الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الثقافة الجماهيرية > نشأة القوى الوطنية والإسلامية الفلسطينية وتطوّرها
اليسار الفلسطيني
الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
حزب الشعب الفلسطيني
التأسيس
يرتبط تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بـ "إقليم فلسطين" في حركة القوميين العرب، الذي بدأ، منذ مطلع الستينيات، الاهتمام بالتدريب العسكري عن طريق تشجيع الشبان المنتمين إليه على الالتحاق بالكليات الحربية في كل من مصر، وسوريا، والعراق، وعن طريق الاتفاق مع القيادة المصرية على تنظيم دورات تدريب عسكري في "أنشاص" بمصر. وفي نهاية سنة 1964، انطلق النشاط العسكري لـ "إقليم فلسطين" وسقط أول الشهداء، وهو خالد أبو عيشة، في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1964، كما استشهد، في سنة 1966، كلٌ من محمد اليماني، ورفيق عساف، وسعيد العبد سعيد، وأسر المناضل سكران سكران. وجرت عمليات "إقليم فلسطين" العسكرية عبر مجموعات "أبطال العودة"، التي ضمت مناضلين من حركة القوميين العرب ومن جيش التحرير الفلسطيني، أو عبر التتنظيم الفدائي الذي شكّله الإقليم باسم "شباب الثأر". بيد أن تلك العمليات ظلت محدودة في تلك الفترة ولا يُعلن عنها غالباً، وذلك تجنباً لتوريط الدول العربية، وتحديداً مصر وسورية، في حرب مع إسرائيل ليستا مستعدتين لها، وهو ما عبّر عنه شعار "فوق الصفر وتحت التوريط".
في تموز/يوليو 1967، وبعد أسابيع قليلة على هزيمة حزيران، اتخذت اللجنة التنفيذية لحركة القوميين العرب قراراً بأن يشق "إقليم فلسطين" طريقه في الكفاح المسلح، فشرع، منذ مطلع آب/أغسطس 1967، في القيام بعمليات عسكرية في قطاع غزة في إطار "طلائع المقاومة الشعبية"، كما تمّ إنشاء خمس قيادات عسكرية محلية في الضفة الغربية مرتبطة بقيادة ميدانية في رام الله على رأسها مصطفى الزبري (أبو علي مصطفى). وفي 11 كانون الأول/ديسمبر 1967، أُعلن عن تأسيس الجبهة الشعبية لتحريرفلسطين باندماج ثلاثة تنظيمات فدائية، هي " شباب الثأر"، و" أبطال العودة"، و "جبهة التحرير الفلسطينية"، التي تأسست، في سنة 1964، بقيادة الضابط الفلسطيني السابق في الجيش السوري أحمد جبريل. كما شارك في تأسيس الجبهة الشعبية مجموعة من الضباط الناصريين الأردنيين، على رأسهم الضابط أحمد زعرور، وبعض الشخصيات المستقلة. وكان الهدف الأولي لقيادتها أن تكون نواة "جبهة وطنية" واسعة، بيد أن التطورات التي شهدتها منظمة التحرير الفلسطينية، وتمثّلت في هيمنة الفصائل الفدائية، وخصوصاً حركة "فتح" عليها، دفعت قيادة الجبهة الشعبية إلى التخلي عن هذا الهدف والانضمام إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
وسرعان ما تعثرت مسيرة هذا الإطار الجبهوي نتيجة خلافات سياسية، وخصوصاً بين "جناح" القوميين العرب، بقيادة جورج حبش ووديع حداد ومصطفى الزبري وأحمد اليماني وغسان كنفاني وفؤاد المراغة وعبد الرحيم ملوح وتيسير قبعة، الذي راح يتحوّل نحو اليسار، و"جناح" جبهة التحرير الفلسطينية، بزعامة أحمد جبريل وطلال ناجي وفضل شرورو، التي قررت، في تشرين الأول/ أكتوبر 1968، الانسحاب وتشكيل إطار جديد باسم "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة". وفي شباط/فبراير 1969، وعلى خلفية التقرير السياسي الذي صدر عن مؤتمر آب/أغسطس 1968 وآذن بتحوّل الجبهة الشعبية نحو اليسار الماركسي، زعم عدد من قياديي الجبهة، على رأسهم نايف حواتمة، أن من المستحيل تحوّل " تنظيم برجوازي صغير إلى تنظيم ماركسي- لينيني"، وقرر الانشقاق عن الجبهة وتشكيل تنظيم جديد باسم "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين"، التي صارت تحمل، بعد سنوات قليلة، اسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين". ثم انشقت عن الجبهة، في آب/أغسطس 1970، مجموعة الضباط الناصريين بقيادة أحمد زعرور وشكّلت "منظمة فلسطين العربية" التي انضمت بعد ذلك إلى حركة "فتح". وفي آذار/مارس 1972، انشق عدد قليل آخر من أعضاء الجبهة "اليساريين"، وشكّلوا "الجبهة الشعبية الثورية لتحرير فلسطين"، التي لم تعمر طويلاً.
منطلقات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
في بيانها التأسيسي، أكدت الجبهة الشعبية أن هزيمة الجيوش العربية في حزيران مثّلت "بداية مرحلة جديدة من العمل الثوري تباشر فيه الجماهير دورها القيادي والمسؤول في مقارعة الإمبريالية والصهيونية [بسلاح] العنف الثوري". لكنها لم تطرح، لدى تأسيسها، رؤية يسارية أو اشتراكية، وإنما انطلقت من منطلقات وطنية عامة. وشيئاً فشيئاً، صارت الجبهة الشعبية تنحو منحى يسارياً واضحاً، وتضفي طابعاً اجتماعياً على النضال الوطني. وتكرّس هذا الانعطاف اليساري في مسيرتها لدى انعقاد مؤتمرها الأول، في آب/أغسطس 1968، الذي تمخض عن انحيازها الواضح إلى "إيديولوجية البروليتاريا". وفي المؤتمر الثاني الذي عقدته في شباط/فبراير 1969، تبنت الجبهة الشعبية، استناداً إلى كتابات الزعيم الصيني ماوتسي تونغ والزعيم الفيتنامي الجنرال جياب، "طبعة" من طبعات "الماركسية الآسيوية" التي تركّز على أولوية الكفاح المسلح على النضال السياسي، واندفعت على طريق تعميق تمايزها عن الأحزاب الشيوعية العربية. فحدد التقرير الصادر عن ذلك المؤتمر أعداء الثورة الفلسطينية "في إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية والإمبريالية العالمية والرجعية العربية"، واعتبر أن العمال والفلاحين الفلسطينيين هم "عماد الثورة ومادتها الطبقية الأساسية وهم قيادتها"، وأكد ترابط النضال الفلسطيني مع النضال التحرري العربي، ودعا إلى تحالف الثورة الفلسطينية مع حركة التحرر الوطني في فيتنام، ومع الوضع الثوري في كوبا وكوريا الشمالية، ومع جميع حركات التحرر المناهضة للإمبريالية. وأعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التزامها "بالمنهج المادي الجدلي التاريخي، بوصفه جوهر النظرية الماركسية، وأداة أساسية لفهم وتحليل ظواهر الطبيعة والمجتمع"، واعتبرت نفسها "فصيلة طليعية متقدمة للطبقة العاملة الفلسطينية، ولعموم الكادحين الفلسطينيين، تناضل مع الفصائل اليسارية والديمقراطية الفلسطينية الأخرى، لبناء حزب الطبقة العاملة، لتأدية دوره التاريخي في تحرير الجماهير الفلسطينية من الاستبعاد القومي والطبقي". ومن جهة أخرى، حددت الجبهة الشعبية الهدف الاستراتيجي للنضال الفلسطيني، في مرحلة التحرر الوطني، في "تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني الاستعماري، وإقامة دولة فلسطينية ديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس". وقدّرت أن الوحدة الوطنية الفلسطينية في مرحلة التحرر الوطني "تعتبر شرطاً ضرورياً ولازماً لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني".
تطوّر مواقف الجبهة الشعبية السياسية والكفاحية
سعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد هزيمة حزيران 1967، إلى بناء قواعد ارتكازية لممارسة الكفاح المسلح داخل الضفة الغربية، وساهمت من خلال مجموعاتها المسلحة، بقيادة محمد الأسود (جيفارا غزة)، مساهمة بارزة في تحويل قطاع غزة إلى ساحة مواجهة يومية مع القوات الإسرائيلية، وذلك حتى أواخر سنة 1971 تقريباً. واعتباراً من 23 تموز/يوليو 1968، بدأ "فرع العمليات الخارجية" التابع لها، برئاسة وديع حداد، سلسلة عملياته، خلف شعار "وراء العدو في كل مكان"، وذلك عندما قامت مجموعة مسلحة تابعة لها باختطاف طائرة لشركة "العال" الإسرائيلية كانت تقوم برحلة ما بين مطارَي روما واللد وأجبرتها على الهبوط في مطار العاصمة الجزائرية. كما راح هذا الفرع يوجّه ضربات عسكرية للمصالح الإمبريالية، كعملية تفجير خط أنابيب النفط المار بالجولان، وعملية ضرب ناقلة النفط "الكورال سي" وغيرها من العمليات.
وبعد انحسار ظاهرة العمل الفدائي في المناطق الفلسطينية المحتلة، خططت الجبهة الشعبية كي يكون الأردن هو قاعدة الإسناد الخارجية للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وطرحت فكرة تحويل عمان إلى "هانوي" عربية. ثم عارضت موافقة كل من الأردن ومصر على "مشروع روجرز" في حزيران/يونيو 1970، وقامت ما بين 6 و 9 أيلول/سبتمبر 1970، بخطف ثلاث طائرات أميركية وسويسرية وإنزالها، في "مطار الثورة" بالقرب من الزرقاء في الأردن، ومن ثم تفجيرها في 12 أيلول، ما دفع اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى تجميد عضويتها في اللجنة.
واعتبرت الجبهة الشعبية، بعد خروج قوات المقاومة الفلسطينية من الأردن، أن أحد الأخطاء الرئيسية لحركة المقاومة هو التركيز على الطبيعة "القطرية" للثورة الفلسطينية، وعجزها عن تحديد "موقف ثوري" من الجماهير الأردنية، وطرح نفسها بصفتها "البديل الكامل للحركة الوطنية الأردنية"، معتبرة أن خضوع المقاومة لقيادة تمثّل "تحالف البرجوازية والبرجوازية الصغيرة إجمالاً" هو الذي أوقعها في هذه الأخطاء. وبعد أن نقلت الجسم الرئيس من مقاتليها إلى لبنان، أكدت أن وضع المقاومة في لبنان، واستراتيجيتها وتكتيكها، يختلفان عن وضع المقاومة في الأردن، حيث غالبية السكان من الفلسطينيين، بحيث أن هدف المقاومة في لبنان "هو التواجد وحرية ممارسة كافة أشكال القتال ضد العدو الإسرائيلي بالدرجة الأولى". واستطاع وديع حداد أن يدير شبكة تحالفات بين "فرع العمليات الخارجية" وبين العديد من الحركات الراديكالية مثل: "الجيش الأحمر الياباني"، و"مجموعة بادر ماينهوف" الألمانية، و"الألوية الحمراء" الإيطالية. وفي أواخر أيار/مايو 1972، قام مقاتلو هذا الفرع، بالتعاون مع وحدة من "الجيش الأحمر الياباني"، بالهجوم على مطار اللد ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى. واتخذت قيادة الجبهة الشعبية، بعد هذه العملية، قراراً بوقف عملياتها الخارجية، إلا أن إصرار وديع حداد على مواصلتها، وقيامه بتدبير عملية خطف طائرة فرنسية واقتيادها إلى مطار "عنتيبي" في أوغندا، في حزيران/يونيو 1976، دفعت قيادتها إلى فصله من عضويتها ومعه كل أعضاء الفرع.
بعد حرب تشرين الأول /أكتوبر 1973 العربية-الإسرائيلية التي فتحت آفاق التوصل إلى تسوية سياسية، عارضت الجبهة الشعبية مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في جهود التسوية، واعتبرت أن الحل الذي تنشده الولايات المتحدة الأميركية، من خلال سياسة "الخطوة خطوة"، يهدف إلى تصفية ظاهرة الكفاح المسلح وإقامة دولة فلسطينية لن تكون "دولة وطنية" ولن تشكل قاعدة لمواصلة النضال. وعقب انعقاد دورة المجلس الوطني الثانية عشرة في حزيران/يونيو 1974 وتبنيها "البرنامج المرحلي"، قامت الجبهة الشعبية، في 26 أيلول/سبتمبر 1974 بسحب ممثلها من اللجنة التفيذية لمنظمة التحرير، ثم شاركت، في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1974، مع ثلاثة تنظيمات فدائية أخرى في تأسيس "جبهة القوى الفلسطينية الرافضة للحلول الاستسلامية" التي وقفت ضد البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير.
ولدى اندلاع الحرب الأهلية في لبنان، في أواسط نيسان/أبريل 1975، انخرطت الجبهة الشعبية، مع فصائل منظمة التحرير الأخرى، في هذه الحرب، وسعت إلى تعزيز علاقاتها مع الحركة الوطنية اللبنانية التي رأت فيها "الضمانة السياسية لحماية الوجود الوطني العلني للثورة الفلسطينية في لبنان". وعندما قام الرئيس أنور السادات بزيارة القدس في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، حمّلت الجبهة الشعبية جميع أطراف "التسوية السياسية"، بما فيها قيادة منظمة التحرير، مسؤولية "بادرة السادات الخيانية"، ثم أدانت في أيلول/سبتمبر 1978، في إطار إجماع وطني فلسطيني، "اتفاقية كمب ديفيد" ومشروع الحكم الذاتي. وبدأ انعطاف الجبهة الشعبية نحو تبني نهج المرحلية خلال انعقاد دورة المجلس الوطني الفلسطيني الرابعة عشرة في دمشق ما بين 15 و 22 كانون الثاني/يناير 1979، التي تبنت "البرنامج السياسي والتنظيمي للوحدة الوطنية"، بموافقة جميع فصائل منظمة التحرير بما فيها الجبهة الشعبية، وهو البرنامج الذي أكد حق الشعب الفلسطيني في "إقامة الدولة الديمقراطية على كامل ترابه الوطني" وحقه "في العودة وتقرير مصيره على أرضه دون تدخل خارجي وإقامة دولته المستقلة فوق ترابه الوطني دون قيد او شرط". وتكرس هذا الانعطاف خلال انعقاد المؤتمر الرابع للجبهة الشعبية، في نيسان/أبريل 1981، الذي أشار في بيانه إلى أنه خلال النضال "قد تتحرر أجزاء من فلسطين تسيطر عليها الثورة، ومن الطبيعي أن تقيم عليها سلطتها ودولتها"، وذلك بعد أن انتقد مواقف الجبهة السابقة من الاتحاد السوفياتي وشدّد على ضرورة التحالف معه "بما يوفر الترابط بين الثورة الوطنية الفلسطينية والثورة العالمية"، كما أكد عزم الجبهة على بناء "أعمق وأمتن العلاقات مع الأحزاب الشيوعية العربية". وصارت الجبهة، منذ تلك الفترة، تحصل على الأسلحة من الاتحاد السوفياتي، ودول أوروبا الشرقية، بعد أن كانت تتزود بها من العراق وليبيا أو من السوق السوداء.
بعد أن شاركت، مشاركة فاعلة، في التصدي للعدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف سنة 1982، ووافقت على قرار خروج قوات منظمة التحرير من بيروت، نقلت الجبهة الشعبية مركز قيادتها إلى دمشق. كما صارت الجبهة تولي اهتماماً متزايداً لتعزيز حضورها داخل المناطق الفلسطينية المحتلة، من خلال التركيز على تطوير المنظمات الجماهيرية للشباب والعمال والطلاب والنساء. وبعد وقوع الانشقاق داخل حركة "فتح"، شكّلت الجبهة الشعبية "قيادة سياسية وعسكرية مشتركة" مع الجبهة الديمقراطية في حزيران/يونيو 1983 ثم شاركت، بعد وقوع الاقتتال بين طرفي الانشقاق داخل "فتح" وقيام رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بزيارة القاهرة في كانون الأول/ديسمبر 1983، في تشكيل "التحالف الديمقراطي" في آذار/مارس 1984 الذي ضم، فضلاً عنها، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي الفلسطيني وجبهة التحرير الفلسطينية، وهدف إلى العمل على "حماية وحدة منظمة التحرير الفلسطينية وصيانة خطها الوطني". وبعد التوقيع على "اتفاق عمان" بين ياسر عرفات والملك حسين، في شباط /فبراير 1985، ساهمت الجبهة الشعبية، بالتعاون مع خمسة فصائل فلسطينية أخرى في تشكيل "جبهة الإنقاذ الوطني الفلسطيني" في آذار/ مارس 1985، بصفتها "إطاراً مؤقتاً يعمل لاستعادة منظمة التحرير إلى خطها الوطني " و "الرد العملي على نهج الانحراف وتوغل هذا النهج في الطريق الأميركي ". ومهّد إلغاء "اتفاق عمان"، بعد فشل مبادرة التنسيق السياسي الأردني-الفلسطيني في سنة 1986، الطريق أمام انعقاد الدورة التوحيدية للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر، في نيسان/أبريل 1978، بمشاركة الجبهة الشعبية.
بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في كانون الأول/ديسمبر 1987، انخرطت الجبهة الشعبية في فاعلياتها النضالية، كما كانت طرفاً في "القيادة الوطنية الموحدة" للانتفاضة، التي ضمت، فضلاً عنها، حركة "فتح" والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والحزب الشيوعي الفلسطيني. بيد أن الجبهة الشعبية، التي شاركت في دورة المجلس الوطني الفلسطيني التاسعة عشرة التي عقدت في الجزائر في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، تحفظت على موافقة تلك الدورة على قرارَي مجلس الأمن رقم 242 و 338، كما عارضت الاعتراف بإسرائيل، وشاركت مع تسعة تنظيمات فلسطينية أخرى، كان من ضمنها حركتا "حماس" و"الجهاد" الإسلاميتان، في إصدار بيان، في 24 تشرين الأول /أكتوبر 1991، يعارض مبدأ المشاركة الفلسطينية في مؤتمر مدريد للسلام، ثم أدانت، في إطار "الفصائل الفلسطينية العشرة"، "اتفاق أوسلو" لدى التوصل إليه في 13 أيلول/سبتمبر 1993. واستمرت الجبهة الشعبية حتى اليوم في سياستها الرامية إلى مناهضة نهج قيادة منظمة التحرير الذي أفضى إلى هذا الاتفاق، مع تأكيدها أهمية الحفاظ على منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، والتصدي لأية مخططات تعمل على خلق بدائل لها.
مؤتمرات الجبهة الشعبية
عقدت الجبهة الشعبية مؤتمرها الأول في آب/أغسطس 1968 في غياب قائدها جورج حبش، الذي كان قد اعتقل في دمشق في 19 آذار/مارس 1968، وبقي معتقلاً حتى 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1968 عندما تمكنت مجموعة من الجبهة، بإشراف وديع حداد، من تدبير عملية اختطافه وإخراجه من سورية.
وعُقد المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية في شباط/فبراير 1969، وأقر وثيقة "الاستراتيجية السياسية والتنظيمية" التي شكّلت محطة مهمة على طريق تحوّل تنظيمها القائم إلى تنظيم ماركسي – لينيني مقاتل. وارتباطاً بهذا التوجه أقامت الجبهة مدرسة بناء الكادر الحزبي في الأردن، وأصدرت "مجلة الهدف" التي ترأس تحريرها غسان كنفاني عضو مكتبها السياسي، الذي اغتالته إسرائيل في بيروت في تموز/يوليو 1972.
وكانت الجبهة الشعبية عقدت، في آذار/مارس 1972، مؤتمرها الوطني الثالث الذي أقر وثيقة "مهمات المرحلة الجديدة" و"النظام الداخلي" الجديد، الذي نص على أن "كل مقاتل سياسي وكل سياسي مقاتل"، وبلور الهيكل التنظيمي القيادي على النحو التالي: المؤتمر الوطني العام، واللجنة المركزية العامة، ولجنة الرقابة المركزية، والمكتب السياسي والأمين العام .
وفي نهاية نيسان/ أبريل 1981، انعقد المؤتمر الوطني الرابع للجبهة تحت شعار "المؤتمر الرابع خطوة هامة على طريق استكمال عملية التحول لبناء الحزب الماركسي- اللينيني، والجبهة الوطنية المتحدة، وتصعيد الكفاح المسلح، وحماية وجود الثورة، وتعزيز مواقعها النضالية، ودحر نهج التسوية والاستسلام، وتعميق الروابط الكفاحية العربية والأممية".
أما المؤتمر الوطني الخامس للجبهة، الذي انعقد في شباط/ فبراير 1993، فقد شهد سجالاً عميقاً، وقرر أن الجبهة "ترزح تحت وطأة أزمة تنظيمية متعددة الجوانب، وأن الأوان قد آن للعمل بجدية على تغيير أشكال ووسائل العمل، بما يؤمن تطوير الحياة الحزبية، وتوسيع أشكال ممارسة الديمقراطيةً".
وفي المؤتمر الوطني السادس للجبهة، الذي انعقد في تموز/ يوليو 2000، انتخب مصطفى الزبري (أبو علي مصطفى) أميناً عاماً للجنة المركزية، خلفاً للدكتور جورج حبش، الذي قرر التخلي عن موقعه هذا بعد أن شغله منذ تأسيس الجبهة، وتوفي في عمان في 26 كانون الثاني/يناير 2008. وكان "أبو علي مصطفى" قد عاد، مع عدد كبير من أعضاء الجبهة وكوادرها للاستقرار في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبرز بصفته واحداً من أبرز قادة "انتفاضة الأقصى"، ما دفع السلطات الإسرائيلية إلى تدبير عملية اغتياله في 27 آب/أغسطس 2001 عبر قيام مروحية أباتشي بإطلاق صاروخ على مكتبه في مدينة البيرة. وبعد استشهاده، انتخبت اللجنة المركزية للجبهة أحمد سعدات أميناً عاماً جديداً للجبهة، وعبد الرحيم ملوح نائباً للأمين العام. وبعد قيام الجناح العسكري للجبهة، المعروف باسم "كتائب أبو علي مصطفى"، باغتيال الوزير الإسرائيلي المتطرف رحبعام زئيفي، اعتقلت أجهزة السلطة الفلسطينية أحمد سعدات وعدد من رفاقه، وتم نقلهم إلى معتقل أريحا تحت حراسة أميركية – بريطانية. وفي آذار/مارس 2006، قامت القوات الإسرائيلية باقتحام سجن أريحا، واختطفت سعدات، ومجموعة من السجناء الفلسطينيين، ليتم اعتقالهم في سجن عوفر.
وانعقد المؤتمر الوطني السابع للجبهة الشعبية ما بين 28 تشرين الثاني/نوفمبر و 3 كانون الأول/ديسمبر 2013، فناقش مظاهر "الأزمة الخاصة" التي عانت منها الجبهة "والمرافقة للأزمة الوطنية العامة"، وحدد سبل الخروج منها. كما ناقش البرنامج السياسي مؤكداً "استمرار كفاح شعبنا لتحقيق الهدف الاستراتيجي الذي تخوضه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لتحرير كل شبر من الاحتلال الصيهوني الاستعماري الكولونيالي لإقامة الدولة الديمقراطية على كامل التراب الوطني الفلسطيني"، ودعا إلى "العمل على تطوير وتعزيز وحدة الشعب الفلسطيني باعتبارها السلاح الأمضى في الكفاح الوطني من أجل تحقيق المهام الوطنية والخروج من دائرة الانقسام" الذي وقع في حزيران/يونيو 2007 ما بين حركَي "فتح" و "حماس" وأسفر عن حدوث قطيعة ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة بعد سيطرة "حماس" بصورة كاملة على القطاع. وأعاد المؤتمر انتخاب أحمد سعدات، وهو في سجنه، أميناً عاماً للجبهة، وانتخب اللواء فؤاد المراغة (أبو أحمد فؤاد) نائباً له.
مراجع
التجربة النضالية الفلسطينية: حوار شامل مع جورج حبش، أجرى الحوار محمود سويد، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1998.
"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، في الموسوعة الفلسطينية، رئيس مجلس الإدارة أسعد عبد الرحمن.
https://www.palestinapedia.net
"جورج حبش الثوريون لا يموتون أبداً"، حاوره جورج مالبرينو، بيروت، دار الساقي، 2009.
ز. ن (زكريا النحاس)، "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"؛ في: موسوعة المصطلحات والمفاهيم الفلسطينية، تحرير محمد اشتية، القدس، المركز الفلسطيني للدراسات الإقليمية، ط 5، 2013، ص 177-180.
الشريف، ماهر، "البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908-1993"، نيقوسيا، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995.
-صايغ، يزيد، "الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، : الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993"، ترجمة باسم سرحان، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
مطر، فؤاد، "حكيم الثورة: سيرة جورج حبش ونضاله"، بيروت، دار النهار للنشر، 2008.
"الوثائق التاريخية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ".
في 22 شباط/فبراير 1969، أُعلن عن ولادة "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين"، التي باتت تُعرف، بعد سنوات قليلة من ولادتها، باسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين".
التأسيس
برزت خلافات فكرية وسياسية داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بعد أسابيع قليلة من انعقاد مؤتمرها العام في آب/أغسطس 1968، إذ صارت مجلة "الحرية" تنشر مقالات تأخذ على قيادتها عدم الالتزام بقرارات المؤتمر المذكور، الذي أعلن انحيازه لـ "البرنامج الفكري البروليتاري". وشهد الأسبوع الأول من شباط/فبراير 1969 تفاقماً في حدة هذه الخلافات، أسفر عن وقوع اشتباكات مسلحة بين أنصار الفريقين المتنازعين. وفي 22 شباط/فبراير 1969، أعلن بيان صادر عن "الجناح التقدمي" داخل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الانشقاق عنها، وقطع كل علاقة تربطه بـ "حركة القوميين العرب" والعمل بصورة مستقلة تحت اسم "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين". وفي النصف الأول من حزيران/يونيو 1969، انضمت إلى "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين" منظمتان يساريتان صغيرتان هما:" المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين" و "عصبة اليسار الثوري الفلسطيني"، كما انضم إليها في سنة 1972 بعض قياديي "الجبهة الشعبية الثورية لتحرير فلسطين" التي انشقت عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
واستمرت الجبهة تعمل تحت اسم "الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين" إلى سنة 1975 عندما تقرر أن تحمل اسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين". وكان من ضمن القياديين المؤسسين لها كلٌ من نايف حواتمة، الذي شغل منصب أمينها العام منذ تأسيسها وإلى اليوم، وعبد الكريم حمد (أبو عدنان)، وقيس عبد الكريم (أبو ليلى)، وفهد سليمان، ومحمد كتمتو، وتيسير خالد، وهشام أبو غوش، وعلي فيصل، وصالح زيدان، وتيسير الزبري. كما كان من ضمن مؤسسيها ياسر عبد ربه، وصالح رأفت، وممدوح نوفل وعصام عبد اللطيف، الذين انشقوا عن الجبهة في سنة 1990، نتيجة خلافات سياسية وفكرية وتنظيمية، وشكّلوا تنظيماً مستقلاً باسم "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين-التجديد والديمقراطية"، الذي صار يحمل، منذ نيسان/أبريل 1993، اسم "الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (فدا).
البناء التنظيمي للجبهة الديمقراطية
يتكوّن تنظيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين من منظماتها في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة المحتلين، وفي أقطار اللجوء العربية وفي البلدان الأجنبية التي تقيم فيها جاليات فلسطينية لأغراض العمل أو الدراسة. ويعتمد بناؤها التنظيمي مبدأ "المركزية الديمقراطية"، ويقوم على وحدات قاعدية ضمن منظمات محلية، تتشكّل على أساس جغرافي، قطاعي، ومهني، وتعمل في إطار منظمات أقاليم تقودها لجان منتخبة من مؤتمرات الأقاليم.
ويتشكّل المركز القيادي للجبهة الديمقراطية من المؤتمر الوطني العام، وهو أعلى سلطة سياسية وتشريعية في الجبهة ينعقد كل 4 إلى 5 سنوات، ويتكوّن من مندوبين منتخبين عن مؤتمرات منظمات الجبهة في الأقاليم والفروع؛ والكونفرانس الوطني العام الذي يتمتع بصلاحيات المؤتمر الوطني نفسها وينعقد للبحث في نقاط محددة كلما اقتضى الأمر بقرار من اللجنة المركزية؛ واللجنة المركزية، التي ينتخبها المؤتمر الوطني العام، بصفتها الهيئة القيادية الأولى في الفترة ما بين انعقاد مؤتمرين، وهي تنتخب الأمين العام وأعضاء المكتب السياسي، وهو الهيئة التنفيذية العليا المناط بها تطبيق قرارات اللجنة المركزية؛ ولجنة الرقابة الحزبية المركزية التي ينتخبها المؤتمر الوطني العام وتتحدد مهامها في الإشراف على الالتزام بالنظام الداخلي.
وينشط منتسبو الجبهة الديمقراطية وأنصارها في المجتمع المحلي عبر المنظمات الديمقراطية الجماهيرية والمهنية، وهي أطر مستقلة تستقطب أعضاءها على أساس برنامج عملها المعلن، نذكر منها "كتلة الوحدة العمالية"، و"اتحاد لجان العمل النسائي"، و"اتحاد الشباب الديمقراطي"، وتجمعات المعلمين والموظفين والمهنيين...إلخ.
تطور مواقف الجبهة الديمقراطية الفكرية والسياسية
كان فكر الجبهة الديمقراطية، لدى تأسيسها، مزيجاً من أفكار الثورة الفيتنامية، والظاهرة "الجيفارية" العصابية، المنتشرة آنذاك في أميركا اللاتينية، و"التروتسكية المجالسية" التي روجت لها بعض تعبيرات "اليسار الجديد" في أوروبا. وتمايز هذا الفكر عن "الماركسية-اللينينية" التي كانت تتبناها الأحزاب الشيوعية العربية، التي أخذت عليها الجبهة الديمقراطية، لدى تأسيسها، كونها لم تتخذ موقفاً "أممياً صحيحاً" من المسألة الفلسطينية، إذ هي لم تصر على "تصفية" الكيان الإسرائيلي ولم تتخذ موقفاً صحيحاً من الكفاح المسلح الذي يمثّل "أرقى شكل من أشكال النضال"، وأيّدت التسوية السياسية للصراع على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242. كما انتقدت الجبهة الديمقراطية آنذاك "المواقف الخاطئة" التي يتخذها الاتحاد السوفياتي من القضية الفلسطينية ورأت فيها تكريساً "للموقف الستاليني الخاطئ"، مؤكدة أن نقدها هذا ينطلق من "موقع الصداقة لا من موقع المعاداة".
وعلى الصعيد السياسي، اعتبرت الجبهة الديمقراطية، لدى تأسيسها، أن حركة المقاومة الفلسطينية تواجه "أزمة تكوينية"، تتجلى في علاقتها "العفوية والعاطفية" بالجماهير الفلسطينية، التي أدت إلى نمو "الاتكالية" على المنظمات الفدائية في صفوف هذه الجماهير، معتبرة أن تحوّل المقاومة إلى حرب تحرير شعبية "يتطلب تنظيم الجماهير وربطها بالمقاومة الفلسطينية ربطاً مسلحاً بالوعي السياسي الجذري". وفي هذا السياق، أعربت الجبهة الديمقراطية عن معارضتها أساليب العمل الفردي والعمليات الخارجية التي قامت بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. كما قدّرت الجبهة الديمقراطية أن من تجليات أزمة حركة المقاومة الفلسطينية "التكوينية" ظاهرة "التبعثر" الناجمة عن عدم تجانس فئات الطبقة "الوسطى" الفلسطينية، التي لعبت الدور الرئيسي في تكوين منظمات المقاومة، وعن تشتت الشعب الفلسطيني وعن قيام بعض الأنظمة العربية بزرع منظمات "موهومة" داخل حركة المقاومة. بيد أن الجبهة الديمقراطية اتخذت، منذ الدورة السادسة للمجلس الوطني الفلسطيني في أيلول/سبتمبر1969، قراراً بالمشاركة في هيئات منظمة التحرير الفلسطينية التشريعية والتنفيذية، وصارت مسألة الحفاظ على الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير والوقوف في وجه الانقسام داخل الصف الوطني الفلسطيني تحتل موقعاً مهماً في فكرها السياسي وممارستها.
ودعت الجبهة الديمقراطية، منذ مطلع أيار/مايو 1969، إلى رفض "الحلول الشوفينية والرجعية الصهيونية الاستعمارية القائمة على الاعتراف بدولة إسرائيل"، وإلى النضال "من أجل حل ديمقراطي شعبي للمسألة الفلسطينية والمسألة الإسرائيلية، يقوم على إزالة الكيان الصهيوني... وإنشاء دولة فلسطينية ديمقراطية شعبية، يعيش فيها العرب واليهود دون تمييز". كما دعت إلى الشروع في حوار مع جميع اليهود "التقدميين" في إسرائيل والعالم، ودعوتهم إلى "المشاركة في حركة التحرر الوطني الفلسطينية وفي الكفاح المسلح الفلسطيني من أجل تصفية الكيان الصهيوني"، وأجرت الجبهة، بالفعل، حواراً مع منظمة يسارية إسرائيلية صغيرة، ذات ميول تروتسكية، هي "منظمة ماتزبن".
وأكدت الجبهة الديمقراطية، من منطلق قناعتها بوجود " ترابط عضوي" بين النضالين الفلسطيني والعربي، ضرورة قيام "نظام وطني ديمقراطي شعبي" في الأردن، يشكّل "قاعدة انطلاق ثورية" نحو تحرير فلسطين، ثم صارت تدعو، بعد موافقة كل من مصر والأردن على مبادرة وزير الخارجية الأميركي وليم روجرز في تموز/يوليو 1970، إلى تسلم حركة المقاومة الفلسطينية السلطة في الأردن وحسم ازدواجية السلطة في مصلحتها، ونجحت في أن تكرس نهجها القائم على قاعدة شعار "كل السلطة للمقاومة" سياسة رسمية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
بيد أن الهزيمة التي لحقت بحركة المقاومة الفلسطينية وأدّت إلى خروج قواتها من الأردن في صيف 1971، دفعت الجبهة الديمقراطية إلى القيام بمراجعة نقدية لسياستها، أفضت إلى مبادرة الجبهة إلى دعوة المجلس الوطني الفلسطيني في دورته التاسعة، في تموز/يوليو 1971 إلى إقامة ” قاعدة ارتكاز أمينة ومحررة ” في الأراضي الفلسطينية المحتلة تكفل استمرارية الثورة الفلسطينية حتى تحقيق أهدافها، وهي الدعوة التي تكللت، عقب حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، بتبنّي الجبهة نهج المرحلية في النضال، وذلك بتأثير عاملين رئيسيين: الأول تمثّل في موقف غالبية سكان المناطق الفلسطينية المحتلة الداعي إلى أن تتحمل منظمة التحرير الفلسطينية مسؤوليتها عن مصير الأراضي التي قد تنسحب عنها إسرائيل وإلى مشاركة منظمة التحرير في المساعي الدولية الرامية إلى التوصل إلى تسوية سياسية شاملة للصراع، وهو الموقف الذي عبّرت عنه "الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأرض المحتلة" التي شارك فيها ممثلو الجبهة الديمقراطية، وتمثّل الثاني في تطوّر علاقات الجبهة الديمقراطية مع الاتحاد السوفياتي، إذ صارت الجبهة، عقب تلك الحرب، تشيد بالدعم "الفعال" الذي يقدمه الاتحاد السوفياتي للشعوب العربية وتنتقد بشدة "الأبواق الرجعية والعميلة" التي تشكك "بالصداقة السوفياتية والدعم السوفياتي والسلاح السوفياتي".
وبعد أن لعبت الجبهة الديمقراطية دوراً بارزاً في بلورة "برنامج النقاط العشر" الذي تبناه المجلس الوطني الفلسطيني في حزيران/يونيو 1974، قامت، في أواخر سنة 1975، بتطوير موقفها من هذا البرنامج من خلال دعوتها إلى النضال من أجل طرد الاحتلال الإسرائيلي من المناطق الفلسطينية المحتلة في سنة 1967، وضمان الاعتراف "بحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه وتقرير مصيره في إطار دولة فلسطينية وطنية مستقلة كاملة السيادة وتحت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية". ومنذ ذلك التاريخ، لم تحد الجبهة الديمقراطية عن التزامها بهذا البرنامج، الذي فصّلت أركانه في وثائقها اللاحقة بالتأكيد على أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وعاصمتها القدس الشرقية، يجب أن يكون على قاعدة نظام سياسي برلماني ديمقراطي، تعددي، يضمن المساواة القانونية الكاملة بين المواطنين وبين المرأة والرجل، وضمان حق العودة إلى الديار والممتلكات للاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم بدءاً من سنة 1948، وهو الحق الذي يكفله القرار الرقم 194، وتأمين المساواة بين المواطنين في مناطق الـ 48، باعتبارها محور نضال القوى السياسية الناشطة في هذه المناطق، وصولاً إلى حل ديمقراطي جذري للمسألة الوطنية الفلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني من خلال إقامة دولة ديمقراطية موحدة تسودها المساواة بين مختلف مواطنيها بصرف النظر عن الانتماء القومي أو الأثني أو الديني، فضلاً عن المساواة بين المرأة والرجل.
وعلى الصعيد العربي، تمسكت الجبهة الديمقراطية باستقلالية كل حركة وطنية – برنامجاً وعملاً – ضمن حدودها القطرية، مع إقامة أفضل العلاقات فيما بينها من خلال أطر تنسيق وتعاون، علماً أنها لم تضع حاجزاً أمام ارتقاء أي مناضل – بصرف النظر عن أصوله القطرية - سلم المسؤوليات القيادية فيها وصولاً إلى أعلاها. كما دعت إلى إقامة علاقات تعاون مع الجهات العربية الرسمية على قاعدة الاستقلال والتكافؤ، وبما يخدم دعم النضال الوطني الفلسطيني.
وعلى الصعيد الدولي، قدّرت الجبهة الديمقراطية أن الحركة الوطنية الفلسطينية تقف موضوعياً في معسكر قوى التحرر والتقدم والديمقراطية والاشتراكية التي تناضل ضد طموح الإمبريالية، التي انتقلت إلى مرحلة عليا من العولمة، لإحكام سيطرتها على مقدرات العالم شعوباً ودولاً.
مساهمة الجبهة الديمقراطية في الكفاح المسلح
شكّلت الجبهة الديمقراطية، في المرحلة الأولى من تأسيسها، مجموعات فدائية صغيرة، تطورت لاحقاً، وخصوصاً في لبنان، إلى "القوات المسلحة الثورية"، وشكّلت في المناطق الفلسطينية المحتلة، عقب اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في كانون الأول/ديسمبر 1987، "قوات النجم الأحمر"، ثم أقامت، بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في أواخر أيلول/سبتمبر 2000، "كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية" باعتبارها الجناح العسكري للجبهة الديمقراطية.
ونفذ مقاتلو الجبهة الديمقراطية عمليات عسكرية خاصة في العمق الفلسطيني المحتل انطلاقاً من "نقاط الارتكاز" التي أقيمت في الأردن والجولان، وفي جنوب لبنان، وخاضوا معارك الدفاع عن المقاومة الفلسطينية في الأردن، وفي الحرب الأهلية اللبنانية، وفي مواجهة الغزو الإسرائيلي 1982 وخلال حروب المخيمات، وفي التصدي للاعتداءات العسكرية على قطاع غزة.
مؤتمرات الجبهة الديمقراطية وكونفرنساتها العامة
المؤتمر الوطني العام الأول- المؤتمر التأسيسي (آب/أغسطس 1970): انعقد عشية أحداث أيلول/سبتمبر 1970 في الأردن.
الكونفرنس الوطني العام الأول (تشرين الثاني/ نوفمبر 1971): انعقد بعد القضاء على ظاهرة النشاط العلني للمقاومة الفلسطينية في الأردن (تموز/ يوليو 1971)، وصدر عنه أول نظام داخلي للجبهة عرّفها بصفتها «جبهة يسارية موحدة» (أي منظمة ديمقراطية ثورية). ولعبت اللجنة المركزية الثانية التي انتخبها هذا الكونفرنس دوراً مهماً في حياة الجبهة على مختلف الصعد الفكرية والسياسية.
المؤتمر الوطني العام الثاني (أيار/ مايو 1981): انتخب اللجنة المركزية الثالثة، وصادق على «التقرير النظري والسياسي والتنظيمي»، الذي تضمن فصلاً بعنوان: «حول مهمات البناء الحزبي - نحو حزب طليعي جماهيري».
الكونفرنس الوطني العام الثاني (تموز/ يوليو 1991): انعقد تتويجاً لعملية انتخابية ديمقراطية كاملة، شملت للمرة الأولى دورة انتخابية كاملة لمنظمات الجبهة الديمقراطية في الأراضي المحتلة، ووضع حداً لخلاف سياسي بدأ في المكتب السياسي للجبهة في آب/أغسطس 1988 حول الموقف من بنود "مبادرة السلام" الفلسطينية، وانتهى بتحوّل الأقلية في المكتب السياسي إلى جسم تنظيمي مستقل باسم "الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني" (فدا). كما قرر ذلك الكونفرنس إنهاء العلاقة بصيغة "منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن" (مجد) لصالح بناء علاقة ينظُمْها إطار العمل المشترك مع "حزب الشعب الديمقراطي" (حشد)، الحزب المستقل المتحدِّر من صلب (مجد).
وكانت الجبهة الديمقراطية قد ساهمت بنشاط في فاعليات الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في كانون الأول/ديسمبر 1987، وشارك ممثلوها في "القيادة الوطنية الموحدة" للانتفاضة.
المؤتمر الوطني العام الثالث (تشرين الأول/ أكتوبر 1994): انعقد بعد التوقيع على اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) في أيلول/سبتمبر 1993، وانتخب اللجنة المركزية الخامسة، وصادق على الصياغة الجديدة للبرنامج السياسي التي استوعبت المتغيرات الكبرى التي وقعت دولياً، وعربياً وفلسطينياً. وكانت الجبهة الديمقراطية قد عارضت بحزم "اتفاق أوسلو"، ودعت إلى تجاوزه من خلال كسر طوق إكراهاته الأمنية والاقتصادية، واعتبرت، بعد نشوء سلطة الحكم الذاتي في الضفة والقطاع، أن البعد الديمقراطي بشقيه السياسي والاجتماعي بات يحتل حيّزاً أكبر في اهتمامات الجبهة ومهامها، مؤكدة انحيازها لمصالح العمال وعموم الكادحين والفئات الوسطى، فضلاً عن قطاعي المرأة والشباب.
الكونفرنس الوطني العام الثالث (كانون الثاني/ يناير 1998): انتخب اللجنة المركزية السادسة، وصادق على التقرير السياسي والتنظيمي واتخذ قراراً بالدعوة إلى مؤتمر وطني عام ينعقد بأقصى ما يمكن من سرعة.
المؤتمر الوطني العام الرابع (أيار/ مايو 1998): انعقد لإقرار مشروع «بسط سيادة دولة فلسطين على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967» عند نهاية "المرحلة الانتقالية" التي تحددت في "اتفاق أوسلو" في أيار /مايو 1999، وبالتالي تجاوز مفاعيل هذا الاتفاق.
الكونفرنس الوطني العام الرابع (تشرين الأول/ أكتوبر 2005): انعقد في ضوء انقضاء الفترة القانونية لولاية اللجنة المركزية السادسة، وعدم التمكن من عقد مؤتمر عام جديد بحكم اندلاع الانتفاضة الثانية، فقرر الكونفرس بموجب صلاحياته اعتماد هذه اللجنة المركزية كلجنة مركزية سابعة، يتصدر مهامها القيام بما يلزم للتسريع في عقد المؤتمر الوطني العام الخامس.
المؤتمر الوطني العام الخامس: اختتم أعماله في آب/أغسطس 2007، بعد قيام حركة " حماس" بانقلابها في قطاع غزة في حزيران /يوليو 2007، وتكرس الانقسام السياسي والمؤسسي والجغرافي الفلسطيني، الذي صارت الجبهة الديمقراطية تضع مهمة إنهائه على رأس جدول أعمالها، وتدعو إلى تحقيق إصلاح ديمقراطي واسع لبنيان منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها.
المؤتمر الوطني العام السادس: اختتم أعماله في شباط /فبراير 2013 في ظل استمرار الانقسام وفشل جهود المصالحة الداخلية رغم الاتفاقيات المتواترة ومسلسل الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة. وانتخب المؤتمر اللجنة المركزية التاسعة للجبهة الديمقراطية، وأجاز التعديلات على البرنامج السياسي والنظام الداخلي، بما في ذلك تعريف الجبهة الديمقراطية بصفتها «حزباً يسارياً ديمقراطياً» يناضل من أجل تحقيق أهداف التحرر الوطني لشعب فلسطين من موقع "تَمَثُّلْ مصالح أوسع الفئات الشعبية والشباب والمرأة، ويسعى إلى تحقيق وحدة العمل بين مختلف مكونات اليسار الفلسطيني ضمن صيغ جبهوية، تنظيمية وبرنامجية، مستقرة".
المؤتمر الوطني العام السابع: انعقد على مراحل خلال النصف الأول من سنة 2018 باسم "مؤتمر القدس والعودة- محطة نضالية على طريق العودة والدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس"، وتبنّى مشروع برنامج سياسي ومشروع نظام داخلي يعرّف الجبهة بأنها "حزب يساري ديمقراطي" تسترشد "بالاشتراكية العلمية كمنهج لتحليل الواقع الاجتماعي، ودليل للعمل من أجل تغييره"، وهي "جزء من حركة الطبقة العاملة الفلسطينية، وهي تعمل لتوطيد العلاقة الكفاحية بين فصائلها وسائر مكوّناتها".
مراجع
أبو ليلى، قيس (ق.ل) ، "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين"؛ في: موسوعة المصطلحات والمفاهيم الفلسطينية، تحرير محمد اشتية، القدس، المركز الفلسطيني للدراسات الإقليمية، ط 5، 2013، ص 169-172.
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، مشروع البرنامج السياسي، مشروع النظام الداخلي المقدمين إلى المؤتمر الوطني العام السابع-2018.
الشريف، ماهر، البحث عن كيان: دراسة في الفكر السياسي الفلسطيني 1908-1993، نيقوسيا، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995.
-صايغ، يزيد، الكفاح المسلح والبحث عن الدولة، : الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993، ترجمة باسم سرحان، بيروت، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2002.
–عبد الكريم، قيس، سليمان، فهد، الجبهة الديمقراطية .. النشأة والمسار، بيروت، شركة دار التقدم العربي-دمشق، الدار الوطنية الجديدة، 2001 .
نايف حواتمة يتحدث، إعداد وحوار عماد نداف، بيروت، دار المناهل-دمشق، دار الكاتب، 1996 .
نايف حواتمة ومحطات الكفاح الفلسطيني بين الثورة والدولة، إعداد أحمد ثابت، القاهرة، المركز العربي للصحافة والنشر، [2007].
في هذه السنة، يكون قد مرّ 100 عام على ظهور أول نواة "شيوعية" في فلسطين، تشكّلت على أيدي بعض الثوريين اليهود الذين قدموا إلى فلسطين في إطار الهجرات الصهيونية.
تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني وتطوره
سعت النواة "الشيوعية" الأولى التي ظهرت في فلسطين في تشرين الأول/أكتوبر 1919، وحملت اسم "حزب العمال الاشتراكي"، إلى الانضمام إلى الأممية الشيوعية (الكومنترن)، فاشترطت عليها هذه الأخيرة أن تقوم بتبنيّ سياسة "التعريب"، على صعيد العضوية، بحيث تتحوّل إلى حزب عربي-يهودي، وعلى صعيد التوجّه، بحيث تركّز على استقطاب العمال والفلاحين العرب وتدعم نضال الحركة الوطنية العربية، وأن تقوم بتغيير اسمها وتقطع صلاتها بتيارات "الصهيونية الاشتراكية". وبعد صراعات شديدة، أُعلن رسمياً في التاسع من تموز/يوليو 1923 عن تشكيل "الحزب الشيوعي الفلسطيني"، وعن موافقة قيادته على شروط الانتساب إلى الكومنترن، الذي أصدر تقريراً، في 26 شباط/فبراير 1924، أفاد بأن الحزب الشيوعي الفلسطيني صار يُعتبر "فرعاً رسمياً للكومنترن".
عارض الحزب الشيوعي الفلسطيني بحزم الحركة الصهيونية ومشروعها، وهو ما تجلّى لدى زيارة اللورد بلفور إلى فلسطين في نيسان/أبريل 1925، إذ أدان الحزب تلك الزيارة بشدة، ورأى فيها "مظاهرة إنكليزية ضد النهضة الوطنية العربية"، وساهم بنشاط في تنظيم المظاهرات والإضرابات التي اندلعت في المدن الفلسطينية احتجاجاً على تلك الزيارة. والواقع، أن الحزب الشيوعي الفلسطيني تميّز، في عشرينيات القرن العشرين، بوقوفه الحازم ضد الاحتلال البريطاني ومناداته باستقلال فلسطين، وانتقاده السياسات المهادنة لبريطانيا التي كانت تتّبعها قيادة الحركة الوطنية العربية، ممثّلة في اللجنة التنفيذية العربية.
وعلى الصعيد الاجتماعي، دعا الحزب الشيوعي الفلسطيني العمال العرب واليهود إلى التوحد في النضال من أجل حقوقهم الاجتماعية، وسعى إلى سلخ العمال اليهود عن جسم الحركة الصهيونية، وذلك عبر تشجيعهم على تصعيد نضالاتهم المطلبية وتطوير حركتهم الإضرابية. كما سعى إلى تنظيم العمال العرب ورفع مستوى وعيهم الطبقي، ودعاهم، في البدء، إلى الانضمام إلى صفوف النقابات التابعة لاتحاد نقابات العمال اليهود (الهستدروت)، بغية تحويل هذه النقابات من "منظمات قومية" يهودية إلى "منظمات أممية". وعلى الرغم من نجاح الشيوعيين، في مطلع سنة 1926، في تشكيل حركة عمالية يهودية-عربية تحت اسم "حركة إيحود" (حركة الوحدة)، فإن "التناقض القومي" بين العمال العرب واليهود بقي طاغياً على المصلحة الطبقية الواحدة، وظلت الأغلبية الساحقة من العمال اليهود مرتبطة بالمشروع الصهيوني. ومن ناحية ثانية، أعار الحزب الشيوعي الفلسطيني اهتماماً كبيراً للمشكلات التي كان يعانيها الفلاحون العرب، ومن أهمها مشكلة طردهم من الأراضي التي يعملون فيها بعد أن يقوم المتمولون الصهيونيون بابتياعها من كبار الملاك العرب، وما كان ينجم عن عمليات الطرد تلك من صدامات بين الفلاحين العرب والمستوطنين اليهود، كالصدامات العنيفة التي اندلعت في قرية العفولة في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1924.
في الأسبوع الأخير من آب/أغسطس 1929، شهدت فلسطين، في إطار ما سمي بـ "هبة البراق"، صدامات عنيفة بين المواطنين العرب والمستوطنين اليهود في عدة مدن فلسطينية، سقط فيها عشرات القتلى والجرحى من الجانبين، وتخللتها اشتباكات مع قوات الشرطة البريطانية. وقد فاجأت تلك الأحداث قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، التي كانت تتكوّن من الأعضاء اليهود، وجعلتها تتخذ، في البدء، موقفاً سلبياً منها، بذريعة أنها اكتست طابعاً "دينياً" و "عنصرياً"، الأمر الذي دفع السكرتاريا السياسية للجنة التنفيذية للكومنترن إلى انتقاد هذا الموقف، وإرجاعه، في القرار الذي أصدرته في 16 تشرين الأول/أكتوبر 1929 "حول حركة الانتفاضة في عربستان"، إلى عجز قادة الحزب الشيوعي الفلسطيني عن سلوك نهج واضح باتجاه تعريب صفوفه وتوظيف نشاطه الرئيسي في اتجاه العمال والفلاحين العرب. وقررت قيادة الكومنترن، في ضوء ذلك، إنهاء فترة دراسة بعض الكوادر العربية في "الجامعة الشيوعية لكادحي شعوب الشرق" في موسكو وإرجاعهم إلى فلسطين، وكان من أبرزهم محمود الأطرش. وعقب عودتهم، بدأت حملة واسعة للتحضير لمؤتمر حزبي جديد، انعقد في مدينة القدس في النصف الثاني من شهر كانون الأول/ديسمبر 1930، وانتقد مندوبوه "الأخطاء السياسية" التي ارتكبتها القيادة السابقة للحزب، وانتخبوا لجنة مركزية جديدة ضمت، لأول مرة، أغلبية من الشيوعيين العرب، وانبثق عنها سكرتارية حزبية من ثلاثة أعضاء هم نجاتي صدقي، ومحمود الأطرش وجوزيف بيرغر. وفي سنة 1934، وبناءّ على توجيهات جديدة من قيادة الكومنترن، تسلّم رضوان الحلو، وهو أحد الموفدين العرب ما بين سنتَي 1930 و 1933 إلى موسكو، منصب الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني.
بعد اندلاع الإضراب العام والثورة الكبرى، تبنت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني، في ضوء توجهات المؤتمر العالمي السابع للكومنترن في صيف 1935، سياسة "الجبهة الشعبية الموحدة"، وأصدرت، في 5 حزيران/يونيو 1936، العدد الأول من صحيفة "الجبهة الشعبية" التي نشرت، في 7 آب/أغسطس 1936، مبادئ ميثاق الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهي: "النضال الثوري التحريري ضد الاستعمار والصهيونية؛ العمل لاستقلال فلسطين استقلالاً تاماً ضمن الوحدة العربية؛ مصادرة أراضي الشركات الصهيونية وأراضي الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين الفقراء توزيعاً عادلاً؛ تأهيل المعامل والفبارك والمواصلات البرية والبحرية والجوية ووضعها تحت سيطرة سلطة الشعب؛ ومصادرة كل أملاك وعقار المهاجرين البعيدين". وعقب قيام الحكومة البريطانية بتشكيل لجنة تحقيق ملكية في الأحداث الفلسطينية برئاسة اللورد بيل، رأت قيادة الحزب في هذه اللجنة "خدعة استعمارية"، ودعت الشعب الفلسطيني إلى أن يرد على هذه السياسة الاستعمارية البريطانية باللجوء إلى التعبئة العامة، وطالبت الشيوعيين بالانخراط في مجموعات الثوار المسلحة، معتبرة أن الحركة الوطنية العربية في فلسطين "لا يمكنها أن تقتصر في نضالها على الإضراب العام، كشكل نضالي وحيد، خصوصاً وأن إضراب الشعب العربي في فلسطين لن يكون شاملاً، كما في سوريا، بسبب الدور التخريبي الذي يلعبه الصهاينة".
الانقسام القومي في صفوف الحزب
تسبب موقف قيادة الحزب هذا من الثورة وقيادتها في بروز خلافات سياسية بين أعضائه العرب واليهود، اتخذت بعداً جديداً بعد قيام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني بتشكيل هيئة تنظيمية باسم "القسم اليهودي"، لا سيما بعد أن تعزز، في ظروف الثورة، الاستقلال الذاتي، السياسي والاقتصادي، لليهود في فلسطين. وشيئاً فشيئاً، صارت الروابط تضعف بين قيادة الحزب وبين سكرتارية "القسم اليهودي"، الذي راح ينتهج سياسة مغايرة للسياسة العامة التي أقرتها لجنة الحزب المركزية. ففي صيف سنة 1937، أقرت سكرتارية "القسم اليهودي" مبدأ انخراط الشيوعيين اليهود في نشاط المنظمات الصهيونية بغية سلخ "العناصر الثورية" منها، ودعت إلى إقامة "جبهة شعبية" مع بعض القوى والأحزاب الصهيونية "المعتدلة"، معتبرةً أن التجمع الاستيطاني اليهودي "الييشوف" لا يمثّل تجمعاً متجانساً. وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، اشتدت الخلافات داخل قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني حول الموقف من الأقلية اليهودية في فلسطين، إذ اعتبر أعضاء القيادة من اليهود أنه راحت تنشأ في فلسطين وضعية ثنائية القومية، وصارت تبرز، إلى جانب القومية العربية، "قومية يهودية" في طور التكوين. وفي كانون الأول/ديسمبر 1939، ساهم القرار الذي اتخذته لجنة الحزب المركزية بحل "القسم اليهودي" في تكريس الانقسام القومي داخل صفوفه، وهو الانقسام الذي أفضى بعد سنوات، ولا سيما بعد صدور قرار حل "الكومنترن" في موسكو في أيار/مايو 1943، إلى انشقاق الشيوعيين العرب وقيامهم بتشكيل تنظيم يساري عربي جديد باسم: "عصبة التحرر الوطني في فلسطين"، بينما بقي الحزب الشيوعي الفلسطيني مقتصراً على أعضائه من اليهود.
عصبة التحرر الوطني في فلسطين
أدّت الحرب العالمية الثانية إلى تحويل فلسطين إلى محتشد للجيوش البريطانية وإلى قاعدة لتموينها في المنطقة، ما دفع الحكومة البريطانية إلى إقامة العديد من المعسكرات والمشاغل وإلى تشجيع قيام العديد من الصناعات المحلية، وهو ما ساعد على زيادة عدد العمال واختفاء ظاهرة البطالة بين صفوفهم، وانتعاش حركتهم العمالية النقابية. وترافق هذا التطور مع ظاهرة تنامي الاتجاهات التقدمية والديمقراطية بين صفوف الطلاب والمثقفين العرب، الذين شكّلوا، في أيلول/سبتمبر 1941، "رابطة المثقفين العرب في فلسطين". وبدأت تظهر في مدن فلسطين الرئيسية العديد من النوادي الاجتماعية والسياسية، كنادي "شعاع الأمل" ونادي "الشعب". كما راحت تتشكّل مجموعة من الحلقات والخلايا الماركسية.
وهكذا، كان قد تشكّل في فلسطين، عشية وقوع الانقسام القومي في صفوف الحزب الشيوعي الفلسطيني، تيار وطني يساري ديمقراطي عريض يبحث عن الأشكال التنظيمية الملائمة لتوحيد قواه وتأطير نضالاته. وقد اضطلع الشيوعيون العرب بهذه المهمة، وأُعلن رسمياً، في شباط/فبراير 1944، عن ولادة عصبة التحرر الوطني في فلسطين. ومع أن العمال والمثقفين شكّلوا القاعدة التي قام عليها تنظيم عصبة التحرر الوطني، إلا أن استنادها إلى هاتين الفئتين الاجتماعيتين لم يحل دون سعيها إلى طرح برنامج سياسي متجاوب مع مصالح كل الشعب العربي الفلسطيني، الذي كان، بمختلف طبقاته وفئاته الاجتماعية، مهدداً في وجوده بفعل تسارع وتيرة تنفيذ المشروع الصهيوني، المدعوم من الاحتلال البريطاني.
حاولت عصبة التحرر الوطني، منذ تأسيسها، أن ترسم حدوداً واضحة بين الصهيونية، من جهة، والسكان اليهود في فلسطين، من جهة ثانية، إذ رفضت ادعاءات الصهيونيين بأنهم يعبّرون عن مصالح كل اليهود، وأكدت أن الصهيونية تتعارض مع مصالح اليهود أنفسهم، وانتقدت، في هذا السياق، مواقف القيادة الوطنية العربية التقليدية التي كانت تعلن دوماً أنها "لا يمكن أبداً أن تعيش بسلام مع السكان اليهود في فلسطين، وأن تؤمن لهم أي حق ديمقراطي من حقوقهم، أو الوصول إلى تفاهم معهم"، محذرة من مخاطر هذه "السياسة غير العملية"، تجاه السكان اليهود في فلسطين، والتي قد تقود إلى تقسيم فلسطين. وفي المذكرة التي وجهتها إلى هيئة الأمم المتحدة، في آب/أغسطس 1947، دعت العصبة إلى إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وسحب الجيوش الأجنبية منها وإقامة دولة ديمقراطية مستقلة، تضمن حقوقاً متساوية لجميع سكانها من العرب واليهود.
وبعد صدور قرار تقسيم فلسطين الدولي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، جابهت عصبة التحرر الوطني أوضاعاً شديدة التعقيد. فباستثناء البند المتعلق بإنهاء الانتداب البريطاني، لم ينطوِ قرار التقسيم، في نظر قادتها، على الحل الأمثل للقضية الفلسطينية بل ألحق إجحافاً كبيراً بالشعب العربي الفلسطيني وحقوقه الوطنية فوق أرضه. وبقيت العصبة تعارض قرار التقسيم إلى شهر شباط/فبراير 1948، عندما قررت غالبية مندوبي الكونفرانس الذي عقدته في مدينة الناصرة، وانسجاماً مع الموقف السوفياتي المؤيد لذلك القرار، الموافقة عليه وتعزيز النضال في سبيل قيام الدولة العربية الفلسطينية، معتبرة، في بيان أصدرته بعنوان: "والآن... ما العمل؟" وتوجهت به إلى الشعب العربي الفلسطيني، إن قيام هذه الدولة العربية "هو الطريق إلى إنقاذ المشردين [الفلسطينيين] من تشردهم، وهو الطريق للاحتفاظ بحدود فلسطين ضمن وحدة اقتصادية ثابتة ومنع تجزئتها وإضاعة معالمها إلى الأبد، وهو الطريق لأن يحكم الشعب [الفلسطيني] نفسه بنفسه". وبعد اندلاع الحرب العربية-الإسرائيلية في 15 أيار/مايو 1948، نظّمت عصبة التحرر الوطني حملة واسعة لإقناع الفلسطينيين بالبقاء فوق أرضهم وعدم النزوح عنها، وعارضت دخول الجيوش العربية إلى فلسطين، ووجهت في تموز/يوليو 1948 "نداء إلى الجنود [العرب]" تدعوهم فيه "إلى العودة إلى أوطانهم وتوجيه ضرباتهم إلى المستعمر المحتل وإلى أذنابه"، ثم أكدت في بيان وجهته "إلى الشعوب العربية" في تشرين الأول/أكتوبر 1948، بالاشتراك مع الحزب الشيوعي العراقي والحزب الشيوعي السوري والحزب الشيوعي اللبناني، أن حكام الدول العربية "لم يعلنوا الحرب لمنع التقسيم، كما زعموا، بل لتنفيذ التقسيم كما تريده بريطانيا". أما الحركة الصهيونية، فقد استغلت حرب فلسطين "لتوطيد حكمها والتوسع في القسم العربي، ولتبرر ارتمائها في أحضان الاستعمار الأميركي وفتح المجال لتغلغله الاقتصادي والعسكري في أراضي الدولة اليهودية وفي كل فلسطين".
الشيوعيون في الأردن وفي قطاع غزة
نتيجة تمزق الكيان الفلسطيني بعد النكبة وتوزع الشعب الفلسطيني على مواقع مختلفة، كان من الطبيعي أن ينضوي الشيوعيون من أعضاء العصبة في أطر تنظيمية مختلفة. فإلى جانب الحزب الشيوعي الأردني، الذي تأسس في أيار/مايو 1951 وصار يضم أعضاء العصبة في الضفة الغربية وعدداً من الماركسيين في الضفة الشرقية، توحّد أعضاء العصبة العرب الذين بقوا فوق الأراضي التي قامت عليها دولة إسرائيل، في تشرين الأول/أكتوبر 1948، مع الشيوعيين اليهود في إطار الحزب الشيوعي الإسرائيلي، بينما شكّل أعضاء العصبة الذي بقوا في قطاع غزة، في آب/أغسطس 1953، الحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة.
رفض الشيوعيون إلحاق الضفة الغربية بشرقي الأردن وقاطعوا الانتخابات النيابية في نيسان/أبريل 1950، وناضلوا ضد مشاريع الأحلاف الاستعمارية التي هدفت إلى ربط الأردن بها، ونجحوا، مع القوى الوطنية الأخرى، في إفشال مشروع ضم الأردن إلى حلف بغداد، ثم في تعريب الجيش الأردني. كما نجحوا، خلال الانتخابات النيابية التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 1956، في إيصال نائبين إلى البرلمان، هما فائق وراد عن رام الله والدكتور يعقوب زيادين عن القدس، ودعموا حكومة سليمان النابلسي الوطنية التي تشكّلت في أعقاب تلك الانتخابات. وبعد انقلاب نيسان/أبريل 1957، تعرض الشيوعيون في الأردن لحملة قمعية واسعة، وكانت الفترة 1957-1965 فترة عصيبة عليهم، إذ أمضى القسم الأكبر من قادة الحزب الشيوعي الأردني وكوادره تلك الفترة في السجون.
وفي قطاع غزة، دعا الشيوعيون إلى النضال من أجل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وفقاً لقرار التقسيم الدولي رقم 181، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وتعويضهم وفقاً للقرار الدولي رقم 194، كما دعوا إلى مقاومة مشاريع توطين اللاجئين وإسقاطها، وخصوصاً مشروع التوطين في سيناء، وشاركوا بنشاط في آذار/مارس 1955 في تنظيم تظاهرات حاشدة، رفعت شعارات "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان.. العودة العودة حق الشعب"، نجم عنها استشهاد عدد من المتظاهرين، وكان من نتائجها سقوط مشروع سيناء، وقيام القوات المصرية باعتقال عدد من الشيوعيين الذين بقوا معتقلين حتى مطلع تموز/يوليو 1957. وكان الشيوعيون قد شاركوا في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة في خريف سنة 1956، وفي تشكيل الجبهة الوطنية، وفي إفشال مشروع تدويل القطاع. لكنهم عادوا وتعرضوا لحملة اعتقالات واسعة في سنة 1959 ولم يُفرج عن آخر دفعة منهم سوى في ربيع سنة 1963.
وفي سنة 1964، أيّد الشيوعيون بعث الكيان الفلسطيني وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، لكنهم انتقدوا بعض تصريحات رئيسها أحمد الشقيري و"أساليب عمله الفردية".
بعد مرور شهرين على العدوان الإسرائيلي في حزيران/يونيو 1967، أصدر الحزب الشيوعي الأردني برنامجاً مرحلياً، قدّر فيه أن صمود جماهير الأرض المحتلة سيشكّل المرتكز للنضال من أجل إرغام المحتلين الإسرائيليين على الجلاء وتبنى شعار "الصمود في أرض الوطن، الموت ولا النزوح"، معتبراً أن المهمة الرئيسية هي النضال من أجل "تصفية آثار العدوان"، بحيث يفرض على إسرائيل الانسحاب من الأراضي التي احتلتها "بما يضمن الحفاظ على الكيان الأردني ووحدة الضفتين، وبما يحفظ للعرب حقوقهم المشروعة في فلسطين وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم على أساس مقررات الأمم المتحدة". ومنذ سنة 1968، تشكّلت في الضفة الغربية المحتلة لجان شبه علنية عُرفت باسم "لجان التوجيه الوطني"، ضمت ممثلين عن الشيوعيين والقوميين العرب والبعثيين، ثم اتسعت قاعدتها لتضم ممثلين عن النقابات والهيئات النسائية والمجالس البلدية وبعض الوجهاء. ثم أسس الشيوعيون مع قوى وشخصيات وطنية أخرى، في سنة 1969، "جبهة المقاومة الشعبية في الضفة الغربية".
وفي قطاع غزة، شكّل الشيوعيون، مع البعثيين وفرع جبهة تحرير فلسطين (ج.ت.ف)، فضلاً عن بعض الشخصيات الوطنية الديمقراطية، "الجبهة الوطنية المتحدة" التي أُعلن عن قيامها في مطلع آب/أغسطس 1967، ودعوا سكان القطاع إلى التقشف والكف عن استخدام الكماليات لمواجهة الضائقة الاقتصادية وتحقيق الصمود الاقتصادي والسياسي من خلال شعارات: "البقاء على أرض الوطن تحت كل الظروف"، "الهجرة خيانة وطنية"، "لن نتحول إلى لاجئين من جديد"، كما أقروا، في أواخر سنة 1967، التحضير لممارسة الكفاح المسلح، خلافاً لرفاقهم في الأردن الذين لم يحسموا أمرهم ويتخذوا قراراً بممارسته سوى في مطلع سنة 1970 عندما أصدروا، في 3 آذار/مارس من ذلك العام، البيان التأسيسي لـ "قوات الأنصار" كي تشكّل "رافداً من روافد المقاومة"، وذلك بالتعاون مع الأحزاب الشيوعية في لبنان وسورية والعراق.
وعقب صدامات أيلول/ديسمبر 1970، ثم خروج قوات المقاومة الفلسطينية المسلحة من الأردن في صيف 1971، أدرك الشيوعيون أن صعوبات كبيرة باتت تعترض استعادة وحدة الضفتين وعودة الأوضاع في المناطق الفلسطينية المحتلة إلى ما كانت عليه قبل الرابع من حزيران/يونيو 1967، ورفضوا، من هذا المنطلق، مشروع "المملكة العربية المتحدة" الذي طرحته الحكومة الأردنية في آذار/مارس 1972. وكانوا قد أشاروا، منذ آذار/مارس 1971، إلى حق الشعب في تقرير مصيره على أراضيه التي احتلت سنة 1967، ثم تبنوا، بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973 وتداعياتها، هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وضمان عودة اللاجئين إلى وطنهم على أساس القرار الدولي رقم 194، وصاروا يعتبرون، بعد طرح فكرة المؤتمر الدولي للسلام أن هذا الإطار هو الإطار الأمثل للتوصل إلى حل سياسي شامل للصراع العربي-الإسرائيلي.
وفي أواسط آب/أغسطس 1973، وبعد أن شكّلت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية الرئيسية فروعاً لها في المناطق الفلسطينية المحتلة، ساهم الشيوعيون في توحيد القوى الوطنية في الضفة الغربية وقطاع غزة في إطار "الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأرض المحتلة" التي دعت في برنامجها إلى تأمين الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني وفي مقدمها "حقه في تقرير مصيره على أرضه والعودة إلى دياره"، وعززت شرعية منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. كما شاركوا بفاعلية في التحضير للانتخابات البلدية في الضفة الغربية، التي جرت في نيسان/أبريل 1976 وحققت فيها القوائم الوطنية المؤيدة لمنظمة التحرير الفلسطينية، وفي عدادها عدد من الشيوعيين، فوزاً كبيراً.
إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني
في سنة 1973، قررت اللجنة القيادية لفرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية تغيير تسميات منظماتها الجماهيرية، فتم، على سبيل المثال، تغيير اسم "اتحاد الطلبة الأردني في الضفة الغربية" إلى "اتحاد الطلبة الفلسطينيين". وفي مطلع كانون الثاني/يناير 1974، تشكلت "منظمة الشيوعيين الفلسطينيين في لبنان" من شيوعيين كانوا على علاقة بالحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة. وكان قد تشكّل، في سنة 1972، "التنظيم الفلسطيني في الحزب الشيوعي السوري". وجرى الاتفاق، في سنة 1974، على تشكيل لجنة تنسيق بين الحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الفلسطيني في قطاع غزة، وراح يدور، منذ ذلك الحين، نقاش حول مسألة إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني الشامل. وكخطوة تمهيدية على طريق إقامة هذا الحزب، تبنّى فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية، في أواخر تموز/يوليو 1975، اسم "التنظيم الشيوعي الفلسطيني في الضفة الغربية" ، كما تشكّل من فرع الحزب نفسه في لبنان، في أواخر شباط 1980، "التنظيم الشيوعي الفلسطيني في لبنان". وفي 10 شباط/فبراير 1982، أُعلن عن إعادة تأسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني المستقل، الذي اعتبر مؤتمره الأول، الذي انعقد في سنة 1983 بمثابة مؤتمر تأسيسي، وأصدر برنامجه السياسي. ونتيجة خلافات سياسية، انشق عن الحزب الشيوعي الفلسطيني، بعد تأسيسه بفترة وجيزة، عضو مكتبه السياسي عربي عواد وشكّل، مع مجموعة من الأعضاء، الحزب الشيوعي الفلسطيني الثوري.
وكان الشيوعيون قد دعوا إلى تمثيلهم في هيئات منظمة التحرير الفلسطينية بعد قيامهم بتشكيل "قوات الأنصار" في سنة 1970، بيد أن قيادة منظمة التحرير ظلت ترفض تمثيلهم لاعتبارات مختلفة، علماً بأن عدداً منهم، وخصوصاً من بين المبعدين من الأرض المحتلة، انضم في النصف الأول من السبعينيات في إلى عضوية المجلس الوطني الفلسطيني. ولم يتم الاعتراف بالحزب الشيوعي الفلسطيني كفصيل من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وتمثيله في اللجنة التنفيذية للمنظمة من خلال عضو مكتبه السياسي سليمان النجاب، سوى في الدورة التوحيدية الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني التي انعقدت في الجزائر في نيسان/أبريل 1987.
من الحزب الشيوعي الفلسطيني إلى حزب الشعب الفلسطيني
عندما اندلعت الانتفاضة الشعبية في المناطق الفلسطينية في كانون الأول/ديسمبر 1987، انخرط الحزب الشيوعي الفلسطيني بنشاط فيها، خصوصاً وأنها كانت منسجمة مع سياسته التي تنظر إلى المقاومة الشعبية باعتبارها الشكل الأنجع لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وشارك ممثلوه في قيادتها الموحدة. وخلال أحداث تلك الانتفاضة، التي تحوّلت سريعاً إلى معركة لجميع طبقات الشعب الفلسطيني، وتطبّعت بطابع ديمقراطي عميق، وفي ضوء الآمال التي عُقدت آنذاك على "البيروسترويكا" السوفياتية، شرعت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني في عملية مراجعة نقدية، تمخضت، في كانون الثاني/يناير 1990، عن مبادرتها إلى طرح مشروعَي برنامج سياسي ونظام داخلي جديدين، أُقرا، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 1991، في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي قرر تغيير اسم الحزب ليصبح "حزب الشعب الفلسطيني". وقد رفض عدد من أعضاء الحزب في الضفة الغربية هذا التغيير وحافظوا على اسم الحزب الشيوعي الفلسطيني.
وفي الأسبوع الأول من آذار/مارس 2008، عقد حزب الشعب الفلسطيني مؤتمره الرابع، في رام الله وغزة وسوريا ولبنان، تحت شعار "اليسار طريقنا نحو التحرر والديمقراطية والعدالة الاجتماعية". وأشار، في وثائقه الختامية، إلى أن حزب الشعب الفلسطيني "باعتباره، في هذه المرحلة، حزب التحرر والاستقلال الوطني، يمثّل امتداداً لتاريخ الحركة الشيوعية الطويل في فلسطين"، و"يناضل، على المدى البعيد، من أجل دولة اشتراكية التوجه، بالوسائل السلمية والديمقراطية وعلى قاعدة احترام الإرادة الشعبية".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الواقع أن تاريخ حزب الشعب الفلسطيني يتداخل، في محطات عديدة، مع تاريخ الحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الإسرائيلي. وأذكر، في هذا الصدد، أنني عندما طلبت، في سنة 1989، من قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي الاطّلاع على الأرشيف الخاص بفلسطين في محفوظات الكومنترن السرية في موسكو، طُلب مني، قبل فتح هذا الأرشيف لي، الحصول على موافقة ثلاثة أحزاب هي: الحزب الشيوعي الفلسطيني، والحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الإسرائيلي، وهذا ما كان.
المصادر
الشريف، ماهر، الأممية الشيوعية وفلسطين (1919-1928)، بيروت، دار ابن خلدون، 1980.
— - ، الشيوعية والمسألة القومية العربية في فلسطين 1919-1948، بيروت، مركز الأبحاث-منظمة التحرير الفلسطينية، 1981.
— - ، في الفكر الشيوعي الفلسطيني: الشيوعيون وقضايا النضال الوطني الراهن، دمشق، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1988.
— - ، (جمع وتقديم)، فلسطين في الأرشيف السري للكومنترن، دمشق، دار المدى، 2004.
— - ، من تاريخ الصحافة الشيوعية العربية في فلسطين 1924-1936، رام الله، مركز فؤاد نصار، 2011.
عوض الله، عبد الرحمن، تاريخ الحركة الشيوعية في فلسطين، رام الله، منشورات المركز الفلسطيني لقضايا السلام والديمقراطية، 2016.
Budeiri, Musa, The Palestine Communist Party, 1919 – 1948: Arab and Jew in the Struggle for Internationalism, United States: Haymarket Books, 2010.
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا