزمت « فارس» على يد « الروم». والسبب الثاني في التركيز على سورة الروم أنها نزلت في أواخر العهد المكي ولم يكن بينها وبين السور المدنية سوى سورتي « العنكبوت» و« المطففين». وما تلاحظه الوثيقة، أيضا، أن هزيمة الروم لفارس أضعفت الإمبراطوريتين وقوَّت شوكة الجماعة الإسلامية التي شرعت في قتال المشركين في المدينة وتُوِّجت في الانتصار على « الأحزاب» في معركة الخندق الشهيرة. وبعد هذه المعركة، وقبل أن يلقي المسلمون سلاحهم يضرب الرسول حصارا على اليهود في المدينة ويخرجهم منها.

هكذا يقرر شكري مصطفى أن كل هذه الأحداث ينبغي أن تمر بها الجماعة الإسلامية قبل أن يأذن لها الله في القتال. أما عن وضعية الروم والفرس فهي تماثل اليوم وضعية أميركا وروسيا من حيث أثرهما على الصعيد الدولي. وبعد أن تفتعل إسرائيل حروبا بين القوى الكبرى تنتهي بتدميرهما يكون العلو اليهودي في الأرض قد بلغ مداه وتكون الجماعة الإسلامية مؤهلة لمواجهته مثلما تخبر عن ذلك سورة الإسراء. لذا يضع « مصطفى» النقاط على الحروف التالية ليحسم مستقبل الجماعة وخطتها:

« أريد أن أقول أن الحركة الإسلامية يمكن أن تعمل في مصر– حسب ظننا وحساباتنا – عملا صالحا ملائما لبضع سنين من الآن … إن العدو الآن – وكما تدل الحسابات القاطعة عندنا – على وشك سيادته على العالم وتربعه على عرشه بصفته سيد الآدميين جميعا وحاكمهم ووالي أمرهم. وفي نظرنا أنه لن ينقضي هذا القرن الذي يسمونه بالقرن العشرين حتى يكون الأمر قد تم …».

ولكن لماذا تنتهي الحسابات عند نهاية القرن وليس في سنة 1990 مثلا؟ إننا نفترض، من جهتنا، سببين يفسران ذلك الأول يفترض أن الجماعة انطلقت في دعوتها سنه1971 فمن المفترض أن ينتهي العهد المكي سنة 1984 حيث يكون قد انقضى ثلاثة عشرة سنة. ثم تقع الهجرة إلى العهد المدني الذي يستمر عشر سنوات وبهذا تتهيأ الجماعة للفتح بعد أن يكون قد انقضى من عمرها 23 سنة متواصلة هي أصلا مدة الدعوة النبوية. وبالتالي فإن السنة الموافقة هي 1994 وليس 1990. وهو ما يتوافق مع دعوى الجماعة بتحقق غايتها قبل العام 2000. والثاني لأن شكري مصطفى قطبي التفكير. فقد وقع بأيدينا ما يدعم اعتقاده حول المدة الزمنية المقترحة. ويبدو أن هذه المدة تقع في حدود 25 سنة. وهي المدة التي حددها أصلا سيد قطب ونقلها عنه في إحدى محاضراته(1951) الشيخ أبو الحسن الندوي حيث وردت في كتابه « مذكرات سائح في الشرق العربي– ص188»، وفيه يقول:

« وتحدث الأستاذ سيد قطب في تفصيل ووضوح، ويتلخص رأيه في أن المرحلة الأولى تربية الإنسان نفسه وإعدادها للدعوة الإسلامية وتحقيق مطالبها، ثم دعوته لغيره وتربيته له حتى تتكون الجماعة الإسلامية الصحيحة، ورأيه أن الجماعة لا بد أن تتكون من أفراد صالحين كما كان في العصر الأول وأن يبتدئ من أفراد، وهؤلاء الأفراد يتكتلون وتقديره أن هذه العملية قد تأخذ خمسا وعشرين سنة. وقال: أن الناس يستبطئون هذه المدة وأنا أستعجلها … » .
تُرى، لو كان شكري مصطفى حيا فهل كان عليه إلا التراجع عن أفكاره ومعتقداته وحل الجماعة أو اعتناق أفكار جديدة ربما يكون للجهاد وقتال اليهود فيها حيزا؟

إن أخطر ما خلفته الجماعة يتجلى في مقولتي العهد المكي والعهد المدني اللتان تركتا آثارا بالغة على بعض الجماعات الإسلامية وحتى التوجهات الفكرية لشرائح من الإسلاميين الذين باتوا يبررون العزوف عن الجهاد أو يعتقدون فعلا بدعوى « العهد المكي» أو« التمكين». ولم تخل الأراضي الفلسطينية المحتلة من حضور الجماعة حتى بأسماء أخرى. ففي قطاع غزة اكتشفت سنة 1983 حين انتهز أحد أعضائها فرصة سجنه ووضع كتابا تناول فيه هذه الحركة. كما ورد لها ذكر آخر حين أصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية في مدينة رام الله بالضفة الغربية حكما بالسجن بتاريخ 10/9/1984 ضد شابين اتهما بعضوية « التكفير والهجرة» . ومع مطلع التسعينات ظهرت الجماعة باسم « حزب الله» في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة. وتبين أن المؤسس هو الشيخ محمود عبد العزيز جودة (32 عاما) وهو خريج جامعة أم القرى في مدينة مكة وقد منع من التدريس في الجامعة الإسلامية بغزة حتى لا يتسبب في صدام عقدي كبير داخل حرم الجامعة الذي يضم قرابة الخمسة آلاف طالب لاسيما وأنه يخالف في عقيدته جميع المجموعات الإسلامية. ويقول « جودة » أن حزبه لا يشبه حزب الله في لبنان إلا من حيث الاسم، وعلى العكس من ذلك يطلق على الحزب اسم « جماعة المسلمين» . أما عن الموقف من الجهاد وقتال الكفار فليس ثمة ما يدل على تحول في هذا السياق. إلا أننا في نفس الوقت نلحظ بروز جماعة جديدة تشتهر باسم « أهل السنة والجماعة» وتحاكي في بعض أفكارها جماعة المسلمين على الرغم من رفضها القاطع الاعتراف بأية صيغة حزبية أو تنظيمية (حركية). أما جوهر أطروحاتها فيغلب عليها الطابع الديني الصرف الذي تجري ترجمته في الواقع عبر أسلوب العمل الدعَوي والتثقيفي القائم على الأخذ بالقرآن الكريم والسنة النبوية وسيرة السلف الصالح وهذا ما يجعلها، من حيث الاعتقاد، أبعد ما تكون عن جماعة « التكفير والهجرة».

ثانيا: جماعة « الكلية الفنية العسكرية»

تأسست هذه الجماعة بمبادرة من الدكتور صالح عبد الله سِرِّيَّة سنة 1973 وضمت طلبة من جامعات القاهرة والإسكندرية والأزهر والكلية الفنية العسكرية جُندوا جميعا على انفراد وشكلوا تنظيما سريا محكما. وقد ظلوا يعيشون حياة اجتماعية سلمية بعيدة عن التجمع والشبهات ولكنها مؤمنة بالجهاد باعتباره الطريق الوحيد لإقامة الدولة الإسلامية. واشتُهر التنظيم بهذا الاسم ابتداء من شهر شباط/فبراير سنة 1974 لأنه انطلق في خطته لقلب نظام الحكم من الكلية الفنية العسكرية حيث يوافق يوم الهجوم تواجد الرئيس المصري وأركان حكمه على مقربة من مبانيها (1500م). ونفذت عملية الهجوم على مرحلتين. حيث اندفع قرابة مائة عضو في التنظيم نحو مبنى الكلية بمساعدة مجموعة من طلبتها يقودهم كارم الأناضولي بهدف الاستيلاء على الأسلحة والتوجه من هناك إلى المباني المركزية أين يلقي الرئيس خطابه لاغتياله وجميع أعضاء القيادة والوزراء المرافقين له ، إلا أن العملية فشلت واعتقل جميع المشاركين فيها. وحين الفصل في القضية تمت تبرئة ستين عضوا مشاركا بينما أدين واحد وثلاثون آخرين من بينهم الدكتور سرية الذي حكم عليه بالإعدام سنة (1975). وكانت المفاجأة في محاولة ثانية فاشلة قادها يحيى هاشم سنة 1975 لتحرير « سرّية» من السجن المحتجز به. وتبين أن أغلب المشاركين في العملية جاءوا ممن تمت تبرئتهم في المحاولة السابقة .

مبدئيا، يلاحظ أن الهجوم على الكلية الفنية العسكرية نُفذ بوحي من العقيدة الانقلابية التي نادى بها حزب التحرير الإسلامي منذ تأسيسه سنة1962 في مدينة القدس على يد الشيخ محمد تقي الدين النبهاني سليل عائلة متدينة من مدينة حيفا الفلسطينية. ويُنظر إلى الدكتور صالح سرّية، مع تحفظنا على ذلك، كأحد الأعضاء في الحزب منذ شبابه. وقد فرَّ من العراق إلى مصر سنة1971 هربا من حكم غيابي بالإعدام صدر ضده على خلفية اتهامه بتكوين خلية للحزب ومناهَضَة النظام الحاكم. وفي مصر ساعده أصدقاء قدامى على إيجاد وظيفة له في مقر جامعة الدول العربية. وهو حاصل على شهادة الدكتوراه في التربية من جامعة عين شمس . وتتلخص أفكار حزب التحرير بالإيمان بالعقيدة الانقلابية باعتبارها الوسيلة الأسرع للحد من إطالة عمر الدول الكافرة ولإقامة الدولة الإسلامية في أي بلد عربي وإعلان الخلافة الإسلامية فيها ومن ثم استئناف العمل بالحياة الإسلامية والدعوة ومباشرة الجهاد لتحرير البلاد العربية والإسلامية .
أما عن فلسطين فهي مسألة غير واردة حاليا حيث يعتبر الحزب سكانها أسرى والجهاد مرفوع عنهم، وهو موقف ينطبق على الأردن. وفي الحقيقة فإن الجهاد كله مرفوع عن الأمة الإسلامية طالما ظل الخليفة غائبا . لهذا فإن العقيدة الانقلابية تقوم أساسا على الإطاحة بأية حكومة عربية بهدف تهيئة دولة إسلامية كقاعدة تمكِّن من تنصيب الخليفة الذي يعلن الجهاد. لهذا امتنع الحزب منذ تأسيسه عن ممارسة المقاومة أو الكفاح المسلح حيث لا تجدي مثل هذه المقاومة . أما متى تقوم الدولة الإسلامية فهي مسألة تتفق على ما يبدو مع أطروحات العهد المكي والعهد المدني. كما أنها تكشف عن علاقة تاريخية بين الحزب وسيد قطب صاحب أول تحديد للمدة الزمنية. وترصد أحد المراجع هذا التحديد مشيرة أنها تتراوح ما بين 13 سنة (بما يتوافق مع العهد المكي) و15 سنة أو 25 سنة. وهذه الأخيرة مدة تتفق وإجمالي عمر الدعوة المحمدية في العهدين المكي والمدني.

وقد أثبت الشيخ النبهاني الذي « كان يأمل أن يرى الدولة الإسلامية تقوم قبل أن يموت» مدة زمنية محددة لإقامة الدولة الإسلامية لا تزيد عن ثلاثة عقود: « والفكرة العملية يمكن أن تعطى للأمة وتعلق بها في جيل واحد، مهما وجدت من مقاومة، على شرط جدية التفكير وجدية العمل. ولذلك لا تحتاج الأمة إلى أجيال، ولا إلى مئات السنين، بل تحتاج كل فكرة وكل عمل لأنْ يثمر في الأمة إلى ما لا يقل عن عقد، فإن في العقد الواحد يجري تحويل الأمة، وإذا كانت خاضعة لعدوها فإنها تحتاج لأكثر من ثلاثة عقود مع المقاومة» .

والسؤال هو: هل كان صالح سرية « تحريريا » لما نفذ الهجوم على الكلية العسكرية؟
إن غالبية الأبحاث التي صدرت في مصر عن الهجوم وعالجت موضوع جماعات الجهاد تؤكد ذلك. ولعل في نسبة « سرية» إلى حزب التحرير بعض المنطق، فهو نفذ الهجوم بصيغة انقلابية تتفق مع عقيدة الحزب في الوصول إلى الدولة الإسلامية. كما أنه توجه إلى مصر ولم يتوجه للقتال في فلسطين وهو الذي عاصر أحداث أيلول في الأردن وعاش زمن الثورة الفلسطينية ولكنه لم يشترك بها. وهذا يعني أنه ربما يكون مؤمنا حقا برفع الجهاد عن الفلسطينيين وعن الأمة الإسلامية أو لأن الراية الفلسطينية لم تكن راية إسلامية. ولكن ما ورد في « رسالة الإيمان» وموقفه من الجهاد بالتحديد يؤكد أنه لم يكن « تحريريا» قط حين نفذ هجومه على الكلية العسكرية وإن كان انتماءه لحزب التحرير مألوفا لدى الباحثين فهو عند الإسلاميين غير مألوف. فهو باختصار ربما كان في حزب التحرير أو قريبا منه ومن مؤسسه لكنه لم يعد كذلك، والعارفون به، وهو اللاجئ من مدينة حيفا، يدركون أنه شخصية صارمة وذات ثقافة واسعة وعلى معرفة واضحة بالدين، وله خبرة سياسية وتنظيمية وعلاقات متشعبة ومتينة مع الجماعات الإسلامية ورموزها في مصر ابتداء من حسن الهضيبي وزينب الغزالي وصافيناز كاظم وغيرهم. وكان ذو نشاط دؤوب لم يتوقف إلا بإعدامه. ويصفه بعض الإسلاميين بأنه كان رجل عصره. وشخصية كهذه من المستبعد أن يتسع لها تنظيم أو جماعة ومن المستبعد، أيضا، أن تنحصر طموحاتها في حزب وإلا لما كانت هناك حاجة للانفتاح على جميع القوى الإسلامية. ولكن بخلاف التراث المعرفي الضخم الذي خلفته جماعة « التكفير والهجرة» فلم يترك « سرية» شهودا على أطروحاته وخبراته سوى وثيقة واحدة بعنوان « رسالة الإيمان» كتبها سنة 1973 بينما كان يؤسس تنظيمه ويضع له الخطط. وتعد الرسالة الأساس الأيديولوجي لكل الحركات الجهادية لاسيما أن تنظيم الكلية الفنية العسكرية هو الأول الذي ينادي بالجهاد كوسيلة لإقامة الدولة الإسلامية والأول الذي يترجم أطروحاته عمليا. فما هي جواهر الأسس النظرية لرسالة الإيمان؟

تشخص « الرسالة» إشكاليتين إحداهما قديمة والأخرى معاصرة تركتا آثارا بالغة على فعالية الأمة الإسلامية منذ بداية الدعوة المحمدية وحتى الآن. ففي المجتمع الإسلامي الأول كانت الأمة تنقسم إلى شريحتين في العهد المكي هما المسلمون بلا أية شوائب دينية تعكر صفو الإيمان الفردي أو الجماعي، والكافرون بما يشتملونه من مشركين أو أهل كتاب ووثنيين وملحدين. ولقلة هؤلاء الأخيرين فلم يعرهم الإسلام اهتماما. وفي العهد المدني انضمت إلى الشريحتين أعلاه شريحة المنافقين الذين تظاهروا في الإسلام وأبطنوا الكفر. وحتى هذه الشريحة جرى التعرف إليها من خلال الوحي. لذا فلم يعانِ المجتمع الإسلامي من مشكلة إلا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور طلائع الفرق الإسلامية كالخوارج الذين خرجوا على قبول الإمام علي بن أبي طالب للتحكيم وشرعوا في تكفير الصحابة بالجملة وخاضوا نقاشات في مسائل العقيدة ولم يسلموا ببساطة بأقوال الصحابة، وكالشيعة وعقائدهم وما تحمله من انحياز سافر للإمام علي على حساب الخلفاء الراشدين ومن ثم على حساب الدين ذاته. ومع دخول الملل والنحل في الإسلام بفعل الفتوحات الإسلامية وازدهار الحضارة الإسلامية وتبلور مخرجاتها العقدية في العصر العباسي بدأ التعمق في مسائل العقيدة انطلاقا من ثلاثة عوامل تحددها « الرسالة» وهي:
1. « الترف العقلي: الذي بدأ يتوسع ويتعمق في فهم الكتاب والسنة مستفيدا من اتساع حركة الترجمة ودخول الفلسفات المختلفة من يونانية وهندية وفارسية إلى اللغة العربية والتوسع في دراسة الأديان المقارنة مما فتح كثيرا من القضايا التي كان يمر عليها الصحابة مرور الإيمان والتسليم دون تعمق ولا تقطع.
2. دخول الزنادقة في المعركة كالمجوس وغيرهم ممن أظهروا الإسلام لعجزهم عن محاربته فدخلوه لهدمه من الداخل عن طريق تشكيك المسلمين بالدين وإثارة الشبهات حول العقيدة الإسلامية.
3. تبلور المذاهب السياسية التي نشأت في نهاية الخلافة الراشدة ونمت زمن الدولة الأموية وهي (السنة - الشيعة - الخوارج) بحيث تميزت وأصبح لكل منها قواعده الخاصة ورجاله وطرق نقله » .

ولقد أدى تضخم المجتمع الإسلامي والتعمق في مسائل العقيدة إلى افتراق القول عن العمل والدين عن الدنيا والمجتمع عن الدولة. وقلَّت أهمية العمل وارتفعت قيمة القول حتى وصل الأمر أن العلم الذي وضعه العلماء للعقيدة سمي (علم الكلام). ومع ذلك فإن هذه الإشكالية وما أثارته، في حينه، من قضايا لم يعد لها وجود اليوم ولا تشكل خطرا كبيرا على المسلمين. فالخطر ينبع مما تسميه « الرسالة» بـ « الردة الجماعية». وحسب واضع الرسالة فهي « أول رسالة من نوعها في تشخيص الكفر الذي وقع فيه المسلمون عن علم أو عن جهل بسبب الظروف الجديدة التي وقعوا فيها. ودراستها … أهم ألف مرة من دراسة قضايا العقيدة التي كتبت في الماضي».

وقبل أن تعاين الرسالة الكفر وتبين قواعده في المجتمعات العربية والإسلامية في ضوء المشكلة المعاصرة « الردة الجماعية» يحدد « سرية» في وثيقته الأساس المنهجي الذي تقوم عليه المعاينة برمتها والذي يسمح بتكفير الدولة وتجهيل المجتمع باعتبارهما كينونتان عامتان. وهذا يعني أن التكفير ينسحب على الجماعة وليس على الفرد، كما أنه ينسحب على الفرد بشروط معينة تخل صراحة أو ضمنا بالأساس المنهجي طبقا لما يسمى بالعلوم الشرعية بنواقض الإيمان. فمن أين البداية؟

تبدأ المسألة من هوية الوثيقة باعتبارها رسالة « إيمان». والتسمية ذات مغزى فريد تؤسَّس فيه تشخيصات « الكفر» في المجتمعات العربية والإسلامية وبيان قواعده وأحكامه بناء على المعنى الذي يبوح فيه كل من مفهومي « العقيدة» و « الإيمان». وعليه فإن المؤلف يميل إلى المفاضلة بين المفهومين، ويلجأ إلى استعمال مفهوم الإيمان الذي خلَّفته الدعوة النبوية ونادت بالإسلام قولا وعملا. أما مفهوم العقيدة فهو مستحدث، واستعمالاته آلت إلى مساوئ أكثر من منافع. فالعقيدة هي التصديق، وهذا المعنى لا يكفي لاعتبار الفرد مسلما لأن هرقل عظيم الروم – مثلا – صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يعمل بها. وعبر قرون طويلة استقرت العقيدة على إقرار القول، وتبعا لذلك فقد استُعيض عن العمل بـ « التقديس» الذي مورس فرديا وجماعيا في صور شتى، ابتدأت بتقديس الزوايا والأضرحة وبناء المساجد على القبور والْتماس البركات مرورا بالطرب عند سماع القرآن أو قراءته وانتهاء بتعظيم الحاكم وخلع العصمة عليه، وتأثرا بنتائج المشكلة الأولى انصب الفكر العربي المعاصر كله على القول حتى أن الإسلام لم يعد له أي محتوى سوى التعبير عن هوية فرد أو جماعة أو مؤسسة.

وفي الحقيقة فإن الدكتور سرية الذي لا يميل إلى استخدام مفهوم العقيدة يسجل في الواقع قطيعة مطلقة معه وانحيازا بالقدر ذاته إلى مفهوم الإيمان حيث يفرد صفحات طويلة من رسالته لإيجاد الرابط الفعلي لكل ركن من أركان الإسلام القائمة على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. ويقرر أنه لا إيمان إذا لم يقترن القول بالعمل. وعليه فإن حصر الدين في العبادة على النمط الكنيسي وفصله عن التشريع والمعاملات، وفي أحسن الأحوال اعتباره شريكا مع المصادر الأوروبية الغربية (الرأسمالية) والشرقية( الاشتراكية) والعربية المصطنعة (القومية والوطنية)؛ وكل الفلسفات والمناهج والعقائد وما يتمخض عنها من أحزاب ونواد ومظاهر تغريبية مادية وثقافية تعد كفرا وردة جماعية. وتأسيسا على ذلك فالحكم القائم في جميع بلاد الإسلام هو حكم كافر والمجتمعات فيها كلها مجتمعات جاهلية. ولكن من حيث الخصوصيات فالتكفير في الدولة ينسحب على كل القوانين المخالفة للإسلام، وكل الممارسات والسلوكيات الخارجة عن الإسلام. وعليه فإن التشريع جائز في القضايا المستجدة قاطبة إذا لم تتخارج مع الإيمان. أما على مستوى الأفراد فليس بكافر إلا من يوالي أنظمة الحكم ويعتبرها إسلامية ويؤيد إجراءاتها وسياساتها الباطلة أو الموجهة ضد الجماعات الإسلامية أو أولئك الأفراد الذين يجاهرون باعتبار الإسلام باطلا أو رجعيا أو يحرّفون الإسلام. وتجيز « الرسالة» للمسلم العمل في مؤسسات الدولة ابتداءً من أصغر وظيفة حتى رئاسة الدولة بشرط أن يكرس الفرد نفسه من أجل التغيير ومساعدة إخوانه على إقامة الدولة الإسلامية.أي إخلاص النية بحيث يكون الولاء والبراء لله وحده.

ما هو الموقف من الجهاد؟

لا شك أن « رسالة الإيمان» وُضعت لحسم اللامبالاة والتردد والخوف لدى الفرد والجماعة المسلمة تجاه مسألة العمل. لذلك يمكن فهم الجهاد عند « سرية» في ضوء تشخيصه لركن « القضاء والقدر» باعتباره الركن الاختياري الذي يمكِّن من تشخيص الكفر لدى الفرد العادي وبدرجة أولى لدى المتدين لاختبار جدية الإيمان لديه. ولعل ما تقرره « الرسالة» بهذا الخصوص ما يشير إلى رد لا لبس فيه تجاه الجماعات الإسلامية والمتدينين ممن يوصفون، في العادة، بالجماعات التقليدية التي تتجنب ممارسة فريضة الجهاد أو الحث عليها متخذة من دعاواها الأيديولوجية مبررا للتأجيل فتقتصر المسلكية الإيمانية لدى هؤلاء على « الاعتقاد» بالجهاد كحديث النفس إلى ذاتها حتى لا تموت ميتة جاهلية. وعند التفتيش عن الممارسة الجهادية، طبقا لهذا المعنى، يلاحظ أن الجهاد ظل معلقا أو مجمدا أو حتى معطلا في المحصلة، وهذه النتيجة ناجمة إما عن الخوف من الموت وإما خشية التعرض للضغوط والمضايقات من قبل الدولة وهو ما يناقض الإيمان بالقضاء والقدر الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار معظم المتدينين اليوم كافرون عمليا به. « إذ لو كانوا يؤمنون به حقا لشمروا عن ساعد الجد لتغيير المنكر غير مبالين بالسجن وقطع الأرزاق لأنه لا أحد يستطيع أن يضرهم بما لم يكتب عليهم بل ولم يبالوا بالإعدام لأنه ﴿ لن تموت نفس إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾ . والذي يتردد في ذلك كافر بالقدر مهما فلسف القضية وحاول بالحجج المنطقية الفارغة « وإلا بماذا يفسرون قوله تعالى: ﴿ قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ﴾ » أو إيمان الصدر الأول من المسلمين الذين كانوا يعتقدون « أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، وإن اجتمعت على أن ينفعوك بشئ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك» .

من الواضح أن « الرسالة» تحاول خلق وازع لدى الفرد كي تضع حدا للتردد والتناقض بين القول والعمل والانصراف إلى الجهاد لتغيير هذه الحكومات وإقامة الدولة الإسلامية باعتبار الجهاد فرض عين على كل مسلم ومسلمة لأنه (الجهاد) ماض إلى يوم القيامة. وإذا كان واجبا لتغيير الباطل حتى لو لم يكن كافرا فهو أفرض الفرائض وذروة سنام الإسلام. وعليه فإن « الرسالة» تقرر ما يلي:

• « من ماتوا دفاعا عن حكومات الكفر ضد من قاموا لإقامة الدولة الإسلامية فهم كفار إلا إذا كانوا مكرهين فإنهم يبعثون على نياتهم.
• إن كفر الدولة قضية واضحة وضوح الشمس وهذه قضية خطيرة أغفلها المسلمون اليوم، وكثيراً ما تتلكأ الحركات الإسلامية عن القيام ضد هذه الدولة خوفا من إراقة الدماء لأن هذه القضية لم تتضح لها بعد».

ومن الواضح، أيضا، أن الدكتور صالح سرية كان يعد العدة للهجوم على الكلية الفنية العسكرية بينما أفكاره تنساب على صفحات « الرسالة» بسرعة فائقة نحو الانسجام المطلق بين القول والعمل محاولا تحقيق أمرين: (الأول) دعوة المتدينين والأفراد إلى تصحيح اعتقادهم وإرساء منظومة دينية تقوم على الإيمان قبل إطلاق الأحكام والتقرير بالحاضر ومستجداته، و(الثاني) اعتبار العمل مجال الاختبار الفعلي لصحة الإيمان. وبهذا يحظى موضوع الجهاد بالأولوية بالنظر إلى الظروف المعاصرة للمجتمعات الإسلامية.

إن ما قمنا به هو عرض محدد وموجز للوثيقة. ولكن مقارنة محتوياتها بوثائق جماعات الجهاد في مصر تؤكد بالقطع أن الدكتور صالح سرية وضع الأسس المركزية لانطلاقة الإسلام الجهادي وخطابه الديني والأيديولوجي. وقد لوحظ أن « رسالة الإيمان» طُبعت بعد إعدام « سرية» من قبل اتحاد طلبة كلية العلوم بجامعة القاهرة سنة 1976/77 واحتوت على مقدمة عنيفة بقلم رئيس الاتحاد إبراهيم السكري تدعو للحكم بالكفر على كل من لم يحكم بما أنزل الله. ولم تقع الإشارة في الطبعة إلى اسم الدكتور سرية، وقام الاتجاه الإسلامي بنشر الوثيقة « الكتيب» التي تقع في61 صفحة. ويدلل هذا على خطورة الأفكار الواردة فيها ومدى انتشارها داخل أحرام الجامعات . ولم تمض بضعة سنوات حتى ظهرت جماعة الجهاد 1979 ونفذت اغتيال الرئيس المصري أنور السادات في تشرين أول/ أكتوبر سنة 1981 أثناء الاحتفال السنوي بذكرى ثورة 23 يوليو/ تموز سنة 1952.
ثالثا: جماعة الجهاد « الفريضة الغائبة»

يمثل محمد عبد السلام فرج كاتب « الفريضة الغائبة» قائدا لواحدة من ثلاث حلقات متباعدة التكوين اعتنقت ذات الأفكار التي عبرت عنها الوثيقة. وقد أمكن التقاء هذه الحلقات في الفترة ما بين 1979- 1980 في مناسبات معروفة آلت إلى إرساء هيكل قيادي لتنظيم الجهاد. والحلقتان الأخريان إحداهما قادها زهدي كرم أمير الجماعة الإسلامية بمحافظة « المنيا» والطالب بنهائي المعهد التعاوني العالي بمحافظة أسيوط والأخيرة قادها سالم الرحال الأردني الجنسية (فلسطيني الأصل) والطالب بجامعة الأزهر الذي أُبعد إلى الأردن ليتولى القيادة خلفا له كمال السعيد حبيب خريج كلية الاقتصاد. وميزة تنظيم الجهاد أن غالبية أعضائه انتموا، في البداية، إلى شرائح الطلبة في التخصصات المختلفة، إلا أن بعض قياداته من المؤسسين انتموا إلى شرائح اجتماعية معينة مثل المقدم عبود الزمر الذي عمل في دائرة المخابرات المصرية العامة وتولى قيادة الجناح العسكري للتنظيم بعد إعدام « فرج»، ونبيل نعيم عبد الفتاح التاجر في منطقة « بولاق» ، وهذا يعني تنوع مصادر العضوية، نسبيا، خاصة باتجاه اختراق أشد مؤسسات الدولة حساسية وتأثيرا. وفي مستوى أيديولوجي تعتبر « الفريضة الغائبة» الركيزة الأساسية لتنظيم الجهاد في مصر، والمرجع الأساسي لكل تنظيمات الجهاد التي ظهرت في أعقاب اغتيال الرئيس المصري سنة 1981 لاسيما « الجماعة الإسلامية» التي تمثل امتدادا لتنظيم الجهاد والتي كان الشيخ عمر عبد الرحمن أحد قادتها. وهي بلا شك غير تلك « الجماعة الإسلامية» التي تتبناها جماعة « الإخوان المسلمين» . وتستمد الوثيقة قوتها في كونها المحاولة الأولى والأهم في نقض الاجتهادات الفقهية والسياسية التي قالت بها بعض الجماعات الإسلامية وتسببت في تغييب فريضة الجهاد وإخراجها من فعالياتها الإستراتيجية إلى مدى غير محدد، وهو الأمر الذي أدى إلى تعطيل الفريضة عمليا بحجة « التمكين» تارة أو « الوعظ والإرشاد» تارة ثانية أو « انتظار الخليفة» تارة ثالثة أو « تأهيل الفرد والمجتمع» وإلى غير ذلك من المبررات على الرغم أن غالبية الجماعات الإسلامية على اختلاف مواقفها من مسألة الجهاد تجتمع على هدف محدد هو إقامة الدولة الإسلامية تأسيسا على أن الدولة الحالية لا تمت إلى الإسلام بصلة. وتحاول الوثيقة البرهنة الشرعية على مسألتين :
• كفر الدولة الحالية، في أي مكان من الدول العربية والإسلامية مستندة إلى طبيعة الحكم القائم وإلى « الردة الجماعية» وهما الموضوعان اللذان تحدث عنهما الدكتور صالح سرية في وثيقته « رسالة الإيمان».
• وجوب القتال باستحضار ركن « الجهاد» باعتباره الوسيلة الشرعية الوحيدة القادرة على إحداث التغيير.

المسألة الأولى: كفر الدولة

تقرر الوثيقة كفر الدولة اعتماداً على بينة واضحة لا شبهة فيها وهي « التشريع» الذي تحكم به نخبة علمانية تصر عبر الدساتير الوافدة على اعتبار الشعب هو مصدر السيادة ومنح المجالس النيابية صفة المشرع الوحيد. وهكذا فليست الشريعة الإسلامية إلا جزء من مصادر التشريع المتنوعة ذات الجذور الرأسمالية أو الاشتراكية أو الوطنية أو القومية. وعليه فإن التشريعات الصادرة عن المجالس النيابية هي تشريعات باطلة حتى لو داخلتها بعض التلاوين الإسلامية لأن الأساس الذي صدرت منه باطل فضلا عن أن الغالبية منها تخالف الشريعة الإسلامية صراحة وجراءة. أما الدولة نفسها فترفض رفضا باتا تطبيق أحكام الشريعة وهذا ما يجعل منها دولة كافرة عملا بالنص القرآني: ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾، ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون﴾، ﴿ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾ (سورة المائدة، الآيات: 47,45,44 على التوالي). ويذكر صالح سرية في رسالته أن الكلمات (الكافرون، الظالمون، الفاسقون) وردت في معنى واحد يلازم الخارج عن شريعة الله وبالتالي فلا يوصف المؤمن بأي منها كما يفعل بعض العلماء أو فقهاء السلف. وزيادة على تكفير الدولة بمؤسساتها السياسية فإن المنظومات الأخلاقية والقيمية السائدة والناجمة عن أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية الهجينة ليست سوى مبررات للتكفير بما في ذلك بعض الشرائح الاجتماعية والثقافية وفي مقدمتها العلماء المسلمين الذين أوجدتهم الدولة لتشريع سياستها وإجراءاتها وقوانينها الهادفة إلى المحافظة على الوضع القائم. لذا فإن الوثيقة تصر على مماثلة حالة المسلمين اليوم والدولة التي يعيشون بين ظهرانيها بسابقتين في التاريخ الإسلامي:

1. حالة المسلمين زمن حكم التتار الذين غزوا البلاد الإسلامية، ولما دخلوا الإسلام حكموا أهله بمقتضى شريعة « الياسق»، وهو كتاب وضعه « جنكيز خان» في القرن السابع الهجري وحكم به المسلمين، وبعد وفاته تولى أبناءه الحكم به. واشتمل على أحكام « اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها. وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعا متبعا يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله. فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير» . وهذه السابقة تعد أول محاولة في تاريخ الدولة الإسلامية كله التي يتم فيها فصل الدين عن الحياة .

2. حالة المسلمين في بلدة « ماردين». فقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه الفتاوى (الجزء الرابع – كتاب الجهاد) عن الحكم الشرعي في سكان البلدة التي كانت تحكم بحكم الإسلام ثم تولى أمرها أناس أقاموا فيها حكم الكفر، هل هي دار حرب أو سلم؟ فأجاب أنها « دار مركبة» فيها المعنيان فهي ليست بمنزلة دار السلم التي عليها أحكام الإسلام ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحق ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه.

أما فيما يتعلق بحكام التتار فقد ركزت الوثيقة على توصيف ابن تيمية لهم وتكفيره لهم ومن والاهم حتى قال: « من دخل في طاعتهم الجاهلية وسنتهم الكفرية كان صديقهم ومن يخالفهم كان عدوهم ولو كان من أنبياء الله ورسله وأولياءه».

وإذا كانت هذه النماذج تعكس حالة المسلمين اليوم فإن إقامة الدولة الإسلامية تصبح فرضا على المسلمين كافة كي يتحقق حكم الله في الأرض. أما شكل الحكم فهو الخلافة على منهج النبوة. وفي هذا السياق تحمل الوثيقة بُشريات الدولة الإسلامية التي تكون نواة دولة الخلافة اعتمادا على النص القرآني: ﴿ إني جاعل في الأرض خليفة﴾ (سورة الحجر، الآية9)، كما ﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض … وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا… والله لا يخلف الميعاد﴾ (سورة الحشر، الآية7). وفي السنة النبوية ثمة أكثر من حديث يبشر بالخلافة كما توردها الوثيقة، أولها « أحاديث الفتح» وآخرها « حديث الخلافة»:

• « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشرقها ومغربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها» .
• « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزا يعز به الله الإسلام وذلا يذل به الكفر» .
• سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أي المدينتين تفتح أولا يعني القسطنطينية أو روميَّة ؟ فقال: « مدينة هرقل تفتح أولا» أي القسطنطينية، وهي مدينة استانبول في تركيا. أما روميَّة فهي مدينة روما عاصمة إيطاليا حاليا وقد تم فتح الأولى بعد ثمانمائة سنة من إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم على يد محمد الفاتح سنة 1453م. أما روما فلم تفتح بعد.
• « تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا عارضا فيكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبريا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة تعمل في الناس بسنة النبي ويلقي الإسلام جِرانه في الأرض يرضى عنها ساكن السماء وساكن الأرض لا تدع السماء من مطر إلا صبته مدرارا، ولا تدع الأرض من نباتها ولا بركانها شيئا إلا أخرجته» .

المسألة الثانية: مشروعية الجهاد

إن أركان الإسلام خمسة، وهي الشهادتان، إقامة الصلاة، إيتاء الزكاة، الصوم وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. وبهذا التحديد لا يبدو الجهاد واحدا منها، وتبعا لذلك فقد أثيرت من حوله الشبهات قديما وحديثا حتى باتت الفرق والجماعات الإسلامية تكيف محتواه طبقا لفهمها له وخدمة لاستراتيجياتها السياسية. لذا اضطلعت « الفريضة الغائبة» بمهمة تفعيل الفريضة وإحيائها من خلال بيان أحكامها في القرآن والسنة من جهة والرد على الدعاوى المخالفة أو المثيرة للشبهات من جهة أخرى. لذا فإن ما يصبح ميدانا مشروعا للرد هو كل الأطروحات التي تتجنب الجهاد وتفسر آيات القتال والتحريض عليه في القرآن بحصرها زمنيا بفئة معينة في حين أن الإسلام يوجه خطابه إلى المؤمنين بجعل القتال (بمعنى الجهاد) فريضة ﴿ كتب عليكم القتال﴾ (سورة البقرة، الآية216) مثل فريضة الصوم ﴿ كتب عليكم الصيام﴾ ( سورة البقرة، الآية183). بيد أن البعض استعمل بعض الآيات المنسوخة حجة على المؤمنين لمسالمة الكفار والعفو عنهم أو الإعراض والصبر على أذاهم في حين لم يقل بذلك إلا « السيوطي» في كتاب « الاتفاق» لما اعتبر الآية ﴿ فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ﴾ (سورة البقرة – الآية109) ورأى فيها حكما منسوخا لأنه مؤجل بأجل . وهذا يعني تعطيل فريضة الجهاد، عمليا، إلى أجل غير محدد. وهنا تستحضر الوثيقة الرد انطلاقا من سورة التوبة. فقد افتُتحت السورة بلا بسملة وبآية براءة: « براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين»، ثم يقول العوفي ابن عباس في هذه الآية أنه منذ نزولها « لم يعد لأحد من المشركين عهد ولا ذمة ». وبعيد « براءة» بقليل جاءت أشهر آية في القتال والتي أجمع أغلب المفسرين على تسميتها بـ « آية السيف» لتنسخ 114 آية سابقة في 54 سورة، وفي موضع آخر في 48 سورة، فيما يتعلق بالإعراض عن قتال المشركين. بل أن الحسين بن فضل يقول فيها أنها نسخت كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على أذى المشركين. إذ تقرر الآية الخامسة من سورة التوبة أنه « إذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد». وتتساءل الوثيقة كيف يمكن الاستدلال بالآيات المنسوخة على ترك الجهاد؟ وأكثر من ذلك فحتى آية السيف نُسخت بآية أشد منها على المشركين ﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها﴾ (سورة محمد، الآية4). وفي موضعين آخرين خاطب النص القرآني المؤمنين إما بالإعداد للقتال ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم﴾ ( سورة الأنفال، الآية60)، أو في التحذير من تركه ﴿ إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا ﴾ (سورة التوبة، الآية39). والآن علينا أن نتساءل، هل فُرض الجهاد على المسلمين دون غيرهم من الأمم السابقة؟

يتبين من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم أن الجهاد عبادة كسائر العبادات لا تتوقف حتى لو بلغت الدولة الإسلامية أوجها. وعلى المستوى الفردي، فهو « ماض إلى يوم القيامة»، و« من لم يغز أو لم تحدثه نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية». أما على المستوى الجماعي فـ « إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد في سبيل الله وأخذوا أذناب البقر أنزل الله عليهم من السماء بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم». وسواء كان فرض عين أو فرض كفاية يظل الجهاد « ذروة سنام الإسلام» وهنا جوهر مسألة الجهاد في الإسلام. كيف؟ ربما يصعب الحسم فيما إذا كان الجهاد قد فُرض على الأقوام السابقة. فالصيام مثلا فُرض سابقا بيد أن الجهاد لم يُفرض بذات الصيغة. فالنص القرآني يقول: ﴿ كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ﴾ (سورة البقرة، الآية183). وعن الجهاد قال: ﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم ﴾ (سورة البقرة، الآية 216). ففي نفس السورة استعملت نفس الصيغة في الفرض ولكن في آية الصيام ظهرت المساواة التامة مع الأقوام السابقة أما في الآية الثانية فقد تلا صيغة الفرض « الكره»، وقد يعني هذا أمرين: إما أن أمة المسلمين اختصها الله دون غيرها بالقتال أو أن الأمم السابقة أُمرت بالقتال ولكن دون المسلمين. أي في بعض الوقائع والأحداث.

هكذا تقرر « الفريضة الغائبة» أن أمة الإسلام تختلف عن الأمم الأخرى في أمر القتال. ففي الأمم السابقة كان العقاب الرباني، فالله « ينزل عذابه على الكفار وأعداء دينه بالسنن الكونية كالخسف والغرق والصيحة والريح… وهذا الوضع يختلف قليلا مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم». أما وجه الاختلاف فيقع في إسناد قتال المشركين إلى المسلمين أولا، ومن ثم يأتي التدخل الإلهي بقدر الطاعة لأوامره واجتناب نواهيه ﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين﴾ (سورة التوبة، الآية14). فقتال المشركين هو عذاب لهم وخزي. أما إذا قاتل المؤمنون المشركين وواجهوا صعوبة في الانتصار عليهم فالتدخل الإلهي محتوم ﴿ ولينصرن الله من ينصره﴾ (سورة الحج، الآية40) وكذلك ﴿ إن تنصروا الله ينصركم﴾ (سورة محمد، الآية7). وقد ثبت هذا في غزوة الأحزاب لما بعث الله العاصفة على المشركين. لهذا جُعِل أجر المجاهد في الإسلام عظيما. وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: « للشهيد عند الله ست خصال، يُغفر له من أول دفقة دم، ويُرى مقعده من الجنة ويُجار من عذاب القبر ويأمن الفزع الأكبر ويُحلّى حِلية الإيمان ويزوج من الحور العين ويشفع في سبعين من أقاربه».

هكذا فإن الجهاد عبادة وفريضة كفاية في مقاتلة المشركين بشرط تبليغ الدعوة أولا وفريضة عين إذا احتلت أجزاء من دار الإسلام صغُرت أم كبُرت بحيث « يخرج الولد دون إذن أبيه والمرأة دون إذن زوجها والمرء دون إذن وليه». أما إذا كان الحكم في دار الإسلام بغير ما أنزل الله فقد وجب القتال. ذلك أن الدين هو الطاعة، وكما يقول ابن تيمية: « فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كله لله» عملا بالأمر الإلهي ﴿ قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾ (سورة الأنفال،الآية29)، وهذا الحكم لم يخالفه فيه أحد، ويقول ابن تيمية بهذا الصدد: « أجمع علماء الأمة على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها حتى يكون الدين كله لله. فأيما طائفة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضة أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء والأموال والخمر والزنا والميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته التي لا عذر لأحد في جحودها وتركها والتي يكفر الجاحد لوجوبها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء».

ردّ « الفريضة الغائبة» على الأطروحات المغايرة

ردت الوثيقة باعتبارها الأولى من نوعها على كل الدعاوى التي تسببت في تعطيل الجهاد. وابتدأت بالجماعات المنادية بالدعوة من خلال الجمعيات الخيرية أو إقامة حزب إسلامي معتبرة أن هذا التوجه معناه بناء دولة الكفر والاشتراك في عضوية المجالس التشريعية التي تشرع من دون الله. أما الاجتهاد من أجل الحصول على المناصب فليس فيه أي دليل شرعي فضلا عن استحالة إيصال أي شخصية إسلامية إلى منصب وزاري إلا إذا كان مواليا للنظام موالاة كاملة. ومن اقتصر عمله من الجماعات الإسلامية على الدعوة فقط لإقامة قاعدة عريضة « فلسنا ضد الدعوة» وليعلم هؤلاء أن الإسلام لم ينتصر بالكثرة، ثم لا يجوز القول بوجوب أن يكون الناس مسلمين حتى يطبق عليهم الإسلام لأن هذا معناه أن الإسلام عاجز أو ناقص في مراحل ما، بينما هو صالح للتطبيق في كل مكان وزمان. كما أن الإسلام كل لا يتجزأ. وهذا رد على من جعل من إيجاد القاعدة العريضة أساس تراجعه عن الجهاد. وعن دعاة الهجرة إلى بلد آخر لإقامة الدولة الإسلامية هناك ثم العودة مرة أخرى فاتحين، فالأوْلى بهؤلاء أن يقيموا دولة الإسلام بينهم ويخرجوا منها فاتحين. وقد تعددت الشطحات في مسألة الهجرة حتى خرج من يقول أنه سوف يهاجر إلى الجبل ثم يعود فيلتقي بفرعون كما فعل موسى وبعد ذلك يخسف الله بفرعون وجنوده الأرض.

وتسفه الوثيقة من يقول: « بأن الطريق الآن هو الانشغال بطلب العلم وكيف نجاهد ولسنا على علم؟ وطلب العلم فريضة». ذلك أن أحدا لم يبح ترك أمر شرعي أو فرض بحجة العلم خاصة إذا كان الفرض هو الجهاد، فكيف نترك فرض عين من أجل فرض كفاية؟ ومن يقول أن العلم جهاد عليه أن يعلم أن الفرض هو القتال. كما أن العلم متاح للجميع. أما تأخير الجهاد بحجة طلب العلم فتلك حجة من لا حجة له، وكم من مجاهد استشهد وتحقق النصر على أيديهم في التاريخ الإسلامي ولم يكونوا على علم؟ وهو ما لم يقم به علماء الأزهر يوم أن دخل نابليون وجنوده الأزهر بالخيل والنعال، ماذا فعلوا بعلمهم أمام تلك المهزلة؟ وليعلم هؤلاء أن حدود العلم من علم فريضة الصلاة فعليه أن يصلي ومن علم فريضة الصيام عليه أن يصوم وكذلك من علم فريضة الجهاد عليه أن يجاهد، ونحن لا نحقر قدر العلم والعلماء، بل ننادي به ولكن لا نحتج به في التخلي عن فرائض شرعها الله .

أما عن جماعة « التكفير والهجرة» فعليهم أن يعلموا أن الجهاد في الإسلام هو للدفاع والهجوم وليس للدفاع فقط. فـ « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله . فالقتال في الإسلام هو لرفع كلمة الله في الأرض سواء هجوما أو دفاعا، والإسلام انتشر بالسيف ولكن في وجوه أئمة الكفر الذين حجبوه عن البشر. وبعد ذلك لا يكره أحد على دينه»، وتلك كانت مضامين رسائل الرسول إلى هرقل عظيم الروم وكسرى عظيم فارس وغيرهم. وعليهم أن يعلموا أيضا « أننا لسنا في المجتمع المكي لكي نترك فريضة الجهاد. ومن يضع نفسه كذلك فعليه أن يترك الصوم والصلاة ويأكل الربا الذي لم يحرَّم إلا في المدينة، كما أننا لسنا في المجتمع المدني» . نحن في مجتمع يماثل مجتمع بلدة ماردين أو زمن حكم التتار. وأخيرا فمن يعتد بتقسيم الإمام ابن القيم للجهاد (جهاد النفس، جهاد الشيطان، جهاد الكفار والمنافقين) نقول أن هذه التقسيمات ليست مراحل إنما مراتب متوازية وإلا فعلينا أن نتوقف عن مجاهدة الشيطان حتى ننتهي من جهاد النفس. وذكر ابن القيم أن الحديث القائل: « رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر… قيل ما الجهاد الأكبر يا رسول الله ؟ قال جهاد النفس» هو « حديث موضوع» (المنار المنيف). وما قصد منه إلا التقليل من شأن القتال بالسيف لشغل المسلمين عن قتال الكفار والمنافقين.

وفيما بدا أنه رد على الأطروحات التي تحتج على قتال المسلمين عرضت الوثيقة لمسألة « التترُّس». وهي مسألة خلافية كبيرة بين الجماعات الإسلامية لأن مواجهة عدو محلي أو خارجي يعيش بين ظهرانيه مسلمون قد يؤدي إلى هلاك مسلمين. فكيف يمكن تجنب هذه المشكلة؟

تجيب الوثيقة بجواز القتال حتى في حالة « التترس». أي تحصن العدو بالمسلمين وتعريضهم للخطر أو للانتقام منهم. فمن مات من هؤلاء إنما يبعث على نيته، لأن مصلحة الدين والجماعة مقدمة على مصلحة الفرد. وقد رد ابن تيمية على من يشك في قتال التتار بدعوى أن فيهم من يخرج مكرها فقال: « من شك في قتالهم فهو أجهل الناس بدين الإسلام وحيث وجب قتالهم قوتلوا وإن كان فيهم المكره باتفاق المسلمين». وعن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لأحد الصحابة يوم أسر يوم بدر، وكان قد خرج مكرها: « أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله ». وفي حديث آخر قال: « يغزو جيش من الناس فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خُسف بهم فقيل يا رسول الله وفيهم المكره فقال يبعثون على نياتهم». وخلاصة القول: « أن جيش الكفار إذا تترسوا أي احتموا بمن عندهم من أسرى المسلمين … فإنهم يقاتلون حتى وإن أفضى ذلك إلى قتل هؤلاء المسلمين الذين تترسوا بهم».

بقي أن نشير إلى أن الوثيقة تقر بأن تحرير الأراضي المقدسة هو أمر شرعي واجب على كل مسلم بيد أنها ليست نقطة الانطلاق، إذ أن أساس وجود الاستعمار في بلاد الإسلام هم الحكام. فالبدء بالقضاء على الاستعمار عمل غير مجد وغير مفيد وما هو إلا مضيعة للوقت. لذا ينبغي التركيز على: « قضيتنا الإسلامية وهي إقامة شرع الله أولا في بلدنا وجعل كلمة الله هي العليا، فلا شك أن ميدان الجهاد الأول هو اقتلاع تلك القيادات الكافرة واستبدالها بالنظام الإسلامي الكامل ومن هنا تكون الانطلاقة».

رابعا: الجماعات الإسلامية

تشكلت الجماعات الإسلامية من عدة تنظيمات ظهرت في الجامعات المصرية مع بداية السبعينات. وترتبط نشأتها برغبة النظام السياسي الجديد الهادف إلى محاصرة الناصرية وجماعات اليسار. إذ كان من الطبيعي أن يلجأ الرئيس المصري أنور السادات إلى إفساح المجال للقوى الإسلامية، الخصوم التقليديون لقوى اليسار والذين عانوا مرارة الحكم الناصري. ويبدو أنه لا الجماعات الإسلامية ولا الدولة أخذت بنظر الاعتبار إمكانية تطورها إلى حد العداء السافر للدولة. وأغلب الظن أن الدولة رأت فيها تنظيمات وظيفية تستهدف تقليص فعالية المعارضة لنظام سياسي مقْدِم على الانقلاب على تراث الناصرية بالذات وإن أمكن تصفيته بأسرع وقت وبأقل التكاليف. ولعل في هذه الفرضية ما يبرر رفع الدولة الرقابة المفروضة على الاتحادات الطلابية من خلال تخفيف اللوائح التي نظمت في الماضي أعمالها فضلا عن إلغاء الترتيبات الإشرافية من جانب المدرسين على الاتحادات الطلابية . وعكست النشاطات التي مارستها الجماعات الإسلامية في الفترة ما بين (1972-1980) المرور بمرحلتين هما مرحلة البناء ومرحلة الرفض والعداء للنظام. وقد تخلل هاتين المرحلتين مرحلة وسيطة مثلت جسرا للتحول والانقسام التنظيمي والأيديولوجي.

• مرحلة البناء

توصف الفعاليات التي غطت الفترة ما بين (1972-1975) بالمرحلة السلفية التقليدية التي اتسمت بإحداث تغيرات شبه جذرية في مستوى الحياة الاجتماعية والثقافية داخل الفضاءات الجامعية المصرية. فقد نجحت الجماعات في إدخال رموز الحياة الإسلامية إلى الأحرام الجامعية كالحجاب والفصل بين الجنسين في المدرجات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وتمحورت الأنشطة على إقامة المخيمات الصيفية وتنظيم رحلات الحج والعمرة للطلبة ووقف المحاضرات وكافة الأنشطة في أوقات الصلاة وإدخال تغييرات على البرامج الدراسية ودعوة الطلبة للاشتراك في الأنشطة الدينية كدروس القرآن والحديث ومنع إقامة الحفلات الموسيقية والأمسيات الراقصة وصور اللهو. ومن جهة أخرى وظفت الجماعات مواردها المالية لاستمالة الطلبة بتقديم الخدمات ولوازم الدراسة بأسعار رخيصة وأحيانا بالمجان. فقامت بتوزيع الكتب الدراسية والمساعدة في الإسكان وتقديم العلاج الطبي الأساسي بواسطة طلبة كليات الطب الأعضاء في الجماعات، وفي المواصلات وفي توزيع الملابس الرخيصة جدا والمجانية في بعض الأحايين، وحتى تقديم معونات مالية مباشرة.

• مرحلة الرفض

تشمل هذه المرحلة الفترة الممتدة ما بين (1976- 1980). واتسمت بديناميكية سياسية متسارعة. إذ بدأت الجماعات بتنسيق نشاطاتها على المستوى العام وأقامت اتحادا أعلى أطلقت عليه اسم « الجماعة الإسلامية». وخلال الفترة ما بين 1978- 1979 سيطرت الجماعات الإسلامية على اتحادات الطلبة في معظم الجامعات على الرغم من محاولات السلطة منع ذلك بوسائل تقليدية أو غيرها. ويبدو أن السلطة بدأت تستشعر خطر هذه الجماعات إزاء التوجه السياسي نحو مصالحة إسرائيل واتسام الحركة الطلابية، بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، باللامبالاة السياسية وميل الكثير من الطلبة إلى دعم مرشحي الجماعات الإسلامية في الانتخابات الطلابية. غير أن المخاوف تأخرت عن أوانها. إذ أصبحت الجماعات الإسلامية القوة السياسية السائدة في الجامعات وأداة التعبير الرئيسة عن احتجاج الشباب المثقف على النظام الحاكم. وشرعت بمهاجمة النظام سنة 1978 من خلال مؤتمرات موسعة ونشرات وزعتها واتهمته في التباطؤ بتطبيق الشريعة الإسلامية في مصر معبرة في ذات الوقت عن تأييدها للثورة الإيرانية ورفضها لسياسته السلمية إزاء إسرائيل.

وينقل رفعت سيد أحمد مؤلف كتاب « النبي المسلح» عما يعتبره البعض مرحلة ثانية مرت بها الجماعات في أعقاب المرحلة الوسيطة حيث سيطر « الإخوان المسلمون» عليها لفترة. وبسبب وجود اتجاهات ثورية فيها كـ « القطبيين» (أتباع سيد قطب) وجماعة « التكفير والهجرة» أُفلتت القيادة من يد « الإخوان » وباتت الجماعات الإسلامية عبارة عن تيارات غير متجانسة كما كانت في مرحلة التكوين بأيدي السلفيين. لهذا السبب لجأنا إلى تسمية هذه المرحلة بالمرحلة الوسيطة كونها تنطوي على تغير باتجاه الرفض الذي وإن ظهرت تجلياته في سنة 1978 إلا أنه شرع في الحضور منذ المرحلة الأولى التي شهدت استقطابا طلابيا أغرى الاتجاهات الإسلامية كافة في اقتحام ساحاتها ومحاولة تعزيز نفوذها في إطار الحركة الطلابية أو السيطرة على الجماعات الإسلامية. وعلى الرغم من الفوائد الكبرى التي جنتها الجماعات الإسلامية من هذا التدخل ماليا وتنظيميا إلا أن الاتجاهات الإسلامية فيها ساهمت بتفكيكها من خلال التمسك بأطروحات مستقلة ومتميزة. إذ لم يتحقق انصهار أيديولوجي بينها، وعلى العكس من ذلك فإن بعضها اتجه أيديولوجيا نحو تنظيم الجهاد كالجماعات الإسلامية بمحافظات الوجه القبلي.

وعموما فقد ظهرت ثلاثة تشكيلات باسم الجماعة الإسلامية خلال الثمانينات الأول يسيطر عليه « الإخوان المسلمون» والثاني يسيطر عليه تنظيم الجهاد فرع الوجه القبلي والثالث يميل في توجهاته إلى عبود الزمر والجيل القديم من تنظيم الجهاد الذي تركز في القاهرة ومحافظات الدلتا سنة 1979. ولدى محاولتنا التعرف على أفكار هذه التشكيلات فلم نجد، حين المقارنة، أية اختلافات فكرية أو تنظيمية بينها فيما عدا الجماعة الإسلامية التابعة لـ « الإخوان المسلمين». فالموقف من الدولة القائمة والسعي لإقامة الدولة الإسلامية وخلع الحاكم هي القضايا المركزية التي تحظى بالأولوية تمهيدا لاستعادة الخلافة الضائعة. وفي كل حدث مستجد تتكرر هذه القضايا والموقف منها في وثائق تنظيمات الجهاد حتى لو اختلف الموضوع المعالج. وفيما يلي نثبت ملخصات موجزة جدا لما توفر من وثائق لمختلف الجماعات الإسلامية لم نضطر لتحليلها كلها وإن وقعت الاستفادة منها بلا شك. ومن المفيد التعرف إليها.

خامسا: ملخصات لوثائق جماعات الجهاد

• وثيقة إله مع الله: « إعلان الحرب على مجلس الشعب»، صادرة عن الجماعة الإسلامية - فرع الوجه القبلي لجماعة الجهاد الإسلامي، 1987. وتهتم هذه الوثيقة بمحتويات الدستور المصري وبيان مخالفته للشريعة الإسلامية في ضوء هوية النظام السياسي ومصادره الأيديولوجية وشكل الحكم القائم على أساس الديمقراطية والاشتراكية، وعدم مشروعية مؤسسات الدولة وسلطاتها السياسية وأصول أحزابها وتكونها وأيديولوجياتها الهجينة التي تجتمع في بعض الأحايين في حزب واحد، والتوجهات السياسية والاقتصادية والأمنية للدولة والتي تعلن ارتباطها بالغرب وتهادن إسرائيل.
• وثيقة إله مع الله: « حتمية المواجهة»، نفس المصدر والتاريخ السابقين. وتمثل هذه الوثيقة برنامج عمل تُوجِّه في مقدمته الخطاب إلى المسلم الملتزم أيا كان انتماءه وتلفت انتباهه إلى « الواقع الأليم» وغربة الإسلام والمسلمين فيه، كما تهاجم في المقدمة جماعة « التكفير والهجرة» وتصفها بخوارج العصر وتنتقد كل الجماعات الأخرى بما فيها « علماء السلطة والفتنة». وبعد ذلك تنقسم الوثيقة إلى قسمين:

القسم الأول (أ) تبين فيه حكم البلاد بالقوانين الوضعية بدلا من شرعة الإسلام وتدلل على ذلك بتبديل أحكام الحدود كالزنا والقذف وشرب الخمر والمتاجرة به أو تعديلها كحدَّي السرقة والحرابة أو تعطيلها كإباحة الربا والتعامل به مما يوجب تكفير الحاكم ووجوب قتاله وخلعه.

القسم الثاني (ب) تبين فيه أربع حتميات شرعية للمواجهة أولاها تكفير الحاكم ووجوب قتاله وخلعه
والثانية قتال الطائفة الممتنعة عن إحدى شرائع الإسلام وإن أقرت بالشهادتين والثالثة إقامة الخلافة الإسلامية والرابعة تحرير بلاد المسلمين ووجوب استنقاذ أسرى المسلمين من أيدي الأعداء ووجوب الجهاد لنشر الدين ونصرة المسلمين في شتى بقاع الأرض.

• وثيقة الإحياء الإسلامي، المؤلف: كمال السعيد حبيب أمير تنظيم الجهاد الذي خلف الأردني سالم الرحال بعد إبعاده إلى الأردن. وقد صدرت الوثيقة من السجن سنة 1986. ويمكن اعتبارها الوثيقة الأهم والأوسع والأشمل من بين الوثائق كافة التي وضعتها جماعات الجهاد في الثمانينات بهدف تشخيص حركة الإحياء الإسلامي اجتماعيا وسياسيا وعقديا منذ الدعوة المحمدية وحتى الآن انطلاقا من العلاقة الجدلية بين المنهج والمجتمع. كما تشتمل الوثيقة - الدراسة – على استعراض واسع لمجمل الأطروحات الغربية والعربية في تفسير ظاهرة الإحياء الإسلامي إضافة إلى تفسير الكاتب للظاهرة بوصفه ابنها الشرعي والأدرى بحقيقتها كما يقول. وفي ضوء خطة الدراسة يمكن ملاحظة أهميتها:

1. علاقة العالم الغربي (النصراني) بالعالم الإسلامي من خلال(أ) مراحل هذه العلاقة، (ب) أسباب الاهتمام من جانب العالم الغربي (النصراني) بالعالم الإسلامي – لماذا هذا الاهتمام؟ و(ج) تفسير الظاهرة الإسلامية من منطلق هذا الاهتمام.
2. التفسير الصحيح للظاهرة الإسلامية من وجهة نظر الكاتب من خلال: (أ) علاقة المجتمع الإسلامي بالمنهج القرآني و(ب) أسباب الصحوة الإسلامية من منظور الإسلام.
3. ماذا تعني عملية الإحياء (التجديد) بالنسبة لنا – كحركة جهادية؟
4. خاتمة واستشراف لمستقبل حركة الإحياء الإسلامي التي تعيشها المجتمعات المسلمة اليوم.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية فتكاد تكون الوثيقة الوحيدة التي تعترف بمركزية القضية وترى في فلسطين أداة الحشد الإسلامي العالمي والتغيير.
• وثيقة محاكمة النظام السياسي المصري. وقد نشرت سنة 1986 في مجلة « كلمة الحق» التابعة للجماعة الإسلامية – أحد فروع الجهاد الإسلامي. وكلاهما، المجلة والوثيقة، من النشرات السرية للجماعة. وجاءت ردا قاسيا على الجماعات الإسلامية التي شاركت في الانتخابات ودخول المجلس التشريعي مبينة أن هذه الجماعات لن تستطيع التغيير، كما تدعي، من داخل الحكم. كما أنها لن تحصل على الأغلبية بأي شكل كان. ولو حصل مثل هذا الأمر جدلا فلا يصح أن تُعرض أحكام الشريعة على المجلس لكي يوافق على تطبيقها أو يرفضها لأن الحكم بما أنزل الله هو فرض وليس اختيار ولا يخضع لأغلبية أو أقلية.

• وثيقة حول الناصرية والإسلام، المؤلف: أسامة حميد، أحد القادة المفكرين بجماعة الجهاد الإسلامي في مصر (1987). هذه الوثيقة الوحيدة التي، حسب إطلاعنا على الوثائق الأخرى، لم يطابق عنوانها محتواها. على كل حال فإن جوهر الوثيقة يحاول الإثبات أن « الناصرية» ليست حركة إسلامية كما يشاع. ولكنه يحلل العلاقة بين الإسلام والوطنية وكيفية التقائهما ومن ثم انفصالهما. كما يتعرض لتحول الحركة الإسلامية مشيرا إلى أنها ظلت تعبر عن اتجاه رسالي طوال 1200عام هجري. وقبل مائتي عام فقط غلب عليها الاتجاه المقاوم للتغريب. وهو الاتجاه المسؤول عن تضخمها عدديا. وعن « القومية» يقول بأنها ابتدأت منذ الحكم الأموي الذي أدخل إلى الإسلام ظاهرة الحركات الشعوبية، حيث تم الرد على الحركة العربية بحركة شعوبية فارسية. ويشكو الكاتب من السيولة الشديدة للتنظيمات وتعدد الاتجاهات داخل التنظيم الواحد بما يجعل كل تنظيم وكأنه (جبهة).

• وثيقة منهج جماعة الجهاد الإسلامي، مخطوط غير منشور كتبه عبود الزمر أمير جماعة الجهاد وصدر في السجن سنة 1986. وتمثل هذه الوثيقة دستورا لجماعة الجهاد الإسلامي في مصر، إذ تحدد فيه الجماعة مصادر أفكارها ووسائل عملها وأهدافها وهويتها. كما تقدم رؤيتها لواقع العالم وواقع الأمة الإسلامية. وتطرح وحدة جميع تنظيمات الجهاد الإسلامي تحت قيادة واحدة ليس بالضرورة أن تكون قيادة جماعة الجهاد، أو على الأقل اجتماع قادة العمل الإسلامي في مصر للتفاهم حول هذا الاقتراح.

• وثيقة فلسفة المواجهة، المؤلف: أبو الفداء – 1987. وتركز هذه الوثيقة على أربعة محاور تتجاوز أية إمكانية للإصلاح أو الحوار مع السلطة:
• المواجهة تعني المفاصلة والصدام بالحجة واللسان أو بالسيف والسنان لإقصاء كل القيادات الجاهلية عن قيادة البشرية وإعلان الحرب على الفساد المستشري في المجتمعات لحساب الجاهلية.
• شرعية المواجهة المستمدة من وجوب مقاتلة الحاكم الكافر وخلعه ووجوب تنصيب خليفة مسلم لأن خلع هذه الأنظمة وهؤلاء الحكام لا يتم إلا بالقتال.
• جغرافية المواجهة. ينبغي أن يبدأ التغيير انطلاقا من مصر لأسباب عديدة ووجيهة تتعلق بتاريخ الحركة الإسلامية فيها وشعبيتها الهائلة وعجز النظام عن الإطاحة بها فضلا عن أنها كانت ولا تزال رائدة الحركات الإسلامية في العالم، ولا أدل على ذلك من أن الثورة الإيرانية استمدت جذورها من رائدي التحول الإسلامي حسن البنا وسيد قطب. وهذا رد على الدعوات الإسلامية التي رأت في فلسطين قضية إسلامية مركزية أو في أفغانستان أو إيران أو أي مكان آخر. ومن بين الدلائل التي يسوقها أن الشيخ صالح سرية الفلسطيني الأصل أدرك أهمية مصر ودورها فحضر إليها أملا في إحداث التغيير انطلاقا من مصر.
• ضرورة المواجهة. وهذا البند قصد فيه استمرار الهجوم على النظام لإنهاكه بصرف النظر عن النتائج. أما ميدان المواجهة فهي كل أجهزة الدولة. وحتى السجناء لم يتوقفوا عن إنهاك المحققين الذين فشلوا في سياسية غسيل الأدمغة.

كما تتضمن الوثيقة نقداً للتفسيرات العلمانية والشيوعية للظاهرة الإسلامية ومحاولات تشويهها خاصة المتعلقة بربطها بالفرضية الاقتصادية التي ساهمت بتشكيل سياسة النظام في تعامله مع الحركة الإسلامية فضلا عن رفع حكام المنطقة لشعار التنمية في هذه المرحلة ليحل محل « التقدم» أو « التحديث» ويصبح « طاغوت اليوم».

ملاحظة

 وردت التسمية عنوانا لـ: أحمد (رفعت سيد).- تنظيمات الغضب الإسلامي في السبعينات – مكتبة مدبولي – القاهرة ، جمهورية مصر العربي – الطبعة الأولى،1989. وعلى الرغم من أن المؤلًّف يعبر عما ورد في هذا الفصل إلا أننا سنعتمد على مؤلف "النبي المسلح" بجزأيه نظرا لاتساعه واحتوائه على الوثائق الأصلية للجماعات الإسلامية في مصر .ولأن المؤلَّف ثمرة جهد كبير امتد لسنوات.
هو شقيق عبد الفتاح إسماعيل الذي أعدم مع سيد قطب بتاريخ 29/8/1966. وقد تراجع علي إسماعيل عن أفكاره فيما بعد.
هو نزيل سجن (ليمان – طره) الذي حدثت فيه المجزرة ضد الإخوان المسلمين. وقد أطلق على نفسه لقب "أمير آخر الزمان طه المصطفى شكري" وكان قد قضى في السجن نحو ست سنوات في الفترة ما بين 1965-1971 ثم أفرج عنه بعد تولي "السادات" الحكم إلى أن أعدم في أواخر سنة 1977. وقد وردت بعض أفكار الجماعة لدى: السعيد (رفعت): الإسلام السياسي من التطرف إلى مزيد من التطرف - قضايا فكرية - دار الثقافة الجديدة - القاهرة، جمهورية مصر العربية - الكتاب الثامن، تشرين أول/ اكتوبر 1989/ص237-238.
النبي المسلح.- الجزء الثاني ( الثائرون ) - مرجع سابق - ص77.
أبو عامود ( محمد سعيد ) : البناء التنظيمي لجماعات الإسلام السياسي في الوطن العربي ( مصر كحالة للدراسة ) - الوحدة - المجلس القومي للثقافة العربية - الرباط، المملكة المغربية - عدد 83 ، 82 - تموز/ يوليو، أب/ أغسطس 1991 - ص 37.
- القرآن الكريم - سورة المائدة ، آية 82.
- العبيدي ( عوني جدوع ).- حزب التحرير الإسلامي - دار اللواء للصحافة والنشر - عمان، الأردن - 1993 - ص 105.
يلاحظ ثمة تقارب أيديولوجي مبدئي بين "جماعة المسلمين" و "حزب التحرير" فيما يخص اعتناق فكرة العهد المكي والعهد المدني.بيد أن الاختلاف بينهما يقع في أسلوب العمل. حيث ترفض " الجماعة" ممارسة أي عنف خلال "العهد المكي" بانتظار الهجرة وبناء المجتمع المسلم فيما يحرص حزب التحرير على إنجاز انقلاب سريع يطيح بحكومة عربية وإقامة الدولة الإسلامية فيها.وهذا بالنسبة إليه ليس جهادا بل حاجة ماسة للشروع في الجهاد انطلاقا من قاعدة متينة.وثمة إمكانية للمقارنة في هذا الصدد حول مواقف الحزب وتحولات العهد المكي والعهد المدني،لدى: البرغوثي (إياد): الإسلام بين السلطة والمعارضة في الأردن-قضايا فكرية -الكتاب الثامن-مرجع سابق-ص 240.
المدهون (ربعي): الحركة الإسلامية في فلسطين (1987-1928) - شؤون فلسطينية - منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف)، مركز الأبحاث - نيقوسيا، قبرص - العدد 187 - تشرين أول/ اكتوبر 1988 - ص 34.
مجلة الشراع اللبنانية - 1/7/1991.
- النبي المسلح .– الثائرون ( 2 ) - مرجع سابق - ص 81.
نفس المرجع .- ص 82
نفس المرجع .- ص81. وقد نشرت أطروحته في مركز الأبحاث الفلسطيني سنة 1973، وتتعلق في مسألة التعليم الفلسطيني في فلسطين المغتصبة.
على خلفية هذه المعتقدات حاول الحزب القيام بعدة محاولات انقلابية ضد بعض الأنظمة السياسية العربية في الأردن (محاولتان في أواخر الستينات) والعراق وسوريا ومصر وتونس. مصطفى ( هالة ): قضايا فكرية - الكتاب السادس - مرجع سابق - ص 181. وتقول الباحثة أن هذه المعتقدات تفسر لجوء الحزب إلى الاعتماد على التغلغل في الجيوش العربية لتصبح هي ركيزته الأساسية في نشر أفكاره وتحقيق أهدافه فضلا عن أنه أخفق في أن يكون حركة جماهيرية. نفس المرجع: ص 181.
البرغوثي ( إياد ): قضايا فكرية - الكتاب الثامن - مرجع سابق - ص 240. وكذلك: المدهون ( ربعي ): شؤون فلسطينية - العدد 187 - مرجع سابق - ص 30.
يشير باحث إسرائيلي أن قيادة الحزب في الخارج أرسلت تعليمات واضحة إلى مؤيديها حظرت بموجبها اشتراكهم بصورة منظمة في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة أواخر العام 1987. يراجع في ذلك: شيف ( زئيف ) و يعاري ( إهود ) .- انتفاضة - دار شوكن للنشر - القدس وتل أبيب - ترجمه من العبرية إلى العربية، سجيف ( دافيد ) / 1990 - ص 265.
العبيدي ( عوني جدوع ).- حزب التحرير الإسلامي - مرجع سابق / ص 102 - 104.
نفس المرجع .- ص 120. وقد توفي "النبهاني" سنة 1976 أو 1977. ويبدو أن الباحث لم يستطع تحديد تاريخ الوفاة بسبب مقاطعة جميع الدول العربية لخبر وفاته في جميع وسائل الإعلام.وقد أورد الباحث وفاته في 20/6/1977 بينما ذكرت صحيفة الدستور الأردنية أنه توفي في 29/12/1977، ونعاه الحزب من جهته في11/12/1977. نفس المرجع .- ص 130.
نفس المرجع.- ص 119.
النبي المسلح .- الرافضون (1 ) - الوثيقة الأولى: رسالة الإيمان ( 1973 ) - مرجع سابق.
الكيلاني ( موسى زيد ) .- الحركات الإسلامية في الأردن وفلسطين - مؤسسة الرسالة ، دار البشير - عمان، الأردن - الطبعة الثانية، 1995 - ص 212.
- في هذا السياق يمكن الاستفادة بشكل كبير من ثلاثية " العقل العربي" لـ : الجابري ( محمد عابد ). – تكوين العقل العربي ( نقد العقل العربي ) / 1 – المركز الثقافي العربي - بيروت، لبنان - الطبعة الرابعة ، أيلول/ سبتمبر 1991.
ميتشل ( ريتشارد ).- الإخوان المسلمون - مرجع سابق - ص391.
- قرآن كريم .- سورة آل عمران ، آية 45.
نفس المصدر .- سورة التوبة، آية 51.
حديث نبوي شريف.
- النبي المسلح .- الثائرون ( 2 ) - مرجع سابق - حاشية 24 ، ص 94.
أعدم بتاريخ 6/3/1982 مع خالد الإسلامبولي بتهمة إعطاء أوامر لـ" الإسلامبولي" لإغتيال الرئيس المصري أنور السادات.
النبي المسلح .- الرافضون ( 1 ) - الوثيقة الرابعة: الفريضة الغائبة - مرجع سابق.
نفس المرجع .- الثائرون ( 2 ) - حاشية 28 ، ص 95.
نفس المرجع .- ص 84.
نفس المرجع.- حاشية 27 ،ص 94. ويقول الباحث أنه حصل من أعضاء الجهاد على نسخة من "الفريضة الغائبة" من أصل عشرة نسخ نجت من الإتلاف بعد أن أُحرقت 500 نسخة مطبوعة إثر اغتيال السادات.
النبي المسلح .- الرافضون (1 ) - مرجع سابق - حاشية 1 ، ص 164.
تستند البرهنة على مؤلفات : ابن كثير ( البداية والنهاية ) وابن تيمية ( الفتاوى ) وتلميذه ابن القيم الجوزية.
- للمقارنة يمكن العودة إلى: النبي المسلح .- الثائرون ( 2 ) - وثيقة الإحياء الإسلامي - حاشية 50 ، ص 240. إذ ثمة فتاوى إسلامية لابن كثير وابن تيمية وابن القيم الجوزية فيما يتعلق بالخروج على "حاكمية الله".
نفس المرجع .- نفس الوثيقة.
- 

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

5 من الزوار الآن

876732 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق