الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الثقافة الأمنية > أبعاد الأمن الثقافى لدى الشباب
تتناول الدراسة الحالية مفهوم الأمن الثقافى وأهميته ومقوماته الأساسية، والمتمثلة فى الدين واللغة والتراث والذاتية الثقافية والانتماء والمواطنة، وأهم العوامل الخارجية التى تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب والمتمثلة فى العولمة، والتغريب الثقافى، والثورة التكنولوجية والمعلوماتية، والبث المباشر، والإنترنت، والتبعية فى التعليم، إلي جانب العوامل الداخلية والمتمثلة فى التفكك الأسرى والمشكلة السكانية والبطالة والأمية والهجرة الداخلية، فكل هذه العوامل تُؤثر وتهدد الأمن الثقافى لدى الشباب.
ويمر المجتمع العربي مثل غيره من المجتمعات الإنسانية الأخرى بمرحلة التحولات السريعة والمتلاحقة التى شملت مختلف أوجه الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية فى ظل النظام العالمى الجديد، مما يتطلب التعامل مع هذه التحولات المجتمعية الأخذ بسياسات وتدابير تساعد المجتمع المصرى على المواءمة والتكيف مع النظام العالمى الجديد من جهة، وبين قدرة الأفراد فى المجتمع المصرى على استيعاب التغير وخاصة التغيرات الثقافية من جهة أخرى.
كما أصبح من الضرورى الحفاظ على الذاتية الثقافية والارتقاء بالفكر والسلوك الإنسانى فى المجتمع المصرى، لمواجهة الغزو والهيمنة الثقافية التى تستهدف الشباب وتفقده القدرة على الشعور بالاستقرار والأمان فى جميع جوانب الحياة.
وفى جانب آخر فإنَّ الأمن الثقافى لدى الشباب أصبح ضرورة لحماية الهوية الثقافية والتراث الحضارى، والقيم والعادات والتقاليد التى تمثل أهم الدعائم التى يقوم على أساسها المجتمع المصرى، كما أنَّ الأمن الثقافى دعامة أساسية فى تحقيق الأمن القومى العربى فى ضوء التغيرات العالمية المعاصرة.
وسوف تحاول الدراسة من خلال هذا الفصل توضيح وتحليل مفهوم الأمن الثقافى وأهميته ومقوماته، وأهم العوامل التى تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب
أولاً: مفهوم الأمن الثقافى:
1- مفهوم الأمن:
أ – فى اللغة:
يُشير المصباح المنير إلى الأمن فيقال: "آمنته عليه بالكسر وأتمنته عليه فهو أمين، وأمن البلد اطمأن به أهله فهو آمن وأمين، وآمنت بالله إيماناً أسلمت له، وآمنت الأسير بالمدّ أى أعطيته الأمان"([1]).
كما ورد فى المنجد فى اللغة أنَّ الأمن من أمن أمناً- وأماناً أى اطمأن فهو آمِن وأمين، والأمان: الطمأنينة والحماية وسكون القلب([2]).
كما ذكر فى مختار الصحاح: "(أَمِن) من باب فَهِم وسَلِم، و(أمَانا) وأَمَنه بفتحتين فهو (آَمِن)، والأمن ضد الخوف"([3]).
وقد جاء فى قاموس "إلياس Elias" أنَّ الأمن Security يُعنى حالة من الشعور بالأمن والحماية وهو ضد القلق والخوف([4]).
أى أنَّ قواميس اللغة تكاد تتفق على أنَّ الأمن يُعنى: الأمان والاستقرار والاطمئنان بعيداً عن الأخطار التى تهدد الفرد فى بلده.
وقد ورد ذكر الأمن فى القرآن الكريم ليدل على المعانى السابقة فى آيات كثيرة، منها:
قال تعالى)وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً...( (سورة البقرة، آية 126).
وقوله تعالى: )الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ( (سورة قريش، آية 14).
ب- فى الاصطلاح:
ليس هناك اتفاق على مفهوم معين للأمن، وأن اختلاف مفاهيم الأمن فى الاصطلاح ترجع إلى عدة عوامل أهمها: حداثة الدراسات الأمنية وامتداد الأمن إلى آفاق واسعة وتداخل قضايا الأمن بحقول المعرفة الإنسانية الأخرى، فضلاً عن ذلك اختلاف الخلفيات الفكرية والثقافية للباحثين فى المجالات الاجتماعية المختلفة، علاوة على تباين اهتماماتهم وتفاوت خبراتهم([5]).
فالأمن يُمثل مجموعة الإجراءات والنظم التى تحقق السلامة والطمأنينة والحماية والحرية وغيرها للفرد والمجتمع معاً، ويذهب البعض إلى أن الأمن يمثل التدابير الكفيلة بحفظ النظام السائر على سنن الله وضبط العلاقة بين الناس على نحو عادل ومتوازن، حتى ينخرط المواطنون جميعاً فى خدمة الأهداف والغايات المشتركة دون تثبيط أو إزعاج([6]).
كما يُشير مفهوم الأمن إلى أنه مفهوم شامل يشمل أبعاداً عديدة أمنية واجتماعية واقتصادية تتصل بحقوق الإنسان والتنوع الثقافى لتحقيق هدف مشترك فى المجتمع([7]).
كما يُعرف الأمن على أنه: حصيلة مجموعة من الإجراءات والتدابير التربوية والوقائية والعقابية، التى تتخذها السلطة لصيانته واستتبابه، انطلاقاً من المبادئ التى تدين بها الأمة ولا تتعارض أو تتناقض مع المقاصد والمصالح المعتبرة([8]).
كما يرى "حامد عمار" أنَّ الأمن يمثل عنصراً من عناصر التنمية البشرية فى منظورها الشامل، وأنه من الحاجات الأساسية لرفع مستوى المعيشة وتحسين نوعية الحياة والوقوف ضد أى هيمنة أياً كانت مصادرها الداخلية أو الخارجية([9]).
وعلى هذا الأساس يدور استخدام الدراسة الحالية لمفهوم الأمن على أنَّه: مجموعة من الإجراءات التربوية التى تحقق السلامة والطمأنينة والحماية والحرية والتنمية البشرية فى المجتمع فى ضوء المبادئ والقيم التى يدين بها المجتمع المصرى، وبما يخدم ويحقق أهداف وغايات كل فرد من أفراد المجتمع.
2- مفهوم الثقافة:
أ – فى اللغة:
جاء فى لسان العرب "ثقف" الشئ وثقافة أى حذقه ورجلٌ ثقف أى صار حاذقاً فطناً، أى سريع التعلم.([10])
كما يشير المنجد فى اللغة إلى أنَّ الثقافة: من ثقِفَ وثقُف ثقفاً وثقافة أى صار حاذقاً، والثقافة من النساء الفطنة والذكاء، والثقافة هى التمكن من العلوم والآداب والفنون([11]).
كما ورد فى المعجم الوسيط "ثقف الشئ" أى أقام المعوج منه وسواه، و"ثُقِفَ" الإنسان أى أدبه علمه وهذبه، والثقافة هى العلوم والمعارف والفنون التى يطلب العلم بها والحذِقُ فيها([12]).
ومما سبق يتضح تعدد معانى الثقافة، إلا أنَّ مجمل هذه المعانى يدور حول التهذيب والتطور والحذق والفطنة وغيرها، والإلمام بالعلوم والمعارف والفنون.
ب- فى الاصطلاح:
تتعدد المفاهيم التى صيغت لمفهوم الثقافة على النحو التالى:
يرى الباحثون فى علم الاجتماع أنَّ الثقافة أنماط واضحة من السلوك يحصل عليها الإنسان وتنتقل إليه عن طريق رموز تتكون من الإنجازات المميزة للجماعات الإنسانية، فالثقافة سلوك متعلم منقول اجتماعياً خاص بالإنسان([13]).
كما تُعرف على أنها: عملية متجددة دائمة لا تنتهى أبداً، فهى لا تعنى أن إنساناً أو مجتمعاً معيناً قد حصل من المعارف والعلوم والقيم ما يجعله على قمة السُلم الثقافى، أو أنه وصل إلى الغاية القصوى، وإنما دلالات التهذيب والتقويم تُعنى التجدد الذاتى أى تكرار التهذيب ومراجعة الذات وتقويمها وإصلاح اعوجاجها([14]).
كما يُشير المفهوم إلى أنها: وسائل الحياة المختلفة التى توصل إليها الإنسان عبر تاريخه الطويل، الظاهر منها والمتضمن "العقلى واللا عقلى" التى توجد فى وقت معين، والتى ترشد وتوجه سلوك الأفراد فى المجتمع([15]).
ويرى "حامد عمار" أنَّ الثقافة مهما اختلفت تعريفاتها ومكوناتها إنما هى: صناعة الإنسان عبر تاريخه وفى حاضره، ومن أجل تطلعاته نحو مستقبله ومستقل أجياله، وهى بذلك حصاد لمختلف المنظومات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وما تفرزه من تراكمات وتفاعلات وديناميات ووعى فى حركة المجتمع فى فترة زمنية معينة([16]).
ويدور استخدام الدراسة الحالية لمفهوم الثقافة على أنها ظاهرة اجتماعية مكتسبة تختلف باختلاف الزمان والمكان واللغة، وهى قابلة للانتشار والانتقال والاستمرار حيث تنتقل من جيل إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر أيضاً، فالثقافة هى الإطار الاجتماعى الذى يعيش الفرد فيه وينمو ويتطور من خلاله.
3- مفهوم الأمن الثقافى:
هناك كثير من الآراء تنظر إلى الأمن الثقافى على أنه أحد جوانب الأمن القومى، بل وأهمها، فهو يتقدم على الأمن الاجتماعى والعسكرى والسياسى والاقتصادى، فإذا تحقق الأمن الثقافى فإنه يمكن تحقيق الأمن والحماية فى كثير من المجالات الأخرى([17]).
والأمن الثقافى يُعد نوعاً من الأمن الذى يحقق الحفاظ على الذاتية الثقافية فى مواجهة الهيمنة على الشخصية القومية، كذلك الحفاظ عليها من التيارات الثقافية المختلفة مع حماية جميع المؤسسات الثقافية من الانجراف مع الثقافات الأخرى([18]).
كما يُشير مفهوم الأمن الثقافى إلى المحافظة على مقومات الثقافة وتأصيلها وتطويرها لتساير مستجدات العصر وتحولاته، حتى يمكننا ذلك من الحوار المثمر والخلاق والمبدع مع الآخر([19]).
كما يُعرف الأمن الثقافى على أنه: الشعور الذاتى بالانتماء القومى، والذى يخلق اطمئناناً للوجود لدى الأفراد المنتمين إلى أمة واحدة، فهو يُمَكن فى المحافظة على الهوية والدفاع ضد من يحاول زعزعة ثقافة الأمة([20]).
ويتبنى البحث الحالى مفهوم الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر على أنَّه: الحفاظ على الذاتية الثقافية وحمايتها وتأمينها من التيارات الفكرية المعاصرة التى تستهدف الشباب المصرى فى دينه ولغته وقيمه وحضارته المصرية والعربية، حتى يتمكن من مقاومتها والتصدى لها بإيجابية وفاعلية فى ظل تحديات عالمية معاصرة، ويُشكل ذلك قاعدة أساسية لتحمل المسئولية والمشاركة فى تحقيق الأمن القومى والتقدم والتنمية للمجتمع المصرى.
ثانياً: أهمية الأمن الثقافى لدى الشباب:
الأمن الثقافى ضرورة للحفاظ على مستويات الثقافة فى أبعادها ومجالاتها ومظاهرها المتعددة، والوقوف ضد التيارات الهدامة التى تؤدى إلى تذبذب الأفكار، وإعاقة عملية التنمية فى المجتمع المصرى.
فالفرد لابد أن يتسلح بخصائص ومهارات معينة تعينه على التعايش الإيجابى مع تحديات القرن الحادى والعشرين، منها أن يكون الفرد واعياً بحضارته، وقادراً على النظرة الموضوعية تجاه الثقافات الأخرى، وأن يكون قادراً على الجمع بين الأصالة والمعاصرة متمسكاً بهويته، معتزاً بثقافته، وأن يعمل على تنميتها وتطويرها،ويكون قادراً على توجيه اهتماماته نحو المشكلات التى تواجهه([21]).
ويتطلب ذلك الإعداد الجيد للطلاب ليكونوا قادرين على استيعاب الانفجار المعرفى، والتمكن من المعلومات والتكامل معها، وذلك باتفاق عمليات صناعة المعرفة، وتوليدها بسرعة وبدقة، حتى يكونوا قادرين على الحياة فى عصر حضارة المعلومات([22]).
ويتضح للباحث، أنَّ الأمن الثقافى يجعل الفرد مشاركاً وإيجابياً وفعالاً، ويجعله قادراً على مواجهة التغيرات التى تطرأ على المجتمع، ومتابعاً لكافة التطورات العلمية والتكنولوجية، وقادراً على التكيف مع مجتمعه وحاجاته وطموحاته، ويمكنه من القدرة على توظيف أفكاره على نحو فعَّال يقوده نحو تحقيق أفضل مستويات الأمن والرفاهية والتقدم لوطنه ولأمته العربية.
ومما يؤكد ذلك ما توصلت إليه نتائج بعض الدراسات والبحوث التى أثبتت ضرورة وأهمية تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب ، ومن هذه البحوث والدراسات على سبيل المثال:
أشارت دراسة "جمال عليان 2005م"([23]) إلى ضرورة الحفاظ على التراث الثقافى والهوية الوطنية فى ظل تحديات العولمة، حتى يتم تحقيق أمن الشباب فى جميع مجالات الحياة، وخاصة الأمن الثقافى للوقوف ضد الغزو والهيمنة الثقافية.
كما أوصت دراسة "جمعة سعيد تهامى 2004م"([24]) بالإعداد الثقافى لطلاب كليات التربية، وضرورة ربط موضوعات الإعداد الثقافى بالتحديات الثقافية المعاصرة (شبكة الإنترنت- الانفتاح الإعلامى- غياب الوعى الدينى- التطبيع الثقافى مع إسرائيل)، وذلك حتى يتحقق الأمن الثقافى لدى الشباب المصرى، ويتم الحفاظ على الهوية الوطنية.
وأشارت دراسة "عبد الله السنبل 2001م"([25]) إلى أهمية دور التربية وخاصة المؤسسات التربوية الدولية فى تناول قضايا الأمن وحماية المجتمع من خلال المدخل الثقافى أو الأمن الثقافى، لأنه يمثل حجر الأساس فى دعم الأمن القومى وترسيخ قيمته فى المجتمع،ويحمى الشباب من الانحراف فى طريق الجريمة والمخدرات والانحلال الأخلاقى.
كما أشارت دراسة "إريك نيمث Erik Nemeth 2006م"([26]) إلى ضرورة تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب وذلك للقضاء على التطرف والإرهاب والعنف المنتشر فى جميع دول العالم.
وأشارت دراسة "بيتر كاتزنيستن Peter Katzensten 1996م"([27]) إلى أهمية تحقيق الأمن الثقافى من خلال المحافظة على الثقافة والهوية الوطنية فى المجالات (السياسية والاقتصادية والاجتماعية) لأنه الأساس فى تحقيق الأمن القومى الشامل فى عصر العولمة.
فهذه الدراسات استفاد منها الباحث فى دراسته الحالية فى الوصول إلى متطلبات تربوية هامة فى المجالات الدينية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والإعلامية اللازمة لتحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب.
فمن خلال عرض تلك الدراسات السابقة يتضح للباحث أنَّ أهمية تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر تتمثل فى الجوانب التالية:
1- الحفاظ على الذاتية الثقافية من خلال القيم والمعايير التى تحيط بالمجتمع واستقراره وتميزه عن باقى المجتمعات الأخرى.
2- تحقيق الأمن الثقافى يُسهم فى بناء المواطن الصالح،ويحميه من كل التيارات الوافدة والأفكار الهدامة،ومن التطرف والإرهاب والعنف السياسى،ويجعله قادراً على المشاركة الفعالة فى تنمية المجتمع.
3- تحقيق الأمن الثقافى يأتى على رأس العوامل التى تحمى الشباب من السلوك الاجتماعى غير المرغوب فيه مثل (أفلام الجريمة- العنف- الجنس وغير ذلك)، وكذلك السلوكيات الغريبة الفاسدة والهدامة.
4- يؤدى تحقيق الأمن الثقافى إلى حماية عاداتنا وتقاليدنا المتوارثة عبر القرون الماضية، والتى تمتد بدورها إلى القيم الإنسانية ذات الطابع الدينى والاجتماعى.
5- يستطيع الفرد من خلال الأمن الثقافى أن يدرك الكثير من المفاهيم الواردة من الثقافات الأخرى، ويعمل على الارتقاء بها بما يتناسب مع المجتمع وظروفه فى ضوء النظام العالمى الجديد.
6- تحقيق الأمن الثقافى يُسهم فى تحقيق التنمية الاقتصادية للمجتمع، فالفرد الواعى يشجع استخدام الإنتاج المحلى بدلاً من الترويج للصناعات الغربية التى تسبب إضراراً بالاقتصاد المحلى.
ثالثاً:: مقومات الأمن الثقافى لدى الشباب:
يرتكز الأمن الثقافى على مقومات أساسية لا يقوم إلا بها، والاهتمام بها ودراستها يؤدى إلى تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، ومن هذه المقومات ما يلى:
1- الدين:
يمثل الدين الصلة بين الإنسان وربه، وينظم أوثق علاقة بين السماء والأرض، فإن أشرف ما فى الأرض الإنسان وأشرف ما فى الإنسان قلبه، وأشرف ما فى القلب الإيمان بالله خالق الوجود وواهب الحياة، فالدين هو الذى يوجه إلى إرادة الخير وكراهة الشر، وهو الذى يغرس فى النفس الإنسانية الأمن والطمأنينة وحب الحق والعدل.
إن الدين هو النظام العام أو المنهج الذى يحكم الحياة، فهو مرادف لكلمة نظام أو منهج فى الاصطلاحات الحديثة، مع شمول المدلول للإيمان والاعتقاد فى القلب والسلوك فى الواقع، والشريعة لكل جوانب المجتمع الإنسانى([28]). كما أنَّ الدين ظاهرة مجتمعية ويمثل أحد الجوانب الأساسية لمعظم الأنشطة النظامية فى المجتمع، كما أنه يتمتع بأخلاق وقيم نظامية وعقلانية([29]).
ومن ثمَّ، فالدين نظام الحياة الكامل الشامل لنواحيه الاعتقادية والثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وهو النظام المبنى على طاعة الله وإخلاص العبودية له وحده.
ومما سبق أصبح من الواضح أنَّ للدين كثيراً من الوظائف المختلفة فى الحياة، منها ([30]):
1- يمد الدين الأفراد بنظرة معينة للعالم والكون من خلال التفكير والدعوة إلى العلم والمعرفة.
2- يحقق الدين الأمن والاستقرار فى الحياة، كما يساعد الفرد على تقبل مجتمعه ومواجهة مشكلاته والعقبات التى تواجهه فى الحياة.
3- إقامة المجتمع على العدالة الاجتماعية بين الأفراد، من خلال وضع الضوابط والمعايير والقيم الفاضلة، حتى يصبح المجتمع متماسكاً قوياً يسعى للرقى والتقدم.
4- يحقق الدين الاستقرار الاجتماعى من جهة العمل وذلك بالدعوة إليه، وتحرى الإتقان، والإجادة فيه، واعتبار هذا العمل نوعاً من العبادة لله، وعلى ما قدر ما يعمل المسلم يُصلح من أمر نفسه ومن أمر الجماعة، وتكون له الحسنى فى الدنيا والآخرة.
5- يحقق الدين الاستقرار الفكرى، حيث أنه أقر كل المجالات التى يمكن أن تفيد الإنسان من خلال التفكير فيها، حيث يؤدى ذلك التفكير إلى الإنجاز وإثبات الشخصية، كما يعزز الثقة بالنفس، ويدعم رغبة البقاء فى الحياة، والاستقرار الفكرى بهذه الصورة مدعاة إلى الإبداع العقلى، والابتكار المتجدد، ثم الإنجاز العلمى.
6- يحقق الدين مزيداً من الرفاهية والسعادة للبشر، حيث يبين الدين للبشر الحلال والحرام فى كل أمور الحياة، فيحقق بذلك الراحة والأمان للإنسان والسعادة له، وخاصة فى ظل التقدم العلمى والاختراعات، حيث يجعل الدين الإنسان مطمئناً بعيداً عن القلق والتوتر والشعور بخيبة الأمل فى هذه الحياة.
فالدين هو الموجه لسلوك الأفراد على أسس من العقيدة الراسخة والإيمان الصادق، باعتباره أسلوباً للحياة بكل ما تتضمنه هذه النظرة العامة الشاملة من نظم وقواعد وتشريعات اجتماعية وأخلاقية، وبذلك يعتبر الدين ثقافة وحاضرة معاً، وأحد المقومات الأساسية اللازمة للحفاظ على الهوية الثقافية وتحقيق الأمن الثقافى المصرى والعربى.
ومن البحوث والدراسات التى أشارت إلى أهمية الدين كمقوم أساسى فى الحفاظ على الذاتية الثقافية من أجل تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى ظل التحديات العالمية المعاصرة التى تهدد العقيدة الراسخة والهوية الثقافية والحضارية دراسة "كمال عجمى 2003م"([31])، و"محمود يوسف 2001م"([32])، فكلاً من الدراستين أكدتا على أهمية الدين فى الحفاظ على الثقافة من التحديات العالمية المعاصرة الموجهة إلى العقيدة الدينية السماوية والمبادئ السامية.
فالدين يُمثل القاعدة الأساسية التى يُبنى عليها أمن ثقافى متكامل العقيدة الراسخة، والقيم الدينية والأخلاقية فى ظل عالم بلا دين ولا هوية واحدة، فهو يسعى إلى التأكيد على الهوية وتكوين الإنسان الصالح فى الحياة، كما أنه من القوى الرئيسية فى المجتمع، فهو المقنن الأول للقيم والمعايير الأخلاقية.
2- اللغة:
فاللغة نظام عرفى مكون من رموز وعلامات يستغلها الناس فى الاتصال ببعضهم البعض وتحقيق التعاون فيما بينهم، وفى التعبير عن أفكارهم وتصوراتهم ورغباتهم وانفعالاتهم التى تصدر بطريقة إرادية([33])، كما أن اللغة منهج ونظام للتفكير والتعبير، والاتصال والتفاهم ونقل الأفكار،وهذا يُعنى أنها منهج للتعليم ونظام لحفظ التراث الثقافى عبر الأجيال([34]).
ومن أهم الخصائص المميزة للغة عبر تاريخ الإنسانية ما يلى([35]):
1- إنسانية اللغة واجتماعيتها، فهى المقوم الأساسى للغة المجتمع الإنسانى وأنها محققة لتطلعات الإنسان مستخدمها، وملبية لمطالبه الأساسية ومطالب المجتمع الذى نشأت فيه.
2- اللغة نظام أى أن لها قواعد وليست فوضى ولها نظام معين، كما أنها صوتية بمعنى أن الصوت يسبق الشكل المكتوب للغة فى الوجود الإنسانى.
3- اللغة نامية ومتطورة، فاللغة ليست شيئاً جامداً ولكنها تنطور فهى تقبل ألفاظ جديدة، وتختفى منها ألفاظ، وهذا التطور والنمو لا يتعارض مع كون اللغة تتسم بالمحافظة على نفسها بغير جمود.
4- اللغة نظام لحفظ التراث الثقافى، حيث تعد اللغة طريقاً للحضارة، وتمكن الإنسان من حفظ ثقافته وتفكيره عبر الأجيال.
وهذا وقد جُمعت هذه المميزات والخصائص فى لغة القرآن الكريم ألا وهى اللغة العربية، حيث رسخت الهوية الثقافية العربية
هذا وقد رسخت اللغة العربية الهوية الثقافية العربية، فهى التى احتضنت تراثنا العقلى والثقافى وحفظته عبر الأجيال المتعاقبة، فهى وسيلة التعليم والتحصيل وتكوين الثقافة وكسب الخبرات والمعارف والمهارات اللغوية المتعددة([36]).
لذلك كانت اللغة العربية- وما زالت- جوهر الهوية الثقافية فهى أولاً لغة القرآن الكريم، وثانياً لغة ثرية فى محتواها، ثمينة بقدرة مفرداتها على التعبير عن الحياة فى أدق تفاصيلها، وهى رباطنا القومى الذى يجمع الأمة العربية ويوحد بين رسائلها وغاياتها،فهى المقياس الذى يُعرف به ما وصلت إليه أمتنا من رقى فى حضارتها واتجاهاتها الفكرية والثقافية([37]).
ونظراً لأهمية اللغة كمقوم أساسى للأمن الثقافى فى ضوء التحديات المعاصرة الموجهة إلى هدم الذاتية الثقافية العربية، فقد تعددت الدراسة حولها، فمنها دراسة "عقيلى محمد محمد أحمد موسى 2005م"([38]) ودراسة "حسين نصار 2000م"([39])، ودراسة "عبد الوهاب قتابة 1999م"([40])، حيث أكدت هذه الدراسات أهمية اللغة العربية فى الحفاظ على التراث الثقافى وتنمية الذاتية الثقافية الموروثة وتحقيق ثقافة آمنة مستقلة عن الثقافات الأخرى فى ضوء أخطار العولمة.
فاللغة العربية هى المقوم الأساسى والرئيسى لتحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب، من خلال الحفاظ على التراث الثقافى من جيل إلى جيل، فهى وعاء الثقافة العربية والحضارة الإسلامية وهى القادرة على مواجهة التحديات الخارجية الموجهة إلى هدم هذه الثقافة وذاتيتها من أى غزو ثقافى، كل هذا يؤكد أهمية اللغة العربية فى تدعيم الهوية الثقافية وتحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب المصرى والعربى.
3- التراث:
لكل أمة تراثها الحضارى والثقافى الذى يمثل ذاكراتها التاريخية أو سجلها الحى الذى أودعته تجاربها وخبراتها فى حياة ممتدة بامتداد العصور، وينتقل بالتعليم فى شكل عقائد ولغة وعلوم وآداب وفنون وتقاليد، لكنه لا ينتقل إرثاً جامداً ثابتاً، بل ينتقل فى صيرورة أو تشكل حيث يخضع لروح العصر ويستجيب لمتطلباته([41]).
فالتراث هو المخزون الثقافى والمعرفى، وهو الرصيد الفكرى والأيديولوجى لمعطيات العقل والسلوكيات للفرد والجماعة، ويدخل ضمن هذا المخزون والرصيد كل أشكال الثقافة والحضارة عبر العصور([42]).
وليس الهدف من إحياء التراث أن نظل أسرى ذلك الماضى التليد، وإنما الهدف أن تستعيد الثقافة بأنفسنا، ونكون أقدر على الانطلاق إلى آفاق المستقبل مستندين إلى رصيد حضارى ضخم يمدنا بأسباب القوة ويدفعنا لأن نبنى كما بنى أسلافنا([43])، كما أنه لا أمل ولا رجاء فى أمة تتقطع صلتها بجذورها، بل إنه فى عصر كعصرنا الحاضر، عصر ما يطلق عليه العولمة الكوكبية، فإن ثمة حاجات ماسة إلى الذاتية وتأكيد الهوية وتأصيل الواقع، ودراسة التراث فى غير نكوص أو تقوقع أو عزلة بل ومع الانفتاح على العالم([44]).
فالتراث الثقافى الحضارى هو أداة وصل بين الماضى والحاضر، باعتباره سجلاً للحياة الاجتماعية والثقافية عبر مراحل التاريخ المتعاقبة، ومن هنا جاءت أهميته كأحد المقومات الأساسية فى الحفاظ على الذاتية الثقافية المصرية والعربية، وكذلك من أجل الاستفادة من الماضى لبناء مستقبل أفضل فى ضوء تحديات القرن الحادى والعشرين، حتى يتم اللحاق بركب الحضارة الحديثة. ولعل ما قدمته الحضارة المصرية القديمة، والحضارة العربية الإسلامية للمجتمع البشرى من فكر وثقافة ممتدة عبر العصور، مهد السبيل لقيام الحضارة الحديثة الغربية على أسس علمية راسخة.
وسوف يتناول الباحث بإيجاز فى السطور التالية لأهم الأدوار المشرفة للحضارة المصرية القديمة، والحضارة العربية الإسلامية لكى يتم إدراكها ومعرفتها لدى الشباب بحيث تُسهم فى تشكيل العقل المصرى والعربى المعاصر القادر على مواجهة مظاهر الغزو الثقافى الموجه إلى ذلك التراث، وذلك على النحو التالى:
وكانت الحضارة العربية الإسلامية أعظم حضارات العصور الوسطى بلا منازع، حيث شملت التقدم والرقى فى كافة نواح الحياة: فى الزراعة والصناعة والتجارة والملاحة وبناء المدن وتخطيطها، وفى العمارة والفن التشكيلى والموسيقى والأدب، أى لم يكن النتاج الثقافى والمادى لهذه الحضارة الراقية قاصراً على الجوانب الدينية والأخلاقية فحسب، وإنما كانت حضارة يمثل الدين الإسلامى قوامها ويصوغ نظامها الأخلاقى والقيمى([45]).
وقد أسهمت الحضارة العربية الإسلامية فى إثراء الحضارة البشرية فى مجالات العلوم الطبية والكيمياء والرياضيات والفيزياء وعلم الفلك، وعلم التكنولوجيا والجيولوجيا وغيرها من العلوم المختلفة، فعلى سبيل المثال من العلماء الذين أسهموا فى تقدم هذه الحضارة ما يلى([46]):
فى الطب والصيدلة برع كل من (أبى بكر الرازى وحنين بن إسحاق، أبى عيسى جبرائيل)، وخاصة فى طب الجراحة والأسنان والتشريح وطب العيون.
فى الطب والأمراض الباطنية برع (أبو عبد الله محمد التميمى المقدسى) حيث استطاع معالجة السموم والأمراض القاتلة.
فى الطب والتشريح استطاع العالم (على بن العباس المجوسى) أن يصف تشريح الأعضاء التناسلية للمرأة، وكان من مبتكراته أن الجنين يخرج بفضل تقلصات عضلات الرحم.
فى الرياضيات برع (الخوارزمى، وثابت بن قرة، ونصير الدين الطوسى، والسمؤال)، حيث عرفوا علم الحساب بأنه علم الأعداد وعرفوا علم الجبر والمقابلة وعلم الهندسة وهو النظر فى المقادير، وعلم المثلثات،وكذلك برعوا فى علم الفلك.
كما أسهم علماء العرب فى نشأة علم المعادن (الجيولوجيا) وأهميتها فى حياة الإنسان مثل: القزوينى وابن الأكفانى.
فكل هذه الإسهامات الحضارية وغيرها يرفع من شأن الحضارة العربية الإسلامية، ويجعلها قادرة بأبنائها على استعادة مكانتها العلمية والأدبية المشرفة بين حضارات العالم فى ظل التقدم التكنولوجى والمعلوماتى، وذلك بما لها من سمات امتازت بها عن جميع حضارات العالم فى الماضى والحاضر، ومن أهم سمات الحضارة العربية الإسلامية ما يلى([47]):
1- الحضارة العربية الإسلامية حضارة إنسانية تهتم بالإنسان ورقيه وتقدمه.
2- الحضارة العربية الإسلامية حضارة عالمية موجه إلى كل البشر فى جميع أنحاء العالم.
3- الحضارة العربية الإسلامية حضارة متطورة وليست جامدة متخلفة. وأنها صالحة لكل زمان ومكان، وتهتم بتنظيم أمور الدين والدنيا معاً.
4- الحضارة العربية الإسلامية حضارة تؤمن بأن الفكر والعلم وسيلة التقدم والرقى.
ومن ثَّم، فإن هناك ضرورة لإحياء التراث الثقافى الحضارى العربى لدى الشباب كمقوم ضرورى للأمن الثقافى، وربطه بالواقع المعاش الآن، وقضايا العصر، وذلك من خلال تعريف الشباب بهذا التراث من خلال المؤسسات التربوية المختلفة، وبالتالى سوف يُسهم بقدر الإمكان وبشكل فعّال فى ترسيخ الذاتية الثقافية لهم، التى يعانى من تهديد ثقافة التشكيك فى قدرة العقل العربى على التفكير العلمى والإبداع، فإحياء التراث ضرورة للحفاظ على هذه الذاتية ليتم تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب.
4- الذاتية الثقافية:
الذاتية الثقافية ليست مجرد تجميع لوحدات منفصلة أو تركيب لمقومات تشكل من مجموعها طابع المجتمع، بل أنها الأسلوب التى تظهر من خلاله فى ذات كلية، فهى محصلة عوامل كثيرة ومركب جديد تتفاعل فيه عناصر مختلفة، أو هى البصمة التى نلمسها موضوعة فى كل نمط من أنماط الحياة([48]).
وتُعرف الذاتية الثقافية بأنها: معرفة الفرد لذاته من خلال توحده مع السمات الثقافة المشتملة على جوهر العادات، والقيم والعقائد والسلوكيات، وطرق الحياة التى يتصف بها جماعة من الناس،ويظهر أثرها فى سلوك الفرد، وتحدد طريقة تفكيره واختياراته وأهداف حياته([49]).
كما تُعرف الذاتية الثقافية على أنها: نسق من القيم والمعايير والخصائص والسمات الثقافية والاجتماعية، والتى تعد محصلة لجملة من المصادر التاريخية والدينية والحضارية والجغرافية، والتى يتسم بها أبناء المجتمع الواحد، وتعبر عن تمسكهم بعقيدتهم ووطنهم، والتى تولد فى نفوسهم الشعور بالانتماء للمجتمع، وتخلق فيما بينهم مناخاً ثقافياً عاماً، يجمع الرؤى ويوحد القرارات المصيرية([50]).
فالذاتية الثقافية هى جميع السمات المميزة للأمة، كاللغة والدين والتاريخ والعادات والتقاليد، وطرائق التفكير ومظاهر السلوك وغيرها، مما يحفظ للأمة شخصيتها وتميزها عن غيرها من الأمم.
ونظرا ًلأهمية الذاتية الثقافية، فقد تعددت الدراسات بشأنها، من ذلك: دراسة "ميشيل ويلموند Michel Welmond 2002م"([51]) التى أشارت إلى الاهتمام بتحقيق الذاتية الثقافية من خلال المعلمين ومناهج التعليم العام، لأنها الأساس فى الحفاظ على الهوية والأمن والاستقرار للثقافة السائدة فى المجتمع فى ضوء العولمة.
ودراسة "مصطفى رجب وآخرون، 2000م"([52])، حيث أشارت هذه الدراسات إلى أن الذاتية الثقافية هى الطابع القومى للشخصية ونمط الحياة السائد فى مجتمع معين، والمرتبط أساساً بتراث مشترك من اللغة والتقاليد والتاريخ تميزهم عن غيرهم، وتعبر عن تمسكهم بوطنهم وأمتهم العربية.
فالمحافظة على الذاتية الثقافية وتأصيلها يُعنى التوازن فى النظر إلى الثقافة الخاصة وإلى الثقافات الأخرى، وهذا التوازن يقضى انتقاء التبعية الثقافية، وانتفاء الانبهار الثقافى الدافع إلى المحاكاة والتقليد، وهى يُعنى فى الوقت نفسه ألاَّ تنغلق ثقافة ما على نفسها، فترفض التعامل مع الثقافات الأخرى، وتُفتتن بحاضرها أو ماضيها فتدُيم النظر إلى نفسها وتتجاهل ما سواها([53])، فإذا تحقق ذلك سوف يتم المحافظة على الذاتية الثقافية من قيم وتقاليد وتراث وغيرها للمجتمع الواحد.
ومن ثَّم فإن الذاتية الثقافية تعتبر من المقومات الهامة فى تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب لأن الحفاظ على الذاتية الثقافية يحمى الثقافة العربية والدينية من مخاطر الغزو الثقافى ويحقق الأمن والتنمية الشاملة فى جميع مجالات الحياة المتعددة.
5- الانتماء:
الانتماء هو اتجاه إيجابى مدعم بالحب، يستشعره الفرد تجاه وطنه، مؤكداً ارتباط وانتساب نحو الوطن، باعتباره عضواً فيه، ويشعر نحوه بالفخر والولاء، ويعتز بهويته وتوحده معه، ويكون منشغلاً ومهموماً بقضاياه، وعلى وعى وإدراك بمشكلاته،وملتزماً بالمعايير والقوانين والقيم والتقاليد التى تعلو من شأنه وتنهض به، محافظاً على مصالحه وثرواته، مراعياً الصالح العام، ومشجعاً ومسهماً فى الأعمال الجماعية ومتفاعلاً مع الأغلبية ولا يتخلى عنه وإن اشتدت به الأزمات([54]).
فالانتماء للوطن يظهر فى اندماج الفرد فيه، ويشعر بالاعتزاز والفخر به، ويكون ملتزماً ومحافظاً على أمنه واستقراره ومعتزاً بهويته وذاتيته الثقافية من خلال التمسك بالقيم والتقاليد النابعة من ثقافة هذا الوطن، ويعمل على حمايته من كل ما يهدد الوطن من مظاهر الغزو الفكرى والثقافى فى ظل النظام العالمى الجديد.
وقد ظهرت الحاجة لتنمية الانتماء فى نفوس الشباب المصرى فى الآونة الأخيرة، نتيجة ظهور مؤشرات عديدة تؤكد وجود أزمة فى الانتماء للوطن لدى قطاع الشباب، منها ([55]):
1- ظاهرة الإرهاب وتفجير المنشآت، وترويع الآمنين بما يؤثر سلباً على الأمن القومى للبلاد.
2- ظاهرة الاندماج الاجتماعى السياسى والثقافى والاقتصادى لدى عدد كبير من شباب مصر داخل إسرائيل، بعد أن هاجروا إليها بدعوى السياحة، وتزوجوا من يهوديات، وما يترتب على ذلك مشكلات عديدة منها فقدان الهوية الثقافية والسياسية والاجتماعية لوطنهم الأم، وضعف عقيدتهم الدينية، وإنجاب أطفال ينتسبون إلى المجتمع الإسرائيلى، ويحملون السلاح بعد ذلك فى وجه أعداء إسرائيل ولاسيما العرب.
3- غزو البلاد بالمخدرات (بالترويج أو التعاطى) بشكل يحول الشباب المصرى إلى هياكل هشة فقدوا فكرهم، وزاعت عقولهم، وأصبحوا أداة طيعة، فى يد الخارجين على القانون، متقبلين أى مظهر من مظاهر الغزو الثقافى من العالم المتقدم.
ويترتب على ضعف الانتماء سيادة السلبية والقيم الفردية وعدم الالتزام بالقيم والمعايير والقوانين فى المجتمع، وعدم وجود الأمن والاستقرار فى المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وتعرض البلاد للأزمات المختلفة، ولا تتحقق المواطنة الصالحة ويصبح المواطن عقبة فى طريق التنمية فى المجتمع المصرى.
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أهمية الانتماء فى الحفاظ على الأمن والاستقرار فى المجتمع المصرى، فى ظل التغيرات العالمية المعاصرة، منها:
دراسة "لطيفة إبراهيم خضر 2000م"([56])، والتى أشارت إلى ضرورة الاهتمام بدور التعليم فى تنمية الانتماء الوطنى حيث بالانتماء تُكون المواطنة الصالحة التى تنمى هوية المجتمع وتُسهم فى وحدته وتضامنه والمحافظة على قيمه وعاداته، ويشعر أفراد الفرد بواجباتهم تجاه الوطن وقضاياه ومشكلاته فى ضوء أخطار العولمة على المجتمع المصرى.
دراسة "حسام الدين محمد عبد العزيز الجارحى 2000م"([57]) التى أشارت إلى أهمية الانتماء فى تحقيق التوافق النفسى والاجتماعى لدى الشباب فى المجتمع، ويؤدى ذلك إلى تحقيق الأمن والاستقرار بأنواعه المختلفة، ويدفع عجلة التنمية والتقدم فى المجتمع المصرى فى ظل تحديات العولمة.
كما أكدت دراسة "السيد محمد عبد المجيد عبد العال 1998م"([58]) أن غرس قيمة الانتماء لدى الشباب الجامعى تؤدى إلى تأكيد الهوية الوطنية والذاتية الثقافية، ويحافظ من خلال الانتماء على أمنه واستقراره فى ظل التغيرات المجتمعية المعاصرة كالبطالة- الخصخصة- والرشوة- والانقلاب الطبقى- والغزو الفكرى والثقافى والإعلامى والتى تؤدى إلى انخفاض الشعور بالانتماء لدى الشباب الجامعى .
فالانتماء للوطن من المقومات الأساسية لتحقيق الأمن القومى لدى الشباب ، والأمن الثقافى على وجه الخصوص، لأن الفرد الذى يشعر بالانتماء، هو نفسه الذى يسعى دائماً إلى تحقيق الأمن والاستقرار فى مجتمعه الذى ينتمى إليه، ويكون ملتزماً بالقيم والقوانين والمعايير السائدة فى مجتمع، محافظاً على ذاتية الثقافة من الذوبان مع الثقافات الأخرى، ويسعى دائماً إلى الحفاظ عليها، فالانتماء هو الطريق إلى تحقيق الأمن الثقافى والاستقرار والنمو والتقدم الاجتماعى فى ظل التحديات العالمية المعاصرة.
6- المواطنة:
المواطنة فى أبسط معانيها تعبر عن علاقة الحب والولاء والإخلاص والانتماء التى تربط بين المواطن ووطنه، كما أنها تعبر عن التعلق أو الارتباط الروحى والنفسى بين الفرد وبين وطنه ومواطنيه، حيث تربطهم به علاقات وروابط لُغوية وثقافية وروحية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وبقدر هذا التعلق أو الارتباط يكون إخلاص المواطن لوطنه([59]).
فالمواطنة صفة المواطن التى تحدد حقوقه وواجباته تجاه وطنه، فتجعله إيجابياً يدرك ما له وما عليه، ويكون قادراً على المساهمة الفعالة فى بناء الوطن الذى يعيش فيه.
والمواطنة تشتمل على الحقوق المدنية إلى جانب الحقوق القانونية، ولكن مع ما تفرضه العولمة كظاهرة وحالة تهدد المواطنة والانتماء والهوية والخصوصية الثقافية، برزت الحاجة إلى ضرورة تضمين أبعاد وقضايا التربية للمواطنة فى المناهج الدراسية والسياسات التعليمية للدول المختلفة، وذلك بغرض تعزيز المواطنة وتنميتها، وتقوية روح الانتماء الوطنى والقومى لدى الطلاب فى البلاد العربية المختلفة([60]).
ومن ثمَّ فهناك دواعى أدت إلى ضرورة تنمية المواطنة من أجل تحقيق الأمن والانتماء القومى فى ظل النظام العالمى الجديد، منها([61]):
1- شيوع مظاهر الخلل والاضطراب فى سلوكيات الشباب المصرى.
2- بروز مشكلات اجتماعية سلبية ضد المجتمع مثل التطرف والإرهاب والإدمان واللامبالاه والتعصب مما يؤثر على تحقيق الأمن العام فى المجتمع المصرى.
3- اهتزاز منظومة القيم الأخلاقية على حساب المواطنة فى زمن العولمة وتحدياتها.
4- تقديم المصلحة الخاصة على المصلحة العامة فى المجتمع العربي، فذلك يعوق عملية التنمية الشاملة فى المجتمع العربي فى الوقت الراهن.
وهناك عديد من الدراسات والبحوث التى أشارت إلى المفهوم السابق للمواطنة فى ظل العولمة، ومن ذلك: "دراسة نهلة هاشم 2005م"([62]) التى أشارت إلى ضرورة تفعيل المواطنة فى المدارس من خلال المشاركة الفعالة بين جميع أطراف العملية التعليمية تحقيقاً للتنمية الشاملة فى المجتمع العربي من خلال تطوير التعليم الذى يُعبر عن أسمى مراتب المواطنة والانتماء للوطن.
ودراسة جوديث تورنى وآخرون Judith Torne and et. Al 2002م"([63]) التى أشارت إلى ضرورة الانتماء بالمشاركة السياسية وتفعيل منظمات المجتمع المدنى حتى يتم تنمية مفهوم المواطنة وتقوية روح الانتماء والولاء للوطن.
أما دراسة "فايد دياب فايد 2005م([64]) التى أشارت إلى الاهتمام بالمواطنة فى ظل التغيرات المعاصرة والمتمثلة فى سياسات التحرر الاقتصادى والخصخصة فى مجال الصحة والتعليم وتراجع دور الدولة فى سياسة الرعاية الاجتماعية والتوسع السريع فى تكنولوجيا المعلومات واختراق الذاتية الثقافية للدول القومية وتحدى المفاهيم المتعلقة بالانتساب أو الانتماء القومى أدى إلى تدهور قيم المواطنة وإضعاف دور الدولة فى الحفاظ على حقوق المواطنين وتراجع الديمقراطية التى تحقق مبدأ المواطنة الصالحة.
كما أشارت دراسة "لروانس جيرادرد Lawrence Gerard 2003م([65]) إلى أن التغيرات العالمية الاجتماعية والاقتصادية تؤثر على قضايا الأمن البشرى والسلام والمواطنة ولابد من إعداد الطلاب بالمهارات والاتجاهات وأساليب السلوك والقيم المرتبطة بالمواطنة حتى يتمكنوا من مواجهة تحديات القرن الحادى والعشرين وكذلك العمل على تعليم السلام كمواطنة وتربية سياسية وذلك من خلال سمات المواطنة وهى تحقيق الأمن والسلام والإحساس بالهوية، الحقوق والواجبات، أو الالتزامات، والمشاركة فى القضايا العامة وتنمية القيم الاجتماعية.
فهذه الدراسات والبحوث أكدت على ضرورة تنمية المواطنة من خلال مراحل التعليم العالى لأنها تُسهم فى تكوين المواطن الصالح وتُحافظ على هويته وذاتيته الثقافية من خلال التمسك بالعقيدة والقيم، واحترام التقاليد والعادات السائدة فى المجتمع. فالمواطنة مقوم من المقومات الهامة فى تحقيق الأمن القومى بصفة عامة، والأمن الثقافى بصفة خاصة باعتباره أحد الأركان الرئيسة فى منظومة الأمن القومى العربى فى ضوء التغيرات العالمية المعاصرة.
وهكذا يتضح أن المواطنة ركيزة أساسية لتدعيم الثقافة من أجل تحقيق أمن ثقافى لدى الشباب، وغيابها بلا شك يؤدى إلى فقدان الهوية الثقافية وضياعها بين الثقافات المتعددة، ويضعف قيم الولاء والانتماء للوطن.
وبعد عرض الباحث لأهم المقومات الأساسية اللازمة لتحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، فعلى الجانب الآخر هناك عوامل كثيرة تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر فى الداخل والخارج لابد من معرفتها ومعرفة خطورتها، حتى يتم مواجهتها، ولا تقف عائقاً فى سبيل تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب، وسيعرض الباحث بإيجاز لأهم هذه العوامل خارجياً وداخلياً وتهديداتها فى الصفحات التالية.
رابعاً: أهم عوامل تهديد الأمن الثقافى لدى الشباب:
أولاً: العوامل الخارجية:
تسعى الكثير من دول العالم إلى محاولة السيطرة ثقافياً على الكثير من المجتمعات النامية وإحداث نوع من الغزو الثقافى والاختراق الإعلامى أملاً فى سيادة حضارة شعوبها ومحاولة السيطرة على منابع الفكر والثقافة.
فالغزو الثقافى يُعرف على أنه: حالة تغليب الثقافة الأجنبية على ثقافة شعب ما، وخلق هوة بين ماضى ذلك الشعب وحاضره، وبينه وبين تراثه الثقافى مما يؤدى إلى رفع شأن الحضارة الأجنبية،وطمس معالم الحضارة الوطنية،وفرض نوع حاد من الاغتراب على أبناء الشعوب المستضعفة والمغلوبة على أمرها، ينسون فيها أنماط حياتهم وقيمهم الموروثة وتقاليدهم، وسمعتهم القومية ويتمزقون بين ماضيهم وحاضرهم([66]).
فالغزو الثقافى الغربى يستهدف تدمير البناء الثقافى والحضارى العربى وذلك بالعمل على تشويه التاريخ العربى،وتصغير شأن العرب قديماً وحديثاً، وهدم اللغة العربية وإحلال العامية واللغات الأجنبية محلها، باعتبار أن اللغة العربية للماضى ولا تصلح للمستقبل والتقدم والتحضر، بالإضافة إلى الربط بين الإسلام ومفاهيم العقيدة الدينية الراسخة،وبين العنف والإرهاب والقتل والتخريب، فكل ذلك يجعل الشباب يعيش حالة من الاغتراب الثقافى والعزلة الفكرية عن المجتمع الذى يعيش فيه، ويحمل الشباب على التخلى عن القيم الإيجابية النابعة من الدين والمجتمع الذى يعيش فيه، واعتماد القيم السلبية الضارة التى تسهم فى هدم البناء الاجتماعى الثقافى للمجتمع العربى([67]).
وهكذا، فإنَّ الغزو والاختراق الثقافى والإعلامى المتنوع يهدف أساساً إلى العمل على احتلال العقل العربى، وذلك بزرع أفكار مشوهة ومفاهيم خاطئة عن الدين والحياة، وتزييف الواقع وفرض نماذج سيئة وعادات وسلوكيات وأساليب منحرفة، فكل ذلك يؤدى إلى تهديد واضح للأمن الثقافى لدى الشباب العربى، ومن أهم عوامل تهديد الأمن الثقافى عالمياً والتى نتجت عن الغزو الثقافى والإعلامى سوف يتم عرضها فى السطور التالية.
1- العولمة:
شاع استخدام مصطلح "العولمة" واتسع نطاق تداوله منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين، لارتباط هذا المصطلح بالتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية العميقة والمتنامية التى يشهدها عالمنا المعاصر.
وكان من أبرز التغيرات والتطورات التى ظهرت مع نهاية القرن العشرين انهيار المعسكر الشيوعى،وتفرد الولايات المتحدة بالهيمنة على الصعيد الدولى، وسعيها إلى خلق نظام عالمى جديد عنوانه "العولمة المفترسة" على حساب مصالح الشعوب، فالعولمة وحدت العالم، ولكنها وحده متفاوتة المعايير والمصالح، وحدة يسيطر عليها وحش رأسمالى بلغ قوته وثروته من إفقار الغالبية العظمى من سكان العالم الفقيرة أصلاً، وتكريس الهيمنة، وزيادة التبعية للدول التابعة أصلاً"([68]).
وقد تعددت التعاريف التى صيغت لمفهوم العولمة فى أبعادها المختلفة، فيرى "عبد الخالق عبد الله"([69]) أن العولمة هى حركة عالمية تستمد حيويتها الراهنة من محاولات إلغاء الحدود الاقتصادية التى شيدت منذ بروز الدولة القومية على أن يتبعها لاحقاً إلغاء الحدود الثقافية والسياسية والاجتماعية والجغرافية.
أما "حامد عمار"([70]) فيرى أنَّ العولمة ظاهرة جديدة تولدت من تراكم مجموعة من العوامل أهمها العوامل التكنولوجية التى تؤدى إلى إحداث خلل وتفكيك فى العلاقات الاجتماعية وإضعاف الانتماءات الوطنية، فضلاً عن خلخلة كثير من القيم الاجتماعية والعقائد الدينية.
ويشير "على غربى وآخرون"([71]) إلى أن العولمة هى: نمط سياسى اقتصادى ثقافى لنموذج غربى متطور خرج بتجربته عن حدوده لعولمة الآخر، بهدف تحقيق أهداف وغايات فرضها التطور المعاصر، بمعنى أن العولمة هى ظاهرة قادمة من الغرب من مجتمعات متقدمة حضارياً ومتجهة إلى مجتمعات نامية ومختلفة، والتعامل معها بنجاح يتطلب بناء الذات والارتقاء بها فى جميع المجالات المختلفة حتى يكون التعامل معها إيجابياً.
ويتبنى الباحث مفهوم للعولمة بأنها ظاهرة جديدة من ظواهر صراع الحضارات التى يخوضها الغرب ضد هويات الشعوب بهدف فرض هيمنة اقتصادية وسياسية وثقافية وإخضاع العالم لسيطرة حضارة واحدة.
وحيث أن البعد الثقافى للعولمة يُؤثر بقوة على الأمن الثقافى لدى الشباب، "حيث إنَّ العولمة الثقافية تدعو إلى إيجاد ثقافة كونية أو غربية تسعى إلى فرضها على الثقافات الأخرى التى تتعارض معها،وبخاصة ثقافة الدول الصغرى تحت وطأة الغزو الثقافى العالمى، وغالباً ما تعجز هذه الدول عن وقاية نفسها من تأثيرات الثقافة الوافدة، فالعولمة الثقافية تؤدى إلى الانقسام والتفكك وإحداث شروخ فى الأبنية الثقافية للشعوب، فضلاً عن طمس معالم الثقافة الوطنية أو إظهارها بمظهر العاجز، حيث تفرض العولمة فكراً يعتمد على ما أنتجته ثورة المعلومات والتكنولوجيا"([72]).
وعلى ذلك، فإن من أهم أهداف العولمة الثقافية هو خلق ثقافة عالمية قائمة على توحيد الأفكار عالمياً، وتشكيك الأمم فى عقائدها وحضاراتها وقيمها الإنسانية، وإخضاع العالم لثقافة واحدة فى عالم بلا حدود ثقافية، وهذا يمثل تهديداً واضحاً للأمن الثقافى لدى الشباب المصرى والعربى، ويعمل على فقدان الهوية والذاتية الثقافية لدى الشباب، وقد أشارت العديد من الدراسات والبحوث إلى خطورة العولمة على الثقافة بصفة عامة، وإعاقة تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب بصفة خاصة، ومنها:
دراسة "ماجد زيود 2007م"([73]) التى أشارت إلى الضعف فى تشكيل الاتجاهات والقيم لدى الشباب الجامعى فى عصر العولمة والمعلوماتية، وضرورة اهتمام الجامعة مضاعفة الجهود لتنمية القيم الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية حتى يتم مواجهة المستجدات العالمية الحديثة فى ظل العولمة.
دراسة "وينج واه لو" Wing WL 2004م"([74]) التى أشارت إلى عدة نتائج من أهمها ضرورة إعادة صياغة المناهج التى تركز على المواطنة، وإعادة إحياء المواد المرتبطة باللغة والهوية الثقافية على المستوى المحلى والقومى، حتى تستطيع هذه المواد الحفاظ على التراث الثقافى فى ظل العولمة التى تسعى إلى هدم وضياع الثقافات الوطنية.
فالعولمة أدت إلى العديد من السلبيات فى الاتجاهات والقيم لدى الشباب المصرى خاصة وفرضت على البلدان النامية ومن بينها مصر تحديات فى مختلف الأنظمة، الأمر الذى يتطلب المواجهة الفعالة لهذه الظاهرة العالمية، حتى يتم تحقيق الأمن والتنمية فى المجتمع المصرى.
كما أشارت دراسة "عبد الله عنبر 2002"([75]) إلى متطلبات مرحلة العولمة لمواجهة تحدياتها الموجهة إلى الثقافة العربية، وأن يتم الحفاظ على اللغة العربية حتى يمتلك كل فرد من أفراد الأمة القدرة على التصدى للتحديات الثقافية والحضارية لتحقيق أمن ثقافى موحد قادر على مواجهة تحديات الخطاب الثقافى العربى المعاصر.
وأشارت دراسة "محمد إبراهيم عطوة مجاهد"([76]) إلى بعض مخاطر العولمة التى تهدد الهوية الثقافية والأمن الثقافى للمجتمع كله، ومن هذه المخاطر:
1- التسطيح الفكرى والثقافى والحد من القدرة على الإبداع.
2- تراجع اللغة العربية.
3- إضعاف الانتماء الوطنى، وزيادة الشعور بالاغتراب بين الشباب.
4- تنامى نزعات العنف والتطرف واتساع دائرة المخاطر التى تهدد أمن المجتمع كله "ثقافة العنف".
5- الترويج لأنماط معينة فى العلاقات الأسرية والاجتماعية والجنسية السائدة فى الغرب.
6- تزايد حدة الفوارق الطبقية والاجتماعية التى تهدد السلام الاجتماعى.
كما أشارت هذه الدراسة إلى دور التربية فى مواجهة المخاطر السابقة من خلال البناء القيمى والأخلاقى للفرد،مع قبول التعددية والانطلاق نحو العالمية.
كما أشارت دراسة "سمير عبد القادر خطاب 2000م"([77]) إلى التغيرات التى طرأت على الثقافة التربوية فى ظل مفهوم العولمة، ومدى إمكانية بناء إستراتيجية تربوية للمحافظة على البناء الثقافى الآمن من خلال مواجهة مخاطر العولمة، وذلك بالنظم التربوية التى تكون أكثر ارتباطاً بالنواحى الاجتماعية والأخلاقية فى المجتمع العربى.
فإن العولمة تُعتبر من أخطر العوامل الخارجية التى تمثل تهديداً واضحاً للأمن الثقافى لدى الشباب فى العالم العربى، ولابد أن يظهر دور التربية بمؤسساتها المختلفة فى إكساب الأفراد السلوكيات والمعلومات التى تجعلهم قادرين على الاحتكاك الحذر مع الثقافات العالمية دون جمود أو خوف، وكل هذا فى إطار من القيم والمبادئ الأساسية السائدة فى المجتمع.
2- التغريب الثقافى:
يستخدم مفهوم التغريب الثقافى ليعبر عن تبنى تصورات الفكر الغربى ومعاييره، والدعوة إليها واعتبارها أسساً لإقامة الحياة فى مجتمعنا على غرار السياق الأوروبى أو الأمريكى، بدعوى اللحاق بالغرب ومدنيته([78]).
والتغريب بذلك يكون بمثابة تعبير عن إحدى صور الابتعاد عن الواقع المحلى الذى يعيش فيه أصحاب هذا الاتجاه.
وقد ساعد على ظهور التغريب فى المجتمع العربي التعليم الأجنبى (مداس اللغات) فقد ظهرت هذه المدارس لتعليم أبناء الجاليات الأجنبية، وفتحت أبوابها للمصريين من أبناء الطبقة الأرستقراطية، ومنذ نشأة هذا التعليم فى مطلع القرن التاسع عشر، وهناك ظاهرة تغريب ثقافى وقيمى وطرح للقيم والثقافة الغربية، ونمط الحياة الأوروبية كنموذج يحتذيه المجتمع المصرى، كما أدى هذا التعليم إلى تبديل عقائد المواطنين وأنماط حياتهم، وصولاً إلى خلق جيل مستسلم وغير قادر على تحديد هويته الثقافية والقومية([79]).
فالتغريب الثقافى هو شكل من أشكال الغزو الثقافى والهيمنة الغربية على الثقافات المحلية، فيؤدى ذلك إلى ضعف الانتماء والولاء للوطن، والتفريق بين أبناء المجتمع الواحد من حيث التعرض للثقافة الغربية أو التمسك بالثقافة والتقاليد الوطنية، وكذلك يؤدى إلى ضياع الذاتية الثقافية ويهدد الأمن الثقافى لدى الشباب فى الأمة العربية.
وكان من أهم الآثار التى نتجت عن هذا التغريب الثقافى ما يلى([80]):
1- تسرب بعض النظريات الاقتصادية والاجتماعية مثل الاشتراكية وشيوع المفاهيم الليبرالية.
2- الدعوة إلى فصل الدين عن السياسة، والواقع أن اندفاع بعض المفكرين إلى اقتفاء أثر الحضارة الغربية فى هذا الشأن نتيجة مصالح شخصية فى كثير من الأحيان.
3- التكوين الأوروبى لعدد من زعماء الفكر والسياسة، مما كان له أثر كبير فى توجيه مسارات الثقافة المصرية، ودخول كثير من الأفكار السياسية والآراء الاجتماعية الغربية إلى الثقافة المصرية.
4- ضعف الثقة فى النفس، أو ما يمكن أن نسميه "عقدة الخواجة" فقد أصبح المصريون المتغربون يشعرون إزاء الغريب بنوع من ذلك الانبهار الذى يشعر به الطفل أمام لعبته الجديدة.
5- تعرض الحياة الثقافية والاجتماعية لكثير من آفات التمدن الغربى، كانتشار مظاهر الفساد وشيوع المذاهب والاتجاهات المادية أدى إلى ظهور التيارات الإلحادية، وحامت الشبهات حول العقائد الدينية عند بعض الأفراد فى المجتمع.
فالتغريب الثقافى يمثل عاملاً من العوامل التى تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب ، حيث أنه نوعاً من استعمار الفكر والوجدان والسلوك، وله آثاره السلبية المدمرة التى تظهر ضعف التمسك بالثقافة الوطنية وفقدان الثقة بالنفس،والإحساس بالنقص والدونية من الحضارة العربية، كذلك هو تشويه للعقيدة والتراث واللغة والتاريخ، وخلخلة للهوية الثقافية وضياعها بين الثقافات المختلفة.
ومن هنا، يجب الدعوة إلى الاهتمام بالثقافة العربية بين الشباب، والتأكيد على أنها ثقافة عريقة وقادرة على مواجهة المخاطر والتحديات، لأنها بُنيت على خصائص ومميزات أسهمت فى الماضى فى التقدم الإنسانى، وهى لا تزال قادرة على إنقاذ هؤلاء الشباب من الأزمة الثقافية التى يُعانى منها فى جميع شئون الحياة.
3- الثورة التكنولوجية والمعلوماتية:
يشهد العالم منذ أواخر القرن العشرين ثورة تكنولوجية ومعلوماتية لم يعرفها المجتمع البشرى منذ القدم، سواء فى طرق الحصول عليها أو نقلها وتخزينها وكيفية التعامل معها واستخدامها فى مجالات الحياة المتنوعة، "فالتكنولوجيا هى استخدام الوسائل الميكانيكية والإلكترونية لاستقبال وإرسال أو معالجة التعامل مع المعلومات"([81]).
أما المعلوماتية هى مجموعة النظم العلمية المختلفة التى تُعنى بالدراسة النظرية والتطبيقات العلمية لكافة الجوانب الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية المتعلقة باستخدام وتوظيف تكنولوجيا المعلومات مثل علوم الحاسب والبرمجيات وشبكات الاتصال([82]).
وعلى ذلك، يمكن تعريف تكنولوجيا المعلومات بأنها: الأنشطة العلمية التكنولوجية التى تيسر للفرد الحصول على الثقافات المختلفة، والمفاهيم والنظريات والإجراءات العلمية، بهدف التفاعل معها وتوظيفها، مما ينتج عنه مشاركة وتنمية معلوماتية يُعبر عنها فى صورة تطبيقات علمية جديدة([83]).
ومن ثمَّ، فهذه الثورة التكنولوجية والمعلوماتية أدت إلى تضاعف المعلومات بشكل غير مسبوق، مما ساعد البشر فى كل مكان أن يطلعوا على ثقافات الشعوب وعقائدهم وتقاليدهم المختلفة التى تتفق أحياناً مع ثقافتهم، وتختلف فى الكثير معها، وقد انعكس ذلك على الأمن الثقافى، حيث فرضت الدول المتقدمة التى تمتلك وسائل التكنولوجيا الحديثة على الدول الأخرى النامية نوعاً من التبعية الثقافية، أى أن هذه الدول النامية خضعت لسيطرة التكنولوجيا على هويتها الثقافية.
وقد أدت السيطرة على الهوية الثقافية إلى ظهور العديد من الأنماط السلوكية غير المرغوبة كالانحلال الأخلاقى والعنف وانتشار الجريمة بين الشباب، وكذلك انتشار ثقافة الاستهلاك فى المجتمع المصرى، وقد أشارت بعض الدراسات إلى خطورة الثورة التكنولوجية والمعلوماتية على تحقيق الأمن الثقافى اللازم لدى الشباب، ومن هذه الدراسات والبحوث:
دراسة "حواس سلمان محمود 2005م"([84]) التى أشارت إلى خطورة ثورة المعلومات والتكنولوجيا على الذاتية الثقافية للأمم والشعوب، وذلك من خلال الآثار السلبية لهذا التقدم فى انحلال الأخلاق، وهدم البناء الثقافى بقيمه ومعتقداته وحضارته الراسخة فى أعماق التاريخ.
دراسة "أحمد سعيد عبد المجيد 2005م"([85]) التى أشارت إلى مساهمة الرأسمالية فى نشر ثقافة الاستهلاك فى بلدان العالم النامى، وذلك خلال آليات الاتصال والتكنولوجيا الحديثة، وخاصة "التليفون المحمول" أحد السلع التى تعكس ثقافة الاستهلاك فى مصر فى الوقت الحالى، وعمل على نشر قيم ومضامين الثقافة الغربية الغير ملائمة لقيم وحضارة الدول النامية.
فلابد من الاستخدام السليم للتليفون المحمول الذى يعتبر أخطر آليات الاتصال فى العصر الراهن، فلم يعد يهتم الشباب فى الظروف الراهنة إلا بنغمات المحمول ومشاهد الصور والأفلام وغيرها، مما يهدد القيم الأخلاقية والدينية العامة فى المجتمع المصرى حاضراً ومستقبلاً.
دراسة "محمد سيد أحمد 1998م"([86]) التى أكدت أن المعلومات أكثر ارتباطاً بمن يرسلها عنها بمن يتلقاها، ومهما يكن هناك من تفاعل بين المعلومات، ستظل القوة فى يد من يملكون أسرار تكنولوجيا المعلومات وبرامجها وأجهزتها المتطورة، وهذا بالتأكيد سوف يؤثر على تحقيق الأمن الثقافى والحفاظ على الهوية الثقافية لدى الدول النامية.
ومن ثم فإن ثورة المعلومات والتكنولوجيا تمثل تهديداً كبيراً للأمن الثقافى لدى الشباب، فالمعلومات ليست بالفائدة المرجوة منها، ولكن الكثير منها موجه لهدم ثقافات الشعوب وسيادة ثقافة كونية واحدة، لذلك يجب تربية أفراد المجتمع من خلال مؤسساته ووسائطه التربوية النظامية وغير النظامية على القدرة على حسن الانتقاء والاختيار من طوفان المعرفة والمعلومات دن تعصب أو تحيز ثقافى، وبما يتفق مع قيمنا وأخلاقياتنا وحضارتنا التى تمتد بجذورها فى أعماق التاريخ.
4- البث المباشر (القنوات الفضائية):
يعتبر الإعلام من أحدث وسائل الغزو الفكرى والثقافى، وتعتبر الأقمار الصناعية الموجة الثالثة من ثورة التكنولوجيا، حيث أدى ذلك إلى ازدياد القنوات الفضائية فى جميع أنحاء العالم.
فالبث الفضائى المباشر يُعنى: أن يستطيع المواطن العادى التقاط إرسال القمر الصناعى مباشرة عن طريق محطة أرضية صغيرة فى منزله، وباستخدام أجهزة التليفزيون العادية([87]).
وعلى ذلك، فالبث الفضائى المباشر أسلوب من أساليب الانتشار الثقافى، حيث يأتى هذا المظهر الخطير لتفاعل الثقافات الوافدة والمحلية، والذى سيكون له أثره الفاعل بسبب قوة نفاذ هذا البث واحتراقه بشكل مسيطر للثقافة الغربية، فهذا البث له آثاره السلبية على بلادنا المستهدفة لزحف فكرى جديد من تلك الدول التى تمتلك الأقمار الصناعية، بهدف تدمير الذاتية الثقافية المحلية والعربية([88]).
فقد استطاعت الدول الغربية الغنية التى تمتلك المعرفة والتقدم التكنولوجى، أنتبسط سلطانها من خلال المحطات الفضائية المتعددة على الدول النامية، وتفرض نوعاً من الهيمنة الإعلامية على الجميع، بهدف القضاء على الخصوصيات الثقافية، وتحدث الخلل العام فى الأمن الثقافى فى هذه الدول النامية.
ولقد أوضحت العديد من البحوث والدراسات خطورة البث الفضائى المباشر على الأمن الثقافى لدى الشباب، وذلك من خلال آثاره السلبية على المجتمع، ويذكر الباحث من هذه الدراسات ما يلى:
دراسة "سامى الشريف 2005م"([89]) التى أشارت إلى أن القنوات الفضائية العربية ذات الطابع الرسمى افتقدت فى معظمها- آليات السوق وعناصر المنافسة الشرسة فى ميدان الإعلام الدولى الفضائى، حيث جاء إعلامها تقليداً أعمى لقنوات أجنبية بعيدة كل البعد عن ثقافة وتقاليد وعادات وقيم المجتمعات العربية، وأوصت الدراسة بضرورة الحفاظ على الذاتية الثقافية من خلال قنوات فضائية عربية قادرة على الدفاع عن هويتها على الصعيد الكونى فى مختلف المجالات.
دراسة "إبراهيم بن عبد العزيز بن حمد الدعيلج 2004م"([90]) التى أوضحت العديد من التحديات التربوية والتعليمية للبث الفضائى والتى منها:
1- التحديات العقيدية: والتى تتمثل فى إضعاف الإيمان بالله- سبحانه وتعالى-، والعمل على نشر الكثير من العادات الغربية المحرمة التى لا تتفق مع الدين الإسلامى والمسيحى.
2- التحديات الثقافية والعلمية: والتى تتمثل فى إضعاف مستوى التعليم لدى أفراد الأمة العربية، وإضعاف مستوى اللغة العربية من خلال ربط الناس بمفاهيم غربية جديدة، فيساعد ذلك على تعلم اللغات الأجنبية المختلفة.
3- التحديات الأخلاقية: والتى تتمثل فى شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها، وهدم القيم الدينية من خلال نشر الإباحية والاختلاط والسفور كعروض النساء عاريات عن طريق الأفلام وغيرها.
4- التحديات الاجتماعية: ومنها تأخر سن الزواج، وتفشى الطلاق وسيطرة المرأة على الرجل بدعاوى الحرية والمساواة فى الحقوق، وضعف القيام بحقوق الوالدين، وقطع الأرحام، وتفكك الأسر، وإهمال حقوق الجيران.
5- التحديات الاقتصادية ومنها: إثارة الدوافع الاستهلاكية غير الضرورية، والترويج للسلع والمنتجات الأجنبية.
كما أوصت الدراسة الاهتمام بالتربية ومؤسساتها النظامية وغير النظامية فى مواجهة التحديات والآثار السلبية للبث المباشر.
دراسة "سعيد إبراهيم عبد الفتاح طعيمة 2002م"([91]) التى أشارت إلى الأثر السلبى للفضائيات على القيم والأمن الثقافى، من خلال نشر القيم الغربية المادية والاستهلاكية التى لا تتفق مع ظروف المجتمع وقيمه الدينية والاجتماعية والاقتصادية، وأوصت الدراسة بأهمية التربية الدينية فى مقاومة الفساد الأخلاقى القادم إلينا عبر الفضائيات، كما أكدت الدراسة على ضرورة إقامة تكتل ثقافى وإعلامى إقليمى يقوى على مواجهة التكتلات الإعلامية والثقافية الغربية كرد فعل للعولمة.
دراسة "محمد جاد أحمد عبد النعيم 2001م"([92]) التى هدفت إلى التعرف على الموقف المصرى من القنوات الفضائية المباشرة، والتعرف على الآثار السلبية التى تحدثها، وبيان دور المؤسسات التربوية فى التغلب على تلك الآثار، وقد توصلت الدراسة إلى أن: القنوات الفضائية الوافدة لها آثاراً سلبية خطيرة لغوياً وخلقياً وسياسياً واجتماعياً وتعليمياً التى تُؤثر على المشاهد المصرى، كما وضعت الدراسة تصوراً مقترحاً لزيادة فاعلية التربية فى التغلب على الآثار السلبية للقنوات الفضائية الوافدة.
فالبث الفضائى المباشر لا يمثل تهديداً قوياً للأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر فقط، بل يمثل تهديداً واضحاً للأمن القومى المصرى والعربى، ويصبح بذلك مسئولية مصر والدول العربية صعبة فى الحفاظ على هويتها وأمنها الثقافى أمام هذه السيطرة والهيمنة الغربية المدروسة، ولابد من تحمل هذه المسئولية من خلال مؤسسات التربية المختلفة، حتى يتم التغلب بقدر الإمكان على تهديدات الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر والأمة العربية.
5- الإنترنت:
تُعد الإنترنت أهم ملامح العصر الحديث، وأعظم طفرة فى ثورة الاتصالات والمعلومات، وأبرز أدوات الغرب فى قيادة العالم، فقد فرضت نفسها على الساحة العلمية والثقافية والسياسية والاقتصادية، وحولت العالم المترامى الأطراف إلى قرية كونية صغيرة.
وشبكة الإنترنت عبارة عن ارتباط مجموعة حاسبات آلية متواجدة فى مكان ما عن طريق بعض الكروت والدوائر الإلكترونية بما يتيح نوعاً من التشغيل المتكامل للبيانات التى يتطلبها المستخدم فى المؤسسات المختلفة([93]).
وقد تحقق بفعل شبكات الإنترنت إيجابيات وفوائد عديدة وخاصة فى التربية، منها([94]):
1- البريد الإلكترونى مع كل أنحاء العالم.
2- الحصول على الرسائل العلمية والكتب والمعلومات الخاصة التى لا تتوفر فى المكتبات العامة.
3- الاشتراك فى دوريات إلكترونية فى مجال التخصص للباحثين.
4- كتابة الرسائل أو الأبحاث أو المقالات وإرسالها عبر الإنترنت بتكلفة بسيطة.
5- يتيح الإنترنت للمعلمين والطلاب السفر حول العالم، أو جمع معلومات من كل البلاد فى العالم.
6- الحصول على برامج تعليمية متخصصة ومتنوعة.
فالإنترنت لا أحد ينكر دوره فى إثراء ثقافة الفرد وتبادل المعلومات والخبرات مع غيره من المستخدمين للشبكة، وتحقيق التواصل مع بقية الأفراد من جميع أنحاء العالم، وقد أشارت العديد من البحوث والدراسات إلى أهمية الإنترنت وخاصة فى العملية التعليمية، مثل دراسة "الزاميل، Alzamail 2002م"([95]) التى أشارت إلى الاستخدام العلمى للإنترنت كمكتبة أكاديمية يسترشد بها الباحثون فى إعداد البحوث والدراسات فى مختلف المجالات البحثية.
وأشارت دراسة "نادى كمال عزيز 2000م"([96]) إلى أهمية وفوائد الإنترنت فى التعليم، فهو يساعد المتعلم على تكوين اتجاه إيجابى نحو التعليم والمدرسة، بالإضافة إلى الموضوعات الثقافية فى مختلف أوجه الحياة المتعددة.
وأنه بالرغم مما تحققه تلك الشبكات من معرفة ومعلومات فى جميع المجالات فى الحياة، إلا أن هناك الكثير من الآثار السلبية التى تمثل خطورة كبيرة على الذاتية الثقافية، وتحمل فى طياتها تهديداً قوياً للأمن الثقافى لدى الشباب، من خلال الانحلال الأخلاقى، وهدم القيم والمبادئ وشيوع الرذيلة (من أفلام جنس- أو صور- أو قراءات تضلل فكر الشباب- إدمان مخدرات- وغير ذلك)، وقد أشارت العديد من الدراسات والبحوث إلى هذه السلبيات الناتجة عن استخدام الإنترنت وخاصة لدى الشباب، ومن هذه الدراسات ما يلى:
دراسة "معتصم زكى السنوى 2006م"([97]) التى أشارت إلى التقدم السريع فى وسائل الإعلام المتطورة فى عصر الاتصالات الحديثة، ولكن هذا التقدم فى وسائل الإعلام (خاصة الإنترنت) يصاحبه تأثير سلبى وضار بالقيم الثقافية والاجتماعية الإيجابية لمجتمعاتنا، وذلك من خلال لسيادة الثقافية الغربية عن طريق الإنترنت، والتى سوف تؤدى إلى هدم الهوية لدى الشعوب العربية.
دراسة "محمد السيد محمد إسماعيل 2005م"([98]) التى استهدف التعرف على دور التربية تجاه الآثار الثقافية الناجمة عن استخدام الإنترنت لدى الشباب من طلاب الجامعة، وأوضحت نتائج الدراسة أن الإنترنت لها آثاراً سلبية كثيرة من الناحية اللغوية والخلقية والاجتماعية والتعليمية.
دراسة "محمد فتحى عيد 2003م"([99]) والتى أشارت إلى الإنترنت تؤدى إلى المساعدة على الترويج لتعاطى المخدرات لدى الشباب، كما أوضحت الدراسة إلى أن 16.8% من تجار المخدرات استخدموا فيها الإنترنت فى نشر تجارتهم فى الدول العربية.
دراسة "هشام طليب 2000م"([100]) التى تناولت العلاقة بين الإنترنت والمجتمع، ودورها فى التغير الاجتماعى، كما تناولت الدراسة الإنترنت فى التغير اللغوى، وتأثيرها فى الحياة اللغوية، وقد أكدت هذه الدراسة أن الإنترنت لها تأثير سلبى على الحياة اللُغوية، فهى تؤثر على اكتساب الألفاظ اللغوية الغربية التى تحمل تهديداً للغة العربية الفصحى التى هى لسان العرب والوعاء الثقافى والحضارى للأمة العربية.
فهذه الآثار السلبية تؤثر على الأمن الثقافى من خلال القيم والمعايير السائدة فى المجتمع والانحراف الأخلاقى وإدمان الشباب المخدرات بالإضافة إلى تهديد اللغة العربية لغة القرآن الكريم.
فالإنترنت محفوفة بالمخاطر بقدر ما بها من فائدة مرجوة فى مجالات الحياة المتعددة، فمن خلال ما تتضمنه شبكات الإنترنت من كم معرفى ومعلوماتى يمكن أن يمثل تهديداً للأمن الثقافى لكثير من المجتمعات، فبعض الدول الغربية تستطيع أن تشن حروباً معلوماتية على دول أخرى، بغرض تحقيق السيادة الفكرية والثقافية، فلابد أن ننتقى منها ما يخدم فكرنا وثقافتنا المصرية والعربية، وأن ندرك بوعى قائم على المعرفة الحقيقية لكل ما تتضمنه تلك الشبكات من محاولات للقضاء على الذاتية الثقافية لدى الشباب فى مصر والدول العربية.
6- التبعية فى التعليم:
تعتبر التبعية فى التعليم نتيجة التغيرات العالمية المعاصرة، حيث فرضت هذه التغيرات على النظم التعليمية فى الدول النامية العديد من القيم العالمية والمشروعات التعليمية المشتركة التى لا ترتبط بالواقع العربى والاجتماعى، وتعمل على غرس قيم واتجاهات وأفكار وطبعها بالطابع الغربى (ولاسيما فى مصر)، فأدى ذلك إلى تكريس التبعية التربوية والتعليمية وخاصة بالخبرات الأجنبية فى التعليم، التى أدت إلى تحقيق السيطرة الثقافية والتربوية على البلدان النامية([101]).
وتظهر ألوان التبعية فى التعليم المصرى فى صورة الخبرات الأجنبية، فمن خلال المعونات المالية أو الفنية أو الدورات التدريبية أو منح دراسية أو مراكز بحثية لتطوير المناهج الدراسية وغيرها من المجالات التى تظهر فيها التبعية، ويرصد الباحث ألوان التبعية فى التعليم المصرى فى النقاط التالية:
1- التدخل المصرى الأمريكى فى صنع السياسة التعليمية مذ بداية السبعينيات حتى وقتنا الراهن، حيث تزايد هذا التداخل والتأثير تدريجياً البنك الدولى أو وكالة التنمية الأمريكية أو الوكالات الأمريكية العاملة فى مجال التعليم، ويتم هذا التداخل تحت دعوى زيادة كفاءة التعليم العام، ومن أمثلة هذا التدخل([102]):
أ - إنشاء مشروعات مشتركة منها المساهمة فى إنشاء معاهد فنية متوسطة، وإنشاء مدارس تجريبية فنية نظام الخمس سنوات تجارية أو صناعية أو زراعية.
ب- تطوير المركز القومى للبحوث التربوية وإنشاء مركز تطوير المناهج التعليمية بما يواكب المتغيرات العالمية.
ج- منح التدريب للمعلمين فى الدول الأجنبية وتقديم المساعدة لهم وخاصة لمعلمى اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة العالمية الأولى.
د - المشاركة فى وضع الملامح الرئيسية لتحسين نوعية التعليم الأساسى وزيادة كفاءته مثل الاستمرار فى تشييد المبانى المدرسية، والاهتمام بتدريب المعلمين وتقديم المساعدة الفنية لبرامجهم.
2- مساهمة بعض الدول الأجنبية مثل إنجلترا وفرنسا وألمانيا واليابان فى مشروعات تعليمية مثل المساهمة فى إنشاء مدارس صناعية مهنية أو فنية أو تكنولوجية، أو إعطاء قروض ومنح ميسرة للمعلم، بالإضافة إلى المساهمة فى مشروعات تدريب معلمى التعليم الفنى أو معلمى اللغات القومية للبلاد الأجنبية لتطوير معلميها فى مصر أو بالسفر إلى الخارج([103]).
3- فرض الأمم المتحدة من خلال منظمة اليونسكو للتعليم والثقافة قيماً عالمية على النظم التعليمية للدول النامية منذ خلال تعزيز القيم المتعلقة بالثقافة والسلام وحقوق الإنسان والديمقراطية من خلال ندوات ومؤتمرات تعمل على تيسر وتسوغ إذابة الكيان العربى والثقافة العربية فى النظام العالمى الجديد، فأدى تحقيق هذا الهدف إلى الأمور التالية([104]):
أ -الفصام الثقافى حيث تفقد الثقافة فعاليتها لحدوث انقسام بداخلها بين مجموعة المثل والقيم الثقافية المعلنة، والتى من المفترض أن تنظم التفاعل الاجتماعى، وبين مجموعة القواعد والمعايير التى توجه السلوكيات الواقعية فعلاً، فهذا الانقسام أدى إلى ظهور أنماطاً عديدة من الانحرافات التى تعمل فى المدى الطويل على مزيد من الانهيار الثقافى والخلقى داخل المجتمع.
ب- تهميش مفاهيم العروبة والوحدة العربية، حتى لا يتم خلق شعور بالانتماء والولاء للوطن والأمة العربية، كما يؤدى ذلك إلى خلق الثقافات الفرعية داخل المجتمع العربى، وكذلك تكريس الثقافات الفرعية مما يمهد السيطرة لإسرائيل على المنطقة وقيادتها فى ظل مفهوم السلام العالمى.
ج- تحسين صورة إسرائيل، وذلك بإعطاء صورة طيبة عنها بعد معاهدة كامب ديفيد، وأنها كانت عدو الأمس وصديق اليوم (التطبيع مع إسرائيل) فى كافة المجالات.
د - تهميش القضية الفلسطينية فى مناهج التعليم العربية من خلال نقص المعلومات التاريخية، التى تجعل الإنسان العربى غير قادر على الدفاع عن حقه فى الأراضى الفلسطينية.
4- تنامى الاتجاه نحو خصخصة التعليم، وخاصة مع ظهور العولمة الاقتصادية وتبنى معظم الدول النامية لسياسات الاقتصاد الحر والخصخصة بدأت تضعف مسئوليات الدولة نحو تقديم الخدمات التعليمية إلى أفرادها، وبدأت تضعف سلطتها فى التدخل الفعال فى مجال صنع القرار الاقتصادى الاجتماعى، وهذا من شأنه أن يؤدى إلى تخفيض الاعتمادات المالية المخصصة للتعليم، وتدنى مستوى الخدمات التعليمية التى تقدمها الدولة لأفرادها، ولذلك بدأ تنامى الاتجاه نحو خصخصة التعليم([105]).
ويرى الباحث أن الأخذ بهذا الاتجاه نحو خصخصة التعليم له اعتبارات منها أنه يربط بين متطلبات سوق العمل وهذه التخصصات الجديدة القادمة من التعليم الخاص، والتى لا تتوفر فى التعليم الحكومى الذى تنفق عليه الدولة فى عصر يتسم بالاقتصاد الحر المنفتح على العالم.
5- تطبيق نظام الجودة الشاملة فى قطاع التعليم العام والتعليم الجامعى وذلك من خلال أن نظام الجودة الشاملة يعتبر استجابة عصرية للتحولات والتغيرات التى طرأت فى الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمعلوماتية والعلمية والتكنولوجية على المستوى الدولى والإقليمى والمحلى والمتمثلة فى ظواهر العولمة والخصخصة والتجارة الحرة، وسيطرة الشركات الكبرى على الأسواق العالمية والتنافس الاقتصادى الدولى([106]).
فهذه الظاهرة التى انتشرت فى وزارات التربية والتعليم وبعض الجامعات فى البلاد العربية تحتاج إلى وقفة، حيث سعت هذه الوزارات وبعض الجامعات إلى تطبيق هذا النظام دون الأخذ بعين الاعتبار الاختلافات العميقة فى بيئة وإمكانيات وقدرات وزارات التربية والجامعات فى الدول المتقدمة كاليابان وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وبين بيئة وإمكانات وقدرات المتطلبات البشرية والمادية فى وزارات وجامعات الدول العربية ([107]).
فنظام الجودة الشاملة فى مصر والبلدان العربية إذا لم يتم توُفر له الامكانات والقدرات والمتطلبات البشرية والتكنولوجية، حتى يتم الارتقاء بمستوى الأداء والتحسين والتطوير فى مخرجات النظام التعليمى، سوف تصبح هذه الجهود ضائعة ولن تكتب لها النجاح،وبخاصة إذا كان الهدف منها إعلامياً ودعائياً فقط.
ومما سبق يتضح أنَّ التبعية فى التعليم من المهدات الخطيرة المفروضة علينا من الخارج والتى تؤدى بالضرورة إلى إحداث نوع من التبعية الثقافية وإلى إحداث التغيير فى نظم المجتمع وثقافته وعاداته وتقاليده، كما يؤدى إلى انهيار الكثير من القيم الأخلاقية والدينية والبعد عن تأصيل الرؤيا الحضارية المصرية فى كثير من المناهج الدراسية، مما يؤثر ذلك على تحقيق الأمن الثقافى لدى الشباب فى المجتمع المصرى والعربى.
ومن ثمَّ، فقد عرض الباحث لأهم العوامل الخارجية التى تمثل تهديداً واضحاً للأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، والتى تتمثل فى العولمة، والتغريب الثقافى، وثورة المعلومات والتكنولوجيا والبث الفضائى المباشر، والإنترنت والتبعية فى التعليم.
وسوف يعرض الباحث فى الصفحات القادمة لأهم العوامل الداخلية فى المجتمع المصرى التى تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب والتى تتمثل فى التفكك الأسرى، والمشكلة السكانية، والبطالة، والأمية والهجرة الداخلية.
ثانياً: العوامل الداخلية:
من أهم العوامل الداخلية التى تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر هى:
1- التفكك الأسرى:
ظلت الأسرة المصرية عبر مراحل التاريخ تتمتع بقسط وافر من القيم الدينية والاجتماعية، قيم الترابط والتراحم والتعاطف والتآلف، إلى أن هبت عليها رياح التغيير بما تحمله من غزو للعقول والتقاليد والقيم والأعراب، مما زحزح الأسرة عن خصائصها وقيمها، فقدت الأسرة ريادتها للمجتمع، ولم تعد تجمع بين أفرادها قيم الترابط والمودة والتراحم بين أفرادها، ومن هنا ظهرت مشكلة التفكك الأسرى فى المجتمع المصرى.
ويشير مفهوم التفكك الأسرى إلى انهيار الوحدة الأسرية، وتحلل أو تمزق نسيج الأدوار الاجتماعية عندما يخفق فرد أو أكثر من أفرادها فى القيام بالدور المناط به على نحو سليم ومناسب([108]).
وبناءً على ذلك يمكن تحديد الأنماط الرئيسية للتفكك الأسرى على النحو التالى([109]):
1- عدم اكتمال الوحدة الأسرية سواء أكان ذلك بين الزوج والزوجة أو بين الزوج والزوجة والأبناء.
2- الانفصال والطلاق والهجر، حيث يؤدى ذلك إلى تفكك العلاقات العائلية، وتباعد أعضائها بعضهم عن بعض.
3- الحالة التى يعيش فيها أفراد الأسرة سوياً، ولكن مع تناقض الاتصال أو التفاعل فيما بينهما، وخاصة فى حالة إخفاق كل من الزوجين فى دعم الآخر عاطفياً.
4- الغياب غير المتعمد لأحد الزوجين، فالأب الحاضر الغائب يظهر فى صورة رجل الأعمال الغارق فى عمله، أو فى صورة زوج ينشغل بأصدقائه وجلساته معهم، والأم الحاضرة الغائبة سواء بالعمل خارج المنزل أو بالأعمال المنزلية، والتى تهمل الزوج فى كليهما، فكل ذلك يؤدى إلى الخلافات العائلية وينتج عنه التفكك الأسرى.
5- صراع الأدوار، حث التنافس بين الزوج والزوجة لأخذ كل منهما مكان الآخر فى قيادة الأسرة، ويترتب عليه حصول النزعات المتكررة على كل صغيرة وكبيرة فى أمور الحياة الزوجية، مما يمهد الطريق لحدوث التفكك الأسرى.
ويضيف الباحث إلى ما سبق، الوضع الاقتصادى للأسرة، ففى حالة الغنى ينشغل الأغنياء بالمال عن أسرهم، وفى الفقر لا يستطيع الأب توفير احتياجات الأسرة، فكلاهما قد يؤدى إلى الوقوع فى الحرام والانحراف، ويكون الناتج تفكك الأسرة.
وقد أشارت دراسة "إبراهيم على إبراهيم 1989م"([110]) إلى أن التفكك الأسرى له تأثير كبير فى اكتئاب الأطفال والشباب داخل الأسرة، وقد يؤدى إلى الانحراف الخلقى والجريمة فى النهاية. كما أشارت دراسة "واجز ستيفن Wages Steven 2003م"([111]) إلى أن التفكك الأسرى له آثاراً سلبية فى حياة الأبناء حيث يؤدى إلى الفساد الأخلاقى وارتكاب الجرائم فى المجتمع.
كما أشارت دراسة "أحمد حسين الصغير 1998م"([112]) إلى أن التفكك الأسرى من خلال الطلاق أو افتقار الأبناء إلى الرعاية الأسرية وإتباع أساليب خاطئة فى التربية، سوف يؤدى إلى ظاهرة العنف بين طلاب المدارس الثانوية ويجعلهم على طريق الجريمة والانهيار الخلقى.
فالتفكك الأسرى يؤدى إلى زيادة توترات ومشكلات بين أعضاء الأسرة وتحل قيم الفردية والأنانية محل قيم التعاون والتواد والمحبة ويفقد أفراد الأسرة الشعور بالأمن والاستقرار داخل المجتمع، ومن ثمَّ فإنَّ الأسرة التى تعانى من التفكك والصدع بين أفرادها تمثل تهديداً واضحاً لثقافة الأبناء، ولا تتمكن من تحقيق أمن ثقافى لهم فى ظل التيارات الثقافية الوافدة من جميع أنحاء العالم، والتى تعمل على تلبية رغبات أفرادها، فترشدهم إلى السلوك المنحرف والعادات والتقاليد الغريبة التى لا تتفق مع القيم الموجودة فى المجتمع المصرى، وتعمل على هدم الذاتية الثقافية، وإقامة ذاتية خاصة بكل فرد من أفراد الأسر المفككة، قائمة على التخريب والتدمير ونشر الجريمة والرذيلة بين الناس، وكل هذا يعرقل مسيرة التطور والتنمية فى المجتمع المصرى.
فإن حماية الأسرة من التفكك حماية لأمن وثقافة المجتمع من مشكلات عديدة، فلابد من الاهتمام بالتوعية الأسرية من خلال مؤسسات المجتمع المدنى لكى تساعد الأسر على مواجهة متطلبات الحياة.
2- المشكلة السكانية:
يُعد العامل السكانى من أهم وأخطر العوامل المجتمعية المؤثرة فى أمن المجتمع، حيث يرتبط النمو السكانى بزيادة الإعالة وعجز الدولة عن القيام بمتطلبات أفراد المجتمع لمسايرة التغيرات العالمية المعاصرة.
فالمشكلة السكانية تُعرف على أنها: الخلل فى التوازن بين موارد الدولة وحاجات السكان، أو بمعنى آخر بين معدلات التنمية الاقتصادية ومعدلات النمو السكانى، وكلما اتسعت الفجوة بينهما انخفض مستوى المعيشة وتدنى بالنسبة للأسرة والفرد، وبالتالى ينخفض المستوى الاجتماعى إلى مزيد من التخلف وعدم القدرة على الإنتاج، وتبدو هذه الظاهرة فى بلاد العالم الثالث بوجه عام([113]).
ويرتبط النمو السكانى السريع فى مصر بأسباب عديدة منها([114]):
1- إنجاب عدد كبير من الأبناء لمعاونة الأب فى زراعة الأرض وذلك فى الريف المصرى، حيث أن الأبناء "عزوة" حسب تقاليد المجتمع المصرى.
2- الزواج المبكر للفتيات فى المناطق الريفية من المجتمع المصرى.
3- الجهل والأمية وعدم المسئولية تجاه تربية الأبناء وتعليمهم، والفهم الخاطئ لأمور الدين، وعدم وجود إجراءات رادعة من الدولة لكل من يهمل فى رعاية أبنائه.
ومن أهم انعكاسات الزيادة السكانية على الأمن القومى عامة والأمن الثقافى بصفة خاصة على المجتمع المصرى ما يلى([115]):
1- تدهور مستوى المعيشة بمصر تدهوراً شديداً مما أدى إلى ظهور العديد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية على سبيل المثال: البطالة وانتشار الأمية والجهل والمرض والفقر، وكثرة تعاطى المخدرات بين الشباب فى مصر.
2- الأثر السلبى على التعليم والنظام التعليمى، فالزيادة السكانية تعرقل اليوم الدراسى وتجعله على فترات، فضلاً عن تكدس الفصول بالأعداد الضخمة من التلاميذ ونقص الاستيعاب وكثرة التسرب من التعليم، فأدى ذلك إلى انتشار بعض أشكال العنف والتطرف الإرهاب بين الشباب، وتراجع مكانة الثقافة وأهمية التثقيف.
إنَّ العامل الخطير المتمثل فى المشكلة السكانية يمثل أخطر التحديات التى تواجه المجتمع المصرى فى عالم العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات، فالزيادة السكانية تؤثر على ثقافة الشباب، فهى تعرقل تقدمه ولا تفى باحتياجاته ومتطلباته التعليمية والثقافية التى تساير الوضع العالمى الجديد، فيقع فريسة لأى أفكار هدامة ومعتقدات فاسدة تخالف طبيعة وقيم المجتمع المصرى، مما يؤثر ذلك على تحقيق الأمن الثقافى لدى الكثير من الشباب.
3- البطالة:
يشير معجم علم الاجتماع إلى أن المتعطل هو الشخص القادر على العمل ولكنه لا يجده، بالرغم من رغبته فيه وبحثه عنه([116]).
فالبطالة هى عدم توافر العمل لشخص راغب فيه مع قدرته عليه نظراً لحالة سوق العمل، وتحدد البطالة بنسبة المتعطلين بالقياس إلى مجموع الأيدى العاملة([117]).
والبطالة مشكلة من أخطر المشكلات التى يواجهها المجتمع المصرى فى الوقت الحاضر، حيث نتجت هذه المشكلة من الأعداد المتزايدة من (خريجى الجامعات والمعاهد العليا المتوسطة وفوق المتوسطة) والتى لم تجد أمامها فرصة العمل الكافية فى وظائف الحكومة أو القطاع الخاص أو القطاعات الاقتصادية الأخرى.
وقد أشارت كلاً من دراسة "سامية السعيد بغاغو 1992م"([118]) ودراسة "كوثر إبراهيم رزق 1998م"([119]) إلى أن الأسباب الرئيسية للبطالة هى:
1- النمو السكانى المتزايد، والذى يعكس أثره على حجم الداخلين الجدد لسوق العمل سنوياً.
2- التطور التكنولوجى والذى يعد عاملاً أساسياً فى تفاقم مشكلة البطالة، لأن استخدام الآلات المتطورة فى العمل يوفر الكثير من الأيدى العاملة.
3- تزايد الأمية نظراً للتسرب والانقطاع من التعليم العام.
4- الخلل القائم بين سياسات التعليم، واحتياجات التنمية وسوق العمل، وذلك بمعنى أن ينتج التعليم خرجين أكثر من قدرة الاقتصاد على استيعابهم برغم حاجة المجتمع إليهم.
وأوصت كلاً من الدراستين إلى أن مواجهة البطالة بين الشباب من خريجى الجامعات لا يكون إلا بربط حقيقى بين التعليم واحتياجات سوق العمل، الأمر الذى يؤدى إلى التنمية الحقيقية فى مصر.
وقد أدى تزايد مشكلة البطالة بين الشباب فى مصر إلى العيد من الآثار السلبية التى تؤثر على الأمن القومى للمجتمع بصفة عامة وعلى الأمن الثقافى لدى الشباب بصفة خاصة، وذلك من خلال ما يلى([120]):
1- الآثار الاقتصادية والاجتماعية من خلال عدم التساوى فى توزيع الدخل فى معظم البلاد النامية، وهذا يجعل الغنى يزداد غنى والفقير يزداد فقراً، فيؤدى إلى نمو الجريمة والتطرف وأعمال العنف بين فئات المجتمع.
2- الهجرة المتزايدة للشباب الريفى إلى المدن بحثاً عن العمل يكون لها أثراً سلبياً على المدن، حيث يؤدى إلى نقص الخدمات وانتشار الانحلال الأخلاقى وحالات الانحراف الأخرى.
3- زيادة حالات الانحراف فى المدن، واللجوء إلى تعاطى المخدرات والعقاقير بين الشباب الذى يريد أن يتمتع بكل وسائل الحياة الحديثة، والذى يشكل تهديداً دائماً للأمن القومى والاستقرار فى البلاد.
وعلى ذلك فإن زيادة نسبة البطالة فى المجتمع يجعل الشباب يتجهون إلى قضاء أوقات فراغهم فى متابعة أجهزة البث المباشر أو مقاهى الإنترنت وغيرها من مظاهر الغزو الثقافى الموجه إليهم، فيجعل الكثير منهم يتعامل مع ثقافات وأساليب متعددة تتنافى مع طبيعتهم وهويتهم، مما ينعكس أثرها على الأمن الثقافى لديهم، وهذا الأمر الذى يدفع الدولة حالياً على تشجيع الاستثمارات وإنشاء مشروعات إنتاجية يمكن أن توفر العديد من فرص العمل لدى الشباب، مما يعمل على تخفيف حدة المشكلات الناتجة عن البطالة.
4- الأمية:
لم تعد الأمية قضية تربوية فحسب وإنما أصبحت قضية مجتمعية ترتبط بكافة الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، فهى معوق للتقدم المجتمعى، حيث تقف حائلاً بين المجتمع ومسايرة التطورات والتغيرات السريعة والمتلاحقة، فالأمية من أخطر التحديات التى تواجه المجتمع المصرى، وتمثل عقبة فى نهضته ورخائه، وفى إجهاض كل عمليات التطوير والتنمية الشاملة.
والأمية مشكلة اجتماعية مركبة، وهى تتناول المجتمع، كما تتناول الأفراد وتتجاوز قضيتى القراءة والكتابة، بمعنى أن الأمية تعتبر مباشرة عن عملية تخلف شامل عن نبض الحياة المعاصرة وعن اتجاهاتها وعن ضروراتها ومتطلباتها، فالأمية الكبرى هى أمية المجتمع المختلف حضارياً، ويكون استئصال أميته بتطويره وتحديثه وتنميته تنمية شاملة([121]).
وللأمية أنواع متعددة لها مخاطرها التى تؤثر على الأمن الثقافى لدى الشباب وهى كالتالى([122]):
1- الأمية الأبجدية: وتتمثل فى عدم تعلم القراءة والكتابة، فالقدرة على القراءة والكتابة وتحسين نوعية الحياة تؤثر تأثيراً مباشراً فى أمن الأفراد داخل المجتمع.
2- الأمية الوظيفية: وتتمثل فى الأفراد الذين يعانون من أمية وظيفية وهم أفراد غير منتجين فى مجتمعهم، وذلك لعدم انخراطهم فى منظومة سوق العمل لعدم فهمهم الواضح لواجباتهم تجاه هذا العمل.
3- الأمية الحضارية: والتى يكون فيها الفرد غير مساهم فى مجالات التنمية والإنتاج المختلفة، ويصبح معوقاً لهما نظراً لأن امكانياته العلمية والثقافية والنفسية لا تتوافق مع نوعية العمل الذى يمارسه.
4- الأمية الحاسوبية: وهى عدم استخدام الحاسبات بكفاءة عالية، حيث إن ثورة التكنولوجيا والاتصالات تفرض علينا الإلمام بجميع وسائلها وتقنياتها، وذلك للاستفادة منها فى متابعة وتطوير ونشر المعلومات اللازمة للدراسة والتعليم.
ومن ثمَّ، فالأمية فى ضوء التغيرات المعاصرة لا يُعنى بها أمية القراءة والكتابة، وإنما يُعنى بها الأمية الثقافية فى جميع مجالات الحياة.
حيث تتمثل الأمية الثقافية فى غياب الرؤية الشاملة للكون والحياة، وغياب المعرفة بأحوال المجتمع وتاريخه وقضاياه الأساسية، وغياب القدرة على التحليل والنقد، وحل المشكلات التى يعانى منها المجتمع، ونصيب المجتمع المصرى كثير من هذا النوع من الأمية([123]).
فالأمية الثقافية هى التى تنتج من التطور الحضارى والتكنولوجى، وتعقد العلاقات الاجتماعية، بالإضافة إلى تعرض الثقافات المحلية إلى أخطار الغزو الثقافى فيؤدى ذلك إلى العزلة الثقافية لدى أبناء المجتمع، لذلك لابد من رفع وعيهم (محو الأمية) التى تؤدى إلى رفع مستوى وعيهم وإدراكهم بالقدرة الفكرية التى تمكنهم من الحفاظ على القيم الثقافية الأصلية فى المجتمع([124]).
فالأمية لا تقف على حد تعليم القراءة والكتابة فحسب، ولكن لابد من توظيفها لخدمة الفرد والمجتمع من أجل توسيع قاعدة الديمقراطية، فمحو الأمية الثقافية لابد أن يقوم على مساعدة الأفراد من خلال([125]):
1- معرفة حقوقهم وواجباتهم كمواطنين وأفراد فى المجتمع.
2- تعميق الوعى الحضارى بتشرب أصالة الأمة وعقائدها، وتراثها الفكرى مع الإلمام بخصائص الحضارة المعاصرة محلياً وعالميا.
3- تعليم ثقافة المجتمع ونشرها للمحافظة على الذاتية الثقافية، مع المشاركة فى حل مشكلات المجتمع المختلفة.
4- المشاركة الفعالة فى تفهم مشروعات التنمية وتقدير قيمتها.
فتحقيق ذلك يتم من خلال الدور الشعبى الذى تقوم به المنظمات غير الحكومية الأهلية والتطوعية، وأصحاب رؤوس الأموال وقادة الصناعة والإنتاج، والتنظيمات السياسية والنقابات المهنية وغيرها حتى يكون التعليم والتثقيف مستمر مدى الحياة.
إنَّ الأمية من أخطر العوامل التى تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، فالشخص الأمى يسُهل عليه تقبل ما يُفرض عليه من أساليب وثقافات وعادات غربية دون وعى وإدراك لها فى ضوء ثورة التكنولوجيا والاتصالات فى العالم، فمشكلة الأمية من أصعب المشكلات التى تواجه المجتمع المصرى،والتى تعوق تقدمه وازدهاره فى القرن الحادى والعشرين،وهذا الأمر أدى إلى اهتمام المجتمع المصرى فى الوقت الراهن بوضع الخطط التنفيذية للحملة القومية لمحو الأمية وتعليم الكبار، لكى يتم إعداد القوى البشرية المثقفة والمدربة وصولاً بها إلى تحقيق التنمية الشاملة فى مصر.
5- الهجرة الداخلية:
يقصد بالهجرة الداخلية نزوح البشر فرادى أو جماعات، من موطنهم الأصلى فى منطقة إدارية معينة فى أية دولة، إلى مكان معين يتخذون منه موطناً جديداً بالنسبة لهم، فى الدولة نفسها، بقصد الإقامة فى الموطن الجديد إقامة مستديمة، حيث يعتقدون إمكان العيش به بصورة أفضل وأحسن([126]).
فالهجرة الداخلية فى مصر هى انتقال السكان من الريف إلى المدن فى الغالب، بحثاً عن فرص العمل المتنوعة، من أجل رفع مستوى المعيشة، والحصول على كافة الخدمات فى المدن بصورة أيسر من الريف أو المناطق النائية، كما ترجع أسباب الهجرة الداخلية فى مصر إلى([127]):
1- الحصول على عمل منتظم ذى أجر منتظم وعال بالنسبة للأجور السائدة فى الموطن الأصلى، وذلك بالنسبة للأفراد الطامحين فى حياة أفضل ورزق أوسع.
2- الهجرة إلى المدينة سعياً إلى مظاهر الحضارة والتقدم، وانتشار المدارس والمعاهد والجامعات الموجودة فى المدن، كذلك ارتفاع مستوى التعليم، والتقدم والترقى فى المناصب والمشاركة الفعالة فى الحياة الثقافية والاجتماعية.
والهجرة الداخلية يظهر آثارها على الأمن الثقافى فى مصر لأنها تؤدى به إلى التغير فى أنماط السلوك ونمط الحياة، حيث يتعرض المواطن المهاجر إلى التغيير فى القيم والاتجاهات والعادات والتقاليد التى كان يتمسك بها فى موطنه الأصلى، مما يؤثر سلبياً على ذاتيته الثقافية من خلال الأنماط الجديدة الناتجة عن الهجرة الداخلية.
وكما يشير "حسن الساعاتى 2002م"([128]) إلى تلك الآثار للهجرة الداخلية على الأمن فى مصر، حيث أن لها آثاراً سلبية على الأمن بصفة عامة، والأمن الاجتماعى والثقافى بصفة خاصة، فهى تُؤدى إلى انحرافات أمنية كثيرة فى المجتمع من مخالفات وجنح وجنايات وكافة أنواع الجرائم فى المدن، بالإضافة إلى إدمان الشباب للمخدرات، وبعض حوادث الاغتصاب لانتشار ظاهرة العزوبة بين الشباب المهاجرين، وكذلك السرقة والاندماج فى عصابات السطو على المنازل وجرائم العنف الكثيرة، فهذه الآثار السلبية لها تأثيرها على القيم والعادات وعلى ثقافة المجتمع.
ومن ثمَّ، فإن الهجرة الداخلية تهدد الأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر، فهى تؤثر على الذاتية الثقافية فى سلوك وقيم وعادات الشباب المهاجر، والتى تتنافى مع طبيعة المجتمع المصرى، وتؤدى إلى التخلى عن القيم والتقاليد الراسخة فى ثقافة المجتمع، والتغلب على مهددات الهجرة الداخلية للأمن الثقافى لدى الشباب فى مصر من خلال الاهتمام بالريف والمناطق النائية من الناحية العمرانية والحضارية، وإنشاء المدن الجديدة والمصانع فى هذه المناطق، حتى يتم رفع مستوى المعيشة للمواطن البسيط ولا يفكر فى الهجرة إلى المدينة، وبالتالى يحافظ على أمنه الثقافى والاجتماعى حتى يتمكن من المشاركة الفعالة فى تنمية المجتمع المصرى.
6 من الزوار الآن
917330 مشتركو المجلة شكرا