الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > دراسات الطوفان > الحرب على غزة وعولمة المشاعر الطلابية
د. رجاء سليم
باحث في العلوم السياسية
يعني مفهوم العولمة ألا يقتصر ما يحدث على دولة أو حدود جغرافية أو مجموعة من الأشخاص، وإنما جعله على مستوى عالمي، بمعنى نقله من حيز المحدود مكانيًّا إلى آفاق اللامحدود. وفي إطار العولمة شهد العالم تغيرًا نوعيًّا على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، والآن يبرز تغير نوعي جديد على صعيد المشاعر، وذلك بعد العدوان الإسرائيلي الشرس على غزة، وقيامها بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي بحق الفلسطينيين، وسعيها للتغيير الديموجرافي في الأراضي الفلسطينية لصالحها. وكان من أبرز نتائج رد الفعل على هذا العدوان، اندلاع المظاهرات الشعبية في مختلف دول العالم، تنديدًا بهذا العدوان وتضامنًا مع الحق الفلسطيني. غير أنه مؤخرًا انتشرت احتجاجات من قِبل فئة متميزة، هي فئة طلاب الجامعات لدعم الحق الفلسطيني، وقد انطلقت شرارتها في السابع عشر من أبريل 2024، من جامعة كولومبيا، التي تُعتَبر من جامعات النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية. هذا، وتجدر الإشارة إلى حدوث انتفاضة في نفس الجامعة في حقبة الستينيات، طالبت بوقف الحرب على فيتنام، مما ساهم في إيقاف الحرب. وكذلك شهدت هذه الجامعة خروج احتجاجات في عام 1985 ضد النظام العنصري في جنوب إفريقيا، والمطالبة بسحب الاستثمارات من الكيانات التي تتعامل مع هذا النظام، وأسفرت عن مقاطعته.
ولم تلبث أن انتقلت عدوى الاحتجاجات الطلابية من جامعة كولومبيا إلى الكثير من الجامعات الأمريكية، وإلى جامعات في مختلف دول العالم، مثل: فرنسا، وبريطانيا، والمكسيك، وجواتيمالا، وفنزويلا، وكندا، وأستراليا، وسويسرا، والبرتغال، ولبنان، وتونس، وإيران. وكان لاندلاع هذا الحراك الطلابي صدى على نطاق واسع في مختلف دول العالم، حيث أبرز العقل الجمعي العالمي الذي تعاطف مع الفلسطينيين، وبذلك تم إفراز وجه آخر للعولمة، هو عولمة المشاعر تجاه القضية الفلسطينية.
لم تكن الاحتجاجات الطلابية التي اندلعت معنية بالشأن الداخلي في دولهم، ولا تمس المصالح المباشرة للطلاب، وإنما كان العنوان الرئيس لهذه الاحتجاجات هو التعبير عن السخط والغضب إزاء الممارسات الإسرائيلية والتنديد بالعدوان الإسرائيلي على غزة، ونصرة فلسطين المحتلة، وأدت هذه الاحتجاجات إلى شد انتباه العالم إلى ما يعانيه الفلسطينيون من مآسٍ، وأكدت على أن القضية الفلسطينية أضحت شأنًا دوليًّا؛ بسبب ما أحاط بها من تطهير عرقي ودعاوى حقوقية ووطنية، وحرب إبادة، وتعقيدات في سير المفاوضات بين حماس وإسرائيل. واشتملت مطالب المحتجين على: وقف العدوان على غزة، ووقف الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، ووقف الدعم غير المشروط لإسرائيل، وسحب الاستثمارات الإدارية والمالية للجامعات من الكيانات أو الشركات التي تتعامل مع إسرائيل، وقطع العلاقات مع الشركات الإسرائيلية، وقطع العلاقات الأكاديمية مع الجامعات الإسرائيلية، فضلا عن قيام الطلاب برفع الأعلام الفلسطينية ونصب مخيمات داخل الحرم الجامعي.
من المعروف أن درجة الإحساس والرغبة في المشاركة السياسية تزداد بين الطبقات المتعلمة، فالتعليم يطور وينمي مفهوم المسؤولية والثقة بالنفس والشعور بالمكانة. ويمثل الطلاب قطاعًا هامًّا في المجتمع، ويتملكهم شعور بأنهم المعبِّرون عن صوت الجماهير خلال تعبيرهم عن مشاعر الغضب والسخط حيال توجهات الدول التي تكيل بمكيالين. ولا شك أن الحراك الطلابي ليس مؤشرًا على الوعي الجمعي في الأجيال الصاعدة فقط، وإنما يُعد مؤشرًا خطيرًا على تحول المزاج العالمي والرأي العام العالمي، وقد ثبت أن الجامعات عاجزة عن وقفه.
وباستقراء التاريخ، يتبين أن الانتفاضات الطلابية تفجرت في مناطق عديدة من العالم، ولعبت دورًا كبيرًا على مسرح الحياة السياسية الداخلية في دولهم، وإن اختلف محور هذه الانتفاضات طبقًا للموقع. فعلى سبيل المثال، كان الطلاب العنصر المحرك للثورات عام 1848 في ألمانيا والنمسا، وكانوا سببًا في الإطاحة بملوك في روسيا القيصرية، وأُسقطت حكومات في الخمسينيات والستينيات، مثل: حكومة "ماركوس بيريه" في فنزويلا عام 1958، وحكومة "كيشي" في اليابان عام 1960، وحكومة "نجودون ديم" في فيتنام الجنوبية عام 1963، وحكومة "إبراهيم عبود" في السودان عام 1964، وكذلك حكومة "فيكتور اسنتسور" في بوليفيا في نفس العام، وحكومة "سوكارنو" في إندونيسيا عام 1966. كما شهدت الصين عام 1989أكبر مواجهة بين نظام الحكم القائم وبين جماهير طلابية ينتمون لأربعين جامعة.
وقد أثارت هذه المظاهرات ردود فعل كبيرة على المستويين الداخلي والدولي. وفي التسعينيات برز دور الحركات الطلابية في ثلاث دول آسيوية، هي تايلاند وإندونيسيا وماليزيا، مطالبين باستقالة رؤساء وزارات في كل من هذه الدول. كما اندلعت مظاهرات في الحرم الجامعي في طهران في إيران عام 1999، والتي لاقت تأييدًا للطلاب من قِبل الأكاديميين والمعارضة الإيرانية في الخارج، احتجاجًا على استخدام العنف ضدهم. كما تجدر الإشارة إلى إمكانية قيام الطلاب بدور آخر في الحياة السياسية لدولهم، مثلما قام الطلاب اللبنانيون بتحرير بلدة "أرنون" المتاخمة للشريط الحدودي الذي تحتله إسرائيل في جنوب لبنان، ففي 26 فبراير 1999، قام طلاب الجامعة اللبنانية بنزع الأسلاك الشائكة التي وضعتها إسرائيل حول بلدة "أرنون" وفتحوا الطريق الذي يصل البلدة بباقي الجنوب اللبناني، وحظوا بدعم شعبي واسع، وإن كانت إسرائيل قد أعادت احتلالها، إلا أن ذلك كان له معنى رمزيّ.
إن انطلاق شرارة الاحتجاجات الطلابية من الجامعات الأمريكية له دلالته الكبيرة، خاصة أن الولايات المتحدة هي الداعم الرئيس لإسرائيل في حربها على غزة عسكريًّا وماليًّا وسياسيًّا. فقد بدأ الحراك الطلابي في جامعات النخبة في الولايات المتحدة الأمريكية التي تُعد مصنعًا لبناء رأس المال البشري، والتي يتولى خريجوها مراكز قادة المستقبل وصنع القرار في السياسة والاقتصاد والدبلوماسية وكافة مناحي الحياة في الدولة، وسيكونون في وضع يؤهلهم لتقلد مناصب القوة والنفوذ مستقبلًا. ومعظم الطلاب ليس لديهم انتماءات سياسية، وإنما لديهم انتماءات ثقافية وإنسانية، كما أنهم يعبرون عن صوت الشارع الذي هو صوت الحق.
إن هذا الحراك الطلابي الذي انطلق في الولايات المتحدة الأمريكية يعد تطورًا في مفاهيم الأجيال واختلافًا في قراءتهم لمفهوم معاداة السامية الذي حاول الرئيس الأمريكي "جو بايدن" تسليط الضوء عليه وتأكيد دفاعه المستميت عنه، عندما ذكر في خطابه المقتضب في الثاني من مايو2024، أنه لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات، فضلًا عن مساعي مجلس النواب الأمريكي لتوسيع تعريف مصطلح معاداة السامية.
وجدير بالذكر أن هذه الاحتجاجات داخل الجامعات لم يقتصر تأثيرها على الحرم الجامعي فقط، وإنما امتد تأثيرها إلى خارجه، فلم يستسلم طلاب جامعة كولومبيا للإجراءات التي مورست ضدهم من جانب إدارة الجامعة أو من قوات الأمن، وإنما احتشدوا أمام منزل رئيسة الجامعة تنديدًا بموقفها من الطلاب المحتجين داخل الجامعة. كذلك تجمع طلاب جامعة نيويورك في الشوارع المحيطة بها بعد اعتقال عدد من طلابها، ونددوا بإجراءات الشرطة، وأعلنوا تضامنهم مع غزة. أما طلاب جامعة فيرمونت فقد نجحوا في إلغاء خطاب للسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة "ليندا جرينفيلد" في الجامعة، ورحبوا بقرار الجامعة بمنع مشاركة السفيرة في حفل التخرج.
ولم يقتصر الاحتجاج في الجامعات على الطلاب فقط، وإنما شمِل الأساتذة والموظفين في الجامعات، وحظيت هذه الاحتجاجات بتأييد أكبر نقابة للأكاديميين بجامعة كاليفورنيا، الذين أعلنوا أنهم سيصوتون تأييدًا للإضراب. وفيما يتعلق برد فعل بعض الجامعات، فلم تجد سوى القوة لإسكات أصوات الطلاب، فسمحت للشرطة باعتقال الطلاب بزعم معاداة السامية، كذلك قامت الشرطة باستخدام الرصاص المطاطي، مثلما حدث في جامعة فلوريدا، كما ظهرت محاولات للزج بأطراف أخرى لإحداث اشتباكات بين مؤيدين ومعارضين للفلسطينيين، مثلما حدث في جامعة كاليفورنيا.
وفي ضوء ما سبق، يتبين أن الطلاب لم يريدوا أن يكونوا على الجانب الخاطئ من التاريخ كما يفعل السياسيون في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بل يمكن القول إن الاحتجاجات الطلابية تحولت إلى جبهة مساندة للفلسطينيين بجانب الجبهات المساندة الأخرى. وهنا تتبادر للذهن عدة تساؤلات منها: هل الاحتجاجات الطلابية تشكل أزمة للإدارة السياسية؟، وهل يمكن أن تؤسس لعلاقة جديدة بين الطلاب وبين الإدارة السياسية؟ لا شك أن هذا الحراك الطلابي أدى إلى إحداث إرباك للمعنيين باتخاذ القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، في ظل تعاطف قطاعات واسعة مع هذا الحراك، لا سيما أن النخبة السياسية في حاجة إلى تأييد شعبي، أخذًا في الاعتبار أن استمرار الرجوع إلى القاعدة الشعبية لمعرفة رد فعلها إزاء القضايا السياسية الحيوية يعد أمرًا ضروريًّا لضمان نجاح هذه السياسات. فلا ينبغي الاستهانة بالحراك الطلابي، ويجب استثمار هذا الزخم الطلابي حول الحرب في غزة، لأنه ثبت أن حراكهم يلقي بظلاله على السياسيين، مثلما وضح ذلك من استقالات بعض المسؤولين احتجاجًا على سياسة إدارة الرئيس "بايدن".
والتساؤل الآخر الذي يتبادر للذهن؛ هل للاحتجاجات الطلابية تأثير على التصويت في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة؟ خاصة أن الصوت العربي والإفريقي واللاتيني، بالإضافة إلى شريحة من اليسار اليهودي، لا يمكن تجاهل تأثيره الفعال في نتائج هذه الانتخابات. إن هذا ما سوف تكشف عنه نتائج التصويت في انتخابات الرئاسة الأمريكية القادمة.
وختامًا، لقد أثبتت الأحداث أن الحراك الطلابي هو نتاج للتحول الكبير في حالة الوعي الجماهيري بعد انكشاف أكذوبة إسرائيل التي روجتها بعد عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر2024، فقد خسرت إسرائيل معركتها بشأن المظلومية والتاريخ، ولاح أفق صراع في الولايات المتحدة بين جيل انقاد خلف الأكذوبة الإسرائيلية وبين الجيل الجديد الواعي من الشباب، حيث سلّطت هذه الاحتجاجات الضوء على وجود شرخ واسع بين جيلين هما جيل الشباب وجيل الكبار. كما أثبتت أيضًا حدوث تحول دراماتيكي في الرأي العام الأمريكي بعد هذه الانتفاضة الطلابية، مما دفع وزير الاقتصاد الإسرائيلي للقول بأن الرأي العام الأمريكي يمثل تهديدًا وجوديًّا لإسرائيل.
2 من الزوار الآن
912408 مشتركو المجلة شكرا