الصفحة الأساسية > 6.0 فلسطيننا > مع المقاتلين > ضمن برنامج (مرابطون على ثغور غزة) ...حلقة مع مجاهدي الكتائب
لم يكن الطريقُ معبداً بالورود والرياحين أثناء تنقل الوطن من جنوب قطاع غزة إلى شماله برفقه مجموعة من المجاهدين؛ للوصول إلى الحدود الشمالية- الشرقية لقطاع غزة؛ حيث يكمُن المرابطون للعدو الإسرائيلي، فهذه هي الليلة الثالثة التي قضاها مراسل الوطن مع المجاهدين الفلسطينيين استكمالاً لسلسلة تقارير «مرابطون على ثغور غزة» التي وعدناكم بها.
في هذه السطور نلتقي مع مجموعة مجاهدة تتبع لكتائب الشهيد عبدالقادر الحسيني إحدى الأذرع العسكرية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح.
انطلقت المركبة التي تقلنا عبر الشوارع والطرقات ونحن لا نعلم إلى أين سنصل، كان أحد المجاهدين برفقتنا ليرشدنا إلى الطريق، بيد أنه كان منهمكاً بجهاز اللاسلكي الخاص به، ويستقبل إشارة تحذير بوجود طيران إسرائيلي مروحي في منطقة الاختصاص التي سنصل إليها للقاء المرابطين، وبعد ورود عدة إشارات من المجاهدين المرابطين في المكان عن وجود طيران« إسرائيلي» في المنطقة وتحركات غير اعتيادية لآليات الاحتلال حتى طلب منا تأجيل اللقاء ليوم آخر حرصاً على سلامتنا.. لكني قررت مواصلة الطريق وإعداد هذا التقرير رغم كل المخاطر، فلم يعد بإمكاني الصبر أكثر، فكلنا شوقاً للقاء المجاهدين ورصد تلك التحركات «الإسرائيلية».
حينما وصلنا للمنطقة لم نكن نعرف صراحة أين نحن بالضبط وفي أي منطقة من قطاع غزة، فكان الظلام الحالك يلف المكان عن بكرة أبيه، وكانت عقارب الساعة تدق الواحدة فجراً.. لا أعرف بالضبط ما سر العلاقة بين الليل والمرابطين، لكنها تلك العلاقة التي يختلط فيها كل شيء مع كل شيء، وتستشعر شيئاً غريباً يرتب وينسق تلك العلاقة، إنه ذلك الليل الذي تسمع فيه خفقات القلوب الموحدة بالله المتضرعة في ليالي الصيام المُباركة بالدعاء والابتهال أن يرزقها الله إحدى الحسنيين.. إما النصر أو الشهادة.
في تلك المنطقة التي وصلنا إليها وجدنا عشرات المجاهدين يكمنون تحت أشجار الزيتون وخلف الأشواك والتلال لمراقبة تحركات الاحتلال.. فمن يدري في أي لحظة قد يغدر بالمواطنين الآمنين في غزة، حينها عرفنا سر العلاقة بين الليل والمجاهد، ذلك الليل الذي منح المرابطين الغطاء والستر اللازم لإخفائهم عن عيون أعدائهم. ونحن ننظر لشباب تركوا الدنيا بما فيها، تركوا أطفالهم وعائلاتهم وزوجاتهم وخرجوا في سبيل الله مجاهدون مرابطون، اختلطت المشاعر لدينا، لكنها تؤدي إلى نهاية واحدة، نشوة تعصف بروحك وقلبك، تشعر باحترام وتقدير لا يوصف لهؤلاء المجاهدين الفرسان المرابطين في ليلة جديدة من ليالي الرباط و القتال على ثغور غزة المحاصرة.
بعد دقائق طويلة من التأمل والنظر لهؤلاء المجاهدين، أتتخيلون ما هو سلاحهم..؟، إنه بندقية شبه صالحة، وعدة طلقات مذخرة في مخزن سلاح «الكلاشنكوف» وجهاز لاسلكي ولثام وثياب سوداء.. هذا ما يتسلح به المرابطون على ثغور غزة المحاصرة، هذا السلاح والعتاد الذي يواجهون به أقوى قوى الشر في العالم.. إنهم فعلاً رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
وهؤلاء المرابطون من كتائب الشهيد عبدالقادر الحسيني، وهي مجموعات عسكرية تابعة لحركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح، تم تأسيسها قبل عام تقريباً، ومجاهدي الكتائب هم في الأصل من عناصر كتائب شهداء الأقصى الذراع المسلح لحركة فتح، والتي تم تأسيسها بناءً على أوامر من الرئيس الراحل ياسر عرفات بعد انطلاق انتفاضة الأقصى عام 2000م، وتبنت هذه المجموعات فكرة الكفاح المسلح كإستراتيجية وخيار وحيد لتحرير كل فلسطين من نهرها حتى بحرها، كما أكد لـ الوطن «أبو الوليد» الناطق الإعلامي باسم الكتائب.
وأضاف الناطق الرسمي شارحاً عن هذه المجموعات: «كتائب الشهيد عبدالقادر الحسيني هي مجموعات مقاتلين ثوار أقسموا بالله أن يكملوا مشوار الشهداء الأبرار مثل أبوعمار وأبوجهاد وأبوإياد وكل شهداء الثورة الفلسطينية، يؤمنون بالنضال الوطني الفلسطيني الشامل والقومية العربية الإسلامية ونؤمن بأن الوحدة الوطنية هي كلمة السر لأي انتصار يمكن أن يرسمه المجاهدون الفلسطينيون». ويؤكد أبوالوليد على متانة وقوة علاقة كتائبهم بباقي الفصائل الفلسطينية في الميدان، مشيراً إلى أن هذه العلاقة تجسدت ميدانياً خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة «حرب الأيام الثمانية». هذه النبذة التعريفية عن كتائب الشهيد عبدالقادر الحسيني أخبرنا بها الناطق الإعلامي للكتائب أبوالوليد أثناء اصطحابه الوطن للوصول إلى المجموعات المرابطة والتي تتبع لهم على الحدود الشمالية الشرقية لقطاع غزة، وما هي إلا لحظات وإذ بنا نصل للمجموعات المرابطة على الثغور، وكان يفصلنا عن الشريط الحدودي بين قطاع غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948 «إسرائيل» مسافة أقل من كيلو متر فقط..
وينطلق المرابطون للمناطق الحدودية النائية على تخوم غزة، حيث لا سكان ولا أضواء، إلى مناطق الأشجار والحقول الموحشة، التي يلفها الظلام الحالك وكأنها توشحت السواد حداداً على الشهداء الذين استشهدوا على ترابها. يسير المرابطون باتجاه الحدود وهم سعداء ومتفائلون، فقد يبعث الله لهم صيداً جديداً من خنازير الصهاينة، يسيرون بهدوء وصمت خلف بعضهم، يحرس بعضهم بعضاً، فتجدهم يتسابقون من يكون في المقدمة، تجدهم عيونهم يقظة كأنهم الصقور، تنظر في كل الاتجاهات لتحديد أي خطر أو هدف، أيديهم تقبض على البنادق بقوة وعزيمة، أصابعهم على الزناد جاهزة؛ للضغط في أي لحظة يرون فيها عدوهم.
وها نحن وصلنا بعد طول مسير برفقة المجاهدين إلى المكان المحدد، إلى نقطة الكمين على تخوم غزة.. ينتشر المرابطون في كل مكان، والكل يأخذ وضعية الكمين؛ استعداداً لصد أي هجوم أو توغل صهيوني محتمل خلال هذه الليلة الهادئة. فجأة ودون سابق إنذار؛ يرتفع صوت من بعيد، صوت يشبه صوت الدبابير، يطلق أزيزاً مكتوماً، وبخبرة المجاهدين وتجاربهم يعلم المرابطون أنها طائرة استطلاع صهيونية، وما صوتها المكتوم إلا نتيجة لحملها الثقيل من الصواريخ الحاقدة..
يعلم المجاهدون أنها تأتي في الأجواء لتتربص بالمرابطين أو لتغطية تحرك ما لقوات خاصة ستتسلل للمكان. الجميع في حالة تأهب وكمين، فقد اقترب الصوت إلينا رويداً رويداً حتى أصبح ينخر في رؤوسنا من شدته، فهذه الطائرة «الزنانة» هي الأكثر خوفاً للمجاهدين والمرابطين والمدنيين في قطاع غزة، ولطالما حصدت أرواح من القطاع على حين غفلة.
كان خوف المرابطين على مراسل الوطن والشاب المصور برفقته أكثر من خوفهم على أنفسهم عندما سمعنا صوت طائرة الاستطلاع في المكان، وبعض الأضواء الكشافة التي أطلقها الجنود على الحدود لاستطلاع المكان.. في هذه اللحظات استجبنا لأوامرهم لإعداد اللقاءات مع المجاهدين على عُجالة.. فحقاً لا أحد يُحبذ أن تكون الخسائر فادحة. التقينا بقائد مجموعات المرابطين في المكان المخصص للرباط لهذه الليلة، إذ رحب بنا ترحيباً حاراً، وأبدى قلقه الشديد علينا، وبعد أن طمأناه وأطلعناه على أهمية هذا التقرير وأنه لأكبر الصحف القطرية والخليجية بدأ يتنقل معنا من نقطة إلى نقطة، ومن مجاهد لآخر؛ لنتعرف على المجاهدين عن قرب، وعلى طبيعة عملهم في هذه الأيام المباركة.
وبدأ القائد الميداني يشرح لنا عن طبيعة المكان وأنه منطقة تشهد تسلل القوات الإسرائيلية الخاصة عند الاجتياحات، ويتم توزيع المجاهدين لنصب الأكمنة لهذه القوات الخاصة حتى يقعوا فيها عند دخولهم للقطاع، ويتم توزيع المجاهدين على حسب المنطقة وبعدة أنواع من السلاح، تبدأ بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة والعبوات الناسفة والصواريخ وقذائف الهاون حسب خطة يضعها قائد المجموعات لمواجهة أي محاولة اعتداء صهيونية على القطاع.
أحد الأخوة المجاهدين كان يرقد تحت شجرة كثيفة الأغصان ويحتضن لفة كبيرة من سلك كهربائي موصول بشيء بعيد عنا لم نعرفه بعد، وحين سألناه عن مهمته، قال: «أنا من وحدة هندسة العبوات الناسفة، هذا المكان يدخل فيه قوات إسرائيلية خاصة، وأنا أكمُن هنا وأراقب عبوة ناسفة منصوبة بالقرب من الحدود، وفي حال تقدم أي جنود للمنطقة أقوم بتفجير العبوة على الفور والاشتباك من القوات الراجلة». وعلى مقربة من سلاح العبوات الناسفة، كان أحد المجاهدين يحملون قاذف «RBG» على كتفه ويراقب بهدوء الحدود الشرقية للقطاع، في انتظار أي تحرك للآليات الصهيونية صوب قطاع غزة، ليتم إطلاقها بعد تفجير أخيه للعبوة الناسفة وإرباك الجنود الإسرائيليين، في عملية عسكرية متكاملة يشارك فيها كل المجاهدين كلاً حسب مهمته ودوره وسلاحه.
وبعد تفجير العبوة الناسفة وإطلاق قذائف الـ RBG» يأتي دور المجاهد الذي تدرب لسنوات طويلة على الأسلحة الثقيلة، وفي هذه اللحظة يأتي دور وحدات الإسناد لتمشيط المنطقة وإطلاق صليات طويلة من مدافع ثقيلة، ويقول المجاهد الذي كان يحمل سلاحاً رشاشاً ثقيلاً: «أنا من قوة الرشاشات وأحد أفراد وحدات الإسناد الثقيلة، وعند تفجير العبوات يتم من طرفنا تمشيط المكان لمنع أي جنود من التقدم صوب أراضينا». لحظة لم تكتمل الصورة بعد..
ففي مشهد يُبكي القلوب والأبصار، نقف احتراماً وإجلالاً لأحد المجاهدين الكامنين تحت أشجار الزيتون والذي كان يقرأ آيات عطرة من كتاب القرآن الكريم على ضوء كشاف جواله الخليوي، حقاً فسلاحهم الأعظم هو القرآن الكريم. يقول المجاهد الذي يتبع لوحدة القناصة: «نحن بفضل الله سبحانه وتعالى مرابطون على ثغور وطننا الغالي فلسطين، حماية وذوداً عن أرضنا وأبناء شعبنا، وكما ترون نحن على أقرب نقطة من العدو الإسرائيلي، تحسباً لأي تحرك بري من جنود الاحتلال». مشيراً إلى أن مهامه هي جندي قناص لحماية وتغطية أخوته المجاهدين في النقاط الأمامية المتقدمة خلال أي اشتباك أو مواجهة مع جنود الاحتلال.
ولا تتوقف تجهيزات المجاهدين على هذا الحد فحسب، فوحدات ومجموعات الصواريخ ما زالت قابضة على الزناد وتتجهز لإطلاق الصواريخ صوب البلدات الفلسطينية المحتلة، في انتظار الإشارة والأوامر من القيادة العليا، إذ يؤكدون الوطن أنهم في انتظار معركة مع الاحتلال« الإسرائيلي» ليست ببعيدة.
وهكذا عاشت الوطن أروع ثالث ليلة مع هؤلاء المجاهدين الذين يخرجون مودعين الأهل والأحباب، ممتشقين أسلحتهم الطاهرة المقدسة، وهم لا يعلمون هل سيعودون سالمين، أم سيرتقون شهداء إلى الجنان بإذن الله، يتعجلون الخُطى إلى نقاط رباطهم كمسير أهل الحُبِ للميعاد، إنهم المرابطون في سبيل الله على ثغور قطاع غزة. انتظرونا في التقرير الرابع والأخير من سلسلة «مرابطون على ثغور غزة» ولقاء حصري مع كتائب الشهيد عز الدين القسام- الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، بعد أن حصلت الوطن على الموافقة الأمنية لإعداد التقرير مع مجاهدي القسام في الميدان.
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا