الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الثقافة الجماهيرية > القضية الفلسطينية حتى النكبة
تعتبر القضية الفلسطينية، القضية المركزية الأولى للعرب والمسلمين، فهي تفوق في أهميتها بقية الأزمات والصراعات الإقليمية الأخرى التي تعصف بالمنطقة، لا لطول مدة الصراع العربي الإسرائيلي منذ أكثر من قرن من الزمان، وليس بسبب موقع فلسطين الاستراتيجي في قلب العالم العربي فحسب، بل وأيضاً لقداستها عند العرب والمسلمين، ولطبيعة التحالف الصهيوني الغربي والقوى الدولية الأخرى الداعمة لوجود دولة إسرائيل، والمنخرطة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في النزاع العربي الإسرائيلي الذي تجذر بقيام دولة إسرائيل عام 1948 مكان فلسطين التاريخية، ومنذ هذا التاريخ أصبحت هذه الدولة لا تشكل تهديداً لدول المنطقة فحسب، بل أصبحت تشكل مصدراً دائماً لتهديد السلم والأمن الدوليين.
ولا يقل أهمية عن هذا، هو ذلك التزوير والتحريف والتشويه منقطع النظير الذي تعرض له تاريخ فلسطين وشعبها وقضيتها من قبل قادة إسرائيل والحركة الصهيونية الذين تمكنوا- في الغرب على الأقل- من خلق رأي عام ووعي جمعي غربي قائم على تقبل دولة إسرائيل المعاصرة باعتبارها ما هي "إلا إعادة بناء" لدولة إسرائيل التاريخية، ومن أن يهود العالم الحاليين، ما هم إلا امتداد طبيعي لشعب إسرائيل التوراتية، حتى غدا بشكل عام "مجموع التاريخ الغربي لإسرائيل والإسرائيليين يستند إلى قصص من العهد القديم من صنع الخيال" ، بهدف تجريد الفلسطينيين من ماضيهم وأرضهم وطمس تاريخهم وحقهم في فلسطين لصالح دولة إسرائيل . كما ونجحت الدعاية الصهيونية الماضية في إسكات التاريخ الفلسطيني، من خلال ترسيخ (القصة التوراتية عن جالوت وداود) صورة داود في ذهنية المواطن الغربي- كرمز لإسرائيل الديمقراطية والضعيفة المظلومة والمحاطة بدكتاتوريات معادية- داود الذي يستخدم ذكاءه ومهارته في هزيمة عدوه جالوت العربي الظالم والمعتدي، والذي يتسم بضخامة الحجم وكثرة السلاح، ولكنه لا يستخدم عقله فيمنى بالهزيمة .
إن تفسير نشوء دولة إسرائيل الحالية، التي انبثقت من رحمها القضية الفلسطينية وأزمة الشرق الأوسط، يستوجب منا الرجوع إلى جذور هذه الدولة في التاريخ الفلسطيني القديم، ودراسة وتحليل المبررات والحجج التي تسوقها الحركة الصهيونية لإقناع العالم بأحقية اليهود في فلسطين. ولذلك سوف نحاول في الجزء الأول من هذا الكتاب الإجابة على الأسئلة التالية:
1- لمن فلسطين ومن هم أصحابها الحقيقيون ؟
2- ما هي أهم المبررات الصهيونية لقيام دولة إسرائيل وكيف يمكن تفنيدها ؟
3- ما هو دور العوامل الذاتية (الصهيونية) والموضوعية (الاستعمار) في قيام دولة إسرائيل؟
4- ما هو الدور الفلسطيني والعربي في منع قيام هذه الدولة؟
فبخصوص تفسير نشأة دولة إسرائيل هناك فكرتان (فرضيتان) متناقضتان تماماً، الفكرة الأولى تمثلها دولة إسرائيل والحركة الصهيونية والمتعاطفين معها من الكتاب والمؤرخين الغربيين بشكل خاص. أنصار وأتباع هذه الفكرة ينطلقون من فرضية مفادها أن دولة إسرائيل جاءت تحقيقاً لنبوءات دينية توراتية وتمثلت بالعودة اليهودية إلى الأرض المقدسة (أرض الميعاد, أرض الآباء والأجداد)، الأرض التي وعد الله بها اليهود وذلك إنقاذاً لليهود المضطهدين في كل أنحاء العالم وإيوائهم في فلسطين. وبعد صدور وعد بلفور عام 1917 عزز أنصار المشروع الصهيوني فرضية الحقوق الدينية والتاريخية لليهود في فلسطين بفرضية الحق القانوني استناداً إلى وعد بلفور وقرار التقسيم وبقية قرارات الأمم المتحدة التي تعترف بدولة إسرائيل.
وعلى النقيض من ذلك تقف الفكرة الثانية التي يمثلها العرب والمسلمون والمتفهمون في الغرب للحقائق التاريخية المتعلقة بالقضية الفلسطينية والمتحررون من الهيمنة الصهيونية على كتابة تاريخ فلسطين القديم، ينطلق هؤلاء من أن قيام دولة إسرائيل، ما هو إلا عبارة عن مشروع استعماري خلقته الدول الاستعمارية الغربية، واستغلت به اليهود من أجل تنفيذه، ليس حباً باليهود ولا تنفيذاً لوعود ربانية أو لأسباب إنسانية، وإنما بهدف تحقيق المصالح الاستعمارية وتجزئة الوطن العربي ومنعه من الوحدة والتطور،استغل فيه الغرب الدين والأخلاق والإنسانية لإخفاء هذه المصالح.
في ضوء ما تقدم سوف نحاول في البداية إلقاء الضوء على الوجود الفلسطيني والإسرائيلي في أرض كنعان ومن ثم استعراض أهم المبررات الأساسية لقيام دولة إسرائيل والتي بدونها يكون من الصعب على المرء فهم العديد من مظاهر هذا الصراع, ولعل أهمها يتمثل بشكل أساسي في أسطورة الحقوق الدينية والتاريخية والأخلاقية لليهود في فلسطين.
فلسطين عبر العصور
الوجود الفلسطيني والإسرائيلي في أرض كنعان
لقد شهد القرن الثالث عشر ق.م تغيراً في القوى السياسية في المنطقة بسبب الحروب والصراعات الكنعانية المصرية المتواصلة، التي أنهكت الكنعانيين وأضعفتهم، مما مكن الفلسطينيون* وبنو إسرائيل** في وقت متزامن من احتلال أجزاء كبيرة من بلاد كنعان.
الفلسطينيون القادمون من جزيرة كريت في بحر إيجة هاجموا بلاد كنعان من جهة الغرب وسيطروا على الساحل الغربي من الكرمل وحتى الصحراء وأطلقوا اسمهم عليه فأصبح هذا الجزء من أرض كنعان يدعى فلسطين، أما بنو إسرائيل الذين بدئوا رحلة التيه مع النبي موسى عام 1227 ق.م واستمرت أربعين سنة, تمكنوا بعد وفاة النبي موسى في الأردن من غزوا فلسطين من جهة الشرق بقيادة يوشع بن نون، واحتلوا معظم جنوب فلسطين، بعد أن احتلوا أريحا وقتلوا من فيها وأحرقوها سنة 1186ق.م وبذلك تكون أرض كنعان خضعت لسيطرة الأقوام الثلاثة، وبعد قرنين من احتلال أريحا تمكن الملك داود من احتلال يبوس (القدس) واتخذها عاصمة لمملكته (1016ق.م – 976ق.م) ثم تولاها من بعد موته ابنه سليمان (796ق.م -936ق.م). والمهم هنا أن مملكة داود لم تنشأ من خلال التغلغل السلمي(Peaceful infiltration (وليس من خلال ثورة داخلية كما تحاول بعض الدراسات الصهيونية الترويج لذلك,وإنما من خلال غزو الأرض(conquest)وبالقوة.
أما العلاقات بين الإسرائيليين والفلسطينيين فقد اتسمت بشكل عام في أغلبها بالصراعات والنزاعات المتواصلة مع بعضهم البعض على السيطرة والنفوذ، وهذه الصراعات هي ما ميزت بشكل خاص التاريخ الفلسطيني القديم مع بني إسرائيل، ومن أبرز معاركهم كانت المعركة الأولى التي عرفت بمعركة أفيق (رأس العين) التي انكسر فيها بنو إسرائيل وخسروا ثلاثين ألفاً كما تروي التوراة واستولوا على تابوت العهد*. وبسبب النزاع الداخلي بين اليهود أنفسهم وتحديداً بين شاول (أول ملوك بني إسرائيل) وبين داود, لجأ الأخير إلى الملك الفلسطيني أخيش ملك جت، طالباً منه الحماية من شاول ومبدياً استعداداً ليقاتل مع الفلسطينيين ضد شاول وأبناء قومه ، لكن داود الذي تولى الملك وقيادة الجيش بعد موت شاول انقلب على الفلسطينيين وتمكن من إخضاعهم بالقوة العسكرية تحت سيطرته . ومع أن المملكة اليهودية بلغت ذروة اتساعها في عهد داود، إلا أنها لم تتمكن في يوم من الأيام من بسط سيطرتها على كامل فلسطين, لقد ظلت منطقة الساحل الفلسطيني من شمال يافا وحتى جنوب غزة، خاضعة لمصر , رغم استمرار السيطرة على الفلسطينيين في عهد مملكة سليمان,التي انقسمت بعد موته إلى مملكتين، مملكة في الشمال ومملكة في الجنوب،المملكة الشمالية عرفت باسم مملكة إسرائيل (931 ق.م - 724ق. م) وكانت عاصمتها شكيم (نابلس) وكان القسم الأكبر من سكانها من عبدة الأوثان وليسوا من اليهود . لقد تعرضت هذه المملكة إلى الاحتلال على يد الأشوريين الذين سبوا قسماً كبيراً من أبنائها، وهو ما عرف باسم" السبي الصغير".
أما المملكة الجنوبية التي عرفت باسم مملكة يهودا *(931ق.م – 586ق.م)، وكانت عاصمتها القدس (أورشليم) فقضى عليها البابليون بقيادة نبوخذ نصر، الذي دمر القدس والهيكل وسبى العديد من أبنائها وساقهم إلى بابل، وهذا ما عرف باسم "السبي الكبير"، وبذلك أصبحت فلسطين ولاية كلدانيه (بابلية).
وبعد أن احتل كورش الفارسي بابل عام 533 ق.م.أصبحت فلسطين جزءاً من إمبراطوريته، فحرر اليهود من العبودية، وسمح لمن أراد منهم بالإقامة في فلسطين، فعاد حوالي 40 ألفاً، بينما فضل أكثرهم البقاء في بابل .
وفي عام (332 ق.م) تمكن الاسكندر المقدوني من إنهاء الحكم الفارسي في فلسطين وبلاد الشام، واستبدله بالحكم اليوناني الذي استمر نحو ثلاثة قرون (332ق.م – 63ق.م) وعندما فرض اليونان ثقافتهم وآدابهم وحضارتهم على اليهود انقسموا إلى قسمين، قسم تبنى حضارة اليونان الراقية، وقسم تعصب للديانة والتقاليد اليهودية، وثار على اضطهاد اليونان لهم بقيادة العائلة المكابيه عام 167ق.م., وسرعان ما تحول حكم المكابيين من ثائرين على الظلم والاضطهاد اليوناني إلى قوة مضطهدة للشعوب ، التي كانت تسكن في فلسطين، وتفرض عليهم بالقوة الدين اليهودي وذلك في الفترة الزمنية ما بين 102-76ق.م ، مما دفع العرب الأنباط الذين كانوا يسيطرون على جنوب فلسطين إلى خوض عدة معارك ضدهم، كانت الغلبة في معظمها للأنباط .
ومع احتلال الرومان بقيادة بومبي فلسطين ودخولهم القدس سنة 63ق.م. انتهت سيطرة العرب الأنباط واليونانيين واليهود على فلسطين، لكن اليهود الذين أعفاهم الرومان من عبادة الإمبراطور وخدمة الجيش ومنحوهم الحق في السيطرة على محاكمهم الخاصة، ثاروا على الرومان، مما أدى إلى سحق ثورتهم عام 70م بقيادة القائد الروماني تيطس، إلا أن القضاء النهائي عليهم والذي أنهى صلتهم التاريخية بفلسطين كلياً كان على يد هدريان عام 135م، والذي منعهم من دخول مدينة القدس أو الاقتراب منها ، وأعاد بناءها من جديد وأسماها ايلياكابتولينا. ومن المدن الأخرى التي تم تجديدها في العهد الروماني هي نيا بولس (نابلس) وطيبارية( طبريا) وغيرها،وامتاز عهدهم أيضا ببناء العديد من الهياكل والمعابد والحصون والقلاع وغيرها.
وعندما انقسمت الإمبراطورية الرومانية في أواخر القرن الرابع للميلاد إلى إمبراطوريتين شرقية وغربية، خضعت فلسطين لسيطرة الإمبراطورية الرومانية الشرقية البيزنطية (395-636). وفي العهد البيزنطي عمم الرومان الاسم التاريخي "فلسطين"، الذي كان يطلق على الساحل الغربي من أرض كنعان، على جميع البلاد ، فأصبحت بذلك تسمى جميع القبائل والقوميات المختلفة التي كانت تسكن في فلسطين بغض النظر عن دياناتهم وانتماءاتهم العرقية, ب"الفلسطينيين"، وهذا لا يعني بتاتاً أن جميع سكان فلسطين هم من الفلسطينيين القادمين من جزيرة كريت.ولما انتهى العهد الروماني البيزنطي في القرن السابع الميلادي على يد الفتوحات العربية الإسلامية أصبحت فلسطين جزءاً لا يتجزأ من الدولة العربية الإسلامية.
مبررات نشوء دولة إسرائيل
أسطورة الحقوق الدينية لليهود في فلسطين:
الوعود التوراتية لليهود في ملكية فلسطين
تستند الرواية الصهيونية في كتابة تاريخ فلسطين القديم إلى نصوص توراتية من العهد القديم تزعم حق بني إسرائيل لوحدهم في الأرض المقدسة أي فلسطين ، من أجل إيجاد سند ملكية لامتلاك الأرض الفلسطينية وبالتالي لتبرير شرعية دولة إسرائيل المعاصرة.
من أهم النصوص التوراتية التي يتم الاعتماد عليها لتبرير مقولة "الوعد الإلهي" لليهود في فلسطين هي:
أن الله سبحانه وتعالى خاطب إبرام (إبراهيم) وهو واقف على تلة ما في أرض كنعان (فلسطين) قائلاً: "... ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد" .
وفي سفر التكوين أيضاً نجد آية تقول "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" .
وعندما أصبح إبراهيم في التاسعة والتسعين من عمره تقول التوراة أن الله قطع على نفسه عهداً مع إبراهيم قال له فيه "وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أجيالهم عهداً أبدياً.... وأعطيها لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً. وأكون إلههم" .
وفي داخل التوراة نجد أن هذه الوعود تكررت أيضاً إلى إسحاق ويعقوب عليهما السلام فعندما كان يعقوب ذاهباً من بئر السبع إلى حاران، غابت الشمس فنام إلى جانب الطريق، وخاطبه الرب وهو نائم قائلا "الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك، ويكون نسلك كتراب الأرض، وتمتد غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً، ويتبارك فيك وفي نسلك جميع قبائل الأرض" .
وفي سفر التثنية تقول التوراة "كل مكان تدوسه بطون أقدامكم يكون لكم، من البرية والنبات، من النهر الكبير نهر الفرات إلى البحر الغربي يكون تخمكم، لا يقف إنسان في وجهكم، الرب إلهكم يجعل خشيتكم ورعبكم على كل الأرض التي تدوسونها كما كلمكم" .
واستناداً إلى هذه الآيات وغيرها من التوراة يردد قادة إسرائيل باستمرار "حقهم الإلهي" بملكية فلسطين لوحدهم باعتبارهم شعب الله المختار، وذلك لتبرير نزع حق ملكية السكان الأصليين العرب بفلسطين. وفي هذا السياق تقول رئيسة وزراء إسرائيل السابقة غولدامئير: "لقد وجدت هذه البلاد باعتبارها تنفيذاً لوعد صادر من الله ذاته، ومن المثير للضحك أن يطلب منه بيانات على شرعية ذلك" .
ومن جانبه صرح موشيه دايان ذات يوم "بما أننا نملك التوراة، ونعتبر أنفسنا شعب التوراة، لا بد أن نملك كذلك الأرض التوراتية، وأرض القضاة والحاخامين والقدس والهبرون وأريحا، ومناطق أخرى أيضاً" . وأثناء وجوده في أوسلو صرح أيضاً رئيس وزراء إسرائيل السابق مناحيم بيغن "إن هذه الأرض قد وعدنا بها ولنا الحق عليها" .
تفنيد الوعود الدينية لليهود في فلسطين
من أجل دحض المزاعم الصهيونية في "الحق الديني" لليهود في ملكية فلسطين استناداً إلى الوعود التوراتية السابقة، نطرح عدة تساؤلات:
1. لمن أعطيت هذه الوعود الدينية وهل تشمل العرب؟
2. ما هي حدود هذه الأرض الموعودة؟
3. هل كانت تلك الوعود مشروطة؟
الكثير من المؤرخين والمؤلفين وأساتذة العهد القديم من اليهود وغيرهم من رجال الكنيسة ، فندوا النصوص والنبوءات التوراتية التي تستخدمها الحركة الصهيونية كمبرر ديني لقيام دولة إسرائيل عام 1948 وأثبتوا انه لا يوجد في "العهد القديم" ولا في" العهد الجديد" أصل لهذه الوعود الدينية في حق بني إسرائيل لوحدهم في ملكية الأرض .
فالقراءة غير المسيسة لهذه الوعود تثبت لنا أن كلمة "لنسلك" تعني العرب أيضاً من مسيحيين ومسلمين، باعتبارهم من نسل إسماعيل، الابن الأكبر لإبراهيم. التوراة نفسها تؤكد على هذه الحقيقة في سفر التكوين الذي فيه ذكر للقبائل العربية، التي يعتبر إسماعيل جداً لها، وأن الله سوف يجعل من نسله أمه. "ورأت سارة ابن هاجر المصرية الذي ولدته لإبراهيم يمزح فقالت لإبراهيم اطرد هذه الجارية وابنها. لأن ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق. فقبح جداً في عيني إبراهيم لسبب ابنه. فقال الله لإبراهيم لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها. لأنه إسحاق يدعى لك نسل وابن الجارية أيضاً سأجعله أمةً لأنه نسلك" .
وإذا أخذنا هذه الوعود بأرض كنعان بحرفيتها وعلى عواهنها، وكأنها غير مزورة وغير محرفة، نجد أنها أعطيت لإبراهيم عندما كان ابنه إسماعيل مولوداً، ابنه الثاني إسحاق من زوجته الثانية سارة لم يكن مولوداً بعد.
كما ويمكن أيضاً تفنيد "الحجة الدينية" للحركة الصهيونية وإثبات خرافتها استناداً إلى عدة عوامل إضافية أخرى:
أولها: أن يهود العالم الحاليين لا يشكلون أمة مستقلة تنحدر من سلالة إبراهيم: فكون الشخص يهودياً لا يعني بتاتاً أنه من أصل سام وأنه منحدر من صلب إبراهيم حتى يشمله هذا الوعد الديني. لقد برهن العديد من مشاهير علماء الدين والأجناس والسلالات ، سخف هذا الإدعاء وخرافة الجنس اليهودي النقي.لقد توصلوا إلى ذلك استنادا إلى حقيقة اختلاط اليهود مع الأجناس والقوميات الأخرى لأكثر من 2000عام من التاريخ وذلك من خلال الزيجات المختلطة التي تمت بين اليهود وغير اليهود ، ومن خلال اعتناق الديانة اليهودية من قبل سلالات وقوميات روسية وقوقازية وغيرها. ومن الأمثلة التي تقدم بهذا الخصوص اعتناق ملك الخزر بولان عام 740م مع الكثير من نبلائه وأبناء مملكته للديانة اليهودية،إضافة إلى يهود مالابار السود والفلاشه الإثيوبيين . وهذا ما يظهر جلياً في أشكالهم الخارجية المختلفة وفي طبيعتهم البيولوجية وفي لون البشرة والأعين وفي تنوع الموروثات وفي شكل الجبهة والجمجمة وغيرها من المظاهر الدالة على اختلافهم عن أية صفة من صفات الساميين .
ومما يدلل أيضا على أن اليهود الحاليين لا يشكلون أمة مستقلة هو عدم انطباق أية نظرية من نظريات القومية على اليهود تمام الانطباق. فاليهود لا يشتركون في أهم العناصر المكونة للأمة والتي تتمثل بالدرجة الأولى في"وحدة التاريخ المشترك" في أهم صفحاته, وفي "وحدة اللغة" واللتان تعدان من أهم مقومات الأمة(القومية) الواحدة, التي تتميز بهما عن غيرها من الأمم. فاللغة تعتبر من أهم الروابط المعنوية التي تربط الفرد بغيره من بني البشر. فيهود العالم الذين يأتون الى إسرائيل لا يعرفون اللغة العبرية,فهي ليست لغة الأم لهم, فهم يتعلمونها كلغة أجنبية.لقد فقدوها قبل أكثر من ألفي عام وتبنوا لغات أوطانهم الأصلية, ومن يفقد لغته يفقد هويته القومية وثقافته وتاريخه المشترك مع أبناء قومه,باعتبار أن اللغة ليست فقط للتخاطب وللتفاهم فقط,بل هي"الوعاء الذي تتشكل به,وتحفظ فيه,وتنتقل بواسطته أفكار الشعب",]وذاكرته وآدابه وتاريخه وفنونه, فاللغة القومية هي[ "بمنزلة مكمن القلب والروح للأمة" , فبها تتميز الأمم عن بعضها البعض.وإذا حاولنا أيضا تطبيق النظرية الستالينية الماركسية بخصوص الأمة والتي "تشترط إضافة الى ما تقدم وجود عنصر "الحياة الاقتصادية المشتركة"لدى أفراد الجماعات البشرية على يهود العالم,لوجدنا أن هذا العنصر أيضا غير متوفر عندهم.
ثانيهما: وجود مجموعات دينية يهودية تنكر الوعد الإلهي،وحق إسرائيل في الوجود استنادا إلى وعود دينية توراتية:فالجماعة الدينية اليهودية الأرثوذكسية,جماعة ناطوري كارتا(Netora Karta) (نواطير المدينة أو حراس المدينة) التي يوجد أغلب أتباعها في مدينة القدس ولندن ونيويورك لا يعترفون بدولة إسرائيل ولا بالمزاعم الدينية التي ساقتها الحركة الصهيونية لإيجاد مبرر أخلاقي وديني لدولة إسرائيل، فدولة إسرائيل والصهيونية بالنسبة إليهم معادية إلى الدين اليهودي,ولذا فهم يطالبون بإنهاء سلمي لدولة إسرائيل .
ثالثهما: الإدعاءات الدينية ليس لها مرجعية قانونية دولية: القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة لا يقران لأية مجموعة بشرية أو أمة بالحق القانوني في امتلاك الأرض وقيام الدولة عليها اعتمادا على نصوص وآيات دينية من الكتب المقدسة.
أما بخصوص السؤال الثاني بشأن حدود الأرض، فقد تبين معنا من خلال استعراض الآيات السابقة أن حدود الأرض لم تكن واضحة ومحددة, بل متناقضة ومتضاربة تماماً, فتارة نجد أن الله وعد إسحاق بالأرض التي هو مضطجع عليها, ووعد إبراهيم بالأرض التي يقف عليها, وتارة أخرى نجد أن حدود هذه الأرض قد توسعت وشملت جميع الأرض التي يتمكن إبراهيم من مشاهدتها بالعين المجردة، وتارة ثالثة نجد أنها كما جاءت في سفر التثنية أنها تشمل الأرض من البحر المتوسط غرباً وحتى الفرات شرقاً، ومن النقب جنوباً وحتى لبنان شمالاً، أما إسرائيل في أوسع صورها وحالاتها فإننا نجدها من النيل إلى الفرات.فهذا التناقض في النصوص التوراتية, لا يمكن له أن يكون تنزيلا إلهيا, وإنما عملا من صنع البشر أدخل على التوراة فأفقدها صدقيتها, فلا يجوز الاعتداد بها.
وللإجابة على السؤال الثالث، هل كانت الوعود مشروطة؟ نقول بإيجاز نعم لقد كانت هذه الوعود الربانية مشروطة، ولم يسبق لله أن أعطى وعوداً بالتملك دون شروط، لقد اشترط الله على اليهود الطاعة والاستقامة والالتزام بالوصايا التي نزلت على النبي موسى,وبما أنهم عصوا وارتدوا عن دين الله أكد الدكتور الفرد جلوم(Alfred Guillaume),أستاذ دراسات العهد القديم على إلغاء هذه الآيات قائلا أنه بات" من الواضح أن الوعود الإلهية إلى أولئك الأنبياء قد ألغيت بسبب ردة الأمة]اليهود[عن الدين" .
أسطورة الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين
مضمون أسطورة الحقوق التاريخية
تربط الحركة الصهيونية في دعايتها بين أسطورة "الحقوق الدينية" لليهود في فلسطين، وبين أسطورة "الحقوق التاريخية" لهم فيها، وتتم عملية الربط هذه استناداً إلى التوراة أيضاً باعتبارها ليس كتاب دين فقط، بل كتاب تاريخ أيضاً، تمت قراءته بصورة سياسية وانتقائية خدمة لأهداف الحركة الصهيونية، التي زعمت أن الأسبقية التاريخية في فلسطين تعود لليهود،وليس للعرب ومن أنهم أول من شيد فيها حضارة مزدهرة ومتطورة فاقت في أهميتها حضارات الأقوام السابقة, وأقاموا فيها مملكة داود وسليمان ثم مملكتين إسرائيليتين منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة. ولتبرير الاستيلاء على الأرض وطرد سكانها الفلسطينيين منها عززت الحركة الصهيونية الأسطورة التاريخية باختلاقها بشكل مناف للحقيقة أسطورة "العرق اليهودي النقي" والحنين التاريخي الدائم لليهود بالعودة إلى أرض الآباء والأجداد (فلسطين)، التي وصفتها بالصحراء القاحلة والأرض الخالية من السكان , انطلاقاً من الصيغة المشهورة لإسرائيل زانغويل (Israel Zanqwill) "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" . ولا تقل سخافة عن هذه الأكاذيب الصهيونية ,تلك الخرافة , التي صورت حنين اليهود الدائم إلى الوطن هو الذي دفعهم للهجرة إلى فلسطين.
في الواقع لم تأت موجات الهجرة اليهودية الحديثة إلى فلسطين, بسبب الدوافع الدينية, ولا بسبب الدوافع "القومية"ولا حتى بسبب ذلك "الحنين الدائم" المزعوم إلى "أرض الآباء والأجداد", وإنما جاءت بفعل المعاناة والاضطهاد. لكن وحتى تكتمل هذه المزاعم وتضفي عليها طابع من المصداقية, ادعت الحركة الصهيونية أن سكان فلسطين من العرب، ليسوا هم أول من سكن في فلسطين، وإنما جاءوا متأخرين مع الفتوحات العربية الإسلامية في القرن السابع الميلادي، ومن أن اليهود هم أصحاب (الحق الطبيعي والتاريخي) بفلسطين. لقد عبر القادة الصهاينة عن هذه المزاعم في أكثر من مناسبة. المذكرة التي قدمتها الحركة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر السلام في باريس عام 1919 أعلنت أن "هذه الأرض ]فلسطين[ هي المقر التاريخي لليهود"، ومن جانبه أكد إعلان قيام دولة إسرائيل في 15/5/1948 على أن إسرائيل قامت "بفضل الحق الطبيعي والتاريخي للشعب اليهودي" .
تفنيد أسطورة الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين
من الحقائق العلمية الثابتة بين المؤرخين –وهذا ما تؤكده أيضاً التوراة نفسها- أن الكنعانيين* هم سكان فلسطين الأصليين (الأوائل)، وهم أول من بنا على أرضها حضارة، وأعطوها اسمهم (أرض كنعان) فأصبحت تشمل فلسطين كلها وقسماً كبيراً من سوريا، وبنوا فيها المدن، مثل أريحا، وأشدود (أسدود) وعكو (عكا) وغزة، والمجدل، ويافي (يافا) ويبوس (القدس) التي بناها اليبوسيون (فرع من القبائل الكنعانية)، وشكيم (نابلس) التي كانت العاصمة الطبيعية لكنعان ، ومن الثابت تاريخياً أيضاً أن الكنعانيين من القبائل السامية التي هاجرت إلى فلسطين من شبه جزيرة العرب ، بلد المنشأ والموطن الأول والطبيعي للعرب، وللشعب السامي الأول أو الأصل لجميع هذه الشعوب والقبائل العربية ، لكن الخلاف يسود بين المؤرخين حول الفترة الزمنية التي جاءوا فيها، فبعضهم يقدرها بحوالي 2500 سنة ق.م، أي حوالي 600 سنة قبل مجيء النبي إبراهيم إلى فلسطين في الفترة الزمنية الواقعة بين 2000 ق.م – 1900 ق.م. أما بعض المؤرخين فيذهب أبعد من ذلك، ويقدرها بحوالي سبعة آلاف سنة قبل ظهور السيد المسيح.
والقضية الجدلية الثانية بين الباحثين هي، هل الكنعانيون ساميون عرب أم ساميون فقط، لكن الثابت تاريخياً أيضاً أن العديد من القبائل العربية كانت قد هاجرت إلى أرض فلسطين قبل الفتح العربي الإسلامي بقرون عديدة ومن قبل مجيء النبي موسى، ومن هؤلاء العرب العمالقة ، أما آخر هذه الهجرات السامية من الجزيرة العربية إلى فلسطين فكانت في القرن السابع الميلادي مع الفتوحات العربية الإسلامية، التي انتشرت في مساحات واسعة امتدت من الهلال الخصيب وحتى المحيط الأطلسي، وتمكن العرب من هدي القسم الأكبر من السكان المحليين، ومن ضمنهم يهود ومسيحيين إلى الإسلام، وامتزجوا بهم وأدخلوا لغتهم العربية عليهم،وبالتالي فإن ظهور العرب في فلسطين في القرن السابع الميلادي كان ظهورا ثقافياً وحضارياً أكثر من كونه عرقياً، إلا أن الحركة الصهيونية والدراسات التاريخية الغربية الواقعة تحت تأثيرها، تجاهلت حقيقة هذا التتابع والتواصل التاريخي للوجود العربي في فلسطين، ودأبت في نفس الوقت على إثبات الحق التاريخي لليهود في فلسطين من خلال اختلاق رواية أصل (Master Story) تفترض أن تاريخ فلسطين لا يمكن فهمه لذاته، وإنما من خلال الوجود اليهودي فيها.
تهدف الحركة الصهيونية من وراء ذلك تجاهل التتابع التاريخي للملكية العربية المتواصلة لفلسطين، واختلاق مكانه أسطورة التتابع العرقي اليهودي والتاريخ المميز لإسرائيل التاريخية استناداً إلى قراءة انتقائية لنصوص توراتية، لا تؤمن الحركة الصهيونية بقيمتها التاريخية، إلا بمقدار ما تنسجم مع رؤيتها، لإيجاد تبرير تاريخي لدولة إسرائيل الحالية في إسرائيل القديمة. إلا أنه من السهولة بمكان استناداً إلى المعطيات والشواهد التاريخية السابقة تفنيد أسطورة الحقوق التاريخية لليهود في فلسطين، ولعل من أهم هذه الشواهد والحقائق التاريخية هي:
1. لا يعتبر التاريخ العبري في فلسطين تاريخاً مميزاً عن تاريخ بقية الإمبراطوريات القديمة التي سيطرت على فلسطين القديمة أو التي سادت في المنطقة، ولم تكن إسرائيل التاريخية ولا التاريخ اليهودي في فلسطين إلا لحظة عابرة في مسيرة التاريخ الحضاري الطويل لفلسطين القديمة، فالأسبقية التاريخية لم تثبت لليهود, فهم ليسوا أول من سكن في فلسطين وليس أول من أقام فيها حضارة متفوقة ومزدهرة، لقد سبقهم الكنعانيون العرب بآلاف السنين، الذين أقاموا فيها حضارة متميزة ومتطورة وبنوا القلاع والحصون والمدن، وأهما مدينة يبوس (القدس) والتي تروي التوراة بخصوصها رواية متناقضة، ففي سفر القضاة الإصحاح الأول (1، 8) تقول التوراة "وحارب بنو يهوذا أورشليم وأخذوها وضربوها بحق السيف، وأشعلوا المدينة بالنار"، بينما ورد عكس ذلك في السفر نفسه (1،21) "وبنو بنيامين لم يطردوا اليبوسيين سكان أورشليم، فسكن اليبوسيون مع بني بنيامين في أورشليم إلى هذا اليوم".
2. المدة الزمنية التي أقام فيها اليهود في فلسطين كانت قصيرة ومتقطعة وعابرة نسبياً، لقد فقد اليهود ارتباطهم المادي والعضوي بفلسطين لمدة تزيد عن العشرين قرناً، وهذه الإقامة الطويلة والمتواصلة خارج فلسطين لا تعطيهم الحق في ملكية فلسطين والسيطرة عليها، فالحق الوحيد لأي شعب في ملكيته لبلده تنبع من المولد والإقامة الدائمة والمتواصلة، وهذا ما ينطبق على شعب فلسطين (السكان الأصليين) الذين لم يخرجوا منها على مر التاريخ أبداً إلا عنوةً ولأول مرة عام 1948 كنتيجة لقيام دولة إسرائيل.
3. الوجود اليهودي في فلسطين كان من خلال الغزو والاحتلال بالحديد والنار مثلهم في ذلك مثل بقية الأقوام والإمبراطوريات التي احتلت فلسطين بالقوة، فالاحتلال والغزو عمل غير قانوني وغير شرعي من منظور القانون الدولي، ولا يعطي المحتل الحق في الملكية والسيادة على الأراضي المحتلة، ولو جاز لنا تبني هذا الإدعاء الصهيوني "بالحقوق التاريخية" لهم بفلسطين, استناداً على احتلالهم لها وإقامة دولة لهم فيها قبل أكثر من 2500 عام, لدخلت الكرة الأرضية بأسرها في الفوضى والبلبلة، وفي حروب ليس لها أول ولا آخر، ولما بقيت دولة واحدة مكانها وفي حدودها الحالية، ولأصبح أيضاً على سبيل المثال من حق الإسبان أن يطالبوا بحقوقهم التاريخية في المكسيك، والعرب في اسبانيا، والإيطاليين بفرنسا، والمصريين القدماء والإغريق والفرس والرومان الذين استقاموا لفترة زمنية أطول من العبرانيين بفلسطين .
4. لم يسيطر اليهود في ظل مملكة داود وسليمان,ولا في ظل مملكة يهودا ومملكة إسرائيل على كامل التراب الفلسطيني، كما ولم تكن أغلبية السكان من اليهود ولا المملكة التي شكلها داود أول "دولة قوية"، وأول كيان محلي مستقل في المنطقة"، كما تزعم الحركة الصهيونية من أجل تدعيم إدعاءاتها في الأرض على أساس الحق التاريخي، فالراويات التوراتية نفسها تؤكد أن مراكز القوى الفلسطينية التي كانت موجودة في فلسطين والتي انتصرت في البداية على إسرائيل، قد دمجت لاحقا بالقوة العسكرية بمملكة داود .
5. اليهودية ليست عرقاً، ويهود العالم ليسوا امتداداً للعبرانيين القدماء، وبالتالي لا يشكلون أمة مستقلة تنحدر من صلب سام، فاليهود الذين عاشوا في البلدان الأخرى طيلة هذه الفترة الزمنية الطويلة اكتسبوا عاداتها وتقاليدها بل وحتى لغتها بعد أن فقدوا لغتهم الأولى، والشعب الذي يفقد لغته ويتبنى لغة أخرى فتصبح لغة الأم لديه, يفقد قوميته، بل ومن الخطأ أيضاً النظر إلى اليهود أنهم يشكلون أمة مستقلة حتى قبل دخولهم فلسطين، فقوم موسى الذين جاءوا مع سيدنا موسى كانوا يتألفون من عدة قوميات، فهم من الجماعات التي احتجت على فرعون وآمنوا بموسى عليه السلام، وممالكهم التي أنشئوها في فلسطين كانت أيضاً متعددة القوميات ومفتوحة على القوميات الأخرى. الحركة الصهيونية التي اخترعت أسطورة "العرق القومي النقي لليهود" على هيئة النموذج القومي المعاصر, أي فكرة الدولة القومية التي سادت في أوروبا في فترة الاستعمار، كانت تهدف من وراء ذلك إلى توحيد يهود العالم لمنحهم حقاً تاريخياً جماعياً بفلسطين استناداً إلى أساطير كاذبة منها "أسطورة الصحراء" و"الأرض الفراغ" الخالية من السكان من أجل تبرير وتشريع الاستيلاء على فلسطين وتشريد أهلها منها.
6. إضافة إلى التاريخ الذي يشهد بوقائعه وأحداثه لصالح حقوق الشعب العربي الفلسطيني في فلسطين، فإن الجغرافيا هي شاهد حي على أحقية الفلسطينيين العرب بوطنهم فلسطين، فمن غير المنطقي أو العلمي أن تكون فلسطين الواقعة في قلب العالم العربي جغرافياً، وليس على تخومه، أرضا غير عربية فكيف يمكن للمرء أن يتصور أن قلبه ليس منه وليس له.
أسطورة الذريعة الأخلاقية
ولما كانت حجة "الحقوق الدينية والتاريخية" لليهود في فلسطين, عاجزة تماما عن تقديم تفسير علمي ومنطقي مقنع لنشأة دولة إسرائيل, كان لابد من تعزيز هذه الحجة بذريعة أخرى, تعطي تفسيرا أخلاقيا وإنسانيا لتبرير شرعية وجودها وسياساتها من جانب, ولمواصلة الدعم الغربي لها ولكن هذه المرة بطريقة أخلاقية من جانب آخر. فكثيراً ما تستخدم الحجة الأخلاقية كأحد أهم المبررات لإيجاد مشروعية لدولة إسرائيل وللحفاظ على وجودها وأمنها.
ولعل أهم هذه الذرائع الأخلاقية هي ذلك التاريخ الطويل من المعاناة اليهودية في الغرب المسيحي على مدار عدة قرون من الزمن ، والتي بلغت ذروتها إبان الحكم النازي (1933-1945)، الذي راح ضحيته حوالي (ستة ملايين يهودي ) حسب المصادر الإسرائيلية والغربية الرسمية المبالغ فيها،إذ ما من شك أن الصهيونية العالمية وإسرائيل ومناصريهما في الغرب يقوموا بتضخيم هذه الأعداد من الضحايا لاستثمارها سياسيا، ويستغلوا ما يسمى بـ "المحرقة اليهودية" آوشفيتز (Auschwitz) والهولوكوست (Holocaust)* و"الإبادة الجماعية" (Genocide)، في إشارة إلى مدى المجازر والجرائم التي ارتكبت بحق اليهود, لتحويلها إلى حدث استثنائي فريد من نوعه، لإضفاء طابع القدسية عليها وكأنها "جزء لا يتجزأ من مشيئة الله" ، التي لا يجوز التشكيك فيها ولا إنكارها أو إخضاعها للبحث العلمي والتاريخي، ولا حتى مقارنتها مع أي جريمة أو مذبحة أخرى حلت بأي شعب آخر عبر التاريخ.
وفي ضوء ذلك ليس من الغريب أن يعلن أحد الخامات اليهود أن "إنشاء دولة إسرائيل هو الرد الإلهي على الهولوكوست" . وبنفس هذا المضمون صرح رئيس وزراء إسرائيل بن غوريون" لقد كانت الوصية الأخيرة للستة ملايين ]يهودي[, الذين قضوا ضحايا النازية، أنهم قدموا الدافع النهائي الذي لا رجعة فيه لإنشاء دولة إسرائيل. وصيتهم كانت: ظلوا أقوياء وسعداء، واضمنوا السلام والأمن, وأبعدوا إلى الأبد شبح هذا الرعب عن الشعب اليهودي" .
إن هذا الترابط بين نشأة دولة إسرائيل والمجازر النازية بحق اليهود في أوروبا لقرون طويلة يسود بشكل واسع في الأوساط الغربية. ففي دراستهما الرصينة حول "اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية" يشير عالما السياسة، جون ميرشايمر وسيتفن وولت (M.Walt John J Mearsheimer & Stephen) إلى هذه العلاقة بقولهما أنه “ما من شك أن اليهود قد عانوا كثيراً جراء إرث اللاسامية الخسيس، وأن خلق إسرائيل كان رداً على سجل طويل من الجرائم... يوفر هذا التاريخ قضية أخلاقية قوية لدعم وجود إسرائيل" . ولهذا فإن القناعة السائدة في الغرب أن اليهود "لا يمكن أن يكونوا في مأمن إلا في وطن يهودي، وأن البعض يعتقد بأن إسرائيل تستحق معاملة خاصة من قبل الولايات المتحدة"، دون أن يتم الالتفات, إلى أن قيام دولة "إسرائيل سنة 1947-1948 انطوى على أعمال تطهير عرقي ضمنية، ومن بينها الإعدامات والمذابح وعمليات الاغتصاب من قبل اليهود" .
وأن هذه الجرائم والمجازر "ارتكبت ضد طرف ثالث بريء في أغلب الأحيان، وهو:الفلسطينيون" . وبالفعل فإنه من الخطأ اعتماد مقولة أن قيام دولة إسرائيل يمكن تبريره أخلاقياً، وأنه كان "رداً إلهياً "على المجازر النازية بحق اليهود. إن هذا الإدعاء خرافة، شأنه في ذلك شأن خرافة المبرر الأيديولوجي المتمثل في "الوعد الإلهي" في التوراة, الذي صورته إسرائيل بأنه "هبة إلهية" لتبرير اغتصابها لفلسطين وطرد سكانها منها من خلال ارتكاب الإرهاب والمذابح والمجازر أمثال مجزرة دير ياسين في9 ابريل/ نيسان 1948، التي ارتكبتها العصابات الصهيونية بحق أبناء شعب فلسطين لقيام الدولة اليهودية.
في الحقيقة, لقد خلق إنشاء دولة إسرائيل كارثة أخلاقية وإنسانية لشعب فلسطين وللمنطقة, تمثلت هذه الكارثة في سلب بلد (فلسطين) بالكامل , وطرد حوالي 900.000 لاجئ فلسطيني من بيوتهم وأراضيهم، وما زالت إسرائيل تمنعهم من ممارسة حقهم في العودة إلى وطنهم رغم العديد من القرارات الدولية التي طالبت إسرائيل بذلك، وعلى رأسها قرار الجمعية العامة رقم (194) الصادر بتاريخ 11/12/1948.
قادة إسرائيل لا ينكرون هذه المجازر ولا هذه الأساليب الوحشية والإرهابية التي لجئوا إليها لقيام دولتهم. رئيس وزراء إسرائيل السابق إسحاق شامير قال علناً أنه "لا أخلاق اليهودية ولا التقاليد اليهودية تستبعد الإرهاب كوسيلة للقتال"، بل أن الإرهاب "له دور كبير يلعبه... في حربنا ضد المحتلين ]البريطانيين[" ، ومن جانبه اعترف رئيس وزراء إسرائيل السابق مناحيم بيغن بأهمية المجاز التي ارتكبتها العصابات الصهيونية لقيام دولة إسرائيل. ففي كتابه: "التمرد قصة الأرغون"قال: "أن دولة إسرائيل ما كانت لتوجد لولا الانتصار في دير ياسين" .
أما بن غوريون فقد قال إلى نحوم جولدمان (Nahum Goldmann) رئيس المؤتمر اليهودي العالمي: "لو كنت زعيماً عربياً لما كنت أتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل أبداً، ذلك طبيعي، فقد أخذنا... بلدهم ونحن ننتمي إلى إسرائيل، ولكن قبل ألفي سنة، وماذا يعني ذلك لهم؟ لقد كانت هنالك لاسامية، ونازيون، وهتلر، واوشفتز، ولكن هل كانت تلك غلطتهم؟ إنهم لا يرون إلا شيئاً واحداً هو أننا جئنا إلى هنا وسرقنا بلدهم، فلماذا ينبغي عليهم أن يقبلوا ذلك؟"
استناداً إلى ما تقدم يتضح معنا أن الجرائم التي ارتكبت بحق اليهود في أوروبا, لا تبرر أخلاقيا إنشاء دولة إسرائيل ولا تبرر أيضا هذا الانحياز الغربي المتواصل لوجود وسياسات هذه الدولة,التي ارتكبت جريمة إنسانية وأخلاقية بحق الشعب الفلسطيني(السكان الأصليين) وشردته من وطنه ومارست بحقه جميع أشكال وأصناف الاضطهاد والتمييز العنصري. فالدعم الأخلاقي يجب أن لا يترتب علية جريمة أخلاقية بحق طرف ثالث,إذا أريد له أن يتمتع بالمصداقية.
فالتستر الأوروبي والأمريكي بالدوافع الأخلاقية لدعم إسرائيل يخفي في حقيقته الأهداف والمصالح الإمبريالية وإلإستعمارية,التي كانت تسعى الدول الاستعمارية الأوروبية قبل وصول هتلر الى الحكم, بل وحتى قبل نشأة الحركة الصهيونية (1897) بعقود خلت الى تحقيقها.هذه الأهداف الغربية في الهيمنة والسيطرة على الوطن العربي ظلت ثابتة دون تغيير, وارتبطت منذ البداية بخلق كيان يهودي في فلسطين يمنع وحدته ويعيق تقدمه وتطوره العلمي والتكنولوجي والصناعي, إلا أن الوسائل والمبررات لتنفيذ هذه المصالح والأهداف هي التي تنوعت وتغيرت مع مرور الزمن.
في الواقع, كما ساهمت ألمانيا النازية بطريقة غير مباشرة في خلق دولة إسرائيل من خلال المجازر النازية (المحرقة) ,التي خدمت أهداف الحركة الصهيونية في تهجير يهود أوروبا إلى فلسطين, وفي تعاطف العالم مع ضحايا النازية,ساهمت ألمانيا الاتحادية من جانبها في تثبيت وجود دولة إسرائيل من خلال دعمها السياسي والاقتصادي ودفع التعويضات المالية إليها. واستنادا إلى هذا الدعم تمكنت إسرائيل من تدعيم احتلالها لفلسطين ومن بناء المستوطنات فيها وتعزيز قدرتها العسكرية ضد الدول العربية.
وفي ضوء ما تقدم بالإمكان الاستنتاج أن اللاسامية خدمت وما زالت تخدم إسرائيل. فمن وراء استخدام "تهمة اللاسامية"وحظر التشكيك في "المحرقة" اليهودية, تسعى إسرائيل والجماعات اليهودية في أوروبا واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف لعل أهمها هي:
1. الحصول على دعم مالي واقتصادي وعسكري متواصل لدولة إسرائيل ولسياساتها تجاه الفلسطينيين ودول المنطقة، لضمان وجودها وتفوقها العسكري النوعي على جميع البلدان العربية.
2. منع قيام تحول شعبي غربي معادي إلى سياسات إسرائيل ومتعاطف مع الفلسطينيين والعرب انطلاقا من معطيات وحقائق علمية وتاريخية مغايرة للروايات الصهيونية.
3. ضمان سيطرتها وهيمنتها مع الجاليات اليهودية على السياسات الغربية تجاه الشرق الأوسط، حتى لا تتعرض إسرائيل إلى ضغوط غربية, تجبر تحت تأثيرها على تقديم تنازلات إقليمية وسياسية للفلسطينيين وللدول العربية.
4. ضمان استمرار الغرب المسيحي في تحمل المسئولية الأخلاقية والأدبية,وشعوره بعقدة الذنب والإدانة تجاه إسرائيل بسبب المجازر النازية والمعاناة اليهودية التاريخية.
5. ضمان استمرار تمتع اليهود في الغرب بوضع خاص ومتميز.
فلسطين عبر أهم العصور
فلسطين في ظل الحكم العربي الإسلامي
شكل ظهور الإسلام في شبه الجزيرة العربية على يد الرسول الأعظم علية الصلاة والسلام مصدر إشعاع فكري، وتحول ثقافي وحضاري، ليس لدول المنطقة فحسب، بل وللعالم بأسره، ففي عهده تم توحيد القبائل العربية في شبه جزيرة العرب، فكانت هذه أول وحدة في التاريخ بين العرب وتحت راية الإسلام، كما وتمكنت الجيوش العربية باسم الإسلام في فترة وجيزة جداً لا تتجاوز العقدين من الزمان من الانتصار على أهم حضارتين عالميتين في تلك الفترة هما: الحضارة الفارسية، والحضارة الرومانية البيزنطية.وتطلع الرسول, إلى ما حول الجزيرة العربية لنشر الدعوة الإسلامية،إذ ألف جيشاً لمواجهة الروم، فكانت معركة مؤتة عام (8هـ/ 629م) أول معركة وقعت بين العرب المسلمين والبيزنطيين الرومان. أما الغزوة الأخيرة التي شارك فيها الرسول فكانت معكرة تبوك، التي تمكن المسلمون من خلالها من بسط نفوذهم على تخوم الشام، وبعد ذلك جهز الرسول أيضاً جيشاً بقيادة أسامة بن زيد بن حارثة لفتح بلاد الشام، في تخوم البلقاء في الأردن والداروم (منطقة جنوب فلسطين حتى البحر الميت) من جنوب فلسطين ، إلا أنه توفي في 12 ربيع أول سنة (11 هـ / 632م) قبل سيره، فأنفذه من بعده الخليفة أبو بكر الصديق، وقد تمكن أسامة بن زيد من تحقيق انتصارات على الروم في الحدود الشرقية للأردن، لكنه عاد لنجدة الخليفة أبو بكر في حروب الردة .
وفي سنة (12هـ/ 633م) أرسل أبو بكر عدة جيوش لفتح بلاد الشام؛ وقد توجه الجيش الأول إلى فلسطين بقيادة عمرو بن العاص، كما توجه الجيش الثاني إلى الشام بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وجيش آخر إلى العراق بقيادة خالد بن الوليد، وعندما كان هرقل ملك الروم قد سمع بواسطة عيونه وجواسيسه بقدوم جيش عمرو بن العاص إلى فلسطين، وأن الخليفة أبو بكر قد أوصاه"عليك بفلسطين وإيليا" ، أرسل جيشاً بقيادة روبيس إلى أجنادين لصد العرب في فلسطين الذي كان يصفها هرقل بأنها "بلد خصب كثير الخير وهي عزنا وجاهنا وتاجنا" ، إلا أن عمرو بن العاص انتصر على الروم في عدة معارك أهمها معركة أجنادين (قرب الخليل) عام (13هـ- 634م) انتصاراً حاسماً مكنته من السيطرة على جنوب فلسطين.
ولما ألف هرقل ملك الروم جيشاً ضخماً لمواجهة المسلمين طلب الخليفة أبو بكر الصديق من خالد بن الوليد بالتوجه بجيشه من العراق إلى الشام، وخاضت الجيوش الإسلامية تحت قيادته حرباً فاصلة في اليرموك (15هـ-636م)، انتهت بانتصار المسلمين على الرومان فاستكملوا بذلك فتح فلسطين وما تبقى من بلاد الشام. أما ايلياء (القدس) التي رفض بطريركها صفرونوس أن يسلمها إلا للخليفة عمر بن الخطاب الذي جاء وتسلمها بنفسه ودخلها مع البطريرك دون قتال في (15هـ/ 636م) وتعهد عمر بن الخطاب في وثيقة الآمان التي عرفت بـ "العهدة العمرية بتوفير الأمن والأمان لسكان ايلياء، وأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
أما مدينة قيسارية الواقعة على الساحل الشمالي بين يافا وحيفا فكانت آخر مدينة تفتح في فلسطين، واختلف المؤرخون فيما بينهم على تاريخ فتحها، فمنهم من قال أنها لم تفتح قبل السنة التاسعة عشرة للهجرة، وقبل العشرين؛ الطبري وابن خلدون قالوا أن فتحها كان على يد معاوية بن أبي سفيان ، أما الواقدي فيروي أنها فتحت على يد عمرو بن العاص ، ويستشهد للتدليل على صحة رأيه في الحوار التاريخي الذي جرى بين قسطنطين بن هرقل قائد جيش الروم وبين عمرو بن العاص "أفصح العرب لساناً"، ومما قاله عمرو: "... وهذه الأرض التي أنتم فيها ليست لكم وهي أرض العمالقة من قبلكم... والعرب كلهم ولد سام وهم قحطان وطسم وجديس وعملاق وهو أبو العمالقة، حيث كانوا في البلاد وهم الجبابرة الذين كانوا بالشام فهذه العرب العاربة لأن لسانهم الذي جبلوا عليه العربية.." .
وفي ضوء الوقائع والأحداث التاريخية السابقة المتعلقة بالفتوحات الإسلامية في بلاد الشام وفلسطين لا بد للباحث الموضوعي، بقطع النظر عن الاعتبارات الاعتقادية أو القومية، سواء كان عربياً أم غير عربي، مسلماً أم غير مسلم، أن يسلم بالحقائق التاريخية التالية المتعلقة بفلسطين:
أولاً: إن سياسة الفتوح الإسلامية، بخلاف غيرها من الفتوحات السابقة (الفارسية واليونانية والرومانية) وبخلاف بنو إسرائيل الذين أباحوا القتل والدمار والخراب والمذابح الجماعية بحق الأقوام الأخرى التي وجدوها في فلسطين، امتازت بالحرص على حقن الدماء، وحماية الصغير والكبير، وأن لا يخونوا أو يغدروا وأن لا يقطعوا شجرة، أو يذبحوا شاة أو يهدموا بيتاً، أو يجبروا أحداً على اعتناق الديانة الإسلامية، لقد ظلت روح التسامح والمحبة وحسن المعاملة هي السياسة التي سادت في الفتوحات الإسلامية؛ أما الحرب فلم تكن إلا الملاذ الأخير للفتوحات الإسلامية، الإسلام فالسلام أولاً، والجزية ثانياً، والحرب ثالثاً.
ثانياً: بخلاف الفتوحات السابقة، استندت الفتوحات العربية الإسلامية إلى بلاد الشام وفلسطين على وجود سابق لموجات من الهجرات العربية التي نزحت من جزيرة العرب قبل ظهور الإسلام بعدة قرون، تارة بسبب القوافل التجارية التي لم تنقطع، ولهذا كانت اللغة العربية مألوفة في جميع سواحل بلاد الشام ، وتارة أخرى عن طريق التسرب التدريجي أو عن طريق الهجرات الجماعية .
أما الاختلاف بين موجات الهجرة البشرية من القبائل العربية التي كانت تنزح إلى بلاد الشام في عصور ما قبل الإسلام، وبين تلك التي جاءت من الجزيرة العربية بعد ظهور الإسلام هو أن الموجات الأولى "كانت تفقد صلاتها مع موطنها الأصلي وتتعرض إلى سلسلة من الأحداث والتطورات تنسيها ماضيها، وتؤدي إلى اندماجها بسكان البلاد التي تستوطنها"، بينما حافظت الموجات الثانية على "صلاتها بمنبعها الأصلي.. وظلت وثيقة الاتصال به من الوجهتين المادية والمعنوية، وفضلا عن ذلك استطاعت أن تنشر لغتها... وانتهت إلى تعريب سكان أقطار واسعة من البلاد المفتوحة تعريباً تاماً" ، فقسم منهم اعتنق العروبة (استعرب) دون أن يعتنق الإسلام، بحكم أن الإسلام لا يجبر البلاد المفتوحة باعتناق الدين، وقسماً آخر ترك ديانته السابقة ( مسيحية كانت أم يهودية أم وثنية) واعتنق الديانة الإسلامية الجديدة.
ومنذ تاريخ الفتح الإسلامي لفلسطين طبعت فلسطين بالطابع العربي والإسلامي المحض، واستمر سكانها من المسلمين العرب والعرب غير المسلمين في التواجد فيها وبملكيتهم لها بشكل متواصل ودون انقطاع لمدة تربو على الأربعة عشر قرناً من الزمان، أي حتى اليوم، وهذا التواجد العربي الإسلامي فاق من حيث مدته الزمنية الطويلة, أو من حيث قوة وتطور الحضارة والثقافة الإسلامية والعربية تواجد أية جماعية بشرية أخرى سبق لها وأن سيطرت على فلسطين وأقامت فيها حضارة.
ثالثاً: الأهمية الدينية لفلسطين والقدس: بفتح فلسطين والقدس يكون الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب قد أوفى بوصية الرسول إلى أسامة بن زيد، ووصية الخليفة الأول أبو بكر الصديق، إلى عمرو بن العاص، والذي قال له فيها "عليك بفلسطين وايلياء", ففلسطين عند كافة المسلمين بحكم القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، وأعمال الصحابة أرضاً مقدسة ومباركة، فهي أرض الإسراء والمعراج، وأرض الرباط، والقدس تعتبر بعد مكة من أقدس بقاع الأرض، ففيها المسجد الأقصى أولى القبلتين، وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، وفيها قبة الصخرة ومسجد عمر بن الخطاب، وفي بداية الدعوة الإسلامية كان بيت المقدس قبلة المسلمين الأولى في الصلاة لمدة ما بين ستة عشر إلى سبعة عشر شهراً، قبل أن يتوجهوا في صلاتهم نحو الكعبة المشرفة.
وقبل هجرته إلى المدينة بعام واحد، أي في سنة (621م) أسري بالرسول علية وسلم من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس الذي بارك الله حوله، ثم عرج منه الرسول إلى السموات العلى، وذلك بعد أن صلى وأم بالأنبياء... وفي ليلة الإسراء فرضت على النبي محمد علية وسلم وعلى المسلمين الصلوات الخمس اليومية، ولواقعة الإسراء والمعراج والتي تمثلت في هذا الرابط الإلهي بين أهم بقعتين في العالم لدى المسلمين، أي بين المسجد الحرام بمكة المكرمة وبين المسجد الأقصى المبارك في بيت المقدس، ومن ثم المعراج إلى السماء، دلالات عظمى على أهمية وقداسة وواجبات المسلمين نحو بيت المقدس والأراضي المباركة (فلسطين) التي بارك الله فيها في القرآن الكريم في خمس مرات .
وعلاوة على ذكرها في القرآن الكريم أعلت السنة النبوية من جانبها في أحاديث عديدة من أهمية المسجد الأقصى وبيت المقدس والمقيمين في بيت المقدس، ولعل من أهمها قول الرسول أنه قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" ، ووصف عليه الصلاة والسلام سكانها المسلمين بالمرابطين وأصحاب حق بقوله "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك قالوا يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس" .
ويجدر بنا أن نسجل أن الأهمية الكبرى لبيت المقدس ومكانتها الدينية لدى المسلمين، تكمن أيضاً في كونها المدينة الوحيدة التي تولى خليفة المسلمين بنفسه فتحها.
وفي ظل الحكم العربي الإسلامي كانت فلسطين جزءاً لا يتجزأ من الدولة الكبرى، خصوصاً في عهد الخلفاء الراشدين, وفي العهد الأموي ظلت فلسطين تابعة لدمشق، وفي العهد العباسي غدت فلسطين ولاية تابعة لهم. وعندما تضعضعت الدولة العباسية في بغداد قامت الدولة الطولونية في مصر فتبعت فلسطين للمصريين (878م) ظلت فلسطين تابعة لمصر في عهد الدولة الإخشيدية، وفي عهد الدولة الفاطمية. وبعد أن قامت الدولة السلجوقية في آسيا الصغرى واستولت على القدس والرملة، قاومتهم الحامية الفاطمية في عسقلان (1071) ثم استردها الفاطميون، وظلت مدينة القدس في يدهم حتى باغتهم الصليبيون .
فلسطين في عهد الحكم الصليبي
التعريف بالحروب الصليبية
الحروب الصليبية هي عبارة عن سلسلة من الحملات العسكرية الأوروبية في القرون الوسطى، التي وصفت في أوروبا بالحرب المقدسة، وأرسلت على المشرق العربي الإسلامي وفلسطين من قبل باباوات وملوك وأمراء أوروبا تحت راية الصليب، وكان الهدف المعلن هو إنقاذ قبر المسيح من "المسلمين الكفرة".
وتكونت هذه الحملات الصليبية من ثماني حملات رئيسية ، إضافة إلى حملات ثانوية أخرى، وامتدت زمنياً حوالي مائتي عام تقريباً، ابتدأت من عام 1095م وانتهت سنة 1291م بخروج الصليبين نهائياً من المنطقة، دون أن يتوقف بعد هذا التاريخ إرسال حملات صليبية أخرى لاسترداد ما فقدوه، إلا أنها باءت جميعها بالفشل ، لكن الصليبيين تمكنوا في الحرب الصليبية الأولى (1095-1099م) من دخول فلسطين عن طريق الساحل واحتلوا عكا وقيسارية والرملة وبيت لحم. أما القدس فقد تم الاستيلاء عليها من يد الفاطميين بتاريخ 15 تموز/ يوليو 1099م، بعد أن فرضوا عليها حصاراً ابتداء من 7حزيران/ يونيو من نفس العام ، وأقاموا فيها مملكة لاتينية، انتخب على رأسها غوت فريد دو بويون (Gottfried de Bouillon) الذي اتخذ لنفسه لقب "حامي قبر المسيح" لكن حكمه لم يستمر سوى سنة واحدة، استلم الحكم بعده شقيقه بودوان دو بولونيا (Baudouin de Boulogne) والذي اتخذ لنفسه لقب ملك . إضافة إلى المملكة اللاتينية في القدس أسس الصليبيون ثلاث إمارات أخرى في بلاد الشام وهي: إمارة في الرها، إمارة في طرابلس، وإمارة في أنطاكيا.
دوافع الحروب الصليبية
انطلقت الشرارة الأولى للحملات الصليبية من المجمع الديني في كليرمون (Clermont) من جنوب شرق فرنسا، وذلك عندما ألقى البابا الفرنسي الأصل اوربانوس الثاني (Urbain) خطاباً تحريضياً بتاريخ 27 تشرين الثاني/نوفمبر1095 دعا فيه جميع مؤمني الغرب من المسيحيين إلى نجدة مسيحي الشرق وإلى "إنقاذ القدس" وإلى أن ينذروا أنفسهم "لاستعادة الصليب"، وسمي الذين استجابوا لندائه بالصليبيين أو "جنود الله" . ما من شك أن الدعوة إلى الحروب الصليبية جاءت بقرار بابوي وفي مجمع ديني ومن جنوب شرق فرنسا "منطقة معركة بلاط الشهداء" بواتييه (Poitiers)، التي حاول الجيش الإسلامي فيها عام (732) فتح فرنسا، لم تكن مصادفة، وإنما كانت حرب الكنيسة والباباوات الذين استغلوا العامل الديني لاستقطاب الملوك والأمراء والآلاف من الفقراء في ظل موجة عارمة من الحماس الديني، وخصوصاً بعد أن وعدوا من الباباوات والكنيسة بتطهير أنفسهم من الذنوب والمعاصي، إذا توجهوا للحرب وقاتلوا المسلمين، لكن دوافع الحروب الصليبية المتعاقبة عديدة, ولا يمكن حصرها فقط بالعامل الديني, وإنما كانت ثمة عوامل مختلفة تضافرت مع بعضها البعض, وأدت إلى أن تستمر هذه الحروب لمدة قرنين لعل أهمها :
1. دوافع عقائدية دينية تمثلت في إنقاذ قبر المسيح واحتلال( أرض الكفرة) ونجدة مسيحي الشرق، وإعادة إنشاء مملكة مسيحية في المشرق الإسلامي تابعة للبابوية، وبهذه الدوافع الدينية اندفع المجرمون والمخطئون وأبناء الطبقة الدنيا للمشاركة في الحرب من أجل التكفير عن ذنوبهم وخطاياهم للحصول على السعادة والراحة النفسية وللتخلص من البؤس والشقاء من جانب, ولنصرة أخوانهم مسيحي الشرق من جانب آخر.
2. دوافع امبريالية استعمارية: تمثلت في طموح الملوك والأمراء والقادة العسكريين في انتزاع إمارات لهم في الشرق، ورغبة التجار بالربح وبالأسواق التي من الممكن أن تفتح أمامهم، وخصوصا تجار جنوب ايطاليا.
3. حل مشكلة التزايد السكاني في أوروبا الغربية.
4. الحد من الحروب الداخلية بين القوى الأوروبية واستغلال هذه القوى في حروب خارجية.
5. مصالح سياسية ذاتية لدى الباباوات: فبدعوتهم إلى الحروب الصليبية مستخدمين مصطلحات ومفاهيم "الحرب المقدسة" و"الحرب العادلة". كانوا يسعون إلى تعزيز سلطتهم ونفوذهم تجاه الأباطرة الجرمانيين
احتلال بيت المقدس
عندما احتل الصليبيون مدينة القدس – الهدف المعلن لحملاتهم –شرعوا بطريق منظمة وممنهجة بارتكاب إبادة شاملة لجميع سكانها المسلمين واليهود، لم يشهد التاريخ مثالاً لها، باستثناء تلك الإبادة الجماعية التي ارتكبها اليهود في فلسطين عندما احتلوا القدس في عهد داود, وأريحا بقيادة يوشع بن نون.
لقد قدر المؤرخون ضحايا المجزرة الصليبية في القدس بسبعين ألفاً، حيث لم ينج من سكان المدينة أحد سوى ثلاثمائة شخص فقط،( افتخار الدولة الحاكم الفاطمي لمدينة القدس مع حراسه)،وذلك عندما تأكد افتخار الدولة من حتمية سقوط المدينة طلب الصلح والخروج من المدينة مع حراسه إلى عسقلان، فوافق ريموند (Raymond) على ذلك مقابل مبلغ كبير من المال .
لقد وصف المؤرخون المسيحيون هول هذه المجزرة التي ارتكبت عند دخول الصليبيون القدس بقولهم: "لاحق الحجاج ]الصليبيون[ الذين دخلوا القدس المسلمين حتى هيكل سليمان وذبحوهم هناك ]...[ حيث جرت مجزرة رهيبة إلى درجة أن جماعتنا مشوا في الدماء حتى الكاحل]…[ وجاب الصليبيون أنحاء المدينة كلها فنهبوا الذهب والفضة والجياد والبغال وسلبوا المنازل المليئة بالثروات، ثم انطلق جماعتنا سعيدين جداً ويبكون من الفرح، نحو قبر السيد المسيح مخلصنا يعبرون عن عبادتهم ووفاء ما عليهم تجاهه" .
وقال آخرون في المذبحة : "لقد حدث ما هو عجب عندما استولى قومنا الصليبيون على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعض العرب وبقرت بطون بعضهم وقذف بعضهم من أعلى الأسوار وحرق بعضهم في النار، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم... ولم يكتف قومنا الصليبيون الأتقياء بذلك, فعقدوا مؤتمراً أجمعوا فيه على إبادة سكان القدس من المسلمين واليهود وخوارج النصارى الذين كان عددهم ستين ألفا، فأقفوهم عن بكرة أبيهم في ثمانية أيام، ولم يستثنوا منهم امرأة ولا ولداً ولا شيخاً" .وأكد هذه المجازر المؤرخون المسلمون ومنهم ابن الأثير الذي روى أنه"قتل الإفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً" من المسلمين.
صلاح الدين الأيوبي واسترداد بيت المقدس
تغيرت الأوضاع والظروف لاحقا لصالح المسلمين بتغير القيادة السياسية في مصر. وعندما أصبحت مصر مستهدفة ومهددة بشكل مباشر من قبل الحملات الصليبية, استنجد الخليفة الفاطمي في القاهرة العاضد بنور الدين زنكي حاكم سوريا،الذي أرسل لنجدته جيشاً بقيادة أسد الدين شيركوه، الذي أصبح في عام 1169م وزيراً للخليفة في مصر. وبعد وفاة شيركوه عُهد بوظيفته إلى ابن أخيه الذي رافقه إلى مصر، صلاح الدين بن يوسف بن أيوب، وفي هذه الأثناء اتجه الصليبيون إلى دمياط وحاصروها عام 1169م فهزمهم صلاح الدين وتعقب فلولهم إلى العقبة وفتحها ، وعقب وفاة الخليفة العاضد عام 1171م استولى صلاح الدين على السلطة وأمر أن يذكر اسم الخليفة العباسي المستضيء في صلاة الجمعة سعياً منه إلى إنهاء الخلافة الفاطمية الشيعية واستعادة حكم السنة في مصر، وبعد أن تحقق له ذلك, كان الهدف الثاني عند صلاح الدين الأيوبي هو تحرير فلسطين وبيت المقدس ، لكنه كان يدرك جيداً أن ذلك لن يتم إلا إذا تم توحيد مصر ِوسوريا.
وبعد وفاة نور الدين عام 1174م أعلن صلاح الدين استقلاله واستولى على سوريا (1174م – 1183م) بعد عدة مناوشات ضد ورثة نور الدين زنكي، ومن ثم توجه انطلاقاً من دمشق لمحاربة الصليبيين، فحاصرهم في طبرية واستولى عليها، وبعد أن قام حاكم الكرك وحصن الشوبك رينالد (Renaud) بالاعتداء على قوافل الحجاج والتجار المسلمين عام 1182م أثناء مرورهم بقلعته، ونهب سواحل الحجاز عام 1183م وسلب في بداية عام 1187م قافلة كانت متوجهة إلى دمشق ، وتوعد بنبش قبر الرسول ، ناقضاً بذلك اتفاقية الهدنة المتفق عليها سابقا منذ أيار /مايو 1180م بين صلاح الدين والملك الصليبي بولودين الرابع (Baudouin) والتي كان من شروطها السماح بحرية التجارة ومرور القوافل ، قرر صلاح الدين الأيوبي شن هجوماً ضخماً على الفرنجة، حيث نشبت معركة كبرى في سهل حطين في الثالث والرابع من شهر تموز/ يوليو 1187م انتهت بهزيمة ساحقة للصليبيين، ولم ينج منهم إلا القليل، ومن نجا وقع في الأسر، وكان من بينهم ملك القدس غي دي لوزينيان (Guy de Lusignan) وأمير الكرك رينالد. لقد عامل صلاح الدين الملك برفق قائلاً له:"الملك لا يقتل ملكاً"، وأطلق سراحه بعد أن أقسم له بشرفه أن لا يشهر سلاحه في وجه صلاح الدين، أما رينالد الذي نقض الاتفاق ولم يراع حرمة العهود فقتله صلاح الدين بسبب جرائمه وعدوانه بنفسه .
لقد كانت معركة حطين معركة فاصلة، وشكلت بداية النهاية للوجود الصليبي في المنطقة، فتوالت الفتوحات بعدها فشملت عكا والناصرة وقيسارية وحيفا ونابلس، وأخيراً تمكن جيش صلاح الدين مع جيش أخيه العادل القادم من مصر من فتح عسقلان ومحاصرة القدس لتي أعلنت استسلامها، فدخلها صلاح الدين في 27/رجب 583هـ/ 2 تشرين الأول/ أكتوبر 1187م.
وخلافاً لأعمال القتل والذبح التي ارتكبها الصليبيون في بيت المقدس عندما استولوا عليها، اتسمت معاملة صلاح الدين للفرنج الصليبيين من سكان المدينة باللين والأمن والأمان وعدم الاعتداء عليهم، ولم تتعرض دورهم وممتلكاتهم للنهب، وسمح للمسيحيين العرب بالاحتفاظ بممتلكاتهم وبشراء متاع الفرنجة، أما الفرنجة فقد سمح لهم أن يأخذوا ما يشاءون من الأموال معهم شريطة أن يدفعوا الفدية، واتفق على فدية الرجل بعشرة دنانير، والمرأة بخمسة والطفل بدينارين، فمن دفع ذلك خلال أربعين يوماً نجا وإلا صار مملوكاً .
وعندما وصل نبأ استعادة القدس إلى أوروبا، دعا البابا إلى حرب صليبية أخرى اشترك فيها ملك فرنسا فيليب اوغست (Philipp August) وملك بريطانيا ريتشارد"قلب الأسد" ( "lion Heart" Richard ). أما إمبراطور ألمانيا فريدريش بربروسا (Friedrich Barbaroussa) فقد مات غرقاً وهو في طريقه إلى فلسطين، والتقى الآخران على حصار عكا وكان غي دو لوزينيان يقود الحصار والمعركة ناقضاً عهده مع صلاح الدين في أن لا يحاربه أبداً، وفي ظل هذه الظروف طلب صلاح الدين النجدة والمساعدة من الخليفة العباسي في بغداد، ومن سلطان مراكش دون جدوى ، وكانت النتيجة أن سقطت عكا في 12 تموز/ يوليو 1191م وأمر ريتشارد قلب الأسد بذبح الحامية العسكرية العكية (2700 أسير) لأنها لم تستطيع دفع المبالغ المالية المتفق عليها خلال شهر من استسلامها .وفي عام 1192م تم توقيع صلح لمدة خمس سنين بين صلاح الدين الأيوبي وريتشارد قلب الأسد عرف باسم "صلح الرملة". وقد قضى الاتفاق أن يحتفظ الإفرنج بالمنطقة الساحلية من صور إلى يافا، ويعترفون بسلطة صلاح الدين على باقي البلاد والقدس شريطة أن يسمح للمسيحيين بالحج إليها ، وفي الرابع من آذار / مارس 1193 توفي صلاح الدين في دمشق.
وبعد وفاته نشب بين ورثته خلاف على السلطة, وتزامن ذلك مع محاولات الصليبيين استرداد بيت المقدس، إلا أنهم لم يتمكنوا في البداية، فقرروا مهاجمة دمياط في مصر. وقبل أن تسقط دمياط في يد الصليبيين في (27 من شعبان 616هـ = 5 نوفمبر 1219م) في حملتهم الخامسة على مصر، أبدى السلطان الأيوبي الكامل بن العادل(شقيق صلاح الدين)- بعد أن اشتدت به الأزمة وأحاطت به الصعاب من كل جانب وبعد أن يئس من القدرة على الصمود في وجه الصليبيين- استعداده لتسليم بيت المقدس إليهم مقابل الجلاء عن مصر. لكن بعد أن احتل الصليبيون دمياط بعد حصار طويل, رفضوا العرض.
ولما تحالف أبناء العادل الثلاثة مع بعضهم البعض, تمكن المصريون من تحرير دمياط من الاحتلال الصليبي الذي لم يدم سوى ثمانية عشر شهرا, ففشلت بذلك المساومة . ولم تكد تمضي سنوات معدودة حتى شبّ صراع بين السلطان الكامل وأخيه المعظم عيسى صاحب دمشق، واستعان كل منهما بمن يحقق له النصر؛ فاستعان المعظم عيسى بالسلطان جلال الدين الخوارزمي سلطان الدولة الخوارزمية، واستنجد الكامل بالإمبراطور الألماني فريدرش الثانيFriedrich II)) الذي طلب منة في المقابل بيت المقدس.ومن أجل ذلك خاض مفاوضات مع السلطان الأيوبي الكامل بن العادل لتسليم القدس، إلا أن الأخير لم يكن في وسعه تقديم القدس على طبق من ذهب, لأن ذلك سوف يؤدي الى اتهام المسلمين له بالخيانة، وحتى يحافظ على هيبته وسمعته أمام المسلمين خاض معركة وهمية أكثر مما هي حقيقية ، لتبرير تسليمه لمدينة القدس، فوقع مع الإمبراطور الألماني فريدرش الثاني على "معاهدة يافا" في 11 شباط / فبراير 1229 لمدة عشر سنوات 1229-1239 وافق بمقتضاها على منح القدس وبيت لحم والناصرة علاوة على ممر يصل الساحل بالعاصمة إلى المسيحيين، مقابل أولاً بقاء الحرم الشريف مع المسلمين، وثانياً مساعدة فريدرشII للكامل ضد أعدائه من الأيوبيين ، لكن المسلمون عادوا واستردوا القدس بعد ثماني سنوات.وبعدها تمكن الفرنجة من أعادة سيطرتهم عليها للمرة الثالثة في عام 1144م,واحتفظوا بها لمدة سنة واحدة فقط، إلى أن استردها نهائياً الملك الصالح نجم الدين بالتعاون مع الخوارزميين الأتراك . أما الإخلاء النهائي للوجود الصليبي عن المنطقة لم يتم إلا على يد المماليك، وذلك عندما حرر السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون في 28أيار/ مايو 1291 مدينة عكا آخر معاقلهم في البلاد.
فلسطين في العهد العثماني (922هـ-1335هـ/1516م-1917م)
كان السلطان العثماني سليم الفاتح هو أول من فتح بلاد الشام ومن ضمنها فلسطين في عام 1516م، وفي العام الذي يليه استولى على مصر، وفي عهد ابنه السلطان سليمان القانوني امتدت حدود الدولة العثمانية حتى شملت بلاد البلقان وأجزاء أخرى من اليونان والمجر والقرم على البحر الأسود، إضافة إلى جميع البلدان العربية باستثناء المغرب، التي لم تخضع للحكم العثماني قط، وبسبب تحالف السلطان سليمان القانوني مع ملك فرنسا 1531م ضد حكم أسرة آل هابسبورغ (Hapsburg) في النمسا، سمح الأول للأخير بتأسيس مراكز تجارية (امتيازات تجارية) فرنسية في عكا ومدن الساحل الفلسطيني، وبعد خمسين عاماً من هذا التاريخ تم منح الإنجليز الامتيازات نفسها .
وبموجب معاهدة 1740م بين الدولة العثمانية وفرنسا التزم السلطان العثماني بفتح أبواب فلسطين أمام جميع المسيحيين القادمين تحت حماية فرنسا، وبذلك أصبح المسيحيين الكاثوليك في الإمبراطورية العثمانية خاضعين للحماية الفرنسية.
وبعد أن هزمت الدولة العثمانية في الربع الأخير من القرن الثامن عشر الميلادي في حرب طويلة أمام روسيا القيصرية، التي كانت تطمح في استعادة القسطنطينية والسيطرة على الدولة العثمانية، اضطرت الأخيرة لإنهاء الحرب والتوقيع مع روسيا على معاهدة "كوجك قينرجي" 1774م، ضمنت روسيا بموجبها حقها في حماية الروم الاورثوذكس والتدخل في شؤون الدولة العثمانية، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن السلطان العثماني اتخذ لقب "الخليفة" لنفسه في ظل ظروف هذه الحرب، في محاولة منه لحشد المسلمين خلفه ضد أعدائه.
ومن المعلوم أيضاً أن هذه المرحلة شكلت بداية ضعف وتراجع الدولة العثمانية، مما عزز مطامع روسيا وأوروبا في أراضي الدولة العثمانية من جانب، وبروز حركات انفصالية محلية عن الدولة العثمانية من جانب آخر. انتهز علي بك أحد المماليك بمصر هذه الفرصة وأرسل نائبه أبو الذهب لاحتلال سوريا وإعادتها إلى حكم المماليك، فتحالف مع الشيخ ظاهر العمر في شمال فلسطين –الذي امتد حكمه على مدن صفد وطبرية والناصرة ونابلس وعكا - (1741-1775م)، الذي استعان بالأسطول الروسي على احتلال صور وصيدا 1772م، إلا أن السلطان العثماني أرسل قوات عسكرية بحرية وبرية إلى والي الشام لمحاربته، فاستردت الدولة العثمانية صور وصيدا وتعقبت الشيخ ظاهر العمر وقلته قرب عكا ، وبذلك انتهى طموح ظاهر العمر في السيطرة على فلسطين كلها وعلى دمشق، فخلفه أحمد باشا الجزار، الذي أبلى بلاءً حسناً في قتال ظاهر العمر من اجل استرداد صور وصيدا، وكمكافئة له على ذلك عينه السلطان والياً على صيدا ومن ثم خلف ظاهر العمر على عكا، فأجاد تحصينها وبنا فيها جامعاً باسمه ولمع نجمه في صد نابليون عند أسوار عكا 1799م.
ومن الأحداث المهمة التي شهدتها فلسطين بعد هذا التاريخ، والتي يجدر ذكرها، كانت حملة إبراهيم باشا بن محمد علي باشا على بلاد الشام 1831م،والتي تمكن من خلالها من احتلال الشام وفلسطين التي ظلت تابعة لحكم محمد علي باشا حتى استعادتها الدولة العثمانية عام 1840م
وفي العهود الأخيرة من الحكم العثماني وخاصة في عهد آخر السلاطين العثمانيين عبد الحميد الثاني (1876-1909م) تفاقمت المسألة الشرقية، والتي تمثلت في أطماع الدول الأوروبية وروسيا وأطماع الحركة الصهيونية في تقاسم تركة الدولة العثمانية وفلسطين، فازداد عدد الحجاج النصارى والمؤسسات التبشيرية وغير التبشيرية، ففتحت المدارس الأجنبية والطائفية والمسيحية والوطنية في فلسطين، مثل المدرسة الصلاحية وروضة المعارف الوطنية في القدس، والمدرسة الوطنية الأرثوذكسية، والمدرسة الأحمدية في عكا. كما أنشأت في البلاد قبل الحرب العالمية الأولى أكثر من 20 صحيفة يومية وأسبوعية منها "الكرمل" و"فلسطين" ساهمت في إحداث النهضة الفكرية العربية.
وبسبب المركزية الشديدة وسياسة القمع والاستبداد والتتريك التي مارستها الدولة العثمانية في أواخر عهدها وخاصة بعد فشل تجربة الإصلاحات الدستورية مرتين في عهد السلطان عبد الحميد الثاني ارتفعت الأصوات العربية المطالبة في بادئ الأمر بالإصلاحات السياسية والإدارية والحكم الذاتي واللامركزية واعتبار اللغة العربية لغة القرآن، لغة رسمية، ولم تتم المطالبة بالاستقلال ولم يطالب المؤتمر العربي الأول المنعقد في باريس عام 1913 والذي اشترك فيه فلسطينيون، بالانفصال عن الدولة العثمانية، لكن سياسة التتريك والمجازر ودعوة الزعماء الأتراك إلى العنصرية التركية الطورانية واعتبار اللغة التركية هي اللغة الرسمية الوحيدة، ساهمت في حمل الزعماء العرب على نشد الاستقلال عن الدولة العثمانية.
القوى الاستعمارية ودورها في دعم الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل
دور القوى الاستعمارية الغربية في خلق دولة إسرائيل قبل نشأة الحركة الصهيونية 1897
خلق دولة إسرائيل كفكرة استعمارية أوروبية: مصادر الفكرة
إن إنشاء دولة لليهود في فلسطين لم تكن في الأساس فكرة يهودية، وإنما فكرة استعمارية طرحها المستعمرون الغربيون على اليهود بهدف مساعدتهم في توطينهم في فلسطين قبل قيام الحركة الصهيونية 1897 بأكثر من مائتي وست وسبعين سنة. ففي مؤلفة عام 1621م بعنوان: "The World’s restoration. or, the calling of the Hives…" (وهو أول كتاب معروف في بريطانيا يدعو لاستعادة إمبراطورية الأمة اليهودية في فلسطين) طالب السير هنري فنش (Finch 1558-1625) Henry المستشار القانوني لملك انجلترا بضرورة توطين اليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية ، بهدف حماية طرق المواصلات والتجارة العالمية المؤدية إلى الهند وشرق آسيا.
ولما كان رئيس بريطانيا أوليفر كرومويل (1599-1658 Oliver Cromwell) الذي ينتمي إلى البوريتانيين (Puritans) (المطهرون) البروتستانت يدرك مدى الفائدة الاقتصادية التي ستجنيها بريطانيا من اليهود، أبدى اهتماماً واسعاً بشؤون اليهود، وبدأ يقدم لهم الدعم والتسهيلات من أجل مساعدتهم على الاستيطان في فلسطين.
وفي عام 1649م قدمت مجموعة من البوريتانيين عريضة إلى الحكومة البريطانية جاء فيها: "إن الأمة الإنجليزية مع سكان الأراضي المنخفضة سيكونون أول الناس وأكثرهم استعداداً لنقل أبناء إسرائيل وبناتها على سفنهم إلى الأرض الموعودة لأجدادهم إبراهيم واسحق ويعقوب كي تصبح إرثاً دائماً لهم" . تكمن أهمية هذه العريضة في أنها تعتبر تحولاً واضحاً في النظرة المسيحية البروتستنتية إلى فلسطين والقدس من كونها الأرض المقدسة( أرض السيد المسيح)، التي قامت الحروب الصليبية من أجلها إلى جعلها وطناً لليهود من ناحية، ومن أن عودة السيد المسيح لا تتم إلا بعودة اليهود إلى فلسطين من ناحية أخرى , دون أن ينسحب ذلك الإيمان على الكنيسة الكاثوليكية.
صحيح أن هذه الدعوة لم يتمخض عنها خطوات عملية تجاه توطين اليهود في فلسطين، إلا أنها قدمت مؤشراً واضحاً على مدى الفائدة التي يمكن جنيها في بريطانيا وغيرها من جراء الاهتمام بفلسطين كوطن لليهود. ولنفس الغرض اقترحت القوى الاستعمارية الأوروبية على اليهود في القرن السابع عشر الميلادي 12 مشروعاً استعمارياً لإقامة كيان سياسي مستقل لهم في فلسطين ، ففي فرنسا قدم السفير اسحق دو لا بيرير (1594-1676 La Peyrère , Isaac de) التماسا إلى ملك فرنسا طالبه فيه بضرورة دعم بعث إسرائيل وبعودة الشعب اليهودي إلى الأرض المقدسة، كما وانتشرت دعوات مماثلة في كل من الدانمرك وهولندا تطالب ملوك أوروبا بتأسيس مملكة يهودية في فلسطين .
ومع ازدياد النشاط الاستعماري العالمي في القرن التاسع عشر الميلادي اكتسبت فكرة خلق وطن قومي يهودي في فلسطين بالنسبة إلى القوى الاستعمارية الغربية المتنافسة فيما بينها قيمة إضافية. لقد ازداد عدد المشاريع الاستعمارية المعروضة على اليهود لتهجيرهم إلى فلسطين وإقامة وطن قومي أو دولة لهم فيها في الفترة الزمنية الواقعة بين (1790- 1939) ليصل أكثر من ثلاثين مشروعاً، علماً أن هذه المشاريع لم تقتصر فقط على فلسطين ، وإنما شملت بلدانا في جميع الاتجاهات الأربعة.
استناداً إلى ما تقدم يتضح لنا أن الدوافع الاستعمارية المرتبطة بالدوافع الدينية البروتستنتية شكلت البدايات الفعلية (المصادر الأولى) لنشؤ فكرة إقامة كيان يهودي في فلسطين، في الوقت الذي لم تكن فيه الفكرة قد ولدت بعد في عقول اليهود أنفسهم.وبعبارة أخرى لم تكن المشكلة في موافقة الدول الكبرى على توطين اليهود في فلسطين,وإنما كانت المشكلة في إقناع اليهود أنفسهم بهذه الأفكار.
حملة نابليون على فلسطين (10 شباط/ فبراير 1799- 14 حزيران/ يونيو 1799)
ليس غريباً أن تتزامن فكرة استخدام اليهود في إطار تنافس القوى الاستعمارية فيما بينها, وفي إطار مخططاتها للسيطرة على العالم العربي مع أول حملة استعمارية غربية في العصر الحديث بقيادة نابليون بونابرت على المشرق العربي الإسلامي.
نابليون كان يدرك جيداً مدى الخدمات التي كان بمقدور يهود العالم عامة ويهود فرنسا والشرق خاصة تقديمها له لتحقيق أهداف حملته على مصر وفلسطين، والتي كانت موجه في الأساس لضرب مصالح القوة البريطانية المنافسة له في الشرق الأوسط. فقبل وصول الحملة الفرنسية إلى مصر أعدت الإدارة الفرنسية عام 1798 خطة سرية لإقامة "كومنولث يهودي في فلسطين" في حال نجاح الحملة العسكرية في المشرق .
وعندما شرعت قواته في حصار عكا وجه نابليون كأول رجل دولة غربي نداءً في الرابع من ابريل/ نيسان 1799 إلى جميع يهود آسيا وإفريقيا على الانخراط تحت رايته لإعادة القدس القديمة لهم, ولإعادة "مجدهم الغابر" واصفاً إياهم ب " ورثة فلسطين الشرعيين". وحثهم إلى مؤازرته على "إعادة احتلال وطنهم" وعلى "دعم أمتهم والمحافظة عليها بعيدا عن أطماع الطامعين لكي يصبحوا أسياد بلادهم الحقيقيين" . من وراء هذا النداء كان يطمح نابليون تحقيق عدة أهداف أهمها:
1- رغبته في الحصول على قروض مالية من اليهود للحكومة الفرنسية، التي كانت آنذاك تعاني من أزمة مالية خانقة، حتى تتمكن من تمويل حملته على الشرق، وأن يتعهد اليهود بإثارة الفتن والقلاقل والأزمات في المناطق التي يحتلها جيشه، من أجل تسهيل سيطرته عليها وتوطيد نفوذه ودعائم حكمه فيها .
2- إيجاد حاجز بشري في فلسطين تحت الحماية الفرنسية يفصل سوريا عن مصر، حتى يتمكن من تدعيم الاحتلال الفرنسي في المنطقة، وبذلك يستطيع نابليون تهديد مصالح بريطانيا (القوة الاستعمارية المنافسة) له من خلال السيطرة على طرق تجارتها ومواصلاتها إلى الهند .
3- إفشال التحالف الذي تم التوصل إليه بين بريطانيا وروسيا وتركيا منذ الثالث والخامس من كانون الثاني/ يناير 1799، والذي نص على الحفاظ على سلامة أراض الدولة العثمانية. نابليون اعتبر هذا التحالف الثلاثي موجهاً ضد فرنسا ومصالحها، ومن أجل فك الخناق والعزلة المفروضة على فرنسا قرر" تأمين حماية مصر ضد الأتراك وحلفائهم البريطانيين" واحتلال فلسطين لكسب ود ودعم اليهود .
لم يتمكن نابليون من تحقيق مشروعه المتمثل في الحصول على موطئ قدم استراتيجي لفرنسا في المنطقة، وفي توطين اليهود في فلسطين وذلك لثلاثة أسباب أساسية:
أولهما: هزيمته أمام أسوار عكا بسبب صمود أهلها وشدة مقاومتهم للحملة الفرنسية، وثانيهما بسبب هزيمة نابليون وتحطيم أسطوله في معركة أبو قير البحرية أمام سواحل الإسكندرية على يد الأسطول الإنجليزي بقيادة نيلسون (1758-1805 Nelson Horatio Lord), وثالثهما بسبب رفض اليهود أنفسهم لندائه وذلك لتركيز جل اهتمامهم في تلك الفترة على شؤونهم وأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية في بلدانهم الأصلية، وليس الانجرار وراء مغامرات غير محسوبة قد تعرض حياتهم للخطر.
وكنتيجة لفشل الحملة الفرنسية على الشرق وخروج نابليون وقواته نهائياً من مصر في عام 1801م، بدأت فكرة تبني توطين اليهود في فلسطين تتراجع في فرنسا، لصالح الاهتمام بالمشاكل الداخلية الفرنسية ولصالح التوجه نحو مناطق أخرى غير فلسطين ومصر،ولا تثير حساسية الانجليز, مما قلل من حاجة فرنسا لخدمات اليهود.
اللاسامية والبدايات الأولى للاستيطان اليهودي في فلسطين
لم تستجب الأوساط اليهودية للأفكار والمشاريع الاستيطانية الغربية الراغبة في إنشاء كيان يهودي في فلسطين إلا ابتداء من أواسط ثلاثينيات القرن التاسع عشر, لكن هذه الاستجابة كانت بشكل جزئي ولم تتخذ طابعا جماهيريا واسع النطاق، وإنما اقتصرت في بادئ الأمر على البرجوازية اليهودية المتحالفة مع الطبقات الرأسمالية الحاكمة. قبل ذلك التاريخ كانت العلاقات بين اليهود وفلسطين مقصورة في غالبيتها على الصلة الدينية والعاطفية، ولم يؤمن اليهود بشكل عام بإعادة بعث الدولة اليهودية القديمة من جديد على أيدي اليهود أنفسهم أو على يد القوى الاستعمارية الغربية،وإنما كانت القناعة الراسخة في الأوساط اليهودية أن بعث هذه الدولة لا يتم إلا بمعجزة إلهية فقط، يكون من نتائجها قدوم السيد المسيح المنتظر الذي سيعيد بناء الهيكل ويقود العالم نحو الخير والصلاح .
وجدت البرجوازية اليهودية في إنشاء وطن يهودي في فلسطين مكسبا ماديا ووسيلة للتخلص من عبء فقراء اليهود الفارين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى أوروبا الغربية بسبب المعاناة والاضطهاد ضد اليهود. ونظرا لقناعة الأثرياء اليهود بصعوبة اندماج هؤلاء اليهود في المجتمعات الأوروبية الغربية بسبب الحواجز الثقافية واللغوية في ظل انتشار موجة الكراهية ضد اليهود, لجئوا إلى إنشاء مؤسسات وجمعيات بهدف تنظيم هجرة الفقراء من اليهود إلى خارج القارة الأوروبية و فلسطين.ومن العوامل التي دفعت البرجوازية اليهودية للبحث عن وطن لليهود خارج أوروبا تخوفها من انضمام الفقراء اليهود إلى الأحزاب اليسارية والحركات الثورية المناهضة للنظام الرأسمالي الغربي .
وفي عام 1860م حصل الأثرياء اليهود بمساعدة القنصليات الغربية في القدس وخاصة القنصلية البريطانية على قطعتي أرض، وفي نفس العام أسس في باريس النائب في البرلمان الفرنسي أدولف كريميية (Adolphe Cremieux 1796-1880 ) جمعية الاستيطان اليهودي في فلسطين عرفت باسم الإتحاد الإسرائيلي العالمي (Alliance Israelite Universelle).
وفي سنة 1868 حصل كريمييه من السلطان العثماني على فرمان سمح بموجبه للأليانس باستئجار 2600دونم من أراضي قرية يازور القريبة من يافا لمدة 99سنة.
وفي عام 1870 أقامت الأليانس عليها أول مدرسة زراعية لليهود في فلسطين أطلق عليها اسم مدرسة "مكفيه يسرائيل الزراعية" Mikve Israel Agricultural School)) بتمويل من البارون اليهودي الفرنسي إدموند دي روتشيلد، والبارون موريس دي هيرش.
وفي عام 1878 قامت مجموعة من يهود مدينة القدس بشراء قطعة أرض من أراضي قرية ملبس من آل قصار بلغت مساحتها 3375 دونما،وتم تسجيها باسم أحد اليهود الذين كانوا يتمتعون بحق الحماية من القنصلية النمساوية, وبنفس الأسلوب تم شراء قطعة أرض أخرى تبلغ مساحتها 10آلاف دونم. وعلى هاتين القطعتين أنشأ اليهود مستوطنة بيت تكفا(Petach Tikva) (مفتاح الأمل)،والتي أطلق عيها لقب "أم المستوطنات".
وبالنسبة إلى عدد اليهود في فلسطين فلم يتجاوز عام 1856م 10,600نسمة من أصل أكثر من 350,000 ألفا من سكانها,وفي عام 1880 وصل عدد اليهود المقيمين في فلسطين حوالي 25 ألفا من أصل 500,000 ألف نسمة , على الرغم من المساعي الحثيثة التي قامت بها القوى الاستعمارية الغربية بهدف تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين وتوطينهم فيها.
لكن أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين بدأت تزداد طرديا وبشكل ملحوظ مع ازدياد المعاناة والاضطهاد والعداء ضد اليهود(اللاسامية) في روسيا وأوروبا الشرقية, إلى أن وصل عددهم في فلسطين عام 1895 إلى 50,000 ألفا. ِ
لقد جاءت هذه الزيادة اللافتة للنظر بعد أولى موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين من روسيا ورومانيا منذ عام 1881م بسبب المجازر التي حلت باليهود الروس والتي عرفت باسمها الروسي Pogrom، في أعقاب اتهام اليهود بالاشتراك في اغتيال القيصر الروسي ألكسندر الثاني( Alexander II.1818-1881 ) عام 1881.لقد شكل هذا التاريخ نقطة تحول نوعية في الفكر اليهودي نحو الهجرة إلى فلسطين وقوض أفكار حركة التنوير اليهودية المسماة الهسكالاه(Haskalah), التي كانت ترفض الهجرة اليهودية والحل القومي والاستعماري للمسألة اليهودية, الذي نادا به رواد الحركة الصهيونية, وعلى النقيض من ذلك كانت تدعو إلى حل لبرالي اندماجي للمسألة اليهودية قائم على المساواة وحقوق المواطنة. الجداول التالية رقم1)) ورقم (2) توضح لنا أعداد المهاجرين اليهود إلى فلسطين وإلى بلدان أخرى وأوطانهم الأصلية التي هاجروا منها .
الجدول رقم (1): موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين 1882-1945.
موجات الهجرة اليهودية إلى فلسطين الفترة الزمنية /السنة عدد المهاجرين اليهود أهم المواطن الأصلية للمهاجرين اليهود
موجة الهجرة الأولى 1903 -1882 30.000- 25 روسيا
موجة الهجرة الثانية 1914 - 1904 40.000- 35 روسيا , بولندا
موجة الهجرة الثالثة 1923 - 1919 35.183 روسيا ,بولندا
موجة الهجرة الرابعة 1931 - 1924 81.613 الاتحاد السوفييتي,بولندا
موجة الهجرة الخامسة 1938 - 1932 197.235 ألمانيا ,بولندا
1945 - 1939 تقريبا. 80.000 ألمانيا,بولندا رومانيا,تشيكوسلوفاكيا, المجر
1948 - 1946 تقريبا. 160.000 بولندا,رومانيا,بلغاريا,
الجزائر,تونس
(1) Angelika Timm, Israel: Geschichte des Staates Israel seit seiner Gruendung (Bonn: Bouvier 1998) p. 34
جدول رقم (2): حركة الهجرة اليهودية في الفترة الزمنية الواقعة بين 1880-1929م
الهجرات اليهودية إلى عدد المهاجرين
U.S.A 2,885,000
الأرجنتين 210,000
كندا 180,000
بريطانيا 125,000
فلسطين 120,000
ألمانيا 100,000
فرنسا 100,000
جنوب أفريقيا 60,000
بلجيكا 50,000
مصر 35,000
البرازيل 30,000
بقية بلدان وسط وجنوب أمريكا اللاتينية 30,000
بقية البلدان الأوروبية 30,000
استراليا ونيوزلندا 20,000
(2) Arthur Ruppin, Soziologie der Juden, Berlin 1930 , P. 157
استنادا إلى الجدولين السابقين بالإمكان استخلاص الملاحظات التالية:
أولا: إن الهجرة اليهودية إلى فلسطين لم تأت إلا تحت تأثير الاضطهاد والعداء ضد اليهود وفي الأوقات ومن البلدان التي استفحل وتفاقم فيها الاضطهاد والعداء لليهود(روسيا وبولندا في بادئ الأمر ومن ثم من ألمانيا النازية), وليس بفعل "الحنين الدائم"إلى فلسطين "وطن ألآباء والأجداد" كما تدعي الصهيونية,أي أن الهجرة اليهودية إلى فلسطين لم تتكاثف حتى بعد نشأة الصهيونية,إلا لأسباب سياسية وليس لأسباب دينية.
ثانيا: أن الغالبية الساحقة من المهاجرين اليهود فضلوا الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية بالدرجة الأولى,مما يعني أن الدوافع الاقتصادية وتوفر الحريات السياسية والمناخ الديمقراطي ورغبة اليهود في الاندماج في المجتمع الأمريكي شكلت عوامل الجذب الأساسية لدى المهاجرين اليهود, رغم استخدام الحركة الصهيونية لجميع الوسائل والإمكانات المالية والدعاية الدينية , لإثارة اهتمام اليهود وتشجيعهم على الهجرة إلى فلسطين.
ثالثا: قلة قليلة من الهاجرين اليهود آثرت الهجرة الى فلسطين,حيث لم تحتل عند المهاجرين اليهود إلا المرتبة الخامسة, بعد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والأرجنتين وكندا.
رابعا: يلاحظ أن عدد المهاجرين اليهود من ألمانيا النازية إلى فلسطين خلال أقل من ست سنوات, أي من عام 1932- 1938 من الحكم النازي(1945-1933), فاق عدد المهاجرين اليهود الذين قدموا إلى فلسطين خلال خمسين عاما,أي منذ أن بدأت موجات الهجرة اليهودية الحديثة منذ عام 1882/1881,مما يدلل بوضوح على العلاقة الوطيدة بين تفاقم اللاسامية وبين ازدياد عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين,أي بكلمات أخرى يتضح مدى الخدمة التي قدمتها النازية لأهداف ومساعي الحركة الصهيونية في تهجير اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة إسرائيل ,أكثر من مساعي وجهود الحركة الصهيونية نفسها.
الصهيونية وفلسطين: الطريق إلى النكبة الفلسطينية
التسمية
اشتقت الصهيونية من كلمة كنعانية قديمة اسمها "صهيون" وهي تعني "الجبل المشمس" أو "الحصن"، وهذه الكلمة أطلقها الكنعانيون على الجبل الشرقي لمدينة القدس (يبوس)، التي بناها اليبوسيون واتخذوها موقعاً وحصناً لحكامهم، وكان ممن أقام فيها الشيخ سالم، الذي سميت المدينة باسمه "اورسالم"، أو "أورشالم". وعندما استولى الملك داود على يبوس كانت تعرف بأورشليم، لكن اسم صهيون ظل يستخدم كمفهوم ديني كناية عن مدينة القدس ، وليس للدلالة على "الصهيونية" كمفهوم سياسي.
أما عبارة "الصهيونية" (Zionism) بالانجليزية، فلم تظهر كمصطلح سياسي إلا على يد الكاتب والصحفي اليهودي النمساوي ناثان بيرن باوم* (Nathan Birnbaum 1869-1937)، الذي ابتكرها لأول مرة عام 1890م في صحيفته "التحرر الذاتي"،على نمط اللغة الألمانية (Zionismus) كبديل لجمعية "أحباء صهيون" التي تأسست في روسيا عام 1882م, لكن مصطلح الصهيونية كحركة سياسية لم ينتشر ويتبلور بمفهومه الحالي إلا مع تيودور هرتزل (Theodor Herzl 1860-1904) المؤسس الفعلي والأب الروحي للحركة الصهيونية التي تأسست رسمياً في المؤتمر الصهيوني الأول في بازل عام 1897م.
ويعتبر الصهاينة أن الصهيونية المتعارف عليها والتي دعا إليها هرتزل في مؤتمر بازل هي الوريث الشرعي لعدد من الجمعيات والنداءات الفكرية الصهيونية السابقة التي بدأت تظهر إلى حيز الوجود منذ منتصف ثلاثينات القرن التاسع عشر، والتي لم تكن تجد الحد الأدنى من التجاوب بين اليهود أنفسهم، إلا مع بداية الستينات من القرن التاسع عشر، ونتيجة لعدة عوامل مهدت الطريق لنشأة الحركة الصهيونية، التي هدفت لحل المشكلة اليهودية عن طريق ما يسمى بإعادة توطين اليهود في فلسطين، (أرض الميعاد) وإنشاء الدولة اليهودية فيها. وحسب المفهوم الصهيوني تعتبر الصهيونية حركة قومية لإعادة "الشعب اليهودي" إلى وطنه واستئناف السيادة اليهودية على "أرض إسرائيل" ,إلا أن القراءة الدقيقة للمنطلقات النظرية للصهيونية ولممارساتها العملية على أرض الواقع تؤكد أنها حركة سياسية علمانية استعمارية استيطانية تقوم على النزعة العنصرية وعلى العدوان والتوسع والتحالف مع الامبريالية من أجل تحقيق أهدافها القومية، وتستغل الدين اليهودي واللاسامية وتوظفهما لتحقيق غاياتها وأهدافها القومية والسياسية.
أسباب نشأة الحركة الصهيونية
في الثابت علمياً أن الحركة الصهيونية لم تنشأ في فلسطين أو في أي بلد عربي، وإنما نشأت ونمت في أوروبا وانطلقت منها، والسبب يعود في أن أوروبا كانت تشكل البيئة الخصبة والحاضنة الطبيعية لعدة عوامل تضافرت مجتمعة مع بعضها البعض أدت إلى ظهور الصهيونية منها:
1. حركة الاستعمار العالمي
يعتبر الاستعمار الغربي من العوامل الأساسية التي ساهمت في نشأة الحركة الصهيونية وفي تطورها، ونجاحاتها. لقد شهد القرنان الثامن عشر والتاسع عشر ازدياد وتيرة الحركة الاستعمارية العالمية، التي أشعلت تنافساً محموماً للاستيلاء على شعوب وقارات العالم الثالث وتوطين البيض الغرباء فيها.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تأتي نشأة الحركة الصهيونية متزامنة مع صعود حركة الاستعمار العالمي وأن تتأثر بأهدافه وأساليبه ونماذجه الاستيطانية في اغتصاب فلسطين وتوطين المستعمرين اليهود الغرباء فيها أسوة بما فعلته القوى الاستعمارية الغربية في أفريقيا واستراليا وأمريكا اللاتينية وغيرها من قارات العالم التي قامت في سياساتها على التوسع والعدوان واغتصاب الأراضي واستغلال ثرواتها وإزالة هوية أبنائها ومعارضة الاتجاهات الاستقلالية التحررية لديهم .
لقد ترافق هذا التنافس الاستعماري الحثيث في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على إيجاد حليف قوي يتم استخدامه لتحقيق أغراض الدول الاستعمارية في المنطقة وضد بعضها البعض. لقد وجدت القوة الاستعمارية البريطانية- بعد أن أخفقت قبلها القوة الاستعمارية الفرنسية- في اليهود والصهيونية العالمية أداة نموذجية لتحقيق أهدافها ومخططاتها الإستراتيجية في المشرق العربي. من جانبها وجدت الصهيونية في الاستعمار الغربي السند والقوة المادية الفعلية لاستيطان فلسطين واغتصابها من سكانها الأصليين، ولهذا ربطت الصهيونية العالمية أهدافها وأساليبها عضوياً مع الامبريالية والاستعمار الغربي، وما زالت هذه العلاقة العضوية قائمة حتى يومنا هذا. مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل يعبر عن هذه العلاقة العضوية في كتابه "دولة اليهود"( Der Judenstaat)حيث يقول: "سنشكل هناك [في فلسطين] بالنسبة إلى أوروبا حاجزاً ضد أسيا، وسنكون الحامي المتقدم للمدنية ضد البربرية. سنبقى كدولة محايدة [؟!] على علاقة مع جميع أوروبا التي يجب عليها ضمان وجودنا" .
ومن الأدلة الدامغة على تبني الصهيونية للنموذج الاستعماري الغربي في حل المسألة اليهودية على حساب الشعب العربي الفلسطيني ما كتبه تيودور هرتزل في 11 /1/ 1902 إلى سيزل رودس (1853-1902 Cecil Rhodes) أحد رواد الاستعمار الاستيطاني الإنجليزي آنذاك والذي أعطى اسمه لدولة روديسيا( موزمبيق حاليا): "أرجو أن ترسل لي كتاباً تقول فيه بأنكم درستم برنامجي وأنكم توافقون عليه، وإذا سألت لماذا أتوجه إليك يا سيد رودس، فلأن برنامجي هو برنامج استعماري" .
2. اللاسامية (العداء لليهود)
إن ظاهرة "معاداة اليهودية" ظاهرة قديمة بدأت منذ بداية القرن الرابع عشر في أوروبا، أما ظاهرة معاداة السامية (معاداة اليهود) فهي ظاهرة حديثة نسبياً مقارنة مع معاداة اليهودية ، فهي لم تظهر إلا لأول مرة في كتاب الصحفي الألماني "فيلهلم مار" Wilhelm Marr 1819-1904) ) الذي أصدره بعنوان "انتصار اليهودية على الجرمانية"عام 1879م .
لم تولد الحركة الصهيونية من رحم الديانة اليهودية، ولم تأت نتيجة دوافع ذاتية خاصة باليهود وتاريخهم في فلسطين ولم تكن مرتبطة بمقولة "حنينهم الدائم إلى صهيون" أو بما يسمى "الوعد إلالهي"،وإنما نشأت الحركة الصهيونية في أوروبا تحديداً في القرن التاسع عشر بالذات، بسبب انتشار عدة ظواهر ونظريات ونزعات قومية وعنصرية استغلها الصهاينة ووظفوها خدمة لمصالحهم القومية وأهدافهم السياسية، ولعل من أهم هذه الظواهر إضافة الى الاستعمار، كانت ظاهرة اللاسامية التي انطلقت من شرق أوروبا إلى غربها، فالأوضاع السياسية الصعبة التي عاشها اليهود وموجة الاضطهاد الروسي منذ أوائل ثمانيات القرن التاسع عشر كانت وراء نشأة وتطور الأفكار الصهيونية.
وتعود أسباب معاداة السامية إلى عدة عوامل عميقة وقديمة ومتداخلة مع بعضها البعض ومتنوعة، اقتصادياً وسياسياً وقومياً ودينياً، ولا تتعلق باليهود فقط، وإنما أيضاً بمن يحيط بهم وبالظواهر الاجتماعية والسياسية التي كانت منتشرة في القارة الأوروبية.
دينياً اعتبر اليهود مسئولون عن صلب السيد المسيح عليه السلام، وعرقياً تعتبر النظرة اليهودية إلى الذات أن يهود العالم "شعب الله المختار" والأرقى من جميع الشعوب الأخرى".لقد غذت هذه النظريات والأفكار روح التعصب والانعزال عند اليهود.
ومن الطبيعي أن تصطدم وأن لا تتعايش هذه الأفكار العنصرية والقومية والشوفينية الاستعلائية المتعصبة مع مثيلاتها التي سادت في ألمانيا وايطاليا وفرنسا وانجلترا، والتي كانت تؤمن بنظريات "التفوق العرقي" ورسالة الرجل الأبيض، التي مثلها الاستعمار وجسدتها لاحقاً النازية في ألمانيا والفاشية في ايطاليا.أما الأوضاع الاقتصادية الجيدة التي تمتع بها اليهود بشكل عام بسبب تعاملهم بالربا والتجارة فكانت عاملا إضافياً لإثارة الحسد والحقد والكره ضدهم.
رواد الحركة الصهيونية الأوائل
لقد عارض رواد الحركة الصهيونية الأوائل مبدأ المساواة وسياسة الاندماج في المجتمعات الأصلية كحل للمسألة اليهودية، واعتقدوا بدلاً من ذلك أن حل المسألة اليهودية ومستقبل اليهود مشروط بخروجهم من أوروبا وبتحويل اليهود إلى أمة مستقلة، وبعودتهم إلى "وطنهم التاريخي" وإقامة دولة لهم فيها على النمط الاستعماري الغربي، ومن أمثلة هؤلاء الذين ساهموا في نشأة الصهيونية واعتبروا من روادها الأوائل هم:
موزس هس (Moses Hess 1875-1812)
ولد موزس هس في بون في ألمانيا عام 1812، ويعتبر من المفكرين اليهود الذين تركوا انطباعاً عميقاً في الفكر الصهيوني لدرجة أن البعض اعتبره ليس مبشراً بالحركة الصهيونية فقط، بل ومؤسسها أيضاً. ففي كتابه الذين أصدره عام 1862 تحت عنوان "روما والقدس" (Rome and Jerusalem) أودع فيه معظم أفكاره وآرائه الصهيونية التي انطلقت من فكرة وجود "قومية يهودية" ترتكز على العرق والدين، وبالتالي فإن حل المسألة اليهودية لا يتم من خلال الاندماج، وإنما بتهجير اليهود صوب فلسطين، وإقامة مستعمرات في فلسطين "تمتد من السويس إلى القدس ومن ضفاف الأردن إلى شاطئ البحر المتوسط" ، تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية.
والمتأمل في أفكار هس ودفاعه عن إيجاد "قومية يهودية" ومستعمرات يهودية في فلسطين، لا يحتاج إلى جهد جهيد حتى يدرك الرسالة التي يود هس إيصالها، وهي أنها تخدم عدة جهات في آن واحد، وهي فرنسا والدول الغربية، وأثرياء وفقراء اليهود على حد سواء. ومن أجل تحقيق ذلك طالب هس بتحالف يهودي فرنسي، معتقداً أن فرنسا بعد حصولها على امتياز شق قناة السويس تعتبر من أكثر الدول المؤهلة والمستفيدة تجارياً من قيام هذه المستوطنات اليهودية وأن البلدان المسيحية الأخرى لن تعارضها لأسباب لها علاقة بمصالحها الداخلية، ففي هذا الصدد قال هس: "... بعد أن ينتهي العمل في شق قناة السويس فإن مقتضيات التجارة العالمية تتطلب إقامة المستودعات والمستوطنات على الطريق التجاري الممتد عبر المشرق العربي شرقاً باتجاه الهند والصين، بحيث تتمكن هذه المستوطنات من القضاء على حالة الفوضى وعدم الاستقرار في البلاد الواقعة على هذا الطريق... ولن يتم ذلك إلا في ظل حماية عسكرية من جانب الدول الأوروبية وبالذات فرنسا التي كانت دبلوماسيتها الحكيمة تخطط على الدوام لضم الشرق إلى الأقاليم الحضارية" .
وعن الفائدة التي ستجنيها فرنسا أردف هس قائلاً: "... من مصلحة فرنسا أن يستوطن الطريق التجاري المؤدي إلى الهند والصين شعب موالٍ تماماً لمصالحها الاقتصادية والحضارية حتى يتسنى لها تحقق الرسالة الإنسانية التي أرست معالمها الثورة الفرنسية الكبرى" ، وبخصوص مصلحة البلدان الأوروبية الأخرى قال: "إن الأمم المسيحية لن تعارض إطلاقاً إنشاء وطن لليهود في فلسطين طالما أن ذلك يضمن لها التخلص من شعب غريب شاذ يسبب لها مشاكل كثيرة" .
لقد تصور هس أيضاً أن إيمان اليهود برابطة قومية مشتركة سيوفر لهم حل الاختلافات والتناقضات بين الفئات اليهودية الفقيرة والفئات الثرية، وأما الفائدة المادية التي سيجنيها اليهود، عبر هس قائلاً: "... إن تعميق مفهوم الأرض القومية المشتركة يوفر الركيزة الأساسية لإقامة علاقات أفضل وأكثر تقدمية بين الأغنياء والفقراء من اليهود" ، وأن تحقيق الاستيطان اليهودي في فلسطين يتطلب "استغلال رأس المال اليهودي تحت مظلة الدولة الأوروبية والفرنسية بشكل خاص..." .
ليون بنسكر (Yehuda Leib (Leon) Pinsker 1821-1891)
ولد بنسكر عام 1821 في بولندا (الروسية)، ودرس الحقوق والطب في جامعة موسكو، وعاد إلى أوروبا ليعمل فيها طبيباً منذ عام 1849، في بداية حياته آمن بنسكر بضرورة وحتمية اندماج اليهود في المجتمع الروسي، وحثهم على التحدث باللغة الروسية، لكن اللاسامية (وتحديداً في روسيا) وتحريض الحكومة الروسية رسمياً على معاداة اليهود أفشلت أهداف حركة الهسكلاة بين اليهود، وجعلت مساعي اندماج اليهود في المجتمع الروسي غير ممكنة، وتحت تأثير اللاسامية الصاعدة وخاصة بعد مجازر (Pogrom) في سنة 1881 أثر اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني اضطر بنسكر كردة فعل على هذه المجازر إلى تغيير أفكاره وقناعاته، التي نشرها بشكل واضح في كتابه "التحرر الذاتي" (Selbstemanzipation) الذي أصدره باللغة الألمانية. لقد دعا بنسكر في كتابه اليهود إلى خلق قومية يهودية تتيح لهم العيش على أرض محددة خاصة بهم دون أن يركز على فلسطين، حيث قال في هذا السياق "إن هدف جهودنا الحالية يجب ألا يكون "الأرض المقدسة" بل أرضاً تخصنا وحدنا، فنحن لسنا بحاجة إلا إلى قطعة كبيرة من الأرض لأبناء قومنا... ربما تصبح الأرض المقدسة في وقت لاحق لنا" ، واقترح بنسكر منطقة في شمال أمريكا، أو ولاية مستقلة في آسيا، أما نظريته السياسية فيلخصها بنسكر بالآتي:
* أن اليهود ليسوا أمه حية، إنهم غرباء في كل مكان، ولذلك فهم محتقرون.
* إن التحرر السياسي والمدني لليهود لم يكن كافيا ليرفعهم في تقدير الشعوب.
* الخلاص الوحيد هو بخلق القومية اليهودية؛ فالتحرر الذاتي لليهود كشعب،لا يتم إلا بحصولهم على وطن لهم وحدهم.
* إن الوقت الملائم للتحرر قد جاء وعلى الرغم من كون المسألة اليهودية مسألة عالمية، فإن حلها يجب أن يكون حلاً قومياً (يهودياً) وعلى اليهود اتخاذ الخطوة الأولى بعقد مؤتمر يهودي عالمي .
لقد رفضت الأغلبية الساحقة من يهود ألمانيا أفكار بنسكر، وعلى النقيض من ذلك التزموا بالكفاح من أجل الاعتراف بهم ومن أجل اندماجهم في المجتمع الألماني .
الحاخام يهودا الكلعي (Yehuda Alkalai 1798-1878)
ولد يهود الكلعي في سراييفو في البوسنة عام 1798 وفي عام 1825 تم اختياره حاخاما للطائفة اليهودية في صربيا، وفي عام 1839 ألف الكلعي كتاباً حول "قواعد اللغة العبرية"، ودعا فيه اليهود إلى الاستغراق في الصلاة تحقيقاً للنبوئه المسيائية، لأنه قال أنه توصل استناداً إلى حسابات أجراها بموجب علم "الكابلاة"* (Cabala) إلى نتيجة مفادها أن عام 1840 سيكون عام "الخلاص اليهودي" والعودة إلى "أرض الميعاد"، ولذا فقد حث اليهود وخاصة الفقراء منهم في أوروبا الشرقية إلى الهجرة إلى فلسطين تحت شعار "المسيح الإنسان" استعداداً لمجيء المسيح المنتظر ، وفي عام 1840 ألف كتاباً اسماه "سلام يا قدس" (شلوم يروشالايم)، حث فيه اليهود على دفع عشر مدخولهم من أجل العودة ومساعدة يهود القدس ، ولما فشلت نبوءته بعدم ظهور المسيح المخلص، ووقعت حادثة دمشق الشهيرة عام 1840، التي اتهم فيها اليهود بقتل المسيحيين، مما قاد إلى إجراء محاكمات لعدد من اليهود المتهمين، تخلى عن أطروحاته السابقة، ولجأ إلى تبني فكر جديد اسماه "الخلاص الذاتي التدريجي"، أي أنه يجب العمل على إنشاء كيان يهودي في فلسطيني بشكل منظم وتدريجي، وليس بشكل عفوي ومفاجئ، وأن اليهود الأغنياء يجب أن يتحملوا مسؤولية إنشاء وتمويل المستوطنات اليهودية .
إضافة إلى هؤلاء الرواد الصهاينة هناك أيضا العديد من المفكرين اليهود الذين تركت أفكارهم أثاراً عميقة وواضحة في الفكر الصهيوني القائم على تهجير اليهود إلى فلسطين واستعمارها, وعلى تحويل اليهود إلى أمة مستقلة تمهيداً لإقامة الدولة اليهودية، وكان من بين هؤلاء الحاخام البولندي زفي هيرش كاليشر (Zvi H. Kalischer, 1795-1874) الذي ألف كتاباً أسماه "البحث عن صهيون"، 1861 (Drishot Tziyon)، وكان أول كتاب يظهر في شرق أوروبا يتحدث فيه عن الاستيطان الزراعي اليهودي في فلسطين. وكذلك دعا اليهودي الروسي آشر غيسنبرغ (Asher Ginsberg 1856-1927) الذي عبر عن آرائه في مقال نشره عام 1889 بعنوان "ليس هذا هو الطريق" وتحت اسم مستعار وهو آحاد هاعام (Ahad Ha-Am) ومعناه "واحد من عامة الناس" انتقد فيه أسلوب برنامج "أحباء صهيون" في ولادة القومية اليهودية من جديد والداعي إلى الهجرة اليهودية واسعة النطاق إلى فلسطين، وشكك في قدرتهم في التحول إلى مزارعين حقيقيين، لقد تركزت فكرته على إقامة مركز روحي لليهودية في فلسطين، وليس لليهود، يعيد لهم وحدتهم ويقود في النتيجة إلى خلق القومية اليهودية .
هرتزل وإنشاء المنظمة الصهيونية العالمية 1897
ولد تيودور هرتزل في مدينة بودابست بالمجر عام 1860، وفي عام 1878 انتقل مع أسرته إلى فينا، حيث درس في جامعة فينا (1878-1884) وتخرج منها بدرجة دكتوراه في الحقوق 1884، وما لبث أن تحول من العمل في المحاماة إلى عالم الأدب والصحافة والكتابات المسرحية، وفي عام 1891 عمل مراسلاً في باريس إلى صحيفة "نوي فراي برسه" (Neue Freie Presse) أوسع الصحف النمساوية انتشاراً، وظل مراسلاً لها حتى سنة 1895، إلى أن عاد إلى فينا ليتسلم رئاسة تحرير القسم الأدبي في الصحيفة .تيودور هرتزل لم يكن يوماً متديناً ويروي في مذكراته بأنه لا يعترف بأية مرجعية دينية لسياساته وأفكاره الصهيونية فهو يقول: "إنني لا أخضع لأي وازع ديني"... فأنا غنوصي" .
وفي سياق آخر قال هرتزل: "إن المسألة اليهودية لا تعني بالنسبة لي مسألة اجتماعية أو مسألة دينية... إنها مسألة قومية"( ). لقد اعترف هرتزل أن نقطة التحول من الاندماج إلى الصهيونية بدأت عنده بعد قراءته لكتاب الفيلسوف الألماني المعادي للسامية كارل اويغن ديورنغ (Karl Eugen Duehring 1833-1921 )حول المسألة اليهودية والذي اعتبر اليهود عنصر هدام للحضارة( )، وأن فضيحة الضابط اليهودي الفرنسي الفرد درايفوس *(Alfred Dreyfus 1859-1935) الشهيرة في فرنسا واتهامه بالجاسوسية لألمانيا، هي التي أيقظت في هرتزل الاهتمام بحماية اليهود من الاضطهاد، وبضرورة تشكيل الحركة الصهيونية، ومن أن أفضل حل في نظره يكمن في إيجاد قطعة أرض يمكن أن تقام عليها دولة يهودية ذات سيادة، ولم يكن محور اهتمام هرتزل في البداية الأرض المقدسة، بل كان مستعداً أن يقبل بأي قطعة أرض تعرض عليه من اجل تحقيق أهدافه مثل أوغندا وطرابلس وقبرص والأرجنتين .
وبعد قضية الضابط درايفوس أصبح هرتزل معنيا في عدم وأد اللاسامية، وإنما في إثارتها حيث شبهها ببخار الماء الذي يغلي في وعاء على النار، فالبخار هو الذي يدفع الغطاء بقوته ، وقال أيضاً إن "معاداة السامية قد كبرت وما زالت تكبر، وكذلك أنا" .
هرتزل ورفاقه الصهاينة لم يكونوا معنيين برفع الظلم والبؤس والعذاب عن اليهود، ولم يهتموا بمساواتهم القانونية ومنحهم حقوق المواطن كباقي السكان الذين يقيمون معهم، على العكس تماماً كانت أفكار هرتزل الصهيونية ترتكز على تعميق نزعة العداء للسامة وعلى ضرورة انتشارها وتطويرها حتى تصبح –وهذا هو الأهم- الدافع والمحرك لنجاح الحركة الصهيونية, إذ يقول هرتزل في هذا الصدد: "نحن يجب أن نغرق أكثر، نحن يجب أن نحتقر في أرجاء الدنيا أكثر، وأن يبصق علينا وأن يستهزأ بنا وأن نضرب، وأن نسرق، وأن نذبح، قبل أن نصبح ناضجين للفكرة، [الصهيونية]" .
لقد عبر هرتزل عن آرائه وأفكاره الصهيونية في كتابه الذي نشره في فبراير/نيسان 1896 باللغة الألمانية بعنوان "دولة اليهود" (Der Judenstaat). ومما قاله هرتزل في كتابه عن دور الاستعمار في إقامة دولة اليهود المطلوبة "... كانت محاولات الاستعمار الفردية محاولات مثيرة للاهتمام -بالرغم من فشلها- لما مثلته على نطاق صغير من مؤشرات عملية لفكرة تأسيس دولة اليهود، وكانت مفيدة من حيث أنها جعلتنا نستفيد من أخطائهم في تنفيذ المشاريع الضخمة" . وتناول هرتزل في كتابه أيضاً ظاهرة العداء للسامية واعتبرها وسيلة مناسبة لدفع الجماهير اليهودية نحو الهجرة وإقامة "وطن قومي" لها، وأن الحركة الصهيونية "ليست بحاجة إلى بذل الكثير من الجهد من أجل دفع الجماهير اليهودية صوب الوطن المنشود فالمعادون للسامية سيتولون مهمة تقديم الجهد اللازم لذلك" .
أثناء انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل (Basel) في سويسرا في الفترة الواقعة بين 29-31 آب/أغسطس 1897 بحضور 204 مندوبين عن 15 بلداً (ثلثهم من روسيا) والذي دعا إليه هرتزل، أكد الأخير على هذه العلاقة بين معاداة السامية والحركة الصهيونية قائلاً: "معاداة السامية منحتنا القوة الذاتية من جديد: لقد رجعنا إلى وطننا... إلى أرض اليهود" .
انتخب المؤتمر هرتزل رئيساً له، وأسس المنظمة الصهيونية العالمية (World Zionist Organization WZO) وأقر لها برنامجاً عرف بـ (برنامج بازل).
لقد حدد المؤتمر هدف الصهيونية الواجب تحقيقه على النحو التالي: "خلق وطن قومي ]لاحظ وطن قومي وليس دولة[ للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام".
أما الوسائل التي اعتمدها المؤتمر لتحقيق هذا الهدف فكانت:
1. تعزيز الاستيطان في فلسطين باليهود المزارعين والحرفيين والمهنيين وفق أسس وظروف ملائمة.
2. تنظيم اليهود كافة وتوحيدهم بواسطة إنشاء المؤسسات المحلية والعامة الملائمة، وفقاً للقوانين السارية في كل بلد.
3. تقوية الشعور اليهودي القومي والهوية القومية اليهودية.
4. اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على موافقة الحكومات، حيث يكون ذلك ضرورياً لتحقيق هدف الصهيونية .
وفي داخل المؤتمر الصهيوني أقر أيضاً شكل العلم الصهيوني والنشيد "القومي" اليهودي (الأمل – هتكفاه بالعبرية)، ومنح العضوية لكل يهودي في العالم يلتزم ببرنامج بازل ويدفع "شاقل" اشتراكاً سنوياً.
وعندما عاد إلى فينا علق هرتزل على برنامج بازل في مذكراته بتاريخ 3 أيلول / سبتمبر 1897 قائلاً: "في بازل أقمت الدولة اليهودية، وإذا ما قلت اليوم هذا القول علناً فسأواجه بسخرية من العالم، ولكن ربما بعد خمس سنوات وبالتأكيد بعد خمسين سنة سيرى الدولة كل إنسان وسيعترف بها الجميع". وفي 29 تشرين ثاني/ نوفمبر 1947 قسمت الأمم المتحدة فلسطين واعترفت لليهود بدولة خاصة بهم.
ومن الجدير ملاحظته بخصوص غاية الحركة الصهيونية التي اتفق عليها في بازل أن المؤتمرين فضلوا عمداً استخدام عبارة "وطن قومي" (Heimstaette) بدلاً من دولة، حتى لا يتسبب ذلك في إثارة ردود فعل قوية ومعادية من الدولة العثمانية، علماً أن هرتزل كان على قناعة كاملة بأن العالم سوف يقرأها في كل الأحوال دولة يهودية .وبعد الانتهاء من أعمال المؤتمر توجه الصهاينة للعمل على جبهتين في آن واحد، الجبة الداخلية بهدف كسب ود اليهود وإقناعهم بمشروع الحركة الصهيونية، وعلى الجبهة الخارجية بهدف الحصول على تأييد إحدى الدول الاستعمارية الكبرى.
أ. العمل على الجبهة اليهودية :
لقد عقدت عشرة مؤتمرات صهيونية منذ مؤتمر بازل 1897 وحتى سنة 1913، أي سنة قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، تم خلال هذه الفترة تأسيس عدد من المؤسسات والهيئات المالية والتنظيمية لتنفيذ البرنامج الاستيطاني للحركة الصهيونية، وكان أهمها "صندوق الإتمان اليهودي للاستعمار"في عام 1899، والذي يهدف إلى تمويل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والصندوق القومي اليهودي "كيرين كايمت Leisrael) Keren Kayemeth) الذي أسس في بازل عام 1901 بهدف جباية الأموال لشراء الأراضي في فلسطين وسوريا. إن أهم ما نص عليه النظام الأساسي لهذا الصندوق هو اعتبار الأراضي التي يشتريها الصندوق وقفاً أبدياً على "الشعب اليهودي" لا يجوز بيعها أو التصرف بها، وضمان حصر العمل فيها على اليد العاملة اليهودية.
ب. العمل على الجبهة الخارجية لاستعمار فلسطين:
بعد الانتهاء من مؤتمر بازل قام أعضاء الحركة الصهيونية بشكل عام ورئيسها هرتزل بشكل خاص بإجراء اتصالات سياسية واسعة ومكثفة مع جميع القوى الاستعمارية والدول الكبرى للبحث عن قوة استعمارية كبرى تتبنى المشروع الصهيوني، وذلك تنفيذاً للنقطة الرابعة من الوسائل المعتمدة في برنامج بازل، فالقيادة الصهيونية كانت تدرك منذ البداية بأن المشروع الصهيوني سيمنى بالفشل، ولن يكتب له النجاح إن اعتمد تنفيذه فقط على الإمكانات والقدرات الذاتية للحركة الصهيونية، وما لم تتبناه دولة استعمارية كبرى ذات نفوذ، ولها مصالح مهمة في منطقة الشرق الأوسط، وفي ضوء هذا المفهوم وانطلاقاً من لغة المصالح المشتركة عرض هرتزل خدمات الحركة الصهيونية وتحالفها مع تركيا وبقية القوى الامبريالية التي خاطبها، مؤكدا لها أن المشروع الصهيوني في فلسطين سيكون ليس فقط في مصلحتها على المستوى الداخلي فحسب، وإنما أيضاً من مصلحتها الخارجية، إذ ستكون الدولة اليهودية حارساً أميناً لمصالحها الإستراتيجية في المنطقة إن تحالفت مع الحركة الصهيونية، ومن أجل تحقيق هذه الغاية اتصل هرتزل بقيصر ألمانيا وبالسلطان العثماني وبملك ايطاليا وبمسئولين ووزراء بريطانيين ونمساويين وروس وبابا الفاتيكان بيوس العاشر (Pius X) الذي رفض تأييد الخطط الصهيونية والاستيطان بفلسطين والقدس، والاعتراف باليهود كشعب ، فضلاً عن هؤلاء اتصل هرتزل أيضاً بعدد كبير من الشخصيات السياسية وأصحاب البنوك والأثرياء اليهود، دون أن يحصل في حياته على وعد من أية دولة في رعاية مشروعة في فلسطين.
وبسبب العلاقة الوطيدة التي كانت تربط السلطان العثماني مع القيصر الألماني، كانت ألمانيا من أوائل الدول التي توجه إليها هرتزل طالباً مساعدتها في تنفيذ مشروعه وأن تتوسط له لدى السلطان العثماني حتى يمنحها فلسطين، وفي المقابل اقترح هرتزل على قيصر ألمانيا فيلهلم الثاني (Wilhelm II) أن تضع الحركة الصهيونية خدماتها تحت تصرف القيصر، وأن تلتزم بإقصاء "عناصر الشغب" من فقراء يهود أوروبا وتوطينهم في المحمية الألمانية في فلسطين كي يتم إبعادهم "عن الأحزاب الاشتراكية والنشاط الثوري بشكل عام" المناوئة للقيصر، وأن تقوم بنشر الثقافة والنفوذ الألمانيتين في دول المشرق ، لكن قيصر ألمانيا الذي تحدث مع السلطان العثماني بهذا الخصوص، رفض ممارسة ضغوط عليه خشية على تدهور العلاقات الألمانية العثمانية القوية، مما دفع هرتزل إلى أن يطلب مقابلة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني مباشرة، الذي سبق له وأن رفض مقابلة هرتزل أثناء زيارته الأخيرة لاسطنبول عام 1896، لكن هرتزل عرض على السلطان العثماني مقابل فلسطين "عشرين مليون ليرة لتسوية الأوضاع المالية في تركيا، منها مليونان لقاء فلسطين، وثمانية عشر مليوناً لتحرير تركيا من قبضة أوروبا" ، السلطان الذي رفض مقابلة هرتزل, أرسل له رسالة شفوية عن طريق صديقه نيولنسكي (Newlinsky) في 19 حزيران/ يونيو 1896 قال فيها:
"إذا كان السيد هرتزل صديقك بقدر ما أنت صديقي، فانصح له ألا يتخذ أية خطوة في هذا الأمر. لا استطيع أن أبيع ولو قدماً واحدا من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي، لقد حصل أبناء شعبي على هذه الإمبراطورية بدمائهم، وقد غذوها بدمائهم، وسنغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا. كتيبتان من سوريا وفلسطين استشهد أفرداهما الواحد تلو الآخر في بلفنه. لم يسلم منهم أحد؛ كلهم قدموا حياتهم في تلك المعركة. الإمبراطورية التركية ليست لي وإنما للشعب التركي، لا استطيع أن أعطي أحد أي جزء منها. ليوفر اليهود ملياراتهم، فإذا قسمت إمبراطوريتي، فهم قد يحصلون على فلسطين من دون مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا. أنا لن أقبل بتشريحنا ونحن أحياء" .
وعلى الرغم من هذا الرد القاطع والمعارض للتخلي عن فلسطين لأسباب دينية، إلا أن هرتزل لم يكل ولم يمل,لقد واصل جهوده ومساعيه لمقابلة السلطان حتى حصل على دعوة إلى زيارة اسطنبول، لكن السلطان لم يقابله، وفاوضه عبر رجليه إبراهيم بك وعزة بك اللذين بلغا هرتزل موقف السلطان في 18 شباط/ فبراير 1902:
"إن جلالة السلطان سوف يسمح بهجرة اليهود إلى أراضيه في آسيا الصغرى وما بين النهرين، بشرط أن يحصل المهاجرون على إذن من حكوماتهم في الحصول على الجنسية العثمانية. وعلى المهاجرين أن يخضعوا للقوانين العثمانية، وأن يقوموا بالخدمة العسكرية ويجب ألا تكون الهجرة جماعية ولا الإقامة، وإنما وفقا للقرارات التي تتخذها حكومة جلالته في المناطق التي تحددها لهم" .
وبالإجمال يمكن تلخيص الأساليب والطرق والإغراءات التي استخدمها هرتزل من عام 1896-1902في محاولة منه لإقناع السلطان العثماني من أن التخلي عن فلسطين لصالح الحركة الصهيونية هو من مصلحة الدولة العثمانية, في الميادين التالية:
1. مساهمة المنظمة الصهيونية بشكل فعال في سداد الديون المترتبة على الدولة العثمانية لصالح الدول الغربية.
2. أن التحالف مع المنظمة الصهيونية سوف يعزز من مكانة الدولة العثمانية في المنطقة وفي العالم من خلال استغلالها لنفوذ يهود العالم اقتصاديا وسياسياً وعلمياً.
3. تعهد المنظمة الصهيونية بالعمل على الضغط على الأرمن واستخدام كافة نفوذها وإمكاناتها لإجهاض الحركة الوطنية الأرمنية وإجبار زعمائها على الدخول من جديد في طاعة السلطان.
4. التزام المنظمة الصهيونية والمستوطنين اليهود بحماية الدولة العثمانية من خطر الحركة الوطنية العربية التي كانت تهدد بإعلان الثورة والانفصال عن السلطنة العثمانية.
5. استعداد المنظمة الصهيونية لبناء جامعة في القدس يدرس بها أساتذة يهود ويدرس فيها الطلبة الأتراك عوضا عن المعاهد الغربية التي على حد تعبير هرتزل – تغذي فيهم مبادئ الحرية والديمقراطية وتدفعهم للاشتراك في الأحزاب الثورية المناهضة لحكم السلطان.
إلا أن هرتزل رفض عرض السلطان العثماني، فاضطر منذ يوليو/ تموز 1902 إلى وقف اتصالاته بالعثمانيين والبحث عن حليف جديد بعد أن اقتنع أن حصول اليهود على فلسطين لن يتم إلا بالقضاء على السلطان عبد الحميد الثاني وتقسيم الدولة العثمانية .
وفي أعقاب هذا الفشل الذي منيَّ به في كل من ألمانيا والسلطنة العثمانية لجأ هرتزل إلى بريطانيا التي بدأ اتصالاته معها منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الرابع في لندن عام 1900م، حيث بدت الأمور تتضح لديه أكثر فأكثر من أن "بريطانيا العظيمة المتحررة سوف تستوعب عمق أهدافنا وتدرك بعد مطامعنا من خلال نظرتها الشمولية للعالم... وإذا ما تسنى لنا الانطلاق من انجلترا فلا شك أن مسيرة الفكرة الصهيونية ستتزايد وتتصاعد أكثر من أي وقت مضى ". وكان هرتزل على قناعة بأن انجلترا ستتفهم حقيقة الفكرة الصهيونية –باعتبارها فكرة استعمارية- بمنتهى السهولة واليسر .
لذا قابل هرتزل وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشمبرلين في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 1902 وتقدم له بطلباته من انجلترا وهي منح المنظمة الصهيونية امتياز توطين اليهود في العريش وشبه جزيرة سيناء وقبرص، بعد حمل سكانها الأصليين على تركها" .
أيد تشمبرلين توطين اليهود في العريش وشمال سيناء، لكن رفض الحكومة المصرية آنذاك للمشروع بعد أن أثبت خبراء في مجال الري استحالة تأمين المياه المطلوبة من النيل إلى المشروع ، وبعد هذا الرفض وافقت الحكومة البريطانية رسمياً عام 1903 على توطين اليهود في أوغندا، وعندما عرض مشروع أوغندا على المؤتمر الصهيوني السادس 1903 للنقاش تمت الموافقة عليه بأكثرية 295 صوتاً ومعارضة 178 صوتاً، لكن هذه الموافقة لم تستمر أكثر من سنتين، وذلك عندما أسقطت الأغلبية في المؤتمر الصهيوني السابع (1905) مشروع أوغندا في أعقاب التقرير السلبي الذي قدمته البعثة التي أوفدتها الحركة الصهيونية لدراسة جدوى الاستيطان في أوغندا.
المقاومة الفلسطينية لأطماع الحركة الصهيونية قبل الحرب العالمية الأولى
تعود البدايات الأولى للمقاومة الفلسطينية المسلحة ضد المشروع الصهيوني إلى عام 1886م، وذلك عندما قام الفلاحون والمزارعون المطرودون من الخضيرة وملبس (بتاح تكفا) بمهاجمة المستوطنين اليهود الذين طردوهم من قراهم المغتصبة رغماً عن إرادتهم بعد أن اشتراها هؤلاء المستوطنون من كبار الملاك، وفي أعقاب الاصطدامات بين الطرفين اضطرت الحكومة العثمانية عام 1887 إلى فرض قيود على الهجرة اليهودية، لكن الاصطدامات عادت وتكررت مرة أخرى عام 1892م .
لم يقتصر الشعور بخطر المهاجرين اليهود على الفلاحين الفلسطينيين، بل امتد إلى قطاع التجار والمهنيين الذين انتابهم القلق الشديد من النتائج الاقتصادية السلبية للهجرة اليهودية، لما انطوت عليه من خطر المنافسة. ومع تزايد الوعي بمخاطر المشروع الصهيوني على مقدرات البلاد تقدم وجهاء مدينة القدس بعريضتين للحكومة العثمانية، احتجوا في الأولى ضد رشاد باشا متصرف القدس في أيار/ مايو 1890 لمحاباته للصهاينة، أما العريضة الثانية المقدمة إلى حكومة الأستانة بتاريخ 24 حزيران/ يونيو 1891 طالبوا فيها بمنع هجرة اليهود الروس إلى فلسطين وتحريم امتلاكهم للأراضي وسيطرتهم المتدرجة على تجارة البلد .
وفي عام 1900 شهدت البلاد احتجاجات واسعة وقدمت العديد من العرائض الجماعية ضد شراء اليهود للأراضي الزراعية، وحاول الفلاحون مرات متعددة وقف صفقات البيع كما حدث في منطقة طبريا، عندما ابتاع اليهود مساحات واسعة من عائلة سرسق اللبنانية، ولما جاء الفنيون لمسح الأرض هاجمهم الفلاحون الفلسطينيون.وفي مطلع القرن العشرين نجح الفلسطينيون في منع أو إلغاء بعض الصفقات من خلال استصدار أحكام بالإلغاء من الباب العالي .
وبعد تبني الحركة الصهيونية في عام 1904 لتوجهات سياسية جديدة تمثلت في شعار "العمل اليهودي والإنتاج اليهودي" الذي عكس سياسة التمييز العنصري المبرمج ضد الفلسطينيين من جانب، وفي أعقاب توافد موجه الهجرة اليهودية الثانية (1905-1907) من جانب ثاني، وبعد اطلاع المثقفين الفلسطينيين على الكتابات والأهداف الصهيونية من جانب ثالث، تعاظمت المعارضة والمشاعر الفلسطينية المعادية للحركة الصهيونية.
وفي ظل تنامي هذا الخطر الصهيوني بادر الكتاب والمثقفون العرب والفلسطينيون إلى الكشف عن الأطماع الاستعمارية الصهيونية، وكان في مقدمة هؤلاء يوسف الخالدي، ورشيد رضا، ونجيب عازوري الذي تنبأ في كتابه "يقظة الأمة العربية" الذي أصدره من باريس وباللغة الفرنسية عام 1905 بخطر المخططات الصهيونية ليس فقط على الفلسطينيين وإنما على أماني وتطلعات الأمة العربية ككل، ففي هذا السياق قال: "... يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة إسرائيل القديمة على نطاق واسع ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع... يتعلق مصير العالم بأجمعه" .
وبعد انقلاب عام 1908 ضد السلطان عبد الحميد الثاني والذي انتهى بعودة العمل بالدستور العثماني المعطل لعام 1876، انتشرت الصحافة في فلسطين وسورية ولبنان، والتي أخذت على عاتقها نشر الوعي ضد المخاطر الصهيونية النامية. وكان من أبرز هذه الصحف الفلسطينية والمناهضة للصهيونية صحيفة "الكرمل" الحيفاويه 1908، التي أسسها نجيب نصار الذي كان من الأوائل الذي تنبهوا عبر جريدته إلى الخطر الصهيوني، وقد صدرت في القدس عام 1908 أيضاً صحيفة "الأصمعي" التي أسسها عبد الله حنا العيسى، وصحيفة "فلسطين" عام 1911 التي أسسها عيسى العيسى.
لقد امتدت المعارضة للنشاطات الصهيونية في فلسطين إلى النواب العرب والفلسطينيين في مجلس النواب العثماني( مجلس المبعوثان)، حيث كان النائب المقدسي محمد روحي الخالدي من أبرز النواب العرب الذين نبهوا إلى مخاطر الحركة الصهيونية .
وإذا كانت مقاومة المخططات الصهيونية والتحذير من خطرها سببا ودافعا لنشأة الصحافة الفلسطينية ومحور اهتمامها ونشاطاتها، فإن هذه الأسباب نفسها كانت أيضاً وراء تأسيس جمعيات ومنتديات وأحزاب فلسطينية عديدة مثل "الحزب الوطني العثماني" 1911 الذي كان هدفه النضال ضد الصهاينة لا لكونهم يهوداً، وإنما لأنهم غرباء يحركهم مشروع استعماري.وهناك "جمعية الشبيبة النابلسية" 1914، و"جمعية شباب يافا" وغيرها من الجمعيات التي أسسها الفلسطينيون في الخارج، إلا أن جميع هذه النشاطات الشعبية والصحفية والحزبية والسياسة الفلسطينية والعربية المقاومة لمخططات وأطماع الحركة الصهيونية، إضافة إلى المعارضة العثمانية الرسمية، لم تفلح في الحد من نشاطات الحركة الصهيونية، التي تمكنت من خلال استغلالها لضعف الدولة العثمانية وتغلغل الفساد في أجهزتها من رفع عدد المستوطنين اليهود والمستوطنات اليهودية في فلسطين، إلى أن بلغ عددها حتى عام 1914 تسع وخمسين مستوطنة يقطنها حوالي 12 ألف مستوطن، أما عدد اليهود في فلسطين فقد بلغ حتى ذلك التاريخ بالإضافة إلى هذا العدد حوالي 70 ألف مستوطن، علماً أن ما بين 55 ألف و 60 ألفاً جاءوا إلى البلاد في فترة الثلاثين سنة الأخيرة التي سبقت الحرب العالمية .
فلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى 1918-1914
الأوضاع السياسية العربية عشية الحرب العالمية الأولى
بعد أن أعيد العمل بدستور عام 1876 المعطل في أعقاب الانقلاب على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، الذي قادته عام 1908 "جمعية الاتحاد والترقي"، ساد ما كان يسمى بشهر العسل التركي العربي، فأنشئت في نفس العام وبحضور أعضاء "جمعية الاتحاد والترقي " أول جمعية عربية باسم "جمعية الإخاء العربي العثماني" في القسطنطينية، وكانت أهدافها الرئيسية المشتركة "المحافظة على الدستور، وتوحيد جميع العناصر في الولاء للسلطان، وتحسين أوضاع المقاطعات العربية على أساس المساواة الحقيقية بين الأجناس الأخرى في الدولة ونشر التعليم باللغة العربية وتنمية الشعور بالمحافظة على العادات العربية وإتباعها، وكانت عضويتها مباحة للعرب على اختلاف أديانهم..." .
ولكن سرعان ما تكشفت حقيقة نوايا "جمعية الاتحاد والترقي " الحاكمة، التي أشرفت على العملية الانتخابية التشريعية لمجلس المبعوثان التي جرت في أواخر عام 1908، فضمنت نجاح الأغلبية العظمى من مرشحيها الأتراك على حساب الأجناس الأخرى، وعلى الرغم من أن العرب كانوا يفوقون الأتراك عدداً بنسبة تقارب ثلاثة إلى اثنين، إلا أن عدد النواب العرب بلغ 60 نائباً مقابل 150 نائباً تركياً . وأما مجلس الأعيان (الشيوخ) الذي يعينه السلطان، فلم يكن فيه سوى ثلاثة أعضاء عرب من أصل 40 عضواً .
وفي نيسان/ ابريل 1909 حاول السلطان عبد الحميد القيام بعملية انقلابية بهدف استعادة سيطرته على الإمبراطورية، إلا أن قائد الجيش العربي في سالونيكي محمود شوكت باشا زحف على استنبول وسحق المحاولة وأعاد جمعية الاتحاد التركي إلى سدة الحكم وأعلن مجلس الأعيان ومجلس المبعوثان خلع السلطان عبد الحميد وتنصيب أخيه الأمير رشاد (محمد الخامس) سلطاناً على الدولة العثمانية، لكن السلطة المطلقة ظلت حتى الحرب العالمية الأولى لجمعية الاتحاد التركي التي مارست حكماً استبدادياً وتعسفياً لا يقل طغياناً عن حكم عبد الحميد، وأظهروا انحيازا صارخاً للصهيونية لم يكن معهوداً من قبل، وأن أول ما قاموا به هو حل الجمعيات التي لا تنتمي إلى الجنس التركي، ومن بينها "جمعية الإخاء العربي العثماني".
لقد دفعت سياسة الاضطهاد والتتريك التي انتهجتها السلطة العثمانية في أواخر عهدها ضد العرب إ لى إنضاج فكرة الثورة العربية على الأتراك داخل الأوساط السياسية والفكرية والشعبية العربية للتخلص من الحكم العثماني.
فلسطين في مراسلات الشريف حسين-مكماهون( تموز/يوليو 1915 – كانون الثاني/يناير 1916)
استغلت الحكومة البريطانية الخلافات والخصومات العربية التركية وتطلع العرب نحو الحرية والوحدة والاستقلال عن الدولة العثمانية وبادرت إلى الاتصال مع شريف مكة الشريف حسين بن علي لإقناعه بجدوى الثورة على الأتراك، وفعلاً جرت 10 مراسلات (مراسلات حسين – مكماهون) بين السير هنري مكماهون المعتمد البريطاني في القاهرة والشريف حسين بن علي أمير مكة، الذي فوض اليه رجالات العرب وقادة الحركات السرية الوطنية "جمعية الفتاة والعهد وغيرها" التحدث باسم العرب جميعاً شريطة أن تكون خطة هذه الجمعيات والتي سميت "بروتوكول دمشق" أساساً "للتحالف بين بريطانيا والعرب ضد الأتراك بالإضافة إلى مطالبة بريطانيا الاعتراف بخليفة عربي للمسلمين" .
وفي الوقت الذي فاوض شريف مكة السير هنري مكماهون باسم العرب على أساس "بروتوكول دمشق"، كان القائد التركي جمال باشا ينكل بالوطنيين العرب ويرسلهم إلى أعواد المشانق، ومن بينهم فلسطينيين، وكانت التهمة الموجهة إليهم أنهم يعملون من أجل استقلال سوريا وفلسطين والعراق عن الدولة العثمانية، مما دفع الشريف حسين إلى التعجل في إعلان الثورة على الأتراك وكان ذلك في 5 حزيران / يونيو 1916 مقابل تعهدات بريطانية بالاعتراف بالمطالب العربية المشروعة بدولة عربية تضم الجزيرة العربية والعراق والولايات العربية في الإمبراطورية العثمانية، من بينها فلسطين، لكن الحكومة البريطانية أنكرت ذلك فيما بعد استناداً إلى رسالة بعثها مكماهون إلى الشريف حسين بن علي باسم الحكومة البريطانية بتاريخ 24/10/1915 شملت التحفظات التالية :
"إن ولايتي مرسين واسكندرونه وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق وحمص وحماة وحلب لا يمكن أن يقال أنها عربية محضة وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة".
وفي رده على مكماهون في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1915 قبل الشريف التحفظات المتعلقة بمرسين والاسكندرونه تسهيلاً للوفاق، لكنه أصر على أن تكون "ولايتي حلب وبيروت وسواحلها... (باعتبارهما) ولايات عربية محضة" ضمن حدود الدولة العربية .
لقد أثارت هذه المراسلات فيما بعد جدلاً حاداً وطويلاً، لمعرفة فيما إذا كانت المناطق المستثناة تشمل فلسطين. صحيح أن المراسلات لم تذكر فلسطين صراحة بالاسم, لكنها كانت ضمناً من بين حدود الدولة العربية الموعودة لثلاثة أسباب على الأقل:
1- فلسطين لا تقع جغرافياً في المنطقة الكائنة غربي دمشق وحماة وحمص وحلب (لبنان هو الموجود في الغرب)
2- لم يستبعدها مكماهون في مراسلاته صراحة من المنطقة المخصصة للدولة العربية.
3- الاعترافات البريطانية الرسمية لاحقا وعلى رأسها اعتراف وزير الخارجية البريطاني في جلسة مجلس الوزراء في 27/11/ 1918 تثبت بأن "فلسطين تدخل ضمن المنطقة التي وعدت بريطانيا بالاعتراف بعروبتها واستقلالها في المستقبل" .
ومن الواضح أن بريطانيا تعمدت منذ البداية اختيار صياغة غامضة وملتبسة لاحتفاظها بمفهومها في استثناء فلسطين من الوعود المقطوعة، وذلك بسبب المفاوضات والمراسلات السرية التي كانت تجريها بريطانيا في آن واحد مع فرنسا والحركة الصهيونية من أجل التوصل إلى اتفاقات لسلخ ما يمكن سلخه من تركه الدولة العثمانية.
اتفاقية سايكس – بيكو 16أيار/ مايو 1916 (Sykes-Picot)
قبل أن يجف حبر الوعود البريطانية للعرب بالاستقلال كما جاء في مراسلات حسين – مكماهون، دخلت الحكومة البريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى في مفاوضات سرية مع فرنسا لاقتسام ولايات الإمبراطورية العثمانية الواقعة في أسيا بعد الانتصار في الحرب العالمية الأولى.
وفي 16 أيار/ مايو 1916 توصلت بريطانيا وفرنسا عبر جورج بيكو ممثل وزارة الخارجية الفرنسية والسير مارك سايكس، ممثل وزارة الخارجية البريطانية إلى معاهدة عرفت باسمهما "معاهدة سايكس – بيكو" وأقرتها روسيا القيصرية, وتنص هذه الاتفاقية فيما يتعلق بالمنطقة العربية على تقسيم بلدان المشرق العربي في آسيا باستثناء شبه جزيرة العرب- التي وعدت في إقامة دولة عربية مستقلة أو اتحاد دول عربية في جزء مما يعرف الآن جغرافيا بالسعودية واليمن -، على أن تأخذ فرنسا سوريا ولبنان، وتأخذ بريطانيا شرق الأردن والعراق، أما فلسطين فتوضع باستثناء عكا وحيفا تحت "إدارة دولية يتم البت في شكلها بعد التشاور مع روسيا وبعد الاتفاق اللاحق مع الحلفاء الآخرين ومع شريف مكة" .
ومن الملاحظ على هذه الاتفاقية أنها :
1. رسمت حدوداً سياسية مصطنعة بين بلدن المشرق العربي، وخلقت فيما بينها مشاكل حدودية ما زالت تعاني من آثارها بلدان وشعوب المنطقة حتى هذه اللحظة.
2. خلقت عقبات مصطنعة في طريق الوحدة العربية تتناقض بشكل صارخ مع التزامات بريطانيا اتجاه شريف مكة بموجب مراسلات حسين مكماهون.
3. استثنيت فلسطين من أية سلطة عربية وحدد لها مصيراً مغايراً عن بقية أقطار العالم العربي، وذلك تمهيداً لإقامة الوطن القومي اليهودي فيها والانتداب البريطاني عليها لاحقاً.
وعد بلفور: (تصريح بلفور Balfour Declaration 1917)
لقد استمرت اللقاءات والمحادثات والتحضيرات لهذا الوعد بين الحكومة الريطانية والحركة الصهيونية عدة أعوام، إلا أن الاتفاق على الصياغة النهائية لهذا النص لوحده استغرق عامين تم خلالها تنقيح ستة مسودات , قبل أن يرسل وزير خارجية بريطانيا آرثر جيمس بلفور
(-1930 1848 Arthur James Balfour ) في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 إلى أحد أثرياء اليهود الصهاينة اللورد ادموند دي روتشيلد (Edmond de Rothschild) خطاباً عرف بتصريح بلفور هذا نصه:
"يسرني جداً أن أبعث إليكم باسم حكومة جلالة الملك بالتصريح التالي تصريح العطف على الأماني اليهودية الصهيونية، الذي رفع إلى الوزارة ووافقت عليه".
"إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف على تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى".
ومن خلال تحليل محتويات وعد بلفور يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أجزاء رئيسية:
أولاً: الجزء الأول خاص باليهود: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف على تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وستبذل جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية". بعد القراءة المتأنية لهذا الجزء في الوعد نلاحظ أن بريطانيا قامت بشكل متعمد بتشويه وقلب الحقائق وبتجاهل الحقوق التاريخية الثابتة للشعب العربي الفلسطيني في وطنه فلسطين وهذا يتضح من خلال النقاط التالية:
1. بطريقة مغايرة إلى المنطق بررت الحكومة البريطانية دوافعها من وراء صدور هذا الوعد بالدوافع الأخلاقية والإنسانية من خلال استخدامها لعبارة "تنظر بعين العطف...", الأمر الذي سوف نقوم بتفنيده في الصفحات القادمة.
2. اعترفت بريطانيا في وعد بلفور بأن يهود العالم يشكلون شعباً، وهو أمر مغاير للحقيقة وللمنطق، فاليهود غير متجانسين لا لغوياً ولا ثقافياً ولا عرقياً, وينتمون إلى عدة اثنيات وعدة شعوب. وبهذا الاعتراف تكون بريطانيا أول دولة اعترفت رسمياً باليهود كشعب من ناحية، وتبنت نظرة الصهيونية التي لا تعترف أصلاً بوجود الفلسطينيين كشعب ولا بحقوقهم السياسية من ناحية أخرى.
3. إن بريطانيا التي وعدت اليهود بوطن قومي (Homeland) في فلسطين وليس بدولة، رغم علمها ويقينها المسبق أن الدولة اليهودية وليس الوطن القومي سوف تنشأ في نهاية المطاف في فلسطين.
4. العبارة الوحيدة الصحية في هذا الجزء والتي التزمت بها بريطانيا هي "بذل ما في وسعها من أجل تحقيق هذه الغاية "إقامة الوطن القومي اليهودي".
ثانياً: الجزء الثاني خاص بحقوق السكان العرب المسلمين والمسيحيين ومكانتهم: فتقول بريطانيا "على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يغير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين". ومن الملاحظ على هذا الجزء ما يلي :
1. أن سكان فلسطين الأصليين،(الشعب العربي الفلسطيني) الذي كان يشكل عند صدور الوعد الأكثرية الساحقة من سكان فلسطين أي ما لا يقل عن 92% من السكان، لم يتم ذكره بتاتاً في تصريح بلفور، لقد أشير إليه بمجرد "الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين"، أي وكأنه أقلية عرقية، بينما نعتت الأقلية اليهودية بالشعب وكأنها الأكثرية، بينما لم يتجاوز عددها 8% من العدد الإجمالي للسكان، في الوقت الذي كانوا فيه لا يملكون أكثر من 2.5% من مساحة فلسطين، بينما أكثر من 97.5% من مساحة فلسطين كانت تخضع لملكية الفلسطينيين، مسلمين ومسيحيين.
2. لقد أنكرت بريطانيا بشكل متعمد الحقوق القومية والسياسية للشعب الفلسطيني، واستعاضت عنها بعبارة "الحقوق المدنية والدينية" والتي لا ترتقي إلى مستوى الحقوق السياسية.
3. تقديم التزامات متناقضة لا يمكن التوفيق بينها: صحيح أن بريطانيا ربطت تأسيس الوطن القومي لليهود في فلسطين بعدم إلحاق ضرر بالحقوق المدنية والدينية للفلسطينيين، إلا أنها من الناحية العملية تجاهلت حتى هذه الحقوق للسكان العرب، بينما أوفت بوعودها تجاه اليهود.
ثالثاً: الجزء الثالث والأخير يخاطب وضع اليهود خارج فلسطين.فيؤكد الوعد على أن لا تتضرر "لا الحقوق والوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى". ومن الملاحظ على هذه الفقرة:
عندما يكون الخطاب موجهاً إلى اليهود وفي هذه الحالة الأقليات اليهودية المنتشرة في بلدان العالم، نجد أن بريطانيا تحرص على ضمانة مكانتهم وحقوقهم السياسية خارج فلسطين ومن هذه الحقوق لن تتأثر جراء هذا الوعد.
أهداف تصريح بلفور ودوافعه:
من المعروف أن السياسة البريطانية الاستعمارية سعت منذ زمن بعيد جداً إلى دعم وتوطين اليهود في فلسطين وإلى إقامة كيان سياسي لهم فيها تحت حمايتها للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. لقد التقت هذه المصلحة الاستعمارية البريطانية مع أهداف وأطماع الحركة الصهيونية، التي سعت جاهدة إلى التحالف مع أية قوة استعمارية غربية قادرة على تحقيق أغراضها السياسية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه وبإلحاح هو ما هي الأسباب والدوافع التي دفعت بريطانيا وبالذات في هذه المرحلة من التنصل من عهودها وتفاهماتها مع العرب (مراسلات حسين- مكماهون)، والتحالف مع الحركة الصهيونية ومنحها على النقيض من هذه التفاهمات وعداً للحركة الصهيونية في إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين؟ بالتأكيد لم تكن الدولة البريطانية الاستعمارية والمتورطة في حرب عالمية طاحنة في وقت كانت تشير فيه كل الدلائل قبل صدور الوعد أي في عام 1916 إلى وجود صعوبات جمة لدى الحلفاء في الانتصار على ألمانيا, أن تكون مدفوعة بدوافع إنسانية أو أخلاقية أو عاطفية. في الواقع، إن تعاطفاً كهذا لا يفسر أسباب إعلان الوعد والتحالف الصهيوني البريطاني الذي استمر حتى قيام دولة إسرائيل عام 1948م. الدوافع الحقيقية للوعد يجب البحث عنها في السياسة الاستعمارية البريطانية والتي يمكن إجمالها في كثير من الأسباب والدوافع، لعل أهمها هي:
1- دور وأهمية الحركة الصهيونية في إدخال الولايات المتحدة الأمريكية الحرب لصالح الحلفاء:
يتلخص هذا الدافع في مكافئة بريطانيا للحركة الصهيونية بهذا الوعد، بعد أن تبين لها أهمية النفوذ المالي والسياسي الذي استخدمه اليهود لجر الولايات المتحدة الأمريكية إلى الحرب لصالح الحلفاء ضد دول المحور في نيسان/ ابريل عام 1917. في هذا الوقت كانت بريطانيا بأمس الحاجة لمساعدة عسكرية ملموسة لكسب الحرب، وخاصة بعد أن كانت كفة الصراع عام 1916، تميل لصالح ألمانيا ضد دول الحلفاء، حيث بلغت نسبة الخسائر في تلك السنة في صفوف الحلفاء والألمان ثلاثة إلى اثنين، كما وكانت الغواصات الألمانية متفوقة على سفن الحلفاء، ولذلك كان الأمل المتبقي عند الحلفاء دخول أمريكا الحرب إلى جانبهم ، وقد أوكلت هذه المهمة بشكل أساسي إلى لويس برنديس ( 1856-1941 Louis Brandeis) زعيم الاتحاد الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية، وقاضي المحكمة العليا الأمريكية والصديق الحميم للرئيس ويلسون .
ولدعم هذه الفرضية نستشهد بالاعتراف التالي لِ ونستون تشرشل ( 1874-1965 Winston Churchill ) الذي قال: "وعلى ذلك لا ينبغي النظر إلى تصريح بلفور وكأنه وعد أعطي بدوافع عاطفية، بل لقد كان إجراء عمليا اتخذ تحقيقا لمصالح قضية مشتركة، وفي لحظة لم تكن تلك القضية فيها قادرة على تجاهل أية مساعدة مادية أو معنوية" ، في الواقع أن أهمية الحركة الصهيونية بالنسبة لبريطانيا لا ينحصر فقط في قدرتها على إدخال أمريكا الحرب إلى جانب الحلفاء فحسب بل وأيضاً للضغط عليها حتى تتخلى عن مطامعها ونفوذها في فلسطين لصالح بريطانيا.
لقد عبر رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج ( 1863-1945 Lloyd George) عن هذه الحقيقة في كتابه "حقيقة معاهدات السلام"، بعد أن حصلت الولايات المتحدة عام 1914 على سبعة امتيازات في تصنيع البترول في فلسطين، قائلاً بأن "وجود الأمريكيين في فلسطين لن يكون ذا نفع أو فائدة بالنسبة لسياساتنا في مصر، بل على العكس فإنه سيضع أمامها العثرات والعراقيل" .
2- توطيد النفوذ الاستعماري البريطاني في السويس والمنطقة والاستئثار بولاء الحركة الصهيونية واليهود.
في الواقع لقد كان هذا الهدف أحد أهم ركائز الإستراتيجية الاستعمارية البريطانية في المنطقة، وما أن تسلم لويد جورج رئاسة الوزراء حتى أعلن أمام حكومته أن "بريطانيا ستحتل فلسطين وتستقر فيها وما على فرنسا وغيرها من الدول إلا الانصياع لهذا الواقع وقبوله" .
لويد جورج كان يدرك جيداً أن السيطرة البريطانية على فلسطين سوف يعني تغيير قواعد اللعبة السياسية المتفق عليها في اتفاقية سايكس بيكو التي نصت على تدويل فلسطين,وأن ذلك لن يجد موافقة فرنسية بسهولة إلا إذا تحالفت بريطانيا مع الحركة الصهيونية وكسبت ولاءها وولاء اليهود الذين سيتكفلون جميعاً بالضغط على فرنسا لتخليها عن مطامعها في فلسطين، لمصلحة بريطانيا تحت ذريعة أن الهدف البريطاني من احتلال فلسطين هو تنفيذ وعد بلفور لليهود.
3- تخوف بريطانيا من قيام ألمانيا بمنح اليهود وعدا مشابها لوعد بلفور
بريطانيا كانت متخوفة من المساعي والجهود الحثيثة التي بذلتها ألمانيا منذ عام 1914 مع الحركة الصهيونية لكسب ثقتها وتأييدها . لويد جورج يشير إلى أن أحد أهم العوامل التي جعلته يتبنى فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين هو استباق ألمانيا التي كانت تتهيأ لمنح اليهود وطناً قومياً في فلسطين، لتضمن ولاء الحركة الصهيونية ووقوف اليهود إلى جانب دول المحور في الحرب ضد الحلفاء. وفي هذا السياق قال لويد جورج "ليس ثمة من برهان على قيمة وعد بلفور كخطوة عسكرية أفضل من دخول ألمانيا في مفاوضات مع تركيا، وذلك في محاولة منها لإيجاد تدبير بديل يروق للصهاينة" .
قانونية الوعد
يعتبر وعد بلفور لاغياً وباطلاً قانونياً لعدة أسباب أهمها:
1- إن بريطانيا منحت بموجب هذا الوعد أرضاً لا تملكها (فلسطين) ولا يحق لها التصرف فيها، إلى جماعة لا تستحقها ولا تملكها (اليهود)، وعلى حساب من يملكها ويستحقها (الشعب العربي الفلسطيني). وأبرز ما قيل في الوعد وبصورة معبرة وواضحة أنه "وعد من لا يملك لمن لا يستحق".
2 - عندما صدر الوعد لم تكن بريطانيا تملك السيادة على فلسطين، فلم تدخل القوات البريطانية مدينة القدس وتسيطر عليها إلا في 9/12/1917، فلا يحق لأية دولة كانت بناء على رغبتها ومشيئتها الخاصة أن تمد سلطتها على حساب دولة أو شعب آخر؛ فالقانون الدولي "لا يعترف بأهلية الدولة البريطانية على أراضي غير أراضيها الخاصة وعلى شعوب غير رعاياها ومواطنيها"، وبالتالي فلا يحق لبريطانيا أن تجعل من غير القانوني ومن غير الشرعي قانونياً وشرعياً.
3- إن الشخص الذي أرسل إليه الوعد لا يمتلك صفة دولية رسمية، إنه أحد وجهاء الحركة الصهيونية الأغنياء، ولم يصدر الوعد على شكل اتفاقية رسمية كما تكون الاتفاقات بين الدول، وإنما كان وعداً في رسالة.
4- تناقض الوعد مع اتفاقات بريطانيا مع الجانب العربي كما جاء في مراسلات حسين مكماهون التي تتضمن منح العرب دولة عربية مستقلة بما فيها فلسطين بعد نهاية الحرب.
5- تجاهل الوعد لسكان البلاد الأصليين (الشعب العربي الفلسطيني) الذين وصفوا فيه بـ "الطوائف غير اليهودية"، على الرغم من أنهم كانوا يشكلون أكثر من 92% من العدد الإجمالي للسكان ومع هذا فهو لم يستشرهم ولم يأخذ برأيهم، وفيه تعد صارخ على حقوقهم السياسية والوطنية وحقهم في تقرير المصير.
ردود الفعل على وعد بلفور
رفض العرب مباشرة تصريح بلفور عند سماعهم به بعد أن كشفت الحكومة البلشفية في روسيا في أعقاب نجاح الثورة ضد القيصر النقاب عن مضمون وعد بلفور واتفاقية سايكس-بيكو.الشريف حسين بن علي طلب من الحكومة البريطانية تفسيراً للأمر،لقد ردت بريطانيا علية في عام 1918 بأربعة رسائل تطمينات ، تارة باسمها لوحدها، وتارة أخرى باسمها وباسم فرنسا نيابة عن الحلفاء، نفت فيهما أي وجود للوعد ولإتفاقية سايكس-بيكو ومؤكدة على أنه "لن يسمح بتوطين اليهود في فلسطين إلا بالقرار الذي يكون متوائماً مع حرية السكان العرب السياسية والاقتصادية"، وأن سياستها تجاه السكان في المستقبل "ينبغي أن تقوم على مبدأ موافقة المحكومين، وستظل هذه السياسة دائماً سياسة حكومة جلالته". ,وبالتالي استمرت بريطانيا في سياسة المكر والخداع تجاه العرب وفي استغلالهم في الحرب لصالحها.
أما بخصوص ردود الفعل الدولية على الوعد، فقد اتسمت بالإيجاب. فرنسا وايطاليا وافقتا عليه عام 1918، واليابان ومؤتمر سان ريمو وافقا عليه عام 1920 ، وفي عام 1922 وافقت عليه عصبة الأمم ضمن نظام الانتداب البريطاني على فلسطين .
أما بخصوص موقف الولايات المتحدة الأمريكية، فقد امتنع رئيسها وودرو ويلسون (Woodrow Wilson 1856-1924) عن تأييد الوعد في البداية. ففي خطابه الذي ألقاه أمام الكونجرس في 11/2/1918 حذر القوى الأوروبية بقوله: "لا ينبغي التلاعب بالشعوب بتسليمها من دولة إلى أخرى بواسطة مؤتمر دولي أو تفاهم بين متنافسين ومتعاديين".وفي 4/7/1918 قال: "إن تسوية أية قضية سواء أكانت متعلقة بالأرض أو بالسيادة أو الترتيبات الاقتصادية أو العلاقات السياسية يجب أن تقوم على أساس قبول الشعب الذي يعنيه الأمر بتلك التسوية قبولاً حراً، وليس على أساس المصلحة المادية أو المزايا التي تعود على أية أمة أو شعب آخر قد يرغب في تسوية مغايرة من أجل نفوذه الخارجي أو تسلطه" ، وبعد أقل من شهرين من هذا التاريخ، وتحديداً في آب/ أغسطس 1918 أرسل الرئيس الأمريكي كتاباً إلى الحاخام اليهودي ستيفن وايز (Stephen Wise) رئيس اللجنة المؤقتة للقضايا الصهيونية تبنى فيها حرفياً إعلان بلفور .
وفي النهاية انحازت الدول الكبرى (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، وايطاليا) لصالح الحركة الصهيونية وأهدافها. اللورد بلفور عبر عن هذا الانحياز في مذكرة دبلوماسية تعود إلى سنة 1919 قائلاً: "... الصهيونية سواء أكانت على حق أم لا، حسنة أم سيئة، متجذرة في تقاليد بعيدة ولها حاجاتها الحاضرة وطموحاتها المستقبلية الأهم بكثير من رغبات سبعمائة ألف عربي ويقيمون اليوم في هذه الأرض القديمة..." .
فلسطين تحت الإدارة العسكرية البريطانية 1917-1920
ظلت فلسطين من الناحية الجغرافية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام، وكانت تعرف حينذاك باسم "سورية الجنوبية"، وحتى ذلك التاريخ كانت فلسطين تابعة للسيطرة العثمانية، وفي ديسمبر / كانون أول 1917 وقعت فلسطين تحت سيطرة القوات العسكرية البريطانية بقيادة الجنرال أللنبي (Ellenby ) التي أحكمت سيطرتها الكاملة عليها في أواخر أيلول / سبتمبر 1918, إلا أنها قامت بتطبيق الأحكام العسكرية عليها منذ أن أعلن الجنرال أللنبي من قلعة صلاح الدين في 11 ديسمبر/ كانون أول 1917 منشور "الأحكام العرفية في القدس الشريف" والذي أكد فيه أن "المدينة أصبحت راضخة للأحكام العرفية وأن هذا النظام سيظل سارياً فيها ما دامت الاعتبارات الحربية تقتضي ذلك" كما وأعلن... أيضا عن إنشاء إدارة عسكرية عرفت باسم "الإدارة الجنوبية لبلاد العدو المحتلة" ، وقد استمرت هذه الإدارة 30 شهراً حتى عام 1920 حين حلت محلها إدارة مدنية ابتداء من 1/7/1920م.وفي هذه الاثناء قامت الإدارة العسكرية في فلسطين بإتباع الأنظمة والقوانين التي كانت سائدة في العهد العثماني مع إجراء بعض التعديلات الضرورية عليها، فوفقاً لقانون الجمعيات العثماني باشر أهل فلسطين منذ عام 1918 بتشكيل تنظيمات ومنتديات سياسية وأدبية، وجمعيات إسلامية مسيحية، ومؤتمرات عربية فلسطينية لقيادة الشعب الفلسطيني ولتمثيل مصالحه وطموحاته، وكانت أولى هذه المؤسسات "الجمعية الإسلامية المسيحية" التي تأسست في يافا في حزيران/يوليو 1918 برئاسة راغب أبو السعود"، كما تأسست "جمعية إسلامية مسيحية في القدس في تشرين أول/أكتوبر 1918 برئاسة عارف الدجاني" .
وبعد أن رفضت الحكومة البريطانية السماح للوفد الفلسطيني الذي انتخبه المؤتمر العربي الفلسطيني الأول، الذي تأسس في القدس عام 1919، بالسفر إلى باريس لحضور مؤتمر السلم في فرساي، لتمثيل عرب فلسطين، رفع المؤتمر في 3 شباط/ فبراير 1919 مذكرة احتجاج إلى مؤتمر السلم أكد فيها على رفض الشعب الفلسطيني التام لمطالب الحركة الصهيونية وإلى هجرة اليهود إلى فلسطين وإلى تصريح بلفور، وإلى أية معاهدة أخرى أبرمت بحق البلاد ومستقبلها بدون إرادة الشعب الفلسطيني، كما وشددت المذكرة على المطالب القومية في الاستقلال والوحدة العربية، وعلى أن فلسطين جزء من سوريا العربية لم تنفصل عنها في يوم من الأيام، وتربطها بها روابط قومية ودينية واقتصادية وجغرافية .
فلسطين في مؤتمر السلم في باريس: اتفاقية فيصل – وايزمن في 3 كانون الثاني/يناير 1919
لقد سمحت بريطانيا لوفد عربي برئاسة فيصل بن الحسين بتمثيل المطالب العربية بما فيها الفلسطينية, ولزعيم الحركة الصهيونية حاييم وايزمن (Chaim Weismann 1874-1952 ) بتمثيل مطالب المنظمة الصهيونية الذي رفع مذكرة للمؤتمر طالب فيها بـ "الاعتراف بالحق التاريخي للشعب اليهودي في فلسطين وبحق اليهود في إعادة بناء وطنهم القومي فيها"، على أن يشمل هذا الوطن القومي "فلسطين وشرق الأردن وجنوب لبنان وجبل الشيخ" .
أثناء انعقاد المؤتمر حصل تفاهم بين فيصل بن الحسين و حاييم وايزمن بتاريخ 3 كانون الثاني 1919، سمي "اتفاقية فيصل – وايزمن"، والتي تعكس تخاذلاً وتنازلاً واضحاً من الأمير فيصل لزعيم لحركة الصهيونية بسبب الضغوط الهائلة التي تعرض لها من الحركة الصهيونية ومن بريطانيا، الذين أكدوا له في المقابل على مساعدته في تحقيق المطالب العربية في الاستقلال وإنشاء الدولة العربية. إن أهم ما ورد في هذا الاتفاق هو موافقة فيصل على تنفيذ وعد بلفور وعلى" ترسيم الحدود النهائية بين الدولة العربية وفلسطين", وعلى أن " تتخذ كل التدابير الضرورية لتشجيع هجرة اليهود إلى فلسطين وتنشيطها على نطاق واسع" وعلى أن" يخضع أي نزاع يمكن أن يقوم بين الفريقين المتعاقدين لتحكيم الحكومة البريطانية".
أما ملحق الاتفاق والذي خطه فيصل بيده وباللغة العربية فهو ينص على التحفظ التالي: "إذا حصل العرب على استقلالهم ضمن الشروط المبينة في مذكرتي إلى وزير الخارجية الانجليزي، فإنني أعطي بنود هذا الاتفاق مفعولها"، ولكن إذا جرى أقل تعديل لشروط مذكرتي "فإنني لن أكون مرتبطاً بأي كلمة من الاتفاق الذي يصبح باطلاً وكأنه لم يكن، ولن أعود مسئولا عن أي تعهد" .
ولما أخلت الحركة الصهيونية وبريطانيا بشرطه الذي وضعه بخط يده والمتعلق بحصول العرب على استقلالهم ودولتهم، أصبحت بالتالي هذه الاتفاقية لاغيه ولا قيمة قانونية لها.
فلسطين ولجنة كينغ – كرين 1919 King – Crane
أمام تضارب المصالح الاستعمارية المتنافسة بين بريطانيا وفرنسا، ورغبة منه في إيجاد موطئ قدم للولايات المتحدة في المنطقة, بعد أن أقصيت عنها بموجب اتفاقية سايكس بيكو, أصر الرئيس الأمريكي ويلسون على مبدئه في حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى أن يجري استفتاء في المنطقة العربية، لمعرفة وجهة نظر سكانها في مستقبلهم السياسي. لذا اقترح على المجلس الأعلى لقوات الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وايطاليا وأمريكا) إرسال لجنة تحقيق دولية من الحلفاء إلى المشرق العربي للوقوف على رغبات السكان وتقديم تقرير إلى مؤتمر الصلح. وعلى الرغم من موافقة المجلس على اقتراحه، إلا أن بريطانيا وفرنسا رفضتا المشاركة في اللجنة خشية من ان تأتي اللجنة بنتائج مغايرة إلى مصالحهما.
لقد وصلت اللجنة الأمريكية إلى يافا في حزيران/يوليو 1919 لإجراء الاستفتاء، برئاسة المندوبين هنري كنغ (Henry King) وتشارلز كرين (Charles Crane) ودعيت باسمهما (لجنة كنج -كرين).
لقد اتصلت لجنة كنغ كرين بممثلي الشعب الفلسطيني واستمعت إلى مطالب "المؤتمر السوري العام" الذي انعقد في تموز/ يوليو 1919 وحضره مندوبون عن لبنان وسوريا وفلسطين وغيرها. لقد تمثلت هذه المطالب في رفض الصهيونية والوطن القومي، ورفض اتفاقية سايكس بيكو، والمطالبة بدلاً من ذلك بالاستقلال التام. وفي أعقاب ذلك أعدت هذه اللجنة تقريرها، ورفعته إلى الوفد الأمريكي في شهر آب / أغسطس 1919، إلا أنه ظل سرياً ولم ينشر إلا في عام 1922.
إن هذا التقرير الذي جاء في مصلحة العرب وأفضل من مضمون اتفاق فيصل- وايزمن , اشتمل على عدة توصيات أهمها:
1. "لا ينبغي لمؤتمر السلم أن يتجاهل أن الشعور ضد الصهيونية في فلسطين وسوريا بالغ الشدة وليس من السهل الاستخفاف به وأن جميع الموظفين الإنجليز الذين استشارتهم اللجنة يعتقدون ان البرنامج الصهيوني لا يمكن تنفيذه إلا بالقوة المسلحة، فالادعاء الأساسي للزعماء الصهيونيين بأن لهم حقاً تاريخياً في فلسطين لكونهم احتلوها قبل ألفي سنة لا يمكن الاكتراث به جدياً."
2. "... لا يمكن إقامة دولة يهودية دون هضم خطير للحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين".
3. ... المشروع الصهيوني يتناقض مع مبدأ ويلسون في حق تقرير المصير وأن تعريض الشعب الفلسطيني لهجرة يهودية لا حد لها ولضغط اقتصادي اجتماعي متواصل من أجل تسليم بلاده، ما هو إلا نقض شائن لمبدأ ويلسون واعتداء على حقوق الشعب.
4. طالب تقرير اللجنة "بأن تكون الهجرة اليهودية محدودة بشكل قطعي، وأن "مشروع تحويل فلسطين إلى كومنولث يهودي يجب التخلي عنه، وأن فلسطين يجب أن "تصبح جزءاً من دولة سورية متحدة مثلها في ذلك مثل بقية أجزاء البلاد" .
القضية الفلسطينية بين الانتداب البريطاني والنكبة
فلسطين تحت الانتداب البريطاني 1920-1948
نظام الانتداب:
بعد أن انتهت الحرب بالتوقيع على اتفاقية الهدنة مع تركيا في 30/10/1918، قرر المجلس الأعلى لمؤتمر السلم في 30/1/1919 عدم إرجاع الولايات العربية المحتلة بما فيها فلسطين إلى الحكم العثماني. وفي هذه الأثناء طالبت الشعوب العربية الحلفاء بالحرية والاستقلال، التزاماً بتعهداتهم ووعودهم التي قطعوها على أنفسهم أثناء الحرب. لكن الحلفاء الذين وقعوا في 28/6/1919 على معاهدة فرساي، وميثاق عصبة الأمم، ابتكروا نمطاً جديداً من أنماط الاستعمار أسموه "نظام الانتداب"، بهدف التنصل من التزاماتهم، والالتفاف على مبدأ حق تقرير المصير للشعوب، ولمواصلة احتلال الأقاليم التي كانت خاضعة للدولة العثمانية.
وتنص الفقرة الرابعة من المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، التي بني عليها نظام الانتداب على: "أن بعض الجماعات التي كانت من قبل تابعة للإمبراطورية العثمانية قد وصلت من الرقي إلى درجة يستطاع عندها الاعتراف بقيامها بصفة أمم مستقلة على أن تتولى إسداء المشورة والمساعدة الإدارية لها دولة منتدبة، وذلك إلى الوقت الذي تصبح فيه قادرة على الوقوف وحدها، على أن يكون لرغائب هذه الجماعات اعتبار رئيس في اختيار الدولة المنتدبة" .
وفي نيسان/ إبريل 1920، أقر المجلس الأعلى للحلفاء في مؤتمر سان ريمو استناداً إلى المادة 22, الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، والانتداب البريطاني على العراق وفلسطين.
وفي 24/7/1922 أقر مجلس عصبة الأمم مشروع "صك الانتداب" البريطاني على فلسطين، الذي سبق وأن أعدت صياغة بنوده المنظمة الصهيونية منذ عام 1919، بالاتفاق السري مع الحكومة البريطانية ، التي أدخلت عليه بعض التعديلات، لكن صك الانتداب لم يصبح نافذاً إلا في 29/9/1923. وكانت هناك أسباب عديدة دفعت باتجاه التأخير في التصديق على صك الانتداب كان أهمها:
1. المعارضة القوية من مجلس اللوردات الذي رفض صك الانتداب في حزيران/ يونيو 1922، إلا أن مجلس العموم البريطاني صادق عليه في 24 تموز/ يوليو 1922 بعد أن أدخل عليه بعض التعديلات.
2. اختلاف الدول الاستعمارية حول تسوية مشكلة الحدود السورية الجنوبية بين بريطانيا وفرنسا، حيث تقرر فصل شرق الأردن في إدارة خاصة.
3. تأخر الاعتراف البريطاني بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية الاقتصادية والثقافية في المنطقة أدى إلى تأخير موافقة الأخيرة على صك الانتداب.
ولما كانت المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم تشكل المرجعية القانونية والسياسية الضابطة والمنظمة لصك الانتداب، وللسياسة البريطانية الواجب إتباعها في فلسطين، نسلط الضوء أولاً على أهم مواد "صك الانتداب" الذي يتألف من ديباجة و28 مادة، يتعلق الكثير منها بالوطن القومي ، وأهمها المادتان الثانية والسادسة .
المادة الثانية ألقت على عاتق حكومة الانتداب ثلاث مسؤوليات هي:
أولاً "وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي".
ثانياً: "ترقية مؤسسات الحكم الذاتي".
ثالثاً: "صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بصرف النظر عن الجنس والدين".
أما المادة السادسة فقد خولت الحكومة البريطانية "مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالي الأخرى أن تسهل هجرة اليهود في أحوال ملائمة".
ومع أن صك الانتداب لم يعّرف مفهوم الوطن القومي، ومتى سيتم إنشاؤه، إلا أنه وكما يتضح من المواد السابقة:
1. لا يجوز الاستمرار في إنشاء الوطن القومي إذا كان ذلك الاستمرار يضر بمصالح الأهالي غير اليهود.
2. من واجب سلطة الانتداب أن تقوم بترقية أنظمة الحكم الذاتي أثناء إنشاء الوطن القومي وليس بعده.
3. لا يجوز استمرار تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين إذا ألحق ضرراً بحقوق الفلسطينيين.
أما المواد 14، 15، 16، فقد ألزمت بريطانيا مسؤولية المحافظة على الأماكن المقدسة، وضمان الوصول إليها، وكفالة الحرية الدينية للجميع.
إنشاء الإدارة المدنية 1920
واصلت بريطانيا تجاهلها مطالب الفلسطينيين في الاستقلال والحرية، والوحدة مع بلاد الشام، ومعارضتهم للمشروع الصهيوني الذي يتناقض كليا مع الحقوق العربية، وظلت ماضية في تطبيق وعد بلفور، الذي تم الإعلان عنه رسميا ولأول مرة على لسان الحاكم العسكري في فلسطين الجنرال بولز ( Bols ) بتاريخ 20 شباط/ فبراير 1920، أي بعد ثلاثة أيام فقط من تفويض بريطانيا بالانتداب على فلسطين.وكانت النتيجة أن عمت البلاد موجة من السخط والغضب والمظاهرات على سياسات بريطانيا، فاشتبك الفلسطينيون مع رجال الأمن البريطاني، وبعد عدة أسابيع من هذه المظاهرات انفجرت في 4 نيسان/ ابريل 1920 بمناسبة الاحتفال بذكرى النبي موسى في القدس مظاهرات واضطرابات دامية ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية.
شكلّت هذه المظاهرات والاضطرابات التي عرفت ب "ثورة نيسان" أو "انتفاضة القدس",البدايات الأولى للنضال الفلسطيني المسلح, رغم كونها هبّة جماهيرية عفوية لا تتسم بالمفهوم السياسي المعاصر للثورة.
وبعد هذه الأحداث قامت الحكومة البريطانية في الأول من تموز/ يوليو 1920 بحل الحكم العسكري، واستبداله بإدارة مدنية برئاسة اليهودي الصهيوني البريطاني الأصل هربرت صموئيل (Herbert Louis Samuel) ,الذي كان أول مندوب سام بريطاني على فلسطين. ولقد اعترف حاييم وايزمن عام 1921 بدور الحركة الصهيونية في تعيينه قائلاً: "كنت المسئول الأول عن تسمية السير صموئيل في فلسطين, إنه صديقنا وقد قبل بناءً على طلبنا هذا المنصب الصعب ,إنه صموئيلنا" .
وأول ما فعله صموئيل هذا الذي كان أحد صانعي وعد بلفور ، تعيين كبار الصهاينة على رأس المناصب والمراكز الحساسة في الحكومة المركزية والإدارات المحلية ). ومن أهم الأعمال التي قام بها صموئيل أثناء فترة ولايتة المكونة من خمسة سنوات ما يلي:
1. سن أول قانون للهجرة في 26/8/1920 دخل بموجبه في السنة الأولى (16.500) مهاجر يهودي.
2. سن تشريعات وقوانين، كقانون الهجرة، والقوانين المتعلقة بنقل ملكية الأراضي وتسجيلها لتمكين اليهود من الاستيلاء على الأراضي العربية.
3. منح الشركات اليهودية امتيازات في الأراضي الأميرية والمصادر الطبيعية مثل الري واستخراج البوتاس، وغيره من معادن البحر الميت.
4. وفي عام 1921 منحت إدارة هربرت صموئيل امتياز احتكار توليد الكهرباء لمدة سبعين عاماً لليهودي الروسي روتنبرغ (Rutenberg Pinchas1879-1942)، ويشمل ذلك الامتياز استغلال مياه نهر الأردن وروافده ونهر اليرموك وتوابعه ومياه بحيرة طبريا، واستثمار نهر العوجا، وينص على أن لا يسمح لأحد غير روتنبرغ بتنوير أي بلد في فلسطين، أو باستخدام محركات كهربائية للمصانع والمؤسسات إلا بإذن منه. أما امتياز تنوير مدينة القدس فقد كان ممنوحاً من الدولة العثمانية عام 1914 لأحد اليونانيين الذي لم تتمكن السلطات البريطانية من انتزاعه منه، بعد أن كسبت الدولة اليونانية الدعوة القضائية أمام محكمة العدل العليا في لاهاي، التي قضت ببقائه لصاحبه.
5. تقديم التسهيلات لليهود لشراء أكثر من 200,000 دونما من مرج بن عامر من غير الفلسطينيين، مما أدى إلى طرد أكثر من تسعمائة عائلة من الفلاحين المستأجرين.
6. رفع مكانة اللغة العبرية، واعتبارها لغة رسمية في البلاد إلى جانب اللغة العربية والإنجليزية, وبذلك تمت كتابة أرض إسرائيل بالعبرية على الأختام والطوابع الصهيونية.
7. إعطاء الوكالة اليهودية الاستقلال وحرية التصرف بإدارة المعارف اليهودية، بينما ظلت إدارة المعارف العربية بيد السلطات البريطانية .
وفي نفس السنة(1920) التي استلم فيها صموئيل مهام منصبه, أنشئت عدة مؤسسات صهيونية لتحقيق الحلم الصهيوني وقيام دولة إسرائيل، وهي: الاتحاد العام للعمال في إسرائيل الهستدروت (Histadrut*) الذي طبق مبدأ "العمل اليهودي" واستبعاد الأيدي العاملة العربية، والصندوق التأسيسي لفلسطين كيرين هايسود (Keren Hayesod)**، تأسس في لندن كذراع مالي للحركة الصهيونية بهدف تمويل الهجرة والاستيطان في فلسطين, والمجلس القومي "فائد لئومي" (Va’ad Leumi) ومهمته الاهتمام بشؤون اليهود في فلسطين والذي أضحى الممثل الرسمي لهم.
وبينما كانت الوكالة اليهودية تتولى إدارة شؤون اليهود وتمتلك الحق في النصح والإرشاد فيما يتعلق بإقامة الوطن القومي اليهودي، امتنعت بريطاني عن تطوير مؤسسات الحكم الذاتي التي نص عليها صك الانتداب البريطاني.
ومع أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن سياسة الانتداب البريطاني المنحازة للحركة الصهيونية سوف تؤدي في النهاية إلى إقامة دولة يهودية مجرد أن يصبح اليهود أكثرية أو أقلية كبيرة في فلسطين، كانت بريطانيا تنكر أن هدفها إقامة أكثر من وطن قومي لليهود، إلا أنها وفي نفس الوقت كانت منذ عام 1922 تأمل في أن يتوقف العرب آجلاً أم عاجلاً عن مقاومة الوطن القومي، وأنهم سوف يروضون أنفسهم على القبول به مع مرور الزمن .
المقاومة العربية للانتداب البريطاني
اتسم الموقف الفلسطيني والعربي بالرفض المطلق لصك الانتداب البريطاني على فلسطين وذلك لسببين أساسيين:
أولهما: خطورة صك الانتداب البريطاني لما فيه من تعدٍ صارخ على الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة في فلسطين، وقد تمثل ذلك في:
1 - تجاهل الأكثرية العربية الساحقة (السكان الأصليين) التي مثلت حوالي 92% من سكان فلسطين، وكانت تملك حوالي 97% من مساحة الأرض.وكان الهدف تجريد العرب من حقوقهم السياسية والطبيعية والتاريخية في بلادهم التي استقروا فيها منذ عشرات القرون.إن الصك الذي لم تتسع مواده لذكر العرب ولو بكلمة واحدة، وصفهم فقط بالطوائف غير اليهودية.
2- منح صك الانتداب بريطانيا السلطة المطلقة في التشريع والإدارة والتنفيذ والسيطرة على الحكم المحلي، وعلى العلاقات الخارجية، وقوات الأمن وغير ذلك من الصلاحيات.
3 - احتواء صك الانتداب على إقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، وتشجيعه الهجرة اليهودية الى فلسطين، واعترافه بصورة مغايرة للحقائق التاريخية بالصلة التاريخية لليهود بفلسطين, على الرغم من أنهم ليسوا السكان الأصليين، ولم يشكلوا في يوم من الأيام الأكثرية.
ثانيهما: عدم قانونية صك الانتداب البريطاني وشرعيته على فلسطين.
وكما شكلت المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، المرجعية القانونية، التي استند عليها مؤتمر سان ريمو في موافقته على انتداب بريطانيا على فلسطين، كذلك استند إليها العرب لإثبات بطلان صك الانتداب وتفنيده قانونياً لمخالفته هذه المرجعية، ومرجعيات قانونية أخرى. وتمثل ذلك في:
1- مخالفة صك الانتداب المادة 22 من ميثاق عصبة الأمم، وخاصة الفقرة الرابعة منه، والتي تنص على أن فلسطين مثلها في ذلك مثل لبنان وسوريا والعراق "قد وصلت بسبب موقعها الجغرافي وأوضاعها الاقتصادية وغيرها من الظروف المشابهة" مرحلة من التطور "يمكن معها الاعتراف" بها كأمم مستقلة اعترافاً مشروطاً، على أن تقدم لها دولة منتدبة النصح والمساعدة في النواحي الإدارية وذلك إلى أن يحين الوقت الذي يستطيع فيه ]سكانها[ الوقوف وحدهم". وبهذا لم توصل السياسة البريطانية الشعب الفلسطيني إلى الاستقلال، وإنما أوصلته الى النكبة التي تمثلت في خلق دولة إسرائيل وفي فقدانه حريته وتهجيره من وطنه.
2 - لم يستشر عرب فلسطين في الانتداب، فالمادة 22 نفسها أكدت على أن "رغبات هذه المجتمعات يجب أن تشكل اعتباراً أساسياً في اختيار الدولة المنتدبة"، إن رغبات ومطالب عرب فلسطين وسوريا كانت واضحة تماماً، وتمثلت في المطالبة بالوحدة والاستقلال، وفي رفض تصريح بلفور والهجرة اليهودية إلى فلسطين.
3- مخالفة صك الانتداب البريطاني المعاهدات والوعود المقطوعة للعرب بالاستقلال، ابتداء من اتفاقية حسين-مكماهون عام 1915م مرورا برسائل التطمينات الأربعة عام 1918، ومخالفته مضمون لجنة كنخ – كرين ومبدأ ويلسون في حق الشعب في تقرير مصيره.
ظل الفلسطينيون يقامون وبشدة تنفيذ وعد بلفور طوال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين.وبعد أن فشلت جميع المناشدات والاحتجاجات والمظاهرات السلمية في حمل الحكومة البريطانية على الوفاء بالتزاماتها للجانب العربي، وفي إجبارها على التراجع عن سياستها المنحازة لليهود، لجئوا إلى استخدام العنف المسلح ضد الحركة الصهيونية وبريطانيا, وكانت أولى مظاهره هي انتفاضة القدس في موسم النبي موسى سنة 1920، تلتها اضطرابات يافا التي انفجرت في الأول من أيار/ مايو 1921 بسبب النقمة على سياسة بريطانيا واستمرار تدفق الهجرة اليهودية، ثم ثورة البراق في آب/أغسطس 1929, ثم الثورة الشاملة بين عامي 1936-1939 التي تخللها إضراب شامل ليس له مثيل.
وقد لجأت بريطانيا بعد كل ثورة وحالة اضطرابات إلى تعيين لجان لتقصي الحقائق بلغ عددها أربع لجان، لامتصاص النقمة، واحتواء غضب الناس، وليس لإيجاد حل يرضي الأكثرية الساحقة من السكان العرب، وكانت نتائج تحقيقاتها متشابهة دائماً، وتتلخص فيما يلي:
1. استياء العرب من عدم الوفاء بوعود الاستقلال التي أعطيت لهم خلال الحرب العالمية الأولى.
2. إيمان العرب بأن إقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين يعتبر تعديا على حقوقهم ومستقبلهم الاقتصادي والسياسي، وانه سيقود في النهاية إلى سلب وطنهم واقتلاعهم من ديارهم .
3. معارضة مشروع الحركة الصهيونية القائم على الهجرة والاستيطان، والهادف إلى تهويد فلسطين تمهيدا لإقامة الدولة اليهودية.
4. معارضة الانتداب البريطاني وسياساته المنحازة للحركة الصهيونية.
5. المطالبة بالاستقلال وتأسيس حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي ينتخبه السكان.
الكتاب الأبيض 1922
بعد انفجار الاضطرابات وأعمال العنف في يافا في الأول من مايو/ أيار 1921، شكلت بريطانيا لجنة للتحقيق في أسباب هذه الثورة برئاسة قاضي القضاة في فلسطين السيد توماس هيكرافت ( Thomas Haycraft )، سميت "لجنة هيكرافت". وأوصت هذه اللجنة في تقريرها الذي رفعته في تشرين أول / أكتوبر 1921 إلى مجلس النواب البريطاني بتهدئة قلق العرب وتطمينهم على حقوقهم ومراكزهم.واستنادا إلى ذلك أصدر وزير المستعمرات البريطاني ونتسون تشرشل بتاريخ 22/6/1922 مذكرة عرفت باسم "الكتاب الأبيض" أو "تصريح تشرشل" عكست المبادئ الأساسية للسياسة البريطانية المنوي انتهاجها في فلسطين.
واشتمل هذا التصريح الذي كان أول إعلان عام للسياسة البريطانية في فلسطين بعد وعد بلفور على عدة مبادئ أهمها :
1. التأكيد على وجوب إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، ولكن ليس في كل فلسطين، وأن هذا الوطن لا يعني دولة.
2. أن وجود "الشعب اليهودي في فلسطين هو حق من حقوقه وليس منة" (تسامح) ويستند إلى صلة تاريخية قديمة، لكن بريطانيا لا ترمي جعل فلسطين يهودية كما هي انجلترا انجليزية، ولا تفكر في اختفاء السكان العرب أو اللغة أو الثقافة العربيتين أو جعلهما في مرتبة ثانوية.
3. استمرار زيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين شريطة قدرة البلاد الاقتصادية على استيعاب المهاجرين الجدد.
4. لا يخول المركز الخاص الممنوح للجنة التنفيذية الصهيونية لها الاشتراك في إدارة البلاد.
5. إقامة حكم ذاتي كامل في فلسطين وتأليف مجلس تشريعي تكون أغلبية أعضائه من المنتخبين.
واستناداً إلى هذا الكتاب الأبيض، أصدرت بريطانيا دستوراً فلسطينياً في 10 آب/ أغسطس 1922، نص على تشكيل مجلس تشريعي يرأسه المندوب السامي، ويتكون من 23 عضواً، 11 موظفاً انجليزياً بالتعيين و12 عضواً بالانتخاب منهم 8 من المسلمين و2 من المسيحيين و2 من اليهود، أي أن أغلبية أعضائه 13 من اليهود والانجليز، "وللمندوب السامي حق الترجيح إذا تساوت الأصوات، ولا يجوز للمجلس أن ينظر في أية نقطة تخالف سياسة الحكومة الأساسية المتعلقة بتمهيد السبل لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، كما أن قوانينه لا تنفذ إلا إذا وافق عليها المندوب السامي ووقعها، أو اقترنت بموافقة الحكومة البريطانية، كما أن للمندوب السامي أن يوقف أو يعطل المجلس في أي وقت يشاء" .
رفض المؤتمر الفلسطيني الخامس المنعقد في 22 آب/ أغسطس 1922 بمدينة نابلس الدستور الفلسطيني والمجلس التشريعي المقترح، وقرر مقاطعة انتخاباته، وعدم الاشتراك فيه، فعلقت الحكومة تنظيم الانتخابات وأوقفت تنفيذ الجزء الخاص بإنشاء المجلس التشريعي من الدستور، واكتفى بتعيين مجلس استشاري رفضه الفلسطينيون أيضا، لأنه لا يمثل الأمة، ولا يحقق أمانيها فاستقال منها العرب لاحقاً ، وفي أعقاب ذلك طلب المندوب السامي في 13 تشرين أول/ أكتوبر 1923 تأليف "وكالة عربية" يكون لها ما للوكالة اليهودية من الصلاحيات بخصوص اليهود، ولكن دون أن يكون لها صفة تشريعية، وإنما صفة استشارية، إلا أن هذا الطلب قوبل بالرفض، فلجأت الحكومة البريطانية إلى تأليف مجلس استشاري مؤلف من كبار الموظفين الإنجليز فقط. وبهذا واصلت حكومة الانتداب حكم البلاد حكماً مباشراً غير آبهة بواجباتها في الارتقاء بمؤسسات الحكم الذاتي في البلاد، ولا بمطالب أبناء الشعب الفلسطيني في تأسيس حكومة وطنية مسؤولة أمام مجلس نيابي ينتخبها سكان فلسطين على أساس عدد السكان، متعللة أن ذلك يتعارض مع واجباتها في إنشاء الوطن القومي اليهودي .
وبعد عام 1923 وحتى انفجار ثورة البراق 1928/1929 دخلت البلاد في حالة من الركود والهدوء، وعزا المؤرخ الفلسطيني المعروف عبد الوهاب الكيالي ذلك إلى رفض آل الحسيني والقيادة الإسلامية المسيحية تشجيع "قيام أية حركة ثورية ضد التحالف الانكلو- صهيوني" وذلك ربما بسبب "الرهبة من القوة العسكرية البريطانية فضلاً عن الاعتقاد بأن الثورة ستكون حتماً مدمرة لمصالحهم" من ناحية، وبسبب رضا موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية المنبثقة عن المؤتمرات الوطنية، "عن التقدم الذي أحرزته القضية العربية حتى ذلك الحين" من ناحية أخرى.
ثورة البراق 1929
أسباب انفجار ثورة البراق
البراق هو مكان صغير من الحائط الغربي للحرم الشريف، وفي داخله من جهة ساحة الحرم توجد غرفة يعتقد أنها المكان الذي ربط فيه الرسول البراق (فرس النبي) ليلة الإسراء، فعرف الحائط نسبة إلى ذلك باسم البراق، وعند اليهود يعرف البراق باسم الحائط الغربي، وعند المسيحيين الغربيين باسم حائط المبكى، وقد اعتاد اليهود بموافقة المسلمين على زيارة المكان والبكاء فيه بمناسبة ذكرى خراب الهيكل المزعوم.
بدأ النزاع حول البراق يأخذ طابع الحدة والمواجهة منذ 23 أيلول/ سبتمبر 1928 (يوم عيد الكفارة عندهم)، وذلك عندما جلب اليهود في ذلك اليوم إلى البراق أدوات جديدة، وأقاموا حاجزاً خشبياً يفصل الرجال عن النساء، ونفخوا في الأبواق، وقد اعتقد المسلمون أن الغاية النهائية لليهود من وراء ذلك هي تحويل حقهم في الزيارة إلى حق مكتسب، ومن ثم إلى حق ملكية لإقامة كنيس يهودي في المكان الذي يقدسه المسلمون .
وعندما أقدمت حكومة الانتداب-الملزمة بموجب المادة 12 من صك الانتداب البريطاني بالمحافظة على الحالة الراهنة في الأماكن المقدسة على ما هي عليه- في خطوة منها لتفادي النزاع بين المسلمين واليهود على إزالة الستار, تظاهر اليهود ضد ذلك، وهاجموا مراكز البوليس، وطالبوا بريطانيا بأن تعمل على تسليمهم حائط المبكى وأن تعترف لهم بملكيته ، وفي ظل هذا التهديد للأماكن المقدسة الإسلامية ألف المسلمون جمعية "حراسة المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة".
أما الشرارة التي أدت إلى انفجار ثورة البراق بتاريخ 23/8/1929 فتعود إلى تظاهرة أحياها اليهود في 14/8/1923 في تل أبيب بمناسبة ذكرى تدمير هيكل سليمان، ثم المظاهرة الكبرى التي أحيوها في شوارع القدس حتى وصلوا إلى حائط المبكى، وهناك رفعوا العلم الصهيوني، وبدئوا ينشدون النشيد الصهيوني (الهاتكفاه) ويهتفون بأن الحائط حائطهم، وفي اليوم التالي الذي صادف ذكرى المولد النبوي خرج المسلمون بعد صلاة الجمعة في المسجد الأقصى نحو البراق، فحدث الاصطدام الكبير الذي فجر ثورة عارمة. كانت أهم ثورة في فترة العشرينات، وشملت كل فلسطين، إلا أنها استهدفت اليهود فقط وليس البريطانيين، أملاً في ان تغير بريطانيا سياساتها.
نتائج ثورة البراق:
على الصعيد الفلسطيني:
قرر الفلسطينيون مقاطعة اليهود اقتصادياً، لكن السلطات البريطانية زجت في السجون كل من حرض أو أشرف على المقاطعة، متجاهلة في ذلك شعار العمل اليهودي الذي طبقه اليهود في المستوطنات الصهيونية ابتداءً من عام 1905 استناداً إلى دستور الصندوق القومي اليهودي "كيرن كييمت" ((Keren Kayemet الذي جعل الأراضي التي يسيطر عليها اليهود وقفاً دائما على "الشعب اليهودي"، إضافة إلى مؤسسة كيرن هايسود (Keren Hayesod)التي تحرم استخدام عمال غير يهود في المنشآت والمزارع الصهيونية. كما وأصدرت المحاكم البريطانية في فلسطين أحكاماً على 800 فلسطيني بالسجن لسنوات طويلة، وعلى 20 فلسطينياً بالإعدام،حول 17 منهم إلى السجن المؤبد، ونفذ الإعدام شنقا في ثلاثة منهم هم : فؤاد حجازي، ومحمد جمجوم، وعطاء الزير في سجن عكا في 17 حزيران/ يونيو 1930 .
على الصعيد الانجليزي:
شكلت الحكومة البريطانية لجنة للتحقيق في أسباب هذه الثورة عرفت بلجنة شو (Shaw Commission) نسبة إلى اسم رئيسها شو. وأكد التقرير الذي رفعته اللجنة على ما خلصت إليه لجنة هايكرافت 1921 من أن أسباب الاضطرابات هو شعور العرب بالعداء نحو اليهود لخيبة أملهم، وإيمانهم في السياسة البريطانية، وتخوفهم من تجريدهم من أراضيهم، ومن الهجرة اليهودية المتزايدة.
وفي العام نفسه أرسل الخبير السير جون هوب سيمبسون (John Hope Simpson) للتحقيق في مشاكل الهجرة وشراء الأراضي والاستيطان. فصدم من مدى نزع الملكية من العرب، وخلص تقريره إلى أن ثلث المزارعين العرب انتزعت منهم أراضيهم، وأن العمال العرب تحولوا أكثر فأكثر إلى البطالة وأن "مبدأ المقاطعة الثابت والمتعمد للعمل العربي في المستوطنات ليس مناقضاً للانتداب وحسب, بل هو أيضا مصدر دائم للخطر على البلد" . واستنادا إلى التقريرين أصدرت الحكومة البريطانية ممثلة بوزير المستعمرات اللورد باسفيلد (Passfield) في تشرين أول/ أكتوبر 1930 "الكتاب الأبيض" الثاني الذي عرف أيضا باسم" كتاب باسفيلد" (Passfield white paper). أنصفت فيه بريطانيا العرب مقارنة مع مواقفها السياسية السابقة،وذلك عندما نص على إنشاء مجلس تشريعي مشابه للمجلس التشريعي الذي وضعه تشرشل سنة 1922،وعلى إدخال تحسينات على أساليب الزراعة والري، وضمان عدم إخراج المستأجرين العرب من الأرض، والعمل على تحديد عدد المهاجرين اليهود المسموح بهجرتهم إلى البلاد بالطاقة الاستيعابية الاقتصادية.
لقد هاجم الصهاينة كتاب باسفيلد وفجروا موجة من الغضب والاحتجاجات ضده، واستقال حاييم وايزمن من رئاسة الوكالة اليهود والحركة الصهيونية كعلامة احتجاج. وتحت تأثير هذه الضغوطات والاحتجاجات تراجع رئيس الوزراء البريطاني رمسي ماكدونالد ( Ramsay MacDonald 1866-1937) عن بنود كتاب باسفيلد (الكتاب الأبيض) وقدم للحركة الصهيونية في 13 شباط/ فبراير 1931 بياناً أعلن فيه أن "حكومة جلالته لم تفرض وليس في نيتها وقف أو منع الهجرة اليهودية في أي من تصنيفاتها..." وأنها "لم تفرض أية قيود على حيازة اليهود أراضٍ إضافية... ولا تنوي اتخاذ إجراءات في هذا الصدد" . فوصف العرب هذا التراجع بـ "الكتاب الأسود".
على صعيد عصبة الأمم :
بناء على توصيات لجنة شو، أوفدت عصبة الأمم إلى فلسطين لجنة ثلاثية (مؤلفة من سويدي، وسويسري، وهولندي) وباشرت عملها في حزيران/ يونيو 1930، وبعد أن اطلع أعضاء اللجنة على الوثائق التاريخية وسجلات المحكمة الشرعية التي قدمها الجانب العربي، وبعد أن استمعوا أيضا إلى آراء رجالات فلسطين وعرب من سوريا ولبنان والعراق والهند وإيران وتركيا، صدر عنها في ديسمبر/ كانون أول 1930 تقريراً عاماً اعترفت فيه بملكية المسلمين لحائط البراق كونه جزءاً من الحرم الشريف، وكذلك بملكية الرصيف الذي أمامه، على أن تقتصر زيارة اليهود له على الوجه الذي كان لهم عند بدء الاحتلال من دون أبواق وستائر .
على الصعيد الإسلامي: المؤتمر الإسلامي العام 1931
لقد جاءت فكرة إشراك المسلمين في الدفاع عن فلسطين ضد الانتداب البريطاني والصهيونية العالمية في أعقاب تقرير لجنة البراق الدولية، وحادثة البراق التي كشفت عن مدى الخطر الذي يتهدد الأماكن الإسلامية المقدسة. أمام هذه الخلفية قام الحج أمين الحسيني -مستغلاً مركزه وزعامته الدينية- بالتعاون مع الشخصية التونسية المعروفة عبد العزيز الثعالبي بدعوة كبار أئمة المسلمين وعلمائهم في العالمين العربي والإسلامي إلى عقد مؤتمر إسلامي في مدينة القدس، ليثبت لبريطانيا أن العرب والمسلمين يقفون مع الفلسطينيين في خندق واحد ضد الاحتلال البريطاني وحلفائهم الصهاينة ,وخاصة بعد أن تراجعت الحكومة البريطانية عن كتاب باسفيلد. من جانب آخر كان الحج أمين الحسيني يرى في هذا المؤتمر دعما لزعامته وتكريسا لنفوذ عائلته.
افتتح الحج أمين المؤتمر الإسلامي العام في مدينة القدس ليلة الإسراء في 27 رجب 1350 واستمر انعقاده من 7-17 كانون الأول/ ديسمبر 1931.
بلغ عدد أعضاء هذا المؤتمر 145 مندوبا من 22 بلدا عربيا وإسلاميا. ومن كبار الشخصيات السياسية والوطنية والدينية التي حضرت المؤتمر كان العلامة السيد محمد رشيد رضا، وعبد العزيز الثعالبي، والإمام محمد الحسيني آل كاشف الغطاء، وضياء الدين الطباطبائي، ورئيس الوزراء السابق، وشكري القوتلي، ورياض الصلح، والشاعر الهندي المعروف محمد إقبال ، الذي شدد على أهمية الترابط بين الإسلام والعروبة في مواجهة الأخطار التي تواجه فلسطين والأمة الإسلامية في كلمته المعبرة التالية: "إنني أعتقد أن مستقبل الإسلام متوقف على مستقبل العرب، ومستقبل العرب متوقف على وحدة العرب، فإذا تمت وحدتهم علا شأن الإسلام" .
انتخب المؤتمر الحاج أمين الحسيني مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين رئيسا للمؤتمر، أما أهم قراراته المتعلقة بفلسطين فكانت:
1. الإعلان عن قدسية المسجد الأقصى والأماكن المجاورة له بما في ذلك البراق.
2. التشديد على أهمية فلسطين بالنسبة للعالم الإسلامي، وشجب الصهيونية والسياسة البريطانية في فلسطين.
3. إنشاء جامعة إسلامية تسمى جامعة المسجد الأقصى.
4. إنشاء شركة أراضٍ إسلامية لإنقاذ الأراضي العربية، وللحيلولة دون سقوطها في أيدي الصهاينة.
5. شجب الاستعمار الغربي بما في ذلك الاستعمار البريطاني في جميع البلاد الإسلامية .
صحيح أن هذا المؤتمر كان أول مؤتمر إسلامي عقد بسبب القضية الفلسطينية، وأنه ربط بين حركات التحرير الإسلامية وقضية فلسطين، وأنه طرح قضية فلسطين بشكل أوضح أمام الرأي العام الإسلامي، إلا أنه لم يأت بفوائد ملموسة على الشعب الفلسطيني، فالتبرعات المالية لم تأت إلى الشعب الفلسطيني لشركة الأراضي، ولم تنشأ الجامعة الإسلامية .
ثورة الشيخ عز الدين القسام
ولد الشيخ عز الدين القسام في بلدة جبلة قرب اللاذقية في سوريا عام 1871، درس في الأزهر، وتتلمذ على يد الشيخ محمد عبده، مؤسس الإصلاح الإسلامي، ولما عاد إلى بلاده دَّرس في جامع السلطان إبراهيم بن أدهم، وعندما انفجرت الثورة ضد الفرنسيين عام 1920 اشترك في ثورة العلويين مع صالح العلي.حاولت السلطات الفرنسية استمالته إلى صالحها من خلال توليته القضاء، إلا أنه رفض ذلك، فحكمت عليه المحاكم العسكرية في اللاذقية بالإعدام، فلجأ بعد ذلك متخفياً إلى حيفا في شباط / فبراير 1922.لم يكن أحد من سكان حيفا يعرف عن القسام سوى أنه واعظٌ ومرشد ديني وخطيب وإمام لجامع الاستقلال في حيفا.
انضم القسام إلى "جمعية الشبان المسلمين" التي تولى رئاستها منذ عام 1927، إلا أنه ومنذ وصوله إلى حيفا بدأ يعد المقاتلين سراً للثورة تحت ستار لواء التعاليم الدينية، ومنها الدعوة إلى الجهاد ضد اليهود والإنجليز لتخليص البلاد منهم، وكان أغلب عناصر جماعة القسام من العمال والفلاحين لكونهم أكثر استعداداً للتضحية .
لم يطلق القسام على مجموعته أي مسمى، سواء حزبا أو جماعة ولا عصابة ولا عصبة لكن الصحافة فقط هي التي أطلقت على جماعته بعد استشهاده في أحراش يعبد في 1935/11/19 لقب "عصبة" ردا منها على سلطات الانتداب التي كانت تسميها "عصابة" لتشويهها، كما وكان يطلق على المجاهدين من بعده اسم "القساميون".
وكان الشعار الوحيد الذي ينضوي تحت لوائه جميع المجاهدين هو: "هذا جهاد نصر أو استشهاد" .
تشكلت خلايا الجهاد السرية التي أسسها القسام على نمط حلقات الأرقم بن أبي الأرقم، أي خمسة أشخاص على الأكثر من بينهم نقيب مسئول عن القيادة والتوجيه .
تكونت عصبة القسام السرية من خمس وحدات منظمة مختلفة المهام ومتكاملة فيما بينها: الوحدة الأولى الخاصة بشراء السلاح، والثانية خاصة بالتدريب العسكري، والثالثة بالاستخبارات ومراقبة خطط الانجليز، وكان عناصر هذه الوحدة من العمال والموظفين الذين يعملون في المؤسسات الحكومية وفي دوائر البوليس، إضافة إلى العمال الذين يعملون مع اليهود لمعرفة خططهم ونشاطاتهم السرية، أما الوحدة الرابعة فكانت من العلماء ومهمتها الدعوة إلى الجهاد، وكانت الوحدة الخامسة للاتصالات السياسية . وعلى الرغم من أن عصبة القسام لم تكن ثورة بالمفهوم السياسي الحديث لمعنى الثورة، إلا أنها قدمت في الواقع نموذجاً حياً لما يجب أن تقوم عليه الثورة.
لم تكن القيادة للقسام وحده، إذ لم يكن مستبدا في رأيه, بل كانت القيادة جماعية تتألف من 12 عضواً، وظلت تتألف من هذا العدد حتى عام 1948 وبقي مركزها في مدينة حيفا.
وكان لتمويل عصبة القسام مصدران أساسيان: أولهما التزام كل عضو بحمل السلاح على نفقته الخاصة أو التبرع الطوعي قدر المستطاع، من الأعضاء ومن أصدقاء القسام والأثرياء الوطنيين المستعدين لذلك، وكانت التبرعات حتى عام 1938 لم تطلب إلا من الأشخاص الموثوق بهم. وثانيهما كان من الاشتراك الشهري للأعضاء في عصبة القسام.
لم يؤمن القسام هو ورفاقه بالجاه أو بالأحزاب والحركات الكثيرة التي كانت منتشرة في منتصف الثلاثينات على أسس قومية أو علمانية أو عشائرية أو غير ذلك, ولم يؤمن بالمفاوضات والاتصالات مع بريطانيا كسبيل للتحرير والحرية، بل كان يؤمن بالجهاد الإسلامي (الكفاح المسلح بلغة اليوم) كطريق وحيد للخلاص ولاسترداد حقوق الشعب، ونيل حريته واستقلاله.
وعلى الرغم من أن العدد الإجمالي لعصبة القسام لم يتجاوز في حياته أكثر من مئتين إلى ثلاثمائة مجاهد (ارتفع هذا العدد بعد استشهاده وانفجار الثورة) ، إلا أنهم كانوا من المقاتلين المبدئيين الملتزمين بالقضية الوطنية والأكثر استعدادا للمقاومة والتفاني، وقدموا "للشعب الفلسطيني نموذجاً شعبياً مشرفاً أنصع من النموذج الذي مثلته زعامة النخبة" الفلسطينية.
الثورة العربية الكبرى 1936-1939
أسباب انفجار الثورة
شهدت فلسطين في الفترة الواقعة بين عام 1931 وعام 1936 أحداثاً وتطورات سياسية صعبة، ساهم تضافرها مع بعضها بعضاً في انفجار ثورة عام 1936 والتأثير في مسارها. وأهم هذه الأحداث والتطورات التي سببت انفجار الثورة هي:
1. السياسة البريطانية الاستعمارية المنحازة للحركة الصهيونية:
بعد إلغاء رئيس الوزراء البريطاني رمسي ماكدونالد العمل بكتاب باسفيلد وعدم الأخذ بتوصيات سمبسون أمعنت سلطات الانتداب البريطاني في عهد المندوب السامي آرثر واكهوب (A.Wauchope) في تعاونها مع الحركة الصهيونية بغية تهويد فلسطين وتنفيذ المشروع الصهيوني.
ففي الوقت الذي قمعت فيه السلطات البريطانية المقاومة العربية واتخذت بحقها أشد الإجراءات العسكرية ورفضت السير قدما نحو تحقيق الحكم الذاتي ( المجلس التشريعي), تعاونت مع الوكالة اليهودية، وجعلت منها حكومة داخل حكومة، وغضت الطرف عن تهريب الصهاينة للسلاح، وسهلت لهم الهجرة وامتلاك الأراضي الفلسطينية.
2. الهجرة اليهودية المتزايدة وامتلاك الأراضي:
ازدادت الهجرة اليهودية إلى فلسطين تزايداً مطرداً ومفاجئاً في النصف الأول من عقد الثلاثينات، رغم التوصيات التي قدمتها اللجان المختلفة لتخفيض عدد المهاجرين والقرارات التي تلتها، والتي تقضي بتحديد الهجرة اليهودية وفقاً للمفهوم الغامض القائل بـ "الطاقة الاستيعابية الاقتصادية". ففي عام 1931 وصل فلسطين 4.075 يهودياً، وفي عام 1932 وصل العدد إلى 9.553 يهودياً، ثم قفز الرقم إلى 30.327 في عام 1933، وإلى 42.359 في عام 1934، وإلى 61.854 مهاجراً يهودياً في عام 1935، وهكذا ارتفعت نسبة اليهود من 16% عام 1931 إلى 28% في عام 1936من مجموع السكان . وبالأرقام بلغ عدد اليهود في فلسطين حتى هذا التاريخ أكثر من 370 ألفاً، ولا شيء يفسر هذا الازدياد الخيالي في أعداد المهاجرين اليهود، إلا الحكم النازي في ألمانيا (1933-1945), الذي قدم بمعاداته لليهود خدمات مجانية كبرى في مجال الهجرة الصهيونية إلى فلسطين, فاقت جهود الحركة الصهيونية نفسها. وكان من الطبيعي في أعقاب هذه الأعداد الكبيرة من المهاجرين اليهود الذين دخلوا فلسطين خلال هذه الفترة، أن تزداد السيطرة اليهودية على الأراضي وأن تتضاعف المستعمرات والمستوطنات اليهودية.
منذ عام 1932-1935 سيطر اليهود على 238 ألف دونم، أي بمعدل 59,500 دونم سنوياً، وارتفع عدد المستوطنات الصهيونية في فلسطين من110 مستوطنات عام 1931 إلى 185 مستوطنة عام 1936 .
إن النتيجة الطبيعية لهذه الهجرة اليهودية الكبيرة والسيطرة اليهودية على الأراضي أن يخرج قسم كبير من الفلاحين الفلسطينيين من أراضيهم الزراعية وأن يصبحوا عاطلين عن العمل أو أن يتحولوا إلى طبقة عاملة تعاني من مصاعب اقتصادية وأن يقوموا بأعمال عنف ومقاومة ضد السلطات البريطانية والحركة الصهيونية، وهذا ما يفسر لنا أسباب انفجار ثورة عام 1936 التي استمرت إلى عام 1939.
انفجار الثورة وإعلان الإضراب العام
عزز إلغاء كتاب باسفيلد واستبداله بالرسالة السوداء لرئيس الحكومة البريطانية ماكدونالد من مصداقية الخط الثوري داخل الحركة الوطنية الفلسطينية والرأي العام الفلسطيني من جهة، وشكل من جهة أخرى ضربة قوية للخط المعتدل داخل قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، الذي كان يراهن على التعاون مع بريطانيا كسبيل لحل المشكلة الفلسطينية، ورغم إدراك القيادة التقليدية المعتدلة بعقم هذه الأساليب وبعدم جدوى المفاوضات مع بريطانيا، إلا أنها لم تملك برنامجاً ثورياً، ولم تهيئ الجماهير إلى ثورة مسلحة في وجه الاحتلال البريطاني ، لقد كانت تخشى هذه الزعامة التقليدية المتمثلة بالدرجة الأولى في آل الحسيني (موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية العربية حتى وفاته عام 1934 والمفتي الحاج أمين الحسيني، وخصومهم التقلدييين آل النشاشيبي بزعامة راغب النشاشيبي) الصدام مع السلطة، ربما خشية من ان تقوم بريطانيا بتقويض زعامة ومكانة الطرف الذي يدعم الثورة لصالح الطرف الآخر. فالحاج أمين الحسيني لم يكن يؤمن بنجاح الثورة حتى انفجارها عام 1936 ، لكنه أجبر على الانخراط فيها وترأس اللجنة العربية العليا خوفاً من أن لا تقوم له قائمة إن هو تخلى عن الشعب وقيادته.
وعلى الجانب الآخر شهدت المقاومة العربية في فلسطين بعد المؤتمر الإسلامي تقدماً ملموساً في الأداء والعطاء والتنظيم، فازداد الوعي الفلسطيني في ظل الأخطار المتفاقمة والمحدقة بالبلاد وأدرك الناس بأن بريطانيا "أصل الداء وسبب البلاء"، وأن المقاومة يجب أن تكف عن الاحتجاجات والمناشدات وأن تنتقل إلى العمل، وأن توجه ضد بريطانيا وليس فقط ضد الصهاينة، وهذا ما تجلى فعلاً في اضطرابات القدس عام 1933 التي قمعتها بريطانيا بضراوة، وفي القرار الذي اتخذ في يافا في آذار/ مارس 1933 بتطبيق مبدأ "عدم التعاون مع السلطة المنتدبة"، وفي ثورة الشيخ عز الدين القسام.
وفي أعقاب وفاة موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية العربية عام 1934، انهارت هذه المؤسسة وظهرت محلها جمعيات أكثر تشدداً ونضالا مثل حزب الاستقلال، الذي كان يطالب بالوحدة العربية ويعترض على طرق الزعامة الفلسطينية التقليدية وأساليبها في المفاوضات ، ومثل حركة القسام التي كانت مترسخة في أوساط الفلاحين والفقراء، الذين ألهمهم اهتمام القسام بالإيمان الديني والعدالة الاجتماعية وابتعاده عن حب المناصب والشهوات وعن الصراعات العائلية التي انعكست سلبا على العمل الثوري. لقد شكل عدد كبير من جماعة القسام في جميع أنحاء فلسطين كتائب لحرب العصابات سموها "اخوان القسام" وباشروا بكفاح مسلح ضد المستوطنين اليهود وضد السلطات البريطانية معاً ، وترجع الشرارة الأولى في تفجير ثورة عام 1936 إليهم، حيث هاجموا في 15/4/1936 بقيادة الشيخ فرحان السعدي( لقد انتقمت السلطات البريطانية منه بإعدامه صائماً وهو في الثمانين من عمره) قافلة يهودية على الطريق العام بالقرب من عنبتا، مما أدى إلى مقتل اثنين من اليهود وجرح ثالث. وفي اليوم التالي قتلت العصابة الصهيونية "الهجاناه" اثنين من الفلسطينيين على طريق ملبس – رعنانا. وعندما وصل الخبر إلى الفلسطينيين، حدثت اضطرابات واصطدامات دموية مع اليهود في مدينة يافا، مما دفع المندوب السامي إلى وضع قانون الطوارئ موضع التنفيذ، والإعلان عن نظام منع التجول على مدينتي يافا وتل أبيب في مساء 19نيسان/ابريل 1936، حتى صباح اليوم التالي .
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق أنه في الوقت الذي كانت فيه جماعة القسام تمارس الثورة وتؤمن بالكفاح المسلح طريقاً وحيداً لتحرير فلسطين، استفحلت الخلافات والنزاعات بين زعماء الأحزاب السياسية حول عضوية الوفد السياسي المدعو إلى لندن للتفاوض ، ولم يتخذوا موقفاً إزاء ما حدث في يافا، واكتفوا بمقابلة المندوب السامي البريطاني لإعلان أسفهم عن العنف الذي حصل، مبررين ذلك بأنه نتيجة لسياسة الحكومة، كما أنهم قرروا تأجيل سفر الوفد إلى لندن .
لقد صدر أول تأييد سياسي ودعم فعلي لأحداث يافا من مدينة نابلس في 20 ابريل/ نيسان 1936، عندما بادرت مجموعة من المثقفين والقوميين إلى تأليف أول لجنة قومية*، اتخذت عدة قرارات سياسية مهمة ودعت إلى الإضراب العام والشامل في فلسطين، وإلى تشكيل لجان قومية في البلدات والمدن العربية لتتولى الإشراف على الإضراب وإدارة الحركة الوطنية الجديدة التي تقوم على عدة أسس أهمها :
1. تتولى نابلس قيادة الحركة الوطنية على أساس قومي لا حزبي.
2. يجب توجيه النصيحة توجيها صحيحاً، أي أنه يجب أن تتجه المقاومة ضد الانجليز باعتبارهم أساس البلاء... ولا يجوز أن تصرف القضية إلى مواجهة الصهيونية نفسها.
3. لا يجوز أن تهدأ الحركة أو أن يدعو أحد إلى تهدئتها ما لم يتحقق هدف من أهدافها.
4. الهدف العاجل للحركة وقف الهجرة اليهودية لأن استمرارها يهدد كل عربي بخطر وجوده.
5. تقوم الحركة على التنظيم، وأول بوادر التنظيم تأليف لجنة قومية تعطي الصلاحيات المطلقة لتنظيم نابلس.
ولما كانت نابلس مهد الحركة الوطنية الجديدة، انهالت عليها برقيات التأييد من العديد من المدن الفلسطينية التي بادرت بتشكيل اللجان الوطنية، وخلال الأيام الستة الأولى من الإضراب تميز العمل الوطني بحماس منقطع النظير شمل جميع فلسطين، ولم يسمع حتى ذلك التاريخ صوت أو رأي لأي من القيادات السياسية المعروفة إلى أن جاء وفد من حيفا إلى القدس مطالباً بتشكيل قيادة عليا تشرف على الإضراب الشامل تتألف من قيادات الأحزاب الستة ، فتشكلت في 25/4/1936 لجنة عربية عليا، مكونة من قيادات الأحزاب السياسية التي اضطرت إلى انخراط في الثورة، برئاسة الحاج أمين الحسيني، الذي تردد بداية في الموافقة على قيادة الحركة الوطنية علناً انطلاقا من قناعاته السابقة المعارضة لتفجير الثورة والانخراط فيها خوفاً من اصطدامه المباشر والحتمي مع سلطات الاحتلال البريطاني.لقد سبق للحج أمين أن عبر عن قناعاته هذه في مؤتمر يافا عام 1933 في جملته الشهيرة:"أني لست ممن يتورطون" . إلا أنه لم يكن يملك أمام الاتجاه الشعبي العارم والمؤيد للثورة أي خيار آخر، إن أراد أن يظل سيداً للبلاد.ولذا وافق الحج أمين على ترأس اللجنة العربية العليا التي قررت في25 /4/1936 "الاستمرار في الإضراب العام إلى أن تبدل الحكومة سياستها المتبعة في فلسطين تبديلاً تظهر بوادره في وقف الهجرة اليهودية". وأكد القرار على المطالب الوطنية الثلاثة المعروفة وهي: "منع الهجرة اليهودية منعاً باتاً، ومنع انتقال الأراضي العربية إلى اليهود، إنشاء حكومة وطنية مسئولة أمام مجلس نيابي" .
وبدعوة من اللجنة العربية العليا عقد في القدس بتاريخ 8/5/1936 مؤتمر اللجان القومية، الذي تقرر فيه بالإضافة إلى الاستمرار في الإضراب، اعتماد سياسية العصيان المدني، والامتناع عن دفع الضرائب ابتداءً من 15أيار/ مايو 1936 .
ومع الوقت أخذ الوضع الفلسطيني يأخذ شكل الثورة الشاملة، بعد أن كان مقتصراً في البداية على العمليات العسكرية المتفرقة والمحدودة، وازداد عدد الثوار الذين كانوا في معظمهم من الفلاحين، وبعد جهود سرية قام بها الحاج أمين الحسيني تدفق في نهاية آب/ أغسطس 1936 متطوعون عرب من شرق الأردن وسوريا والعراق إلى فلسطين للانضمام إلى الثوار، وكان على رأس هؤلاء القائد العسكري المعروف، فوزي القاوقجي اللبناني الأصل (من طرابلس) الذي أعلن نفسه قائداً عاماً لتمرد سوريا الجنوبية.
سعت بريطانيا التي فوجئت بشدة الثورة وباتساع الإضراب إلى وضع حد لهما بكافة الوسائل العسكرية القمعية والسياسية، ومن بين هذه الوسائل السياسية اتصالها مع الحكام العرب الموالين لها في القاهرة والرياض وعمان والكويت، وصنعاء، وبغداد ليقوموا بوساطة بين بريطانيا واللجنة العربية العليا لحمل الفلسطينيين على فك الإضراب وإنهاء الثورة لإفساح المجال لحل سلمي وعادل للقضية الفلسطينية. وفي العاشر من تشرين أول/ أكتوبر 1936 وجه عبد العزيز بن سعود نداء موحداً للفلسطينيين باسمه وباسم الملك غازي ملك العراق، والأمير عبد الله يطالبون فيها الفلسطينيين بالهدنة هذا نصه:
"آلمنا كثيراً الوضع السائد في فلسطين، إننا ندعوكم بالاتفاق مع إخوتنا ملوك العرب والأمير عبد الله إلى الهدوء لتجنب سفك الدماء، واثقين من نيات حليفتنا بريطانيا العظمى ورغبتها في تحقيق العدالة، وتأكدوا من أننا مستمرون في مساعدتكم" .
وبعد أن استشارت اللجنة العربية العليا ممثلي اللجان القومية دعت الشعب الفلسطيني ابتداء من 12 تشرين أول/ أكتوبر 1936 إلى إنهاء الإضراب، الذي دام ستة شهور إلا ثمانية أيام. وفي 11 تشرين الثاني 1936 أصدر فوزي القاوقجي القائد العام للثورة العربية بيانا موقعا باسمه يطلب فيه" وقف الأعمال الحربية لعدم إفساد جو المفاوضات الجارية التي تضع فيها الأمة كل آمالها" ,وبعد عشرة أيام طلب من المقاتلين مغادرة أرض المعركة ، والعودة إلى الأقطار العربية التي جاءوا منها، وهكذا انتهى الإضراب وتوقفت الثورة.
سمات الثورة الكبرى 1936
اتسمت ثورة عام 1936 بعدة صفات لم تتصف بها أي ثورة فلسطينية أخرى في أثناء فترة الانتداب وأهمها:
1. شدتها وسعة انتشارها وطول مدتها وشموليتها جميع قطاعات الشعب الفلسطيني، وإن كانت أصولها في الريف واعتمدت على الفلاحين الفلسطينيين المحرومين.
2. كانت موجهة بالدرجة الأولى ضد سلطات الاحتلال البريطاني.
3. شمولها على إضراب طويل متواصل لم يكن له مثيل قط، تخلله الامتناع عن دفع الضرائب والعصيان المدني.
4. اشتراك عرب متطوعين من خارج فلسطين بفعالياتها ونشاطاتها.
5. عبرت عن التطلعات السياسية الأصيلة والعميقة لأبناء الشعب الفلسطيني.
6. شكلت بداية للتدخل العربي في الشؤون الفلسطينية (تعريب القضية)، وكشفت عن مدى الاعتماد العربي على الإرادة الخارجية لحل القضية الفلسطينية وعن مدى معارضتهم للعمل الثوري المقاوم للاحتلال.
مشروع تقسيم فلسطين 1937 ( لجنة بيل الملكية Peel Commission Royal)
في أعقاب انفجار الثورة واستمرار الإضراب العام، قررت بريطانيا تشكيل لجنة "بيل الملكية" كوسيلة لوقف الإضراب وإجهاض الثورة بالوسائل السلمية، وقبل أن تصل اللجنة إلى فلسطين (11 تشرين الثاني / نوفمبر 1936)، صرح وزير المستعمرات البريطاني أن وقف الهجرة اليهودية أثناء التحقيق يعتبر استباقاً لنتائج اللجنة،الأمر الذي أدى إلى أن تتخذ اللجنة العربية العليا قرارا بمقاطعة هذه اللجنة وعدم التعاون معها، لكنها قبلت في النهاية بعد أن رضخت مرة أخرى لضغوطات الحكام العرب في عمان والرياض وبغداد، الذين وجهوا نداء مشتركاً إلى أمين الحسيني يقولون فيه ".... من حيث إننا نثق بالنيات الحسنة لحليفتنا الحكومة البريطانية، لإنصاف العرب، بدا لنا ان المصلحة الوطنية تتطلب الاتصال بلجنة بيل" .
لقد تمكن الأمير عبد الله، من إقناع راغب النشاشيبي زعيم حزب الدفاع بعدم مقاطعة اللجنة، بينما هدد عبد العزيز بن سعود من جانبه بقطع جميع صلاته باللجنة العربية إذا رفضت المثول أمام اللجنة الملكية. وبسبب هذه الضغوط العربية وخوفاً من أن تواجه اللجنة العربية انشقاقا في صفوفها؛ ألغت في 6 كانون الثاني/ يناير 1937 قرار المقاطعة وقدمت شهاداتها أمام اللجنة الملكية .
وفي 7 تموز/ يوليو 1937 أوصت اللجنة بإنهاء الانتداب القائم كخطوة أولى تمهيداً إلى تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق، منطقة للعرب تقام فيها دولة عربية، وتضم شرق الأردن، ومنطقة لليهود تقام فيها دولة يهودية، أما المنطقة الثالثة فتبقى تحت الانتداب البريطاني على أن تشمل الأماكن المقدسة في القدس وبيت لحم والناصرة وطبريا وممر يصل يافا بالقدس ويشمل طريق اللد والرملة، وتكون اللغة الإنجليزية اللغة الرسمية الوحيدة فيها . وبذلك تكون بريطانيا لأول مرة اقترحت التقسيم كحل للمشكلة الفلسطينية.
عارض المؤتمر الصهيوني المنعقد في زيورخ في آب/أغسطس 1937 مشروع التقسيم رغم أنه يمنح اليهود دولة، ورفضت اللجنة العربية العليا المشروع، وقررت مواصلة الثورة, التي اشتدت من جديد ووصلت إلى ذروتها في صيف 1938، وأخضعت لهيمنتها مناطق واسعة، خصوصاً في شمال فلسطين ووسطها، وأظهر الثوار مقدرة على حسن التنظيم وإدارة حرب العصابات، وشكلوا محاكم للفصل في القضايا حاكموا فيها بقسوة السمسارة والعملاء، وصار الثوار بمثابة الحكام الإداريين والعسكريين في مناطقهم، وفي هذه الأثناء قتلت خلية قسامية في 26 أيلول / سبتمبر1937 حاكم لواء الجليل لويس اندروز (Lewis Andrews) في الناصرة، وردت السلطات بقسوة وضراوة، وحلت اللجنة العربية العليا وفروعها المحلية، وعزلت الحاج أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى من منصبه، إلا انها لم توقفه أو تلقي القبض عليه، وقد تمكن من السفر إلى سوريا في نهاية تشرين أول/ أكتوبر 1937 مما أدى إلى بروز زعامة محلية للثورة من أصل قروي.
وأمام زخم الثورة المتواصل، وعدم قدرة بريطانيا على فرض حلول على الجانب الفلسطيني، قررت الحكومة البريطانية إرسال لجنة برئاسة وودهيد (Woodhead) لدراسة مشروع التقسيم، وأعلنت أن التقسيم يتعذر تنفيذه بسبب استحالة تكوين دولتين، وبالتالي تكون بريطانيا قد استبعدت نهائياً فكرة التقسيم، وأعلنت أن السلام لا يمكن أن يتم إلا إذا حدث تفاهم بين العرب واليهود، واقترحت لذلك طاولة مستديرة في لندن دُعى إليها ممثلون عن الوكالة اليهودية وممثلون من عرب فلسطين والدول المجاورة.
أصر الفلسطينيون على أن اللجنة العربية، التي اعتبرتها بريطانيا منحلّة، هي التي ستمثلهم وأنه يجب على بريطانيا أن تطلق سراح معتقلي سيشل، فأيدت الدول العربية الطلب الفلسطيني في اختيارهم ممثليهم. وفي منتصف يناير/ كانون الثاني 1939 اختار الفلسطينيون ممثليهم واجتمعوا في القاهرة مع ممثلي الحكومات العربية واتفقوا جميعاً أن لا يجلسوا مع اليهود وجهاً لوجه وأن لا يعتبروهم طرفاً في المفاوضات، وأن يكون هدف المفاوضات وقف الهجرة وانتقال ملكية الأرض وقيام دولة فلسطينية مستقلة ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة تضمن الحقوق المدنية والسياسية لليهود .
بدأ مؤتمر لندن أعماله في شباط / فبراير 1939، وكان الوفد الفلسطيني برئاسة جمال الحسيني وكانت بريطانيا تأمل من مشاركة المندوبين العرب في المؤتمر أن يتمكنوا من الضغط على الوفد الفلسطيني لينصحوه بالاعتدال، وبعد أن أخفق المؤتمر في إيجاد صيغة تفاهم مشتركة بين العرب واليهود أصدرت الحكومة البريطانية في 17/5/1939 تصريحها الأخير والنهائيً من جانب واحد حول السياسة المنوي انتهاجها، وأصبح هذا التصريح يعرف فيما بعد باسم الكتاب الأبيض (White paper).
كتاب ماكدونالد الأبيض 1939 (MacDonald White Paper)
عندما أخذت الدلائل تشير في عام 1939 إلى أن الحرب مع ألمانيا النازية وشيكة الوقوع، وعندما أيقنت بريطانيا أنها لا تستطيع معالجة المشكلة الفلسطينية في ظل استمرار الثورة في الوقت الذي كانت فيه تعد العدة لمواجهة الخطر النازي، قررت انتهاج سياسة مدروسة ابتعدت فيها عن الحركة الصهيونية واقتربت أكثر من المطالب العربية, تمثلت في "الكتاب الأبيض" الذي حدد سياساتها المستقبلية تجاه فلسطين بخصوص ثلاثة مواضيع أساسية كانت دائماً سبب الثورات والاضطرابات وهي :
1. الهجرة: سمحت بريطانيا بإدخال 75 ألف يهودي فقط إلى فلسطين على مدار الخمس السنوات المقبلة، ابتداءً من مطلع نيسان 1940 بحيث يصل عدد اليهود إلى ثلث عدد السكان، وبعد انقضاء فترة الخمس السنوات لا يسمح بتاتاً بإدخال يهود جدد إلا بموافقة الأكثرية العربية، وأن الحكومة البريطانية ستوقف الهجرة الزائدة. لكن الحكومة البريطانية لم توقف الهجرة الزائدة، ولم تلتزم بفترة السنوات الخمس. وألغت رسمياً هذا التحديد الزمني والعددي للهجرة اليهودية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1944.
2. الأراضي: أكدت الحكومة البريطانية على منع انتقال ملكية الأراضي من العرب إلى اليهود في بعض المناطق (95% من المساحة) وفرضت قيودا على انتقال الأراضي من العرب إلى اليهود في مناطق أخرى،وأبقت حرية انتقال الأراضي في باقي البلد.
3. الحكم: تحت باب الدستور قالت الحكومة البريطانية أنها ستشكل خلال عشر سنوات دولة فلسطينية مستقلة، وعندما يستتب الأمن تتخذ التدابير لتولي الفلسطينيين دوائر الحكومة بمساعدة مستشارين انجليز تحت رقابة المندوب السامي.
وبعد انقضاء فترة الخمس السنوات على توطيد الأمن والنظام تقوم هيئة من ممثلي أهل فلسطين والحكومة البريطانية ببحث مسألة وضع دستور لدولة فلسطين مستقلة. وإذا تبين للحكومة البريطانية بعد انقضاء عشر سنوات، أن الظروف غير مؤاتية وتتطلب تأجيل الدولة المستقلة فإنها تستشير ممثلي أهالي فلسطين ومجلس عصبة الأمم والدول العربية قبل اتخاذ قرار بهذا الشأن لوضع خطة مستقبلية.
يعتبر هذا الكتاب انتصاراً للثورة، لما فيه من إيجابيات لصالح الفلسطينيين أكثر من جميع الكتب التي سبقته، فعلى سبيل المثال اعترفت بريطانيا لأول مرة باستقلال فلسطين، وتخلت عن التقسيم وعن الانتداب، وحددت عدد المهاجرين اليهود لأول مرة في تاريخ سياساتها، ومنعت نقل ملكية الأراضي في بعض المناطق وقيدتها في مناطق أخرى.
المواقف العربية والصهيونية من الكتاب الأبيض
الموقف العربي:
كانت المواقف الفلسطينية في البداية منقسمة على نفسها، إلا أن اللجنة العربية العليا رفضته في النهاية لأنه يؤخر الاستقلال إلى عشر سنوات ويجعله منوطاً بمساهمة اليهود وبنشوء علاقات طيبة بينهم وبين العرب، وهذا شرط غير قابل للتحقيق بتاتاً، ولا يعني سوى استحالة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، لأن الموقف اليهودي الرافض للاستقلال كان معروفاً وواضحاً للجميع، كما وجعل الكتاب الأبيض قرار إقامة الدولة أو تأجيله بيد بريطانيا ومنوطاً بالظروف، وهذه عبارة مطاطة حمالة للكثير من الأوجه,ومن غير الممكن تفسيرها بطريقة مغايرة للمصلحة البريطانية.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الثانية قرر العرب عدم إحراج الحكومة البريطانية فامتنعوا عن القيام بأعمال المقاومة وظهرت في الصحافة العربية نداءات تطالب العرب بالالتفاف حول بريطانيا ووضع القضايا المحلية جانباً. وكانت النتيجة أن تم إجهاض أكبر وأهم وأطول ثورة فلسطينية في عهد الانتداب البريطاني لأسباب ذاتية, ولأسباب متعلقة بظروف الحرب دون أن تحقق أي من أهدافها.
الموقف الصهيوني:
رفض الصهاينة الكتاب الأبيض بالإجماع ودعوا إلى مقاومته، لكنهم أيضا امتنعوا مؤقتاً عن القيام بأعمال العنف لإفساح المجال لبريطانيا للانتصار في الحرب على ألمانيا النازية، إلا أن الوكالة اليهودية استمرت في جلب المهاجرين اليهود إلى فلسطين بطريقة غير شرعية ( مخالفة لبنود الكتاب الأبيض) مما حدا حكومة الانتداب إلى منع السفينة باتريا (Patria) المحملة باليهود من تفريغ حمولتها في ميناء حيفا,وفي أعقاب ذلك قامت عصابة الهاجاناه في 25/11/1940 بنسفها في ميناء حيفا وعلى متنها 252 مهاجراً يهودياً ، هدفت الحركة الصهيونية من وراء ذلك إلى إلقاء تهمة ارتكاب الجريمة على بريطانيا لإثارة الرأي العام العالمي ضدها,لأنها رفضت السماح لهم بدخول فلسطين. وبنفس الأسلوب قامت العصابات الصهيونية بتفجير سفينة ستروما (Stroma) في البحر الأسود في 24/2/1942 وكان على متنها (760) مهاجرا يهوديا. وكرد على الكتاب الأبيض ارتكبت العصابات الصهيونية (الهجاناه، الأرغون، الشتيرن) أعمال عنف وتخريب وإرهاب ضد قوات الانتداب البريطاني وضد الفلسطينيين بهدف إنشاء دولة يهودية في فلسطين*.
وعلى الصعيد السياسي وفي إطار مقاومتها للكتاب الأبيض بدأت الحركة الصهيونية منذ أوائل أربعينات القرن الماضي بنقل مركز ثقلها من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية لكسب الرأي العام الأمريكي والإدارة الأمريكية، والسلطة التشريعية (الكونغرس) لصالح المشروع الصهيوني وذلك للأسباب التالية:
1. العدد الكبير والنفوذ الواسع الذي يتمتع به اليهود في الولايات المتحدة في المجالات السياسية والمالية والإعلامية والاعتقاد بأنهم سيلعبون دوراً حاسماً بالنسبة إلى مستقبل الصهيونية.
2. اعتراف أمريكا بوعد بلفور وعدم التزامها بأية سياسة مناوئة لمطالب الحركة الصهيونية، بينما اقتضت حسابات بريطانيا أثناء الحرب مراعاة التزاماتها في الكتاب الأبيض ومصالحها السياسية والاقتصادية مع العالم العربي، وعدم رغبتها لهذه الأسباب في الضغط على العرب.
3. تقدير زعماء الحركة الصهيونية المسبق من أن بريطانيا سوف تخرج ضعيفة منهكة من الحرب العالمية الثانية وغير قادرة على تبني المشروع الصهيوني، بينما سوف تخرج الولايات المتحدة الأمريكية قوية ومنتصرة وفي موقع المسيطر.
وفي ضوء هذه الرؤيا عقدت الحركة الصهيونية في فندق بيلتمور (Biltmore) في نيويورك من 6-11 أيار/ مايو 1942 مؤتمراً استثنائياً حضره دافيد بن غوريون وحاييم وايزمن وأعلنت فيه برنامجها الجديد الذي رفض الكتاب الأبيض لعام 1939، وطالب بتشكيل جيش يهودي له رايته الخاصة، وبفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية دون قيود، وإقامة دولة يهودية تكون جزءاً من العالم الديمقراطي الجديد.وهذه هي أول مره تعلن الحركة الصهيونية رسميا عن نيتها في إقامة دولة يهودية وليس وطناً قومياً كما كانت تدعي في السابق. ومنذ ذلك التاريخ شكل هذا البرنامج السياسة الرسمية العليا للمنظمة الصهيونية.
وبعد انعقاد مؤتمر بيلتمور بفترة قصيرة وقع في كانون الأول/ ديسمبر عدد من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب الأمريكيين على عريضة وجهوها إلى الرئيس روزفلت ( Franklin D.Roosevelt 1882-1945) أيدوا فيها حقوق اليهود في فلسطين، وبعد أقل من سنتين أي في كانون الثاني/ يناير 1944 أصدر الكونجرس الأمريكي قراراً أيد فيه برنامج بيلتمور.
وفي 27 حزيران/ يونيو 1944 قرر مؤتمر الحزب الجمهوري الدعوة إلى فتح أبواب فلسطين لهجرة يهودية غير مقيدة وإلى امتلاك الأراضي، كما تبنى الحزب الديمقراطي في 24 تموز/ يوليو نفس القرار ، ومنذ ذلك التاريخ أصبح الملف الفلسطيني جزءا لا يتجزأ من السياسة الداخلية للولايات المتحدة الأمريكية.
فلسطين ولجنة التحقيق الأنكلو أمريكية المشتركة
خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الثانية منهكة ضعيفة وغير قادرة وحدها على حل المشكلة الفلسطينية التي ساهمت إلى حد كبير في خلقها، وتزامن ذلك مع احتدام إرهاب العصابات الصهيونية في فلسطين ضد القوات البريطانية من أجل فتح أبواب فلسطين أمام المهاجرين اليهود دون قيود، وإقامة دولة يهودية في فلسطين.
ومن جهة أخرى طالبت الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة في الحرب من خلال رئيسها هاري ترومان (Harry S. Truman 1884-1972) ) المتعاطف مع الصهيونية في 31آب/أغسطس رئيس الحكومة البريطاني آتلي (1883-1967 Clement Attlee) بضرورة منح يهود ألمانيا والنمسا مئة ألف تأشيرة دخول إلى فلسطين فوراً ، وبهذه التوجهات السياسية الجديدة للإدارة الأمريكية برئاسة ترومان تكون الولايات المتحدة الأمريكية قد خالفت التعهد الذي قطعه على نفسه الرئيس الأمريكي فرنكلين روزفلت أمام عبد العزيز بن سعود في أثناء اجتماعه به على متن السفينة كوينسي (S.S. Quincy) في قناة السويس بتاريخ 14شباط/فبراير 1945، بعدم تغيير السياسة الأمريكية دون استشارة مسبقة وكاملة مع العرب واليهود .
وللتنصل من واجباتها في حل القضية الفلسطينية انطلاقاً من كتاب ماكدونالد 1939، ولتفادي الضغوط الأمريكية والصهيونية على بريطانيا، وجه وزير الخارجية البريطاني أرنست بيفن 1881-1951 ) Bevin ُ( Ernest في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 1945 دعوة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للتعاون في تشكيل لجنة تحقيق مشتركة أنكلو أمريكية لبحث المشكلة الفلسطينية، فوافقت واشنطن رسمياً على تأسيسها في 10 كانون الأول/ ديسمبر 1945، مع تقديم أسس ومواصفات تأليفها .
وفي الأول من أيار/ مايو 1946 أصدرت اللجنة تقريراً مؤلفاً من عشر توصيات أظهرت فيه انحيازها السافر للحركة الصهيونية ولمطالب الرئيس الأمريكي ترومان، وخاصة فيما يتعلق بمنح اليهود مئة ألف تأشيرة دخول إلى فلسطين. وقد وصفت الحكومة البريطانية هذا التقرير بالفظيع ، وبأنه متساهل جداً مع الأمريكيين والصهاينة ويحتقر مصالحها.
استقبل تقرير اللجنة في العالم العربي بالسخط والرفض المطلق لتجاهله المصالح العربية، ورفض العرب الاعتراف بصلاحية اللجنة واحتجت الحكومات العربية لدى أمريكا وبريطانياً، وفي ظل هذه التطورات عقد في أنشاص (مصر) أول مؤتمر قمة عربي في 28 أيار/مايو 1946، وأعلنت الحكومات العربية فيه بالإجماع على أن الصهيونية خطر دائم لا على فلسطين وحدها، بل على البلاد العربية والشعوب الإسلامية... وأن أقل ما ترتضيه (هذه الشعوب) في سبيل حماية فلسطين هو وقف الهجرة الصهيونية وقفاً تاماً ومنع تسرب الأراضي العربية إلى الأيادي الصهيونية منعاً باتاً، والعمل على استقلال فلسطين وتشكيل حكومة تضمن فيها حقوق جميع سكانها الشرعيين، وأن الأخذ بتوصيات اللجنة تعتبره دول الجامعة العربية عملاً موجهاً ضدها" . وتلا مؤتمر أنشاص اجتماع مجلس الجامعة العربية في بلودان في حزيران/ يونيو 1946 الذي شدد على الرفض القاطع لتقرير اللجنة وأرسل مذكرات بهذا الخصوص إلى بريطانيا وأمريكا.
وعلى الصعيد الداخلي تم عام 1946 تأليف الهيئة العربية العليا، التي أصبحت الناطق الرسمي الجديد باسم الفلسطينيين، بدلاً من اللجنة العربية العليا. ومن الجدير ذكره أن اللجان التنفيذية المنبثقة عن المؤتمرات الوطنية السبعة التي ظل موسى كاظم الحسيني ينتخب رئيساً لها حتى وفاته عام 1934، كانت هي الناطق الرسمي باسم الفلسطينيين. لقد حلت اللجنة التنفيذية نفسها بعد وفاة موسى الحسيني، وبالتالي ظل منصب رئاسة الحركة الوطنية الفلسطينية من عام 1934-1936 شاغراً.
القضية الفلسطينية أمام هيئة الأمم المتحدة
إنهاء الانتداب وصدور قرار التقسيم رقم ((181
في ظل المواقف السياسية المختلفة والمتناقضة التي وجدت الحكومة البريطانية نفسها أمامها قررت في محاولة أخيرة منها للخروج من الطريق المسدود دعوة العرب واليهود إلى مؤتمر "الطاولة المستديرة"في لندن بتاريخ 10 أيلول/ سبتمبر1946 عرضت فيه على اليهود والعرب ما سمي بمشروع موريسون (Morrison)، ومن ثم مشروع بيفن (Bevin) ، للحل، إلا أن العرب رفضوا أي مشروع يقوم على أساس تقسيم فلسطين أو تأسيس رأس جسر صهيوني فيها، ومن جانبها رفضت بريطانيا أي مشروع يقوم على أساس استقلال فلسطين، وقررت في عام 1947 إنهاء الانتداب ورفع القضية الفلسطينية الى الأمم المتحدة.
وفي 18 شباط/ فبراير 1947- أي بعد عشرين عاما على صدور وعد بلفور 1917- أعلن وزير خارجية بريطانيا بيفن في مجلس العموم "أن الانتداب قد أثبت أنه غير عملي من الناحية التطبيقية، وأن التعهدات المقطوعة للطائفتين قد أظهرت أنه لا يمكن التوفيق بينها" .
وبناء على طلب الحكومة البريطانية وافقت الجمعية العامة في 28 نيسان/ ابريل 1947على إرسال لجنة خاصة تابعة للأمم المتحدة بشأن فلسطين المعروفة باسم (UNSCOP) * ممثلة في 11 دولة* فوصلت اللجنة فلسطين بتاريخ 17 حزيران/ يونيو 1947 ووضعت تقريراً مفصلاً رفعته إلى الأمم المتحدة بتاريخ 31 آب/ أغسطس 1947، انقسام أعضاء اللجنة حول طريقة حل القضية الفلسطينية إلى أقلية وأكثرية، واقترحت الأقلية (يوغسلافيا، إيران، والهند) إعلان استقلال فلسطين وإقامة دولة اتحادية (فدرالية) مؤلفة من دولة عربية ودولة يهودية تكون القدس عاصمة لها، أما الأغلبية فاقترحت تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية على أن تخضعان لوصاية الأمم المتحدة .
أما القضية التي أجمع عليها أعضاء اللجنة فكانت إنهاء الانتداب ومنح فلسطين الاستقلال بعد مرور فترة انتقالية مدتها سنتان مع الحفاظ على الأماكن المقدسة وأن تكون بريطانيا مسئولة أمام الأمم المتحدة خلال هذه الفترة الانتقالية.
واستناداً إلى مشروع الأكثرية أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29/11/1947 قرار التقسيم الشهير رقم (181) بأغلبية ثلثي الأعضاء المطلوبة للحصول على القرار، حيث صوتت لصالحه 33 دولة من أصل 56 دولة عدد أعضاء الجمعية العامة، وعارضته 13 دولة بما فيها جميع الدول العربية والإسلامية المستقلة والأعضاء في الأمم المتحدة آنذاك، وامتنع عن التصويت 10 دول من بينهم المملكة المتحدة*.
إن أهم ما نص عليه القرار هو تجزئة فلسطين إلى ستة أجزاء رئيسية، خصصت ثلاثة منها للدولة اليهودية (56% من المساحة كلها) والثلاثة الأخرى للدولة العربية (43.35%) بما في ذلك جيب يافا المحاط من جميع الجهات بأراضي الدولة اليهودية، وحدد القرار حدود كل دولة ونص على أن تتم وحدة اقتصادية بين الدولتين. أما مدينة القدس وما حولها، بما في ذلك بيت لحم (,650 %) فتخضع لإدارة دولية خاصة تحت إشراف الأمم المتحدة.
ومن الجدير ذكره أن قرار التقسيم ضمن حقوق العرب المدنية والدينية والسياسية والاقتصادية، وحق الملكية، ونص أيضا على أنه "ينبغي ألا يحدث أي تمييز من أي نوع بين السكان على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس (أي بين الذكور والإناث)"، وأنه "يجب ألا يسمح بمصادرة الأراضي التي يملكها العرب في الدولة اليهودية إلا للمقاصد العامة"، وأنه "يجب في جميع حالات المصادرة دفع تعويض كامل قبل حدوث المصادرة، وذلك طبقاً لما تحكم به المحكمة العليا".
كما تضمن القرار نصا يقضي بوجوب ظهور الدولتين العربية واليهودية إلى حيز الوجود بعد شهرين من انتهاء الانتداب، الذي كانت الحكومة البريطانية قد حددت له الخامس عشر من شهر مايو/ أيار 1948.
ومن الملاحظات المهمة على هذا القرار أن عكا واللد والرملة وبئر السبع إضافة إلى يافا كانت ضمن الأراضي المخصصة للدولة العربية المستقلة،وأن عدد اليهود في فلسطين أثناء صدور قرار التقسيم لم يتجاوز 32% من عدد السكان الإجمالي، ومساحة الأراضي التي كانوا يملكوها كانت 6.65% من مساحة فلسطين.
في الوقت الذي ابتهج اليهود وأيدت الصهيونية العالمية قرار تقسيم فلسطين الذي يمنحهم دولة مستقلة، ندد الفلسطينيون والعرب به، واعتبروه غير شرعي ومخالف لميثاق هيئة الأمم المتحدة وللقانون الدولي وللمبادئ التي بني عليها فيما بعد إعلان حقوق الإنسان العالمي وأنه لا يلزمهم، واستندوا في موقفهم هذا على النقاط التالية:
1. لا تملك الأمم المتحدة الاختصاص والحق في تقسيم أرض الغير، فهي لم تكن تملك في يوم من الأيام أية سلطة أو سيادة على فلسطين، وأن الأطراف المعنية لم تطلب منها التدخل أو إيجاد تسوية.
2. انتهكت الأمم المتحدة بموافقتها على هذا القرار حق تقرير المصير للشعوب واحترام حقوق الإنسان الذي ينص عليها ميثاقها، فهي لم تستشر الشعب الفلسطيني في الوقت الذي كان العرب يشكلون ثلثي السكان ويملكون حوالي 94% من مساحة فلسطين.
3. رفض الأمم المتحدة اقتراح الدول العربية بإحالة القضية الفلسطينية على محكمة العدل الدولية للبت فيها قضائياً وللبحث فيما إذا كان من ضمن صلاحيات الجمعية العامة تقسيم أي بلد وتقرير مصيره ومصير سكانه.
4. ليست الجمعية العامة للأمم المتحدة هيئة تشريعية أو قضائية، ولذلك فإن قراراتها لا تعدو كونها أكثر من توصية من التوصيات التي ليس لها صفة تنفيذية إلزامية.
وفي النتيجة النهائية حررت الأمم المتحدة شهادة ميلاد غير شرعية لمولود غير شرعي في فلسطين، لكن السبب الأساس في إصدار هذه الشهادة يجب البحث عنه في مواقف الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي,اللتين استخدمتا وسائل الترهيب والترغيب واعتمدتا طرقاً غير مشروعة للحصول على الأغلبية المطلوبة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة لخلق دولة إسرائيل.
دور الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي في الحصول على قرار التقسيم
دور الولايات المتحدة الأمريكية:
دعمت الولايات المتحدة الأمريكية بقوة قرار التقسيم رقم 181) (, وتمثل هذا الدعم في شخص الرئيس الأمريكي هاري ترومان. ولعبت الأسباب والدوافع الداخلية المرتبطة بقوة الصوت اليهودي ""Jewish Vote في انتخابات الرئاسة الأمريكية دورا محوريا في التأثير على الرئيس الأمريكي أكثر بكثير من المصلحة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية في تأييد القرار المذكور. يتضح ذلك من رد الرئيس ترومان على النصيحة التي تقدم بها السفراء الأمريكيين المعتمدين في الشرق الأوسط في بيان مشترك بعدم المساهمة في تدهور العلاقات العربية الأمريكية في الوقت الذي ازدادت أهمية الشرق الأوسط النفطية فأجابهم الرئيس في 10 /11/1945 قائلا: :"اعذروني أيها السادة.فلا بد أن أستجيب لرغبات مئات الآلاف ممن ينتظرون نجاح الصهيونية.ولا يوجد بين الناخبين الآلاف العرب " .
ومن الملاحظ أيضاً أن أركان الإدارة الأمريكية لم يجمعوا على تأييد قيام دولة إسرائيل. لقد تردد كل من وزير الدفاع الأمريكي آنذاك جيمس فورستال (1892-1949 James V. Forrestal), ووزير الخارجية جورج مارشال George Marshall 1880-1959)) في تأييد قرار التقسيم, وحذرّا الرئيس ترومان من العواقب السلبية التي ستترتب على المصالح الأمريكية في الوطن العربي إن أصر على موقفه الداعم لاصدار قرار التقسيم ,إلا أنهم أذعنوا في النهاية لموقف الرئيس, الذي يخوله النظام السياسي الرئاسي في الولايات المتحدة الأمريكية بالدور المركزي في صناعة القرار السياسي.
عبر جيمس فورستال عن معارضته للتأثير السلبي لدور الصوت اليهودي في الانتخابات الأمريكية على موقف الرئيس ترومان من تأييده قرار التقسيم أثناء حديثه مع السناتور هاورد ج. ماك جراث ( Howard J. McGrath ) رئيس الحزب الديمقراطي قائلا: "ينبغي ألا يسمح لأية جماعة في هذه البلاد بالتأثير على سياستنا إلى المدى الذي يمكن معه تعريض أمننا القومي للخطر". فأجابه ماك جراث قائلاً: "كانت هناك ولايتان أو ثلاث ولايات بالغة الأهمية، لم يكن من الممكن الحصول على أصوات ناخبيها بدون مؤازرة أولئك الذين يبدون أشد الاهتمام بالقضية الفلسطينية" .
أقر رئيس الحكومة البريطانية أثلي من جانبه بمدى تأثير الأصوات اليهودية على السياسة الأمريكية قائلاً: "السياسة الأمريكية المتعلقة بفلسطين كانت معللة بالتصويت اليهودي وبالمساهمات التي تدفعها الشركات التجارية واليهودية للأحزاب" . إذا كانت هذه الشهادات والاعترافات الرسمية تعبر عن الأهداف الحقيقية التي دفعت البيت الأبيض للموافقة على قرار التقسيم, فإننا سنعتمد أيضا على الاعترافات والتصريحات الأمريكية الرسمية التالية للتدليل على الأساليب والطرق الملتوية وغير الأخلاقية التي استخدمتها الإدارة الأمريكية للحصول على الأغلبية المطلوبة لصدور القرار ((181.
في 18 ديسمبر/ كانون الأول 1947 أعلن العضو لورنس سميث (Lawrence H. Smith) في الكونغرس الأمريكي قائلاً:
"لنلق نظرة على السجل، يا سيدي الرئيس، حتى نرى ما الذي حدث في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل التصويت على التقسيم.و كانت الجمعية على وشك التصويت في مناسبتين، ولكن ذلك أجل في المرتين. وكان من الواضح أن التأجيل كان ضرورياً لأن المؤيدين (الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) لم تكن لديهما الأصوات الضرورية. وفي هذه الأثناء... كانت وفود ثلاث دول صغيرة تخضع لعملية ضغط بالغ الشدة من قبل وفد الولايات المتحدة... وعندما جرى بحث الموضوع أخيراً يوم التاسع والعشرين... كانت الأصوات الثلاثة الحاسمة التي أدلي بها هي أصوات هايتي وليبيرية والفلبين. فقد كانت هذه الأصوات الثلاثة كافية للحصول على أغلبية الثلثين، أما فيما سبق، فقد كانت هذه الدول تعارض المشروع، إن الضغط الذي مارسه وفدنا... يشكل تصرفاً يستحق الشجب بالنسبة لهم ولنا" .
وعن دور الرئيس الأمريكي ترومان في الحصول على القرار يقول مساعد وزير الدولة سمنر ويلز (Sumner Welles)" بأنه بناء على أوامر مباشرة من البيت الأبيض مارس الرسميون الأمريكيون جميع أشكال الضغط المباشر وغير المباشر على تلك الأقطار الواقعة خارج العالم الإسلامي والتي لم تكن متأكدة من موقفها بشأن التقسيم..." .
دور الاتحاد السوفيتي:
لم يكن دعم الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين Josef Stalin 1878-1953) ) لقرار تقسيم فلسطين نابعا من أسباب إنسانية أو أخلاقية لها علاقة بالتضامن والتعاطف الإنساني مع اليهود الذين عانوا من مجازر النازية, وإنما كان مدفوعاً باعتبارات القوة والمصلحة في السياسة الخارجية السوفيتية إزاء العالم ومنطقة الشرق الأوسط.
اعتقد ستالين أن تأييده قرار التقسيم سوف يقود إلى كسب نفوذ وولاء يهود العالم من جانب، وإلى إيجاد موطئ قدم للاتحاد السوفيتي في الوطن العربي ,الذي لم يكن له فيه حتى ذلك التاريخ أي نفوذ من جانب آخر ؛ لقد كانت المنطقة حكرا على نفوذ الغرب بشكل عام وعلى نفوذ بريطانيا بشكل خاص، وبالتالي سيتمكن ستالين استنادا الى هذا الرؤية من تشكيل قوة مضادة للجامعة العربية الموالية في سياسات أغلبية أعضائها إلى السياسة البريطانية بشكل أساسي .
السبب الآخر الذي وقف وراء قرار دعم ستالين لقرار التقسيم هو اعتقاده أن الصهيونية باتجاهاتها الاشتراكية في العمل الجماعي من خلال الكيبوتسات، واستناداً إلى وجود أعداد كبيرة من يهود الاتحاد السوفيتي الموجودين في فلسطين والمؤمنين بالعقيدة الشيوعية سوف يكونون سنداً لتوجهات وسياسات الاتحاد السوفيتي ونقطة ارتكاز له في البلدان العربية التي كان يصفها الاتحاد السوفيتي بالمحافظة وبالإقطاعيات المتخلفة.
هذه هي الأسباب التي جعلت الاتحاد السوفيتي يشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية في اللجوء إلى طرق وأساليب غير قانونية وغير شرعية لاصدار قرار التقسيم؛ فعلى سبيل المثال, لما كانت الجمعية العامة تفتقر إلى ثلثي الأصوات المطلوبة لصدور قرار التقسيم، قام الاتحاد السوفيتي بقبول عضوية كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء في الأمم المتحدة ليرجح كفة المؤيدين، ومارس ضغوطاً على بولندا وتشيكوسلوفاكيا لحملهما على تأييد قرار التقسيم . وفي المحصلة جلب الاتحاد السوفيتي معه أربعة أصوات رجحت كفة المؤيدين لهذا القرار. ولهذه الاعتبارات كانت مواقف الاتحاد السوفييتي أتناء صدور القرار أكثر تحمسا للصهيونية ولقيام دولة إسرائيل وبالتالي أكثر تشددا ضد العرب وقضيتهم المركزية من مواقف الولايات المتحدة الأمريكية التي تعتبر اليوم من أكبر حلفاء إسرائيل على الإطلاق. ففي الوقت الذي أيد الاتحاد السوفيتي تنفيذ قرار التقسيم حتى لو تم استخدام القوة، ودعم بقوة بقاء صحراء النقب في القسم المخصص للدولة اليهودية، كانت الولايات المتحدة الأمريكية مترددة في بادئ الأمر في أن تكون صحراء النقب ضمن الأراضي المخصصة للدولة اليهودية، وعارضت تنفيذ قرار التقسيم بالقوة العسكرية. وفي ظل انفجار أعمال العنف في فلسطين أعلن المندوب الأمريكي في هيئة الأمم في 19/3/1948 عن سحب إدارته تأييد مشروع التقسيم، وطلببدلا من ذلك وضع فلسطين تحت الوصاية المؤقتة، وإعادة القضية مرة أخرى من جديد إلى هيئة الأمم ، الأمر الذي دفع مندوب الاتحاد السوفيتي في هيئة الأمم أندريه غروميكو Andrei Andrejewitsch Gromyko 1909-1989) ) إلى معارضة ذلك وتوجيه انتقادات حادة إلى الولايات المتحدة الأمريكية على هذا التصرف .
لم يقتصر دور الاتحاد السوفيتي على دعم قرار التقسيم ولا على الدور الإعلامي الموجه والمعادي لحركة التحرر العربية وإلى البلدان العربية بسبب معارضتها قرار التقسيم ، بل أوعز لتشيكوسلوفاكيا بعد الانقلاب الشيوعي الذي حصل فيها في مارس/ آذار 1948 إلى إرسال شحنة أسلحة إلى إسرائيل، كان لها أثر مهم في حسم حرب عام 1948 لصالح اليهود.
إضافة إلى ما تقدم لابد من القول أن الاتحاد السوفيتي سبق الولايات المتحدة الأمريكية في اعترافه بدولة إسرائيل من الناحية القانونية( De jure )، بينما سبق الرئيس ألأمريكي ترومان الاتحاد السوفيتي والعالم من خلال اعترافه بدولة إسرائيل من الناحية العملية (De facto) ( )، بعد 11 دقيقة فقط من إعلان قيام دولة إسرائيل، في الوقت الذي كانت فيه الجمعية العامة ما زالت تدرس المشروع الأمريكي للوصاية الدولية على فلسطين.
وما زالت المنطقة تعاني بأسرها من تبعات قرار التقسيم 181)) الذي دعا الى قيام دولة يهودية على أرض فلسطين, فهو لم يهدف إلى إيجاد ملجأ آمن لليهود في فلسطين,ولم يؤدِ الى إحلال السلم والأمن والهدوء في المنطقة , بل قاد منذ صدوره إلى انفجار الصراعات والحروب والتوسع والعدوان الإسرائيلي ليس فقط على شعب فلسطين بل وعلى جميع البلدان العربية.
تأليف
الدكتور عثمان عثمان
قسم العلوم السياسية
جامعة النجاح الوطنية
9 من الزوار الآن
916812 مشتركو المجلة شكرا