Categories

الصفحة الأساسية > 7.0 الادب والفنون في المعركة > مواد ثقافية وأدبية > حول اليسار الأدبي الثقافي

16 كانون الثاني (يناير) 2023

حول اليسار الأدبي الثقافي

المحتوى:

• اليسار وتحالف التناقضات 2016.
• استحضار شخصية اليساري في الرواية الخليجية 2016.
• اليسار في السعودية.. ندرة المراجع وغياب التوثيق 2016.
• اليسار من رحم الإمبريالية - الجامعة الأمريكية في بيروت 2016.
• خالد.. ونحن لا نمسك إلا الأسماء 2017.
• الحركات القومية واليسارية في السعودية 2014.
• ناصر السعيد اليساري السعودي في هوليود 2017 .

اليسار وتحالف التناقضات

2016
تحالف التناقضات أو سياسة النكاية يظهران بأشكال عدة، مرة بالتحالف بين جماعات متناقضة في المبادئ بحجة العدو الواحد,ومرة تظهر بالاصطفاف بجانب حليف بسبب استحضار صراعات قديمة عفى عليها الزمن، وهذه التحالفات غالبًا ما تكون بلا جدوى، خاصة إذا كانت لا تُفضي لمصلحة حقيقية في نزاع واضح المعالم,التيارات التي تتحالف لسبب ما مع أطراف متناقضة معها لا تدرك خطورة ما تدعمه وما يترتب عليه، خاصة في الأوضاع التي يمر بها العالم والأنظمة بتحوُّلات كبيرة وجذرية،وتبدّل أطراف الصراع العالمي، وارتفاع حالة الغليان الشعبي والصراع الطائفي في المنطقة.
هذا النوع من التحالفات تمارسه جميع التيارات بلا استثناء, ولكن في هذا المقال أركز على تحالف اليسار مع جماعات متشددة بهدف العدو الواحد، وغالبًا هو الإمبريالية بقيادة أمريكا، أو التحالف مع قيادات قمعية بحجة أن الدول الرجعية وأمريكا تقف ضدها من باب "ليس حبًا في علي ولكن كرهًا في معاوية"، فنجد تيارات وكتل اليسار العربي مسكونة بهاجس كراهية الأنظمة الحاكمة،خصوصًا الأنظمة الملكية،وهذا مايُعمي ويدفع هذه التيارات والكتل إلى البحث الدؤوب عن شيء مشترك بينها وبين أي جماعة أو منظمة أو حزب، تُمارس معارضة أنظمة الحكم،ومنها،وعلى رأسها،جماعات وتنظيمات،وأحزاب الإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي، وقد يكون التحالف مع الإسلام السياسي المعتدل مستساغًا ومقبولًا، ولكن المستهجن هو التحالف مع تيارات يمينيةوأنظمة غارقة في الرجعية و التطرف.
هذا النوع من التحالفات لليسار يحدث في الحاضر،وبالإمكان ملاحظته ولكن سأستحضر موقفًا تاريخيًّا قديمًا لليسار لسهولة قراءة الأحداث وما أفضت إليه, الحدث حصل في أواخر السبعينيات عندما دعم اليسار وتعاطف مع حركة جهيمان، الحركة الغارقة في التشدد والجهل، والتي كانت تحرم التصوير والتلفاز ودخول المدارس,وكان سبب التحالف هو أن هدفها إسقاط حكومات الخليج الرجعية المتحالفة مع الإمبريالية الأمريكية, متناسين، بسبب الحماس، أن هذه الحركة تتعارض جميع مبادئها مع مبادئ اليسار التقدمية، كما أنها تعتبر كل من يخالفها كفارًا، ولو كتب لها النجاح لا سمح الله لكانت أغرقت البلاد في الظلامية وقضت على أعدائها و أولهم اليساريين.
وهذا التأييد وإن لم يصدر مباشرة بخطابات رسمية من التيارات اليسارية ولكنه يتضح كمباركة للحركة في تغطية الصحف اليسارية للحدث، مثل تغطية مجلة الطليعة اليسارية الكويتية التي لم تُدِن الحدث بشكل مباشر بل ركزت على توجيه اللوم للصحف التي تنشر الخبر من جانب واحد، وهو الجانب التي تنشره الحكومة السعودية بدون التقصي عن الخبر.
كما ذكر ناصر الحزيمي المنشق عن جماعة جهيمان في كتاب أصدره عن الحركة بعنوان "أيام مع جهيمان" أن رسائل الحركة قد طبعت في مطبعة الطليعة وهي منبر اليسار العام في الكويت, ويذكر الحزيمي أن الذي تولى مهمة طباعة الرسائل هو الكويتي عبد اللطيف الدرباس، حيث كتب "ذهب الدرباس إلى دار القبس أولًا فطلبوا مبلغًا عاليًا,ثم ذهب بها إلى دار الطليعة ذات التوجه اليساري، وحينما أخبرهم الدرباس بملابسات تأليفها وأن مؤلفها مطارد من قبل الأمن السعودي تحمست الدار وطبعتها بسعر التكلفة، أي أقل من الريال للنسخة..."، و لم يعلق أحد وينفي طباعة رسائل جهيمان في مطبعة الطليعة سوى تعليق واحد لغانم النجار، لم ينكر فيه طباعة المنشورات ولكن نفى علم العاملين في المطبعة بمحتويات المنشورات.
كما أن حزب العمل الاشتراكي في الجزيرة العربية اليساري، وهو الفرع المحلي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في السعودية، ساهم في توزيع رسائل حركة جهيمان ضمن منشوراته السياسية السرية, وكذلك حزب العمل والحزب الشيوعي تحالف مع حركة جهيمان، وعبر عن ذلك في منابره عن طريق مقالات في(المسيرة) و(الجزيرة الحرة),وأعلن المعارض السعودي اليساري المطارد ناصر السعيد من منفاه في دمشق تأييده للحركة، وكان اغتياله بعد هذا التأييد بشهر واحد فقط! هذا ما دعا البعض لتحليل أن إعلانه لتحالفه مع جهيمان أدى إلى اغتياله من قِبل الحكومة السعودية، خاصة أن الملك خالد كان قبل هذا الموقف بأربع سنوات أعلن عن عفو عامعن المعارضين السياسيين في الخارج، وطوال هذه الأربع سنوات لم يتعرض السعيد للأذى.وعندما عبر السعيد عن تأييده لحركة جهيمان، دَعَمه بعض الكُتّاب العرب ومنهم حنّا مقبل، رئيس اتحاد الكتاب والصحافيين العرب.
وعودة لجوانب أخرى لتأييد اليسار لحركة جهيمان، نجد مواقف كثيرة لأدباء وكتاب محسوبين على اليسار، ووجدت كتاباتهم أصداء وترحيبًا من جمهور وقيادات اليسار، أبرزها قصيدة الشاعر مظفر النواب بعنوان "الأساطيل"، التي يلوم فيها جهل بعض اليسار بحركة جهيمان، ويمدح فيها شخص جهيمان، ومنها مقطع "أيحتاج دم بهذا الوضوح إلى معجم طبقي كي يفهمه, أي سقوط يسار هذا, أينكر حتى دمه".
كذلك أهدى الكاتب الفلسطيني الماركسي رشيد أبو شاور كتابه "ثورة في عصر القرود" إلى روح جهيمان،وهذا نص الإهداء كما جاء في الكتاب "إلى جهيمان العتيبي قائد ثورة الكعبة".
كذلك ظهر عدد من الكتاب والمحلّلين اليساريين الذين فسروا ظاهرة جهيمان تفسيرًا طبقيًّا اشتراكيًّا ماركسيًّا،مثل الكاتب اليساري المصري رفعت سيد أحمد في كتابه "رسائل جهيمان العتيبي قائد المقتحمين للحرم"، الذي تطرق في الكتاب إلى إعلاء شأن جهيمان لدرجة وصفه بأنه مفكر إسلامي، وأن رسالته عميقة الفكر قوية الطرح! وبالغ في تقدير عدد أتباع جهيمان.
هذا الاستحضار لموقف اليسار من حادثة تاريخية يأتي في وقت يكرر اليسار بعض هذه التحالفات، رغم إثبات خطورة ما تؤول إليه,واليسار بتاريخه الطويل من التضحيات والصمود قادرعلى اتخاذ مواقف بعيدة عن التحالفات اللحظية الناتجة عن الحماسة، فسياسة عدو عدوي صديقي لا تناسب كل الأوقات ولا كل الأعداء.

استحضار شخصية اليساري في الرواية الخليجية

2016
يتم استحضار الشخصيةالمتأثرة بالأفكار اليسارية والقومية غالبًا في الروايات التي تتطرق لمرحلة الستينيات والسبعينيات، وتمر هذه الروايات بالشخصية اليسارية مرورًا عابرًا دون تعمق،فهو ليس الشخص الرئيس في القصة بل شخصية ثانوية من ضمن حشد من الشخصيات التي تعبر عن أطياف المجتمع،وغالبًا ما يتم استحضاره كشبح من الماضي يرفض الواقع، يعيش على ذاكرة رومانسية غارق في نوستالوجيا ساذجة معتد بماضيه النضالي. ونرى ذلك في روايات مثل رواية عودة الأيام الأولى لإبراهيم الخضير في شخصية (رديني الرديني) المؤيد الكبير للقومية وعلاقته مع ابنته عروبة، في أجواء الرواية التي تسرد أحداث أزمة حرب الخليج الثانية،وانشقاق الصف العربي وينهي شخصية الرديني بوفاته وضياع ابنته عروبة التي كان اختيار اسمها رمزية لضياع أحلام القومية.
وكذلك رواية أميمة الخميس (البحريات) التي تعتبر سردًا تاريخيًّا واجتماعيًّا لتحولات الإنسان الصحراوي، ومن هذه التحولات تعرضت أميمة لظاهرة انتشار حركات التحرر الوطنية والتيارات القومية واليسارية، التي تتأثر بها إحدى شخصيات الرواية، التي صورتها بأنها تتبنى في تخبّط مزيج من الأفكار كمجرد لحاق بموجة منتشرة، فيردد خليطًا من أفكار ماركس وأنغلز وعفلق وعبدا لله القصيمي.
أما بالنسبة للروايات التي جعلت من الشخصية اليسارية شخصية أساسية وتناولتها بعمق أكثر، فهناك ثلاثية تركي الحمد، حيث كان التناول أكثر جرأة ووضوحًا في قصة بطل الرواية خلال مراهقته وشبابه في فترة الستينيات والسبعينيات، حيث تعرّف الشاب على أحزاب متعددة كالناصرية والبعثية والاشتراكية والشيوعية وغيرها،وكيف انخرط في تنظيم سري محظور,وبعد ذلك يعتقل فيبدأ مرحلة مراجعة الأفكار، بعيدًا عن اندفاع وحماس الشباب,ومع أهمية هذه الرواية،لأن كاتبها قريب من الأحزاب القومية في تلك الفترة خاصة حزب البعث,وبجانب مهارة الحمد السردية والبناء الروائي، إلا أن الرواية رغم تعمّقها في نفسية الشاب المتأثر بأفكار اليسار انتهت بشكل إعلان توبة وبروح تطهّر من الماضي وندم على الحماسة، فالحمد كان متطهرًا من الفكر اليساري والقومي من منطلقين، منطلق النقد الذاتي وكذلك من موقف سياسي بعد حرب الخليج الثانية،حيث اعتبر تطهّره من الإيمان بالأفكار القومية واليسارية، هو إعلان الانتماء للوطن الذي اصطدم بالدولة القومية.
وقريب من ثلاثية تركي الحمد في انتشارها وكذلك قيمة كاتبها، رواية غازي القصيبي (شقة الحرية) التي كانت سردًا لقصة شاب يسافر للقاهرة للدراسة في فترة المد القومي، فيتأثر بالشعارات القومية ويتنقل من حزب لحزب حتى تنتهي القصة بهروبه من جحيم وتناقض الأحزاب إلى الوطن.
وبالحديث عن الروايات التي استحضرت فترة المد القومي واليساري بالمملكة، لا يمكن تجاوز خماسية (مدن الملح) لعبدالرحمن المنيف، التي تصنف كأهم الروايات العربية التي وثّقت تاريخ الجزيرة العربية بسرد ملحمي بشخصيات رمزية، حيث تتناول الرواية خاصة جزأها الأول (التيه) أصل وجذور المطالب الشعبية في قصة اكتشاف النفط وبروز حركة العمال السعودية، فكان منيف يتكلم عن مملكة موران،وهو يقصد المملكة العربية السعودية، ويصف قدوم منقبي النفط وكيف تم خداع الأهالي بأنهم قادمون للتنقيب عن الماء، وقاموا بتدمير الواحة الخصبة وطرد الأهالي فيما يشبه الاحتلال، ومن هنا بدأت حركة العمال تقاوم استعمار شركة النفط التي تنهب خيرات البلد.
وأحدث رواية عالجت الفكر القومي واليساري في الخليج، هي رواية خالد البسام (مدرس ظفار) صدرت عام 2010 م, وأراها من أنضج الروايات التي عالجت هذا الموضوع لأن الفكر اليساري وتحولاته هو الخط الرئيس في الرواية فلم تكن المعالجة هنا هامشية، فتم تناول شخصيات مختلفة تعتنق الفكر اليساري ولكل شخصية بعد نفسي مختلف، ولسبب آخر وهو أن كاتبها ممن آمن بالفكر القومي والتحرر من الاستعمار،ولم يكن إيمانه مجرد ترديد شعارات بل شارك بنفسه في ثورة ظفار في بداية السبعينيات، وكانت الثورة حينها تهدف لتغيير نظام الحكم من السلطنة إلى الجمهورية, وكتب عن هذه التجربة في (مدرس ظفار) ولم ينفِ بأنه هو بطل الرواية، فلم يتبرأ البسام من ماضيه،ولم يتحدث عن فترة المد القومي كفترة طيش شباب وعدم نضج,كما سلط الضوء على موضوع مهم وهو الصراع النفسي للشخص المؤمن بأي مبادئ بين مجرد اعتناق الفكر والممارسة والتطبيق على أرض الواقع، فكانت الرواية تسرد قصة مدرس بحريني درس في القاهرة وتأثر بالمد القومي، وشارك في المظاهرات، وكان يقرأ مجلة الطليعة وكتب دار التقدم، ويرتاد المركز الثقافي السوفييتي الذي كان يعرض الأغاني والأفلام الثورية، وكيف تم اختياره من قبل الحزب للذهاب ومشاركة الرفاق في ظفار، ووصف كل مرحلة من رحلته التي بدأت من القاهرة ثم بغداد ودمشق وبيروت، حيث بيروت المدينة الوحيدة التي ممكن أن تنطلق منها بأمان إلى عدن, وفي عدن حيث الانتقال من الأحلام والرومانسية والمثالية التي كان يعرضها الإعلام والواقع، فلم يكن تدريس تلاميذ الثورة وحمل السلاح أسهل مهمة, ففي ظفار كانت امتحانات الشجاعة والرجولة أمامه كل يوم, وتنتهي الرواية بأن هذه الثورة الجميلة التي آمن بها وتخلى عن كل شيء من أجلها، كادت تقضي عليه كما كل ثورة تأكل أبناءها.كانت الرواية تتضمن نقدًا ذاتيًّا للثورة وتناقضاتها الكثيرة، مثل سيطرة القبلية وهيمنتها أحيانًا على مبادئ الثورة وكذلك التفرقة بين الثوار أنفسهم، ولكن كل ذلك دون الإساءة لليسار والثورة ذاتها، إذ يصف ظفار في الرواية (لقد كانت ظفار حلمًا، ثم كابوسًا، وبعد ذلك أسطورة في الذاكرة لا تنسى أبدًا)، كان استعراضه تحليلًا لأسباب فشل الثورة وليس اتهامًا لها,فكانت روايته بمثابة تحية لثورة لم يلتفت إليها كثير من الأدباء وثورة لم يكتب لها النجاح، ليس لعدم عدالة مطالبها بل كانت ثورة صادقة لم تساعدها الظروف.
كتب صبحي موسى عن هذه الثورة "أنها جاءت متأخرة عن موعد ثورات التحرير والمد الشيوعي في المنطقة، خاصة أن مطلع السبعينيات شهد رحلة تحوّل من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي في مصر، ومن ثم رفع النظام المصري يده عن دعم الشيوعية والثورات المؤمنة بأفكارها، في حين راحت روسيا تنسحب من المنطقة، ما جعل ظفار تبقى وحيدة في مواجهة قوى الإمبريالية والغزو الإيراني، كما أن ثورة ظفار نشأت في بدئها للدفاع عن حقوق العُمانيين في الجنوب، وبعد ذلك وسعت رغبتها في التحرير لتشمل الخليج ككل، وهو ما لم تكن مؤهلة لعمله وحدها في ظل مجموعة من الأنظمة المعادية للتحوّل الجمهوري، كما أن صبغتها القبلية أدت إلى تصادم العادات والتقاليد مع الفكر الشيوعي الذي رغبت في التحوّل إليه، مما زاد من صعوبة المهمة وأدى إلى توالي الهزائم والانسحابات".
وبما أننا عرجنا على رواية عن ثورة ظفار، لابد من الإشارة لرواية أقدم للكاتب العماني عبد الله الطائي،وهي رواية(ملائكة الجبل الأخضر)، وهي من أولى الروايات العمانية، صدرت الطبعة الأولى للرواية عام 1965م، لكنها مُنعت، وتم التعتيم عليها ونُسيت إلى أن أعاد إحياءها أبناء الكاتب بإصدار الطبعة الثانية عام 2009م، تحكي تحديدًا عن ثورة العمانيين ضد السلطان سعيد بن تيمور وحلفائه الإنجليز في الخمسينيات، وتصور الروح القومية التي زادت من حماسة الثوار، وعن تضامن العرب مع قضيتهم،وتجلى تجسيد التضامن القومي العربي في شخصية "وداد"العراقية التي ناضلت في بلدها،ثم قامت بالمشاركة في ثورة الجبل الأخضر في عُمان بدافع قومي لتحرير الشعب من الاستعمار وبدافع إنساني كونها ممرضة, ويقول الكاتب عن الرواية:إنه استند في كثير من أحداثها إلى قصص واقعية، وأن أغلب أشخاص القصة هم حقيقيون، وقد غيرت فقط أسماء بعضهم.
عُمان كانت أكثر مناطق الخليج التي برز فيها النضال الثوري المسلح، وتوفرت لها ظروف معينة استطاعت جذب أنظار العالم لها، وألهمت أحداث وشخصيات ثورة ظفار اليسارية حتى الروائيين العرب، فكتب صنع الله إبراهيم رواية (وردة)،نشرت عام 2000 م، وقد بدأ كتابتها بعد زيارة لعُمان عام 1992م، حيث وجد في عمان جوانب التحديث التي كان الثوار يطالبون بها، فكتب الرواية عن شخصية وردة، وهي وإن كانت خيالية، فهي مستوحاة من قصص المناضلات المشاركات بالثورة, ورغم تأكيد صنع الله إبراهيم أنها ليست توثيقية ولكنها رواية تتعرض للأحداث المحلية والإقليمية من خلال يوميات البطلة، فقد اطلع على وثائق وشهادات كثيرة،ذكرها في آخر صفحات الرواية.
في النهاية وعن أفول اليسار واغتراب المؤمنين به، كتب الكاتب السعودي إبراهيم الوافي رواية (الشيوعي الأخير) التي أثارت جدلًا فور صدروها عام 2010م،لأن الشخصية السعودية اليسارية المعروفة بين أوساط المثقفين والشهيرة بهيئتها الغريبة اليسارية وهو صالح المنصور رحمه الله، الذي رحل قبل عامين،هدد برفع دعوى قضائية ضد الوافي،ووصف روايته "بالـلاأخلاقية"،حيث علق كثيرون وليس صالح المنصور فقط، أن شخصية بطل الرواية شبيهه بحياة المنصور وشخصيته كثيرًا،حتى صورة الغلاف تكاد تكون مطابقة لصورة المنصور, ولكن كاتب الرواية (الوافي) نفى في جميع لقاءاته أنه يجسد في الرواية شخصية المنصور، ورحل المنصور قبل أن ينشر روايته (شيوعي الرياض)، التي صرح أنه يعكف على كتابتها للرد على رواية الوافي.
وما بين استعراض شخصيات أقرب لأشباح من الماضي وبين التطهر من ماضي المد القومي واليساري،قلما نجد من ينصف المرحلة ومنتميها حتى في الأدب.

اليسار في السعودية.. ندرة المراجع وغياب التوثيق
2016
ظهرت التوجهات اليسارية والقومية في السعودية، كرد فعل على الأحداث العالمية الكبرى مثل انتصار حركات التحرر الوطنية على الاستعمار، خاصة في الدول العربية والدول القريبة من المنطقة والثورة ضد الملكية في مصر، والثورة ضد شاه إيران، بالإضافة إلى ظهور النفط في المملكة العربية السعودية، مما أدى إلى نشوء الطبقة السعودية العاملة التي تأثرت بالكوادر العربية التي استقدمتها شركات النفط للعمل، وكان بعض هؤلاء العرب يحملون الأفكار السياسية اليسارية، ورغم تأثر المنطقة بهذه الأفكار، إلا أننا نجد القليل من التاريخ والتدوين لتلك الفترة.
تعتبر المراجع المختصة بدراسة التاريخ الاجتماعي في المملكة العربية السعودية نادرة جداً، وأندر ما تكون المراجع المختصة بالحركات السياسية ذات التوجهات اليسارية، والقومية، وذلك لأسباب كثيرة منها تراجع المد اليساري الشيوعي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وساهمت أيضاً الملاحقات الأمنية والاعتقالات والانشقاقات الداخلية المتتالية داخل الأحزاب نفسها في تلاشي أفكار اليسار، وبرز منذ بداية الثمانينيات حتى الآن التيار الإسلامي سواء الشيعي أو السني، ولكل منهما مؤيدوه إقليمياً ودولياً. ومن هنا تحوّل محور العمل السياسي والاهتمام من الفكر اليساري الشيوعي أو القومي أو غيره، إلى الإسلام السياسي.

بالرغم من ازدهار الأحزاب والأفكار اليسارية في الستينيات والسبعينيات إلا أن وثائق هذه المرحلة، والتقارير والمراسلات ومحاضر اجتماعات الأحزاب ونشراتها نتيجة العمل السري الطويل ومصادرة الجهات الأمنية الحكومية لها، وكثير من الوثائق لا تزال لدى الجهات الأمنية، ولكنها ورغم هذه المدة الطويلة لا تعرضها للباحثين والمؤرخين كما في الدول الأخرى.

كما أن اليساريين أنفسهم كانوا يقومون بإتلاف الوثائق والمراسلات خشية الملاحقات الأمنية، وكذلك رحيل كثير من مؤسسي الأحزاب اليسارية والمساهمين فيها دون أن يكتبوا تجاربهم، وحتى المتبقي منهم يمتنع أحياناً عن تقديم الملاحظات أو التعليق أو تصحيح المعلومات حول ما يكتب عن أحداث عاصروها، رغم امتلاكهم المعلومات. البعض أسبابهم معروفة مثل المنفيين من السعودية بسبب انتمائهم لليسار، الذين يتحاشون الكتابة أو الرد على ما يكتب حول تلك الحقبة بسبب وجودهم في بلدان عربية علاقتها جيدة بالمملكة، إذ يخشون التسبب في الحرج للبلاد التي تستضيفهم.

على الرغم من قلة المراجع عن اليسار في السعودية، يمكن تقسيم الكتب والمراجع للمهتم كالتالي، الوثائق الأميركية والبريطانية، خاصة وثائق وكالة المخابرات الأميركية ووثائق وزارة الخارجية البريطانية، لأنها تهتم بالأحداث الداخلية والمد القومي والحركات العمالية في مناطق النفوذ والمصالح الأميركية والبريطانية. الكتب التي تناولت تاريخ المملكة العربية بشكل عام، وتطرقت لتأثر المملكة بالحركات التحررية والقومية في فترة الستينيات والسبعينيات ومن أفضل هذه الكتب، كتاب ألكسي فاسيليف )تاريخ العربية السعودية(.
كتب الباحثين الخليجيين الذين تناولوا تاريخ الحركات اليسارية في الخليج، ومن ضمنها السعودية، مثل كتاب عبد النبي العكري،)التنظيمات اليسارية في الجزيرة والخليج العربي(، ويتميز العكري بأنه أحد المساهمين في العديد من التنظيمات اليسارية أو تربطه علاقات متينة مع قيادات الحركات اليسارية الخليجية. وكذلك إنتاج عبدا لرحمن النعيمي، وهو من الفاعلين في حركة القوميين العرب فرع الخليج، ومهتم بجمع أرشيف ومراسلات التنظيمات اليسارية، سواء التي ساهم فيها أو التنظيمات الأخرى في الخليج العربي. وأيضاً كتاب سيف بن علي)قضايا التحرر والديمقراطية في البحرين والخليج)، وكتب الدكتور فلاح المديريس خاصة كتاب )البعثيون في الخليج والجزيرة العربية( ,ومن الكتب المهمة ، التي تناولت التيارات الفكرية في الخليج العربي وخصصت جزءاً كبيراً ومهماً للحركات القومية واليسارية، كتاب (التيارات الفكرية في الخليج العربي) لمفيد الزيدي بجزأيه.

الكتب التي تحدثت بشكل خاص عن اليسار في المملكة العربية السعودية، ومن أحدثها وأهمها كتاب(الحركة الوطنية السعودية)، لسيد علي العوامي، وهو سيرة ذاتية كتبها أحد رموز الحركة الوطنية. يتميز الكتاب بوجود معلومات تنشر لأول مرة، فما كان ينشر كرؤوس أقلام أو بدون ذكر أسماء جاء كتاب العوامي لينشره بالأسماء والتفاصيل.

ومن الكتاب الذين كتبوا عن مشاركتهم في النضال اليساري، خاصة الشيوعي منه، اسحق الشيخ يعقوب، خاصة سيرته)(إني أشم رائحة مريم(.

أيضا كانت هناك محاولات لتدوين نضالات رموز اليسار، أبرزها ما قام به الصحافي أحمد عدنان في كتابه (السجين 32 أحلام محمد سعيد طيب وهزائمه( ، إذ أجرى حوارا مع الناشط القومي، محمد سعيد طيب، عن تجربته في المعارضة السياسية وسنوات الاعتقال.

أيضاً نجد في كتاب علي الدميني (زمن للسجن.. أزمنة للحرية ( سرداً لنضال اليسار، رغم أن هذا الكتاب يغلب عليه توثيق مسيرة الحركة الدستورية السعودية ووصف تجربة السجن للكاتب، إلا أنه خصص جزءاً كبيراً في بداية الكتاب لسرد بدايات المطالب الوطنية للإصلاح السياسي وحراك اليساريين وتذكر رموز الحركات العمالية وتجربتهم في السجن.

ومن الكتب التي لم تخصص للكتابة عن اليسار، ولكنها تحتوي على معلومات كثيرة عن اليسار، كتب الأستاذ محمد السيف، (الطريقي صخور النفط ورمال السياسة )وكتاب ) ناصر المنقور أشواك السياسة وغربة السفارة)وهي كتب سيرة لوزير النفط عبدالله الطريقي، والآخر عن حياة السياسي والدبلوماسي ناصر المنقور. هاتان الشخصيتان عاصرتا فترة المد اليساري. تأثرتا به وأثّرتا فيه، وميزة كتب السيف أنه لا يتناول السيرة الشخصية وإنجازاتها بمعزل عن محيطها العام والأحداث التاريخية والسياسية، التي عاصرتها. لذلك، نجد كثيراً من سرد وتحليل الأحداث التاريخية المرتبطة باليسار.

لا بد من ذكر بعض الكتاب الأجانب المهتمين بحركات التحرر واليسار في الجزيرة العربية، وكانت كتبهم مصدراً مهمّاً للباحثين والمهتمين بتاريخ اليسار في الخليج، مثل إصدارات الكاتب اليساري البريطاني، فريد هاليدي، خاصة كتاب Arabia without sultan : a political survey of instability in the Arab world وأحدث ترجمة صدرت له هي التي قام بها الدكتور، محمد الرميحي، بعنوان ) الصراع السياسي في شبه الجزيرة العربية(.
ومن المصادر الأولية الأجنبية المهمة، التي رصدت فترة من فترات النشاط السياسي اليساري، والقومي، في المملكة، كتابات المؤرخة الأميركية، فيبي مار، التي كانت تعمل في شركة أرامكو في فترة الخمسينيات والستينيات، فقد كانت فيبي مار تزود أرامكو بتقارير ذات طبيعة رصدية -تحليلية حول الصراع بين القوى التقليدية والتيارات الثورية الشبابية في المنطقة الشرقية.

كذلك لا يمكن أن ننسى إصدارات الكاتب، توبي ماثيسين، خاصة سلسلة مقالات بعنوان(الهجرة، والأقليّات، والشبكات الراديكاليّة: الحركات العماليّة وجماعات المعارَضة في السعودية 1950-1975م( وقد تمت ترجمت جزء منها إلى العربية في موقع) ما العمل.(

ستصدر قريباً ترجمة عربية من دار جسور لأحد أهم الكتب، التي تحدثت عن الحركة العمالية ضد شركة النفط، وهو كتاب "مملكة أميركا"، للمؤلف روبرت فيتاليس.

حاولتُ جمع ما رأيت أنه مَراجع مهمة عن اليسار في السعودية وثقت بموضوعية، بعيدا عن المجاملة من جهة، وبعيداً عن الشيطنة والهجوم من جهة أخرى، وبنسبة جيدة من التدوين التاريخي التحليلي، غير السردي، للأحداث. ويبقى موضوع اليسار في المملكة يعاني من تعتيم ونقص المصادر، لعل المقال يفتح المجال للمهتمين والمعاصرين لتلك الحقبة، للكتابة وإثراء هذا الموضوع.

اليسار من رحم الإمبريالية.. الجامعة الأمريكية في بيروت

2016
بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بذلت الولايات المتحدة كل جهد حتى تنصّب نفسها دولة عظمى وتفرض نفوذها في العالم العربي وذلك عن طريق صنع كيانات برعاية أمريكية ونشر الثقافة الحرة وإطلاق البرامج التنموية لمحاربة الشيوعية، ومن هذه الكيانات التي أوجدتها الحكومة الأمريكية، الجامعة الأمريكية في بيروت التي بدأت باسمالكليةالسوريةالبروتستانتية، أسسها مبشر أمريكي اسمه دانيال بليس عام 1832م، قبل أن تكون الجامعة الأمريكية التي نعرفها اليوم.
المفارقة والغريب هنا أن التيارات القومية واليسارية التي أرادت الحكومة الأمريكية أن تحاربها ازدهرت في الجامعة الأمريكية معقل الإمبرياليةالمدعومة من الولايات المتحدة، فكان للجامعة الفضل بتخريج مجموعة كبيرة من الناشطين في الحركات القومية والمؤثرين في الأحداث ممنلعبوا فيما بعد أدوارًا بارزة في بلدانهم وفيما يخصّ قضاياهم خاصة في فترة الستينيات والسبعينات، حيث موجة التحرر من الاستعمار وانتشار الأفكار اليسارية والقومية، ومن باحات الجامعة وأروقتها، ظهرت نواة أشهر الحركات القومية، فنشأت جماعة "العروة الوثقى" التي شكلت نواة حركة القوميين العرب، وكانت المجلة الصادرة عن العروة الوثقى حينها بمثابة الكِتاب المقدس للقوميين العرب في كل العالم العربي.
ورغم أن جماعة العروة الوثقى كانت تهيمن على خطاب حرم الجامعة إلا أنه نشطتكثير من الجماعات والأحزاب اليسارية، مثل الحزب السوري القومي وحزب البعث والحزب الشيوعي للشباب في الجامعة.
ورغم سياسة الجامعة بعدم زج السياسة في ساحات التعليم ومحاولتها دائمًا كبح أي تحرك أوتفاعل مع الأحداث السياسية، كان الطلاب ينظمون مظاهرات دعمًاللقضية الفلسطينية وتحرر بلاد المغرب العربي، وضد أي شيء إمبريالي منذ عام 1947م, وعَبر الطلاب عن غضبهممن دعم أمريكا لإقامة دولة إسرائيل عام 1948م، بسلسلة من الإضرابات والمظاهرات وإلقاء الخطب في الحرم الجامعي وفعاليات لتقديم مساعدات مالية للطلاب الفلسطينيين والتبرع بالدم، ووصل الأمر بالكثير من الطلبة الاندفاع للالتحاق بجيش فوزي القاوقجي من المتطوعين العرب.
التحدي كان مستمرًا بين الطلبة وإدارة الجامعة، بسبب مشاركة الطلاب في القضايا السياسية للمنطقة، ومع بداية الخمسينيات وثورة الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر في مصر ازداد تفاعل الطلاب وتفاعلوا معها خاصة طلاب العروة الوثقى المتحمسين والداعمين لهذه الثورة. وأيضًا في عام 1954م نظمت العروة الوثقى مظاهرات ضد حلف بغداد(الاتحاد المشترك بين تركيا وإيران وباكستان وبريطانيا)، وعارضه الطلاب لأنه يخدم قضايا الإمبريالية الغربية بدلًا من القضايا العربية، وحينها وقعت إصابات بين المتظاهرين وقررت إدارة الجامعة إيقاف العروة الوثقى بشكل مؤقت،وأوقفت باقي الجماعات بحجة أنها تجاوزت مجال عملها الثقافي الذي أُنشئت من أجله، وبالغت في الانخراط بالعمل السياسي المباشر,وتلاشت المظاهرات عام 1955م بعد أن حظرت إدارة الجامعة الجماعتين الرئيستين اللتين تنظمان المسيرات وهي جماعة مجلس الطلبة والمجتمع العربي وجماعة العروة الوثقى،ولم تكن جهود الجماعات اليسارية مقتصرة على التنظيم الحزبي والمظاهرات بل طالت كل ما يخدم القضايا العربية، فكان للجماعات مطالب بالتوسع في استخدام اللغة العربية واحترام الثقافة العربية وطالبت الإدارة بذلك عدة مرات.
وظل الطلاب والجماعات يصرون على مبدأأن المشاركة السياسية جزء لا يتجزأ من التجربة التعليمية، وأن الجامعة الأمريكية التي تروّج لحقوق الإنسان وحرية التعبير تتناقض مع مبادئها في منع الطلاب من تعبيرهم عن الوضع السياسي, فكانت الجامعة تقف موقف تناقض كونها تقدم نفسها كمشروع بناه الأمريكيون يدّعي الحرية، وتلوم الطلاب على تأثرهم بمحيطهم العربي، وتمنعهم من حريتهم في المشاركة السياسية خاصة أن الطلاب كانوا يرون أن المنطقة لا تمر بظروف عادية.
ورغم التضييق وإيقاف عمل الجماعات داخل الجامعة إلا أن الطلاب يحتجون بشكل متقطع كرد فعل على الأحداث الكبيرة كالتفاعل مع أحداث نكسة عام 1967م,والهجوم الإسرائيلي على مطار بيروت 1969موغيرها.
كثير من المقالات والكتب تناولت موضوع أثر الجامعة الأمريكية في بيروت في الأحداث السياسية في الستينيات والسبعينيات ضمن دور الجامعات في العالم في الحركات الطلابية في الستينيات وتأثيرهم في قضايا التحرر وحقوق الإنسان، وكدراسة حالة نادرة ازدهار اليسار في أروقة جامعة مدعومة من أمريكا، ولكن كان التركيز في هذه الدراسات على الطلاب من بلاد الشام وفلسطين خاصة، بسبب الصراع الفلسطيني الصهيوني المحتدم حينها، وتكتفي الدراسات بعبارة (الطلاب العرب) لبقية الطلبة العرب دون تفاصيل.
هنا نحاول تتبّع الطلبة الخليجيين ممن التحقوا بهذه الجامعة،فمثلًا السعودية بدأت ابتعاث أبنائها للجامعة مبكرًافي الثلاثينيات،وأوقفت البعثاتوطالبت جميع الطلبه بالعودة خوفًا عليهم بعد بداية الحرب العالمية الثانية بداية الأربعينيات، حيث كان لبنان تحت وصاية فرنسا التي دخلت حالة حرب مع ألمانيا توقف الابتعاث لفترة ثم عاد لاحقًا، ولكن الدولة خلال السبعينيات باتت تتعامل بحذر مع الجامعة الأمريكية، ونشرت وثيقة ضمن تسريب (ويكليكس) أن الملك فيصل رفض تقديم دعم مادي للجامعة بحجة أنها بؤرة الشيوعيين المتطرفين، وفي فترة ابتعاث الطلبه للجامعة تأثرالخليجيون بأفكار اليسار وأثّروا في بلدانهم، ولا شك أنأَثَرهم كان كبيرًا بسبب جودة التعليم في الجامعة الأمريكية وأجواء الانفتاح والحريات في الجامعة وقربهم من قوى اليسار العربي واندماجهم في العمل الحزبي المنظم,حيث نرى أنالنواة الأولى لكثير من الأحزاب اليسارية الخليجية تشكلت داخل الجامعة الأمريكية، فمثلًا تشكّل حزب العمل الاشتراكي العربي في الجزيرة العربية من الطلبة الجامعيين السعوديين الدارسين في الجامعة الأمريكية وتأثروا بأطروحات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من حيث الفكر والتنظيم, وكذلك نما الاتجاه القومي عند بعض الطلبة الخليجيين ونقلوها لبلدانهم بسبب الاحتكاك بجماعة العروة الوثقى.
وقد انجذب الطلبة السعوديون إلىأطروحات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين اليسارية وحركة القوميين العرب وغيرها حول مختلف القضايا، كقومية المعركة وترابط النضال الفلسطيني بالنضال العربي، وقد يكون الطلاب الخليجيون من أشد المتأثرين بالشعارات اليسارية والمتحمسين للقضايا العربية والكفاح ضد الصهيونية والإمبريالية الأمريكية الداعمة لها بسبب شعورهم وإدراكهم للدور الذي تلعبه بلادهم وتحالفها مع الإمبريالية.
وكذلك تعدّى تأثر الطلبة وحماسهم للأفكار إلى الانتظام في لجان مناصرة الثورة الفلسطينية والثورة العمانية في الخليج،ومن خلال التفاعل المباشر بين الطلبة السعوديين في منظمة الطلبة العرب والطلاب اليساريين العرب، تبلور التيار اليساري السعودي الذي رعته الحركات اليسارية العربية وتبنته، ويذكر الخطيب في كتابه (الكويت من الإمارة إلى الدولة) أسماء شخصيات سعودية مُؤثّرة زاملتهم في الجامعة مثل عبد العزيز المعمر وعمر السقاف وعبد الرزاق الريس وزياد الشواف،وتحدّث إسحاق الشيخ نجيب في كتابه عن عبد العزيز المعمر وتفوقه،والمتخرج من قسم الرياضيات،ويورد شهادة من شهادات زملائه الطلبة حول تفوقه ونشاطه مثل مراد القوتلي.
وقد يكون أكثر الطلاب السعوديين الذين تحدثوا عن تجربتهم بالجامعة وانتسابهم لجماعة العروة الوثقى مترجم الملك عبدالله بلخير، فقد نشر مجموعة مقالات بهذا الشأن نُشرت في جريدة الشرق الأوسط.
ومن الطلبة الخليجيين الذين تخرجوا من الجامعة الأمريكية، متأثرين بأفكار اليسار وكان لهم دور فاعل في بلدانهم لاحقًا، أحمد الخطيب وهو الآن سياسي كويتي معروف، ومن المشاركين في تأسيس حركة القوميين العرب مع وديع حداد وجورج حبش، وكذلك من البحرين عبد النبي العكري،الباحث والمؤرخ المعروف للحركات اليسارية في الخليج، ومشارك في ثورة ظفار ومن الناشطين في حقوق الإنسان إلى اليوم، وعبدالرحمن النعيمي،أيضًا التحق بحركة القوميين العرب، ونُفي من بلاده وعاد للانخراط وتشكيل عدد من الحركات السياسية، تضم أطياف اليسار التقدمي حتى وفاته عام 2011م،وعلي فخرو وهو من أوائل الطلبة الخليجيينالملتحقين بحزب البعث، وعضو مؤسس في المؤتمر القومي العربي، ولا يزال مؤثرًا في السياسة البحرينية والقضايا القومية، وغيرهم من الأسماء منهم من نعرف ومنهم من انخرط في النضال اليساري ثم اختفى.
هي مرحلة مهمة تنفي خصوصية الشعبالسعودي والخليجي، وأنه كائن متأثر بما حوله ومشارك في الأفكار السامية والنضال متى ما أتيحت له فرصة. سلام لهم، ولعل المقال يفتح أبوابًا للنقاش وتناول الطلاب الخليجيين في الجامعة الأمريكية بشكل أكبر.

خالد.. ونحن لا نمسكإلا الأسماء

2017
تذكرت بيت الشعر الذي استوحى منه إمبرتو إيكو عنوان روايته(اسم الوردة)،وهو (كانت الوردة اسمًا... ونحن لا نمسك إلا الأسماء)، وإن كان لمقصد إيكو من هذا البيت معانٍ دلالية يطيل شرحها فيما بعد،لكن البيت بمعناهالبسيطالذي يشرح طريقةتعاطينامعالأسماء،أحيانًا حتى مع تلكالأسماءالتينؤمنبهاكجزء من التزامنا، وأنا أبحثعن سيرة خالد النزهة نحن لا نملك إلا الاسم,والأسى الحقيقي هنا أن أغلب المُطّلعين على تاريخ الحركة العمالية أو تضحيات الأحزاب اليسارية الشيوعية لا يعرف إلا الاسم "خالد النزهة"، اعتقل عام 1983م،ومات تحت التعذيب، وتنتهي الحكاية، وأُعيد إحياء اسم خالدمرة أخرى عام 2011م، عندما أهدى إسحاق الشيخ يعقوب كتابه (المساءلة) لروح النزهة.
وكسرًا للعادة السردية،فإنه عند الحديث عن أي يساري في الستينيات أو السبعينيات التي تكون بصيغة وقد تأثر فلان بالحركات اليسارية والمشاعر القومية التي اجتاحت المنطقة نتيجة تداعيات دولية, في محاولة لتفسير ما حدث من حراك بأنه مجرد تأثر عاطفي وانجراف بلا وعي، مجرد تيار يواكب موضة جارفة ويردد شعارات روح عصرٍ وأراد ركوب الموجة.
وحتىلاأستمرعلىهذا الخطّ غير المنصف بحقّالنزهة،وذكرهكاسم مختصر مُفرغ مما وراء هذا الاسم من فكر وأعمال،أضعهنا شيئًا عن النزهة وعرضًا لمقالاته لإظهار من أجل ماذا كان يقاتل النزهة؟! ولماذا اعتقل؟!
الاسم هو خالد عبد الكريم النزهة من مواليد حائل، نشأ في مدينة الدمام، تخرّج من جامعة البترول والمعادن بشهادة البكالوريوس في الهندسة الكيميائية عام 1979م, عُرف أثناء فترة الجامعةباهتماماته السياسية والثقافية والأدبية ومساهمته في النشاطات الطلابية، ومن خلال تلك النشاطات بدأ يخفّ لديه الاهتمام الأدبي مقابل ازدياد التوجه السياسي. التحق النزهة باتحاد الشباب الديمقراطي في سنوات دراسته الأخيرة وبعدها أصبح عضوًا في الحزب الشيوعي في السعودية.
بعد التخرج عمل مهندسًا بالمؤسسة العامة للبترول والمعادن "بترومين"،تم اعتقاله بعد عودته من فترة تدريب قضاها في أمريكا، ومات عن عمر 28عامًا فقط تحت التعذيب.
هذا ما خلف الاسم ولكن ما خلف التضييق والاعتقال لم يكنبسببمعارضةتقليديةللسلطة،أو مجرد تأثّر بأفكار ثورية قومية بل كانت تلك الشدّة في القمع ردّة فعل توازي جرأته في انتقاد أداء القطاعات الحكومية،ووعيه بمجال السياسة والاقتصاد الذييظهرفيكتاباتهالمُغيّبة،خاصة المقالات التي نشرها في مجلة نوفمبر، مثل مقال (قضايا اقتصادية-السكان والنشاط الاقتصادي في بلادنا) عام 1982م،يتحدث فيه عن إحصائية صدرت أواخر السبعينيات عنالسكان، ويقدم النزهة من خلال المقال قراءة لمدلولات هذه الأرقام، وأنها رد على التهويل الإعلامي عن النهضة التعليمية، وتبيّن مستوى التعليم المتدني خاصة للمرأة.
لم تغِب ثروة البلاد الكبرى عن كتاباته،فكتب حول النفط عدّة مقالات،أشهرها مقال (الاحتياطي النفطي في السعودية ومستقبل الطلب على الطاقة)،يتحدث فيه عن رعب الدول الإمبريالية من توجه الدول المصدرة للسيطرة على ثرواتها النفطية، وينتقد تناقض الأخبار عن قيمة احتياطي النفط بين تصريحات أحمد زكي يماني وزير النفط وقتها، وتصريحات أرامكو, كما ينتقد دور السعودية السلبي في (أوبك)، وأنها تستخدم النفط استخدامًا سياسيًّا وليس تنمويًّا، فهي تقوم في(الأوبك) بدور غير مبالٍ بإرادة ومصالح الدول المشاركة، ويدلل على ذلك بتصريحات زكي يماني في أحد اجتماعات (أوبك)، عندما قال: "إن السعودية سوف تتصرف بحكم مصالحها وليس بضغط من أعضاء (الأوبك)الآخرين".
وكذلك ينتقد وعود الوزير يماني عام 1980م للغرب، بأن يضع مليون برميل يوميًّا عائما في السوق، ويستطرد النزهة بأن هذا الفائض مكّن الدول الرأسمالية من تكوين مخزون استراتيجي من البترول يكفي استهلاكها لمدى طويل، كما ساهم هذا التصرف بالضغط على الدول المصدّرة الأخرى في عدم رفع سعر بترولها,وأن ممارسة السياسة السعودية النفطية هذه جريمة ليس فقط بحق شعبنا، ولكنها تُعيق أيضًا قدرات ونضال الشعوب في مواجهة الجشع الإمبريالي.
وما يدل على شجاعة النزهة وكتابته عن دراية،أنه انتقد الشركة التي يعمل بها في مقال بعنوان (دور بترومين في تنفيذ السياسة النفطية)،يبدأه بأن بترومين منذ إنشائها، لم تستطع تكوين صناعة نفطية حقيقية, أو بلورة كادر سعودي مؤهل، والأسوأ أنه لا يوجد خطط مستقبلية واضحة بالرغم من التطبيل الإعلامي,وفي هذا المقال ناقش النزهة عدّة نقاط ،منها:مدى جديّة السُلطة في توطين الشركة،وتلاشي تلك الجديّة أمام حقيقة الإفساح للشركات والاحتكارات الأجنبية لنَهْبا لمزيد من ثروات الوطن،حيث عزّز النزهة هذه الفكرة بتسليطه الضوء على شركات صغيرة انبثقت عن شركة بترومين ،يعمل بها بعض الأجانب تحت غطاء خدماتي وتقني،يكثر فيها التلاعب والمشاريع الوهمية ،يتم إنشاؤها بعد أن تتكفّل الدولة بما يقارب ثلاثة أرباع رأسمالها،ليتمّ تقاسم الأرباح فيما بعد مناصفةً مع الشريك الأجنبي.
وكذلك للنزهة مقال ينتقد إحدىكبرى الشركات السعودية (سابك)بعنوان(ملاحظات حول ما يسمى بشركة الصناعات الأساسية (سابك))، يقول فيه:إن المؤسسة أنشئت عام 1974م والهدف منها إنشاء صناعات بتر وكيميائية,ومصانع للحديد والصلب، ولكن الواقعما هو إلا شراكة بين شركات احتكارية أجنبية وبين (سابك)، تُناصففيهاأرباحاستثمارثرواتالبلادمنالصناعاتالأساسية.
وينهي المقال بقوله: (كان الموعد المحدد لإنتاج هذه المصانع هو عام 1980 م ثم أُجّل إلى عام 1982م ثم إلى عام 1984م، فلما هذا التأجيل لتشغيل المصانع وعلى حساب مَن؟!)
آخر مقالاتكتبها النزهة كانت سياسية عن سياسة الخليج بشكل عام، منها مقال (التخلف السياسي في هيكل السلطة السياسي)، ينتقد التركيبة السياسية في دول مجلس التعاون,وأن الفرق أصبحشاسعًا بين تنامي الوعي الشعبي والاتجاه الرسمي الموغل في المحافظة لحماية مصالحه.
ويعطي أمثلة على ذلك بتزوير الانتخابات البرلمانية في الكويت سنة 1967م وحل البرلمان سنة1976 لمدة أربع سنوات،وبعدها عاد البرلمان مرة أخرى سنة1980م "بعد أن أصدرت السلطة الكثير من القوانين التي تستهدف من ورائها حريات الناس والإمارات التي تعيش في ظل دستور مؤقت منذ 1971م، مع أنه وُضع لمدة خمس سنوات فقط، كما أنأكثر القوانين الصادرة في الإمارات أعدت خلال الإجازة الصيفية للمجلس الوطني الاتحادي،كي تتحاشى الحكومة الدخول في إجراءات العرض والتعديل وما يرافقها، وفي السعودية مازالت تتردد التصريحات عن مشاريع نظام المقاطعات ومجلس الشورى ولم يتحقق شيء.
ومقال (السياسية الدفاعية لدول المجلس وارتباطها بالإستراتيجية الأمريكية)،يسرد فيه محاولاتأمريكا لإقامة تحالف عسكري بين جيوش الخليج، حتى تقدم المساعدة لقوة التدخل السريع الأمريكية، وهدر المال الخليجي تحت بنود التطوير العسكري وصفقات السلاح، ويتحدث النزهة بالتحديد عن صفقة الثمانينيات الشهيرة(الأواكس),وأن الإعلام المحلي يضلل الحقيقةحولها، فهو يصوّرها أنها تقوي الجانب العربي في (مواجهته) مع الكيان الصهيوني،وأنها أسلحة ستقاد بعناصر سعودية، ولكن المصادر الرسمية الأمريكية تقول العكس، فبحجة عدم وجود كادر سعودي مهيأ ستدار من الجانب الأمريكي على مدى سنوات، وحول ما قيل عن أن الأواكس قد تتمكن من التجسس على المجال الحيوي الإسرائيلي، صرح وزير الخارجية الأمريكي "هيج" أنه (ممكن أن تستخدم الولايات المتحدة الطائرات لصالح المخابرات الإسرائيلية).
ويعلق النزهة كما يكتب دائمًا بأن هذه التبعية الاقتصادية للغرب والارتباط بالإستراتيجية العسكرية الأمريكية، يجعل مجلس التعاون الخليجي أداة لتكريس التبعية للعالم الرأسمالي، وهو بذلك يصطدم مع طموحات شعوب المنطقة بالوحدة والاستقلال والتقدم.
ما سبق كان محاولة تقديم ما خلف اسم خالد النزهة رحمه الله، وهذا لا يغنيعنالبحثحولهذاالرجلالذي كتب واعتقل في زمن وهو يعلم أنه لا إعلام ولا منظمات وربما لا أحد سيعلم أنه اعتقل. النزهة اسم سابق لأوانه،عزّزت مصداقيته الأحداث التي شهدتها منطقة الخليج.

الحركات القومية واليسارية في السعودية

2014
المتابع لكتابة تاريخ المملكة يلاحظ غياب الرواية الشعبية، واحتكار النظام رواية واحدة، ومن هذا التاريخ المغيّب مسيرةالحركات القومية واليسارية في المملكة، وقد وصل الأمر إلى تشويهها, وإلى الآن تظل محاولات تسجيل أحداث الفترة التي نشطت فيها الحركة القومية واليسارية في إطار جهودٍ فردية وغير كافية، وذلك بسبب العمل السري الطويل لهذه الحركات والملاحقات الأمنية الشديدة التي أجبرت منتسبي تلك الحركات على حرق كثير من الوثائق والبيانات، وكذلك رحيل رواد تلك الحركات دون تدوين ما حدث.
قد يستغرب البعض إعادة إحياء الحديث عن الحركات القومية واليسارية التي سادت في الستينيات والسبعينيات، ويتعامل معها كموجات فكرية سادت ثم بادت، وأنه لا فائدة من إعادة تدوينها, والرد على هذا التعليق أن هذه الحركات هي جزء من تاريخ المنطقة يجب أن يُروى من وجهة النظر الأخرى، وجزء من تاريخ المعارضة ومحاولات خلق مجتمع مدني موازٍ للسلطة. رصد هذا التاريخ ضرورة لإنصاف من غُيّب عن الذاكرة من رموز تلك المرحلة، وتصويب ما وقعوا فيه من خطأ، أيضًا ما جرى وقتها دليل على أن المنطقة ليست ذات خصوصية أو طبيعة مختلفة عن المحيط الإقليمي والدولي، وهي جزء من الأمة العربية والعالم، يؤثر ويتأثر بالمتغيرات الإقليمية والدولية.
بداية ظهور التوجهات اليسارية والقومية في الجزيرة العربية كان ارتدادًا لأحداث عالمية كبرى, فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بانتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية، وظهور دول المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، وقيام النظام الاشتراكي في كوبا، والانتصارات المتلاحقة لحركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وانتصار ثورة يوليو 1952 التي قضت على الحكم الملكي في مصر, والانتصارات الكبيرة في إيران التي أبعدت الشاه بوصول محمد مصدق للسلطة، وما أعقبها من تأميم النفط الإيراني، كل ذلك كان له تأثير على العمال والطبقة المثقفة، وتسبب في رواج الأفكار اليسارية.
وصادف تلك الأحداث الكبرى اكتشاف النفط في الجزيرة العربية، وكانت شركات النفط تستقدم الكوادر العربية، وكانت البلدان العربية تموج بحركات التحرر من الاستعمار، فكان الأساتذة العرب يحملون الأفكار والنظريات السياسية، كالشيوعية والاشتراكية والقومية، وكان كثير من الطلاب الملتحقين بمدارس أرامكو في سن صغيرة، فكانوا بيئة مناسبة لبذر الأفكار, وكذلك كان لعودة الطلبة السعوديين الدارسين بالخارج متأثرين بالأفكار والإيديولوجيات الحزبية إسهامها، واستطاع بعض الأساتذة حينها أن يستورد صحيفة الحزب الشيوعي اللبناني (الصرخة) و(النداء) وكانت توزع بصورة سرية، ولَمّا رأى بعض التجار إقبال الشباب على الإصدارات العربية أخذوا يوفرون كتبًا مثل: رأس المال لكارل ماركس وبيان الحزب الشيوعي وسلسلة كتب (هذي هي)، وهي سلسلة صدرت أوائل الخمسينيات تهدف إلى التعريف بالأفكار مثل الشيوعية والاشتراكية والديمقراطية، وكانت الدولة في تلك الفترة لا تمارس رقابة شديدة على المطبوعات.
كان لبعض الأحداث في الدول المجاورة دور في زيادة انتشار الحس القومي في الجزيرة العربية مثل ما حدث عام 1956م، عندما وجهت السلطات البريطانية ضربة قاضية لحركة المعارضة في البحرين، وترتب على ذلك هروب مئات من كوادر هيئة الاتحاد الوطني اليسارية إلى المنطقة الشرقية، وأسهموا في التشكيلات الأولى للمعارضة.
الحديث بالتفصيل عنالتيارات القومية واليسارية في المملكة العربية السعودية غير سهل، ليس لقلة المصادر فقط ولكن لتداخل كثير من التيارات في بعضها، فاليسار كلمة عريضة يدخل فيهاحركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي والحزب الشيوعي.
والمتتبع للحركات اليسارية في السعودية يجد صعوبة تصنيفها، لأنها تيارات تتفق في الإطار العام، فهي قومية يسارية تؤمن بمبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية ومناهضة الاستعمار ومباركة الوحدة العربية (وقد يحصل اختلاف هنا بين يساريين قوميين يؤمنون بالوحدة العربية ويساريين أمميين لا يعترفون بحدود الأمة العربية)، ولكن يختلفون في تفاصيل معينة، وقد ينتسب للتنظيم الواحد أشخاص مختلفون، فمنهم ذو توجه شيوعي وآخر ناصري، لكنهم متفقون على أهداف عامة، كذلك بسبب المطاردات الأمنية وتأثير صراعات الأحزاب العربية.إن هذه المنظمات كثيرًا ما كانت تُحلّ، ويحدث اندماج لحركتين أو تنظيمين، فمثلًا أحداث التصفية التي حدثت للقوميين على يد الحزب الشيوعي في العراق أثناء حكم عبدالكريم قاسم عام 1959م، أدت لنشوب الخلاف بين المنتمين للحزبين، وقاد ذلك إلى الوشاية ببعضهم انتقامًا، وكان الانقسام أوضح في الكويت، حيث حصل تبادل الهتافات المضادة بين الشيوعيين والقوميين في مؤتمر الأدباء العرب،وبرغم صعوبة التمايز بين هذه الحركات كما ذكرنا، من الممكن الحديث عنها حسب التقسيم الآتي: الحركة القومية، والبعث، والحزب الشيوعي.

الحركة القومية:

سأبدأبالحركة القومية الناصرية كونها الأكثر بروزًا، وسبب ظهورها ما ذكرناه في البداية وهو ازدهار اليسار بشكل عام، وفي الحالة القومية يمكن أن نسرد عوامل سياسية مرت بها المنطقة أدت للترويج للقومية، حيث شهدت المملكة مرحلة تقارب بين السلطات السعودية ومصر بين عامي 1953 و1956م، وذلك بسبب اتخاذ البلدين موقفًا موحدًا تجاه عدد من القضايا،وتحالفهم ضد الهاشميين في العراق، وضد ميثاق (حلف) بغداد الذي أعلن عام 1955م، وتم الاتفاق بين عبدالناصر والملك سعود حينها على التعاون والتنسيق بين البلدين في مجالات السياسة الخارجية والدفاع ورفض جميع مشاريع الأحلاف الغربية.
وكانت علاقة السعودية ببريطانيا في ذلك الوقت قد توترت بسبب حلف بغداد مع أعدائهم الهاشميين، وهذا الخلاف حول واحة البريمي، هيأ الجو لتقبل النخبة أفكار عبد الناصر بشكل أكبر، وتُرجم هذا التقارب بدعم السعودية لمصر إبان العدوان الثلاثي بعشرة ملايين جنيه مصري لتخفيف الضائقة المالية، ولكن القوى العالمية لم تسمح لهذا التقارب أن يدوم، وبدأت مرحلة التوتر، فالولايات المتحدةتخاف من اقتراب السعودية من الكتلة الشرقية التي تنحاز لها سياسة عبدالناصر، كما أن أمريكا لا تستطيع محاربة القومية إلا من خلال السعودية بسبب المكانة الدينية، لذلك أخذت أمريكا تعمل على إبعاد السعودية عن مصر، فكانت هناك أخبار تصل باستمرار للسعودية، بأن هناك خططًا انقلابية تهدد عرش العائلة الحاكمة يخطط لها عبدالناصر، فبدأ الملك سعود يقلق من عبدالناصر خاصة بعد عدة تصرفات، منها:استخدام الإذاعة المصرية عبارة ”البترول العربي”, ومع ضغوط الغرب على المملكة حول الخطر الشيوعي وأنه المهدد الأزلي لحكمهم، حدث التباعد المصري السعودي.
لكن شهدت المملكةفترات عادت فيها القومية وانتعشت، مثل الصراع الذي حدث بين الملك سعود والملك فيصل على الحكم، الذي جعل الملك سعود يشكل حكومة جديدة أغلبها من الشباب المثقف ذي النزعة القومية العربية، وحدثت حينها كثير من الإصلاحات، لكنها ما لبثت أن حوربت من قبل التيار المحافظ من العائلة ورجال الدين، ونجح الضغط على الملك سعود باستبعاد الشباب القوميين وإقناعه بأنهم خطر على العرش, وبعد أن أُجبر الملك سعود على التخلي عن الحكم، عزل الملك فيصل الوزراء ذوي النزعة القومية وبعضهم بقي، ولكن في وزارات خدمية غير سياسية كوزير النفط الطريقي ووزير الخارجية عبدالله السويل، استبدلهم بوزراء ملكيين، وتم تهميش المستشارين العرب الذين قدّموا خدمات عظيمة للدولة منذ نشأتها نظرًا لنزعتهم القومية وذلك بإبعادهم كسفراء.
وكانت مطالب المنتمين للحركات القومية حينها ليست مجرد شعارات بل ترجمت على الواقعبمظاهرات ومسيرات في إطار المجموعات العمالية وبالمشاركة مع مجموعة من اليساريين، ونجحت بعض مطالبهم، مثل إضراب عام 1945 م في شركة أرامكو الذي أدى إلى تقليل ساعات العمل ومنح عطلة أسبوعية، وكذلك إضرابات عام 1949م، بعد ذلك عرف العمال أن سياسة المطالب الفردية لا تجدي ولابد من عمل منظم وتوحيد الجهود، فتشكّلت اللجنة العمالية عام 1953م, وكان أول تحرك للعمال، حيث انتخب العمال لجنة تكون مهمتها الاتصال بالشركة والحكومة للمطالبة بتحسين أوضاع العمال, وكان أبرز مؤسسيها ناصر السعيد، ومن أعضاء اللجنة عبد العزيز أبو اسنيد وصالح الزيد وعبد الله الغانم وعبد الرحمن البهيجان وعبد العزيز الصفيان وإبراهيم الفرج وعمر وزنة، وحصلت مفاوضات فعلًا بين لجنة العمال واللجنة التي كونتها الحكومة وسارت المفاوضات بشكل إيجابي، لكن أرامكو لم يعجبها الحال فعملت على الدس بين الحكومة والعمال، وحرضت الحكومة على العمال، فادعت أن مطالبهم الحقوقية غطاء لشيء أكبر، وأن حركتهم قد تكبر إلى قضايا سياسية، وأخذتأرامكو تستفز العمال ففصلت أحد العمال وهو البهيجان، فهدد العمال بإضراب وأعمال انتقامية إن لم يعد زميلهم للعمل، فنقل الكلام للحكومة على أنه تخطيط تخريبي، فتم اعتقال أعضاء لجنة العمال، وعلى خلفية ذلك حدث الإضراب الكبير لمدة أسبوعين، حتى خرج المعتقلون ولكنهم لم يعودوا إلى عملهم، وعلى الرغم من قمعالحكومة للمشاركين في الإضرابإلاأنه تشكلت لجنة للنظر في مطالبهم، وتم تحسين بعض الأوضاع ولم تذهب تضحيتهم سدى، وتصرّف الحكومة حيال هذه المطالب هو تصرّف معروف لدى السياسة السعودية، يسمى الوصاية الأبوية، حيث تقوم بتحسين الأوضاع من جانب وممارسة العنف من جانب آخر.
بعد حل اللجنة العمالية وتشتيت أعضائها، لم يرضخ العمال ويصمتوا على موقف الحكومة السلبي من أعضاء اللجنة، فتشكلت جبهة الإصلاح الوطني عام 1954م، وكانت أهدافها التحرر من الإمبريالية والتسلط الاقتصادي لشركة أرامكو، وحرية تأسيس الأحزاب والنقابات وتوفير الأسمدة والآلات الزراعية للفلاحين بأسعار مخفضة، وإلغاء الرق، ووزعت منشورات في مناطق المملكة، وكان لها اتصال بحركة القوميين العرب. أيضًا من العوامل التي ساهمت في المد الناصري البعثة المصرية العسكرية التي تم استقدامها لتدريب الجيش السعودي، حيث ساعدت على نشر الفكر الناصري ووضعت خطة عام 1955م، لإعداد ثورة على غرار ثورة ضباط مصر عام 1952م، ولكن التنظيم ظل محدودًا بسبب شدة السلطة، غير أنه في نفس العام قام الملازم الشمراني بأبرز عمل عسكري لإسقاط الدولة على طريقة الضباط الأحرار،وكان الشمراني ممن شهد حرب 1948م وتأثر بعبدالناصر، وألقي القبض عليه وستة من زملائه، وزاد التشديد مرة أخرى على كل متعاطف مع الحركات القومية والناصرية.
فيعام 1956م حدث تحرك آخر للعمال، وكان الأبرز هذه المرة، فهذهالمرة غضب العمال بسبب إعلان السعودية اعتزامها تجديد اتفاقية قاعدة الظهران، وبدأت حملة احتجاج واسعة ولم يكن احتجاجًا على ظروف العمل بل احتجاجًا سياسيًا ومطالبةً بإجلاء العسكريين الأمريكيين من المملكة، وقام العمال والطبقة المثقفة بكتابة برقية للملك سعود يطالبونه بمنع دخول الفرقة، وفي تلك الفترةأقامت أرامكو حفلًا للملك سعود، فتظاهر العمال وهم ويهتفون "مظلومون مظلومون"، وحملوا اللافتات لأول مرة في المملكة وكتب عليها ”نريد نقابة” و”يسقط الاستعمار الأمريكي”، وكانت أغلب هتافات المتظاهرين تنم عن تأييد لسياسة جمال عبدالناصر، مثل “جيش عربي موحد” لذلك كان قمع الحكومة هذه المرة للعمال بشكل أكبر، فهرب بعض المطلوبين مثل ناصر السعيد، وتم إصدار مرسوم يمنع التظاهروالإضراب, وبدأت حملة تصفيةلكل من شارك في الاحتجاجات خاصة أعضاء الجبهة, وتم اعتقال عدد كبير من أعضائها وسافر بعضهم قبل اعتقاله. عملت الجبهة بعد عام1957م، على أساسأنها ناصرية في إطار تبنيها الاشتراكية، وتحالفت مع جبهة التحرير العربية عام 1962م، ثم مع الجبهة القومية في اليمن الجنوبي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم تحالفت مع الجناح العسكري لحركة القوميين العرب، وقام عدد من أعضاء الجبهة عام 1970م بتشكيل نواة الحزب الشيوعي السعودي،الذي سنتحدث عنه بالتفصيل لاحقًا.
في عام 1962م حصل حدثان مهمان في مسار الحركة القومية واليسارية، وهما انشقاق الأمير طلال ومطالبته بالدستور,وقيام الثورة اليمنية، فبدأ الصراع الحقيقي بين عبدالناصر المؤيد للثورة اليمنية والمملكة المؤيدة للنظام السابق, ورغم موقف المملكة الرسمي إلا أنه كان هناك داخل مجلس الوزراء السعودي معارضة لموقف المملكة المؤيد للملكيين اليمنيين وقريب من موقف مصر القومية، وهم من خمسة وزراء من خارج الأسرة المالكة، وقد كتبوا مذكرة اعتراض،وكان أبرز حدث أربك الحكومة السعودية في تلك الفترة هو هروب الطيارين السعوديين إلى مصر بطائرات تحمل شحنة من الأسلحة لقمع الثورة اليمنية،والطيارون هم: رشاد ششة وأحمد حسين ومحمد ازميري ومحمد عبد الوهاب ومحمد الزهراني وأحمد موسى عواد وعبد اللطيف الغنوري، وبسبب هذه الأحداث المتلاحقة حصلت المضايقات والاعتقالات لكل من يُشَك بانتمائه لتيارات قومية ويسارية.
وعودة لانشقاق الأمير طلال بن عبد العزيز، فقد انضم له عدد من الأمراء، وهم: الأمير فواز وسعد وبدر وعبد المحسنآل سعود،وأطلق عليهم الأمراء الأحرار، وانضم لهم الطيارون المنشقون من سلاح الجو وكوّنوا ”جبهة تحرير شبه الجزيرة العربية”,وكان أيضًا من بين أعضاء الجبهة سعد الخلف ومحمد آل إبراهيم، ولكن الجبهة لم تستمر أكثر من سنة ونصف السنة، بسبب عدم التوافق الفكري بين أعضائها، وبسبب اختلاف الأمراء الأحرار مع السلطات المصرية، بعد أن وجهت نداءات من إذاعة صنعاء لتصفية عائلة آل سعود، وكذلك محاولة الأسرة المالكة مصالحة الأمراءالأحرار وإعادتهم للبلاد، فانسحبوا من الجبهة عام 1963م، فتحولت الجبهةللعمل السري وتشتت أعضاؤها وانتقل أغلبهمللعراق، وحصلوا على دعم حزب البعث العربي الاشتراكي، وانتقلوا بعد ذلك للبنان وبدأ نشاطهم يقلّ حتى انتهى بعد ذلك.
لم تتوقف الحركات القومية عن الظهور في الستينيات، فتأسس اتحاد شعب الجزيرة العربية عام 1966م بزعامة ناصر السعيد، وكان اتجاه الاتحاد قوميًّا ناصريًّا، وقد كان السعيد أرسل للملك سعود عام 1953م أثناء زيارته لحائل، مطالب منها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتحديد نفوذ أسرة آل الشيخ، والاعتراف بحرية المذهب الشيعي، ووقف نشاط مركز الدعاية لشركة أرامكو، ولم يتم الرد على مطالبه، وقد أعاد إرسال المطالب للملك عام 1958م ولم يستجب لمطالبه أيضًا، وتمت مطاردته فقضى 25 عامًا من عمره هاربًا خارج البلاد، يتنقل بين البلادالعربية، واستمر يهاجم الدولة السعودية عبر المنشورات والبرامج الإذاعية، وبدأ المعارضة المسلحة الفعلية عام 1967م من خلال تفجير منشآت ومواقع خط أنابيب التابلاين، ومقر قيادة القوات الأمريكية في فندق زهرة الشرق بالرياض، ومبنى الأمن العام بالشرقية، وقصرين ملكيين، وحينها تم القبض على 7 يمنيين ادعت السلطات أنهم قاموا بالتفجيرات وأعدمتهم علنًا، وقيل أنهم مجموعة يريدون أن يحيدوا بنا عن الإسلام، ويريدوننا أن نتبع لينين بدلًا من محمد عليه الصلاة والسلام.
وللسعيد أيضًا مساهمات في تأسيس تنظيمات أخرى نهاية الستينيات والسبعينيات، منها رابطة أبناء الجزيرة العربية في الخارج، والاتحاد العالمي لنقابات العمال العرب، ولجنة الدفاع عن المعتقلين السياسيين، ولكنها كانت تنظيمات محدودة.
عام 1969م اندمجت بعض القوى مثل الجبهة الديمقراطية الشعبية في الجزيرة وغيرها في منظمة الحزب الديمقراطي الشعبي، وكانت لها مواقف تضامنية مع الثورة الفلسطينية، ومن أبرز مناضلي الحزب رخا الدليمي، الذي قاد قتالًا مع قوات الثورة الفلسطينية في الجولان، ووقع في أسر الصهاينة.
تعرّض بعدها الحزب الديمقراطي لانشقاقات حادة، ثم انحسر نشاطه وعادت كوادره للسعودية بموجب العفو الملكي الذي صدر بعد اغتيال الملك فيصل وتولي الملك خالد الحكم، وبقي في المنفى الأمين العام للحزب إسحاق الشيخ، واسمه الحركي عبدالله محمد.
بعد النكسة عام 1967م شهدت الأحزاب القومية تغيّرات فكرية جذرية، وانفجرت منظمات جديدة معظمها تميل نحو الفكر الماركسي اللينيني, فأعلنت حركة القوميين العرب وأقسام من حزب البعث العربي الاشتراكي عن تصفية تنظيماتها والقطيعة مع تاريخها ومواقفها الفكرية، وتم إنشاء منظمات قُطرية ماركسية لينينية، هذا كله ألقى بظلاله على التنظيمات التابعة في الجزيرة العربية.
يمكننا القول:إن نكسة 1967م لم تكن نكسة لعبد الناصر فقط، بل طالت كل الحركات المتأثرة بالقومية والناصرية، فقَلّت فاعلية التيار الناصري بعد أن استُنزفت قوى عبدالناصر في الحرب وأجبرته الظروف على المساومة مع الملك فيصل حول اليمن في مؤتمر الخرطوم الذي انسحبت بموجبه القوات المصرية من اليمن. كل هذا انعكس على الدعم العسكري المصري الذي قلّ للتنظيمات الناصرية والمعارضة السعودية بشكل عام بسبب انشغال ناصر ببناء الجبهة الداخلية.
ومن أمثلةضعف التنظيمات القومية في الخليجوتأثرها بالنكسة، عدم قدرةالكويت عام 1968م على الاستمرار في قيادة حركة القوميين العرب في الخليج بعد تعليق عضويتها في المكتب السياسي والقيادة الإقليمية للخليج العربي، وفسّر مندوب الكويت الانفصال عن الحركة الأم آنذاك بأن الحركة تخلت عن اتجاهاتها القومية، وتبنت النزعة الثورية المتطرفة.
أسباب أخرى غير النكسة تتابعت لتُضعف الحركات اليسارية والقومية الخليجية، منها أحداث أيلول الأسود عام 1971م، فالقتال بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني، دفع كثيرًا من الفلسطينيين للرحيل من الخليجللمساهمة في الأحداث.
حزب البعث:
كما ذكرنا في البداية أن الحركات اليسارية باختلافها سواءً قومية أو بعثية أو شيوعية، تتشابه من حيث مسببات ظهورها في الخليج، وتتفق في كثير من العناوين العريضة،إلا أن هناك اختلافاتبينها، ولكل منها ظروف خاصة، فحزب البعث أقل تواجدًا وتأثيرًا من بقية التيارات القومية، وذلك لأسباب، منها الجمود النسبي الذي يسود النظم الخليجية الحاكمة باعتبارها أنظمة توارثية ذات استقرار تاريخي واجتماعي, فظهور حزب انقلابي مثل البعث يؤمن بأن أهدافه تتلخص في بعث القومية العربية لا يتحقق إلا عن طريق انقلاب على الواقع، يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وهذا ما جعل الدول الخليجية المستقرة نوعًا ما أرضًا غير خصبة لأفكار الحزب, كما أن ضعف البنية التنظيمية لدى المنتمين إلى هذا الحزب ساهم بالتقليل من فعاليته.
كذلك من المعروف عن حزب البعث انتقاده الأشد للموروث الديني أكثر من الحركة القومية، فمثلًا يؤكد ميثاق حزب البعث العربي الاشتراكي أن نظام الحكم برلماني دستوري فقط، ولم ينص الميثاق على الإسلام كدين رسمي للدولة العربية، بينما نجد أن القومية أكثر تصالحًا مع الدين الإسلامي، وتظهِر احترامًا أكثر لمعتقدات الشعب.
ومع هذا انتشرت أفكار حزب البعث بين الطلاب الخليجيين الذين يدرسون في الجامعات العربية، ومن الأعضاء البارزين علي فخرو البحريني، ويعتبر من الأعضاء المؤسسين للحزب في لبنان، ويعتبر أول مواطن خليجي ينضم لحزب البعث 1958م، لكنه هجر الحزب عام 1961م احتجاجًا على موقف الحزب من انفصال سوريا عن مصر.
أما عن وضع البعث خصيصًا في السعودية، فقد نشط في منتصف الستينيات، ومن أبرز أعضائه محمد الربيع الذي سجن وتوفي تحت التعذيب, وعلي غنام الذي انتخب عام 1964م عضوًا للقيادة القومية للحزب ممثلًا للخليج العربي وشبه الجزيرة، وتم إعلان منظمة أحرار الجزيرة العربية كواجهة لعملهم التنظيمي، وفي أول مؤتمر حزبي تم انتخاب عبد الرحمن المنيف عضوًا في القيادة القومية للحزب، لكنه هجر الحزب بسبب موقف الأخير من جمال عبدالناصر,ونشط الحزب بعد نجاح انقلاب 1968م في العراق ووصول بعث العراق للسلطة, وخروج علي غنام من السجن ومغادرته بغداد، وعمله على إعادة تجميع البعثيين السعوديين، وإطلاق إذاعة صوت الطليعة التي كانت صوتًا للحزب، ولكن الحزب ظل يعاني من الانقسامات نتيجة الخلاف بين قيادتي الحزب في سوريا والعراق، والخلاف الناصري البعثي، فأعلن يسار البعث عن فك الارتباط التنظيمي بالبعث، وتأسيس منظمة ماركسية لينينية تؤمن بالكفاح المسلح أطلق عليها الجبهة الشعبية الديمقراطية في الجزيرة العربية، أبرز قياداتها أنور ثابت الذي بقي في منفاه في فرنسا.
ورغم عدم انتشار أفكار الحزب بشكل واسع إلا أنه يشهد للبعثيين مشاركتهم في أغلب التحركات الوطنية، كالاحتجاجات على العدوان الصهيوني عام 1967م وباقي المطالبات العمالية.
قامت السلطة بحملة اعتقالات ضد البعثيين عام 1969م، ولم يخرجوا من السجن إلا منتصف السبعينيات، وحدثت حينها انقسامات عنيفة في الحزب, وبعد إصدار الملك خالد عفوًا عامًا عادت كوادر الحزب من الخارج إلى المملكة، وانتهى الحزب بعد أن تخلى العائدون عن العمل السياسي، ولجأ أغلب كوادر الحزب المؤسسين للعراق، وكان لهم بعض النشاط، ولكن بعد ثورة إيران والتقارب بين السلطة السعودية والعراقية بداية الثمانينيات، خاصة بعد الدعم السياسي والمالي الذي قدمته السعودية للعراق خلال الحرب مع إيران، تم التضييق على نشاط البعثيين السعوديين في بغداد, وكان النظام العراقي يمارس ضغوطًا على الأحزاب اليسارية لتأييد الحرب ضد إيران، ومع رفض هذه الأحزاب للحرب، جرى إغلاق مكتب هذه الأحزاب وطرد ممثلي الأحزاب اليسارية العرب، وانسحب أبرز قيادي سعودي وهو علي غنام من العمل التنظيمي عام 1982م، وبقي في العراق حتى الاحتلال الأمريكي عام 2003م، بعدها انتقل للسعودية في مدينة الخبر.
الحزب الشيوعي:
ننتقل للحزب الشيوعي في السعودية الذي كان بروزه بسبب ضعف القومية وتبني بعض الأحزاب الأم في الأقطار العربية للماركسية اللينينة، وبالتالي أثر ذلك على التيارات في الخليج والسعودية، وكان لبعض الأحداث الإقليمية أيضًا دور في بروز الاتجاهات الشيوعية، كالأحداث السياسية التي شهدتها العراق وإيران، وإعدام الأمين العام للحزب الشيوعي العراقي يوسف سليمان يوسف، ومطاردة الشيوعيين في العراق، وما حدث أيضًا في إيران من القضاء على حكومةمحمد مصدق عن طريق الانقلاب العسكري الذي دبرته المخابرات الأمريكية،وهو ما أدى لهروب كثير من قيادات الحزب الشيوعي العراقي وحزب تودة الإيراني إلى إمارات الخليج العربي، مما مهد لظهور خلايا شيوعية في القطاع النفطي في المنطقة.
وظهر ارتباط الشيوعيين في السعودية بالشيوعية العالمية والأممية، حينما شارك بعضهم في المؤتمر السري في الشرق الأوسط للشيوعيين، الذي عقد في باطوم في جورجيا في ديسمبر 1950م، وكان هدفه إقامة علاقات اقتصادية وسياسية بين الشيوعيين في الشرقيين الأوسط والأدنى.
وكان للحزب مشاركة في كثير من الفعاليات العربية مثل مؤتمر التضامن الأفرو– آسيوي ومؤتمرات الأحزاب الشيوعية العربية والعالمية والندوات الفكرية، وكان مقر المنظمة الشيوعية السعودية في بيروت، ومن أعضاء اللجنة المركزية عبدالعزيز المعمر وإسحق الشيخ يعقوب ومحمد السعيد وعبد العزيز أبو اسنيد، الذي قرر الذهاب للعراق بعد أنسيطر الوطنيون على الحكم بالعراق عام 1958م، وأصبح للحزب الشيوعي نفوذ، ما جعله يعتقد أنه سيستطيع هناك مساعدة الحركة الوطنية في السعودية بشكل أكبر.
نفس المؤثرات التي أضعفت التيارات القومية والبعثية ذاتها أضعفت الشيوعية، بالإضافة إلى عجز الماركسيين العرب عن تقريب المفاهيم الماركسية إلى أذهان الشعب، وقد عانى منهجهم من الجمود والإخفاق في تطبيق النظرية، لأنه قائم على نقل مقولات قابلة للتطبيق في مجتمعات غير المجتمع العربي.
كذلك أدرك الاتحاد السوفييتي الداعم للأحزاب الشيوعية في العالم أن أسلوب التبشير الأيديولوجي لن يجدي نفعًا في الجزيرة العربية، ولن يحقق أي مصالح له في الخليج، ولذلك لجأ إلى الأسلوب الدبلوماسي في عقد الاتفاقيات والمعاهدات الثنائية مع الحكومات الخليجية نظرًا لحاجة الاتحاد السوفييتي لتوطيد علاقاته بمنطقة غنية بالنفط.
وفي النهاية نسرد بعض الأحداث التي أدت لضعف التيارات اليسارية عمومًا، ويقال:إن هناك حدثين منفصلين حدثا مطلع التسعينيات وأديا لتراجع الأيديولوجيا اليسارية لصالح السياسات الحاكمة في الخليج، فأثّرت على ما تبقى من الوجود القومي واليساري، وهي حرب الخليج الثانية التي أدت لدخول القوات الأمريكية إلى منطقة الخليج بكثافة كبيرة، وضعف الاتحاد السوفييتي ثم سقوطه ليفسح المجال لأحادية قطبية أميركية في العالم.
لطالما كانت أمريكا العدو التاريخي للأمة العربية، بينما كان الاتحاد السوفييتي بالنسبة للقوى اليسارية الصديق المساند في وجه الإمبريالية، لكن حرب الخليج الثانية أحدثت هزة كبيرة في الرأي العام في منطقة الخليج، فرأى قسم كبير من الخليجيين أن أمريكا هي الصديق المحرر الذي هب للمساعدة, وأثّر موقف السلطة الفلسطينية المؤيد لصدام حسين على دعم القضية الفلسطينية في الخليج،وهي القضية التي كانت أهم قضية جامعة للتيارات القومية واليسارية.
وبسبب حرب الخليج الثانية هبطت شعبية القوميين في الخليج، لأن موقفهم احتسب على موقف القوى والحركات القومية العربية التي لم تساند الكويت خلال الأزمة كما يجب، والبعض منها وقف صراحة مع العراق، وبالمقابل ازداد نفوذ التيار الليبرالي المتحالف مع الولايات المتحدة في الخليج في مواجهة التيار القومي.
أما الحدث الثاني وهو انهيار المعسكر الاشتراكي بانهيار جدار برلين وانهيار ألمانيا الديمقراطية عام 1990م وانهيار الاتحاد السوفييتي على يد غورباتشوف وقيام الاتحاد الروسي، مما ترتب عليه تفكك المرجعية الفكرية والنموذج الملهم للعديد من الأحزاب اليسارية.
بعد كل هذه الأحداث أصبح وضع القوى اليسارية يتلخص في تراجع الأيديولوجيا لصالح السياسة، وتراجع العمل الخارجي لصالح العمل الداخلي, واستبدلت معظم الحركات اليسارية العبارات الثورية بعبارات تحمل طابعًا تصالحيًا مع الأنظمة السياسية الحاكمة، فالخطاب الذي كان سابقًا رومانسيًا ثوريًا ينشد التغيير الجذري، كان مجرد أحلام اصطدمت بالواقع الذي جعل المنطقة مركز اهتمام الحركة المالية والاقتصادية الرأسمالية, فبدأت القوى اليسارية تطرح مطالب أكثر “واقعية”، وتدعو إلى التحديث من أجل فتح الطريق لمشاركة شعبية في صنع القرار السياسي.
وعادت الوجوه المعارضة في الخارج للداخل وتبنت خطاب الديمقراطية والتحوّل إلى دولة القانون والمؤسسات، وباتت القوى اليسارية الباقية تبحث عن تحالف مع تيارات أخرى إسلامية وليبرالية تحرص على الوحدة الوطنية وحقوق الشعب, واندمجت كثير من الحركات اليسارية مع القوى الديمقراطية في الخليج، أما في السعودية فتلاشت تقريبًا جميع الحركات اليسارية مثل الحزب الشيوعي، خصوصًا بعد العفو العام إثر اتفاق منظمة الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية مع السلطات السعودية أواخر عام 1993م، والذي شمل جميع عناصر المعارضة بمن فيهم الشيوعيون، ومنذ ذلك الوقت لم يلحظ أي نشاط للحزب الشيوعي أو أي حزب يساري آخر.ولكنلا يمكن القول بأن القومية والناصرية والتوجه اليساري اختفيا تمامًا، بل بقيتيار عفوي بين الناس، وتظهر أصواتٌ شابة وشخصيات لازالت مؤمنة باليسار والقومية، وتعبر عن هذا التوجه في النقاشات حول مختلف القضايا العربية.
وأنهى المقال عن اليسار والقوميين بكلام عبد النبي العكري، أحد أبرز من حاول تأريخ وجود هذه التيارات في الخليج، قائلًا: ”إن توثيق تاريخ الحركات اليسارية مهم لكشف وفهم أبعاد مهمة عند كتابة التاريخ الوطني من قبل الأنظمة السياسية الحاكمة في الخليج، حيث تحاول هذه الأنظمة فرض تاريخ المنطقة وتسجيله باعتباره تاريخ قبائل سيطرت وحكمت هذا الإقليم من الوطن العربي، بل تحاول أن تربط التطور التاريخي لهذه المنطقة بحكام بعينهم، أي إبراز دور الفرد الحاكم باعتباره صانع التاريخ الوطني، ولذلك تأتي أهمية توثيق الحركات السياسية لكونها مساهمة في صناعة تاريخ المنطقة”.
في النهاية أتمنى أن تكون الكتابة عن اليسار والقوميين في السعودية محرضًا لمن ساهم أو عاصر تلك الأحداث لتقديم ما لديه من وثائق ومعلومات والإدلاء بشهادته، وتصحيح أي معلومات وردت بالخطأ، سواءً في هذا المقال أو في أي مادة كتبت في هذا الشأن.
استفدت من المصادر التالية في كتابة المقال:
• التيارات الفكرية في الخليج العربي(الجزء الأول والثاني)– مفيد الزيدي.
• تأثير الفكر الناصري على الخليج العربي– نور الدين حجلاوي.
• الحركة الوطنية السعودية– علي العوامي.
• التنظيمات اليسارية في الخليج– عبد النبي العكري.
• البعثيون في الخليج والجزيرة العربية– فلاح المديريس.

ناصر السعيد اليساري السعودي في هوليود

2017
ناصر السعيد الاسم الأكثر شهرة من يساريي السعودية والعضو الأبرز بالإضرابات العمالية المبكرة إضراب عام 1953م , وإضراب 1956 م ,وكان من المؤسسين للجنة العمالية المطالبة بتحسين أحوال العمال في ارامكو وكذلك من مؤسسي جبهة الإصلاح فُصل من عمله بسبب الإضراب عام 1953م ثم أعيد للعمل بعد مفاوضات بين الحكومة والشركة بناء على أوامر من الملك سعود .
استمر السعيد يمارس نشاطه وكان معروف بتأثره بشخصية عبد الناصر وأفكار الوحدة العربية ومقاومة الاستعمار كان يوعي العمال بحقوقهم وأيضا من مطالبه سن الدستور و إجراء انتخابات ومنح حرية التنظيم النقابي.بعد إضراب عام 1956 م حدثت موجة اعتقال وكانت شديدة لأن المطالب لم تكن مطالب بتحسين أوضاع العمال فقط كانت تحتوي مطالب سياسية كالمطالبة بإجلاء العسكريين الأمريكيين ,كما أن تحريض ارامكو الحكومة على العمال لعب دور باستخدام القوة هذه المرة .
استطاع وقتها السعيد الهرب ولم يعتقل مع البقية ويذكر علي سيد العوامي في كتابه عن تاريخ الحركة الوطنية موقف السعيد قبل هروبه ومحاولته لإخراج زملائه من المعتقل يقول العوامي عن حادثة حصلت يوم اعتقالات عام 56 م (...ولما عرف السعيد بالاعتقالات لم يعد لغرفته بالظهران وظل مختفي وذهب للقطيف لان سبعة من الثمانية الذين اعتقلوا في رأس تنورة وجيء بهم للقطيف كانوا من قبيلة شمر من حائل وظن السعيد أن كون أمير القطيف حمود البقعاوي من حائل سيساعده ويمكنه من الدخول على المساجين لكنه لم يستطع فهرب للكويت ولم يعد بعدها للسعودية وأصبح المطلوب الأول للسلطات السعودية ...) .
بعد هروب السعيد عاش متنقل بين أكثر من عاصمة عربية وبسبب خبرته الطويلة في الميدان النقابي و قدرته على الكتابة والعمل السياسي استطاع أن يستعين بأكثر من 13 صحيفة عربية لإيصال قضية زملائه المعتقلين والمطالبة بحق العمال واستمر بالاتصالات الرسمية والشخصية ويصدر البيانات ويكتب المقالات ضد السعودية ويدعوا المنظمات الدولية والأحزاب الوطنية للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين أيضا كان للسعيد دور في تأسيس كثير من التجمعات منها اتحاد أبناء الجزيرة العربية ومما ساعد السعيد هو زيادة قوة دعم عبدا لناصر له ببداية الستينات وذلك بعد إظهار السعودية مناهضتها لقرار الوحدة بين مصر وسوريا فوجد السعيد في تلك الفترة مجال واسع لنشاطه في القاهرة في الإذاعة الرسمية والمؤسسات الصحفية و أصبح يبث برنامج عبر صوت العرب يتحدث فيه عن إسراف الأسرة المالكة وأوضاع العمال السيئة لكن هذا الدعم للسعيد لم يدم وتوقف بعد النكسة عام 1967 م فقد ضعف الدعم المصري للتنظيمات المعارضة والناصرية السعودية بسبب انشغال عبد الناصر ببناء الجبهة الداخلية وبعد أن أضطر على المساومة مع الملك فيصل .
بعد مصر انتقل السعيد لليمن الجنوبي بعد أن قامت الثورة باليمن عام 1963 م وانشأ مكتب للمعارضة هناك لكن بدأت تضيق عليه الأحوال فاضطر للتنقل متخفي بين العراق وسوريا ومصر واليمن واستقر بدمشق حتى حصلت حادثة اقتحام الحرم بقيادة جهيمان فتوجه لبيروت ليعود من جديد ويكثف هجومه على الحكومة السعودية ففي 10 ديسمبر 1979م أجرى شهاب أحمد الصحفي في جريدة الحرية اللبنانية لقاء مع السعيد حول أحداث الحرم وكان السعيد ينظر لها كثورة شعبية مشترك فيها أبناء القبائل و أفراد من الجيش لكن الحكومة السعودية تصورها بأنها عمل جماعة متشددة خارجة عن القانون و السلطة تمنع أي اتصال بين الثوار وبين محامين أو صحفيين ليسمعوا مطالبهم وكان السعيد يصف شعارات جماعة جهيمان بأنها شعارات دينية ذات مضمون تقدمي ! كما أن السعيد من خلال إجاباته على أسئلة جريدة الحرية كان يرى أن النظام باقتحامه الحرم المكي للقضاء على الثورة يخالف الدين ويهدم المسجد الحرام بمدافع أمريكية ويرى أن هذا سيرفع معنوية الجماهير التي ستستلهم من مواجهه الثورة الإيرانية لأمريكا حافزاً لتصعيد نضالها.
مثل هذه التصريحات كررها السعيد لصحف عديدة وكان يحضر المؤتمرات ويبشر بها وكان آخرها مؤتمر الكتاب العرب الذي عبر فيه صراحة تأيده حركة جهيمان و استعداده لدعمها بكافة الوسائل بعد شهر فقط من هذه التحركات تم اختطاف السعيد .ولو عدنا للوراء لحياة السعيد بعد خروجه من المملكة عام 1956 م تعرض للملاحقة ومحاولات اغتيال في البداية و لكن منذ بداية السبعينات لم يكن هناك اهتمام لدى السلطة باعتقال السعيد خاصة بعد اغتيال الملك فيصل وتولي الملك خالد رحمه الله الحكم وإصداره عفو عام عن المعارضين السياسيين وتم دعوتهم للعودة عاد الكثير إلا السعيد كان يشكك في نوايا النظام وظل حر مستمر بممارسة نشاطه حتى حادثة اقتحام الحرم وإعلانه الصريح تأيده لها كما أشرنا لذلك ,.وفي 17 ديسمبر عام 1979 م اختطف السعيد واختفى في بيروت واختلفت الروايات حول مكان اعتقاله أو قتله ومن المتورط في خطفه ولكن الأغلب يردد أنه نقل بطائرة للسعودية وأن عملية الاختطاف تمت بمساعدة أفراد من منظمة فتح رغم تعاون ناصر مع الفدائيين ودعمه المطلق لقضيتهم ومن يومها لم يعرف مصيره .وحتى عام 1983 م كانت تصدر بيانات باسم اتحاد شبة الجزيرة تطالب بإطلاق سراح السعيد التي تقول انه معتقل و يتعرض للتعذيب في سجون الرياض .
انتهت قصة السعيد ومابين تضخيم الرفاق لسيرته و روايتها بشكل تبجيلي وما بين تعتيم الحكومة وعدم إصداراها أي أرشيف يوثق ما حدث تضيع سيرة أمثال السعيد ولا يبقى سوى بعض القصاصات والأرشيف بالدول الأخرى ,وعودة للسعيد تختلف النظرة لسيرته بتفاصيلها ولكن مما لا يختلف عليه أن السعيد شخصية بارزة مؤثرة ألهمت حتى هوليود هذا الجانب من قصة السعيد لم يتم إلقاء الضوء عليه بشكل كبير والتفاصيل هي أن سيرة السعيد وصلت لهوليود عام 1963م عندما كان هوى هوليود يساريا حيث أُنتج فيلم عن معاناة العمال في الشركات الرأسمالية بالجزيرة العربية وكانت قصة البطل مستوحاة بشكل كبير من قصة ناصر السعيد كان فيلم احتفائي ويصور قصة هروبه من السعودية أسم الفيلم الهروب من الظهران escape from Zahrain أدى دور السعيد الممثل روسي الأصل يول براينر Yall Brynner وتم تغير اسم بطل الفيلم من ناصر السعيد إلى اسم شريف لدواعي سياسية لكن الفيلم تم تحجيمه ولم ينتشر بشكل واسع إلا بجهود اللجنة الإعلامية في الاتحاد السوفييتي التي أسهمت في انتشار الفيلم نوعا ما ولم يكن هناك نسخة عربية للفيلم أو أصداء له سوى اجتهادات بعض البعثتين العراقيين حينما رافقوا الرئيس صدام حسين في زيارته لاسبانيا واطلعوا بالصدفة على النسخة الاسبانية للفيلم التي يُقال أن الجنرال فرانكو عرضها أمام صدام إذ أن الموسيقى التصويرية للفيلم كانت أنشودة قومية عراقية مشهورة ( لاحت رؤوس الحرب ) وهي أهازيج من التراث القومي العراقي, ولابد من الإشارة إلى أن الفيلم مأخوذ من رواية للكاتب الإنجليزي مايكل باريت وكان قد عمل في ارامكو بعنوان ( التعين في الظهران) (Appointment in Zahrain ).
إن كانت مذكرات الرفاق أو الوثائق والأفلام التي تظهر من حين لحين تحفظ شيء من السيرة تظل رواية أهالي الشخصيات الوطنية عموماً غائبة ففي حالة السعيد رواية أهله غائبة عن إكمال المشهد المعروف أن السعيد تزوج عام 1969 م ولدية ثلاثة أبناء وإذا كان غيابهم بسبب أنهم بعيدين عن نشاط والدهم أين حمد السعيد شقيق ناصر أسمه غير معروف رغم أنه ضمن من دخلوا سجن العبيد عمل بعد خروجه بوظيفة في الخطوط السعودية و بعد عمله بفترة جاء تعميم سري بالقبض عليه بتهمة مناصره أخيه ناصر وأخبره أحد موظفي الجوازات بالتعميم فهرب لبيروت ومنها انتقل لبراغ وكانت حينها المعسكر الاشتراكي ودرس فيها و بعدها انتقل لايطاليا وعمل بالتجارة ثم عاد للسعودية.
كان الأمل أن مرور أعوام طويلة قد يشجع البعض للحديث وإظهار بعض الوثائق لكن يبدو أن الأجواء لا تزال غير مرحبة بأي صوت يقدم روايته الخاصة وهذا يعيد التخوف والكتمان وتطوى كثير من الروايات ,كما أنه يبدو أن تسوية الحكومة مع اليساريين والعفو عنهم وإعادة جنسياتهم ووظائفهم منتصف السبعينات كانت مشروطة بالعفو مقابل الصمت للأبد أو أنه صمت اختياري عرفانا بجميل عفو حكومة الملك خالد رحمه الله .

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

9 من الزوار الآن

916816 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق