الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > العلوم العسكرية > استراتيجية ارهاق العدو لا مركزياً
من المفيد الاشارة أن مصطلح الاستراتيجية يوناني ومشتق من كلمة استراتيجس Startegos التي تعني القائد، فالاستراتيجية هي "علم ٌ وفن ينصرفان إلى الخطط والوسائل التي تعالج الوضع الكلي للصراع الذي تستخدم فيه القوة بشكل مباشر أو غير مباشر من أجل تحقيق أهدافسياسية يتعذر تنفيذها من غير ذلك السبيل". إن الاستراتيجية متعددة التصنيف منها: العليا والأدنى والمباشرة وغير المباشرة والإدارية والتنفيذية، وغير ذلك من الأنواع.
أما الاستراتيجية غير المباشرة أو اللامركزية فهي تحاشي الدخول في مواجهات ومجابهات مباشرة مع العدو وذلك انتظاراً لظروف تكون أكثر ملاءمة بحيث يمكن التفوق على العدو تفوقاً كاملاً وبدرجة يمكن معها تدمير العدو تدميراً كاملاً والقضاء عليه، فلذلك يعتمد أسلوب هذه الاستراتيجية على توريط الخصم في معارك جانبية تستنزف موارده وترهق معنوياته وتنال من صلابته وتماسكه، فكل ذلك يضعف من إمكانات الخصم العسكرية وقدراته في معارك المواجهة الرئيسية.
[(في المجال الثوري والخاص بحرب التحرير الشعبية فإن أهم درس يجب أن يتم تعلمه والتركيز عليه أن لا تدع العدو يستريح مطلقا، ولذا فإن هذا الدرس يتم تنفيذ هذه الاستراتيجيا طبقا لمفهومه العام والخاص أيضا، وعليه فإن استراتيجيا إقلاق العدو هي استراتيجيا تفكيك نقاط قوته وخلخلتها.)]
في لغة التكتيك العسكري تتواجد الاستراتيجية المباشرة والاستراتيجية غير المباشرة.
وتتضمن الاستراتيجية المباشرة في النموذج الحربي على أخذ الثور من قرنيه أي الاشتباك المباشر وتتصف هذه الاستراتيجية بالقيام بهجوم للقضاء على الخصم وعلى ترتيبات الخصم وعلى إعداد الخصم الهجومي والدفاعي بسرعة بواسطة المعركة.
أما الاستراتيجية غير المباشرة في النموذج الحربي فتتصف بالصبر والطموح فللصبر والطموح دوران أساسيان في هذه الاستراتيجية وتتضمن هذه الاستراتيجية إخلال توازن وزعزعة وإزعاج الخصم وتفتيته مادياً ومعنوياً والاقتراب من الخصم من اتجاهات لا يتوقعها قبل الإجهاز عليه إجهازاً تاماً.
ولفهم الاستراتيجية غير المباشرة يجب علينا معرفة أن هذه الاستراتيجية غير خالية من القتال، بل تمزج في القتال بين مجموعة من التظاهرات والمراوغات والعمليات ضد مواصلات وشئون العدو الإدارية وغيرها من الشئون الأخرى. فالهدف من هذه الاستراتيجية هو تفكيك العدو وتفتيته قبل الإجهاز عليه وإعطاؤه إحساس الفريسة المطاردة.
يدخل في عداد هذه الاستراتيجية نظرية التقرب غير المباشر، فالتقرب غير المباشر هو التقدم نحو العدو من اتجاهات غير متوقعة وتغيير تلك الاتجاهات بحيث ينصرف تفكير العدو عن أهدافنا الحقيقية.
ومن الأمثلة على هذه النظرية استخدام هتلر للاستراتيجية غير المباشرة في غزوه لفرنسا فمجموعة جيوش (فون بوك) هي الجهاز الرئيسي للجيش الهتلري فتحركت هذه الجيوش في اتجاهات مختلفة في أرض معقدة التضاريس وسط الغابات، وعند اختراقها (سيدان) غيرت اتجاهها حيث حيرت الفرنسيين إلى أي اتجاه ستذهب؟ فقد كانت حركة وسير الجيوش الألمانية في استراتيجية غير مباشرة وبتكتيك عسكري سياسي لتجنب الانقضاض على العدو وقد كان الجيش الألماني يبحث باستمرار عن نقاط الضعف عند عدوه ليتسرب منها ويحقق فوزه على عدوه. ويعتبر هذا المثال هو أصدق تمثيل للاستراتيجية غير المباشرة ونظرية التقرب الغير مباشر.
يعتبر الكاتب العسكري البريطاني ليدل هارت نظرية التقرب غير المباشر من أفضل الاستراتيجيات وتتضمن هذه النظرية عدم التقرب في مجابهة الخصم تقريباً مباشراً لاختبار القوة بل زعزعة وإخلال توازن الخصم وإزعاجه بتقرب غير متوقع من قبل.
إن مناورة التقرب غير المباشرة وسيلة تفرض نفسها على أحد الطرفين المتنازعين إذا كان أحد الطرفين لا يثق بنفسه أنه على قدر كاف من القوة بحيث يستطيع النصر على خصمه في أرض الطرف الثاني، ونتيجة لذلك لا يستطيع أي طرف الدخول في حرب مباشرة إلا عن طريق مناورة التقرب غير المباشر حتى لو أحس أحد الطرفين أنه أقوى من خصمه فإن التدخل المباشر يكلف هذا الطرف مبالغ باهظة وفقدان بعض الضباط والجنود. فالفكرة الرئيسة في مناورة التقرب غير المباشر هي قلب ميزان القوى المتجابهة قبل اختبار المعركة بمناورة التقرب غير المباشر لا بالقتال.
فيجب علينا أن لا نجابه العدو من البداية مجابهة مباشرة بل نستعين بلعبة دقيقة ممتازة نهدف من وراء هذه اللعبة إلى التعويض الموجود في أنفسنا بالنسبة لقوات العدو. لقد وجدت مناورة التقرب غير المباشرة ذات الطابع الجغرافي تطبيقاً في الاستراتيجية الشاملة لمختلف النزاعات التي يريد فيها أحد الخصمين الوصول لنتائج عسكرية ليست عن طريق القوة المباشرة ويرجع ذلك إلى نتيجة خوف أو ضعف أو استخدام القوة النووية عند أحد الطرفين ولذلك لا بُد من تسمية مناورة التقرب غير المباشرة بالاستراتيجية غير المباشرة.
إن الاستراتيجية غير المباشرة في عصرنا الحاضر أصبحت مهمة واتسع عملها بسبب وجود السلاح الذري وتصفية الاستعمار ولذلك هي استراتيجية بالغة التعقيد رهيبة الفاعلية تتصف بالمكر والخديعة.
إن الشيوعيين هم أول من طبق هذه الاستراتيجية وذلك على النطاق الدولي، أنهم أكثر الناس تطبيقاً لهذه الاستراتيجية في ظروف الصراعات الدولية التي يخوضونها ضد خصومهم. فالشيوعيون أول من طبقوا هذه الاستراتيجية خاصة عندما كانوا يثبتون دعائم الحكم الشيوعي بعد الثورة البلشفية حيث كانت الدول الرأسمالية ضاربة ضغوط الحصار حول روسيا في ذلك الوقت. فالقيادة السوفياتية اعتبرت أن عدم التدخل والتورط في صراعات ومجابهات مباشرة ضد خصومهم وخاصة الرأسماليين.
قاعدة أساسية في معركة البقاء والاستمرار واستمر السوفيت في تطبيق هذه الاستراتيجية في الثلاثينات فكان هدف السوفيت هو تجنب الدخول في مجابهات مباشرة مع أعدائهم لا يكونوا مستعدين لها فلجأوا في نفس الوقت إلى تأزيم العلاقات داخل المعسكر الرأسمالي وتوريطه في صراعات وحروب استنزاف مع دول المعسكر الرأسمالي بعضها مع بعض.
ولقد كان نجاح السوفيت نجاحاً عظيماً في تدمير الخطر النازي على حدودهم فبرز الاتحاد السوفيتي كقوة عملاقة بعد الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لذلك أصبحت روسيا مناوئة في قوتها للنظام الرأسمالي وبروز القوة الانتحارية النووية عندها أخذ الرأي العام العالمي يمارس الضغوط العنيفة برفض الحرب النووية كأداة لحسم الصراع بين السوفيات والرأسماليين.
فلذلك استغل السوفيات هذه الردود النفسية والدعائية من الغرب بدعم عناصر استراتيجيتهم الدعائية في نفسية الغرب حتى تحقق لهم دور بارز في ردع الطرف الآخر عن المبادأة والمفاجأة بالهجوم النووي.
إن الأمثلة كثيرة على هذه الاستراتيحية منها في القديم تحركات قائد قرطاجة (هانيبال) عام 218 ق.م لاحتلال روما. فعبر قمم الألب التي هي معقدة المسالك وكان يقود جيوشاً من الفيلة فهي حركة برية غير مباشرة تُعد في عداد الاستراتيجية الغير مباشرة.
ومن الأمثلة على هذه الاستراتيجية في التاريخ العربي:
1. الإغارات العربية هي نوع من الكر والفر فهي مشابهة لغارات (أكونور) في الحرب العالمية الثانية. إلا أنه في الماضي كانوا لا يفرقون بين الاستراتيجية والتكتيك.
2. إن العرب قد تمرسوا في حرب العصابات فهم صانعوا مجد لورانس في حرب الصحراء لجانب الحلفاء وهم أصحاب تلك التكتيكات، فهجمات العرب استنزفت الأتراك.
3. خالد بن الوليد كان من أعظم قادة الهجوم غير المباشر قبل وبعد إسلامه في معركتي أحد ومؤتة.
ومن الأمثلة الأخرى على هذه الاستراتيجية في العصر الحديث
في الحرب العالمية الثانية حين كان الحلفاء يفكرون ويحضرون لهذه الحرب كان القادة الألمان يعملون على شل عدوهم استراتيجياً وذلك باستخدام غير مباشر فضربوا أعداءهم بالقاذفات وأنزلوا المظليين الذين عملوا على قطع طرق المواصلات عند عدوهم فزادت الفوضى عند عدوهم فكانت النتيجة التي حققها الألمان ممتازة من جميع النواحي.
لقد هزم هتلر جميع أعدائه بواسطة الحرب الآلية بطريقة غير مباشرة لأن الهتلريون النازيون الألمان أتقنوا فن استخدام هذه الحرب ولجأوا بها بطريقة غير مباشرة مع العلم أن الجبهات الحقيقية لهذه الدول بقيت سليمة تماماً.
إلا أن النصر الاستراتيجي في القيادة الأوروبية بقي غير حاسم على مستوى الاستراتيجية الكبرى. والسبب في ذلك هو السماح للقوات الفرنسية والبريطانية بالانسحاب من جزيرة (دنكرك). الأمر الذي أتاح لبريطانيا الفرصة في تقوية دفاعاتها عن الجزيرة بواسطة القوات المنسحبة).
لقد وسّع هتلر الاستراتيجية غير المباشرة توسيعاً كبيراً فضمن بواسطة الحرب الآلية أبعاد الاستراتيجية غير المباشرة فعمل على تطوير الحرب في المؤخرات التي تمثلت بمجموعة من العمليات الهائلة واستخدام الحرب النفسية لشل الجهاز العصبي لأعدائه لأن هذا الأسلوب أقل كلفة من تدمير العدو وتحطيمه.
ولقد وسع هتلر قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية أبعاد الاستراتيجية غير المباشرة فقد أعطاها أبعاداً جديدة على الصعيدين الإداري والنفسي وفي المجالين المدني والعسكري فمعظم العمليات التي قام بها بين عامي 1933م و 1939م كانت على مستوى الاستراتيجية فلم تسفك فيها الدماء فلذلك احتل وضعاً استراتيجياً أفضل من وضعه عند بدء المعركة.
لقد استخدمت إسرائيل الاستراتيجية غير المباشرة في الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948م فهجوم إسرائيل على منطقة الجليل كان من نوع التقرب الغير مباشر. فقد استخدمت في هجومها على محور (صفد ميرون) مدرعاتها في منطقة مليئة بالألغام ويصعب في هذه المنطقة السير فيها فحققت أغراضها عن طريق منطقة غير متوقعة.
فلقد كان موقع إسرائيل المتوسط مهماً في التقرب المباشر فموقع إسرائيل المتوسط بين الجيوش العربية ونتيجة لعدم وحدة هذه الجيوش في المعركة وقيام إسرائيل بهجوم مباشر ضد واحد من الجيوش العربية وهجوم غير مباشر على الجيوش الأخرى انتصرت.
يقسم الكاتب البريطاني العسكري (ليدل هارت) الهجوم الاستراتيجي غير المباشر لقسمين أحدهما مادي يستهدف القوات المعادية والآخر معنوي موجه نحو مركز تفكير العدو وجهازه العصبي وذلك لشل عمله ومنعه من التفكير والتخطيط والتعزيز يرى (ليدل هارت) من خلال تحليله التاريخي للمعارك الحاسمة أن الهجوم غير المباشر يتمثل في الأمور التالية:
1. احتلال موضع: تهديد جوانب الخصم مادياً والتأثير عليه معنوياً.
2. تجاوز الحصون: وذلك بالالتفاف حول المواقع الدفاعية المحصنة وعدم الاشتباك مع الأعداء.
3. الاعتماد على العوامل النفسية.
4. إيجاد ثغرة حساسة تكون شبيهة بالرباط المفصلي في الترتيب الهجومي أو الدفاعي عند العدو، وذلك لتجزئة وتفتيت قوى الخصم وعزلها عن بعضها البعض.
من الواجب علينا قبل الاشتباك مع العدو أن ندمر معنوياته ونقضي على أمنه وموارده وأن لا نضرب عدوناً إلا ونحن واثقون من قوتنا.
ومن النماذج الأخرى على الاستراتيجية غير المباشرة المناورة بالإجهاد فهي مناورة أكثر تعقيداً من مناورة التقرب غير المباشر والهدف من مناورة الإجهاد هو إزعاج العدو بصورة مستمرة ومتواصلة وأن يبقى في حالة نشاط دائم وبشكل يهدد فيه أهداف العدو الحيوية ونقاط ضعفه بصورة مستمرة ولكن تمتاز هذه المناورة عن مناورة التقرب غير المباشر بأنها تحتاج إلى قوى معنوية دائمة.
لقد برزت في حروب القرن الثامن عشر أهمية كل قيادة عسكرية في المحافظة على القيم المعنوية فبرزت هذه القيم بالنسبة للقيم المادية مهمة جداً فمثلاً (فردريك الأكبر) كان يعيش وسط جيشه ويسعى بشتى الطرق والوسائل لملاءمة وسائله مع هدفه العسكري فكان يتمتع بموقع متوسط بين أعدائه وجيش متفوق تكتيكياً فكان يحارب على خطوط داخلية قصيرة فهذا التكتيك يمكنه من أن يوجه ضربة تلو الأخرى إلى خصومه فكان اتجاهه من مركز الدائرة إلى قطرها فهجماته كانت مباشرة على أحد الجيوش وغير مباشرة على الجيوش الأخرى.
إن استخدام الهجوم المباشر في الحرب العالمية الأولى وخاصة بالمدفعية تلك الهجمات أثبتت أنه من الممكن خرق الجبهة ضد عدو ضعيف المعنويات فالمعركة المباشرة ستكون في النهاية غير حاسمة وقادرة على تدمير العدو تدميراً كاملاً. فخرج النقاد العسكريون بدرس قديم قِدم التاريخ وهو أن هدف الحرب الحقيقي هو روح قادة الأعداء لا أجساد جنودهم.
إن للقيم المعنوية أساساً وأهمية كبيرة في كل صراع فالقيم المعنوية تدخل في كل لحظة فتستطيع الهزيمة تحطيمها والنصر رفعها وزيادة حيويتها.
يقول (كلاوزفيتز): وتلعب القوى المعنوية في مناورات الاستنزاف والإجهاد دوراً أساسياً فتقوية المعنويات ورعايتها من المهمات السياسية القومية العليا في كل بلد، يمكن للقوى المعنوية كالقوى المادية أن تضمحل وتذوب مع الزمن بسبب خطأ ترتكبه الحكومة أو القيادة بحق المواطنين وترتبط المعنويات إلى حد كبير بالجهد الذي تبذله الدولة في المجال الداخلي لبناء المجتمع وبناء المواطن الحر الأبي. وفي مجال تنمية الفضائل مثل الرجولة والشهامة لدى أبناء الأمة.
إن معنويات الأمة العربية في حرب حزيران 1967م كانت العامل الأساسي الذي رفض الهزيمة وقلب كل محاولات الخصم الإسرائيلي الصهيوني. قال الجنرال (مونتغمري) في إحدى المرات: "إني اعتبر الحالة المعنوية أعظم عامل بل هي العامل الوحيد في الحرب" إلا أن كثيراً من المدارس العسكرية لا تؤمن إيماناً كاملاً بأن الحالة المعنوية هي العامل الوحيد في الحرب إذ تعتبر العامل المادي والمعنوي عنصران مترابطان للنصر.
أولاً: تقوم على انتظار حلول الحسم بوسائط غير عسكرية ولا يكمن الفرق الأساسي في الاستراتيجية غير المباشرة وبين التقرب غير المباشر في الطابع الجغرافي فحسب بل التقرب غير المباشر هدفه إحراز النصر العسكري وتحضيراته غير مباشرة لكن الاستراتيجية غير المباشرة لا تسعى لإحراز النصر العسكري بالسلاح بل بطرق عديدة غير السلاح.
ثانياً: تكمن في الطابع الخاص الذي تتخذه فيها حرية العمل. وقد كانت هذه الميزة مستعملة قبل ظهور السلاح الذري فلا يمكن أن يجري أي صراع إلا داخل هامش حرية من العمل محدد بصورة جيدة بسبب الانعكاسات التي قد يسببها تطوره على الوضع الدولي.
فدول البلقان سنة 1912م امتنعت عن الذهاب للقسطنطينية خوفاً من تمركز الروس فيها. فكلما ضاقت حرية العمل كلما أصبحت مهمة لأن حرية العمل هي التي تسمح لوحدها بمجابهة الوضع القائم الذي يدعى الردع الذري محافظته عليه. وكذلك كلما ازدادت حرية العمل تماسكاً من أبناء الدولة المستعملة لها كلما أصبحت وسائل استثمارها دقيقة وملتوية.
وفي النهاية تتخذ مظهراً برفضها الحرب تقريباً. ولذلك النتائج التي حققتها حرية العمل مهمة جداً ولها أهمية كبيرة تزيد في قيمتها ونتائجها عن النتائج التي تحققت في الحروب الكبيرة. فقد حرمت الولايات المتحدة من جنوب شرق آسيا والصين واضطراب الشرق الأوسط وانتشر التذمر في أمريكا الجنوبية والوسطى.
فكل هذه النتائج ليست المحصلة الحتمية للتطور التاريخي إنما نتيجة استخدام بارع لاتجاهات التطور الطبيعية بمناورات محسوبة بدقة طبقاً لاستراتيحية واضحة ومحددة وهذه هي الاستراتيجية غير المباشرة التي أحدثت للعالم أجمع الترياق أو العدم الذري حيث لم يستعمل السلاح بعد القنبلة الذرية في هيروشيما والأخرى في ناغازاكي حتى الآن.
ففي عصرنا هذا العصر الذري تبدو لنا الاستراتيجية غير المباشرة على أنها فن معرفة أفضل استخدام لهامش حرية العمل الضيق الذي أفلت من الردع بالأسلحة الذرية والحصول بواسطته على نجاحات حاسمة رغم التحديد والتحديد القاسي أحياناً للوسائط العسكرية التي يمكن استخدامها فيه.
وفي ظل الردع الذري ترتبط حرية العمل بالخوف من الدمار الشامل المتبادل أو من الانتحار بطريقة الهاراكيري بالعوامل الآتية:
1. قيمة الردع الذري.
2. ردود الفعل الدولية.
3. الإمكانات المعنوية للخصم واحتمالات خضوعه للضغوطات الدولية.
لذلك نجد أن حرية العمل نجاحها مرهون ومرتبط بالمناورة الخارجية أي بردود الفعل الدولية نتيجة تعقد الصراعات في عصرنا الذري.
ومن النماذج الأخرى على الاستراتيجية غير مباشرة المناورة بالإجهاد فهي مناورة أكثر تعقيداً من مناورة التقرب غير مباشر والهدف من مناورة الإجهاد هو إزعاج العدو بصورة مستمرة ومتواصلة وأن يبقى في حالة نشاط دائم وبشكل يهدد فيه أهداف العدو الحيوية ونقاط ضعفه بصورة مستمرة ولكن تختلف هذه المناورة وتمتاز بميزة أخرى عن مناورة التقرب غير المباشرة بأنها تحتاج إلى قوى معنوية داعمة.
من الوسائل التي ركزت عليها الاستراتيجية غير المباشرة وطبقتها:
أولاً: أسلوب التحديات المرحلية أو التدريجية: وهذا الأسلوب يقوم على تفجير صراعات محدودة مختلفة المناطق ولكنها ضمن استراتيجية محسوبة ضد الخصم وبما أن هذه الاستراتيجية تهدف من وراء تلك الصراعات وفي هذا الأسلوب تباطؤ الدول المستهدفة بهذه الصراعات في استجابة فعالة إزاء التحديات التي تواجهها واختلافها حول جدية وخطورة هذه التحديات نتيجة لكثرة قطاعات الرأي وطول وتعقد الإجراءات فتأتي ردود الفعل أقل من اللازم نتيجة لهذه الصراعات.
ثانياً: أسلوب حرب العصابات في مناطق المجابهة غير المباشرة: وهذا الأسلوب يقوم على استقطاب مشاعر الولاء لبعض الفئات في أوساط المدنيين المختلفة بمختلف وسائل الإغراء والترهيب والإقناع فاتخاذ هذا الأسلوب كقوة يرتكز عليها العمل العسكري الذي يستهدف من وراء ذلك تحطيم معنويات وإرباك واستنزاف الخصم وتشتيت قواه العسكرية في ظروف من عدم التأكد وفقدان القدرة على تحديد اتجاه الخصم بل وجعل كل هذه الظروف تعمل ضده حتى تأتي اللحظة التي يستسلم فيها الخصم وتنهار قواه. ومن أمثلة ذلك نجاح هذا الأسلوب في الحرب غير النظامية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في منطقة الهند الصينية.
ثالثا: الدعم بالأسلحة: وهو دعم بعض الدول المشتركة في الصراعات بالأسلحة حتى لا تتوقف الصراعات بينها وحتى تكتسب مستوى أكثر من العنف والقوة في حدود ما يعلق عليها من أهداف أو ما يطلب منها من نتائج فهذا الأسلوب هو وسيلة للتدخل الأجنبي في الصراعات مع تفادي التورط فيه بصورة مباشرة.
رابعاً: المتطوعين: فهذا الأسلوب يهيئ إمكانية التأثير الفعال في مجرى الصراع الناشب بين المتطوعين والدولة، فهذا الأسلوب يحمي وجه هذه الاستراتيجية من التدخل المباشر. فتدخل المتطوعين يعطيهم مزايا دعائية كبيرة منها أن الإدعاء بأن هذا التطوع يحدث دفاعاً عن الحرية أو الاستقلال أو العدالة. فأول تطبيق لهذا الأسلوب كان في الحرب الأهلية الإسبانية (1936م 1939م).
خامساً: الأجهزة والتنظيمات والعناصر الوسيطة: هذا الأسلوب يقسم لقسمين:
أ. أدوات تحت السيطرة أو التحكم المباشر مثل المنظمات والدول التي ترتبط مع الدول الكبرى بعلاقة سياسية أو عقائدية فهذه الدول تعطي مجالاً للتحكم في هذه التنظيمات.
ب. أدوات لا تدخل في الحكم المباشر وإنما يمكن توجيه هذه المنظمات وجهة ملائمة في ظروف معينة حتى تتدخل في الصراع. ومثل ذلك الدول المجاورة والجماعات المستقلة. وكذلك الأحزاب الاشتراكية والجماعات الثائرة ضد السلطة في دولة ما أو الجماعات المناوئة المعادية للغرب.
إن الاستراتيجية غير المباشرة هي من الاستراتيجيات المهمة في الحفاظ على الأمن القومي للدولة بكافة أبعاده فهذه الاستراتيجية لا تعتمد على الدخول في مجابهات مباشرة مع الخصم بل تتحين الفرص لتحقيق أهدافها السلمية والعدوانية فهي تتحاشى الدخول في اشتباكات عسكرية مباشرة وإنما تعمل على إبقاء العدو في حالة ارتباك وتيقظ شديدين. فهذه الاستراتيجية ترهق معنويات العدو وتكلفه مبالغ باهظة في حفاظه على سلامته.
إن هذه الاستراتيجية تحتاج لإعداد وتخطيط على مستوى عال من الذكاء فتحتاج لذكاء عقلي وتخطيط ودراسة علمية في آن واحد.
إن هذه الاستراتيجية تشبه من الناحية الحربية نظرية التقرب غير المباشر التي لا تخلو تماماً من الاشتباكات وإنما تقع الاشتباكات بين الحين والآخر في أماكن لا يتوقعها الخصم وثم تتراجع فوراً الدول المستعملة لها حتى لا يجري اشتباك كبير. لقد استعملت هذه الاستراتيجية من قديم الزمن ولكن لم تكن معروفة بهذا الاسم.
إن الفكرة الرئيسية من مناورة التقرب غير المباشرة هو قلب ميزان القوى المجابهة قبل اختبار المعركة حتى أن الدول العظمى تتحاشى الدخول في مجابهات مع خصومها من الدول الصغرى وذلك توفيراً للمال والضباط والجنود.
إن هذه الاستراتيجية المشابهة لعمليات التقرب غير مباشر أصبحت من أهم الاستراتيجيات في القرن العشرين وذلك لخوف كل من الدول من استعمال القوة النووية نتيجة لما يلحق بالدول المستعملة وغير المستعملة من دمار شامل لا تُحمد عقباه ولذلك استعملت هذه الاستراتيجية في العالم اليوم لتلاشي الحرب النووية ولتحقيق مكاسب الدول. فالاستراتيجية غير المباشرة لها أساليب واسعة في تحقيق أهدافها فمنها:
1. التأثير على القيم المعنوية للإنسان وإضعاف تلك القيم.
2. استعمال الدعاية المناوئة لأنظمة الحكم للدولة المعادية حيث تتوافر لهم في تلك الدول عناصر معارضة لأنظمة الحكم.
3. إيجاد الثغرات على الحدود من أجل تحقيق النصر السريع خلال الهجوم.
4. إنشاء أجهزة وتنظيمات وعملاء وأحزاب داخل الدول المعادية ودعم العملاء بالأسلحة والأموال وذلك من أجل زعزعة الأمن الداخلي فعندئذ تتاح الفرصة لتحقيق المكاسب.
إن من مميزات هذه الاستراتيجية:
1. انها لا تعتمد على إحراز النصر بالقوة العسكرية بل بوسائل أخرى.
2. حرية العمل الضيق، فكلما ضاقت حرية العمل أصبحت مهمة في تحديد الدخول في الحرب أو رفض الحرب، فحرية العمل ضاقت بعد الحرب العالمية الثانية حيث لم يسمح باستعمال وسائل الدمار الشامل بعد هيروشيما وناغازاكي ولا ننسى أن حرية العمل مرهونة بردود الفعل الدولية عند تحقيق مكاسب خارجية للدولة.
3. الإجهاد حيث تبقى الدول الخصم في حالة إرباك دائم مما يُجهدها فوق طاقتها
9 من الزوار الآن
917335 مشتركو المجلة شكرا