الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > اقتصاد المعركة > سياسات لانفكاك الاقتصاد الفلسطيني من التبعية مع الاحتلال الإسرائيلي
دراسات سياسية, دراسات وأبحاث
رائد محمد حلس
(باحث ومختص في الشأن الاقتصادي)
هناك إدراك واتفاق فلسطيني أن اتفاقيات السلام الانتقالية، لم تؤدِّ للاستقلال الاقتصادي الفلسطيني المنشود. تحلل هذه الدراسة آليات وأسباب سياسات التبعية التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي، وتقدم سبع سياسات مقترحة للمضي على درب التحرير الاقتصادي.
مقدمة
منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 1967، عملت سلطات الاحتلال، وبشكل مبرمج ومخطط، على ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وتكريس تبعيته وجعله خاضعاً وضعيفاً وغير قادر على المنافسة، وتركُّز نشاطه الأساسي في خدمة الاقتصاد الإسرائيلي بكل تفاصيله، من خلال تحكم إسرائيل الكامل بالمعابر والمنافذ وعمليات الاستيراد والتصدير، بالإضافة إلى ضربها وتدميرها للبنى التحتية، ما شكل عقبة رئيسية أمام تطور الاقتصاد الفلسطيني.
وعلى إثر توقيع اتفاق إعلان المبادئ (اتفاق أوسلو) عام 1993، وبروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، اللذين تم في إطارهما تحديد وتنظيم طبيعة العلاقات الاقتصادية بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الإسرائيلي، سعت السلطة الوطنية الفلسطينية لتأسيس علاقات تجارية مع الدول العربية بجانب العديد من دول العالم، لإعادة ترتيب وتنويع وتوسيع قاعدة التجارة الخارجية الفلسطينية معها وزيادة المكاسب المتوقعة من ناحية، وكسر احتكار إسرائيل لقطاع التجارة الخارجية الفلسطينية من ناحية أخرى.
ولتحقيق هذا المسعى، قامت السلطة الفلسطينية بتوقيع اتفاقيات تجارية مع العديد من الدول العربية ودول العالم. وعلى الرغم من ذلك، لم تغير هذه الاتفاقيات في تركيبة العلاقات الاقتصادية مع دول العالم بشكل عام، ومع إسرائيل بشكل خاص، إلا من ناحية الشكل، فقد استمرت إسرائيل في سيطرتها على كافة المعابر الفلسطينية والحدود مع دول الجوار، ما مكنها من التحكم في دخول وخروج الواردات والصادرات والبضائع والمواد الخام. كما أن الترتيبات المالية الناجمة عن بروتوكول باريس الاقتصادي مكنت سلطات الاحتلال الإسرائيلي من التحكم بالموارد المالية للسلطة الفلسطينية، وخاصة الحق في جباية وتحصيل الإيرادات الضريبية (إيرادات المقاصة) نيابة عن السلطة.
وهناك أشكال أخرى من التبعية الاقتصادية التي فرضتها إسرائيل على أرض الواقع، والتي لا تقل خطورة عن تبعية العلاقات التجارية والترتيبات المالية لإسرائيل، والمتمثلة بالتبعية النقدية وتبعية سوق العمل، التي عادة ما تستخدمها إسرائيل كأوراق ضغط سياسية اقتصادية، وبالتالي ضرب إمكانية إقامة دولة فلسطينية وضرب مقوماتها، ومنها إضعاف الاقتصاد الفلسطيني وجعله غير قادر على المنافسة، وتابعاً للاقتصاد الإسرائيلي.
أمام ما تقدم، تسعى الدراسة إلى تحديد وتشخيص مظاهر التبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي وتحديد آثارها، ودراسة إمكانية فك الارتباط والتبعية مع الاحتلال الإسرائيلي في ضوء المعطيات المفروضة على أرض الواقع.
أولاً: التبعية الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي
غالباً ما تسعى الدول إلى تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة بما تمتلك من موارد وأدوات اقتصادية، لذلك، فإن جوهر المشكلة يكمن في أن الاقتصاد الفلسطيني نما وتشكل في ظل حكم ذاتي منقوص السيادة على الأرض والموارد، بموجب اتفاق إعلان المبادئ (أوسلو) عام 1993، وما تلته من اتفاقيات، الذي سمح للسلطة الوطنية الفلسطينية بحكم وإدارة شؤون الشعب الفلسطيني دون أي سيطرة على الأرض والموارد والمعابر والحدود، وحتى دون إصدار عملة وطنية، الأمر الذي جعل من السلطة الوطنية الفلسطينية فاقدة لمقدراتها وأدواتها، وفاقدة لسلطتها على أراضيها، وما عمق ورسخ من تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد الاحتلال، وحال دون تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة، وشكل عقبة رئيسية أمام الاقتصاد الفلسطيني1.
ثانياً: أشكال التبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال وانعكاسها على الاقتصاد الفلسطيني
تتعدد صور التبعية الاقتصادية الفلسطينية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي، بحكم سيطرته على الأرض والموارد والمقدرات، وتأثيره المباشر في صناعة القرار الفلسطيني. وفيما يلي بعض أشكال التبعية لاقتصاد الاحتلال:
التبعية التجارية
حرصت إسرائيل على إخضاع الاقتصاد الفلسطيني لسيطرتها من أجل استمرارها في التمتع بالمزايا والمكاسب الناشئة عن هذه الممارسات، ولهذا الغرض، عمدت إلى السير في مسارين في آن واحد: الأول، عزل الاقتصاد الفلسطيني عن العالم الخارجي العربي والدولي على حد سواء، وجعل المعاملات معه في أضيق نطاق ممكن. والثاني، جعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي كخيار وحيد وبشكل مباشر. وقد أخذ هذا التوجه وضعه التطبيقي في أعقاب الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية عام 19672.
وطبقاً لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، تراوحت نسبة الصادرات الفلسطينيّة إلى إسرائيل خلال الفترة 1967-1994 من (80% – 85%)، من إجمالي الصادرات الفلسطينية، بينما تراوحت نسبة الواردات الفلسطينية من إسرائيل، من إجمالي الواردات، في السنوات ذاتها، بين (80% – 90%)، فالسلطات الإسرائيلية عمدت فوراً إلى عرقلة وتقييد التجارة الفلسطينية مع بقية بلدان العالم، منذ أن أصبحت المناطق الفلسطينية تحت الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر، وأجبرتها على روابط اقتصادية جديدة غير متكافئة معها، في اتحاد جمركي أحادي الجانب3.
استمر هذا النمط وتجسد بشكل محدد وموثق بعد توقيع اتفاق أوسلو، وبروتوكول باريس الاقتصادي، لكي يحصر مسارات العمل الاقتصادي على نحو يربط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الاحتلال، وجعله اقتصاداً تابعاً بشكل كبير للاحتلال الإسرائيلي في عدة جوانب، إذ إن بروتوكول باريس وما أعقبته من اتفاقيات تجارية وبروتوكولات ومعاملات مع العديد من الدول، وخاصة الاتفاقيات التجارية مع الدول العربية، لم تنجح في زيادة حجم الصادرات إلى السوق العالمية أو العربية، والحد من تركيزها مع شريك قسري مهيمن ومسيطر بشكل غير تنافسي، بحكم الواقع الأمني والجغرافي، ومتحكم بحركة دخول وخروج السلع والبضائع الفلسطينية4.
يوضح الشكل رقم (1) مدى هيمنة إسرائيل على التجارة الخارجية الفلسطينية مقارنة مع باقي دول العالم خلال الفترة (1995-2017)، ويظهر بشكل جلي مدى تحكم إسرائيل بهذه التجارة استيراداً وتصديراً، إذ شكل متوسط الصادرات الفلسطينية إلى إسرائيل نحو 57.4% من حجم التجارة الخارجية الفلسطينية، مقابل 42.6% إلى باقي دول العالم خلال الفترة (1995-2017). بينما شكلت الواردات من إسرائيل نحو 67.8% من حجم التجارة الخارجية، مقابل 32.2% من باقي دول العالم خلال نفس الفترة. وعلى الرغم من الانخفاض النسبي الذي حققه حجم التبادل التجاري (صادرات وواردات) مع إسرائيل، كما تظهره هذه الأرقام، خلال الفترة (1995-2017) مقارنة مع الفترة (1967-1994)، إلا أن هذا الانخفاض النسبي لا يعبر عن التحرر التجاري مع إسرائيل، خاصة أنه في الفترة السابقة كان الاقتصاد الفلسطيني يخضع بالكامل للاقتصاد الإسرائيلي نتيجة خضوع الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال. أما الفترة (1995-2017)، فقد تولت السلطة الفلسطينية زمام الاقتصاد الفلسطيني وسعت إلى اتخاذ التدابير والإجراءات لتنظيم قطاع التجارة الخارجية بما يخدم أهدافها الاقتصادية المتمثلة في التحرر الاقتصادي الكامل مع إسرائيل، وهو ما لم يستطع الاقتصاد الفلسطيني تحقيقه نتيجة القيود التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي على حرية الحركة والنفاذ وعدم القدرة على التحكم بالمعابر والحدود، إضافة إلى العراقيل الإسرائيلية التي هدفت إلى عدم استفادة الاقتصاد الفلسطيني من الاتفاقيات التجارية الثنائية مع الدول العربية والأوروبية.
شكل رقم (1): حجم التبادل التجاري الفلسطيني مع إسرائيل وباقي دول العالم للفترة (1995-2017).
إعداد الباحث بالاستناد إلى البيانات المدرجة في الملحق رقم (1).
استطاعت إسرائيل عبر سياساتها وإجراءاتها، والقيود التي فرضتها، أن تحول دون نمو وتطور القطاع التجاري الفلسطيني، من خلال إحكام سيطرتها وهيمنتها على الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام، وعلى التجارة الخارجية الفلسطينية بشكل خاص، الأمر الذي ساعدها في الاستحواذ أيضاً على جزء من الإيرادات الجمركية والضريبية الفلسطينية، لذلك، فالجانب الفلسطيني مطالب بضرورة البحث عن بدائل أخرى تركز بشكل أساسي على تقليل حجم العجز التجاري مع إسرائيل بشكل خاص، ومع باقي دول العالم بشكل عام، منها انضمام فلسطين إلى منظمة التجارة العالمية، من منطلق أنها فرصة كبيرة للتخلص من تحكم إسرائيل بالاقتصاد الفلسطيني، خاصة سيطرتها على حركة التجارة بين فلسطين والعالم الخارجي. كما تعتبر فرصة لفلسطين للدخول في النظام التجاري العالمي أسوة بباقي الدول العربية والنامية، وتحسين القدرة الإنتاجية للاقتصاد الفلسطيني، نتيجة لانخفاض القيود الجمركية على استيراد عناصر الإنتاج المختلفة.
التبعية المالية لاقتصاد الاحتلال
وفقاً لبروتوكول باريس الاقتصادي، تحصّل إسرائيل ضريبة القيمة المضافة على الواردات الفلسطينية من إسرائيل، وتدير عمليات التخليص الجمركي للواردات الفلسطينية التي تمر عبر موانئ إسرائيل، وتحصل الرسوم الجمركية وضريبة القيمة المضافة عن هذه الواردات (إيرادات المقاصة)، ومن ثم تحول هذه الإيرادات إلى السلطة الوطنية الفلسطينية شهريّاً بعد خصم 3% منها كرسم تحصيل. ولأن إسرائيل تتحكم بالإيرادات الجمركية التي تشكل ثلاثة أرباع إيرادات السلطة الوطنية الفلسطينية، فإن هذا يمكنها من ممارسة سيطرة مفرطة على الشؤون المالية الفلسطينية5. وتستغل إسرائيل هذه السيطرة (احتجاز إيرادات المقاصة) كورقة ضغط تستخدمها بشكل متكرر لفرض عقوبات على السلطة الوطنية الفلسطينية، أو للضغط سياسيّاً واقتصاديّاً على الفلسطينيين، وكما هو موضح في الجدول رقم (1).
جدول رقم (1)
حالات احتجاز إيرادات المقاصة من قبل الاحتلال الإسرائيلي
الفتــــــــــــرة الســـــــــــــياق
2006
الانتخابات التشريعية الفلسطينية وتشكيل حركة حماس للحكومة الفلسطينية العاشرة
تشرين الثاني (نوفمبر) 2011 المساعي الفلسطينية لنيل اعتراف دبلوماسي من اليونسكو
كانون الأول (ديسمبر) 2013 نجاح المساعي الفلسطينية في الحصول على صفة دولة مراقب في الأمم المتحدة
كانون الأول (ديسمبر) 2014 – نيسان (أبريل) 2015 المساعي الفلسطينية للانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية
المصدر: مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية – الأونكتاد، التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض المحتلة، جنيف، أعداد مختلفة.
ولا شك أن استخدام إسرائيل احتجاز إيرادات المقاصة المتكرر يمثل تهديداً مباشراً للاستقرار المالي الفلسطيني، نظراً لما يتسبب به من تسرّب مالي واستنزاف لخزينة السلطة الفلسطينية، وحقيقة الأمر أنّ الاقتصاد الفلسطيني يواجه تهديدين مختلفين نتيجة تحكّم إسرائيل بإيرادات المقاصة:
التهديد الأوّل: يتعلّق بعدم القدرة على التنبؤ بحجم هذه الإيرادات، رغم أهميّتها بالنسبة للاقتصاد الفلسطيني، كمكوّن رئيسي للإيرادات المحلّيّة، فهذه الإيرادات تُعتبر صمّام الأمان للحكومة الفلسطينيّة في قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، ودفع المستحقات المترتّبة عليها، حيث تشكّل بالمتوسط ثلاثة أرباع الإيرادات المحلّيّة الفلسطينيّة6.
التهديد الثاني: يتعلّق بالتسرّب المالي من خزينة السلطة الفلسطينية، حيث تعاني هذه الأخيرة من خسائر مالية كبيرة ناجمة عن ضياع حصيلة قيمة ضريبة القيمة المضافة وضريبة الشراء وجمارك المستوردات بسبب الاستيراد غير المباشر عبر إسرائيل. وهذا التسرّب المالي ناتج عن أنّ إسرائيل لا تزوّد السلطة بالمعلومات الكافية عن حجم الاستيراد والجهة التي قامت بذلك، لأنّ اتفاق باريس لا يلزمها بذلك، إضافةً إلى أنّ بعض التجار لا يقدّمون فواتير المقاصة لوزارة الماليّة، حيث تدفع إسرائيل الضرائب على أساس الفواتير، وذلك حتى لا يكشفوا عن حجم أعمالهم، التي يدفعون من خلالها ضريبة الدخل7.
ومن مصادر التسرّب المالي أيضاً البضائع المهرّبة من السوق الإسرائيلية، التي تُقدّر قيمتها ما بين 25-35% من مجموع الواردات من إسرائيل، حيث إنّ البضائع المنتجة في إسرائيل والمهرّبة إلى السوق الفلسطينية تنتج عنها خسائر كافة الضرائب غير المباشرة (القيمة المضافة والجمارك وضريبة الشراء)، بينما البضائع التي منشؤها بلد ثالث، تكون الخسائر فقط في الجمارك وضريبة الشراء في حال تم استيرادها من إسرائيل بموجب فاتورة مقاصة. والمعضلة هنا أنّ السلطة الفلسطينيّة لا تستطيع إجراء رقابة على حركة مرور البضائع إلى السوق الفلسطينيّة، بسبب عدم تواجدها على المعابر الدوليّة، وعدم وجود حدود داخليّة مع السوق الإسرائيلية، وهذا الأمر يزيد من حدّة تهريب البضائع من الأسواق والمستوطنات8.
وتشير التقديرات إلى أن التسرّب المالي للضرائب المباشرة وغير المباشرة المدفوعة من قبل المستهلك الفلسطيني والمحجوزة من قبل الجانب الإسرائيلي، يتسبب في خسائر تتكبدها الخزينة الفلسطينية تقدر بحوالي 306 ملايين دولار سنويّاً على الأقل، أي ما يعادل 17% من إيرادات الضرائب للسلطة الفلسطينيّة، وهذا يشكل 3.6% من الناتج المحلّي الإجمالي9.
إضافةً للخسائر الماليّة، فإنّ هناك تكاليف وخسائر اقتصادية إضافيّة لهذا التسرّب المالي، تمس الزيادة في الناتج المحلّي الإجمالي وزيادة نسبة التشغيل، التي كان يمكن للاقتصاد الفلسطيني أن يحقّقها لو تمّ توقيف هذا التسرّب المالي، ولو تمّ تحويل هذه الإيرادات من الخزينة الإسرائيليّة إلى الخزينة الفلسطينية، فالتقديرات تشير إلى أنّه لو تمّ منع هذا التسرّب وأمكن توفير هذه الإيرادات العامّة للسلطة الفلسطينيّة، لكان ممكناً زيادة الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 4%، وخلق ما يعادل 10000 فرصة عمل إضافيّة كل عام. كما يزيد هذا التسرّب المالي من هشاشة الوضع المالي للسلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، ويقلّل من قدرتها على التخطيط المالي والإنفاق على الموازنات التطويريّة، ويضع الاقتصاد كلّه في مرحلة نموّ حرجة لا يمكن الخروج منها، ويبقيه عرضةً لتأثير السياسات الاقتصادية والمالية الإسرائيلية10.
التبعية النقدية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي
لقد تم وضع أساس النظام النقدي الفلسطيني في بروتوكول باريس الاقتصادي عام 1994، وما زال هذا النظام قيد التطبيق في الأراضي الفلسطينية حتى اليوم، ويتمثل هذا النظام بغياب عملة وطنية فلسطينية، أي عدم وجود سياسة نقدية مستقلة، وبتداول ثلاث عملات (مع إمكانية تداول عملات أخرى شريطة أن يكون الشيقل الإسرائيلي إحدى عملات التداول)11، ما أدى إلى حرمان الاقتصاد الفلسطيني من إحدى السياسات الاقتصادية المهمة المتمثلة في السياسة النقدية ورسخ من التبعية النقدية لاقتصاد الاحتلال الإسرائيلي.
إنّ غياب عملة وطنيّة مستقلة، وتداول عدة عملات أجنبية، يُعتبر من أخطر التحدّيات التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني، فبالإضافة إلى الاعتبارات السياسية، حيث تمثل العملة الوطنية رمزاً للسيادة والاستقلال، فإنّ غياب العملة الوطنية الفلسطينية له تداعيات وآثار خطيرة على الاقتصاد الفلسطيني، تتمثل فيما يلي:
إن غياب عملة وطنية يحرم السلطة الوطنية الفلسطينية من عائد الإصدار أو إيراد سك العملة (Seigniorage)، وكذلك يحرمها من إصدار سندات وأذونات خزينة بالعملة المحلية، لتمويل عجز الموازنة وإدارة السياسة المالية العامة بشكل أفضل وتقليل حجم الاعتماد على الخارج، الذي سيعمل بدوره على تنشيط الأسواق المالية وتنشيط السوق بين المصارف، ما ينعكس إيجاباً على الاقتصاد الفلسطيني12.
غياب العملة الوطنية يجعل الاقتصاد الفلسطيني عرضةً بصورة كبيرة للصدمات والهزّات الخارجية، مثل إغلاق الحدود، والتقلّبات في الطلب على العمالة الفلسطينية في إسرائيل، وتغيّرات معدّلات صرف العملات المتداولة في فلسطين، والهزّات النقديّة التي تحدث في إسرائيل والأردن13.
يشكّل غياب العملة الوطنية الفلسطينية أحد العوائق الرئيسية لعدم وجود سياسة نقدية بالمفهوم الكلي الشامل، فالسياسة النقدية ترتكز على نوعين من الأدوات للتأثير على حجم الائتمان المصرفي وعرض النقد: النوع الأول يتمثل في الأدوات الكميّة وهي: سياسة سعر إعادة الخصم، ونسبة الاحتياطي القانوني، وعمليات السوق المفتوحة. والنوع الثاني يتمثل في الأدوات النوعية مثل تطبيق معايير الرقابة الدولية، والإقناع الأدبي، ولذلك، فإنّ السياسة النقدية المعمول بها في فلسطين، وفي ظل غياب العملة الوطنية، ترتكز على الأدوات النوعية للتأثير على حجم ونوعية الائتمان من خلال تطبيقها للمعايير الرقابية الدولية أو استخدامها لأداة الإقناع الأدبي في توجيه الائتمان المصرفي لتحقيق أهداف اقتصادية معينة، أو لتعزيز كفاءة وملاءة البنوك العاملة في فلسطين14.
تبعية سوق العمل الفلسطينية للسوق الإسرائيلية
شــكل ارتفــاع الأجــور فــي ســوق العمــل الإســرائيلية العامــل الأســاسي فــي تــدفق آلاف العمــال الفلسطينيين للعمل فيها، ففي بداية السبعينيات، بلغ معدل الأجـور فـي إسـرائيل حـوالي ضـعف نظيـره فــي الــضفة الغربيــة وقطـاع غــزة، واســتمر الاعتمــاد علـى ســوق العمــل الإســرائيلية فــي تـشغيل شـريحة واسـعة مـن العمـال حتـى مـع توقيـع اتفاقيـة أوسـلو عـام 1993، وإنـشاء الـسلطة الفلـسطينية15، إلا أن وتيـرة تـدفق العـاملين كانـت ومـا زالـت محكومة بالاشتراطات الأمنية الإسرائيلية والتغيرات السياسية، فقبيـل انـدلاع الانتفاضـة الثانيـة، شكل العاملون الفلسطينيون في إسرائيل حوالي %21 من مجموع العاملين، إلا أن هذه النسبة انخفـــضت إلـــى حـــوالي %6 مـــع بدايـــة الانتفاضـــة وفـــرض إغـــلاق محكـــم علـــى الأراضـــي الفلسطينية16.
ومـع انتهـاء الانتفاضـة الثانيـة، وانخفـاض وتيـرة المواجهـات مـع الاحـتلال، عـاد تـدفق العـاملين
علـى ســوق العمــل الإســرائيلية إلــى الارتفــاع فــي الــضفة الغربيــة، ليــصل فــي العــام 2017 إلــى
حـوالي 16.8% مـن مجمـوع العـاملين. أمـا فـي قطـاع غـزة، فقـد مُنـع العمـال مـن دخـول إسـرائيل بـشكل تـام بعـد الانسحاب الإسرائيلي الذي نفذه الاحتلال الإسرائيلي في القطاع عام 2005، وحسب الإحصاءات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فقد بلغ عدد العاملين الفلسطينيين في إسرائيل والمستوطنات 125600 عامل في الربع الثاني من العام 2018. ويتوزع عدد العاملين في إسرائيل والمستوطنات حسب حيازتهم للتصاريح بواقع (71500 عامل لديهم تصريح عمل، و37200 عامل دون تصريح عمل، و16900 عامل يحملون وثيقة إسرائيلية أو جواز سفر أجنبيّاً). ويسجل قطاع البناء والتشييد أعلى نسبة تشغيل في إسرائيل والمستوطنات، وهو يشكل نحو 61.6% من إجمالي العاملين في إسرائيل والمستوطنات17.
وتعتبر العمالة الفلسطينية إحدى وسائل دمج الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، فمن خلال السماح للعمالة الفلسطينية بالانتقال إلى إسرائيل والعمل فيها، والاستفادة من مزايا العمالة الفلسطينية، والمتمثّلة بانخفاض أجرها، وانخفاض تكاليف الحصول عليها، وسهولة تحميلها نتائج وآثار الدورات الاقتصادية في إسرائيل، ما أدى بدوره إلى زيادة الاعتماد على العمالة الفلسطينية في سوق العمل الإسرائيلية، هذا فيما يخص دوافع الجانب الإسرائيلي.
وفيما يخص دوافع الجانب الفلسطيني، فإن زيادة عدد العاملين الفلسطينيين في سوق العمل الإسرائيلية، أدت إلى التخفيف من حدة الارتفاع في معدلات البطالة، لا سيما في الضفة الغربية، أي لولا سوق العمل الإسرائيلية واستيعاب عدد كبير من العمالة الفلسطينية، لوصلت البطالة في الضفة الغربية إلى مستوى أعلى مما هي عليه.
وعلى الرغم من أن استيعاب عمال الضفة الغربية في سوق العمل الإسرائيلية يساهم بشكل واضح في تخفيف حدة البطالة، إلا أنه في المقابل يترك أثره على الأجور والأسعار في فلسطين، خاصة في ظل ارتفاع أجور العاملين في سوق العمل الإسرائيلية، مقارنة مع الأجور والأسعار في سوق العمل المحلية، فمن جهة، يؤدي ذلك إلى الضغط على الأجور المحلية إلى الارتفاع، ومن جهة أخرى، يزيد الطلب على السلع والخدمات، والجزء الأكبر منها مستورد، ما ينتج عنه بالضرورة تضخم ارتفاع الأسعار وتولد تضخم غير مرغوب فيه18.
وتكمن خطورة زيادة اعتماد العمالة الفلسطينية على سوق العمل الإسرائيلية، التي يسمّيها البعض “بطالة مؤجلة”، في كونها مفيدة وفاعلة على المدى القصير، ولكنّها خطيرة على المدى البعيد، لأنّ تصدير فائض العمالة الفلسطينية إلى سوق العمل الإسرائيلية ما هو إلّا هروب إلى الأمام. وبناءً عليه، فقد تصرّفت السلطة الفلسطينية في البداية وكأنّ مشكلة البطالة تُعالج من خلال تصدير العمالة إلى سوق العمل الإسرائيلية، وأعفت نفسها من مسؤولية معالجة هذه المشكلة المؤجلة، حتى انفجرت في وجه الحكومة، بعد سياسة الإغلاق والحصار التي فرضتها السلطات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية، ومنع العمال الفلسطينيين من التوجه إلى أسواق العمل داخل إسرائيل، فانضمت أعداد كبيرة من هؤلاء العمال إلى صفوف العاطلين عن العمل، ما تسبب في تعزيز الاختلال في سوق العمل، وتعميق تبعية سوق العمل الفلسطينية لسوق العمل الإسرائيلية19.
ثالثاً: انفكاك التبعية الاقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي
بعد عقود من الاشتباك السياسي والاقتصادي مع الاحتلال الإسرائيلي بهدف تحقيق الاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة على الأرض والموارد وبناء اقتصاد وطني مستقل عن الاقتصاد الإسرائيلي، لا يزال الموقف الإسرائيلي الرافض لأي حلول عادلة تفضي إلى إنهاء الاحتلال وتحرير الاقتصاد من التبعية القسرية التي كرسها الاحتلال، ويعكس ذلك الموقف اختلال ميزان القوى لصالح الاحتلال، وكذلك ظل استمرار سيطرة الاحتلال الإسرائيلي على الأرض والموارد والحدود بجانب الإجراءات والممارسات القمعية التي يمارسها على أرض الواقع واستغلاله لبروتوكول باريس الاقتصادي لربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي وجعله تابعاً لا يمكن الانفكاك عنه، فنجمت عن ذلك تشوهات واختلالات هيكلية عديدة في سوق العمل والتجارة الخارجية والمالية العامة، وكذلك حرمان الاقتصاد الفلسطيني من أدوات السياسة النقدية، نظراً لعدم وجود عملة وطنية. وقد انعكست هذه التشوهات والاختلالات على جميع المؤشرات الاقتصادية.
وتدرك القيادة الفلسطينية أهمية التحرر من روابط التبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال، وأصبح هناك إجماع على كافة المستويات لدى المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية ولدى الحكومة ولدى التيارات المدنية، على الدور الرئيسي للاقتصاد في تغيير موازين القوى، وبناء الدولة المستقلة20. وقد أخذ المجلس المركزي الفلسطيني، في دورته الثامنة والعشرين في منتصف شهر كانون الثاني (يناير) من العام 2018، قراراً بالانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية التي كرسها بروتوكول باريس الاقتصادي، وذلك لتحقيق استقلال الاقتصاد الوطني، والطلب من اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسسات دولة فلسطين العمل على تنفيذ ذلك21.
رابعاً: إمكانية تطبيق انفكاك التبعية الاقتصادية لاقتصاد الاحتلال
مع أن الاحتلال الإسرائيلي يقف خلف تراجع الأداء الاقتصادي الفلسطيني ونكوص التنمية بسبب سيطرته الكاملة على الأراضي والموارد والمعابر والحدود، التي استطاع بواسطتها تكريس تبعية الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد الاحتلال، وحال دون إحداث تنمية حقيقية ضمن هذه المنظومة، إلا أن العامل الفلسطيني الذاتي يبقى في غاية الأهمية لتحسين بيئة الأعمال والاقتصاد، خصوصاً في سياق معركة التحرر السياسي، أي أنه لا بد من التزامن بين معركة التحرّر السياسي التي تخوضها القيادة الفلسطينيّة في المحافل الدوليّة، مع إطلاق معركة التحرّر الاقتصادي من إسرائيل، للتخلّص من التبعيّة الاقتصاديّة مع اقتصاد الاحتلال، وتقليص الاعتماد على المساعدات الخارجيّة. والمرحلة الآن تتطلّب توطين الاقتصاد الفلسطيني، وبناءه على أسسٍ متينة، وقواعد صلبة، وتحويله من اقتصادٍ تابعٍ يرزح تحت الاحتلال، إلى اقتصاد دولة مستقلّة، قادر على الاعتماد الذاتي، والنموّ المستدام، وخلق فرص عمل دائمة ومستمرّة.
ويتطلب تحقيق هذا الهدف إعادة صياغة العلاقة الاقتصادية مع إسرائيل باتفاقية مختلفة تقوم على حرية التجارة، وتضمن التوازن معها والانفتاح على العالم، ومن ثم تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادي يدعم القطاعات الإنتاجية ويشجع الاستثمار في القطاعات الحيوية.
وفيما يلي مجموعة من الإجراءات والخطوات الواجب تنفيذها لتطبيق قرار المجلس المركزي بانفكاك علاقة التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال بشكل تدريجي وفي حدود النوافذ المتاحة للانفكاك، من أجل بناء اقتصاد وطني مستقل، ويؤسس لقيام الدولة المستقلة:
دعم المنتج الوطني: وذلك من خلال تطبيق برنامج لدعم المنتج الوطني في السوق المحلية، وزيادة ثقة المستهلك بالمنتج الوطني وتعزيز قدرته التنافسية وتنمية صادراته، وإحلال الواردات حيثما كان ذلك ممكناً، وتمييز المنتج الوطني في العطاءات كافة، والحكومية منها على وجه الخصوص، ومقاطعة منتجات الاحتلال والمستوطنات والشركات التي تستثمر فيها أو تدعمها.
دعم القطاعات الإنتاجية: وذلك من خلال رفع حجم مساهمة القطاعات الإنتاجية في الناتج المحلي، خاصة الصناعة والزراعة والسياحة، وفي مقدمتها تشجيع الاستثمار وبناء البنية التحتية الممكنة لعمل هذه القطاعات، وخاصة في مجال الطاقة الذي يعتبر من أبرز مصادر عدم التوازن مع إسرائيل.
وفي هذا الصدد، أشارت دراسة للبنك الدولي إلى أن بإمكان الفلسطينيين زيادة ناتجهم المحلي الإجمالي سنويّاً بنحو 704 ملايين دولار (7% من الناتج المحلي الإجمالي) في حال سمح لهم باستغلال أراضيهم الواقعة في المنطقة ج، وأن بإمكانهم مضاعفة القيمة للقطاع الصناعي في حال حصلوا على حقهم في استغلال أملاح البحر الميت بنحو 918 مليون دولار (9% من الناتج المحلي الإجمالي)، وزيادة ناتجهم المحلي الإجمالي بواقع 241 مليون دولار (2% من الناتج المحلي الإجمالي)، و126 مليون دولار من استغلال الموارد السياحية في المنطقة ج (1% من الناتج المحلي الإجمالي)22.
اتباع سياسة لحماية الصناعات الفلسطينية: حماية الصناعات الفلسطينية من تدفق السلع المستوردة التي تشكل تهديداً للصناعات المحلية، وتستدعي هذه السياسة أن تكون متكاملة أفقيّاً وعموديّاً مع السياسات الأخرى التي يرتبط تنفيذها بحماية الصناعة ودعم المنتجين، فيجب اعتمادها من خلال فرض رسوم جمركية إضافية، وأن تمنح الحكومة الفلسطينية رخص الاستيراد على أساس الكم والنوع لتمكين القطاع الخاص من التوسع في الإنتاج المحلي واستيعاب القوى العاملة23.
تنمية التبادل التجاري بين فلسطين والدول العربيّة: وذلك من خلال دعم وتفعيل مبادرة التكامل الاقتصادي الفلسطيني العربي، التي أطلقها منتدى الأعمال الفلسطيني الدولي في عمّان في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2015، والتي تهدف إلى تحرير الاقتصاد الفلسطيني من التبعيّة لإسرائيل، فالاندماج الإقليمي العربي يمثّل فرصة حقيقيّة لتنمية قطاع التجارة الفلسطيني من خلال توسيع وتنويع نطاق الأنشطة التجاريّة له بعيداً عن الشريك الإسرائيلي المهيمن، وتوفير الاستقلال الذي تحتاجه التجارة الفلسطينيّة كمنطقة تجاريّة مستقلّة ذات سيادة جمركيّة، وبالتّالي، فلا بدّ من متابعة حثيثة لهذه المبادرة، ووضع تصوّر من قبل الحكومة الفلسطينيّة لآليّات تنفيذها، وتشخيص معيقات التبادل الاقتصادي الفلسطيني العربي، وتوضيح الفرص الاستثماريّة المتاحة في فلسطين.
ويعتبر توطيد العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية في الوقت الراهن خياراً إستراتيجيّاً لتخفيف التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال من جهة، ومن جهة أخرى يحمل آفاقاً واعدة وحقيقية لتنمية الاقتصاد الفلسطيني، حيث تشير إحدى الدراسات إلى أن حجم الصادرات الفلسطينية لدول الخليج سيصل إلى 650 مليون دولار في ظل ظروف طبيعية لإقامة وتفعيل العلاقات معها، كما تشير دراسة أخرى إلى أن آفاق حجم التبادل التجاري مع مصر وحدها ستصل إلى مليار دولار24.
جذب فلسطينيي الشتات للمشاركة في تنمية الاقتصاد الفلسطيني: وذلك من خلال تشجيعهم على تأسيس شركات جديدة في الصناعة والزراعة مع شركاء محليين، مع إعفاءات ضريبية، وتوجيههم نحو الاستثمار في القطاع السياحي عبر بناء منتجعات سياحية وبيع حصص مشاركة للمغتربين وتشجيعهم في قضاء الإجازات في فلسطين، وتشجيعهم بالاستثمار غير المباشر في السوق المالية أو من خلال منتجات مالية مبتكرة مثل: (سندات رأس المال المضمون Capital Guaranteed Bonds)25.
مواصلة الجهود الحثيثة للحصول على العضوية الكاملة في منظمة التجارة العالمية: يأتي التوجه الفلسطيني للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في إطار إعادة هيكلة الاقتصاد الفلسطيني، وتحريره من الاقتصاد الإسرائيلي، والتفاؤل تجاه الفوائد الموعودة والمحتملة من الاندماج في العولمة بواسطة التحرير التجاري العالمي وآلياته المتخصصة. وبالتالي، فإن خيار القيادة الفلسطينية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية خيار إستراتيجي للانفكاك من التبعية، ويحمل العديد من الآثار الإيجابية، أهمها، أن حصول دولة فلسطين على صفة العضوية في منظمة التجارة العالمية يساعدها على الاستفادة من المساعدات الفنية التي من شأنها إيجاد نظام تجاري يتماشى مع قواعد المنظمة، ناهيك عن أن العضوية أيضاً تساعد فلسطين على بناء القدرات اللازمة والحصول على المعرفة في مجال التجارة الدولية، وستجلب المنافسة إلى السوق المحلية من خلال رفع القدرة التنافسية للمنتجات وتحسين جودتها وتخفيض أسعارها، وتؤدي أيضاً إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي داخل فلسطين، وبالتالي زيادة الإيرادات العامة للسلطة الفلسطينية26.
يجدر التنويه هنا إلى أن الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، يحتاج لإجماع الدول الأعضاء، بما فيها إسرائيل، وقد سبق أن أعاقت الولايات المتحدة، لأسباب سياسية وأيديولوجية، عضوية الصين وروسيا طويلاً، قبل التوصل لتسوية تسمح بعضويتهما، ولذلك، يحتاج الفلسطينيون لوضع خطة عمل لتجاوز هذه العقبة.
اتباع سياسات جمركية مختلفة عن السياسة السائدة في إسرائيل: تتمثل باتباع سياسات جمركية مختلفة عن تلك السائدة في إسرائيل، بحيث تكون أعلى من الإسرائيلية في مجال السلع الاستهلاكية، وأقل من الإسرائيلية في مجال السلع الرأسمالية والمواد الخام والوسيطة، وذلك بغض النظر عن نقطة العبور إلى المناطق الفلسطينية، طالما أن مصدر هذه السلع هو طرف ثالث.
وقد يترتب على هذا فرض رسوم جمركية على الواردات الفلسطينية من السلع النهائية، من طرف ثالث غير إسرائيل، وتوفير آليات للحد من تدفق بدائل لتلك السلع من إسرائيل أو غيرها بأسعار منخفضة، وفي حالة عدم توفر ذلك، فإن تلك السياسة لن يكون لها جدوى، ولا يمكن أن تزيد الإيرادات الجمركية لتمويل الخزينة.
كما يحتاج تخفيض الرسوم الجمركية على المدخلات إلى آليات لضمان إنتاج ذي جودة عالية وتكلفة منخفضة، حتى يكون قادراً على المنافسة في السوق المحلية مقارنة مع السلع المستوردة من إسرائيل أو من طرف ثالث، ويتوقف تطبيق تلك السياسات على مدى قدرة الجانب الفلسطيني على التحكم في المعابر لضبط جودة السلع أو المواد الخام والسلع الوسيطة المستوردة، ولا شك أن هذا الشرط غير متوفر، ولكن يمكن الاستفادة منه عند استخدام تلك المواد والخام والوسيطة لإنتاج سلع لأغراض التصدير، الأمر الذي يساعد على خلق فرص عمل للتخفيف من حدة البطالة وخاصة في صفوف الشباب، التي تزيد فيها نسبة البطالة على 40%27.
خاتمة
إن التوجه نحو تطبيق قرار المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية بانفكاك التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال التي كرسها بروتوكول باريس الاقتصادي يتطلب التعامل معه بقدر وافٍ من الجدية والسعي لتطبيقه على أرض الواقع، أي يجب ألا يكون القرار فقط للتهديد السياسي، خاصة أن إسرائيل نجحت في ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الاسرائيلي بشكل قسري، وأفرزت العديد من الاختلالات والتشوهات في البنية الاقتصادية، وحالت دون تحقيق تنمية اقتصادية مستدامة.
إن تطبيق انفكاك التبعية الاقتصادية مع اقتصاد الاحتلال قد لا يكون سهلاً، ولكنه ليس مستحيلاً، وبالتالي، هناك خطوات وإجراءات تستطيع الحكومة الفلسطينية تطبيقها، ومن شأنها إحداث تغيير جوهري في العلاقات الاقتصادية القائمة، خاصة لجهة إحداث إصلاح جوهري للتشوهات والاختلالات التي سببها الاحتلال من خلال السيطرة على الأرض والموارد والحدود والمعابر بجانب إبقاء السياسة الاقتصادية والتجارية والمالية الفلسطينية رهينة للسياسات الاقتصادية والتجارية والمالية الإسرائيلية، وذلك باتباع توجهات إستراتيجية بديلة تحل محل الزواج الأبدي مع الاقتصاد الإسرائيلي والأسواق الإسرائيلية والوسطاء الإسرائيليين للحد من التبعية الاقتصادية وإضعاف هيمنة الاقتصاد الفلسطيني على النشاط التجاري الفلسطيني، وهذا يمكن تطبيقه بتعزيز القدرات الذاتية للاقتصاد الفلسطيني، وتقليص الارتهان المعيشي الفلسطيني لإسرائيل، وتنويع العلاقات الاقتصادية مع الدول العربية ودول العالم الخارجي، وكذلك تقليص قدرة إسرائيل على استغلال الاعتماد المفرط عليها لتمرير سياسة التعايش مع الإملاءات الاقتصادية والأمنية والسياسية والإسرائيلية والتأقلم معها، عبر التوصل إلى ترتيبات اقتصادية وتجارية بين الاقتصاد الفلسطيني والدول المجاورة ودول العالم الخارجي، بما فيها إسرائيل، ولكن على أسس جديدة وخارج إطار بروتوكول باريس الاقتصادي، وذلك لتفكيك علاقة التبعية مع اقتصاد الاحتلال والحد من استخدام مثلث الأمن والسياسة والاقتصاد في التعامل مع الأراضي الفلسطينية والانتقال بالاقتصاد الفلسطيني من اقتصاد صغير وضعيف وتابع، إلى اقتصاد قوي ومستقل ذي قاعدة إنتاجية قادرة على خلق فرص عمل وتوفير منتجات وطنية محلية ذات جودة عالية وقادرة على المنافسة، وتحل محل المنتج المستورد، وبخاصة المنتج الإسرائيلي.
ملحق رقم (1)
حجم التجارة الخارجية الفلسطينية مع إسرائيل (1995 –2017)
السنة الصادرات الواردات
إلى إسرائيل إلى باقي دول العالم من إسرائيل من باقي دول العالم
1995 364.03 158.27 1463.97 842.23
1996 319.25 182.35 1743.2 518.4
1997 359.9 246.5 1852.4 679.5
1998 381.51 328.89 1833.12 927.98
1999 360.46 390.44 1853.65 1497.15
2000 369.68 509.52 1739.54 1288.76
2001 274.98 314.62 1353.58 1325.12
2002 218.33 262.57 1119.13 1209.27
2003 255.98 284.62 1309.64 1361.56
2004 281.15 315.65 1747.85 1389.55
2005 290.56 413.84 1872.88 1623.52
2006 326.57 356.83 2002.15 1368.85
2007 455.23 356.27 2442.85 861.95
2008 499.42 451.98 2794.83 701.57
2009 453.49 561.61 2651.13 1156.57
2010 488.4 543.2 2873.34 681.26
2011 617.78 680.52 2938.48 890.32
2012 639.18 651.22 3350.8 1024.5
2013 786.36 547.04 3694.82 364.38
2014 791.54 669.56 3958.26 267.84
2015 803.62 696.18 3044.62 1581.88
2016 1337.5 245.3 3249.9 1460.1
2017 2249.6 428.4 4346.8 3147.7
المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، إحصاءات التجارة الخارجية المرصودة للسلع والخدمات (1995-2017)، رام الله – فلسطين، أعداد مختلفة.
المبالغ بالمليون دولار.
الهوامش
محمد اشتية، الاقتصاد الفلسطيني: حصار عوامل الإنتاج، (القدس: المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار، بكدار، 2017)، ص13.
محسن صالح، محرر، التقرير الإستراتيجي الفلسطيني لسنة 2009، (بيروت: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، 2010)، ص414-415.
مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية– الأونكتاد، تقرير بعنوان: الاقتصاد الفلسطيني: وضع سياسات الاقتصاد الكلي والتجارة في ظل الاحتلال، (نيويورك وجنيف، 2012)، ص12.
سلطة النقد الفلسطينية، التقرير السنوي لعام 2016، (رام الله: دائرة الأبحاث والسياسات النقدية، 2017) ص40.
مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية– الأونكتاد، تقرير بعنوان التطورات التي شهدها اقتصاد الأرض المحتلة، (جنيف، 2016)، ص8.
رائد حلس ومحمود عيسى، التحديات الاقتصادية للأمن القومي الفلسطيني، الأمن القومي الفلسطيني: مرتكزات وتحديات، (غزة: مركز التخطيط الفلسطيني، 2016)، ص108.
سوسن الهدهد، التسرب المالي لدى خزينة السلطة الفلسطينية وعلاقته بالمستوردات غير المباشرة، رسالة ماجستير غير منشورة، (نابلس: جامعة النجاح، 2010)، ص103.
حنين حميض، تأثير المقاصة على الإيرادات الضريبية في فلسطين من (1995-2005)، رسالة ماجستير غير منشورة، (نابلس: جامعة النجاح، 2006)، ص80.
مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية– الأونكتاد، تقرير بعنوان: تسرب الإيرادات المالية الفلسطينية إلى إسرائيل في ظل بروتوكول باريس الاقتصادي، (نيويورك وجنيف، 2014)، ص39.
المرجع السابق، ص41.
نعمان كنفاني، خيارات العملة والسياسات النقدية المستقبلية في فلسطين: مراجعة تقييمية، (رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني– ماس، 2014)، ص42.
محمد عطا الله، استعدادات سلطة النقد الفلسطينية لإصدار عملة وطنية، سلطة النقد الفلسطينية، مقدمة إلى ورشة العمل الدولية حول العملة الفلسطينية، (الخليل: جامعة الخليل، 2014)، ص2.
أسامة حامد، السياسات النقدية في ظل غياب عملة وطنية وفي ظل مجلس عملة في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورقة نقاش، (رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني- ماس، 2000)، ص10.
عزمي عوض، آفاق ومحددات إصدار العملة الوطنية في ظل مجلس نقد فلسطيني كنظام للسياسة النقدية، مجلة جامعة الأزهر، سلسلة العلوم الإنسانية، المجلد 13، العدد(B) 1، (غزة: جامعة الأزهر، 2011)، ص1292.
Claus Astrup and Sebastien Dessus (2002), Exporting labor or goods?: long-term implications for the Palestinian economy, Washington, [UNITED STATES] : World Bank.
بلال الفلاح، تقييم كفاءة سوق العمل الفلسطيني، (رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني- ماس، 2016)، ص72.
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، النتائج الأساسية لمسح القوى العاملة: الربع الثاني 2018، (رام الله: 2018)، ص5.
سلطة النقد الفلسطينية، تقرير التضخم: الربع الأول 2017، العدد 22، (رام الله: دائرة الأبحاث والسياسات النقدية، 2017)، ص12.
محمود عيسى، الاختلالات الهيكلية في سوق العمل الفلسطيني وسبل معالجتها، رسالة ماجستير غير منشورة، (غزة: جامعة الأزهر، 2013)، ص88.
محمد مصطفى، كلمة مستشار الرئيس للشؤون الاقتصادية الفلسطينية، مؤتمر التحديات الاقتصادية في المنطقة وآفاق التعاون الفلسطيني الكوري، رام الله: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2015، ص3.
الدورة الثامنة والعشرون “دورة القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين”، (رام الله: مركز المعلومات الوطني الفلسطيني– وفا، 2018)، الموقع الإلكتروني: http://www.wafainfo.ps.
World Bank, West Bank and Gaza: Area C and the Future of the Palestinian Economy, October 2, 2013, pp. vii – ix.
اشتية، الاقتصاد الفلسطيني: حصار، ص178.
رائد حلس، ورقة تحليل سياسات: واقع التجارة الخارجية الفلسطينية المصرية، وسبل تطويرها، الأكاديمية الأميركية للأعمال، واشنطن، 2018، ص9-10.
سمير عبد الله، أجندة تطوير القطاعات الإنتاجية، في مؤتمر ماس الاقتصادي 2016: نحو رؤية جديدة للنهوض بالاقتصاد الفلسطيني، (رام الله: معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني– ماس، 2016)، ص105.
رائد حلس، أثر انضمام فلسطين لمنظمة التجارة العالمية على القطاع التجاري، في المؤتمر العلمي الدولي: الأمم المتحدة والقضية الفلسطينية “تحديات وفرص”، (غزة: مجلة جامعة الإسراء للمؤتمرات العلمية، 2018)، ص94.
اشتية، الاقتصاد الفلسطيني: حصار، ص179.
للتحميل اضغط هنا
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا