المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 6.0 فلسطيننا > حقائق عن قضية فلسطين حلقة 3

23 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018

حقائق عن قضية فلسطين حلقة 3

بريطانيا أغرت يهود العالم بالهجرة إلى فلسطين
كيف نقضت بريطانيا عهودها المتكررة للعرب
فشل الإنجليز – رغم وسائل التعذيب الوحشية- في حمل الفلسطينيين على الرضوخ

- السؤال التاسع :
ما هي أهداف السياسة البريطانية في الأقطار العربية والعالم الإسلامي ؟
وما هي الخطة التي سارت عليها في تنفيذ سياستها المرسومة في فلسطين ؟
الجواب :
للسياسة الإنجليزية خطة قديمة، بعيدة المدى، عميقة الغور، لا حيال فلسطين وحدها، بل حيال البلاد العربية عامة ، والشرق الإسلامي قاطبة .
فإن إنجلترا منذ تمكنت من قهر إسبانيا واحتلال جبل طارق عام 1115هـ (1704م) وولجت من هذا الباب إلى البحر الأبيض المتوسط الزاخر بالثروات العظيمة، والتجارة الواسعة، والذي لا يدانيه بحر آخر في موقعه الجغرافي والحربي الممتاز، ازداد نشاط شهوتها الاستعمارية فشرعت بالعمل لتحقيق مطامعها في هذه الأقطار والشواطئ التي يملك أكثرها العرب من جبل طارق حتى الإسكندرية . وكان يسيطر على معظم هذه الشواطئ الأفريقية والأسيوية والأوربية، الإمبراطورية العثمانية التي كانت تحكم أقطارا شاسعة في القارات الثلاث المحيطة بالبحر الأبيض وتملك معظم شواطئ ذلك البحر، فكانت بذلك العقبة الكبرى في سبيل المطامع الاستعمارية .

- مساعي بريطانيا لتحطيم الدولة العثمانية :

ولا يتسع المجال هنا لبسط الوسائل الشيطانية التي توسلت بها إنجلترا، وتعاونها مع فرنسا وروسيا القيصرية حينئذ، ثم مع غيرهما من الدول الأوربية، لتحطيم الدولة العثمانية واحتلال بلادها قطراً قطرا إلى أن تمكنت من احتلال مصر عام 1299هـ (1882م) فاتخذ منها الإنجليز مركزاً رئيسياً في الشرق العربي لدوائر استخبارا تهم البارعة، ودعاياتهم الواسعة ولإلقاء شباكهم الاستعمارية في أقطار الإمبراطورية العثمانية . ولاسيما في البلاد العربية . وعنى الاستعمار البريطاني بالبلاد العربية خاصة لما لها من التأثير على العالم الإسلامي، ولما تشتمل عليه من أقطار واسعة ذات ثروات عظيمة وطرق تجارية ومواقع جغرافية وحربية ممتازة .

- أخطبوط الاستعمار في البلاد العربية :

وأنه ليحزننا أن نرى أخطبوط الاستعمار البريطاني استطاع أن يستفحل ويتوغل في كثير من البلاد العربية حتى أطراف الجزيرة كالبحرين ومسقط وعمان وقطر والكويت وحضرموت وعدن ولحج وسائر المحميات في جنوب جزيرة العرب . هذا عدا استمراره على موافقة البغيضة المؤذية في مصر والسودان والأردن والعراق وليبيا . وما نشاهده من عدوانه ووسائله في اليمن والبريمي وسوريا وغيرها . أما فعلته الشنعاء وجريمته النكراء في فلسطين ففي غنى عن أي بيان، وسيظل جرحها يدمي وينغر على مدى الزمان .
فالاستعمار البريطاني – الذي أرغم على الخروج من الهند وباكستان وبورما وسيلان، وتقلقل مركزه في الملايو ، وتقلص نفوذه في إيران وسائر البلاد الآسيوية – لم يبق يرزخ تحت كلكله إلا العرب في آسيا وأفريقية، وحسبهم ذلك ذلاً وعاراً . أما سائر الشعوب الأفريقية الباسلة فإنا نراها آخذة بمكافحة الاستعمار الذي يحاول تعويض إمبراطوريته المفقودة في آسيا بإمبراطورية أخرى في أفريقية .

- الإنجليز يقفون على إمبراطورية المغول :

لقد احتلت بريطانيا ووطدت أقدامها فيها وتمكنت – بدسائسها ومكايدها – من القضاء على الإمبراطورية المغولية الإسلامية التي استمر حكمها قروناً طوالاً في تلك الأقطار الشاسعة، ثم أخذت تحتل البلاد العربية الواقعة على طريق الهند تأميناً لطرق مواصلاتها، وتثبيتاً لأقدامها في إمبراطوريتها الآسيوية العظمى، فلما خرجت بريطانيا من الهند قبل بضع سنوات، لم تبق لها حجة في احتلال الأقطار الواقعة على طريق الهند، ولكنها المطامع الاستعمارية الجشعة التي تحرص بريطانيا عليها في الأقطار العربية من آسيوية وأفريقية، وما هي إلا حجة الذئب المفترس على الحمل الوديع ..

- موقف إنجلترا من فلسطين :

أما موقف إنجلترا من قضية فلسطين فواضح ، وقد تكشف بعد التمحيص حتى بدا على حقيقته عارياً مفضوحاً للناس أجمعين .
ففي عام 1916 خلال الحرب العالمية الأولى، قطعت إنجلترا للأمة العربية عهوداً باستقلال جميع البلاد العربية المنسلخة عن تركيا بما فيها فلسطين، وهي المعروفة بعهود "ما كما هون" الذي كان معتمداً لإنجلترا في مصر، ثم اضطرت لتعزيزها بوعد آخر من اللورد بلفور وزير الخارجية البريطانية "وهو صاحب التصريح المعروف بتصريح بلفور المشؤوم الذي أعطاه لليهود في 2 نوفمبر 1917م .

- معاهدة سايكس – بيكو بتقسيم البلاد العربية :

وبيان ذلك أن الشيوعيين لما وثبوا على روسيا القيصرية وغلبوا على أمرها واستولوا على مقاليد الحكم فيها ، أذاعوا جميع المعاهدات والوثائق السرية التي كانت لدى وزارة خارجية روسيا القيصرية، وكان من بينها معاهدة سايكس – بيكو السرية المعقودة في مارس 1916 بين إنجلترا وفرنسا، والتي تنص على تقسيم الدولة العثمانية، بما فيها البلاد العربية بين كلتا الدولتين المستعمرتين ، فبمقتضى تلك المعاهدة يكون لإنجلترا العراق وفلسطين وغيرهما من بلاد العرب، ويكون لفرنسا سوريا ولبنان . وكانت الثورة العربية قد نشبت في الحجاز بقيادة شريف مكة المرحوم الحسين بن علي على إثر العهود التي قطعتها بريطانيا باستقلال العرب واستغلها الإنجليز وحلفاؤهم أيما استغلال .
فلما افتضح سر معاهدة سايكس – بيكو وحصلت الحكومة الألمانية على نصوصها سارعت بإرسالها إلى حليفتها الدولة العثمانية، وهذه أرسلتها إلى الأمير فيصل بن الحسين "الملك فيصل بعدئذ" فأرسلها إلى والده الملك حسين مع رسالة خلاصتها : الآن وقد ظهر خداع الحلفاء ولم يبق مجال الثقة بعهودهم فإن الدولة العثمانية تتعهد إرضاء للعرب بإقامة دولة تركية عربية متحدة . وكان الأمير فيصل في ذلك الحين يميل إلى قبول حل كهذا . ولكن النتيجة كانت إرسال هذه الرسائل إلى الإنجليز مع الاستيضاح عن حقيقة الأمر . وشعر الإنجليز بغضب العرب لغدرهم بهم، وخشوا أن يعقدوا مع الأتراك صلحاً منفرداً ، فأوفدت وزارة الخارجية البريطانية المستر "هوغارت" مبعوثاً خاصاً إلى الحجاز لتهدئة روع العرب وإقناعهم بأن ما أذيع حول المعاهدات السرية ليس صحيحاً، كما بادرت وزارة الخارجية البريطانية إلى إرسال برقية مطمئنة تنفي فيها صحة الخبر وتؤكد فيها عهودها السابقة بتحرير البلاد العربية واستقلاها، وقد حملها إلى الملك حسين ، الكولونيل "باست" نائب المتعمد البريطاني في جدة وهي مؤرخة في 8 فبراير 1918م .

بلفور يقطع عهدين متناقضين :
فهذه البرقية المرسلة من وزارة الخارجية البريطانية لها أهمية خاصة لأنها جاءت مؤكدة لعهودها بعد ظهور معاهدة سايكس – بيكو ولأنها صادرة عن وزير الخارجية اللورد بلفور الذي هو نفسه صاحب التصريح المعروف بتصريح بلفور، وبذلك يكون بلفور قد قطع عهدين متناقضين أحدهما لليهود في 2 نوفمبر 1917 والآخر للعرب في 8 فبراير سنة 1918م .

عرب فلسطين يثيرون القضية أمام لجنة التحقيق :
ولم يكن أمر هذه البرقية شائعاً إلى أن نشبت ثورة فلسطين عام 1929 بسبب عدوان اليهود على مكان البراق النبوي في السور الغربي للمسجد الأقصى في القدس، فلما صد العرب عدوان اليهود وهزموهم وجاء الإنجليز بلجنة "شو" للتحقيق، وجد عرب فلسطين أن الفرصة قد سنحت لإثارة قضيتهم وإظهار أهمية العهود المقطوعة من إنجلترا للأمة العربية .

- برقيتي وكتابي إلى الملك حسين وجوابه عليهما :

فأبرقت إلى المرحوم الملك حسين الذي كان حينئذ منفياً في جزيرة قبرص ثم أرسلت إليه كتابا رجوته فيه أن يتفضل بإرسال كل ما يحتفظ به من عهود ووثائق للإفادة منها أمام لجنة التحقيق البريطانية فرد علي جلالته برقياً بالإيجاب ثم شفع برقيته بكتاب منه مؤرخ في 30 جمادي الآخرة سنة 1348 صادر عن مدينة نيقوسيا بقبرص حيث كان يقيم ، وأرفق بكتابه صورة فوتوغرافية لبرقية اللورد بلفور، الذي كان وزيراً للخارجية البريطانية حينئذ، والتي حملها إليه الكولونيل باست، ولغيرها من الوثائق والمستندات . وفيما يلي صورة كتاب المرحوم الملك حسين إلى ، ونص كتاب الكولونيل باست المشتمل على برقية اللورد بلفور :
ثم كتبت إلى المرحوم الملك حسين كتاباً آخر بتاريخ 15 رجب 1348 (الموافق 26 ديسمبر1929) رجوته فيه أن يتفضل بإرسال بيانات وتفصيلات أخرى. فأجابني رحمه الله بكتاب آخر مؤرخ في 23 رجب 1348 أرفق به صور المراسلات التي دارت بينه وبين السر هنري مكماهون بشأن استقلال البلاد العربية وتوكيد الإنجليز لهذا الاستقلال الذي حنثوا بعهودهم المقطوعة بشأنه ولا سيما ما كان منها متعلقاً بفلسطين .

- العبرة في مادة الملك حسين :

وعلى ذكر قبرص التي نفي الإنجليز الملك حسيناً إليها، أورد القصة التالية ففيها عبرة وذكرى لأولي الألباب :
حينما قطع الإنجليز عهودهم المعروفة بعهود مكماهون للملك حسين كان السر رونالد ستورس مستشاراً شرقيا في دار المعتمد البريطاني بقصر الدوبارة بالقاهرة، وكان هو الذي تولى نقل أكثر المخابرات بين مكماهون والملك حسين، فتظاهر بالإخلاص للملك حسين وتصنع الصداقة الوثقي له ، وكان يطلق عليه في مكاتباته ومخاطباته لقب صاحب الجلالة ملك العرب، وبعده ويمنيه، فلما انتهت الحرب وألح الملك حسين مطالباً بتنفيذ العهود التي قطعت له قامت مشادة بينه وبين الإنجليز وانتهى الأمر بجعله منفياً إلى جزيرة قبرص على ظهر سفينة حربية إنجليزية ، وإذا به يلقى ستورس حكاماً عليها، فلبث فيها بضع سنين لقي فيها من قسوة الإنجليز عامة ومن هذا الصديق القديم المزعوم خاصة ومن سوء معاملته ما لا يتسع المجال لبسطه، وقد سمعت طرفاً منه من المرحوم الملك حسين نفسه لما عاد من قبرص إلى عمان مريضاً عام 1932م . كما ذكر لي خلال مرضه الأخير هذا ، خيبة آماله في عهود المستعمرين ووعودهم وإن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار .

- مقارنة بين عهد عمر وعهد الإنجليز:

دخل الإنجليز القدس في 9 ديسمبر عام 1917 بقيادة الجنرال اللنبي متأبطين شراً ، متأبطين وعد بلفور المقطوع لليهود في 2 نوفمبر 1917م غير آبهين لوعود دولتهم التي قطعها مكماهون للعرب عام 1916م ولا بوعد بلفور المقطوع للعرب أيضاً عام 1918م فما كادت أقدامهم تتوطد في فلسطين حتى شرعوا في فتح أبوابها لهجرة يهودية واسعة النطاق .
ومن الطرائف التاريخية أن العرب عندما جاءوا القدس فاتحين عام 15 للهجرة ، قطع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عهده المشهور للبطريرك صفرونيوس – الذي كان يمثل نصارى القدس – الذي أمنهم فيه على جميع حقوقهم الشرعية وألقى فيهم خطية افتتحها بقوله : "يا أهل إيلياء (القدس) لكم ما لنا وعليكم ما علينا" واشتمل عهده لهم على أن لا يسكن معهم في القدس أحد من اليهود وفقاً لطلبهم ، ووقع ذلك العهد وأشهد عليه كبار قواده، وظل ذلك العهد مرعباً نافذاً بكل دقة وإخلاص نحو ثلاثة عشر قرناً . وهو محفوظ إلى يومنا هذا لدى السلطات الدينية الأرثوذكسية لكنسية القبر المقدس في القدس . وظل أجدادنا محافظين على هذا العهد رغم توالي الأحداث وتقلب الزمان .

- الإنجليز ينقضون عهودهم للعرب :

لكن الإنجليز نقضوا عهودهم للعرب ولما يجف مدادها، فما أعظم الفرق بين الفريقين ! وقد تولت إنجلترا الانتداب على فلسطين عملياً يوم احتلالها فلسطين وتمت المصادقة الرسمية على هذا الانتداب من عصبة الأمم في يوليو 1922 .
وقد فرض صك الانتداب على إنجلترا المحافظة على سكان البلاد وحفظ مصالحهم وحقوقهم. كما أن ملك بريطانيا وجه منشوراً إلى الفلسطينيين العرب عام 1930 جاء فيه ما يأتي :
"إن رغبتي هي أن أؤكد لكم أن العدل والبعد عن التحيز في أدق معانيهما سيكونان رائد حكومتي في عملها على احترام حقوق العناصر والمعتقدات التي تمثلونها"

- جورج الملك – الإمبراطور :

لكن الحكومة الإنجليزية عملت لصالح اليهود فحسب ، وبذلت كل الجهود السياسية والاقتصادية والعسكرية لتقويض كيان العرب الذين اضطروا فيما بعد للقيام بثورات عديدة ذوداً عن حياتهم وطلباً لحريتهم ، فكانت إنجلترا ترسل لجان التحقيق لتخديرهم ثم تستأنف السير في سياستها الظالمة الغاشمة .

- بريطانيا تغري اليهود :

واتضح أن بريطانيا هي التي كانت تغري اليهود بالهجرة إلى فلسطين ليكونوا أعواناً لها في سياستها الاستعمارية ، فقد حدث عندما نشر البلاشقة الوثائق والمستندات التي حصلوا عليها عندما استولوا على زمام الحكم في روسيا القيصرية ، إن كان بينها وثيقة ذات أهمية خاصة في الموضوع الذي نحن في صدده ، وبيانها أن السير إدوارد غراي الذي كان وزيراً لخارجية بريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، أرسل إلى السير جورج بيوكانان سفير بريطانيا في روسيا، برقية يطلب فيها منه أن يعرض على وزير خارجية روسيا "سازونوف" اقتراحاً بالعمل على تسهيل هجرة يهود روسيا إلى فلسطين وأن بريطانيا وفرنسا – متى وقعت فلسطين نتيجة الحرب في منطقة نفوذهما – تكفلان للشعب اليهودي مركزاً ممتازاً وتسهيلات في الهجرة والاستعمار وأن من رأي بريطانيا أن الاتفاق على تنفيذ هذا المشروع يكون إغراء شديداً لأكثرية اليهود ويؤدي إلى اكتساب العناصر اليهودية، في الشرق والولايات الأمريكية وغيرها، إلى جانب قضية الحلفاء . وقد أرسل السفير البريطاني في بتروغراد هذه البرقية في مذكرة منه مؤرخة في 13 مارس 1916م إلى وزير الخارجية الروسية ، ونشرتها جريدة "راسفت" Rasviet الروسية اليهودية التي تصدر في باريس بتاريخ 4 يناير سنة 1925 نقلا عن كتاب "اقتسام تركيا الآسيوية بحسب الوثائق السرية لوزارة الخارجية الذي نشرته القوميسارية السوفيتية للشئون الخارجية .

- توجيهات حكومة لندن لموظفيها في فلسطين :

وكانت حكومة لندن المركزية توجه موظفيها البريطانيين توجيهاً خاصا لتنفيذ المؤامرة اليهودية الاستعمارية ضد العرب . وإني لأذكر برهانا على ذلك (والبراهين كثيرة) ما رواه لي الأستاذ جورج انطونيوس – الذي كان في السابق من كبار موظفي حكومة فلسطين خلال عهد الانتداب- إنه حينما اشتدت ثورة عام 1936 وكان من أسبابها أن المندوب السامي الجنرال واكهوب فتح باب الهجرة لليهود على مصراعيه حتى بلغ عدد المهاجرين المسجلين رسمياً في عهده نحو مائتي ألف يهودي، هذا عدا المهاجرين السريين، فلما لامه انطونيوس على ذلك أجابه بقوله : ماذا أصنع ؟ . إن رئيس الوزراء مستر رامزي ما كدونالد حينما ودعته عند سفري إلى فلسطين لأتسلم زمام عملي قال لي : أبذل كل جهودك لاسترضاء اليهود، وأعمل كل ما تستطيع لمنع شكواهم . أما نصيحة وزير المستعمرات له حينئذ فكانت إرضاء اليهود بالسير وفق خطة إنشاء الوطن اليهودي، وإرضاء زعماء العرب بالاستجابة إلى مطالبهم الشخصية فقط، ولكنه كان يضيق ذرعاً ويحمر وجهه عندما يقابله الذين ليس لهم مصالح شخصية من العرب ويطالبونه بتحقيق المصلحة العربية العامة .

- شهادة وزير المستعمرات للعرب :

يمثل هذا التوجيه في الإدارة ، وبالتفريق والإغراء والخداع حيناً، وأحياناً بالعنف والقسوة، وجه الإنجليز سياستهم في فلسطين وأخذوا الوطنيين العرب بالشدة وتوسلوا بالوسائل الوحشية ضد المجاهدين والمناضلين من أهل فلسطين بالقتل والتعذيب والإحراق بأسياخ الحديد المحماة، والإرغام على الجلوس فوق مواقد التدفئة المستعرة ، وفي داخل الثلاجات، وغير ذلك من وسائل البغي والعدوان والنهب والسلب . ورغم ذلك كله صمد الفلسطينيون وصبروا وصابروا وأبدوا من ضروب البسالة في قراع الاستعمار ومكافحة الغزوة اليهودية ما سجله لهم تاريخ الجهاد في صفحاته الخالدة، وما حمل وزير المستعمرات حينئذ مستر مالكولم ما كدونالد على التصريح في مجلس العموم البريطاني سنة 1938 عند البحث عن أسباب ودوافع ثورة عرب فلسطين معترفاً بأن ثورتهم وطنية صادقة وبريئة من الشوائب وأن التحقيقات الرسمية التي قامت بها الحكومة البريطانية أثبتت ذلك وأن الفلسطينيين قاموا بثورتهم اعتماداً على إيمانهم بقضيتهم ، وعلى بسالتهم رغم أن جميع أسلحتهم كانت من الأسلحة القديمة البالية .

- بريطانيا تسلم فلسطين لليهود :

وقد أوجزت في حديث سابق حالة فلسطين عند الاحتلال البريطاني وكيف وقعت في مصيبة مزدوجة بين براثن بريطانيا الظالمة، وبين مخالب اليهودية العالمية الغاشمة، وكلتاهما لا تقيم للحق والعدل وزناً ولا تعرف للرحمة معنى . وقد مضت بريطانيا واليهود في تنفيذ خطة التهويد بسرعة عظيمة . ويؤخذ مما جاء في مذكرات وايزمان (أن اليهود اتفقوا مع بريطانيا قبل الحرب العالمية الأولى وقبل احتلالهم لفلسطين على خطة التهويد، وأن إنجلترا وعدت بتسليم فلسطين لليهود خلال مدة تتراوح بين عشرة أعوام وخمسة عشر عاماً ولكن المقاومة العربية التي لم تكن متوقعة بهذه القوة حالت دون ذلك في المدة المحددة) .

- تسخير الحكومة لتهويد فلسطين :

فبريطانيا التي تعهدت في بدء الاحتلال بإجراء العدل والمحافظة على مصالح أهل فلسطين المنصوص عليهما حتى في تصريح بلفور وصك الانتداب، عملت عكس هذا تماماً في كافة الشئون السياسية والاقتصادية والتشريعية والثقافية وغيرها، فاعترفت بالمنظمات اليهودية كالجمعية الصهيونية والوكالة اليهودية والكيرن كايمت والكيرن هابسود وغيرها وشجعتها وتعاونت معها على تنفيذ رغباتها بحجة أ المادة الثانية من صك الانتداب تنص على (وضع البلاد في حالات سياسية وإدارية واقتصادية تسهل إنشاء الوطن القومي لليهود) وسخرت جهاز الحكومة كله لتنفيذ هذه السياسة بسن القوانين والأنظمة الإدارية والقضائية والمالية التي تحقق أهداف اليهود، ولاسيما ما كان منها متعلقاً بالهجرة والأراضي والزراعة والتجار والاقتصاد والتعليم والأمن العام وغيرها .
وحكمت بريطانيا عرب فلسطين حكماً استعمارياً مباشراً في جليل الشئون وحقيرها حتى ضج بعض المنصفين من الإنجليز أنفسهم من تلك السياسة الجائرة .
وكان أول مندوب سام لبريطانيا على فلسطين يهودياً هو السير هربرت صموئيل ، كما أن النائب العام الذي بيده التشريع القضائي والسيطرة على المحاكم كان يهودياً وهو المستر تورمان بنتوبتش . وكان مدير دائرة المهاجرة والسفر (حاييمسون) يهودياً أيضاً، بالإضافة إلى كثير من كبار الموظفين اليهود في حكومة الانتداب الإنجليزية .
ومنحت بريطانيا اليهود معظم أراضي الدولة في فلسطين ومقداره نصف مليون دونم دون مقابل، كما منحتهم الامتياز باستغلال الكهرباء لكل فلسطين، وهو المعروف بامتياز روتنبرغ، وكذلك امتياز استثمار البحر الميت الذي قدر الخبراء ما فيه من الثروة بأربعة عشر مليارا من الجنيهات . وقد قال هربرت صموئيل الذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس إدارة شركة البحر الميت، إن في هذا البحر من البوطاس والمعادن والثروة ما يزيد أضعافاً مضاعفة عما أنفقه كل من الحلفاء وخصومهم في الحرب العالمية الأولى . ومنحتهم أيضاً كثيراً من الامتيازات وفتحت لمهاجريهم أبواب فلسطين حتى رفعت عددهم من خمسين ألف يهودي في بدء الاحتلال إلى نحو سبعمائة ألف في عام 1947 أي أنها زادتهم نحو خمسة عشر ضعفاً خلال ثلاثين عاماً، وكانت هذه الزيادة على حساب العرب الذين أخرجوا من ديارهم وقوض كيانهم وهدمت مئات من مدنهم وقراهم، وبنتيجة هذه السياسة الظالمة أخرجت بريطانيا نحو مليون عربي من فلسطين وشردتهم في الآفاق ومكنت اليهود من الاستيلاء على أراضيهم وممتلكاتهم وثرواتهم التي لا تقل عن ألفي مليون من الجنيهات وفق تقدير لجنة الخبراء الماليين التي ألفتها الهيئة العربية العليا لفلسطين .
أما المشروعات العربية فقد كان الإنجليز يقاومونها بمختلف الوسائل . وأذكر مثلاً على ذلك أنه لما عقد المؤتمر الإسلامي في القدس عام 1931 الذي شهدته صفوة مختارة من زعماء العالم الإسلامي، كان من جملة مقرراته إنشاء جامعة في القدس تجمع لها الأموال ويشتري بها أراض توقف عليها فيكون النفع بذلك مزدوجاً، وسافر لتحقيق هذه الغاية وفد من أعضاء المؤتمر إلى الهند كان من أعضائه الأستاذ السيد محمد علي علوبة، وعند وصولنا ألفنا لجنة من أعظم زعماء مسلمي الهند لجمع التبرعات وتبرع للمشروع نظام حيدر أباد بمليون روبية وتبرع سلطان البهرة وبعض جماعته بنصف مليون، وتعهد أمير بهو بال وغيره بمبالغ كبيرة، وكان نجاح الوفد باهراً وتوقع أن يجمع بضعة ملايين . ولكن إنجلترا التي كانت لها السيطرة على الهند سارعت إلى مقاومة المشروع وتمكنت من إحباطه فقد أعلني سكرتير اللجنة (فيروز خان نون) الذي كان يومئذ وزير معارف البنجاب أنه اطلع على تعليمات واردة من حكومة لندن إلى اللورد (ولنجتون) نائب الملك خلاصتها أن يعامل وفد المؤتمر الإسلامي بالاحترام والعناية الشخصية ، وأن يحال بكل الوسائل دون نجاح مهمته لأن من شأنها أن تعرقل سياسة حكومة جلالته في فلسطين. أي أن نجاح الوفد في جمع الأموال سيؤدي إلى إنقاذ أراضي فلسطين وسيزاحم اليهود في شرائها . وبالفعل فقد منع الإنجليز خروج الأموال من الهند وأحبطوا مهمة الوفد .
وصفوة القول أن إنجلترا اختطت في فلسطين خطة من الكيد والعسف والظلم لا مثيل لها، وخانت الأمانة بصفتها منتدبة من قبل عصبة الأمم ومسئولة عن صالح أهل فلسطين والمحافظة على كيانهم وصيانة حقوقهم. ولئن عجزنا اليوم عن سوقها إلى محكمة عدل دولية منصفة فإن الله العادل القهار سيحكم على الظالمين حكماً عادلاً يزعزع أركانهم ويقوض بنيانهم. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .

- سياسة بريطانيا

قائمة على أساس ضمان مصالحها الاستعمارية
لماذا تنصر إنجلترا اليهود على العرب
مصالحة العرب لليهود انتحار للأمة العربية

السؤال العاشر :
أ - هل تعتقدون بأن في الإمكان حمل بريطانيا بالوسائل، السياسية وبالدعاية على العدول عن سياستها الاستعمارية واليهودية في فلسطين والبلاد العربية ؟
ب - ما رأيكم في أمر عقد الصلح بين العرب واليهود الذي تلح في عقده إنجلترا وأمريكا، وفي ما يدعي من أن عقد الصلح يضع حداً للمطامع اليهودية، ويؤدي إلى حل سائر القضايا العربية المعلقة مع الدول الاستعمارية ؟
الجواب :
لا أعتقد أن الأساليب الدبلوماسية ووسائل الدعاية كافية لتحويل بريطانيا عن سياستها الاستعمارية وجبلتها الفطرية، فالإنجليز قوم يعيشون في جزر لا يكفي ناتجها لتموين شعبها أكثر من ستة أسابيع، إلى ثمانية .أما مؤونة الشهور العشرة الباقية من السنة فهم مضطرون للحصول عليها من خارج بلادهم . وقد جعلتهم طبيعة جزرهم الفقيرة يعولون بادئ الأمر في معيشتهم على صيد الأسماك ثم أخذوا يوغلون في البحار طلباً للرزق، ولا يتورعون – في سبيل معيشتهم – عن المغامرة والغزو والقرصنة التي تطورت فيما بعد إلى غزوات استعمارية منظمة قوامها أسطولهم البحري الذي بالغوا في تقويته وتعظيمه يوماً بعد يوم .
ومن تتيع تاريخ الإنجليز، أيقن أن طبيعة بلادهم كان لها التأثير الأول في رسم منهاج حياتهم الذي وضع على أساس الغزو والاستعمار . وقد كانت وجهتهم الأولى الأقطار المجاورة لهم من أوربا فاشتبكوا معها في حروب ومنازعات انتهت بطردهم من تلك الأقطار التي استعصت عليهم وقاومتهم بشدة ، ثم كانت وجهتهم نحو أمريكا التي قاومتهم أيضاً وطردتهم فجلوا عنها، وكذلك اتجهوا شطر البلاد العربية والشرق بعد ما تمت لهم الغلبة على الأسطول الأسباني في معركة الأرمادا ثم بعد امتلاكهم جبل طارق عام 1704 ودخولهم منه إلى البحر الأبيض .
فالاستعمار عند الإنجليز حاجة ملحة ، وطبيعة متحكمة.

ومكلف (الأقوام) ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

فهم يكفلون به حياتهم ونفقات أسطولهم وجيوشهم ، ويضمنون لأنفسهم وأهليهم خفض العيش والثراء العظيم والقوة والمنعة، فكيف يتحولون إذن عن الاستعمار طوعاً واختياراً، وأي الأقوام يستعمرون بعدما صدتهم أوربا وأمريكا عنها ولاسيما بعدما جلوا مكرهين عن معظم الأقطار التي كانوا يسيطرون عليها في آسيا كالهند وباكستان وبورما وسيلان، وبعدما تلاشى نفوذهم في الصين وإيران وأخذ ظلهم يتقلص عن بلاد الملايو ؟ إنهم لم يجدوا أهون عليهم وأسلس قياداً لهم من الأقطار العربية في بقية آسيا وفي أفريقية التي استخذت لسلطانهم واستكانت لاستعمارهم واستمرأت مرعي الذل والهوان !
ومن ظن أن إنجلترا تعدل سياستها وتطوي شباكها الاستعمارية بالدعاية بالأساليب السياسية واستثارة عاطفتها الإنسانية فقد ضل ضلالاً بعيدا، فإن هذه الدولة الداهية لا تتأثر مطلقاً بالعاطفة لأنها لا ترتجل سياستها ارتجالاً بل تسير بها وفق خطة مدروسة درساً عميقاً، وممحصة تمحيصاً دقيقاً من الخبراء المجربين ذوي الدربة والرأي ، ثم تقر لها سياسة ثابتة قائمة على أساس ضمان مصالحها قبل كل شيء ولا تحيد عنها إلا لأسباب وعوامل قوية تضطرها إلى التعديل أو ترغمها على التبديل ، كأن ترى في الأمة العربية وعياً صحيحاً، وتلبس فيها عزيمة قوية لا يتطرق إليها وهن، وتوقن أنها مصممة تصميم المستميت على بلوغ أهدافها وغايتها، فعندئذ تيأس إنجلترا من استعمارها للأمة العربية ، وتخرج من أقطارها مرغمة كما خرجت من الهند وباكستان وسائر الأقطار التي تكونت منها إمبراطوريتها الآسيوية الغابرة .

لماذا تناصر إنجلترا اليهود، تأثر الشعب البريطاني بالتوراة :
أما عدول إنجلترا عن مناصرتها للصهيونية فهو بعيد لأسباب كثيرة أهمها ما يأتي :
أ- التأثير الروحي الديني للتوراة ، العهد القديم، على البروتستانتية ، الدين الرسمي لإنجلترا، التي كانت أول دولة احتضنت القضية الصهيونية وآمنت بدعوتها وعملت ما في وسعها لتعزيز فكرتها ومبادئها، وقد أوضح هذه الناحية من نواحي القضية الصهيونية، الزعيم اليهودي وايزمن إذ يقول في مذكراته : (أن السبب الرئيسي لفوز اليهود في الحصول على وعد من بريطانيا بإنشاء الوطن القومي لليهود هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة) ومعنى هذا أن العقيدة البروتستانتية التي يعتنقها الإنجليز والأمريكيون تستند على العهد القديم (التوراة) التي جاءت فيها نبوءات بعودة اليهود إلى فلسطين والتي فسرت واستغلت لصالح اليهود، ويؤيد ذلك ما وصف به تشرشل نفسه من أنه (صهيوني أصيل وأنه يصلي بحرارة لتحقيق أهداف الصهيونية العظيمة ...) .

- تعاون الإنجليز واليهود :

ب- اعتقاد الإنجليز أن صالحهم يقضي عليهم بالتعاون مع اليهود في الظرف الحاضر كما تعاونوا معهم في الماضي، فقد كان ثمة تفاهم واتفاق بين الفريقين على أن تقوم إنجلترا بحماية اليهود ومساعدتهم في أقطار العالم ، ويقوم اليهود مقابل ذلك بترويج تجارتها وصناعتها وإمدادها بالأخبار والأسرار التي يتمكنون من الحصول عليها لتفرقهم في سائر أرجاء الأرض، وبالدعاية لها وعضدها مالياً . وما كان عمل دزرائيلي رئيس وزراء إنجلترا اليهودي وشراؤه لحساب الدولة الإنجليزية حصة كبيرة من أسهم قناة السويس بمساعدة بيت روتشيلد المالي اليهودي الشهير، إلا من هذا القبيل .

- الإنجليز يخشون يقظة العرب ويعملون لتسليم القدس لليهود :

ج- خشية الإنجليز من يقظة العرب وازدياد قوتهم إذا تخلت إنجلترا عن مساعدتها للصهيونية، وعندئذ يتعذر عليها استعمار بلادهم والسيطرة عليهم سياسياً واقتصادياً وثقافياً ، فهم لذلك مصممون على تحقيق الأهداف الاستعمارية والصهيونية .
ومما يدل على ذلك ما يبذلونه من جهود خطيرة ومساع حثيثة لتقوية اليهود في فلسطين والتمهيد لهم للاستيلاء على مدينة القدس وبقية فلسطين ثم شرق الأردن بعدها فغيرها من البلاد العربية وقد بدا بجلاء ووضوح للجميع ما توسلت به إنجلترا من وسائل سياسية وضغط اقتصادي على مدينة القدس لحمل أهلها على الجلاء عنها بالتدريج ، ونقل دوائر الحكومة الرئيسية منها إلى عمان في الحين الذي كان اليهود فيه ينقلون دوائر حكومتهم من تل أبيب إلى القدس ليتخذوا منها عاصمة لدولتهم. والذي أعرفه أن المرحوم الملك عبد الله كان راغباً في اتخاذ القدس عاصمة لحكومته، فلما عارضه الإنجليز في ذلك حاول أن يجعل العاصمة (رام الله) وهي في ضواحي القدس وتبعد عنها 18 كيلومتراً فلم يسمح له الإنجليز بهذا أيضاً وأمروا بنقل جميع المصالح والإدارات الكبرى الفلسطينية إلى عمان، حتى مديرية الأوقاف .
ومن المحزن أن المساعي التي قامت بها الحكومة الأردنية لإنعاش القدس إنعاشا اقتصادياً وعقد بعض جلسات مجلس الوزراء ومجلس النواب فيها لم تستمر ولم تجد نفعاً لأن السياسة الاستعمارية اليهودية المبيتة للقدس وأهلها لا تزال هي المسيطرة والمتغلبة . كما أن الجيوش البريطانية المرابطة في قناة السويس والسودان والأردن والعراق وليبيا ومالطة وقبرص هي التي تحمي إسرائيل وتحول دون مقاومتها والقضاء عليها .

- الطابور الإنجليزي الخامس في البلاد العربية :

وحسب الأمة العربية ما عانته من تجارب طويلة مريرة . ولو كانت الوسائل السياسية والدعاية تؤثر في إنجلترا لرأينا جدواها في البلاد العربية التي ابتليت باستعمارها منذ القديم ، فلا يجوز للعرب أن يلدغوا من هذا الجحر مئات المرات، وأن ينطلي عليهم مثل هذه الخزعبلات التي لا يجنح لها إلا أحد رجلين :
1- مغفل لا يعقل ولا يعتبر ، ولا يميز الخبيث من الطيب والنافع من الضار، وقد أخذت عليه سبيله وملكت لبه الدعاية الاستعمارية والثقافة الإنجليزية التي صبغته بصبغتها وصهرته في بوتقتها فأصبح مخدراً بها أو منوماً بمغناطيسها .
2- عامل من عمال إنجلترا وتابع من أتباعها ممن ماتت ضمائرهم وعاشت أطماعهم الخسيسة ورانت أوزارهم على قلوبهم فهم لا يرجعون .
هذا ولا ريب في أن إنجلترا استطاعت خلال احتلالها الطويل لمصر ولبعض البلاد العربية، أن تنشئ جيلاً من الناس ملكت عليهم ألبابهم ، واحتلت قلوبهم وعقولهم، فهم صنائعها الذين صنعتهم بيديها وفق مصالحها بواسطة مدارسها والمؤسسات الأخرى لثقافتها ودعايتها، ولاشك أن احتلال القلوب والعقول أبعد أثراً أو أشد خطراً من احتلال الديار والمنازل، بل الحصون والمعاقل . وقد عانت الأمة العربية من هؤلاء وأولئك بلاء عظيماً وهماً مقيماً لأن كثيرين منهم نبذوا عقولهم وقلوبهم وضمائرهم جانباً وأصبحوا طوع بنان المستعمرين ينظرون إلى إنجلترا نظرة الخاضع الخاشع إلى مولاه، أو نظرة المجنون إلى ليلاه ولسان حالهم يقول :

فإن تسلمي نسلم، وإن تتنصري يخط رجال بين أعينهم صلبا

أولئك هم علة العلل، والطابور "الرتل" الخامس الذي يعيث فساداً في بلاد العرب، ولاشك أن الطابور الخامس المؤلف من هؤلاء المسحورين بسحر إنجلترا، ومن الانهزاميين والنفعيين والأعوان الخائنين لهو أشد العناصر خطراً على الأمة العربية .
وهناك فريق ثالث لا ينقصه الإخلاص ولكن تنقصه التجربة والعبرة، ويخدعه من السياسة الإنجليزية لين الأفاعي في ملسها، وسعة حيلتها وطول أناتها حتى لكأنها تعمل بحكمة معاوية مؤسس الدولة الأموية في قوله : لو كان بيني وبين الناس شعرة ما قطعت قط، فإذا شدوها أرخيتها ، وإذا أرخوها شددتها . فإن من دعاء إنجلترا أنها لا تقطع رجاء من يكون لهم بها أي اتصال، ولا تدفعهم لليأس، بل تربطهم ولو بخيط واه من الرجاء ليظلوا معلقين في الهواء، وإني لأذكر كيف كان بعض الناس يستخفهم الفرح إذا سمعوا تصريحاً لنائب أو قرأوا مقالاً لكاتب في صحيفة إنجليزية فيه انتصار لقضيتهم . ولئن جازت علينا هذه الأوهام والمخادعات في الماضي فلن تجوز علينا بعد اليوم .
ولست أريد مما ذكرت من الحقائق التجني على إنجلترا والتأليب عليها، ولكني أقصد تحذير العرب من الانخداع بالأوهام الاستعمارية بعد أن تبين لهم أنها سراب لا ماء فيه ، وخداع لا خير فيه، أما إذا بدلت إنجلترا خطتها التدميرية حيال الأمة العربية ولزمت خطة الحياد في الصراع القائم بين العرب واليهود على الأقل فلاشك أن العودة إلى إقامة الصلات الحسنة معها أمر مرغوب فيه كما هي الحال مع غيرها من الدول، فليس في السياسة أحقاد دائمة أو خصومات مستمرة لذاتها، وكل أمة حية واعية إما تعادي أو تصادق وفقاً لمصالحها.

- مساعي إنجلترا وأمريكا لحمل العرب على مصالحة اليهود :

إن مساعي الدول الغربية ولاسيما إنجلترا وأمريكا، لعقد صلح بين العرب واليهود، قد اتخذت شكل الإلحاح والإصرار.
فما انفك الإنجليز والأمريكيون واليهود يلجأون إلى جميع الوسائل لتحقيق هذه الغاية. ولعل من أفظع الوسائل التي لجأوا إليها مجزرة قرية (قبية) الوحشية التي دبر أمرها بليل، ثم استغلها الإنجليز والأمريكيون لاستصدار قرار من مجلس الأمن بضرورة إجراء مباحثات مباشرة بين الأردن واليهود لتكون تلك المباحثات خطوة أولى نحو الصلح تتبعها خطوات أخرى مع سائر الدول العربية .
والواقع أن الإنجليز والأمريكيين واليهود لا يكاد يشغلهم شاغل عن هذا الأمر فهم في مساعيهم لتحقيق رغبتهم الجامحة مدفوعون بعوامل الحرص على استبقاء الكيان اليهودي الذي أقاموه في فلسطين على أنقاض شعبها العربي، وتحقيق استقراره وازدهاره، لأنهم يعلمون حق العلم أن بقاء الكيان اليهودي الذي أوجدوه في فلسطين مستحيل ما دام العرب غير معترفين به ومقاومين له ، وإنه ما لم يعترف العرب بالدولة اليهودية ويتعاملوا معها فإن مصيرها إلى زوال محقق، طال الزمان أم قصر . ولا عبرة بالمساعدات السياسية والمالية والعسكرية التي تقدمها إنجلترا وأمريكا لليهود فسينضب معينها يوما ما، والمهم أن يظل العرب متنبهين لدسائس اليهود ومطامعهم ، عاملين على إحباطها .

مصالحة اليهود انتحار للأمة العربية :
أما الصلح الذي يحاول الإنجليز والأمريكيون واليهود عقده فإنهم يريدونه على أساس الأمر الواقع والوضع الراهن في فلسطين ولاشك أن صلحاً كهذا يعتبر انتحاراً للأمة العربية وقضاء مبرماً على مستقبلها واستقلال أقطارها ، بل هو عار يلحق بها مدى الزمن، وأعظم ضربة قاصمة تصيبها يعد كارثتها الفادحة بفلسطين ، فهو ينطوي على اعترافها بالأمر الواقع الذي أسفر عن اقتطاع فلذة من كبد الأمة العربية وضياع جزء من أجزاء العالم العربي وأقدسها وأكثرها أهمية عسكرية واقتصادية، والنزول عنه لشعب دخيل طامع معتد. فأية أمة من الأمم لديها مسكة من العقل أو ذرة من الشرف والعزة والكرامة تقبل بمثل هذا ؟
ويعقب الصلاح مع اليهود بطبيعة الحال، قيام مناسبات دبلوماسية ، وعلاقات اقتصادية واجتماعية وغيرها، ويفسح المجال في الأقطار العربية (التي يطمع اليهود في السيطرة عليها وضم أقسام كبيرة منها إلى دولتهم) للدعاية الاستعمارية والدسائس الصهيونية، كما تفتح أمامهم أسواق الأقطار العربية لتصريف المصنوعات اليهودية والإفادة مما فيها من المواد الخام التي تحتاج إليها الصناعات اليهودية، وبعبارة أخرى يريد اليهود أن يجعلوا من فلسطين مركزاً صناعياً عظيماً في الشرق الأوسط وأن يجعلوا الأمة العربية مستهلكة لمصنوعات هذا المركز، لأن اليهود لا يستطيعون بطبيعة الحال أن يزاحموا صناعات أوربا وأمريكا ويصدروا إليها مصنوعاتهم فليس أمامهم إلا البلاد العربية لتصريفها فيها . وكذلك سيجد اليهود بفضل العلاقات السياسية والاقتصادية التي يحاولون إقامتها مع العرب إذا تم صلح، سبيلاً لنشر المبادئ والآراء والعقائد والأخلاق التي تجافي روح الإسلام وآداب العروبة. ثم أن عقد الصلح مع اليهود يجعل العرب مسئولين دولياً عن المحافظة على الوضع الذي سينشأ عن قيامه، ويفقدهم حرية العمل، ويجعل من العسير عليهم القيام بأي عمل يرجى منه صيانة عروبة فلسطين وتحريرها في المستقبل .
وقد يقول بعض الناس أن كل حرب قامت انتهت بصلح، وقياساً على هذا فإن الحرب بين العرب واليهود يجب أن تنتهي بصلح، وهذا قول مردود وحجة واهية، لأن ما وقع في فلسطين لم يكن حرباً بالمعنى الصحيح ، بل كان غزوة استعمارية جارفة، واغتصاباً لقطر من أهله وتشريدهم منه في الآفاق بعد سلبهم وانتهاب أموالهم وممتلكاتهم ، فهو استعمار بأفظع أشكاله وصوره، وأشنع أساليبه ، وأحقر وسائله، وإن الاعتراف بمثل هذا النوع من الاستعمار، بالصلح أو بغيره، سابقة رهيبة ستحترق بلظاها أقطار عربية أخرى على نفس الطريقة التي اتبعها اليهود في فلسطين بالاتفاق والتعاون مع الإنجليز والأمريكيين .
أما الزعم بأن عقد الصلح مع اليهود يقر الأمن والسلام في الشرق الأوسط، ويضع حداً للمطامع اليهودية في الأقطار العربية فهو بعيد جداً عن الحقيقة والواقع. لقد تحدثت في أجوبتي السابقة عن المطامع اليهودية في الأقطار العربية ، وسعى اليهود المتواصل لتحقيقها بما لا يدع مجالاً للشك والريب، ولو ادعى اليهود أنفسهم أن الصلح مع العرب يضع حداً لمطامعهم فعلى كل ذي عقل وإدراك أن لا يأبه لهذا الإدعاء ولا يخدع به فقد برهنت الأيام والتجارب الكثيرة على أن اليهود لا عهد لهم ولا ميثاق.

- كيف وفد اليهود إلى فلسطين :

وفيما يتعلق بقضية فلسطين فقد بدأ اليهود غزوتهم لفلسطين بالتسلل إليها تحت ستار الدين والتظاهر بأنهم إنما يريدون أن يكون لهم فيها وطن روحي فحسب، وكانت طلائع هجرتهم إليها في البدء جماعات من العجزة والشيوخ.. فلما خدع الناس بهم ، أخذوا يفدون على فلسطين كمزارعين وخبراء وتجار وأطباء بحجة خدمة مجموع السكان، ولما وقعت فلسطين تحت براثن الاستعمار البريطاني، وبدأ سبل الهجرة اليهودية العرم يطغي على البلاد، وأخذ العرب في مقاومة ذلك الخطر، أعلن بعض زعماء اليهود أنهم يريدون أن يعيشوا بسلام وأمان مع أهل البلاد العرب دون أن يلحقوا بهم أي أذى أو ضرر . ثم بلغ بهم الأمر حد الإدعاء أن لا مطامع سياسية لهم في فلسطين وأن أقصى ما يهدفون إليه هو أن يتمتعوا في مناطق محددة منها بحريتهم الدينية، وشؤونهم الطائفية والثقافية .. ثم أعلنوا أنهم لا يطمعون في غير منطقة منها يتمتعون فيها بالحكم الذاتي (كانتون) ... وقالوا إن تلك الرغبة هي آخر ما يطلبون . وقد صدقهم كثيرون ، والحال أنهم كانوا يكيدون للعرب سراً ، بالتعاون مع الإنجليز، على تحويل فلسطين كلها إلى دولة يهودية ..
واليهود يتبعون الآن الطرق والأساليب نفسها بالنسبة للأقطار العربية، فقد ضللوا كثيرين من العرب بقولهم أنهم لن يتعدوا حدود التقسيم . وإذ بهم يتجاوزونه فيحتلون مناطق أخرى من فلسطين لم يخصصها لهم قرار التقسيم . وبعد أن ادعوا أنهم لم تعد لهم مطامع، رأيناهم عن طريق الدبلوماسية الغربية والضغط الاستعماري يضمون مناطق أخرى من فلسطين وفقاً لاتفاقية هدنة رودس ! ثم أن تصرفهم بالنسبة لمدينة القدس برهان ساطع على الطرق التي يتبعونها لتحقيق مطامعهم. انظر الخريطة مقابل صفحة (176) .
وها هم اليوم يطمعون في نهر الأردن، ويعلنون أن نهر الأردن هو الحد الطبيعي لدولتهم، ومعنى هذا أنهم يريدون ضم الأراضي الفلسطينية التي استولت عليها دولة شرق الأردن ، وبعد ذلك يعملون على ضم شرق الأردن نفسه ثم غيره من الأقطار العربية . وليس أدل على حقيقة مطامعهم من خريطة جغرافية لفلسطين وشرق الأردن يتداولونها بينهم ويدرسونها في مدارسهم، فهذه الخريطة تسمى الأقسام العربية من فلسطين وشرق الأردن (إسرائيل التي يحتلها العرب)!
ثم أن أوضاع الدولة اليهودية نفسها وظروفها ستضطر اليهود إلى التوسع والامتداد على حساب الأقطار العربية . ففي فلسطين المحتلة اليوم أكثر من مليون ونصف مليون من السكان ، لا تتسع الأراضي الحالية لهم، ولا تكفيهم حاصلاتها، وهم يعتزمون إبلاغ عدد السكان في تلك البلاد المحتلة إلى ثلاثة ملايين نسمة خلال عشر سنين، ويستحيل أن تستوعب فلسطين المحتلة ذلك العدد من السكان دون توسع وامتداد .

- المجال الحيوي للدولة اليهودية :

فإذا ما أصر اليهود والدول العربية على عقد صلح، فلتضليل العرب، وحملهم على الاعتقاد بأن المطامع اليهودية في الأقطار العربية قد انتهت، وللحصول على فترة استجمام تدعيماً لكيانهم وإتماما لاستعدادهم لغزو الأقطار العربية، قطراً قطرا .
لقد أسلفت القول أن الهدف الحقيقي للحركة اليهودية هو أن تكون فلسطين قاعدة لهم يثبون منها إلى سائر الأقطار العربية ويسيطرون على اقتصاديات العالم العربي والشرق الأوسط الذي يعتبرونه (المجال الحيوي) للدولة اليهودية. وخطة اليهود هذه هي نفس الخطة التي اتبعها الإنجليز في التوسع والامتداد حتى صارت لهم إمبراطورية واسعة، ونفس الوسيلة التي اتبعها المهاجرون الأولون الذين حطوا رحالهم في أمريكا، ثم لم يلبثوا أن توسعوا شيئاً فشيئا وأبادوا سكان البلاد الأصليين ، الهنود الحمر، كما يجري تماماً في فلسطين الآن .

- اليهود والقضايا العربية الأخرى :

ومن الجهل ، أو من التضليل والمخادعة ، الزعم بأن عقد صلح بين العرب واليهود يسهل حل القضايا العربية الأخرى المعلقة بين العرب والإنجليز وغيرهم. فما هي تلك القضايا المعلقة التي يتوقف حلها على حل الخلاف العربي اليهودي؟ أهي القضية المصرية وقد جثم الاستعمار على صدر مصر اثنين وسبعين عاماً، أم قضية السودان؟ أن كفاح مصر والسودان ضد الاستعمار ما زال قائماً منذ وطئتهما قدم أول جندي بريطاني، فلماذا لم يحل الإنجليز القضية المصرية قبل عشرات السنين عند ما لم يكن للدولة اليهودية ولا لوعد بلفور وجود، حتى مسألة تسليح الجيش المصري فقد منع الإنجليز عنه السلاح والعتاد قبل أن يكون لليهود في فلسطين وجود وكيان . فما أوهى إذن حجة الذين يزعمون أن عدم حل قضية فلسطين، قد أثر على قضية مصر وعرقل سبيل حلها .
أم هي قضية العراق التي لا يزال الإنجليز يحتفظون فيه بالقواعد العسكرية رغم أنوف أهله الكارهين لهم، المبغضين لاستعمارهم؟ أم هي قضية اليمن، أم قضايا الأقطار العربية المشمولة بالحماية الإنجليزية في ذلك الصقع العربي وفي أقطار أخرى من جزيرة العرب كالكويت والبحرين وعمان وقطر وحضرموت وغيرها؟ أم هي قضية البريمي التي يطمع الإنجليز بما فيها من بترول وقاموا يحاولون اغتصابها من المملكة العربية السعودية؟ أم هي قضايا المغرب العربي في شمال أفريقية التي تسلط عليها الاستعمار الفرنسي والتي يعود أمد بعضها إلى أكثر من قرن كامل كقضية الجزائر حينما لم يكن للدولة اليهودية ولا القضية الصهيونية ذكر يذكر أو خبر ينشر ؟ .
فإذا كان لذلك الزعم نصيب من الصحة فلماذا نالت سورية ولبنان استقلالهما وهما من قرب الجوار والصلة الوثقى بفلسطين بالمنزلة التي لا يجهلها أحد، ولم يؤثر في ذلك مشروع الإنجليز والأمريكيين في تشكيل الدولة اليهودية ؟
لا شك أن المطامع الاستعمارية هي المسؤولة عن بقاء أكثر القضايا العربية معلقة دون حل، وللاستعمار أساليبه ووسائله وأسلحته ، وقد أضاف إليها في الآونة الأخيرة سلاحاً جديداً هو الكيا

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

2 من الزوار الآن

876914 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق