الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > في الثورة والثوار > الشهيدان أبو حسن وحمدي : التركيز على الأرض المحتلة
يجب أن يلحظ أن متابعة العمل في الأرض المحتلة طوال فترة النصف الثاني من السبعينات بقي متناوباً. عليه بين أبي حسن وحمدي كما كانا يتناوبان الوجود في لبنان إلى جانب السرية الطلابية ثم الكتيبة. فالبوصلة كانت تؤشر دائماً إلى فلسطين وإلى، قتال العدو الصهيوني.
ولعل سجل العمليات في ملفات العدو الإسرائيلي، والتي قام بها القطاع الغربي في فتح خلال تلك الفترة يحمك نصيباً مرموقاً يحسب على أبي حسن وحمدي أول ما اشتهر بلجنة 77. أما العملية الكبرى التي كانا على رأسها وكانت نتاج، توجه جديد في العمل وهو إدخال كوادر إلى الداخل لا للقيام بعملية محددة على الشريط الحدودي وإنما للتمركز في الجبال، وبدء العمل من خلال الوجود المتمركز ذاك.
كان الدافع وراء هذا التفكير الجديد هو الانحسار الذي شل العمل العسكري في الداخل في النصف الثاني من السبعينات. وكان لهذا الانحسار أسباب كثيرة، منها إعطاء قيادة الثورة الأولوية للوجود في لبنان. وقد وصل الأمر في بعض المراحل، أن يستخدم القطاع الغربي بأغلبيته، للمشاركة في الحرب الأهلية. كما أن البرنامج المرحلي راح يعطي أهمية متزايدة للعمل السياسي والوجود السياسي في الداخل. ويجب أن يضاف إلى ذلك الافتقار إلى كوادر قيادية مجربة في الداخل لاستقطاب العناصر الشابة وتدريبها والتخطيط لعمليات كبيرة، فقد كان العمر النضالي للكادر العسكري في الأرض المحتلة قصيراً نسبياً ليودع بعده في السجن المؤبد أو لأمد طويل من السنين. ومن هنا وصل أبو حسن وحمدي إلى رأي يقول لا يمكن أن يصعّد العمل العسكري أو يرتفع إلى مستوى أرقى ما لم تزرع في الجبال كوادر قيادية مجربة. ويعطى تنظيم الداخل أهمية مركزية لا تسمح للوضع في لبنان بأن يطغى عليه. كما أن النجاح في زرع تلك الأنوية في الجبال، أو في المدن إن أمكن فيما بعد، يحتاج إلى خلايا تنظيمية قادرة على تأمين سلسلة من الخدمات لها إلى جانب مشاركتها المباشرة. وكان ذلك يتطلب منهما تعبئة خاصة صبورة للكوادر فضلاً عن تجاوز صعوبات لا حد لها في العبور من الأردن إلى الداخل عبر النهر الذي أصبح اجتيازه صعباً جداً لاسيما تخطي منطقة "كشف الأثر" المحاذية للسلك الشائك، والتي تقع تحت مراقبة الدوريات العسكرية الإسرائيلية المستمرة ليلاً نهاراً. وقد استطاعا خلال العام 1978 / 1979 أن يدفعا بمجموعتين إحداهما نجحت نجاحاً باهراً إذ استمرت حوالي السنة في جبال الخليل وأنتجت عملية الدبويا الكبيرة التي عاش عليها المؤتمر الرابع لفتح 1980 وهو يعاني التضييق والحصار، والتي تركت أثراً إيجابياً بعيداً في المعنويات الفلسطينية لا سيما التجرؤ على تصعيد الكفاح المسلح في وقت كانت الظروف العامة والعوامل الذاتية تتجه إلى حرف توجه البوصلة عن الداخل.
أما المجموعة الثانية فقد توجهت بعد بضعة أشهر من دخول الأولى، إلى منطقة جبال رام الله - نابلس، واستطاعت أن تنجح كذلك في المكوث في الجبال حوالي الستة أشهر وقد استشهد قائدها الفذ أبو خلدون (خالد صابر الديك) بعد معركة دامت عدة ساعات مع قوات العدو. وقد أحدث ذلك، بدوره، أثرا إيجابياً في الوضع الفلسطيني العام. وقد كان من الممكن لهاتين التجربتين أن تحدثا نقلة كبيرة أو تصبحا نهجاً في العمل لولا أنهما جاءتا سباحة ضد التيار الذي أخذ يعتبر الداخل مرتبة ثانية بعد لبنان ويتعامل والمقاومة المسلحة باعتبارها مرتبة ثانية بعد الاهتمام بالعمل السياسي النقابي والعلني لخدمة برنامج النقاط العشر. ولكن يجب أن يسجل أن باب العمل العسكري في الداخل كان مفتوحاً ومشجعاً لمن أراد.
كان أبو حسن وحمدي حريصين على تركيز الجهود خلال تلك المرحلة في نقطتين، الأولى من خلال العمل داخل الأرض المحتلة والثانية من خلال جنوبي لبنان. وبهذا يكون أهل هذا الخط الأكثر انسجاماً مع منطلقات فتح وإستراتيجيتها الأساسية بعيداً قدر الإمكان عن المعارك الجانبية.
عندما شن الجيش الإسرائيلي حرب حزيران (يونيو) 1982 كان حمدي على رأس عدد من المجموعات من كتيبة الجرمق والشباب اللبناني يخوض قتالاً متواصلاً من الجبل حتى البقاع. وكانت لهذه المجموعات عدة إنجازات في عرقلة تقدم قوات العدو شأنها شأن سائر مجموعات كتيبة الجرمق التي قاتلت من موقع إلى موقع خلال تلك الحرب ابتداءً من قلعة الشقيف وصولاً إلى البقاع.
أما أبو حسن فأصبح، كعادته في الأزمات، قائداً ميدانياً يقود واجهة المدينة الرياضية في أثناء هجوم الجيش الإسرائيلي على بيروت وحصارها. وقد قصفها أكثر من ثلاثة وثمانين يوماً قصفاً تندك لهوله الجبال.
لعل من الأهمية بمكان أن تجد مآثر كتيبة الجرمق ومن قبلها السرية الطلابية، كما تجد إنجازات أبي الحسن وحمدي على مستوى العمليات العسكرية في الأرض المحتلة في مستوى حربي 1978 و 1982 في لبنان من يؤرخ لها تفصيلاً ويسجل لكل شهيد من شهدائها بطولاته وإنجازاته. وذلك من أجل سد النواقص التي حملها هذا الكتيب الذي غطى الاتجاه العام وقصر في وصف الوقائع وتفصيلها.
وثمة عمليات نوعية عدة قام بها إخوان أبي حسن وحمدي ومروان إما مباشرة وإما بالتعاون مع مناضلين آخرين، كانت بارزة في مدلولاتها وفي الروح المعنوية العالية التي اتصف بها هذا التيار. منها على سبيل المثال لا الحصر العملية البطولية في رويسة البلوط حيث تم أسر ثمانية من أفراد جيش العدو الإسرائيلي ونقلهم إلى الخطوط الخلفية وقد جرى تبادلهم بعد وقت بالإفراج عن المئات من المعتقلين في السجون الإسرائيلية. وكذلك عمليات العاقبية وعالية وعرمون وعيناب ويتسامون والسمقانية وعين الحلزون وغيرها وقد استشهد خلالها عدد من أخوة أبي حسن وحمدي وأبي محمود هلال رسلان وأبي فايز محمود الحسينة. ويمكن أن يذكر ممن كان لهم دور هام في التصدي لقوات الاحتلال الشهداء نبيل مكارم وأسعد فياض وغيرهما. وأسهم الشباب اللبنانيون في الفرار الذي حصل في سجن أنصار في جنوب لبنان.
على أن الانتهاء من حرب حزيران (يونيو) 1982 والخروج من لبنان بعد ذلك بحوالي ثلاثة أشهر جعل المسار يتواصل، بأعلى درجات الزخم، في الجهد الكثيف الذي بذله أبو حسن وحمدي، خصوصاً، وإخوانهم عموماً، لإطلاق شعلة الجهاد الإسلامي في فلسطين.
لقد كانت المرحلة الممتدة من أوائل عام 1983 حتى تاريخ استشهاد أبي حسن وحمدي ومروان الكيالي وإخوانهم هي مرحلة العمل الدؤوب لحشد القوى من أجل إطلاق الجهاد الإسلامي والتحضير لسلسلة من العمليات الكبيرة، والتي أرادوها أن تكون مدوية حتى تليق بحمل اسم الجهاد.
وعلى الرغم من النقص الفادح بالإمكانات المالية، استطاعت أنوية سرايا الجهاد الإسلامي، وبفضل الكثيرين ممن شاركوا فيها (جماعات وأفراداً) أن تجد لنفسها موقعاً مرموقاً على الخريطة العسكرية في الأرض المحتلة . ويمكن أن يذكر هنا، بصورة خاصة. عملية البراق الناجحة والكبيرة التي أثخنت بالجراح أكثر من سبعين جندياً من قوات غولاني وكانت العملية التي أعلنت، بمناسبتها، سرايا الجهاد الإسلامي أول بيان حمل اسمها. وكان أبو حسن وحمدي قد سهرا عليها سهراً متواصلاً حتى كتب لها ذلك النجاح المدوي واتبعاها بالتحضير لعملية استشهادية كبرى خطط لها أن تتوجه إلى مجمع رئاسة الوزراء الإسرائيلية وتنفذ من خلال سيارة حملت كميات كبيرة من المتفجرات تزيد على المائتي كيلو غرام وكانت المجاهدة عطاف عليان قد تهيأت للشهادة في سبيل الله. فصممت على اقتحام الموقع وبنفسها حتى لا تترك فرصة للفشل. وشاء القدر أن تكشف العملية قبل تنفيذها. ولكن على الرغم من ذلك فقد تركت أثراً إيجابياً كبيراً حين عرفت أبعاد العملية وما حملته السيارة من متفجرات، وشاع خبر الفتاة الاستشهادية. ولكن الشهيد حمدي مر بعذاب نفسي شديد بسبب فشل العملية وراح يحمّل نفسه مسؤولية الخطأ إلى حد كاد يعتزل معه العمل القيادي الذي كان يقوم به. ولولا تاثير أبي حسن عليه وعزيمته على لأم الجراح والتعلم من الأخطاء، وهو الذي كان يتألم مثل حمدي وكان بحاجة إلى حمدي وللسبب نفسه، لما استطاع هذان الفارسان الفذان أن يعودا ليواصلا دورهما القيادي في سرايا الجهاد ويمدا شهداء عملية الشجاعية بالسلاح والدعم بعد أن فروا من السجن وقد جاء استشهادهم بعد معركة بطولية تمهيداً مباركاً، من بين عوامل أخرى، لانطلاقة الانتفاضة.
يجب أن يذكر هنا أن الانخراط في مشروع إطلاق الجهاد الإسلامي جاء استمراراً لذلك الالتقاط الذكي والمناسب للموقع الذي يكون فيه أبو حسن وحمدي وإخوانهما، أفضل ما يكون الالتقاط. لقد تكثّف تركيزهما على إطلاق الجهاد الإسلامي في فلسطين، والذي أصبح يشكل، موضوعياً، مركز الثقل في مرحلة الثمانينات. وقد أتى أكله المرجوة على أفضل وجه، وكان له إلى جانب عوامل أخرى إسهامه الملحوظ في اندلاعة الانتفاضة المباركة. وإذا كان أبو حسن وحمدي ومروان قد كحّلوا عيونهم برؤية هذه الانتفاضة في الأشهر الثلاثة الأولى من اندلاعتها، ورأوا فيها الشكل الأرقى في مواجهة العدو وذلك بسبب طابعها الجماهيري الواسع، واستقبلوا براحة كبرى انخراط حركة حماس في الانتفاضة واندفاعها للتصدي لمهماتها ولعب دور قيادي رائد فيها. وقد رأوا في ذلك انتصاراً كبيراً للأمام كما كان انتصاراً للمقاومة بمجموعها ضد العدو. فقد كانوا يرون ضرورة أن تفتح فتح ذراعيها لاستقبال الظاهرة الإسلامية المجاهدة في فلسطين بدلاً من أن تتنامى فيها اتجاهات العداء للإخوان المسلمين ولفصائل الجهاد الإسلامي. وقد ذكروا بعضاً من كوادر فتح في إحدى نقاشاتهم قبيل استشهادهم، قائلين إذا كنتم قد وجهتم النقد للإسلاميين عموما. وللإخوان المسلمين
خصوصاً لأنهم لم ينخرطوا بالكفاح المسلح في فلسطين فأين منطقكم حين تزدادون نقداً وتهجماً حين ينخرطون في الجهاد والانتفاضة وينفخون روحاً عظيمة في المقاومة ضد العدو الصهيوني؟
في الحقيقة لو أراد المرء أن يتابع النهج الذي اختطه أبو حسن وحمدي قبل استشهادهما، سواء أكان من حيث وضع الأولوية للهدف والمبدأ وللمواجهة ضد العدو، أم كان من ناحية انتهاج منهجية لعب دور العامل المساعد أو الحصوة التي تسند الجرة، أو الوقوف على الثغر الذي يحتاجك أكثر، لكانا الآن في الخندق الأمامي إلى جانب حماس وقوات عز الدين القسام ولاعتبرا ذلك هو الترجمة المستمرة للوجود في الموقع الذي يكون فيه المرء أكثر فعالية وأكثر انسجاماً مع المبادئ والأهداف والمقاومة وتحرير فلسطين وإنهاض الأمة. بل لاعتبرا ذلكم هو التواصل وجهاد شعب فلسطين منذ العشرينات حتى اليوم مروراً بانطلاقة 1 / 1 / 1965.
من كتاب شهداء ومسيرة للأخ منير شفيق
9 من الزوار الآن
916820 مشتركو المجلة شكرا