Categories

الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > ما بعد الناصرية

16 كانون الثاني (يناير) 2023

ما بعد الناصرية

ما بعد الناصرية

لم يَخْل الحراك السياسي في مصر من مطلع القرن الحادي والعشرين من صور عبد الناصر ومفردات الحقبة الناصرية ومن السياسيين والمثقفين الناصريين. كانت هذه العناصر جميعاً حاضرة في المظاهرات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية في ٢٠٠٠، وفي المظاهرات المناهضة للغزو الأمريكي للعراق في ٢٠٠٣، ثم في حركة كفاية، ومع انتشار الاحتجاج السياسي والاجتماعي في سنوات حكم مبارك الأخيرة. ومع تصاعد المعارضة ضد حكم الإخوان المسلمين خلال رئاسة محمد مرسي القصيرة العهد اكتسب استدعاء ذكرى عبد الناصر ومفردات نظامه السياسي وسياساته وحقبته عامة دلالات جديدة أسهمت بشكل جدي ونشط في صياغة الخطاب السياسي للحراك الشعبي في يونيو ويوليو ٢٠١٣ فما هي هذه الدلالات؟

كان استدعاء عبد الناصر وفترة حكمه حاملاً لمعاني سياسية مكثفة أسهمت في تطوير هوية جماعية للمواطنين المحتجين على حكم محمد مرسي والراغبين في إنهاء حكم الإخوان المسلمين. حملت صور عبد الناصر جنباً إلى جنب مع صور أنور السادات ومع الأعلام المصرية باعتبارهم جميعاً علامات تمثل القومية المصرية الجامعة للمصريين بحكم انتمائهم للبلاد في مقابلة واضحة مع الأممية الإسلامية التي ينادي بها الإخوان، والتي ترتبط بشكل مبهم وغامض مع الانتماء للوطن في نظر الكثيرين من مناهضيهم، ولكن لم تكن هذه هي الدلالة فحسب بل كان في استدعاء عبد الناصر والناصرية استحضاراً لمفردات كالكرامة والعزة، وهي مفردات من قاموس التحرر الوطني ومقاومة الاستعمار في الخمسينيات والستينيات على حد تعبير شريف يونس في كتابه الرائع "نداء الشعب"، وكانت الكرامة هنا بالطبع تشير لاستقلال القرار الوطني الممثل في خلع الجيش لمحمد مرسي بدعم أو بناء على طلب الجماهير في مواجهة موقف غربي وخاصة أمريكي فسر من قبل مناهضي الإخوان على أنه داعم لهم.

بيد أن ناصر والناصرية حملت معاني أخرى للحراك الأخير كان أحدها بالقطع استدعاء صور وتمثلات العقد الاجتماعي "الناصري" الذي نشأ في أعقاب الاستقلال الوطني في منتصف الخمسينيات، والذي تمثل في بناء الدولة لتحالف اجتماعي عريض يقوم على عمال القطاع العام، وطلاب الجامعات وموظفي الدولة والجنود في الجيش وغيرهم من قوى الشعب العامل، وليس هناك شك في أن خيال العدالة الاجتماعية منذ بدء الاحتجاج الاقتصادي-ـالاجتماعي ضد مبارك في ٢٠٠٤/٢٠٠٥ كان ناصرياً بامتياز كونه في النهاية احتجاجاً على تآكل مكتسبات هذه الطبقات الاجتماعية منذ الانفتاح بشكل مطرد ومستمر. ويضاف لهذه الدلالات الثلاث دلالة رابعة لاستدعاء ذكرى ناصر ومفردات الحقبة الناصرية للمشهد الاحتجاجي ضد الإخوان وهو اعتباره رمزاً للحداثة في مواجهة القوى الظلامية المعادية للتحديث. وقد كانت الحداثة وخاصة الادعاء بالتوفيق بينها وبين الأصالة أحد الأركان الأيديولوجية للنظام الناصري كغيره من النظم السياسية التي نشأت في مرحلة ما بعد الاستقلال، وحملت لشعوبها آمال التحديث السريع والتصنيع والعدالة الاجتماعية وانتشار التعليم العام وتحرير المرأة.

لم يكن حضور عبد الناصر ومفردات الحقبة الناصرية جديداً أو داعياً للعجب فكما سبقت الإشارة فإن المثقفين والصحفيين والنقابيين الناصريين ما انفكوا يلعبون دوراً محورياً في صياغة خطاب الاحتجاج السياسي في السنوات الأخيرة لمبارك، ويحضرنا هنا كتابات عبد الحليم قنديل كمثال لصحفي ناصري الانتماء أيديولوجياً وحزبياً كان من أول وأجرأ من تناولوا مبارك وعائلته بالنقد الصريح في العديد من مقالاته الصحفية ثم في سلسلة من الكتب التي أعادت نشر بعضاً من هذه المقالات، وكان هجوم قنديل على نظام مبارك على أساس كونه امتداداً لنظام السادات، وردة عن ثوابت النظام الناصري خاصة في قضايا السياسة الخارجية والاقتصاد. ولم يكن قنديل وحيداً في تصوير نظام مبارك في آخر عهده كصورة شبيهة بالنظام الملكي قبيل ثورة/انقلاب يوليو ١٩٥٢: ملك/رئيس فاسد تحيط به أسرة فاسدة مع تدهور شديد في وضع مصر الإقليمي والدولي (حرب فلسطين/غزو العراق) وتفاقم للأزمة الاجتماعية في صورة الإضرابات العمالية والتظاهرات المناهضة للنظام، ولم يكن صعباً استشفاف رؤية قنديل للحل لهذه المعضلة ممثلة في تحرك آخر للجيش كي يقضي على مشروع التوريث، ومن ثم مد عمر هذا النظام الفاسد بعد خروج مبارك من الحكم، مدعوماً من الشعب. ولا شك أن رؤية قنديل كانت كاشفة عن بعد نظر شديد وعن فهم عميق لتفاعل الدولة والمجتمع في مصر فالبلاد كانت بالفعل على شفا ثورة، ولم يكن نجاح هذه الثورة ممكناً دون تخلي الجيش عن مبارك، ومن هنا يمكن القول إن قنديل قد تنبأ بأن "الشعب والجيش إيد واحدة" ضد مبارك ونظامه قبل سنوات من تحقق المشهد في أركان ميدان التحرير. وقد عكس ناصريون آخرون كمصطفى بكري هذا الموقف من خلال قراءتهم لثورة يناير باعتبارها انقلاباً عسكرياً وثورة شعبية في آن واحد على الرغم مما يحيط بهذه القراءة من تناقضات وفي الأغلب عدم دقة تاريخية.

مع تصاعد الأحداث في يونيو ويوليو ٢٠١٣ لعب المثقفون الناصريون دوراً شديد الأهمية في صياغة الخطاب السياسي المناهض للإخوان بالإسهام في تشكيل خطاب قومي مصري في مواجهة خطاب الإسلام السياسي، وفي صياغة الصراع السياسي في البلاد على أنه صراع آخر من أجل تحقيق الاستقلال الوطني (من الولايات المتحدة والغرب مضافاً إليهم مقاطع من الخطاب الساداتي الكاره للفلسطينيين ممثلين في حماس وقطاع غزة)، كما ساعدوا كثيرا خاصة من خلال وسائل الإعلام في الحديث عن تدخل الجيش في ٣ يوليو بعزل مرسي على أساس أنه دعم لثورة شعبية أو ما يمكن اعتباره انقلاباً تصحيحياً لإعادة الثورة لمسارها بعدما ضلت السلطة طريقها لأيدي الإخوان المسلمين. وقد تجلت الناصرية الجديدة إن جاز التعبير في عدة مقولات مثلت الإطار السياسي لإقصاء الإخوان من الحكم من خلال تدخل الجيش المدعوم من الجماهير المحتجة والمحتشدة في الميادين منها إنقاذ الدولة الحديثة / المدنية في مصر من الإخوان وأعوانهم، ومنها إنقاذ البلاد من الصدام الأهلي والفوضى. ومع تأجج الصراع السياسي قبيل وبعيد فض اعتصام رابعة العدوية أسهم الناصريون مع غيرهم في تكريس صورة الفريق السيسي باعتباره ممثلاً للجيش المصري من ناحية، وممثلاً للحراك الشعبي المدعوم من الجيش (وربما العكس) من ناحية أخرى.

وتماشى هذا بالطبع مع حضور لساسة ونقابيين ناصريين في الصورة كالدكتور حسام عيسى وزير التعليم العالي والنقابي المعروف كمال أبو عيطة وزيراً للقوى العاملة واللذين استخدما رأس المال التنظيمي والثقافي الذي كوناه خلال حكم مبارك وفي المرحلة الانتقالية لدعم خارطة الطريق التي وضعها الجيش، ولمقاومة ما رآه الكثيرون دفعاً للبلاد إلى هاوية الفوضى من جانب الإخوان الذين كانوا يحرصون كل الحرص على التأكيد على "كسر الانقلاب" و"عودة الشرعية". وهنا وبصورة مبكرة بدأت مفردات الناصرية تُسْتدعى بجانب الحرب على الإرهاب ومواجهة الفوضى لتبرير مصادرة الدولة لمساحات من المجال العام التي تحررت بعد سقوط دولة مبارك الأمنية على يد ثورة يناير ٢٠١١ . فنجد أن كمال أبو عيطة قد بدأ يتحدث عن ضرورة تعليق الإضرابات حتى تستقر الأمور، ويذكر العمال بواجباتهم الوطنية، في تجل واضح للتناقض الكامن منذ البداية بين كونه ناصرياً ينطلق من تجربة قوضت العمل النقابي المستقل لصالح مكتساب اقتصادية لعمال القطاع العام، وكونه نقابياً (ولسخرية الأقدار) أحد أبطال الحركة النقابية المستقلة التي تمردت على ذات البنى ناصرية الأصل التي ورثها مبارك كالاتحاد العام لنقابات عمال مصر. وتكرر المشهد بصور ليست أقل درامية مع حسام عيسى الذي وجد نفسه في مواجهة استقلال الجامعات والحراك الطلابي (الداعم جزئياً للإخوان) والذي كان هو ذاته أحد أبطاله منذ نهاية عهد مبارك.

لم يتوقف استدعاء التجربة الناصرية كمستودع للمعاني القابلة لإعادة التأويل في سياق الصراع السياسي في مصر عند صياغة الخطاب المناهض للإخوان قبل ٣٠ يونيو وبعدها إنما انتقل إلى دعم جهود الجيش ومعه تحالف ٣٠ يونيو في تشكيل سلطة سياسية جديدة، وهو ما تجلى بوضوح في الإصرار على رسم أوجه شبه بين السيسي وبين عبد الناصر، وبين دور الجيش في ١٩٥٢ ( لحظة تأسيس نظام يوليو) ودور الجيش في ٢٠١٣ لحظة تأسيس نظام ما بعد مبارك وما بعد الإخوان. ولا شك أن هذه الجهود من جانب الناصريين والأطراف ناصرية المخيال والمرجع قد اختلطت بجهود أطراف أخرى داخل التحالف الحاكم تراهن على إحياء الدولة الأمنية، ومصادرة المجال العام مرة أخرى في إطار الحرب على الإرهاب واحتواء محاولات الإخوان لزعزعة الاستقرار وتعطيل المسار الانتقالي التالي على عزل مرسي.

ومما لا شك فيه أن ثمة تناقضاً ما بين المشروعين السياسيين (إن جاز إطلاق وصف مشروع عليهما) وهو أن إعادة السيطرة الأمنية على المجال العام قد تكون قاسماً مشتركاً بين الناصريين والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الدولة المصرية، التي هي نفسها ابنة النظام الناصري القائم منذ ١٩٥٤، على مصادرة المجال العام وإخضاعه للرقابة والإدارة الأمنية ـ ولكن يظل الفارق شاسعاً بين إعادة إحياء نظام يوليو في صيغة ناصرية جديدة بما يتطلبه هذا من إصلاحات اجتماعية واقتصادية واسعة النطاق تبرر مصادرة المجال العام من جديد، وبين إعادة إحياء نظام مبارك بانحيازاته الاجتماعية والاقتصادية وسياسته الخارجية. ولعل هذا مصدراً حقيقياً للتوتر بين العديد من الناصريين الذي قد يتسامحون مع إحياء الدولة الأمنية وإنشاء مجال سياسي مقيد بوصاية دولتية عسكرية/ قضائية بمقتضى الدستور الجاري إعداده، ولكن مقابل إصلاحات تحقق المطالب الاقتصادية والاجتماعية ( أو بعضها على الأقل) بما يضمن إحياء التحالف الناصري القديم، ويولد نظاماً اجتماعياً ما يحظى بقدر أكبر من الشرعية والتأييد. ويمكن قراءة تشريع الحد الأدنى والأقصى للأجور في هذا السياق. ولكن يظل مربط الفرس حقا هو موقف الجيش من إصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق ستؤدي حتما لصدام المؤسسة العسكرية مع المصالح القوية داخل جهاز الدولة وفي الاقتصاد، والتي تولدت في عصر مبارك (وربما السادات).

نشر أنور عبد الملك في ١٩٦٨ كتابه الشهير "مصر مجتمع عسكري"، وقدم تحليلاً ماركسياً لانقلاب/ثورة يوليو ١٩٥٢ كان أساسه أن الجيش قد تحرك لإنقاذ الأطر العامة للنظام الاجتماعي في مصر فتمخض عن هذا ما يمكن تسميته ثورة من أعلى أو ثورة محافظة وبالطبع لفظ ثورة هنا لا يعني الكثير بقدر ما إنه يشير إلى إصلاحات بحق واسعة النطاق أحدثتها القيادة السياسية الجديدة المنبثقة عن الجيش كالإصلاح الزراعي ومد التعليم المجاني والحصول على الاستقلال الوطني وتمصير ثم تأميم رأس المال الكبير والشروع في التصنيع الثقيل، وكلها مطالب للطبقات العمالية والمتوسطة في المدن والريف منذ نهاية الأربعينيات عجز الوفد عن تحقيقها. وبمعية هذه الإصلاحات صادرت المؤسسة العسكرية (أو السلطة السياسية الناشئة عن تدخله) المجال السياسي وقضت على الوفد والحياة الحزبية ثم ما لبثت أن سحقت أقصى اليمين (الإخوان المسلمون) وأقصى اليسار (الشيوعيون)، وكما قال شريف يونس عزل الجيش الملك ليحتل محله، وليحل التناقضات التي ضربت النظام السياسي بين ١٩٢٣ و١٩٥٢ بحل الوفد ومصادرة السياسة وإجلاء الإنجليز وإنشاء نظام سياسي يقوم على البيروقراطية وامتداداتها في التنظيم الحزبي الواحد.

على أن السؤال الحرج الذي يواجه المشروعين معا هو وجود الأدوات من عدمها لمصادرة المجال العام فبينما يبدو الأمر محسوماً فيما يتعلق بإعادة نظام مبارك للحياة إذ إن ترتيبات النظام نفسه هي مصدر استمرار الاحتجاج بشقيه السياسي والاقتصادي، وقد أثبتت السنوات الثلاث التي تلت ثورة يناير أن القمع وحده لا يكفي، وأنه يؤدي فحسب لتأسيس نظم سياسية لا تحظى باستقرار يذكر، ومن ثم فما من مفر من تقديم تنازلات اجتماعية ما تكفل قيام تحالف اجتماعي ـ سياسي لنظام ما بعد مبارك، ولكن يظل السؤال معلقاً عن إمكانية توليد شرعية إنجازية تضاهي شرعية عبد الناصر ونظامه في الخمسينيات والستينيات لتبرير مصادرة المجال العام مرة أخرى، وكذا عن مدى توفر رؤية والتزام لدى المؤسسة العسكرية لإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية واسعة النطاق في ظل الانقسام السياسي العنيف الحالي، والمرشح للاستمرار، والاستقطاب الذي يتولد عنه بين معسكر مصري وطني لا يجمعه بالأساس سوى الخوف من الإخوان أو الرغبة في إقصائهم عن المجال السياسي، ومعسكر إسلامي آخر يرى أعضاؤه أنهم يخوضون معركة وجودية.

لقد بنى عبد الناصر شرعيته على الإنجاز من اتفاقية الجلاء في ١٩٥٤ إلى تأميم القناة والانتصار سياسياً في أزمة العدوان الثلاثي في ١٩٥٦، والموجات الأربع من الإصلاح الزراعي التي خلقت طبقة واسعة من صغار ومتوسطي الملاك في الريف داعمة للنظام السياسي ومخلصة لتوجهاته وسياساته، ولإنشاء قطاع عام صناعي ومعه السد العالي، ومد التعليم الجامعي المجاني مع ضمان وظيفة عامة للخريجين. إن نظام عبد الناصر وتحالفه الاجتماعي أو قل العقد الاجتماعي الذي استند إليه كان من نوع الشعبوية السلطوية كما صنفه بيانكي في الثمانينيات Populist Authoritarianism، وهو ترتيب يقوم على استبدال الحقوق السياسية بمكتسبات اقتصادية. فهل يمكن لأي طرف توليد مكتسبات اقتصادية في المدى المتوسط (ولا أقول القصير) بما يولد تحالفاً اجتماعياً راسخ الأقدام كذاك الذي ولد في دولة ما بعد الاستقلال في مصر، وميز عصر ونظام عبد الناصر؟ والإجابة القاطعة هي بالنفي لأن السياق العالمي اليوم لا يسمح بظهور هذه التحالفات الاجتماعية أو الترتيبات الاقتصادية والسياسية نتيجة ظروف عديدة هي التي قضت على نظامي السادات ومبارك باتخاذ إجراءات اقتصادية تحريرية قوضت شرعية النظام وحكمت عليه بالتفكك البطيء وبمواجهة حركة احتجاجية أخذت تتصاعد حتى وكزته وقضت عليه في يناير ٢٠١١.

ولكن هذا لا يحملنا على تجاهل حقيقة ماثلة في مصر وهي أن خيال العدالة الاجتماعية ناصري بامتياز، وأن الناصرية قد لا تكون أيديولوجية متماسكة أو متجانسة كالإسلام السياسي أو الماركسية، وقد لا تكون قوة تنظيمية حزبية أو نقابية إلا أنها ولا شك جزء أساسي من الثقافة السياسية ومن المخيال السياسي للطبقات العمالية والوسطى الحضرية والريفية في مصر. ويضاف إلى هذا أن الفشل المبكر للإخوان المسلمين كان راجعاً إلى أن المشروع الهوياتي الإسلامي كان يفرق أكثر مما يجمع، وأنه أدى لانقسامات اجتماعية عنيفة خلال الصعود السياسي القصير للإخوان المسلمين، بينما أثبتت الصياغات القومية المصرية (والناصرية والساداتية تجليات لها) أنها أكثر رحابة وتقبلاً للتعدد بين المصريين، وبالتالي فإنها تمثل أساساً أيديولوجياً أرسخ لتحالف سلطوي جديد، هو الذي يستند عليه الجيش اليوم وتحالف ٣٠ يونيو في التصدي للإخوان وإعادة تصميم المجال السياسي بإقصائهم منه.

ومن هنا يبدو أن جوهر الإشكال الذي تواجهه مصر اليوم هو أن العقد الاجتماعي الوحيد الماثل في خيال الكثيرين من المصريين ناصري بامتياز عائد لدولة ما بعد الاستقلال، ولكن إعادة إنتاج هذا التحالف غير ممكنة في ظل الظرف العالمي الذي يقضي على مصر بالاندماج في النظام العالمي لا اقتصادياً جراء الاعتماد على تدفقات السلع ورأس المال من الخارج فحسب، وإنما ثقافياً وسياسياً كذلك، إذ لم تعد هناك مساحة حقاً للصيغ الأولى لدول ما بعد الاستقلال، ولليسار القومي التقليدي، أو للاقتصاد الدولتي. هذا بالطبع لا يعني أنه ما من مساحة للتحول الاقتصادي والاجتماعي في مصر، إذ إن الوضع القائم خاضع للتفاوض ولا شك وخاضع لإعادة الترتيب لإنتاج نظام اجتماعي ( وليس سياسياً فحسب من الناحية الإجرائية) أكثر شعبية وأكثر شرعية في عيون الغالب من المصريين بما يضمن له البقاء والاستقرار. ولكن شروط هذا التفاوض من الأصل تجعل الصيغة الناصرية القديمة أو تجلياتها الجديدة غير ممكنة ولا محتملة في أي وقت قريب رغم كل الدعاية والنشاط الإعلامي المكثف. فهل هذا يعني أن الناصرية قد ماتت وأننا بصدد غياب أي إطار لإعادة بناء النظام الاجتماعي في مصر؟ إن الإجابة مرة أخرى هي بالنفي. قد تستمر الناصرية مرجعية ما للدولة وللقوى السياسية، ولكنها مرجعية مرشحة للتجاوز إلى مرحلة ما بعد الناصرية. والمقصود بها صيغة لتحالف اجتماعي يضمن دوراً أكبر للدولة في توزيع الدخل والثروة، وفي تمكين المزيد من المواطنين من المشاركة في النشاط الإنتاجي ومن ثم في الحصول على عوائد النمو الاقتصادي (خلافاً لما كان قائماً في عهد مبارك الأخير)، ولكن دور الدولة هنا لا يعني حلولها محل القطاع الخاص من خلال التأميم أو توسيع القطاع العام ولا يعني قطعاً حلول البيروقراطية محل المجال السياسي بمصادرة الحريات النقابية والطلابية والحزبية، إنما يعني استحضار ترتيبات العدالة الاجتماعية من خلال تعريف دور الدولة في اقتصاد تعددي وفي مجال سياسي تعددي بما يدفع بالناصرية هنا إلى وضعية قريبة من اليسار الجديد رافضة للصيغة النيوليبرالية من الرأسمالية ولكنها ليست بالضرورة تدور في فلك اشتراكية أو رأسمالية الدولة.

إن هذا المقال لا يهدف بحال إلى وضع صيغة محددة ومعرفة مسبقا لما بعد الناصرية أو لكيفية قراءة التجربة الناصرية في مرحلة ما بعد مبارك وما بعد بعده إنما تهدف لبدء النقاش العام حول هذه القضية، وللشروع في حوار مفتوح حول الأسس الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لنظام اجتماعي أكثر شرعية وأكثر استقراراً في السنوات القادمة.

المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية

[يصادف الثامن والعشرين من أيلول مرور نصف قرن على وفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر. ما زال السجال النقدي يدور حول إرث عبد الناصر السياسي. بهذه المناسبة، تنشر صفحة «مصر» على «جدلية» ثلاث مقالات حول الموضوع. وتدعو الباحثين والمهتمين بهذه الحقبة إلى الإدلاء بدلوهم وإرسال مقالاتهم]

المخبر العضوي وتراث الوطنية المصرية[1]

"في تصوري المجتمع المصري مجتمع تاريخي له حضارة عريقة ولكنه مجتمع غير عصري، مجتمع متخلف" هكذا اختتم الراحل أحمد عبد الله رزه تعليقا له حول تاريخ الحركة الوطنية في مصر ضمن أعمال ندوة كان هو مقررها في ١٩٨٧.. ولكي لا نسارع إلى اتهام الرجل بكراهية الذات أو باحتقار وطنه ومواطنيه فلنعرض لمداخلته المسجلة بشكل أكثر شمولا، يقول أحمد عبد الله "[إن] درجة نضج المجتمع تتحدد بالأمرين معا، بقدرته على إدارة الصراعات، وقدرته على صياغة الاتفاق. المشكلة عندنا في مصر أن صراعاتنا غير ناضجة! القدرة الوحيدة التي أثبتناها في تاريخنا الحديث هي: (١) الإتفاق في الشارع بين فئات الشعب حين تكون هناك سلطة محتلة فنتفق في الشارع بين صفها مثل تجربة ثورة ١٩١٩ والوفد كجبهة وطنية في البداية على الأقل. (٢) الاتفاق حول جهاز الدولة مثل تجربة الإلتفاف حول عبد الناصر. فالملايين كانت تؤيد عبد الناصر بالفعل، ولكن دون أن تكون لها حريات سياسية وحقوق في الصراع الاجتماعي في الشارع فدون ذلك قمع شديد. أي أنه كان هناك إتفاق ما، ولكن هذا الإتفاق لا يأتي من "التعددية" وإنما يأتي من "الأحادية". وهذا معناه أننا في مصر حين نتفق إنما نتفق على أن نكون أطرافا إضافية أو تحابيش معاونة لجهاز الدولة... بهذا المعنى في تصوري المجتمع المصري مجتمع تاريخي له حضارة عريقة ولكنه مجتمع غير عصري، مجتمع متخلف.[2]

كم تبدو هذه الكلمات اليوم نافذة في تعبيرها عن الواقع السياسي في مصر، خاصة في الفترة التالية على يناير ٢٠١١، والتي فشلت فيها القوى السياسية والمجتمعية في الاتفاق على حدود دنيا تحكم التأسيس لسلطة الدولة بشكل ديمقراطي بعد إزاحة مبارك يتيح قدرا من إدارة التعددية السياسية والاجتماعية، وهي الصراعات التي أفضت إلى انهيار المسار السياسي التالي على الثورة بفاعليه وبدستوره وبمؤسساته بانتصاف ٢٠١٣. والملاحظ أن الخروج من دوامة الفوضى وبوادر العنف الأهلي والصراع الوجودي بين القوى السياسية خلال حكم الإخوان المسلمين القصير كان بتصدر الجيش للمشهد ممثلا عن الدولة والشعب معا، والشروع في بناء إجماع وطني يقوم على استدعاء تراث الوطنية المصرية الطويل بكافة مكوناته السابقة على يوليو ١٩٥٢ والتالية عليها بهدف إعادة التأسيس لسلطة الدولة في أعقاب أعمق أزمة سياسية واجتماعية تمر بها مصر في تاريخها الحديث.

على أن هذا الإجماع قد أتى بتكلفة باهظة إذ اقتضى مصادرة غالب المكتسبات التي تحققت بعد يناير ٢٠١١، خاصة في شق الحريات السياسية وحرية التعبير والتنظيم، والعودة إلى الإدارة الأمنية للمجال العام، حيث تتمثل فرص فرض إجماع وطني ما في التضحية بالنزر اليسير من الحريات والحقوق التي تم انتزاعها من دولة عرفت تاريخيا بسلطويتها وتحكمها من ناحية أخرى.

فلم كان الإجماع الوطني في مصر دائما يتأسس على افتراض وربما فرض الأحادية على حد تعبير أحمد عبد الله قبل ثلاثة عقود؟ يسعى هذا المقال للإجابة على هذا السؤال في ذكرى الرحيل الخمسين لمن يعتبر أحد مؤسسي دولة ما بعد الاستقلال -إن لم يكن هو مؤسسها الأول-، وذلك من خلال تتبع جذور الضيق بالتعدد في تراث الوطنية المصرية لا إلى لحظات تأسيس دولة يوليو فحسب، بل إلى ما قبل هذا، إلى بدايات الحركة الوطنية المصرية الأولى في مطلع القرن العشرين.

كان التأكيد على "الأحادية" محورا من محاور بناء الهوية الوطنية المصرية الحديثة في مواجهة الاستعمار البريطاني، فبينما كانت إستراتيجية الحزب الوطني القديم في مطلع القرن العشرين هي التأكيد على الإنتماء العثماني لمصر، وبالتالي إبراز الرباط الديني بين مسلمي البلاد وبين الدولة العثمانية كانت إستراتيجية حزب الأمة ثم الوفد المصري مغايرة تماما إذ أنها قامت على الدفع بوجود هوية مصرية واحدة تجمع كل المصريين بغض النظر عن اختلافاتهم الدينية في المقام الأول بين مسلمين ومسيحيين، والعرقية والجهوية والقبلية في المقام التالي، ومن هنا فقد تبنى الوفد فعليا خاصة بعد اندلاع ثورة ١٩١٩ خطابا ومشروعا سياسيا مقاوما للنظرة التقليدية التي روجها البريطانيون عن مصر منذ عهد كرومر، والتي عبر عنها في كتابه الأشهر "مصر الحديثة" بنفيه وجود شعب مصري من الأساس، وحديثه في المقابل عن وجود "سكان لمصر" لا مصريين، هم عبارة عن أخلاط من المسلمين بتنوعاتهم (فلاحون وعرب ونوبيون ومغاربة وأتراك وشراكسة وغيرهم) ومن المسيحيين بتنوعاتهم (أقباط وسريان وأرمن) غير الأقليات اليهودية، علاوة على الإسهاب في الحديث عن الاختلافات الثقافية بين التقليديين والمتغربين وبين الريف والمدن ما يحول دون ظهور أي وعي جماعي لهؤلاء السكان، هذا بالطبع بالإضافة للأجانب المقيمين من يونانيين وإيطاليين وأوروبيين آخرين. وقد كان يدعم من الناحية العملية تصور كرومر هذا خطاب الحزب الوطني الإسلامي النزعة، والذي كان يسوغ للبريطانيين الحديث عن مناهضي وجودهم في مصر باعتبارهم "متطرفين" مسلمين في استعارة لذات الوصف الذي سبق وأن أطلقوه على أنصار الحركة المهدية في السودان في نهاية القرن التاسع عشر.

إذن كان خطاب التعدد الديني والثقافي تاريخيا جزءا من إستراتيجية الإدارة البريطانية لتبرير استمرارها في حكم مصر رغم افتقاد وجودها العسكري والإداري لأي مسوغ قانوني أو اعتراف أوروبي طيلة الفترة بين ١٨٨٢ و١٩١٤، ومن هنا يمكن فهم نشوء الخطاب الوطني المصري بعد الحرب العالمية الأولى وقد أعلى من قيمة الوحدة على مستوى هوية المصريين من ناحية، وعلى مستوى مواقفهم السياسية المنادية بالاستقلال عن بريطانيا (وعن الدولة العثمانية الآيلة للسقوط وقتذاك، والتي اختفت من الوجود كليا بحلول ١٩٢٤) من ناحية أخرى. وكان منطقيا أن يأتي التأكيد على الوحدة والاصطفاف في سبيل الاستقلال على حساب أي اعتراف ناهيك عن الاحتفاء بالتعدد سواء على مستوى الهويات دون القومية التي قد تميز مجموعة ما أو منطقة ما أو على مستوى المواقف السياسية، ولعل هذا ما يفسر رفض سعد زغلول باستمرار بعد صدور دستور ١٩٢٣ لاعتبار الوفد حزبا سياسيا كغيره من الأحزاب، مثل الأحرار الدستوريين والحزب الوطني، وتأكيده على أن الوفد هو وكيل الأمة بما لا يدع مسوغا لقبول التعددية الحزبية أو التنافس السياسي.

وكما يبين أحمد عبد الله فثمة استمرارية ما في جزئية التأكيد على الوحدة والضيق بالتعدد بين الناصرية ودولة يوليو من جهة وبين تراث الوفد المصري من جهة أخرى، وإن تحول الالتفاف حول هدف الاستقلال إلى الالتفاف حول دولة ما بعد الاستقلال في المرحلة التالية على ١٩٥٢.

كانت دولة يوليو امتدادا لتراث الحركة الوطنية في الضيق بالتعدد والتأسيس للنضال الوطني من منطلقات الأحادية، وإن كانت لا تمثل امتدادا للوفد المعروف بدستوريته وبرلمانيته ـ اهم معلم للحركة الوطنية السابقة على يوليو ١٩٥٢ ـ بقدر ما كانت امتدادا للجناح السلطوي من الحركة الوطنية، والذي جمع بين العداء للدستور والبرلمانية الذي ميز حركات مثل مصر الفتاة والإخوان المسلمين منذ الثلاثينيات، والذين دارت أطروحاتهم حول صيغ شمولية إسلامية أو قومية مصرية أو خليط من الاثنين، كما أنه طالما ميز موقف السراي من الوفد ودستور ١٩٢٣ والبرلمان، وليس من قبيل الصدفة أن التيارات المعادية للجناح الدستوري من الحركة الوطنية قد وجدت فرصا للتحالف مع القصر الملكي في مراحل متعددة، وإن كان انفصام عرى التحالف هو المصير الأغلب.

مع حسم أزمة ١٩٥٤ لصالح الجناح السلطوي في الضباط الأحرار انتقلت تصورات وكالة الأمة المصرية من الوفد للدولة التي كان يمثلها الجيش في تلك الفترة، وكما رأي شريف يونس في كتابه نداء الشعب فإن انتصار ذلك الجناح على خصومه جميعا وخاصة الوفد والتعددية الحزبية التي كان يكفلها دستور ١٩٢٣، والانتقال إلى إدعاء التماثل بين الدولة المصرية حديثة العهد بالاستقلال وبين الشعب المصري الملتف حولها والمتوحد حول أهداف الاستقلال والنهضة الوطنية كان تحققا فعليا لأحلام القصر الملكي منذ العشرينيات، والذي شهد محاولات متعددة ومتكررة طيلة حكم الملك فؤاد ثم فاروق لإيجاد صيغة تواصل مباشرة مع الجماهير تحجب عن الوفد شعبيته وشرعيته، وتجعل من الملك رئيس الدولة وممثل الإجماع الوطني في الوقت ذاته، وقد فشلت محاولات الملك فؤاد المتكررة في إنشاء أحزاب قصر تحظى بأي شعبية بدءا من حزب الاتحاد وانتهاء بحزب الشعب كما فشل فاروق من بعده خاصة مع انهيار تحالف السراي مع الإخوان ومصر الفتاة (وامتدادها في الحزب الاشتراكي) في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات.

ويرى شريف يونس أن صيغة ١٩٥٤ والتأسيس لدولة يوليو وللنظام الناصري على وجه الخصوص كان انتصارا لإستراتيجية السراي وإن حل فيها الجيش كمؤسسة ممثلة للدولة محل الملك، وحلت بمقتضاها الجمهورية محل الملكية في ١٩٥٣،[3] ولكن تكمن الاستمرارية في محاولات إيجاد نوع من التماهي بين الدولة والشعب من خلال تنظيمات الحزب الواحد بدءا من هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومي وانتهاءا بالاتحاد الاشتراكي، وإن كان أهم تجليها كان زعامة جمال عبد الناصر باعتبارها حبيب الملايين وممثل الجماهير الساعية نحو الاستقلال الوطني ثم النهوض الاقتصادي والاجتماعي ومناهضة الإمبريالية والصهيونية.

بيد أنه خلافا للتنظيمات المناهضة للوفد كمصر الفتاة والإخوان فإن نظام يوليو كان نتيجة لانقلاب من داخل أهم مؤسسة في الدولة المصرية وقتذاك ـ والآن ـ ممثلة في القوات المسلحة، ومن ثم كان المشروع السياسي معبرا عن هذه الدولة الآخذة في التشكل مع إجلاء البريطانيين وتوسع صلاحياتها لتشمل مناح متعددة للحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو ما يفسر تحول المشروع السياسي إلى التأكيد على تماهي الدولة المصرية مع شعبها كما سبقت الإشارة، وإلى البحث عن كيانات وسيطة تصل الدولة هذه بشعبها إما من خلال شخص الزعيم أو من التنظيمات الحزبية المتصلة بالجهاز الإداري والأمني للدولة.

كانت مقتضيات هذا المشروع السلطوي هو إخلاء المجال العام من أي فاعلين مستقلين أيا كان توجههم وإخضاعه في المقابل للإدارة البيروقراطية والأمنية خاصة، وهو ما انطبق على مختلف مناحي الحياة الاجتماعية في مصر منذ منتصف الخمسينيات من المدارس والجامعات إلى الشوارع والمقاهي والمساجد وغيرها من الأحواز التي أخضعت للرقابة ثم للإدارة الأمنية، وبمقتضى هذه الصيغة تم نفي السياسة ـ بمعناها الليبرالي والماركسي ـ من المجال العام، فمن وجهة النظر الليبرالية السياسة هي السماح بتعدد تمثيل المصالح وتنافسها بغية تحقيق الصالح العام، ومن وجهة النظر الماركسية فالسياسة هي الصراع بين ممثلي المصالح الطبقية المتضاربة، وفي كلتا الحالتين لم يكن للسياسة مكان في ظل دولة يوليو إذ أن البديل الذي تأسست عليه شرعية النظام وممارساته للحكم والسلطة كان الاصطفاف والوحدة، والتي تحولت من ائتلاف المصريين جميعا في الهوية والهدف كما كان الحال بعد ثورة ١٩١٩ إلى تماهي المصريين مع الدولة والتفافهم حولها، ولعل نفي السياسة هو الملمح الذي استمر بعد انتهاء فترة حكم عبد الناصر (١٩٥٤ـ١٩٧١) رغم التغيرات الكبيرة وربما الجذرية التي شهدتها السياسات الخارجية والاقتصادية، ما يجعل فترات حكم السادات ومبارك امتدادا مؤسسيا لنظام يوليو الناصري، وإن اختلفت القرارات والسياسات والتوجهات اختلافا كبيرا. وذلك على نحو يبرز نفاذ تحليل غالي شكري في كتابه الهام "الثورة المضادة في مصر" عندما تتبع سياسات الانفتاح الاقتصادي والتحول نحو الكتلة الغربية والسلام مع إسرائيل في عهد الرئيس السادات إلى الجناح اليميني في النظام الناصري عوضا عن تصورات الناصريين عن انقلاب ما أحدثه السادات ليأتي بما لم يأت به عبد الناصر من قبل.[4]

يمدنا تراث الوطنية المصرية من بعد التأسيس للجمهورية وحتى اللحظة الراهنة بتصورات وممارسات مؤسسية تفيد بأنه ليست هناك مساحة حقا للنشاط الحر للمواطنين المهتمين بشئون بلادهم العامة، مهما كان ولاؤهم ودرجة تأييدهم للدولة ولقيادتها، فخلافا لغيرهم من المواطنين القانعين بالانضمام لحزب الدولة (حال ما كان موجودا) أو لبعض الشبكات غير الرسمية المرتبطة بها، لتحصيل بعض المزايا والمكاسب فإن هؤلاء يهتمون حقا بمستقبل بلادهم، ويرغبون من هذه الزاوية في التعبير عن هذا والانخراط في نشاط "سياسي" ما بحكم الضرورة ـ كون السياسة في تعريف أرسطو الأولي هي الاهتمام بإدارة الشأن العام بغية الوصول لصالح الجميع، ومما يزيد الأمور تعقيدا أنه في مقابل مصادرة الدولة للسياسة بشتى أشكالها، فإن أجهزتها منذ الاستقلال وحتى اليوم تعمل على تنشئة المواطنين على الولاء للدولة وعلى الوطنية وتشجع على الاهتمام بالشأن العام، وتثني على من يقدمون مصلحة الوطن على مصالحهم الخاصة، وهو ما يحضر بقوة في العديد من الممارسات اليومية بدءا من التعليم الإلزامي ومرورا بالإعلام والتجنيد وفي خطب الجمعة.

وتسلمنا هذه التناقضات إلى مخرج واحد وهو تحول المواطنين الشرفاء هؤلاء إلى مخبرين للدولة يساعدون أجهزتها الأمنية على إدارة المجال العام بتصفيته وتنقيته من أي مظاهر للسياسة، ومن أي إشارة للتعدد الذي يخرج عن تعريف الدولة للهوية الوطنية الجامعة، والتي تضيق بالتعدد والتنوع بحكم التعريف، ويكون المواطن مخبرا هنا لا لأنه يشغل وظيفة أمنية ولا لأنه يتقاضى راتبا عن هذا أو يحقق مصلحة مباشرة إنما يكون هذا هو الطريق الوحيد للانشغال بالشأن العام وللتعبير عن وطنيته. ويتزايد هذا المنحى مع غياب عصر التنظيمات الحزبية التي تضطلع بجهود التعبئة والتلقين كما كان الحال مع تنظيمات الحزب الواحد التي انتهجها نظام عبد الناصر بدءا من هيئة التحرير ومرورا بالاتحاد القومي ثم الاتحاد العربي الاشتراكي، والتي كانت توفر مساحة للمواطنين لممارسة السياسة بالتعبير عن التماهي مع قرارات السلطة من ناحية، بالإضافة إلى الانخراط في إعادة توزيع الموارد من خلال شبكات زبونية بالأساس من ناحية أخرى. وهو ما لم يعد متوفرا اليوم في ضوء غياب أي قنوات أو ترتيبات تقوم بمهام التعبئة أو الحشد أو حتى الوساطة فيما يتعلق بالتوزيع غير الرسمي للموارد كما كان الحال في عصري السادات ومبارك بعد تفكك ما كان للنظام الناصري من تماسك أيديولوجي.

إن المواطن الحريص على الصالح العام إذن هو من يعمل في صمت ويساند جهود الدولة، وعلاوة على الأفعال غير السياسية كالاستمرار في الحياة اليومية والعمل بكد واجتهاد من أجل رفعة الوطن، فإن حيز الفعل السياسي المتاح هو مد يد العون للدولة للتغلب على خصومها من خلال تسليمهم أو الإبلاغ عنهم. ومن هنا جاز نعته بالمخبر العضوي ـ على غرار المثقف العضوي الذي تحدث عنه أنطونيو جرامشي، والذي يقوم بدوره في التوعية والتنظيم من منطلق موقعه الطبقي ـ ذلك أنه يقوم بدوره كمخبر من موقعه الاجتماعي، ومن باب وعيه بمكانه في الجماعة الوطنية، وبدوره كمواطن تجاه الدولة.

- عمرو عدلي

ملاحظة

هوامش

[1] نشرت نسخة مبكرة من هذا المقال في "عالم الكتاب" في فبراير 2015.

[2] أحمد عبد الله رزة: تاريخ مصر بين المنهج العلمي والصراع الحزبي أعمال ندوة: الالتزام والموضوعية في كتابة تاريخ مصر المعاصر ١٩١٩ـ١٩٥٢ القاهرة ١٩٨٧ المحرر أحمد عبد الله رزه، ص ٣٩١.

[3] شريف يونس (2012) نداء الشعب: تاريخ نقدل للأيديولوجيا الناصرية. القاهرة: دار الشروق

[4] غالي شكري (1978) الثورة المضادة في مصر. بيروت: كتاب الأهالي رقم 15

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

9 من الزوار الآن

916812 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق