الصفحة الأساسية > 6.0 فلسطيننا > محطات على طريق القضية الفلسطينية
ثلاثة جوانب تجعل القضية الفلسطينية القضية الأبرز التي شغلت -ولا تزال تشغل- العالم العربي والإسلامي:
الجانب الأول: طبيعة الأرض بقدسيتها وبركتها ومركزيتها في قلوب المسلمين.
والجانب الثاني: طبيعة العدو بخلفيته العقائدية وعدائه التاريخي.
والجانب الثالث: طبيعة التحالف الغربي- الصهيوني الذي هدف أساساً إلى تمزيق الأمة الإسلامية، وإضعافها وإبقائها مفككة الأوصال، تدور في فلك التبعية للقوى الكبرى.
ولذلك يمثل التحدي اليهودي الصهيوني، الذي انزرع في فلسطين -قلب العالم الإسلامي -بأشكاله العسكرية والسياسية والحضارية، أبرز التحديات التي تواجه الأمة المسلمة، وسعيها نحو التحرر والوحدة والنهضة، لاسترداد مكانتها وريادتها بين الأمم.
وليس بخافٍ أن هذه القضية لم تكن يوماً قضية الفلسطينيين وحدهم؛ لأن إنشاء الكيان اليهودي-الصهيوني على أرض فلسطين لم يكن إلا مركزاً متقدماً لتنفيذ هذا البرنامج الغربي -الصهيوني. وسواء التقى ذلك مع أهداف أخرى من حل مشكلة اليهود في أوربا، أو التعاطف الديني مع رغباتهم، فإن الحقيقة الصارخة تكشف مدى الظلم الذي يرتكبه الغرب في تهجير شعب فلسطين وتدمير كيانه، وتعريض العالم الإسلامي للخطر، والاستقرار العالمي للانفجار، في سبيل تحقيق أهدافهم تلك، في عالمٍ يزعمون فيه دعوتهم للسلام العالمي وحقوق الإنسان.
يطلق اسم فلسطين على القسم الجنوبي الغربي لبلاد الشام، وهي الأرض الواقعة غربي آسيا، على الساحل الشرقي للبحر المتوسط. ولفلسطين موقع استراتيجي هام، إذ تُعدُّ صلة الوصل بين قارتي آسيا وإفريقيا، ونقطة التقاء جناحي العالم الإسلامي.
وقد سكن الإنسان أرض فلسطين منذ عصور موغلة في القدم، كما تدل الحفريات والآثار، وشهدت أرضها مراحل التطور الإنساني الأُولى في التحول من الرعي إلى الزراعة، كما أن أول مدينة جرى تشييدها في التاريخ هي مدينة "أريحا" الواقعة شمال شرقي فلسطين وذلك نحو 8000 ق.م حسبما يذكر علماء الآثار.
وأقدم اسم معروف لهذه الأرض هو "أرض كنعان"؛ لأن أول شعب سكن هذه الأرض ومعروف لدينا تاريخياً هم "الكنعانيون"، الذين قدموا من جزيرة العرب نحو 2500 ق.م. واسم فلسطين هو اسم مشتق من اسم أقوام بحرية، لعلها جاءت من غرب آسيا الصغرى ومناطق بحر إيجة حوالي القرن الثاني عشر ق.م، وورد اسمها في النقوش المصرية باسم "ب ل س ت"، وربما أضيفت النون بعد ذلك للجمع، وقد سكنوا المناطق الساحلية، واندمجوا بالكنعانيين بسرعة، فلم يبق لهم أثر مميز سوى أنهم أعطوا الأرض اسمهم . [1]
أما أرض فلسطين بحدودها الجغرافية المتعارف عليها حالياً فلم تتحدد بدقة إلا في أيام الاحتلال البريطاني لفلسطين (وخصوصاً خلال 1920ـ1923). وقد ظلت حدود أرض فلسطين تضيق وتتسع عبر التاريخ، غير أنها ظلت تعبِّر بشكل عام عن الأرض الواقعة بين البحر المتوسط وبين البحر الميت ونهر الأردن. وعلى أي حال، فإن مساحة فلسطين وفق التقسيمات المعاصرة تبلغ 27009 كم2 [2] وتتمتع فلسطين بمناخ معتدل هو مناخ البحر المتوسط، وهو مناخ يشجع على الاستقرار والإنتاج . [3]
هناك آثار تشير إلى أن الإنسان سكن فلسطين منذ العصر الحجري القديم (500 ألف-14 ألف ق.م)، كما يشير العصر الحجري الوسيط (14 ألف-8 آلاف ق.م) إلى وجود أشكال حياة حضارية تمثلت بما يعرف بالحضارة النطوفية. وعندما قدم الكنعانيون من جزيرة العرب (نحو 2500 ق.م) كانت هجرتهم واسعة بحيث أصبحوا السكان الأساسيين للبلاد، وقد أنشأوا ما لا يقل عن مائتي مدينة وقرية في فلسطين، مثل مدن بيسان وعسقلان وعكا وحيفا والخليل وأسدود وبئر السبع وبيت لحم [4] ويرى ثقات المؤرخين أن معظم أهل فلسطين الحاليين، وخصوصاً القرويين، هم من أنسال القبائل الكنعانية والعمورية والفلسطينية، ومن القبائل العربية التي استقرت في فلسطين قبل الفتح الإسلامي وبعده، حيث اندمج الجميع في نسيج واحد، يجمعهم الإسلام واللغة العربية، حيث أسلم الجميع واستعربوا تحت الحكم الإسلامي طوال ثلاثة عشر قرناً.
كان قدوم إبراهيم عليه السلام إلى فلسطين (نحو 1900 ق.م) إشراقة لنور التوحيد في هذه الأرض المباركة، وقد عاصر حاكم القدس "ملكي صادق" الذي كان على ما يبدو موحداً وصديقاً له. وكان لأبي الأنبياء إبراهيم دوره في نشر رسالة التوحيد، ويبدو أنه لم يجد عنتاً أو عناءً من أهل فلسطين، ولم يضطر لتركها بسبب دينه أو دعوته فظل مستقراً فيها ويتنقل بحُرّية حيث يشاء إلى أن توفاه الله في المدينة التي حملت اسمه "الخليل". وقد سار على دربه أبناؤه الأنبياء من بعده إسماعيل (الذي استقر في مكة)، واسحق وابنه يعقوب اللذين استقرا في فلسطين. وكان ليعقوب عليه السلام اثنا عشر ابناً هم الأسباط المعرفون ببني إسرائيل (وإسرائيل هو لقب ليعقوب عليه السلام) وقد هاجروا إلى مصر واستقروا فيها، حيث عانوا من اضطهاد الفراعنة بضعة قرون. وأرسل الله لهم موسى عليه السلام (في القرن 13 ق.م) لينقذهم من فرعون وطغيانه، وأهلك الله فرعون وجنوده، غير أن بني إسرائيل في ذلك الزمان كانوا قد طُبعوا على الذلِّ والجبن فرفضوا الذهاب إلى الأرض المقدسة قائلين لموسى: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ . [5]
وتوفي موسى عليه السلام قبل أن يدخل فلسطين، وعندما نشأ جيل جديد صلب من بني إسرائيل بعد أربعين سنة من التيه، قادهم يوشع بن نون عليه السلام (نحو 1190 ق.م) حيث عبر بهم نهر الأردن، واستطاع تحقيق بعض السيطرة لبني إسرائيل في الجزء الشمالي الشرقي من فلسطين. ولمدة 150 سنة تالية سادت النكبات والفوضى والخلافات والانحلال الخلقي والديني بين بني إسرائيل. ولم يتحسن حالهم إلا بقدوم طالوت ملكاً عليهم، والذي استطاع الانتصار على أعدائه.
وكان ظهور داود عليه السلام الذي خلف طالوت إيذاناً ببدء مرحلة جديدة لنور التوحيد في الأرض المباركة، حيث آتاه الله الملك (نحو 1004 ق.م) وقد واصل حربه ضد الأقوام الكافرة على الأرض المقدسة حيث أخضعها واستطاع نقل عاصمته إلى القدس سنة 995 ق.م وسيطر على معظم فلسطين، باستثناء معظم المناطق الساحلية التي لم تخضع له. واستمر في حكمه عليه السلام حتى 963 ق.م حيث خلفه ابنه سليمان عليه السلام (963-923 ق.م) حيث شهدت فلسطين حركة بناء وعمران وازدهار ضخمة، وسخّر الله له الريح والجنّ، وأعطاه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده. وكان حكم داود وسليمان هو العصر الذهبي الذي حُكمت فيه فلسطين نحو ثمانين عاماً تحت راية الإيمان والتوحيد قبل الفتح الإسلامي لها.
وبعد وفاة سليمان انقسمت مملكته إلى دولتين منفصلتين متعاديتين في كثير من الأحيان فنشأت مملكة "إسرائيل" شمال فلسطين خلال الفترة (923-721 ق.م) التي سمتها دائرة المعارف البريطانية ازدراء "المملكة الذيلية" حيث ضعفت وفسد حكامها وانتهى أمرها بسيطرة الآشوريين بقيادة سرجون الثاني عليها، وتدميرها ونقل سكانها من بني إسرائيل إلى حرّان والخابور وكردستان وفارس، وأحلوا مكانهم جماعات من الآراميين، ولم يبق بعد ذلك أثر لأسباط بني إسرائيل العشرة الذين شكَّلوا هذه الدولة. أما مملكة "يهودا" فاستمرت منذ (923-586 ق.م)، وكانت عاصمتها القدس وقد اعترتها عوامل الضعف والوقوع تحت النفوذ الخارجي فترات طويلة، فقد هزمها ودخل عاصمتها شيشق فرعون مصر (أواخر القرن 10 ق.م)، وفعل مثله الفلسطينيون في عهد يهورام (849-842 ق.م)، واضطرت لدفع الجزية للآشوريين …، ثم إنها سقطت أخيراً بيد البابليين بقيادة نبوخذ نصر الذي خرَّب القدس، ودمَّر الهيكل، وسبى حوالي 40 ألفاً من اليهود، وبذلك سقطت مملكتهم سنة 586 ق.م.
وهكذا فلم تَطُل مملكة بني إسرائيل في فلسطين أكثر من أربعة قرون حكموا في معظم الوقت بعضاً من أرضها، وكان حكمهم غالب الوقت ضعيفاً مفككاً، وخضع أحياناً لنفوذ وهيمنة دول قوية مجاورة. وفي الوقت نفسه ظل أبناء فلسطين من الكنعانين وغيرهم في أرضهم، ولم يهجروها أو يرتحلوا عنها.
وقد سمح الإمبراطور الفارسي قورش لليهود بالعودة إلى فلسطين، فعادت قلّة منهم، عاشت إلى جانب أبناء فلسطين، وتمتعت منطقة القدس بنوع من الحكم الذاتي تحت السلطة الفارسية التي استمرت (539-332 ق.م). وتلا ذلك عصر السيطرة الهللينية الإغريقية على فلسطين (332-63 ق.م) واستمر يدير شئون اليهود "الكاهن الأكبر"، واستطاع اليهود تحقيق حكم ذاتي منذ سنة 164 ق.م أخذ يضيق ويتسع، وتزداد مظاهر استقلاله وتضعف حسب صراع القوى الكبرى في ذلك الوقت على فلسطين (الرومان، البطالمة، السلوقيين …).
وقد تمكن الرومان من السيطرة على فلسطين 63 ق.م، وأخضعوها لحكمهم المباشر من سنة 6 م حيث ألغوا الحكم الذاتي اليهودي في منطقة القدس. وقد ثار اليهود (66-70 م) لكن القائد العسكري الروماني تيتوس أخمد ثورتهم ودمّر الهيكل، ثم ثار اليهود مرة أخرى وأخيرة (132-135 م) لكن القائد الروماني جوليوس سيفروس احتل القدس ودمرها، وأقام الإمبراطور الروماني هدريان مدينة جديدة فوق خرائبها سماها إيليا كابيتولينا حيث عُرفت بعد ذلك باسم إيلياء، وهو اسم هدريان الأول. وحظر على اليهود دخول القدس حوالي 200 سنة تالية ، وندرت أعدادهم نسبة إلى السكان طوال 18 قرناً تالية. بينما ظل أهل البلاد الأصليون من كنعانيين ومن اختلط بهم من قبائل العرب مستقرين في البلاد قبل قدوم بني إسرائيل وفي أثناء وجودهم، وظلوا مستمرين كذلك بعدهم إلى أيامنا هذه. [6]
قبل أن تتشكل الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، كانت أنظار القلّة المستضعفة من المسلمين في مكة تتجه إلى المسجد الأقصى وبيت المقدس في فلسطين. إذ إن معجزة الإسراء تمت من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وكان المسجد الأقصى هو القبلة الأولى للمسلمين في الصلاة. وقد كان فتح خيبر وفدك (7هـ) وغزوتا مؤتة (8هـ) وتبوك (9هـ) وحملة أسامة بن زيد (11هـ) مقدمة لتطلع المسلمين إلى بلاد الشام.
أما فتح فلسطين فكانت أبرز المعارك التي أدت إلى فتحها هي معركة أجنادين بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه في 27 جمادى الأولى 13هـ ـ 30 يوليو 634م قرب بيت جبرين التي قتل فيها نحو ثلاثة آلاف من الروم، ومعركة فحل ـ بيسان في 28 ذي القعدة 13هـ ـ 23 يناير 635م والتي كان ميدانها غربي نهر الأردن إلى الجنوب من بيسان. أما المعركة الفاصلة فكانت معركة اليرموك شمالي الأردن في 5 رجب 15هـ ـ 12 أغسطس 636م والتي واجه فيها جيشُ المسلمين ـ المكون من 36 ألفاً بقيادة أبي عبيدة وخالد بن الوليد رضي الله عنهما ـ جيش الروم البالغ 200 ألف. وقد حلَّت كارثة كبرى في الروم قدَّرها بعض المؤرخين بنحو 130 ألف قتيل. وقد أدت هذه المعركة إلى فتح بلاد الشام. وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنفسه لاستلام مفاتيح بيت المقدس بعد أن حاصرها المسلمون بضعة أشهر ورغب أهلها في الصلح شرط أن يتولى عمر رضي الله عنه العقد بنفسه. وهي المدينة الوحيدة في عهد الراشدين التي تولى خليفة بنفسه استلام مفاتيحها، وقد شارك عمر في الفتح نحو أربعة آلاف من الصحابة وصدَح صوت بلال بن رباح فيها بالأذان بعد أن كان امتنع عن ذلك منذ وفاة النبي [7] وقد كتب عمر بن الخطاب لأهل القدس عهداً، اشتهر باسم "العهدة العمرية" وقد جاء فيه:
"بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيِّزِها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.
وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن وله مثل ما على أهل إيلياء من الجزية ... وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية. [8]
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان، وكتب وحضر سنة 15هـ".
ويعكس هذا النص مدى التسامح الديني عند المسلمين في عالم كان يسوده التعصب الأعمى والإكراه على الدين. وقد تم فتح القدس على الأرجح في ربيع الآخر 15هـ ـ مايو 637م. وكانت "قيسارية" آخر مدينة تفتح في فلسطين في شوال 19هـ ـ أكتوبر 639م، وكانت ميناء ومدينة عامرة قوية سعى الروم للاحتفاظ بها قدر استطاعتهم.
وحسب التقسيمات الإدارية أصبحت فلسطين "جنداً" من "أجناد" الشام الذي توزع على أربعة أجناد في الراشدين، وأصبحت خمساً في عهد الدولة الأموية. وقد ظلت فلسطين جزءاً أصيلاً في الدولة الإسلامية ومتفاعلاً مع تطوراتها السياسية والحضارية. ولم يكن تغيُّر الدول والأسر الحاكمة ليؤثر على حقيقة أن أهل فلسطين عرب مسلمون موالون لدولة الإسلام وحكم الإسلام.
وقد استمر حكم الراشدين حتى سنة 41هـ ـ 661م، ثم تبعه حكم بني أمية حتى 132هـ ـ 750م، ثم العباسيون الذين استمر حكمهم المباشر على فلسطين إلى أن بدأ يعاني من الضعف والتفكك مع انتهاء العصر العباسي الأول بمقتل الخليفة العباسي المتوكل سنة 247هـ ـ 861م مما أعطى الفرصة للولاة إلى أن يشكلوا لأنفسهم سلطات محلية وراثية، كما حدث مع العائلة الطولونية التي حكمت مصر وضمَّت فلسطين إليها 264 ـ 292هـ أي 878 ـ 905م، وقد حذا الأخشيديون حذو الطولونيين عندما حكموا مصر، فضموها إلى نفوذهم 323 ـ 358هـ أي 935 ـ 969م. وقد حكم الأخشيديون والطولونيون تحت الظل الاسمي للدولة العباسية.
وفي 358هـ تمكن الفاطميون الذين ينتمون إلى المذهب الإسماعيلي من السيطرة على فلسطين. وخاض الفاطميون صراعات مع الثورات المحلية ومع القرامطة والأتراك السلاجقة للسيطرة على فلسطين. وتمكن السلاجقة في 464هـ ـ 1071م من السيطرة على معظمها. لكن الصراع عاد ليحتدم بين السلاجقة أنفسهم وبينهم وبين الفاطميين الذين تمكنوا من السيطرة على صور سنة 1097 وبيت المقدس في فبراير 1098 وقد كان هذا الصراع في غمرة الحملة الصليبية الأولى التي بدأت طلائعها في الوصول إلى بلاد الشام. وقام الفاطميون بمراسلة الصليبيين عارضين عليهم التعاون في قتال السلاجقة مقابل أن يكون القسم الشمالي من بلاد الشام للصليبيين وفلسطين للفاطميين. [9]
وليس من منهجنا في هذه الدراسة أن نتحدث عن تفصيلات الحروب الصليبية. [10] ولكننا نذكر أن الصليبيين تمكنوا من احتلال فلسطين، وسيطروا على القدس 493هـ ـ 1099م بعد أن خاضوا في بحر من دماء المسلمين، وقتلوا منهم في القدس حوالي سبعين ألفاً. لكن الأمة المسلمة كانت لا تزال تملك الكثير من القوة والحيوية وكانت أرقى حضارياً وعلمياً من الصليبيين الأوروبيين، رغم ما كانت تعانيه من تشرذم وصراع سياسي وحروب داخلية. فقد ظهر أبطال مجاهدون أنهكوا الصليبيين طيلة فترة حكمهم، من أمثال أقسنقر البرسقي 508 ـ 520هـ، وعماد الدين زنكي 521 ـ 540هـ الذي أسقط إمارة الرها الصليبية، وابنه نور الدين محمود 541 ـ 569هـ / 1146 ـ 1174م، الذي قدَّم نموذجاً فذاً للقيادة المسلمة، وتبنى مشروعاً نهضوياً حضارياً موازياً لمشروع التحرير الذي شغله طيلة حكمه، فتمكن من توحيد القوى الإسلامية بقيادته في بلاد الشام، ثم ضمَّ مصر إلى حكمه، وأسقط الخلافة الفاطمية فيها على يد واليه هناك صلاح الدين الأيوبي، وتمكن من تحرير نحو خمسين مدينة وقلعة من الصليبيين. إلا أنه توفي رحمه الله بعد أن استكمل تثبيت فكي الكماشة (مصر والشام) على عنق الصليبيين.
ورفع صلاح الدين الأيوبي راية الجهاد بعد نور الدين 569 ـ 589هـ / 1174 ـ 1193م، وأعاد توحيد الشام ومصر تحت قيادته، وخاض معركة حطين مع الصليبيين في 24 ربيع الآخر 583هـ ـ 4 يوليو 1187م وهي معركة فاصلة في التاريخ أدت إلى تحطيم الوجود الصليبي وفتح بيت المقدس في 27 رجب 583هـ ـ 2 أكتوبر 1187م أي بعد نحو 88 عاماً من الحكم الصليبي. وقد تابع الصليبيون حملاتهم وتمكنوا من السيطرة على شريط ساحلي بين يافا وصور، كما سيطروا مرة أخرى على القدس (بسبب الصراعات الداخلية في الدولة الأيوبية). معظم الفترة بين 626 ـ 642هـ / 1229 ـ 1244م إلى أن عادت نهائياً إلى حظيرة الإسلام، واستمرت كذلك حتى الاحتلال البريطاني لفلسطين سنة 1917م.
وقد خلف المماليك الدولة الأيوبية سنة 648هـ ـ 1250م وواجهوا الزحف المغولي على أرض فلسطين في معركة عين جالوت 25 رمضان 658هـ الموافق 6 سبتمبر 1260م بقيادة قطز (محمود بن ممدود) والتي تعدُّ من المعارك الفاصلة في التاريخ. ثم تابع المماليك مشروع تحرير فلسطين وبلاد الشام من بقايا الصليبيين، فقام الظاهر بيبرس بجهد كبير في ذلك، حيث استرد العديد من المناطق في فلسطين والشام ثم تابعه سيف الدين قلاوون، ثم ابنه الأشرف خليل بن قلاوون الذي تم على يديه إنهاء الوجود الصليبي في بلاد الشام بإسقاطه مملكة عكا الصليبية. إذ حرّر عكا في 17 جمادي الأولى 690هـ الموافق 18 مايو 1291م، واستولى بعد ذلك بسرعة على صيدا وصور وحيفا وعتليت. لتعود السيطرة الكاملة على فلسطين والشام من جديد لحكم الإسلام.
وعندما ضعف شأن المماليك قام العثمانيون بالسيطرة على فلسطين (وباقي الشام) سنة 1516م وسيطروا على مصر في السنة التالية، ووسَّعوا سيطرتهم خلال نصف القرن التالي لتشمل معظم العالم العربي، حيث استمر حكمهم حتى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918م.
وعلى أي حال، فإن الحكم الإسلامي لفلسطين استمر نحواً من 1200 سنة حتى 1917 م، وهي أطول فترة تاريخية مقارنة بأي حكم آخر، كان الحكم فيها مسلماً، والشعب مسلماً، وغطى الحكم كلَّ فلسطين وليس بعضها، كما ضرب المسلمون المثل الأعلى في التسامح الديني وحرية الأديان، فكانوا خير من خدم الأرض المقدسة، وحمى حرمتها.
وقد ترسخ الإسلام في فلسطين بقدوم عدد من الصحابة رضي الله عنهم واستقرارهم في فلسطين ونشرهم للإسلام فيها، وكان منهم: عبادة بن الصامت، وشداد بن أوس، وأسامة بن زيد بن حارثة، وواثلة بن الأسقع، وفيروز الديلمي، ودحية الكلبي، وعبد الرحمن بن غنم الأشعري، وعلقمة بن مجزر الكناني، وأوس بن الصامت، ومسعود بن أوس بن زيد، وزنباع بن روح، وأبو ريحانة شمعون الأنصاري، وسويد بن زيد، وذو الأصابع التميمي، وأبو أُبيّ بن أم حرام الأنصاري، وأنيف بن ملة الجذامي، وأبو رويحة الفزعي… وغيرهم من الصحابة الذين عاشوا في فلسطين ودُفنوا في ثراها.
ومن التابعين من أبناء فلسطين رجاء بن حيوة الكندي من مواليد بيسان، وهو الذي أشار على سليمان بن عبد الملك بتولية عمر بن عبد العزيز الخلافة. ومن التابعين أيضاً عبادة بن نسي الكندي، وروح بن زنباع، وممن سكن فلسطين أو زارها من التابعين مالك بن دينار، والأوزاعي، وهانئ بن كلثوم، وحميد بن عبد الله اللخمي، وسفيان الثوري، وابن شهاب الزهري.
ومن كبار الأئمة والفقهاء الذين ولدوا في فلسطين الإمام الشافعي الذي ولد في مدينة غزة، وممن عاشوا في فلسطين أو زاروها من الأئمة إبراهيم بن أدهم، والليث بن سعد، وأبو بكر محمد الطرطوشي، وأبو بكر الجرجاني، وابن قدامة المقدسي وابن حجر العسقلاني.
وإلى فلسطين ينتسب فاتح الأندلس القائد موسى بن نصير اللخمي، كما ينتسب إليها عبد الحميد بن يحيى رئيس فن الكتابة وسيّد الإنشاء والدواوين في عصره، وينتسب إليها أيضاً أول علماء الكيمياء الكبار في التاريخ الإسلامي خالد بن يزيد الأموي. ولا يتسع المجال للاستطراد، فقد كانت الأرض المقدسة مركزاً للحضارة الإسلامية، ومهوى لأفئدة المسلمين، وشارك أبناؤها بفعالية في بناء صرح الأمة الإسلامية الشامل وفي الارتقاء بنهضتها . [11]
كما أشرنا سابقاً، فَقَدَ اليهود صلتهم بفلسطين عملياً حوالي ألف وثمانمائة عام، ولم يكن لديهم سوى العاطفة الدينية التي رفض أحبارهم وحاخاماتهم وقادتهم تحويلها إلى برنامج عملي؛ لأنهم كانوا يؤمنون أنهم استحقوا تدمير دولتهم وشتاتهم بسبب خطاياهم، وأن عليهم انتظار المسيح المخلِّص الخاص بهم "الماشيح" أو "المسيا"، وعند ذلك يجوز لهم الاستقرار في فلسطين وإقامة كيانهم.
على أن عدداً من التغيرات الهامة حدثت في التاريخ الأوربي الحديث، انعكست بدورها على اليهود وإنشاء المشروع الصهيوني. فمنذ القرن السادس عشر الميلادي ظهرت حركة الإصلاح الديني "الحركة البروتستانتية" التي ركزَّت على الإيمان بالعهد القديم "التوراة"، ونظرت لليهود وفق رؤية توراتية بأنهم "أهل فلسطين" المشردين في الأرض، وآمنت بأن اليهود سيُجمعون من جديد في فلسطين لعودة المسيح المنتظر الذي سيقوم بتنصيرهم، ليبدأ بعد ذلك عهد يمتد ألف سنة من السعادة. وقد شكل أتباع الكنائس البروتستانتية أغلبية سكان بريطانيا والولايات المتحدة وهولندا ونحو نصف سكان ألمانيا. وهكذا ظهرت "الصهيونية غير اليهودية" خصوصاً وسط هؤلاء البروتستانت الذين دعموا المشروع الصهيوني بناء على خلفية دينية .
ومن جهة أخرى فإن أوربا ـ خصوصاً في القرن التاسع عشر ـ شهدت تحولات سياسية هامة، فمنذ الثورة الفرنسية على الحكم الملكي سنة 1789 أخذت تتشكل الدولة الأوربية الحديثة، وانتشرت الفكرة القومية والمشاعر الوطنية، وتم إنشاء أنظمة علمانية فصلت الدين عن الدولة وهمّشت دور الكنيسة. وتم "تحرير" اليهود، وإعطاؤهم كافة حقوق المواطنة، خصوصاً في أوربا الغربية، مما سهل على اليهود اختراق هذه المجتمعات والأنظمة، والارتقاء بمكانتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق مستويات أعلى من النفوذ في دوائر السياسة والاقتصاد والإعلام.
[12]وفي المقابل فإن الدولة القومية والمشاعر الوطنية في روسيا وأوربا الشرقية قد أخذت منحى آخر، حيث كان يتواجد غالبية يهود العالم. إذ قاوم يهود روسيا عمليات الدمج والتحديث الروسية، التي تميزت بالفوقية والقسر والإرهاب. وزادت مشاركة الكثير من اليهود في الحركات الثورية اليسارية من عداء الحكومة القيصرية الروسية لهم، وانفجرت العداوة ضدهم بشكل مكشوف إثر اغتيال قيصر روسيا الكسندر الثاني 1881، والذي اتهم به اليهود. وبدأت موجة من الإجراءات العنيفة القاسية ضدهم سميت ب "اللاسامية"anti-semitism، أي العداء لليهود لكونهم يهوداً ينتمون إلى العنصر السامي، وقد أدى ذلك إلى نشوء "المشكلة اليهودية" [13]. إذ إن ملايين اليهود في روسيا أخذوا يبحثون عن فرصة للخلاص مما هم فيه، وبدأت أعداد هائلة منهم في الهجرة إلى أوربا الغربية وأمريكا الشمالية والجنوبية. وكانت هذه فرصة الحركة الصهيونية للظهور والدعوة إلى حل المشكلة اليهودية بإنشاء كيان آمن مستقل لليهود في فلسطين. وتعاطف الكثير من الأوربيين والأمريكان مع هذه الدعوة سواء لخلفياتهم الدينية، أو تخلصاً من أعباء التدفق اليهودي على أرضهم.
وأسهم ضعف الدولة العثمانية ـ التي كانت فلسطين تحت حكمها (1516-1917) ـ وسعي الدول الغربية لتقاسم أراضيها إلى بروز أجواء عملية أفضل لتأسيس المشروع الصهيوني. ففي مؤتمر لندن الاستعماري (1905-1907) ظهرت فكرة إنشاء "الدولة الحاجزة" في منطقة فلسطين، واقترح المؤتمرون الذين رفعوا توصياتهم إلى رئيس وزراء بريطانيا في ذلك الوقت كامبل بنرمان C. Bannerman إنشاء هذا الكيان بحيث يتشكل حاجز بشري قوي وغريب، شرقي البحر المتوسط، يكون قوة عدوة لشعب المنطقة، وصديقة للدول الأوربية ومعتمدة عليها . وكان أفضل من ينفذ هذا المشروع هم "اليهود". [14]
وقد هدف المشروع الغربي من إنشاء فكرة الدولة الحاجزة إلى غرس كيان غريب في قلب العالم الإسلامي، ويفصل جناحه الآسيوي عن جناحه الإفريقي. يمنع وحدته، ويضمن ضعفه وتفككه، إذ إن استمرار مثل هذا الكيان مرتبط بذلك. وسيسعى هذا الكيان بالتالي لضرب أي نمو حضاري قوي في المنطقة، وسيشغل العالم الإسلامي بمشكلة طويلة معقدة تستنـزف طاقته وجهوده، وتبقيه إلى أبعد مدى ممكن في فلك التبعية والضعف والحاجة للعالم الغربي وقواه الكبرى. وكما أن هذا الكيان سيكون بحاجة إلى دعم الغرب لضمان استمراره، فإن الغرب كذلك سيكون بحاجة إليه لضمان ضعف العالم الإسلامي وتفككه وتبعيته. وبذلك ينشأ بينهما تحالف يهودي صهيوني-غربي صليبي لا ينفصم. وهنا تكمن أهمية أن يفهم المسلمون أن هذا المشروع موجه ضد كل مسلم وآماله في الوحدة والنهضة والتقدم وليس ضد الفلسطينيين وحدهم.
لقد عانى الغرب الصليبي من قرون طويلة من الصراع مع المسلمين،كانت فيه اليد الطولى للمسلمين نحو أحد عشر قرناً، وما كانت لتنتهي دولة مسلمة حتى تحل مكانها دولة مسلمة تجدد الحيوية في هذه الأمة، وتحفظ عزتها وكرامتها، فكانت دول الراشدين والأمويين والعباسيين والمماليك. وتمكن العثمانيون الذين خلفوا المماليك من فتح معظم أوربا الشرقية، ومن توحيد العالم العربي تحت رايتهم فكانوا حصناً عظيماً للإسلام قرون عديدة. غير أن ضعف الدولة العثمانية خصوصاً في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين جعل الأوربيين يفكرون بطريقة تضمن ألا تقوم بعد ذلك للعالم الإسلامي قائمة، وألا تحل محل العثمانيين دولة مسلمة جديدة، تبعث الحيوية والنهضة فيهم، فكانت فكرة الدولة الحاجزة.
لفتت حملة نابليون بونابرت على مصر التي احتلها بسهولة في يوليو 1798 الأنظار إلى مدى ضعف الدولة العثمانية، وفتحت شهية الاستعمار الأوربي لاقتسام تركة هذه الدولة. ورغم أن حملة نابليون بونابرت على فلسطين انتهت بالفشل على أسوار مدينة عكا 1799، إلا أنه كان أول زعيم سياسي أوربي يصدر دعوة رسمية لليهود لتحقيق آمالهم وإقامة كيانهم على أرض فلسطين، وقد نشر دعوته هذه في 20 إبريل 1799 في أثناء حصاره لعكا . [15]
ولم تكن الأهمية الخاصة لمصر وبلاد الشام لتغيب عن أعين البريطانيين الذين كانوا القوة الكبرى الأولى في العالم، فافتتحت بريطانيا قنصلية لها في القدس سنة 1838. وفي أول رسالة لنائب القنصل في القدس، طلبت الخارجية البريطانية منه توفير الحماية لليهود، حتى وإن كانوا غير بريطانيين، ولذلك ظلت هذه القنصلية مركزاً للدفاع عن مصالح اليهود حتى نشوب الحرب العالمية الأولى سنة 1914 . [16]وعندما تم للبريطانيين السيطرة على قبرص 1878، ومصر 1882، أصبحت الدولة الاستعمارية الوحيدة التي لها قواعد شرقي البحر المتوسط. وفضلاً عن الخلفيات الدينية والتاريخية، فقد أصبحت تنظر إلى فلسطين في ضوء التنافس الاستعماري على المنطقة، وفي ضوء حاجتها لحماية الجناح الشرقي لقناة السويس التي أصبحت الشريان الحيوي للمواصلات البريطانية خصوصاً إلى الهند. وعندما تأسس المشروع الصهيوني، وظهرت فكرة الدولة الحاجزة فإنها كانت تخدم ـ بلا شك ـ مختلف الدوافع والخلفيات الدينية والحضارية والسياسية والاستراتيجية. وأصبحت تتخذ أبعاداً عملية يمكن تنفيذها في ضوء التدهور العثماني المتسارع.
ولم تكن أصداء الدعاوي التي أطلقها اليهود والصهاينة غير اليهود "للعودة" إلى فلسطين لتأخذ أبعاداً جدية قبل نهايات القرن التاسع عشر. فقد ظهرت بواكير هذه الدعوات في القرن السادس عشر، مروراً بأول كتاب صدر حول هذا الموضوع بقلم المحامي البريطاني هزي فنش H.Finch سنة 1621 بعنوان "البعث العالمي الكبير أو دعوة اليهود"، كما ظهرت في كتابات ودعوات النصارى أمثال جان جاك روسو (1712-1778)، وبريستلي (1733-1804)، وشافتسبري، ولورنس أوليفنت. وظهرت كذلك دعوات اليهود أمثال إسحق نيوتن (1643-1727)، وشبتاي بن زفي (1626-1676)، ويهودا القالي (1798-1878)، وموزيس هس (1812-1875) وغيرهم [17] غير أن قدوم اليهود ظل مرتبطاً بالعاطفة الدينية التقليدية في زيارة الأماكن المقدسة، أو السكن بجواره،كما ارتبط بمشاريع استيطانية "خيرية"، ولم يأخذ طابع البرنامج السياسي المنظم المكشوف. فقد كان عدد اليهود في فلسطين سنة 1799 نحو خمسة آلاف [18] [19]
أخذت الهجرة اليهودية تتخذ طابعاً أكثر تنظيماً وكثافة منذ 1882 إثر تصاعد "المشكلة اليهودية" في روسيا، وقامت السلطات العثمانية بعدد من الإجراءات لمنع الاستيطان اليهودي في فلسطين، وقامت سنة 1887 بفصل سنجق القدس عن ولاية سوريا، ووضعته مباشرة تحت إشراف الحكومة المركزية (الباب العالي) لإعطاء رعاية واهتمام أكبر لهذه المنطقة [20] ورغم أن عدد اليهود الذين تركوا بلدانهم الأصلية (خصوصاً روسيا وشرقي أوربا) بلغ مليونين و366 ألفاً و941 شخصاً خلال الفترة (1881-1914)، إلا أن عدد من استطاع الهجرة منهم إلى فلسطين بلغ نحو 55 ألفاً، أي ما نسبته 2.32% بينما هاجرت الأغلبية الساحقة إلى الولايات المتحدة وأوربا الغربية وأمريكا الجنوبية . [21]وهذا يدل على نجاح نسبي للسلطات العثمانية في الحد من الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
وقد كان إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية World Zionist Organization وانعقاد مؤتمرها الأول في بال بسويسرا 27-29 أغطسس 1897 بزعامة ثيودور هرتزل T. Herzl فاتحة العمل الصهيوني السياسي المؤسسي المنظم لتأسيس الدولة اليهودية على أرض فلسطين. وقد حرص هرتزل على تحقيق المشروع الصهيوني من خلال الاتصالات الدبلوماسية، ومحاولة تشجيع القوى الكبرى، وخصوصاً بريطانيا، على تبنّي هذا المشروع، في ضوء المصالح والفوائد التي يمكن أن يجنيها الغرب الاستعماري الصليبي، وقد حاول هرتزل عبثاً إقناع الدولة العثمانية ببيعه فلسطين وإعطاء اليهود حكماً ذاتياً فيها تحت السيادة العثمانية، وفتح أبواب الهجرة اليهودية إليها مقابل عروض مغرية، كانت الدولة العثمانية في أمَسِّ الحاجة إليها. إلا أن السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) وقف سداً منيعاً ضد رغبات اليهود، وردَّ على من نقل اقتراح هرتزل إليه قائلاً:
"انصحه ألا يسير أبداً في هذا الأمر. لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد؛ لأنها ليست لي بل لشعبي. ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وقد غذوها فيما بعد بدمائهم، وسوف نغطيها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا … ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية، فقد يحصل اليهود على فلسطين دون مقابل، إنما لن تقسم إلا على جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأيِّ غرض كان" . [22]
وقد شارك اليهود بفعالية في إسقاط السلطان عبد الحميد من منصبه، من خلال انبثاثهم ونفوذهم الكبير في جمعية تركيا الفتاة وذراعها لجنة الاتحاد والترقي، والتي قامت بالانقلاب العسكري عليه، وإجباره على التنازل عن العرش، وتعمدت إرسال قره صو اليهودي ضمن الوفد الذي أبلغ السلطان عبد الحميد بقرار عزله. وكان قره صو هذا قد حاول التأثير على السلطان عبد الحميد لإسكان اليهود في فلسطين، فقام بطرده . [23].وقد استمتع اليهود بنفوذ كبير تحت حكم الاتحاد والترقي خلال الفترة (1909-1914)، فبينما كان لليهود ثلاثة وزراء من أصل 13 وزيراً في حكومة الاتحاد والترقي التي تشكلت سنة 1913،كان للعرب الذين يزيد عددهم عن نصف السكان وزير واحد . [24]
وقد كان لأبناء فلسطين نشاط مبكر في مواجهة المشروع الصهيوني، وكانت أولى الاصطدامات المسلحة بين الفلاحين الفلسطينيين والمستوطنين الصهاينة سنة 1886، وقاموا بتقديم العرائض للسلطات العثمانية، كما نشطت الصحف في تبيان الخطر الصهيوني مثل جريدتي الكرمل وفلسطين. وكان للشيخ محمد رشيد رضا المصلح الإسلامي "اللبناني" المقيم في مصر من خلال مجلة المنار دور رائد في ذلك. كما برز من رجالات فلسطين يوسف ضيا الخالدي وسليمان التاجي الفاروقي وإسعاف النشاشيبي… ممن تحدثوا عن الخطر الصهيوني. وكانت سياسات "التتريك" والمحاباة للصهيونية التي مارستها حكومة الاتحاد والترقي باعثاً رئيسياً لأبناء فلسطين والعرب للانضمام للجمعيات العربية، التي أخذت تطالب بالإصلاح ضمن الدولة العثمانية، مثل حزب اللامركزية والعربية الفتاة وغيرها . [25]
ومع بداية الحرب العالمية الأولى 1914 كان قد بلغ عدد اليهود في فلسطين نحو 80 ألفاً، غير أن موقف اليهود الممالئ لبريطانيا وحلفائها ضد الدولة العثمانية قد جعل العثمانيين يضيقون عليهم فترة الحرب (1914-1918)، فانخفض عددهم مع نهايتها إلى نحو 55 ألفاً.
وقد كانت الحرب العالمية الأولى خطراً هائلاً على الجميع، لكنها مثلت في الوقت نفسه فرصة أمام كل طرف للانتفاع من نتائجها في حالة الانتصار، فنشط سوق المفاوضات والاتصالات السرية والمعاهدات لترتيبات ما بعد الحرب. ورغم أن المنظمة الصهيونية العالمية عانت مؤقتاً من حالة من التشتت بسبب وجود الكثير من قياداتها في ألمانيا، إلا أن حاييم وايزمن C.Weizmann استطاع إعادة ترتيب أوراقها، وقيادتها عملياً من خلال مركزه في بريطانيا. أما بريطانيا فقد سعت إلى ضمان نفوذها في بلاد الشام والعراق من خلال السير في ثلاثة اتجاهات متعارضة متضاربة، ولم تبال بهذا التعارض كثيراً في سبيل تحقيق أهدافها والانتصار في الحرب.
كان الاتجاه الأول التفاوض مع الشريف حسين بن علي أمير الحجاز (مراسلات حسين-مكماهون يوليو 1915-مارس 1916) لدفعه لإعلان الثورة العربية على العثمانيين مقابل وعود باستقلال معظم المناطق العربية في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق تحت زعامته. وكان الكثير من رجالات العرب قد أصيبوا بالإحباط جرّاء سياسات الاتحاد والترقي، التي أفقدت الدولة العثمانية مصداقيتها الإسلامية،كما غضبوا لقيام جمال باشا الصغير والي سوريا بتعليق العديد من القيادات العربية على أعواد المشانق في مايو 1915، رغم أن زعامات الجمعيات العربية كانت قد أعلنت في بداية الحرب تناسي خلافاتها مع العثمانيين، والوقوف إلى جانبها في محاربة "الكفار". وقد تعمدت بريطانيا سياسة عدم الوضوح في تحديد التزاماتها، وقد ضغط الشريف حسين على بريطانيا لتكون أكثر تحديداً، خصوصاً فيما يتعلق بحدود الدولة العربية المقترحة، فأرسلت بريطانيا في 24 أكتوبر 1915 عدداً من التحفظات على الحدود،كمطالبتها بعدم ضم إقليمي مرسين وأضنة، وكذلك المناطق التي تقع إلى الغرب من سناجق حلب وحمص وحماة ودمشق، فضلاً عن استمرار استعمارها لجنوب اليمن وإمارات الخليج العربي، ومطالبتها بوضع إداري خاص لجنوب العراق يكفل المصالح البريطانية. ورغم أن الشريف حسين كان يفهم أنه لا يستطيع تغيير شيء بالنسبة للبلدان العربية المستعمرة، كما عبر عن استعداده لمناقشة المصالح البريطانية في جنوب العراق، إلا أنه أصر على عروبة المناطق غربي مناطق حلب وحمص ودمشق (وهي ما فهم أن المقصود منها ما يعرف الآن بلبنان). وقد تم الاتفاق على ضرورة المسارعة في إعلان الثورة على أن تتم مناقشة الأمور المعلقة بعد انتهاء الحرب. فقام الشريف حسين بإعلان الثورة في الحجاز في 10 يونيو 1916 وتحالف علناً مع البريطانيين، وأيدته في ذلك الجمعيات العربية التي كان لها نفوذ قوي خصوصاً في بلاد الشام كالعربية الفتاة واللامركزية والعهد.
أما الاتجاه البريطاني الثاني فكان التفاوض مع فرنسا (انضمت بعد ذلك روسيا للمفاوضات) بشأن مستقبل العراق وبلاد الشام. وقد تم الاتفاق فيما يعرف بمعاهدة سايكس-بيكوSykes-Picot Agreement في مايو 1916 على إعطاء البريطانيين معظم العراق (مقارنة بحدوده الحالية) وشرق الأردن ومنطقة حيفا في فلسطين، أما لبنان وسوريا فتوضعان تحت الاستعمار الفرنسي. ونظراً لرغبة كافة الأطراف في استعمار فلسطين فقد اتُفق على أن توضع تحت إشراف دولي.
وكان الاتجاه البريطاني الثالث هو التفاوض مع المنظمة الصهيونية العالمية حول مستقبل فلسطين. وقد دفعهم إلى ذلك حاجتهم الماسة لاستخدام النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة لدفعها للمشاركة في الحرب إلى جانب بريطانيا وحلفائها (وهذا ما حدث فعلاً في مارس 1917)، فضلاً عن وجود النفوذ اليهودي الصهيوني في بريطانيا وفي الحكومة البريطانية نفسها من خلال وزير الداخلية اليهودي الصهيوني هربرت صمويل H.Samuel، والنصارى المتصهينيين مثل رئيس الوزراء لويد جورجL.Goerge، ووزير الخارجية بلفورBalfour. هذا بالإضافة إلى ما أشرنا إليه سابقاً من دوافع وخلفيات دينية وسياسية واستراتيجية …. وكانت النتيجة صدور وعد بلفور في 2نوفمبر 1917 بتعهد بريطانيا بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد كان هذا من أغرب الوعود في التاريخ الإنساني، ففضلاً عن تعارضه مع المعاهدات الأخرى، فقد تجاوز بصلف وغرور رغبات وأماني أصحاب البلاد الشرعيين، وتعهد أن يعطي أرضاً لا يملكها ـ بل ولم يكن قد احتلها بعد ـ إلى أناس لا يستحقونها، وكان ذلك في ذروة الحديث عن الشرف البريطاني، والدفاع عن القيم والمبادئ.
لم تبق اتفاقية سايكس-بيكو طي الكتمان، إذ قام الروس بكشفها بعد أن استطاعت الثورة الشيوعية القضاء على الحكم القيصري في روسيا في أكتوبر 1917 وأعلنت انسحابها من الحرب. كما عرف الناس مبكراً بوعد بلفور الذي لم يعد سراً بعد أن وصل للصحافة في البلاد العربية ـ مصر بالتحديد ـ بعد أقل من أسبوع من صدوره. وقد كان ذلك صدمة كبيرة للثورة العربية، إذ لم يتخيلوا أبداً هذه الدرجة من الخداع البريطاني، ولذلك رفض جنود الثورة العربية الاستمرار ما لم توضح الأمور، فأرسلت بريطانيا إمعاناً في التضليل أحد مبعوثيها (هوغارث Hogarth ) في يناير 1918 لطمأنة الشريف حسين، حيث حمل تصريحاً بريطانياً بأن الهجرة اليهودية لفلسطين لن تتعارض مع مصالح السكان السياسية والاقتصادية. كما حمل التصريح البريطاني إلى القياديين السوريين السبعة في يونيو 1918 تأكيدات واضحة على أن الأرض التي يحتلها البريطانيون (جنوب فلسطين وجنوب العراق) سوف تحكم وفق رغبات السكان، فضلاً عن الموافقة على استقلال ما كان لا يزال تحت السيادة العثمانية من شمال فلسطين وشرق الأردن وسوريا ولبنان وشمال العراق. وعندما انتهت الحرب العالمية صدر التصريح الإنجلو-فرنسي 7 نوفمبر 1918 بتأكيد التعهدات للعرب الذين كانوا تحت الحكم العثماني في الحرية والاستقلال . [26]
فلسطين تحت الاحتلال البريطاني 1917-1948
أتم البريطانيون احتلال جنوب فلسطين ووسطها في ديسمبر 1917، واحتلوا القدس في 9 ديسمبر 1917. وخطب قائد الجيش البريطاني اللنبي Allenby في القدس محتفلاً بانتصاره قائلاً: "والآن انتهت الحروب الصليبية" ، [27] وكأن حملتهم على فلسطين كانت آخر حملة صليبية، وكأن الحروب الصليبية لم تتوقف منذ أن شنها الأوربيون قبل ذلك بأكثر من 800 عام. وفي سبتمبر 1918 احتل البريطانيون شمال فلسطين، كما احتلوا في سبتمبر-أكتوبر 1918 شرق الأردن وسوريا ولبنان. ومنذ ذلك الوقت فتحت بريطانيا بالقوة مشروع التهويد المنظم لأرض فلسطين، واستطاعت بريطانيا بعد ذلك إقناع فرنسا بالتخلي عن مشروع تدويل فلسطين كما في نصوص سايكس بيكو، مقابل رفع بريطانيا لدعمها للحكومة العربية التي نشأت في دمشق بزعامة فيصل بن الشريف حسين، حتى تتمكن فرنسا من احتلال سوريا. ثم وفرت بريطانيا لنفسها غطاءً دولياً باستصدار قرار من عصبة الأمم في 24 يوليو 1922 بانتدابها على فلسطين، وتم تضمين وعد بلفور في صك الانتداب، بحيث أصبح التزاماً رسمياً معتمداً دولياً. غير أن فكرة الانتداب التي ابتدعتها عصبة الأمم، كانت قائمة على أساس مساعدة الشعوب المنتدبة وإعدادها لنيل استقلالها. وقد تضمن صك الانتداب نفسه على فلسطين مسئولية الدولة المنتدبة (بريطانيا) في الارتقاء بمؤسسات الحكم المحلي، وصيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين. وهذا يعني ألا يقف وعد بلفور في نهاية الأمر عائقاً في وجه أبناء فلسطين ضد الارتقاء بمؤسساتهم وإقامة دولتهم. وكان تنفيذ وعد بلفور يعني عملياً الإضرار بمصالح أهل فلسطين وحقوقهم، وتعطيل بناء مؤسساتهم الدستورية باتجاه إقامة دولتهم. وقد فضلت بريطانيا دائماً التزام الشق المتعلق بوعد بلفور، وأصمَّت آذانها ولم تحترم الشق المتعلق بحقوق أبناء فلسطين العرب الذين كانوا يمثلون نحو 92% من السكان عند بداية الاحتلال. وربما أرادت بريطانيا من إيجاد نصوص متعلقة بحقوق الفلسطينيين إظهار نفسها بمظهر الحكم العادل بين الطرفين العربي واليهودي، وتشجيع الفلسطينيين على المطالبة بحقوقهم وفق أساليب مدنية "دستورية"، وعدم إغلاق كافة المنافذ أمامهم، بحيث لا يصلون إلى درجة الانفجار والثورة بسرعة، في الوقت الذي تقوم فيه بالتسويف والمماطلة، ريثما يتم لها ترسيخ الوطن القومي اليهودي في فلسطين. [28]
وضعت بريطانيا فلسطين تحت الحكم العسكري حتى نهاية يونيو 1920، ثم حولتها إلى الحكم المدني، وعينت اليهودي الصهيوني هربرت صمويل أوّل "مندوب سامٍ" لها على فلسطين (1920-1925) حيث شرع في تنفيذ المشروع الصهيوني ميدانياً على الأرض. وتابع المندوبون "السامون" المسيرة نفسها، غير أن أكثرهم سوءاً ودهاءاً ونجاحاً في التنفيذ كان آرثر واكهوب A. Wauchope (1931-1938) حيث وصل المشروع الصهيوني في عهده إلى درجات خطيرة.
تطور المشروع الصهيوني:
وعلى أي حال، فقد عاشت فلسطين تحت الاحتلال البريطاني مؤامرة رهيبة، فحُرم أهل فلسطين من بناء مؤسساتهم الدستورية وحُكْم أنفسهم، ووُضعوا تحت الحكم البريطاني المباشر، وأُعطي المندوبون السامون صلاحيات مطلقة. وضيقت بريطانيا على الفلسطينيين سبل العيش وكسب الرزق، وشجعت الفساد، وسعت لتعميق الانقسامات العائلية والطائفية وإشغال أبناء فلسطين ببعضهم. وفي المقابل شجعت الهجرة اليهودية، فزاد عدد اليهود من 55 ألفاً (8% من السكان) سنة 1918 إلى 650 ألفاً (31% من السكان) سنة 1948. ورغم الجهود اليهودية-البريطانية المضنية للحصول على الأرض، إلا أن اليهود لم يتمكنوا من الحصول سوى على نحو 6.5% من فلسطين بحلول 1948، كان معظمها إما أراضٍ حكومية، أو أراضٍ باعها إقطاعيون غير فلسطينيين كانوا يقيمون في لبنان وسوريا وغيرها، وقد بنى اليهود على هذه الأراضي 291 مستعمرة.
وفي الوقت الذي كانت السلطات البريطانية تسعى حثيثاً لنـزع أسلحة الفلسطينيين، وتقتل أحياناً من يحوز سلاحاً نارياً، بل وتسجن لسنوات من يملك رصاصات أو خنجراً أو سكيناً طويلاً، فإنها غضّت الطرف، بل وشجعت سرّاً تسليح اليهود لأنفسهم، وتشكيلهم قوات عسكرية وتدريبها، بلغ عددها مع اندلاع حرب 1948 أكثر من سبعين ألف مقاتل (64 ألف مقاتل من الهاغاناه، وخمسة آلاف من الأرغون، وألفين من شتيرن … وغيرها)، وهو عدد يبلغ أكثر من ثلاثة أضعاف الجيوش العربية السبعة التي شاركت في حرب 1948!! وأسس اليهود الوكالة اليهودية سنة 1929، والتي تولت شئون اليهود في فلسطين، وأصبحت أشبه بدولة داخل دولة لما تمتعت به من صلاحيات واسعة. وأقام اليهود مؤسسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية ضخمة، شكلَّت بنية تحتية قوية للدولة اليهودية القادمة، فتأسس الهستدروت (اتحاد العمال) وافتتحت الجامعة العبرية بالقدس سنة 1925 [29]. وهكذا، فإن الظلم والقهر والمحاباة كان السمة الأبرز للاستعمار البريطاني لفلسطين.
ورغم حالة الإنهاك التي خرج بها الفلسطينيون من الحرب العالمية الأولى، ورغم وقوع البلاد العربية من حولهم ـ والعالم الإسلامي بشكل عام ـ تحت سطوة الاستعمار ونفوذه، ورغم ضعف إمكاناتهم المادية، وانعدام أدوات الضغط والنفوذ السياسي لديهم، مقارنة بما حظي به المشروع الصهيوني من دعم يهودي عالمي، ومن رعاية القوى العظمى له، رغم ذلك كله، فإن التمسك بحقهم الكامل في فلسطين، والإصرار على استقلالهم مهما كلف الثمن، كانت السمة الأبرز لنشاطهم السياسي الجهادي طوال فترة الاحتلال البريطاني. وقد تمحور النشاط السياسي الفلسطيني حول مطالب محددة أبرزها:
إلغاء وعد بلفور لما يتضمنه من ظلم وإجحاف بحقوق الأغلبية الساحقة من السكان.
إيقاف الهجرة اليهودية.
وقف بيع الأراضي لليهود.
إقامة حكومة وطنية فلسطينية منتخبة عبر برلمان (مجلس تشريعي) يمثل الإرادة الحقيقية الحرة للسكان.
الدخول في مفاوضات مع البريطانيين لعقد معاهدة تؤدي في النهاية إلى استقلال فلسطين.
وعلى هذه الأسس نشأت الحركة الوطنية الفلسطينية، وأقام الفلسطينيون مؤتمرهم الأول (المؤتمر العربي الفلسطيني 27 يناير-10 فبراير 1919) في القدس، فرفض تقسيم بلاد الشام وفق المصالح الاستعمارية، وعدَّ فلسطين جزءاً من سوريا (بلاد الشام)، وطالب باستقلال سوريا ضمن الوحدة العربية، وتشكيل حكومة وطنية تمارس الحكم في فلسطين، وقد عقد الفلسطينيون سبعة مؤتمرات من هذا النوع حتى عام 1928. وبرز في قيادة الحركة الوطنية رئيس اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني موسى كاظم الحسيني الذي استمر في الزعامة الرسمية للحركة الوطنية حتى وفاته في مارس 1934. غير أنه من الناحية الفعلية برز اسم الحاج أمين الحسيني، الذي أصبح مفتي القدس سنة 1921، ورئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى منذ تأسيسه سنة 1922، والذي غدا أهم قلعة للحركة الوطنية والقوة الدافعة خلفها. وبوفاة موسى كاظم الحسيني أصبح الحاج أمين زعيم فلسطين دون منازع حتى نهاية الاستعمار البريطاني سنة 1948.
الحركة الوطنية الفلسطينية (1918-1929):
ركزت الحركة الوطنية الفلسطينية خصوصاً خلال (1918-1929) على المقاومة السلمية للمشروع الصهيوني، ومحاولة إقناع بريطانيا بالعدول عن وعد بلفور، وقد كان لا يزال لديها بقايا أملٍ في ذلك، خصوصاً وأن البريطانيين كانوا حلفاء الشريف حسين خلال الحرب العالمية الأولى، كما أن المشروع الصهيوني لم يكن قد حقق بعد أية نتائج عملية ذات أبعاد خطيرة على الوضع في فلسطين. هذا، فضلاً عن أن القيادة الفلسطينية لم تكن ترى أن الفلسطينيين يملكون الوسائل البديلة المكافئة التي تمكنهم من فرض إرادتهم على البريطانيين. كما أن القيادة نفسها لم تكن تملك العزيمة والإرادة والتماسك لتحدي البريطانيين بوسائل أكثر عنفاً. ولعبت قلة الخبرة السياسية، والتنافس العائلي على القيادة (الحسينية والنشاشيبية) ـ والذي أسهم البريطانيون في تأجيجه ـ دوره في إضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية. غير أن هذا لم يؤثر بشكل عام على الموقف المبدئي الفلسطيني من المشروع الصهيوني والاستعمار البريطاني، ومن المطالب السياسية العامة للحركة الوطنية.
ومن الناحية السياسية، أرسلت القيادة الفلسطينية وفدها الأول إلى لندن في يوليو 1921، الذي التقى وزير المستعمرات ونستون تشرشل W.Churchilوعدداً من المسؤولين، لكن جهوده لم تلق آذاناً صاغية من الحكومة البريطانية، وإن كان نجح في دفع مجلس اللوردات البريطاني بإصدار قرار برفض وعد بلفور. ومن جهة أخرى، أفشل الفلسطينيون محاولة بريطانية تشكيل مجلس تشريعي في فلسطين سنة 1923 منـزوع الصلاحية الفعلية، ولا يمثل بشكل صحيح سكان فلسطين. ولقيت زيارة بلفور لفلسطين سنة 1925 احتجاجات عامة، وتمت مقاطعته، ونُفذ إضراب شمل كل فلسطين. وفي المؤتمر الفلسطيني الخامس 22-25 أغسطس 1922 وضع المؤتمرون ميثاقاً وطنياً أقسموا اليمين التالي على الالتزام به: "نحن ممثلي الشعب العربي الفلسطيني في المؤتمر العربي الفلسطيني الخامس المعقود في نابلس، نتعهد أمام الله والتاريخ والشعب على أن نستمر في جهودنا الرامية إلى استقلال بلادنا، وتحقيق الوحدة العربية بجميع الوسائل المشروعة، وسوف لا نقبل بإقامة وطن قومي يهودي أو هجرة يهودية" . [30]
وخلال الفترة نفسها 1918-1929 وقعت ثلاث ثورات عبرت بشكل قوي عن الغضب الشعبي العارم من المشروع الصهيوني، غير أنها وجهت غضبها ضد اليهود، وحاولت تجنب البريطانيين (بسبب العوامل المشار إليها سابقاً)، لكن الدور الأساسي في قمع هذه الثورات كان للبريطانيين. فكانت ثورة موسم النبي موسى 4-10 إبريل 1920 في القدس التي أدت إلى مقتل خمسة يهود وجرح 211 آخرين، ومقتل أربعة عرب وجرح 24 آخرين، وثورة يافا 1-15 مايو 1921 التي اندلعت في يافا وشملت أجزاء من شمال فلسطين وأدت إلى مقتل 47 وجرح 146 يهودياً، بينما قتل 48 وجرح 73 عربياً، وثورة البراق التي تصاعدت أحداثها منذ 15 أغسطس واستمرت حتى 2 سبتمبر 1929، وقد خاضها المسلمون دفاعاً عن الاعتداءات اليهودية على حائط البراق "الحائط الغربي للمسجد الأقصى المبارك" وانتشرت في كافة أرجاء فلسطين، وأدت إلى مقتل 133 وجرح 339 يهودياً، وقتل 116 عربياً وجرح 232 آخرين. وفي الثورات الثلاث حدثت معظم إصابات اليهود على أيدي العرب، أما معظم إصابات العرب فوقعت على أيدي القوات البريطانية والشرطة. وقد كان للحاج أمين الحسيني مفتي القدس دور أساسي في ثورة موسم النبي موسى وثورة البراق. أما القيادة السياسية الرسمية الفلسطينية فقد ظلت متمسكة بالأساليب السلمية، بل وسَعَت إلى تهدئة مشاعر الغضب واستيعابها. ومن المهم الإشارة إلى أن الثورات الثلاث قد اتخذت طابعاً إسلامياً أسهم في تأجيح المشاعر الوطنية وتفجيرها ضد المشروع الصهيوني . [31]
الحركة الوطنية الفلسطينية (1929-1939):
كانت ثورة البراق 1929 فاتحة لعقد تصاعدت فيه المقاومة الجهادية العنيفة للمشروع الصهيوني وللاستعمار البريطاني على حد سواء، وقد وصلت ذروتها في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939). فقد أخذت تتكرس خطورة المشروع اليهودي-الصهيوني خصوصاً إثر هجرة أكثر من 152 ألف يهودي خلال الفترة (1930-1935)، مما ضاعف عدد اليهود الذين كان عددهم في منتصف سنة 1929 حوالي 156 ألفاً، وكان الكثير من المهاجرين الجدد من ألمانيا، من رجال الأعمال وأصحاب الأموال والتجارة ومن العلماء المتخصصين. كما تمكن اليهود في الفترة نفسها (1930-1935) من الاستيلاء على 229 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية. وهرّب اليهود كميات ضخمة من الأسلحة كُشفت حالتان منها في 15 مارس 1930، وفي 16 أكتوبر 1935 . [32]
وتميز النصف الأول من الثلاثينيات بازدياد النشاط السياسي والتفاعل الوطني مع الأحداث، وتوجيه العداء بشكل مباشر وواسع ضد السلطات البريطانية باعتبارها "أصل الداء، وأساس كل بلاء". وتشكلت في هذه الفترة الأحزاب الفلسطينية، وكان "حزب الاستقلال" أغسطس 1932 أولها ظهوراً، وأسهم بشكل كبير في توجيه العداء ضد بريطانيا، لكن شأنه ضعف منذ منتصف 1933. أما الحزب العربي الفلسطيني الذي ظهر في مارس 1935 فقد أصبح الحزب الشعبي الأول، وحظي بدعم المفتي (الحاج أمين) وبدعم الجماهير ، ونشطت في الفترة نفسها جمعيات الشبان المسلمين، و الحركات الكشفية. ونشأت وتطورت تنظيمات سرية عسكرية جهادية مثل حركة "الجهادية" بقيادة عز الدين القسام، و"منظمة الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني (والإشراف السرِّي للحاج أمين)، كما ظهرت مجموعات ثورية أصغر دخلت في صدامات مبكرة مع السلطة مثل "الكف الأخضر". [33]
لقد فَقَدَ الفلسطينيون في هذه الفترة أملهم في الحصول على حقوقهم بالوسائل السلمية والقانونية، وعلق الحاج أمين الحسيني على تلك المرحلة قائلاً: "كنا ما نزال حتى سنة 1932 على شيء من الأمل، ولكنه زال مع الزمن، كل عذابنا …كل آلامنا كانت تُعدُّ بعناية، لم يكن أمامنا غير الشهادة" . [34] وأشارت مذكرة لمدير قسم المخابرات في شرطة فلسطين إلى أن "الشعور المتزايد بالسخط ضد الانتداب البريطاني والإدارة أصبح سائداً وسط كل الطبقات…، وأن العرب، الذين أَمِلوا بأن بريطانيا سوف تحقق لهم العدل، قد أصيبوا باليأس" [35] وقد أسهم في تكريس القناعات المعادية لبريطانيا وانتشارها فشل مهمة الوفد العربي الفلسطيني إلى لندن برئاسة موسى كاظم الحسيني في ربيع 1930. وعدم تنفيذ توصيات جون هوب سمبسون J.H.Simpson خبير الإسكان والأراضي، الذي كلفته الحكومة البريطانية بدراسة الوضع في فلسطين، والذي استنتج بعد دراسة دقيقة أنه لا توجد أراضٍ إضافية حالياً يمكن إعطاؤها للمهاجرين اليهود، وأوصى بخفض الهجرة اليهودية أو وقفها [36] . وزاد من تفاقم الوضع نكوص الحكومة البريطانية عن تنفيذ توجهاتها التي أعلنتها في "الكتاب الأبيض" في أكتوبر 1930 الذي وعد بضبط الهجرة اليهودية، ثم إصدارها "الكتاب الأسود" في فبراير 1931 الذي أكد التزامات بريطانيا تجاه المشروع الصهيوني، ومسح عملياً ما جاء في الكتاب الأبيض . [37]
واستطاع أبناء فلسطين في تلك الفترة أن يجددوا البعد العربي والإسلامي لقضية فلسطين وينشطوه. فنقلت التقارير في مايو 1931 وجود مخطط ثوري جهادي يستهدف إنقاذ البلاد العربية وخصوصاً فلسطين وسوريا، وأن الأمير شكيب أرسلان (وهو إسلامي لبناني) كان زعيم هذه الحركة، ويشترك معه في المخطط الحاج أمين الحسيني ومولانا شوكت علي الزعيم الهندي المعروف. وكان على اتصال بزعماء الحركات العربية في الجزيرة العربية والعراق والشام ومصر. لكن المخطط لم يُكتب له النجاح [38] وفي 7-17ديسمبر1931 انعقد في القدس المؤتمر الإسلامي العام برئاسة الحاج أمين الحسيني، وبحضور مندوبين عن 22 بلداً، وتكرس فيه البعد الإسلامي لقضية فلسطين، التي أصبحت همّاً مركزياً للعالم الإسلامي، وحضره علماء وشخصيات إسلامية كبرى مثل الشيخ محمد رشيد رضا، والمفكر الهندي الشاعر "محمد إقبال"، والزعيم الهندي شوكت علي، والزعيم التونسي عبد العزيز الثعالبي، ورئيس وزراء إيران السابق ضياء الدين الطبطبائي، والزعيم السوري شكري القوتلي، …وغيرهم. وصدرت العديد من القرارات العملية كإنشاء جامعة إسلامية، وتأسيس شركة لإنقاذ الأراضي، وتشكيل لجان لفلسطين في مختلف البلدان … ، لكن وقوع معظم بلدان العالم الإسلامي تحت الاستعمار، وإصرار البريطانيين على إفشال أي من المشاريع العملية أدى إلى تعطيل العمل بمعظم هذه القرارات. وتزايد دور علماء المسلمين الفلسطينيين بانعقاد مؤتمرهم الأول في 25 يناير 1935، وإصدارهم فتوى بتحريم بيع الأرض لليهود، وتكفير من يرتكب ذلك، ثم قيامهم بحملة توعية كبرى في فلسطين .
ومن جهة أخرى، فإن المقاومة الجهادية تمثلت في البداية في منظمة "الكف الأخضر"، التي ظهرت إثر ثورة البراق في شمال فلسطين بزعامة أحمد طافش، وقامت بعمليات ضد اليهود والبريطانيين، لكن الحملة البريطانية المكثفة ضدها أدت إلى القضاء عليها في فبراير 1930، والقبض على زعيمها. وفي أكتوبر 1933 صعّدت القيادة السياسية الفلسطينية معارضتها، وأقامت مظاهرتين كبيرتين في القدس في 13 أكتوبر، وفي يافا في 27 أكتوبر، شارك فيها الزعماء بأنفسهم، وانطلقت المظاهرة الأولى من المسجد الأقصى، أما الثانية فانطلقت بعد صلاة الجمعة من يافا، وأضربت فلسطين في هذين اليومين، وحاولت السلطات منع المظاهرات بالقوة، مما أدى إلى مقتل 35 وجرح 255 عربياً. وقد اتسعت المظاهرات وزادت عنفاً في حيفا والقدس ونابلس وبئر السبع واللد وغيرها؛ مما أدى لسقوط المزيد من الضحايا، وأضربت فلسطين مدة سبعة أيام. واعتقلت السلطات البريطانية 12 زعيماً فلسطينياً، بينهم ثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذية، وأصيب موسى كاظم الحسيني في أثناء مظاهرة يافا بكدمات أغمي عليه على إثرها، وذُكر أنه توفي في مارس 1934 متأثراً بهذه الإصابة، وهو في الحادية والثمانين من عمره .
أما حركة "الجهادية" فقد أسسها الشيخ عز الدين القسام، وتعود بجذورها إلى سنة 1925. وهي حركة سرية جهادية، اتخذت الإسلام منهجاً، وكان شعارها "هذا جهاد، نصر أو استشهاد" وانتشرت في شمال فلسطين، خصوصاً بين العمال والفلاحين، وأمكن لها تنظيم 200 رجل، بالإضافة إلى 800 من الأنصار. وقامت سرّاً بالمشاركة الجهادية في ثورة البراق، ثم نفذت بعض العمليات خلال النصف الأول من الثلاثينيات، لكنها أعلنت عن نفسها ونزلت إلى الميدان في نوفمبر 1935، واستشهد الشيخ القسام واثنان من رفاقه في أول مواجهة مع الشرطة في معركة أحراش يعبد في 20 نوفمبر 1935. ولم تكن هذه نهاية الحركة، فقد تولى القيادة الشيخ فرحان السعدي. وكان لها دور رائد عظيم في الثورة الكبرى (1936-1939) . أما منظمة "الجهاد المقدس" فقد اصطبغت بصبغة إسلامية وطنية، ولقيت رعاية الحاج أمين، وتركز تنظيمها في القدس، بقيادة عبد القادر الحسيني، ووصل عدد أفرادها سنة 1935 إلى 400 عضو . وشاركت في الثورة الكبرى في قيادة العمل في مناطق القدس والخليل.
الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939:
كانت الثورة الكبرى من أعظم الثورات في تاريخ فلسطين الحديث والمعاصر. وقد تفجرت في 15 إبريل 1936 على يد مجموعة قسامية بقيادة الشيخ فرحان السعدي، قامت بقتل اثنين من اليهود. ثم تفاعلت الأحداث، وحصلت ردود فعل غاضبة متبادلة بين العرب واليهود، وأعلن أبناء فلسطين الإضراب العام في 20 إبريل، وتم توحيد الأحزاب العربية، وتشكيل اللجنة العربية العليا (التي تولى رئاستها الحاج أمين الحسيني بنفسه) في 25 إبريل، وقامت اللجنة بالإعلان عن الإصرار على الاستمرار في الإضراب حتى تحقيق المطالب الفلسطينية في إنشاء حكومة فلسطينية مسئولة أمام برلمان منتخب، ووقف الهجرة اليهودية، ومنع بيع الأراضي لليهود. واستمر الإضراب 178 يوماً (حوالي ستة اشهر) ليكون أطول إضراب في التاريخ يقوم به شعب بأكمله. ورافق الإضراب ثورة عارمة عمّت كل فلسطين، ولم تتوقف المرحلة الأولى من الثورة إلا في 12 أكتوبر 1936، بناء على نداء ملوك وأمراء العرب، و تهيئة لقدوم لجنة تحقيق ملكية بريطانية (لجنة بيل) لتدرس الوضع وتقدم توصياتها. وقد صدرت توصيات هذه اللجنة في مطلع يوليو 1937، واقترحت تقسيم فلسطين بين العرب واليهود. وقد أدى ذلك إلى تأجيج مشاعر الثورة من جديد، وكانت علامة بدئها الفاصلة اغتيال القساميين للحاكم البريطاني للواء الجليل أندروزAndrews في 26 سبتمبر 1937. وقامت السلطات البريطانية بإجراءات قمعية هائلة، وحلَّت المجلس الإسلامي الأعلى واللجنة العربية العليا واللجان القومية، وحاولت اعتقال الحاج أمين الذي تمكن من الهرب إلى لبنان في منتصف أكتوبر 1937، حيث تولى قيادة الثورة من هناك، لكنها نجحت في اعتقال أربعة من أعضاء اللجنة العربية العليا، وأبعدتهم إلى جزر سيشل.
وقد وصلت الثورة إلى قمتها في صيف 1938، ونجح الثوار في السيطرة على الريف الفلسطيني وقُراه، وتمكنوا من احتلال عدد من المدن لفترات محدودة، وانهارت السلطة المدنية البريطانية. ولو أن الأمر اقتصر فقط على مواجهة بين شعب محتل وسلطة مستعمِرة، لربما أدى الأمر إلى انسحابها وإعطاء الشعب حقوقه. ولكن وجود الطرف اليهودي-الصهيوني ونفوذه، وطبيعة مشروعه،كانت تضغط دائماً لمزيد من المكابرة والعناد عند البريطانيين. وقد قامت بريطانيا بإرسال تعزيزات ضخمة يقودها عسكريون مرموقون (ويفل، هيننج، مونتجمري…)، وقامت بإعادة احتلال فلسطين قرية قرية، مستخدمة كل وسائل التنكيل والدمار، وأحدث ما توصلت إليه أكبر قوة عظمى في ذلك الزمان، إلى أن أخمدت الثورة في صيف 1939. واستشهد كثير من قادة الثورة أمثال فرحان السعدي، ومحمد الصالح الحمد، وعبد الرحيم الحاج محمد، ويوسف أبو درة .
ومن جهة أخرى، حاولت بريطانيا إيجاد مخرج سياسي ـ بينما كانت تقوم بسحق الثورة ـ فقامت بإلغاء مشروع تقسيم فلسطين، وأفرجت عن معتقلي سيشل، ودعت إلى مؤتمر المائدة المستديرة في لندن، بحيث تحضره وفود تمثل الفلسطينيين واليهود وعدداً من البلاد العربية. وقد فشل المؤتمر الذي انعقد في فبراير 1939، في الوصول إلى نتيجة محددة. وهذا مهّد الطريق أمام البريطانيين ليعلنوا وحدهم الحل الذي يرتئونه، والذين قالوا إنهم سينفذونه بغض النظر عن رضى الطرفين. فأصدرت الحكومة البريطانية "الكتاب الأبيض" في مايو 1939، الذي شكّل إلى حد ما نصراً سياسياً للفلسطينيين، فقد أقرت بريطانيا بشكل حاسم أنه ليس من سياستها أن تصبح فلسطين دولة يهودية، وأن ما تريده هو دولة فلسطينية مستقلة، يقتسم فيها العرب واليهود السلطة الحكومية. وأعلنت بريطانيا سعيها إلى إنشاء دولة فلسطينية خلال عشر سنوات، وأن الهجرة اليهودية في الخمس سنوات القادمة لن تزيد عن 75 ألفاً، وبعد ذلك تمنع إلا بإذن من العرب، وقررت حظر بيع الأراضي في بعض مناطق فلسطين، بينما يكون مقيداً في مناطق أخرى. ولم توافق معظم القيادة الفلسطينية على المشروع البريطاني؛ لشكهم أساساً في الوعود والنوايا البريطانية، ولأنه ربط استقلال فلسطين بموافقة اليهود وتعاونهم، كما أنه لم يَعِد بإصدار عفو عام عن الثوار، أو المصالحة مع زعيم فلسطين الحاج أمين. وفوق ذلك فإن الفلسطينيين رأوا أنه ليس من الحكمة الموافقة المبكرة على المشروع الذي يتضمن بعض التنازلات، وما دامت بريطانيا مصرّة على تنفيذه على أي حال، فإن الزمن كفيل بكشف مدى جديتها. كما عارض اليهود بقوة وعنف المشروع البريطاني .
وخلال الفترة (1939-1945) وقعت الحرب العالمية الثانية، ودخل الفلسطينيون تلك الفترة وقد أنهكت قواهم، وتشتت قيادتهم السياسية نتيجة الثورة، واضطر الحاج أمين أن يهرب إلى العراق في أكتوبر 1939، ثم هرب إلى إيران وتركيا ثم إلى ألمانيا التي وصلها في نوفمبر 1941، بعد أن سقط الحكم الوطني المعادي لبريطانيا في العراق، الذي كان للحاج أمين دور رئيسي في إقامته. وهناك لم يجد بُدّاً من التعاون مع الألمان أعداء الإنجليز، في سبيل نيل العرب لحقوقهم، وتم إعداد مسودة تصريح تضمن تقديم دولتي المحور (ألمانيا وإيطاليا) كل مساعدة ممكنة للبلدان العربية التي تحتلها وتسيطر عليها بريطانيا، والاعتراف باستقلالها، والمساعدة في القضاء على فكرة الوطن القومي اليهودي. غير أن الألمان أصرُّوا على عدم إصدار التصريح إلا بعد وصول القوات الألمانية إلى منطقة القوقاز. وعلى أي حال، فإن الحاج أمين استفاد عملياً من وجوده هناك في السعي لتكوين جيش عربي مدَّرب على يد الألمان من الجنسيات العربية، وقد تدرب بالفعل مئات الشبان العرب ضمن هذا الجيش الذي أعلن رسمياً عن إنشائه في 2 نوفمبر 1943 ومدَّه الألمان بالكثير من الأسلحة الخفيفة والذخائر، وخُبِّئ في ليبيا نحو ثلاثين ألف قطعة سلاح لاستخدامها مستقبلاً . لكن انتصار البريطانيين وحلفائهم في الحرب، وضع الفلسطينيين وقيادتهم في حالٍ أكثر صعوبة. وقبض الفرنسيون على الحاج أمين، لكنه ما لبث أن استطاع الهرب في يونيو 1946، ووصل فجأة إلى مصر، وعمَّت فلسطين الأفراح "فأقيمت الزينات في طول البلاد وعرضها، وتألفت المواكب، وشمل الناس سرور عظيم" مما دلَّ على الشعبية الهائلة التي لا يزال المفتي يتمتع بها.
وتألفت الهيئة العربية العليا لفلسطين في 12 يونيو 1946 بقرار من جامعة الدول العربية، وعندما عاد الحاج أمين تولى رئاستها، وأصبحت الهيئة الرسمية الممثلة للفلسطينيين. لكن مشاكل الحاج أمين مع حكومتي الأردن والعراق أضعفت قدرته على العمل والمناورة، هذا فضلاً عن وجوده في مصر التي كانت لا تزال تحت بعض أشكال النفوذ البريطاني.
ومن جهة أخرى، استغل اليهود فترة الحرب العالمية الثانية استغلالاً كبيراً، وسعوا إلى المبالغة وتهويل ما حدث لهم في ألمانيا وأوربا الشرقية، كسباً للعواطف والأنصار، مؤكدين أنه لا يوجد مكان آمن لحمايتهم، وأنه لا بديل لنجاتهم سوى إقامة وطنهم القومي في فلسطين. وحوَّل اليهود مركز تركيزهم إلى القوة العظمى الصاعدة الولايات المتحدة، خصوصاً منذ مؤتمر بلتيمور Biltmore سنة 1942، وحصلوا على دعم الحزبين الجمهوري والديموقراطي بإلغاء الكتاب البريطاني الأبيض (مايو 1939). وعندما صعد "ترومان" لسدة الحكم أظهر عطفاً أكبر على الصهيونية، وطلب في 31 أغسطس 1945 من "إتلي" Attlee رئيس بريطانيا إدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين. وسعى اليهود إلى تجهيز أنفسهم عسكرياً، وشارك 26 ألفاً من يهود فلسطين في الوحدات اليهودية في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية، وكان معظمهم أعضاء في منظمة "الهاغاناه"، حيث استفادوا خبرة عسكرية، جعلتهم نواة الدولة اليهودية المنتظرة. وهاجر إلى فلسطين خلال (1939-1945) نحو 92 ألف يهودي، كما تمكن 61 ألفاً آخرين من الهجرة خلال الفترة (1946-1948)، وحاز اليهود خلال (1939-1947) نحو 270 ألف دونم من الأراضي، وأنشأوا خلال الفترة (1940-1948) 73 مستعمرة جديدة. وفي جو من الضغط اليهودي-الأمريكي، والضعف العربي، قام البريطانيون بالتخلي رسمياً عن الكتاب الأبيض في البيان الذي أصدره وزير الخارجية "بيفن"Bevin في 14 نوفمبر 1945. ودعا البيان أيضاً إلى تشكيل لجنة إنجلو-أمريكية للتحقيق في قضية فلسطين، وتقديم توصياتها، مما أدخل الأمريكان بشكل مباشر في القضية، وقد أوصت اللجنة سنة 1946 بهجرة مائة ألف يهودي، وبحرية انتقال الأراضي وبيعها لليهود .
واتخذت قضية فلسطين بُعداً دولياً عندما طلبت بريطانيا من الأمم المتحدة في 2 إبريل 1947 إدراج القضية ضمن جدول أعمالها. ثم تشكلت لجنة تحقيق دولية خاصة بفلسطين (انسكوب) UNSCOP لدراسة الوضع وتقديم تقرير عنه. وقد انتهت من وضع تقريرها في 31 أغسطس 1947، ونصّت توصياتها المتحيزة على:
إنهاء الانتداب البريطاني على فلسطين.
تقسيم فلسطين إلى دولتين مستقلتين عربية ويهودية، مع وضع القدس تحت وصاية دولية .
وفي مؤتمر صوفر 6 سبتمبر 1947، وعاليه 7-15 أكتوبر 1947، قررت الدول العربية مقاومة اقتراحات اللجنة الدولية، وتقديم المعونة من رجال وسلاح لأهل فلسطين، واتخاذ "احتياطات عسكرية"، وتنظيم العمل العسكري.
وفي 29 نوفمبر 1947 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها المشئوم رقم 181 بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وحاز أغلبية الثلثين بضغط أمريكي ودعم روسي قوي.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن قرارات الجمعية العامة ليست قرارات ملزمة، حتى ضمن مواثيق الأمم المتحدة نفسها. والقرار نفسه مخالف للأساس الذي قامت عليه الأمم المتحدة من حقوق الشعوب في الحرية وتقرير مصيرها بنفسها. ثم إن شعب فلسطين المعنِيّ أساساً بالأمر لم تتم استشارته ولا استفتاؤه. هذا، فضلاً عن الظلم الفاضح الذي تضمنته تفصيلات القرار من إعطاء نحو 54% من أرض فلسطين لأقلية يهودية دخيلة مهاجرة تمثل 31.7% من السكان ولا تملك أكثر من 6.5% من الأرض.
وقد اندلعت الحرب فور صدور قرار التقسيم، وتحمل أبناء فلسطين أعباءها في الأشهر الستة الأولى، بمساعدة عدد محدود من المتطوعين، إذ رفضت الدول العربية إرسال جيوشها إلى أن تخرج بريطانيا في 15 مايو 1948. وشكّل الفلسطينيون جيش "الجهاد المقدس" بقيادة عبد القادر الحسيني، كما شكّلت الجامعة العربية "جيش الإنقاذ" من متطوعي البلاد العربية والإسلامية. وقد عانى أبناء فلسطين من هزال الدعم العربي بالسلاح والعتاد لدرجة مأساوية، ومع ذلك تمكنوا من إثارة قلق اليهود ورعبهم فترة طويلة، ووصل الأمر بالولايات المتحدة للتفكير الجدي بالتراجع عن فكرة التقسيم في مارس 1948. وحتى دخول الجيوش العربية تمكن الفلسطينيون من المحافظة على نحو 82% من أرض فلسطين رغم النقص المريع في كل شيء قياساً باليهود، ورغم تعاون البريطانيين – في أثناء انسحابهم -مع اليهود.
وقد مثّل دخول الجيوش العربية السبعة قصة مأساة أخرى، فلم يزد عدد مقاتليها مجتمعة عن 24 ألفاً مقابل أكثر من 70 ألف يهودي، وعانت من ضعف التنسيق بينها، وجهلها بالأرض، ومن أسلحتها القديمة والفاسدة، وشغل بعضها أنفسهم بنـزع أسلحة الفلسطينيين بدلاً من تسليحهم، كما عانى بعضها من سوء قياداته، فضلاً عن أن أحد هذه الجيوش كان بين ضباطه الخمسين الكبار 45 بريطانياً. وفضلاً عن الاستقلال الحديث لبعض الدول العربية، وقلة خبرة جيوشها، فإن بعض هذه الدول كان لا يزال عملياً تحت النفوذ الاستعماري البريطاني .
لقد كانت حماسة أبناء فلسطين وأبناء الشعوب العربية والإسلامية هائلة نحو الجهاد والبذل والتضحية، ولكن القيادات السياسية والجيوش كانت عامل إحباط وفشل كبير. وعلى سبيل المثال فقد شارك الإخوان المسلمون في مصر بجهود كبيرة لإنقاذ فلسطين، وتطوع الشهيد حسن البنا في أكتوبر 1947 بدماء عشرة آلاف من الإخوان كدفعة أولى للمعركة. لكن الحكومة المصرية ضيّقت الخناق عليهم، ومنعتهم من السفر إلا بشكل محدود جداً. ومع ذلك فإن المئات الذين استطاعوا المشاركة في المعارك، وقاموا فيها بأدوار بطولية،كان مصيرهم الاعتقال والسجون قبل عودتهم إلى مصر، وتم حلُّ جماعة الإخوان المسلمين قبل أن تنتهي المعارك في ديسمبر 1948، وقامت المخابرات المصرية باغتيال حسن البنا نفسه في 11 فبراير 1949، قبيل قليل من توقيعها اتفاقية الهدنة مع الكيان الصهيوني. كما شارك الإخوان المسلمون من الأردن وسوريا والعراق ليمثلوا صورة وضيئة للاندفاع الشعبي للتضحية والجهاد.وهذا لا يقلل من قيمة البطولات التي قدمها الآخرون، أمثال رجال الجهاد المقدس. هذا بالإضافة إلى مشاركة الكثير من العرب في جيش الإنقاذ، بل ومشاركة نحو 250 بوسنياً في هذه الحرب دفاعاً عن فلسطين.وكان من المشاهد التي آلمت أبناء فلسطين أن تقوم بعض الجيوش العربية بنـزع أسلحتهم بدلاً من تسليحهم !!كما كان من المشاهد التي آلمت الجندي العربي أن يسلّم أسلحة قديمة أو فاسدة تنفجر أحياناً في وجهه عندما يستخدمها !!
أعلن اليهود دولتهم "إسرائيل" في مساء 14 مايو 1948، وتمكنوا مع نهاية الحرب من هزيمة الجيوش العربية، ومن الاستيلاء على نحو 78% من أرض فلسطين، أما الفلسطينيون فقد أعلنوا حكومة عموم فلسطين في مؤتمر غزة في أكتوبر 1948، غير أن الحكومات العربية التي تملك جيوشاً على أرض فلسطين لم تمكنها من ممارسة سلطاتها، بل وأُجبر الحاج أمين الحسيني على مغادرة غزة تحت تهديد السلاح المصري.
وكان من النتائج المباشرة لحرب 1948 قيام العصابات اليهودية-الصهيونية بتشريد حوالي 60% من الشعب الفلسطيني من أرضهم (شُرِّد بالقوة حوالي 800 ألف من أصل مليون و390 ألفاً) إلى خارج الأرض التي أقام اليهود عليها كيانهم، بينما شرَّدوا ثلاثين ألفاً آخرين إلى مناطق أخرى في داخل الأرض المحتلة نفسها. ودمَّر الصهاينة 478 قرية من أصل 585 قرية كانت قائمة قبل الحرب، وارتكبوا 34 مجزرة خلال حرب 1948 بمدنيين فلسطينيين في أثناء عملية التهجير، وكان من أشهرها مذبحة دير ياسين في 9 إبريل 1948 التي اعترف الصهاينة أنفسهم بقتلهم وذبحهم لـ 254 رجلاً وامرأة وطفلاً .
لقد مزقت حرب 1948 النسيج الاجتماعي والاقتصادي للشعب الفلسطيني، الذي وجد نفسه مشرداً في العراء، بعد أن استقر في بلاده طوال أربع آلاف وخمسمائة سنة ماضية. وكان على هذا الشعب المسلم أن يُذبح ويُدمر ليدفع ثمن حماقات الأوربيين تجاه اليهود، وكان عليه أن يُطرد تنفيذاً لرغبات قوى الاستكبار و" الصليبية" الدولية المتعاطفة مع اليهود، ولم يكن الصهاينة اليهود الذين بنَوْا كيانهم على بحر من دماء الفلسطينيين وآلامهم ومعاناتهم ليشعروا بالإثم أو وخز الضمير، وكان أولى بهم أن يستشعروا معاناة الآخرين، لما يدَّعونه من ظلم حاق بهم، أقاموا الدنيا ولم يقعدوها بسببه، رغم أنهم لم يضمدوا جراحهم بعد من مذابح الألمان، ومن "لاسامية" الروس. ويعترف موشية دايان الذي تولى مناصب رئاسة أركان الجيش "الإسرائيلي" ووزارة الدفاع ووزارة الخارجية وكان عالماً بالآثار أنه "ليست هناك قرية يهودية واحدة في هذه البلاد لم يتم بناؤها فوق موقع لقرية عربية" . إنه الإجرام المنظم مع سبق الإصرار والترصد، ولم يشفع للكيان الصهيوني أن الأمم المتحدة اتخذت أكثر من 110 قرارات حتى الآن بعودة اللاجئين إلى أرضهم، والذي وصل عددهم الآن( سنة 2000) إلى نحو خمسة ملايين من أبناء فلسطين المحتلة 1948، فضلاً عن أكثر من مليون آخرين من أبناء الضفة والقطاع محرومون من العودة إليها.
كان الشعور بالمرارة والمهانة هو الشعور السائد لدى أبناء فلسطين بل والعرب والمسلمين نتيجة حرب 1948، ووجد شعب فلسطين نفسه مشتتاً مقتلعاً من أرضه للمرة الأولى، وتحت حكم أنظمة مختلفة، تفاوتت في إعطائه درجات من الحرية وحقوقه المدنية، وإمكانات تنظيم نفسه في مؤسسات سياسية وجهادية، سعياً لتحرير أرضه. غير أن شعب فلسطين، بما عُرف عنه من حيوية، تعامل بإيجابية عالية مع الوضع، وحاول التكيف مع أوضاعه الصعبة. فمثلاً لم تمض سوى سنوات قليلة حتى كان شعب فلسطين هو الأكثر تعلماً مقارنة بكل البلاد العربية، إذ كانت عملية التعليم أحد وسائل التعويض والإعداد لمواجهة المستقبل وتحدياته.
البلاد العربية وفلسطين:
وقد شهدت هذه المرحلة انحسار الاستعمار عن معظم بلدان العالم العربي والإسلامي، غير أن الأنظمة "المستقلة" التي حلت مكانه، استخدمت النسق الغربي للحكم، فاتخذت صبغات علمانية، ذات مضامين ليبرالية أو اشتراكية أو محافظة، أو وقعت تحت الحكم العسكري. وقد سعى كل نظام ـ عملياً ـ إلى ترسيخ نفوذه والهوية الوطنية القطرية بدلاً من السعي نحو الوحدة، مما كرس حالة التجزئة والتمزق التي تعاني منها الأمة. ومع ذلك بقي الخطاب القومي وشعاراته هي السائدة في الساحة العربية. وقد علّق الفلسطينيون آمالهم في هذه المرحلة على "قومية المعركة"، وعلى الأنظمة العربية، وخصوصاً مصر بزعامة جمال عبد الناصر.
وكان شعار المرحلة البرّاق "الوحدة طريق التحرير"، الذي بقدر ما كثر الحديث عنه، بقدر ما ترسخت حالة الإحباط في النهاية تجاه تحقيقه، خصوصاً بعد فشل الوحدة المصرية-السورية (1958-1961)، وبعد أن انكشفت حالة "إفلاس" رموزه إثر كارثة حرب 1967، الذين افتقدوا المنهجية الصحيحة والجدية والإصرار اللازمين، فلا حققوا وحدةً ولا تحريراً، فضلاً عن تضييع باقي فلسطين وسيناء والجولان. وشهدت هذه الفترة مداً قومياً ويسارياً، وانحساراً للتيار الإسلامي سياسياً وشعبياً وجهادياً، خصوصاً بعد الحملة الشرسة المنظمة التي قادها عبد الناصر وأنصاره ضد هذا التيار.
وعلى أي حال، فإن حالة العداء الرسمي ضد الكيان الصهيوني استمرت طوال هذه المرحلة، لكن الخط البياني للأنظمة العربية اتجه عملياً نحو ترسيخ الواقع، وليس تغييره، أو بعبارة أخرى اتجه نحو "التسوية" وليس نحو "التحرير" لأسباب ذاتية وموضوعية، جعلتهم يستشعرون حالة عجز حقيقي، فانشغلوا بدغدغة عواطف الجماهير الواسعة، التي كانت تترقب ساعة المعركة، بينما كان الكيان الصهيوني "الغضّ" يشتد ويزداد قوة ورسوخاً.
ولذلك، تم تبني المقاومة الفلسطينية غالباً لأسباب تكتيكية مرحلية، وليس ضمن خطط استراتيجية شاملة. وسارت سياسات دول المواجهة مع المقاومة الفلسطينية ضمن خطين:
الأول: ضمان أمن النظام وبقائه، وعدم تعريضه لمخاطر الانتقام الصهيوني، وبشكل آخر عدم كشف مدى ضعف النظام في ساحة المواجهة، وبالتالي ضبط العمل الفدائي الفلسطيني، ووضعه تحت السيطرة ما أمكن، ومنعه من استخدام الحدود للقيام بعمليات مسلحة. وهي السياسة العامة التي درجت عليها كل دول الطوق حتى الآن (نهاية القرن العشرين).
الثاني: السماح المرحلي التكتيكي بتواجد المقاومة المسلحة على أرضها، تحقيقاً لمكاسب سياسية شعبية، أو تجنباً لاضطرابات داخلية، وتنفيساً عن غضب الجماهير. ولذلك بقيت حدود دول المواجهة مع العدو مغلقة محرمة على العمل الفدائي الفلسطيني، ليس في هذه المرحلة فحسب وإنما طوال الخمسين سنة الماضية، مع استثناءات محدودة فرضتها ظروف معينة، وكان أهم هذه الاستثناءات جنوب لبنان الذي تشكلت فيه قاعدة مقاومة قوية بعد حرب 1967، واستمرت حتى 1982، ليس بسبب رغبة النظام الحاكم، وإنما بسبب ضعفه، وقوة الثورة وقاعدة تأييدها الواسعة.
العمل الوطني الفلسطيني:
وفي المرحلة التي نحن بصددها نجد أن السلوك الشعبي الفلسطيني اتسم بما يلي:
محاولة استيعاب الصدمة، والتكيف مع الواقع الجديد، والتركيز على التعليم وسبل الاعتماد على النفس.
الانتماء إلى التنظيمات والأحزاب ذات الطبيعة القومية (الناصريون، البعث …) والشيوعية واليسارية (الحزب الشيوعي، القوميون العرب …)، والإسلامية (في النصف الأول من المرحلة: الإخوان المسلمون، حزب التحرير …).
بدايات تشكُّل الهوية الوطنية الفلسطينية، التي لم تستطع أن تبرز كثيراً في ظل المد القومي اليساري (نشأة حركة فتح، و م.ت.ف).
هجرة الكثير من أبناء فلسطين طلباً للرزق إلى الضفة الشرقية من نهر الأردن، وإلى بلدان الخليج العربي وخصوصاً السعودية والكويت.
الانفضاض الشعبي التدريجي عن الحاج أمين الحسيني.
وقد أكملت الحكومة الأردنية سيطرتها الدستورية على الضفة الغربية، وهي معظم ما تبقى من فلسطين (5878 كم2 أي 21.77% من مساحة فلسطين)، بعد أن انعقد بتشجيعها مؤتمر أريحا في ديسمبر 1949، والذي حضره وجهاء فلسطينيون مؤيدون للأردن، وبايعوا الملك عبد الله بن الحسين ملكاً على فلسطين، وأُعلنت الوحدة بين الضفتين الشرقية والغربية في إبريل 1950. وفي الوقت نفسه وضعت الحكومة المصرية يدها على قطاع غزة (363 كم2 أي 1.34% من مساحة فلسطين) وقامت بإدارته. ومُنع الحاج أمين ورفاقه في الهيئة العربية العليا وفي حكومة عموم فلسطين من العيش أو العمل السياسي في الضفة الغربية أو القطاع. ووجد الحاج أمين نفسه أشبه بالرهينة لدى مصر، فاضطر إلى مغادرتها إلى لبنان في 1958 بعد أن ذاق مرارة العزل والحصار، كما وجدت "هيئته" و"حكومته" نفسيهما تتضاءلان وتنـزويان إلى أن انحصرتا في شقة أو اثنتين في بنايات القاهرة!! وتحوّل دور رئيس حكومة عموم فلسطين منذ 1952 إلى مجرد مندوب لفلسطين لدى الجامعة العربية. وهكذا، أفل نجم الحاج أمين بالتدريج، وسواء استمتع الحاج أمين بشعبية واسعة حتى منتصف الخمسينيات أم لا، وسواء حمّله البعض مسئوليةً عن ضياع فلسطين أم لا، فإن الرجل كان مشهوداً له بالصلابة والإخلاص، وكان الرمز الأول للعمل الوطني أكثر من ثلاثين عاماً.
وكان للإخوان المسلمين قصب السبق الشعبي وسط قطاعات الفلسطينيين خلال (1949-1954) سواء في الضفة أو في القطاع، لما حققوه من سمعة جهادية في حرب 1948، ولما طرحوه من برامج إسلامية وطنية، حيث نعموا بحرية نسبية في مصر حتى 1954، وبأجواء مواتية في الأردن. كما أصبح حزب "التحرير الإسلامي" ظاهرة لا يستهان بها خصوصاً في الأردن في منتصف الخمسينيات، حيث ركز على العمل السياسي وإقامة الخلافة الإسلامية. ومثَّل الشيوعيون تحدياً شعبياً للتيار الإسلامي، خصوصاً في القطاعات الطلابية والمهنية، بما طرحه من شعارات برّاقة حول معاناة الجماهير، واتهام الأنظمة بالخيانة والعمالة… . إلا أن هذا التيار والتيارات القومية واليسارية الأخرى لم تكن لتقوى على منافسة الإسلاميين، إلا بعد أن سدّد عبد الناصر ضربته القاسية للإخوان، وأخذ يلاحقهم، واستخدم إعلامه القوي في تشويه صورتهم. فأصبح التوجه العام لدى الإخوان والإسلاميين عموماً هو المحافظة على النفس، والانكفاء على الذات بانتظار ظروف أفضل. وكانت أحد نماذج قوة الإسلاميين رابطة طلبة فلسطين في مصر التي كان يفوز بها الإسلاميون أو من يدعمونه حتى سنة 1957، والتي رأسها ياسر عرفات عندما كان طالباً مقرّباً من الإخوان.
واتخذت المقاومة الفلسطينية في هذه المرحلة أشكالاً بسيطة محدودة التأثير، فكثرت في النصف الأول من الخمسينيات عمليات اختراق الحدود لاسترجاع ممتلكات للعائلات المشردة، أو لتوجيه ضربات انتقامية للعدو. وفي قطاع غزة أنشأ الإخوان المسلمون تنظيماً سرياً ذا طبيعة عسكرية، قام بعدد من العمليات بالتنسيق مع بدو النقب، واستفادوا من وجود الضابط الإخواني في الجيش المصري "عبد المنعم عبد الرؤوف" في القطاع إثر نجاح الثورة المصرية، فسهل لهم سبل التدريب العسكري. وكانت عملية "الباص" في 17 مارس 1954 أحد أشهر العمليات التي يظهر أن البدو نفذوها بالتنسيق مع الإخوان، وأدت إلى مقتل 11 إسرائيلياً قرب بئر السبع بجانب معاليه أكربيم .
وقد اتسمت ردود الفعل الصهيونية على عمليات المقاومة بالعنف والغطرسة، سواء في الضفة أو القطاع، فوقعت مثلاً مذبحة قبية في 14-15 أكتوبر 1953 حيث استشهد 67 شخصاً . وفي 28 شباط/فبراير 1955 ارتكبت القوات الصهيونية مذبحة غزة التي أدت إلى استشهاد 39 وجرح 33 شخصاً، مما دفع أهل القطاع إلى الانتفاضة والمطالبة بالقتال، فوافقت القيادة المصرية على العمل الفدائي الفلسطيني، وأوكلت المهمة إلى الضابط المصري مصطفى حافظ، الذي أحسن أداء واجبه، وتم تنفيذ كثير من العمليات اليومية الخاطفة، فضلاً عن بعض العمليات الكبيرة خلال عامي (1955-1956) .
وفي 29 أكتوبر 1956 بدأ العدوان الثلاثي (الإسرائيلي-البريطاني-الفرنسي) على مصر. وكانت رغبة الصهاينة في تدمير العمل الفدائي الفلسطيني في القطاع، وسعيهم لفتح خطوط الملاحة لسفنهم في البحر الأحمر، سواء بفتح قناة السويس، أو بفك الحصار عن ميناء إيلات، فضلاً عن نواياهم التوسعية هي أبرز العوامل التي دفعتهم لشن هذه الحملة. وقد توافق ذلك مع النوايا الاستعمارية البريطانية في الرغبة باستمرار السيطرة على قناة السويس. كما توافق ذلك مع الرغبة الفرنسية في توجيه ضربة لمصر، لأنها كانت تدعم الثورة الجزائرية. وقد أدى ذلك كله إلى احتلال الصهاينة لقطاع غزة وسيناء، وشاركت بريطانيا وفرنسا في ضرب المطارات المصرية واحتلال موانئها. وكان الاحتلال الصهيوني سريعاً وحاسماً، بدرجة كشفت ضعف الجيش المصري، وتقصير قيادته السياسية. غير أن الإعلام المصري ركز على صمود القيادة المصرية في وجه التنازلات، واستفاد من اضطرار القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية للانسحاب في 6 مارس/آذار 1957 تحت الضغط الأمريكي، فعاد الألق من جديد إلى شخص عبد الناصر.
نشأة حركة "فتح" :
وفي تلك الفترة، فرضت حالة التضييق والمطاردة المفروضة على التيار الإسلامي، خصوصاً في مصر والقطاع، تساؤلاتٍ أمام شباب الإخوان المسلمين الفلسطينيين المتحمسين، الذين أخذوا يتساءلون عن وسائل العمل الممكنة لتحرير فلسطين. ورغم أن التيار العام وسطهم كان يدعو إلى التريث، والتركيز على الجوانب التربوية والإيمانية، إلا أن تياراً آخر أخذ يتجه للقيام بعمل منظم مسلح، لا يتخذ أشكالاً إسلامية مكشوفة، وإنما يتبنى أطراً وطنية تمكنه من تجنيد قطاعات أوسع من الشباب، ولا تجعله عرضة لعداء الأنظمة وملاحقاتها. وكانت تجربة الثورة الجزائرية في تلك الفترة أحد الحوافز الهامة لهذا العمل. وكانت هذه هي البذور الأولى لنشأة حركة فتح (حركة تحرير فلسطين، وفيما بعد حركة التحرير الوطني الفلسطيني) سنة 1957 في الكويت، والتي خرجت أساساً من أحضان الإخوان المسلمين، وبالذات من أبناء قطاع غزة. وكان خليل الوزير (أبو جهاد) الذي أصبح الرجل الثاني في فتح طوال ثلاثين عاماً، قد قدَّم اقتراحاً بذلك إلى قيادة الإخوان في القطاع فلم يستجيبوا له، غير أن هذا لم يمنع أن ينضم لفتح عند نشأتها عدد لا بأس به من ذوي المكانة والاحترام بين الإخوان أمثال سعيد المزين، وغالب الوزير، وسليم الزعنون، وصلاح خلف، وأسعد الصفطاوي، ومحمد يوسف النجار، وكمال عدوان، ورفيق النتشة، وعبد الفتاح حمود، ويوسف عميرة حيث تولوا مناصب قيادية عالية في الحركة. غير أن فتح، التي ظلت تركز في تجنيدها على العناصر الإخوانية حتى سنة 1963، انفتحت أكثر على مختلف التيارات وقطاعات الشعب الأخرى، خصوصاً بعد أن أصدرت قيادة الإخوان في القطاع أوامرها بالتمايز إما مع فتح وإما مع الإخوان . وأخذت فتح تصطبغ بصبغة وطنية علمانية شكلت هويتها العامة إلى وقتنا هذا. وشكلت فتح جناحها العسكري "العاصفة"، وقامت بأولى عملياتها العسكرية في مطلع 1965، وتمكنت من شن نحو 200 عملية عسكرية منذ ذلك الوقت وحتى حرب يونيو 1967 .
أما حركة القوميين العرب فقد كان معظم أعضائها المؤسسين من الفلسطينيين الدارسين في الجامعة الأمريكية ببيروت في منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، وكان من أبرزهم جورج حبش. ورفعت شعار الوحدة القومية وتحرير فلسطين، وأيدت السياسات الناصرية. وشكلت لجنة فلسطين في 1958. وبعد فشل تجربة الوحدة المصرية-السورية، أخذت تتبنى الفكر الاشتراكي والعمل الشعبي، وفي مايو 1964 شكلت "الجبهة القومية لتحرير فلسطين" وجناحها العسكري شباب الثأر، الذي أخذ يمارس العمل الفدائي منذ نوفمبر/تشرين الثاني 1964. وفي 1966 تبنت الحركة الماركسية طريقاً لعملها . وهي التي أنشأت في ديسمبر1967 الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بالتحالف مع قوى أخرى.
إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.):
ومن جهة أخرى، كانت الأنظمة العربية تشعر بما تموج به الساحة الفلسطينية من أنشطة سرية وحركات وتنظيمات. وكان الرئيس عبد الناصر يرغب ألا يفلت الزمام من يده، خاصة في ظروف الخلافات بين الأنظمة العربية…، فأصبح هناك اتجاه يريد استيعاب الفلسطينيين في كيان رسمي معتمد، يسهل التحكم فيه. وفي سنة 1959 اتخذ مجلس الجامعة العربية قراراً دعا إلى إعادة تنظيـم الشعب الفلسطيني، وإبرازه كياناً موحداً بواسطة ممثلين يختارهم الشعب. لكن ذلك ظل عرضة للتأجيل والتسويف حتى وفاة أحمد حلمي عبد الباقي ممثل (حكومة عموم) فلسطين لدى الجامعة العربية في 1963. وبدعم من عبد الناصر، تم اختيار أحمد الشقيري ممثلاً لفلسطين مكان عبد الباقي، وكُلّف بدراسة القضية الفلسطينية وسبل تحريكها وتنشيطها. وعندما انعقد مؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة في 13 يناير 1964، تقرر تكليف الشقيري بالاتصال بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني، "بغية الوصول إلى القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه، وتقرير مصيره". ولم يقم الشقيري بتقديم تقرير للجامعة حول السبل المقترحة؛ لقناعته بأنه سيكون عرضة لمزيد من المدارسة والتأجيل، فقرر وضع البلاد العربية أمام الأمر الواقع. فقام بدعم مصري بإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية(م.ت.ف.)، حيث انعقد المجلس الوطني الفلسطيني الأول في القدس في 28 مايو/أيار 1964 بحضور 422 ممثلاً للفلسطينيين، وبرعاية الملك حسين ملك الأردن، وأعلن ميلاد المنظمة رسمياً، وصودق على الميثاق القومي الفلسطيني الذي أكد على الكفاح المسلح لتحرير كل فلسطين، وعدم التنازل عن أي جزء منها، وانتُخب أحمد الشقيري رئيساً للمنظمة. وقد قررت م.ت.ف تشكيل جيش التحرير الفلسطيني، كما قامت بعدد من الجهود التعبوية والإعلامية. ورحب الفلسطينيون بشكل عام بإنشاء م.ت.ف باعتبارها تمثيلاً للكيانية الفلسطينية والهوية الوطنية التي جرى تغييبها سابقاً. وإن كان البعض مثل حركة "فتح" قد شكك في خلفيات إنشائها، وقدرتها على القيام بواجباتها .
حرب حزيران/ يونيو 1967وانعكاساتها:
وفي 5 يونيو 1967 اندلعت الحرب العربية-الإسرائيلية، بعد حالة من التصعيد المتبادل، قامت فيه مصر بإغلاق مضائق تيران في البحر الأحمر، وطلبت من مراقبي الأمم المتحدة على حدودها المغادرة، وأعلنت البلاد العربية استعدادها لمعركة المصير وتحرير فلسطين. لكن القوات الإسرائيلية قامت في صباح 5 يونيو/حزيران بتدمير الطيران في المطارات المصرية والأردنية والسورية، وفي غضون ستة أيام كان الأمر قد انتهى بكارثة عربية جديدة، فاحتل الصهاينة باقي فلسطين (الضفة الغربية 5878كم2وقطاع غزة363كم2) وصحراء سيناء المصرية61198كم2 ومرتفعات الجولان السورية1150كم2. ودخل الجنود اليهود بيت المقدس والمسجد الأقصى وهم يهزجون "حط المشمش عالتفاح …دين محمد ولَّى وراح"، و"محمد مات … خلَّف بنات" ويصرخون "يا لثارات خيبر…"، وصحت الجماهير العربية والإسلامية على هول كارثة لم تدر بخلدها، واكتشفوا مدى الزيف والخداع والأوهام التي غذتهم بها الأنظمة العربية طوال التسعة عشر سنة السابقة. فقد تم تدمير سلاح الطيران المصري والسوري والأردني وهو لا يزال قابعاً في مدرجاته. وتم تدمير 80% من أعتدة الجيش المصري. واستشهد حوالي عشرة الاف مقاتل مصري و6094 مقاتلاً أردنياً وألف مقاتل سوري، فضلاً عن الجرحى.
وكان من نتائج هذه الحرب تشريد 330 ألف فلسطيني آخرين، وخفوت نجم جمــال عبد الناصر، وضعف الثقة بالأنظمة العربية، وسعي الفلسطينيين إلى أخذ زمام المبادرة بأيديهم، ونمو الحركة الوطنية الفلسطينية أكثر وأكثر. غير أن أحد أبرز النتائج المؤسفة قد أصبح تركيز الأنظمة العربية ـ بل و م.ت.ف فيما بعد ـ على استعادة الأرض المحتلة 1967 (الضفة والقطاع) أي 23% من أرض فلسطين، والاستعداد الضمني للتنازل عن الأرض المحتلة سنة 1948، والتي قامت كل هذه الحروب والمنظمات أساساً لتحريرها.
بروز الهوية الفلسطينية:
اضطرت الأنظمة العربية تفادياً لموجات السخط الشعبي، وتجاوزاً لحالة الإحباط الناتجة عن حرب 1967، إلى إفساح المجال للعمل الفدائي الفلسطيني، الذي استطاع أن يبني قواعد قوية وواسعة في الأردن ولبنان. واستطاعت التنظيمات الفدائية الفلسطينية بقيادة فتح الوصول إلى قيادة م.ت.ف، التي أصبحت برئاسة ياسر عرفات منذ فبراير/شباط 1969. وبرز خط الكفاح الشعبي المسلح وحرب العصابات، واكتسبت الشخصية الوطنية الفلسطينية زخماً كبيراً. وتمكنت م.ت.ف في مؤتمر الزعماء العرب في الرباط في تشرين أول/أكتوبر 1974 من الحصول من الدول العربية على الاعتراف بها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وفي الشهر التالي حققت انتصاراً سياسياً، عندما دُعي ياسر عرفات لإلقاء خطابه في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، وتم قبول م.ت.ف عضواً مراقباً. ولم تعد الأمم المتحدة تتعامل مع قضية فلسطين كقضية لاجئين فقط، كما حدث طوال العشرين سنة الماضية، وإنما أخذت منذ 10 ديسمبر/كانون أول 1969 تعترف بوجود الشعب الفلسطيني، وأصدرت قرارات في السبعينيات تؤيد حق شعب فلسطين في تقرير مصيره، بل واتخاذ كافة السبل المشروعة لنيل حقوقه، ومنها الكفاح المسلح.
ومنذ 1974 عادت قضية فلسطين لتدرج بنداً مستقلاً على جدول أعمال الأمم المتحدة لأول مرة منذ الأربعينيات. وكان أحد أهم القرارات المتخذة القرار رقم 3236 الصادر في 22 نوفمبر/تشرين ثاني 1975، ويحمل عنوان قرار حقوق الشعب الفلسطيني، وفيه يؤيد حقه في تقرير مصيره دون تدخل خارجي، وحقه في الاستقلال والسيادة الوطنيين، وحقه في العودة إلى أرضه، وحقه في استعادة حقوقه بكل الوسائل، وفقاً لمقاصد ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه. ثم توالت قرارات "الشرعية" الدولية المؤيدة للحق الفلسطيني، ووجد الصهاينة أنفسهم في حالة حصار سياسي، خصوصاً أن الأمم المتحدة أخذت منذ سنة 1975 تتخذ قرارات تعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال التفرقة العنصرية. غير أن الولايات المتحدة كانت دائماً على استعداد للوقوف بجانب الكيان الصهيوني، ونقض أي قرارات دولية ملزمة عبر استخدامها حق النقض الفيتو . وهكذا فإن الكفاح المسلح أجبر العالم على سماع صوت أبناء فلسطين، وفرض عليهم احترامه. لكن الضربات التي تلقتها المقاومة الفلسطينية، والضعف والتمزق العربي والإسلامي، قلّل من إمكانات الاستفادة الجدية من الدعم الدولي.
وإذا كان خط المكاسب الفلسطينية السياسية قد تصاعد على الساحة العربية والدولية في هذه المرحلة، فإن خط العمل الفدائي الفلسطيني المسلح، وخط الدعم العربي الفاعل، اللذين شهدا صعوداً في البداية، ما لبثا أن تراجعا وانحسرا إلى مستويات متدنية ـ في النصف الثاني من هذه المرحلة ـ بحيث أثّر سلباً على المكاسب السياسية نفسها.
الكفاح الفلسطيني المسلّح:
لقد كانت الفترة (1967-1970) هي الفترة الذهبية للعمل الفدائي الفلسطيني حيث كانت حدود الأردن مع فلسطين المحتلة (360كم) ومع لبنان (79كم) مفتوحة للعمليات الفدائية. وكانت معركة الكرامة في 21آذار/ مارس 1968 التي كبَّدت الصهاينة خسائر فادحة نصراً معنوياً ومادياً للمقاومة الفلسطينية. فاندفع عشرات الآلاف للتطوع للقتال، وقد تطور العمل الفدائي الفلسطيني من 12 عملية شهرياً سنة 1967 إلى 52 عملية شهرياً سنة 1968 إلى 199 عملية شهرياً سنة 1969 إلى 279 عملية شهرياً في الأشهر الأولى من عام 1970 .
لكن الصدامات العنيفة التي حدثت بين الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في سبتمبر/ أيلول 1970 وفي يوليو/ تموز 1971 أدت إلى إخراج العمل الفدائي الفلسطيني من الأردن، وحرمان المقاومة من أهم ساحاتها. غير أن المقاومة الفلسطينية استطاعت أن ترسخ قاعدة نفوذها في لبنان، لكنها اضطرت لخوض صراع عنيف مع الجيش اللبناني لتحقيق ذلك، وانتزعت اتفاق القاهرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1969 الذي يخوّلها حق العمل المسلح عبر لبنان. لكنها ما لبثت أن وجدت نفسها تدخل في مستنقع الحرب الأهلية اللبنانية، حيث استهدف التحالف الكتائبي الماروني الذي أشعل فتيل الحرب في إبريل 1975 التواجد الفلسطيني أساساً. وقد استنـزف هذا كثيراً من طاقات المقاومة الفلسطينية ودماء أبنائها، ومصادر دعمها، وأضعف قدرتها على التركيز ضد العدو الصهيوني حتى نهاية المرحلة التي نحن بصددها. وتعدت هذه المعاناة إلى معارك وحروب مع أطراف حليفة سابقة مثل حركة "أمل" الشيعية، التي قامت بحصار مرير للمخيمات الفلسطينية لأكثر من سنتين (1985-1987). وفوق ذلك فإن مصر وسوريا أغلقتا حدودهما في وجه المقاومة الفلسطينية، وهذا جعل العمل الفدائي الفلسطيني من الخارج باتجاه فلسطين أشبه بالمستحيل.
ومن جهة أخرى، فإن الكيان الصهيوني استخدم أساليب الانتقام الشرسة من المناطق التي تؤوي العمل الفدائي، سواء في الأردن أو لبنان، وبالغ في الانتقام من المدنيين الأبرياء، وتدمير البنية التحتية من مصانع وجسور ومحطات كهرباء ومحاصيل زراعية وغيرها. وفي لبنان قام الصهاينة بحملات مكثفة على منطقة العرقوب (1970-1972)، واغتالوا ثلاثة من قادة م.ت.ف في نيسان/إبريل 1973، وقاموا بحملة اجتياح واسعة للجنوب اللبناني في مارس/آذار 1978، نجحوا على إثرها في إنشاء حزام أمني لهم داخل الحدود اللبنانية بقيادة سعد حداد، الذي قاد جيش لبنان الجنوبي العميل للصهاينة.
وفي معركة الشقيف 19 آب/أغسطس 1980 حققت المقاومة الفلسطينية نجاحاً كبيراً ضد الهجوم الصهيوني. وكان اجتياح الجيش الصهيوني للبنان في صيف 1982 هو الأضخم والأعنف، وقد تمكن من اجتياح الجنوب بسهولة وسرعة نسبية، غير أنه توقف عند أسوار بيروت حوالي ثمانين يوماً، حيث واجهته المقاومة الفلسطينية وحلفاؤها بمقاومة عنيفة، وتضحيات كبيرة، في الوقت الذي كان العالم العربي والإسلامي والدولي يقف موقف المتفرج. ورغم أن المقاتل الفلسطيني أثبت شجاعته وكفاءته، ورغم أن الصهاينة فشلوا في سحق الفدائيين وقيادتهم، إلا أنهم نجحوا في تدمير معظم البنية التحتية للعمل الفدائي الفلسطيني. وأُجبر أكثر من ستة آلاف فدائي فلسطيني على الخروج من لبنان ـ وفق تسوية وقف إطلاق النار ـ إلى معسكرات بعيدة في اليمن وتونس والجزائر والسودان. وهكذا ضُيِّق الخناق على أية مقاومة فلسطينية محتملة من خارج فلسطين.
ونتيجة لما سبق، فإن معدل العمليات الفدائية من الخارج قد انخفض في السبعينيات، وتراجع إلى حدود متواضعة جداً في الثمانينيات. غير أنه تم تنفيذ عدد من العمليات النوعية التي تجدر الإشارة إليها، مثل عملية سافوي التي نفذتها حركة فتح في تل أبيب في 6 آذار/ مارس 1975، وأدت إلى مقتل خمسين جندياً وخمسين مدنياً، وعملية كمال عدوان التي نفذتها فتح أيضاً في 11 آذار/ مارس 1978، التي أدت إلى مقتل 37 وجرح 82 صهيونياً. وبرزت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في مجال اختطاف الطائرات خصوصاً سنة 1970، وفي الهجوم على مطار اللد في 30 مايو/ أيار 1972، مما أدى إلى مقتل 31 وجرح 80 آخرين. ونفذت الجبهة الشعبية-القيادة العامة عملية الخالصة في 11 نيسان/ إبريل 1974 ، كما نفذت الجبهة نفسها عملية الطائرة الشراعية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1987.
وهكذا، فمنذ عام 1982 أدى الإنهـاك العسـكري لـ م.ت.ف إلى استضعاف سياسي، وكسب أنصار تيار "الواقعية" فيها دفعات جديدة باتجاه تبنّي الحلول السلمية. والحقيقة أن م.ت.ف بدأت تُغيِّر من خطابها السياسي منذ فترة مبكرة، فدعت في أواخر الستينيات إلى إقامة الدولة العلمانية الديمقراطية التي تضم الفلسطينيين واليهود، متنازلة عن ضرورة عودة المهاجرين اليهود إلى بلادهم. ثم تبنّت برنامج النقاط العشر سنة 1974، الذي يفسح المجال للعمل السياسي كأحد وسائل تحرير فلسطين، بعد أن كان الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحريرها، وكثر الحديث بعد ذلك عن الحلول المرحلية وإقامة الدولة الفلسطينية على أي جزء من فلسطين يتم تحريره (أو استرجاعه بطرق أخرى). وكانت موافقة م.ت.ف على مشروع التسوية العربي (مشروع فاس) سنة 1982 تنازلاً كبيراً إذ تضمن اعترافاً ضمنياً بالكيان الصهيوني وما اغتصبه من معظم أراضي فلسطين سنة 1948، عندما وافقت على حق جميع دول المنطقة في العيش بسلام (بما فيها الكيان الصهيوني)، كما وافقت على الدخول في مفاوضات لتحقيق التسوية . وواجهت م.ت.ف سنوات عجافاً خلال (1983-1987)انعكست على شكل تراجع في الأداء النضالي المسلح، وفي التأثير والفاعلية السياسية حتى في الوسط العربي نفسه.
البلاد العربية وقضية فلسطين:
أما من ناحية البلاد العربية، فإن ترسيخ الهوية الوطنية الفلسطينية وتمثيل م.ت.ف الشرعي الوحيد للفلسطينيين قد صبَّ - عملياً - في إزاحة أثقال المسئولية تجاه القضية عن أكتافها، وتحميلها للفلسطينيين وحدهم. وخفتت أصوات "قومية المعركة" لتنحصر في الإطار الفلسطيني الضيِّق، الذي كان عليه أن يواجه أعتى قوى العالم. وأخذت مع الزمن (خصوصاً بعد 1973) مسئولية البلدان العربية تنحصر في الدعم السياسي والاقتصادي، بل إن الدعم الاقتصادي نفسه أخذ يضعف منذ الثمانينيات بعد أن سعت كل دولة إلى تقديم أولوياتها المحلية، وبعد أن انشغلت الدول النفطية بمشاكلها الناتجة عن انخفاض أسعار النفط. ولم تسلم م.ت.ف من مشاكل مع عدد من الأنظمة العربية، جعلتها أعجز عن القيام بمهامها، فمشاكلها مع الساحة الأوسع والأهم الأردن غطت حقبة السبعينيات، ومشاكلها مع لبنان لم تهدأ طوال المرحلة، ومشاكلها مع سوريا استعرت سنة 1976، ثم عادت للتصاعد منذ عام 1983 وما تلاه، عندما طُرد ياسر عرفات من دمشق، وتمت محاولة القضاء على تواجد أنصاره في شمال لبنان، وخصوصاً مخيمات نهر البارد والبداوي في العام نفسه. هذا بالإضافة إلى حالة العداء مع أكبر قوة عربية مصر (خصوصاً الفترة 1977-1983) بعد دخولها في مشروع التسوية السلمية، وتوقيعها اتفاق كامب ديفيد. بينما انشغل العراق بحربه مع إيران (1980-1988) ليفقد كثيراً من فاعليته على الساحة… .
لقد كان الموقف العربي في بداية هذه المرحلة متصلباً، فانعقد مؤتمر الخرطوم في يوليو 1967، وقرر الملوك والرؤساء والأمراء العرب أن "لا صلح، ولا مفاوضات، ولا استسلام" مع الصهاينة، ودخلت مصر وسوريا في حرب استنـزاف مع الكيان الصهيوني. وفي 6 تشرين أول/أكتوبر 1973 اندلعت الحرب العربية الإسرائيلية (حرب أكتوبر/ رمضان) شاركت فيها سوريا ومصر ضد الصهاينة، وحقق الطرفان العربيان في البداية بعض النجاحات. وتمكن المصريون من الزحف نحو الجناح الشرقي لقناة السويس والتوغل داخل سيناء، كما تمكن السوريون من التوغل داخل الجولان. لكن ما لبث الصهاينة ـ مستفيدين من جسر جوي من الدعم الأمريكي ـ أن أخذوا زمام المبادرة، فأحدثوا اختراقاً في الجهة الغربية لقناة السويس (ثغرة الدفرسوار)، كما استعادوا ما فقدوه في الجولان، واحتلوا 39 قرية سورية جديدة (ما عرف بجيب سعسع). واعتبر التحسن النسبي في الأداء العربي، وخسائر الصهاينة الجسيمة في حرب أكتوبر كسراً لأسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يُقهر، واستعادة للمعنويات والثقة التي أهينت في حرب 1967.
وتم تصوير حرب أكتوبر عربياً باعتبارها نصراً مؤزراً، وظهرت قيادتا سوريا ومصر بمظهر الأبطال. غير أن الرئيس المصري السادات استخدم هذه الحرب لتحريك الوضع باتجاه التسوية، واستفاد منها بحيث لا يوضع بعد ذلك موضع الاتهام أو التقصير، حيث أنه "بطل أكتوبر"، وحيث أن مصر "أدّت ما عليها" تجاه فلسطين. فقام السادات بزيارة الكيان الصهيوني في تشرين ثاني/نوفمبر 1977، ووقع اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر 1978، التي تُدخل مصر في سلام مع الكيان الصهيوني، وتُوقف حالة الصراع بينهما، بينما تسترجع مصر شبه جزيرة سيناء. وبذلك خسرت القضية الفلسطينية أهم طرف فاعل في الصراع ضد الصهاينة، مما أضعف مستقبلاً من إمكانات أية مواجهات عسكرية شاملة ضد "إسرائيل".
وربما كان من المفيد أن نشير إلى أنه إثر حادثة إحراق المسجد الأقصى تم إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969، والذي شكل بادرة أمل لتوحيد جهود المسلمين لدعم قضية فلسطين. وقد قامت هذه المنظمة بعقد الكثير من الاجتماعات، وأصدرت عشرات القرارات بدعم قضية فلسطين سياسياً ومالياً وعسكرياً وإعلان الجهاد... . غير أن قراراتها بقيت حبراً على ورق، لأنها افتقرت إلى أية آلية حقيقية ملزمة لتنفيذ القرارات. ويبدو أن العديد من بلدان العالم الإسلامي قد استخدمت منبر هذه المنظمة "لتفريغ" مشاعر شعوبها المتشوقة للوحدة وتحرير المقدسات، بدلاً من السير في أية برامج عملية ذات فاعلية على أرض الواقع. بل إن بعض البلدان الإسلامية بقي على علاقة قوية بالكيان الصهيوني مثل تركيا، فضلاً عن أن بلدان العالم الإسلامي أجمع حمّلت الطرف الفلسطيني المسؤولية الأساسية باعتباره "الممثل الشرعي والوحيد"، واكتفى أغلبها بالتمنيات .... (هذا إن لم يضع العقبات !!). مما أدى لحصر دائرة الصراع في إطار قُطْري فلسطيني، وعزل البعدين العربي والإسلامي عملياً عن هذه الدائرة. وقد أثرت النـزاعات بين المسلمين أنفسهم سلباً على دور العالم الإسلامي، كالحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) التي استنـزفت طاقات البلدين وثرواتهما.
بروز التيار الإسلامي الفلسطيني:
ومن الجدير بالذكر أن الظاهرة الإسلامية وسط الفلسطينيين أخذت تستعيد حيويتها في هذه المرحلة، وتزايد الاتجاه نحو الإسلام، بعد أن رأت الجماهير فشل الأيديولوجيات القومية والعلمانية واليسارية في حل القضية. وكانت مشاركة الإخوان المسلمين في العمل الفدائي الفلسطيني (1968-1970) عبر ما عرف بـ "معسكرات الشيوخ" في الأردن بالتنسيق مع حركة فتح، أحد مظاهر الحيوية المبكرة، حيث تم تدريب نحو 300 رجل توزعوا على سبع قواعد فدائية، وشاركوا في عدد من العمليات النوعية.
وفي عام 1980 كُشف تنظيم "أسرة الجهاد" في الأرض المحتلة 1948، واعتُقِل نحو ستين من أعضائه، بعد أن قام بعدد من العمليات، وقُبض سنة 1984 على الشيخ أحمد ياسين وعدد من رفاقه، بعد اكتشاف مخزن أسلحة في أحد المساجد، بتهمة إنشاء تنظيم جهادي ضد الصهاينة. كما تشكلت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين سنة 1980، وكان أعضاؤها المؤسسون أفراداً سابقين في الإخوان المسلمين، ونشطت في القيام بعدد من العمليات. غير أن العمل الإسلامي الجهادي ظلَّ محدوداً متواضعاً طيلة هذه الفترة قياساً بالمنظمات الفلسطينية الأخرى وخصوصاً فتح، ولكنه كان في الوقت نفسه إرهاصاً لمرحلة قادمة يلعب فيها دوراً أساسياً. وكان المكسب الأبرز للتيار الإسلامي هو اتساع شعبيته وتناميها خصوصاً منذ منتصف السبعينيات سواء داخل فلسطين المحتلة أو في الأردن والكويت ولبنان وغيرها. وأخذ الإسلاميون يفوزون في الانتخابات الطلابية منذ أواخر السبعينيات كما في جامعة النجاح في نابلس، وجامعة غزة الإسلامية وغيرهما. وفي جامعات الأردن، كما أخذوا في الانتشار والسيطرة على النقابات المهنية. ونجحوا في ميادين العمل الخيري والاجتماعي والتعليمي مما مكنهم من تأسيس قاعدة واسعة صلبة، بحيث أصبح التيار الإسلامي (الإخوان المسلمون تحديداً) هو المنافس الأول للتيار العلماني الذي تمثله فتح والذي يسيطر على م.ت.ف .
بقدر ما تجلت قدرات الشعب الفلسطيني ـ في هذه المرحلة ـ على التضحية والعطاء، بقدر ما كانت الحصيلة السياسية مخيبة للآمال. وبقدر ما تلألأت أنوار الانتفاضة المباركة معبرة عن أصالة شعب مقهور، يواجه أطفاله ونساؤه دبابات الصهاينة بالحجارة، والأرواح المتطلعة إلى الحرية والشهادة، بقدر ما زكمت الأنوف اتفاقيات أوسلو وممارسات السلطة الفلسطينية ضد أبناء شعبها ومجاهديها. وباختصار فإن أبرز معالم هذه المرحلة:
اندلاع الانتفاضة المباركة (1987-1993)، وبروز التيار الإسلامي المجاهد.
اتفاقيات أوسلو بين م.ت.ف والصهاينة 1993، والتنازلات المريعة عن حقوق شعب فلسطين.
ضعف وتفكك وصراع داخلي عربي ـ عربي إثر استيلاء العراق على الكويت، وما تبع ذلك من حرب ومعاناة وعداوات، وتوقيع الأردن اتفاقية تسوية مع الكيان الصهيوني.
انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، والهجرة اليهودية الهائلة منه إلى الكيان الصهيوني، واستفراد أمريكا بالسيطرة العالمية.
الانتفاضة المباركة:
حدثت شرارة الانتفاضة المباركة في يوم 9 ديسمبر/كانون أول 1987 إثر استشهاد أربعة عمال فلسطينيين في حادث دهس متعمد في اليوم الذي سبقه. وقد قررت الحركة الإسلامية منذ تلك الليلة المشاركة في الانتفاضة وتوجيهها، فبدأت ـ بترتيبها ـ المظاهرات العارمة بعد صلاة فجر 9 ديسمبر من مسجد مخيم جباليا، واتسعت المظاهرات لتعم أرجاء الضفة والقطاع، وليشارك فيها كافة أبناء الشعب. وتميزت هذه الانتفاضة بأربعة مظاهر:
الأول: أن أهل "الداخل" المحتل (الضفة والقطاع) أخذوا زمام المبادرة النضالية الجهادية، بعد أن كانت بيد العمل من "الخارج".
الثاني: أن التيار الإسلامي شارك بقوة وعنف وفاعلية، وبرز على ساحة المواجهة بحجم منظم مؤثر.
الثالث: أنها شملت كافة قطاعات الشعب الفلسطيني واتجاهاته وفئاته العُمْرية.
الرابع: أنها اتسمت بالجرأة والتضحية، والمشاركة الواسعة للأطفال والفتيان والنساء، وبالمظاهر النبيلة من إيثار وتعاون وشهامة، وبالقضاء على مظاهر العمالة والفساد من خمور ودور لهو… .
وتميزت المرحلة الأولى من الانتفاضة بالمواجهات الشعبية الواسعة والإضرابات، والمظاهرات، ومقاطعة الإدارة المدنية الصهيونية، وتنظيف المجتمع من العملاء ومروجي الفساد والمخدرات. وبعد نحو أربع سنوات أخذت تبرز المرحلة الثانية، التي شهدت تنامي العمليات المسلحة ضد الصهاينة، مع تراجع الأنشطة الجماهيرية الواسعة. وقد عدَّت حركة فتح وحلفاؤها في م.ت.ف اتفاقية أوسلو (سبتمبر 1993) نهاية للانتفاضة، فأوقفت فاعلياتها، أما الجهات الأخرى وخصوصاً حماس والجهاد الإسلامي فقد استمرتا في فعالياتهما، بل وصعدتا من عملياتهما الجهادية. غير أن تشكيل السلطة الفلسطينية في الأرض المحتلة (مايو 1994) أفقد الانتفاضة كثيراً من وهجها،كما أفقدها المشاركة الشعبية الجماهيرية اليومية، فاقتصر الأمر بشكل أكبر على أعضاء الحركات والتنظيمات.
وعلى أي حال، فإن السنوات الست للانتفاضة (ديسمبر 1987-ديسمبر 1993) حسب إحصائية أعدتها م.ت.ف قد شهدت استشهاد "1540" فلسطينياً، وبلغ عدد الجرحى 130 ألفاً، كما اعتقل حوالي 116 ألفاً لمدد مختلفة .
حمـــاس:
وقد تلازم إنشاء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" مع بداية الانتفاضة، وأصدرت بيانها الأول في 14 ديسمبر 1987، واعتبرت من أكثر الأطراف فاعلية، إن لم تكن أبرزها. وقد عرَّفت حماس نفسها بأنها جناح للإخوان المسلمين وامتداد لهم، وذكرت في ميثاقها أنها "تعتبر الإسلام منهجها، منه تستمد أفكارها ومفاهيمها وتصوراتها، وإليه تحتكم، ومنه تسترشد خطاها". وهدفت إلى تحرير فلسطين، وإقامة دولة الإسلام على أرضها، ودعت إلى تربية متكاملة للأجيال لتحقيق الغايات المرجوة.
وقد استطاعت حماس أن تحقق شعبية واسعة، فكان مؤيدوها ـ ولا يزالون ـ يحققون من ثلث إلى نصف الأصوات عادة في الانتخابات الطلابية والنقابات المهنية. وفي مقابلة صحفية للدكتور هشام شرابي المعروف بميوله العلمانية قال إن حمـاس هي الشكل الجديد للمقاومة، وأنها "نجحت حتى الآن فيما عجزت عنه م.ت. ف وفصائلها خلال أكثر من ربع قرن في استنباط أشكال جديدة لتنظيم الشعب الفلسطيني، وتمكينه من الصراع العسكري الفعال باستقلال عن كل عون خارجي" .
وترى حماس أنه في مثل هذه الظروف من العلو اليهودي الصهيوني، والتآمر الدولي والضعف السياسي الفلسطيني، والتمزق والتشرذم العربي والإسلامي، فإن عملها لا يستهدف تحرير فلسطين عاجلاً ومباشرة، وإنما يتعامل معها كمعركة تتداولها الأجيال، وفي هذه الأجواء فإنها تسعى إلى تجاوز المرحلة بالمحافظة على الحق وإبقاء جذوة الجهاد. وقد أمكن لها مواجهة التحديات من خلال نوعية الرجال الذين قدمتهم والمستعدين للتضحية والاستشهاد، حتى إن المحللين الإسرائيليين يعترفون أن "حماس قد صكت نماذج جديدة للإنسان الفلسطيني وهم الاستشهاديون الجدد"، وأشار أحد خبراء الصهاينة إلى ما تتمتع به حماس من ديناميكية ومبادرة، كما اعترف الجنرال أوري ساغي رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية بأن لدى حماس أساليب عمل متطورة، ومستوى عالٍ من السرية، وأنها تنفذ عمليات بارزة قاسية.
واستطاعت حماس أن تتمتع بحيوية مكنتها من تبديل عدد من الأجيال القيادية في وقت قصير. فكلما كشفت أو استشهدت أو سجنت قيادتها، ظهر من يحل مكانها ويواصل العمل. وكذا كان الحال مع اعتقال الشيخ أحمد ياسين في مايو 1989، واعتقال موسى أبو مرزوق في يوليو 1995، واستشهاد عماد عقل في نوفمبر 1993، ويحيى عياش في يناير 1996، ومحي الدين الشريف في مارس 1998، واعتقال محمد الضيف في مايو 2000. ورغم أن دخول م.ت.ف في تسوية مع الكيان الصهيوني، وتوليها الحكم الذاتي في المناطق السكانية في الضفة والقطاع (منذ 1994) جعل العمل الجهادي أمراً يكاد يكون مستحيلاً، إلا أن الفترة (1994-1998) شهدت تطوراً نوعياً في العمليات وخصوصاً الاستشهادية منها. ومن ذلك ردُّها على مذبحة الحرم الإبراهيمي (فبراير 1994) بخمس عمليات عنيفة، وردها على استشهاد يحيى عياش (الذي كان مهندساً لعمليات أدت لقتل سبعين صهيونياً وجرح 340 آخرين) بعدة عمليات في فبراير-مارس 1996 هزت الكيان الصهيوني وأفقدته صوابه، واستدعت عقد مؤتمر دولي بمشاركة الدول الكبرى لما أسموه "محاربة الإرهاب". وقام الصهاينة والسلطة الفلسطينية (بالتعاون المباشر مع أمريكا وباستخدام كافة التقنيات الأمنية) بحملة شعواء استهدفت اجتثاث كل ما له صلة بالتيار الإسلامي الحركي المقاوم في فلسطين. ومرّت حماس ـ ولا تزال ـ بمرحلة من أقسى المراحل، وعانت من ضربات قاسية من السلطة الفلسطينية التي شعرت أن مشروعها السلمي أصبح في "مهب الريح" على حد تعبير القيادي الفلسطيني صائب عريقات. وعانت حماس من الضغوط والمحاربة في الخارج، فكان اعتقال موسى أبو مرزوق في أمريكا (يوليو 1995-مايو 1997) ومحاولة اغتيال خالد مشعل في سبتمبر 1997، وإغلاق مكاتب الحركة في الأردن في آخر أغسطس 1999، وإبعاد أربعة من قادتها من الأردن (بعد سجنهم أكثر من شهرين ونصف) إلى قطر في نوفمبر 1999.
ورغم التنسيق الصهيوني ـ السلطوي الفلسطيني ـ الدولي لاجتثاث هذه الحركة إلا أن أنصارها لا زالوا يفوزون في الانتخابات الطلابية والنقابية، ولا تزال تتمتع بثقل شعبي كبير في الداخل والخارج .
ومن جهة أخرى، فإن حركة الجهاد الإسلامي قامت بعدد من العمليات النوعية والاستشهادية مثل عمليات نتساريم في نوفمبر 1994، وبيت ليد في يناير 1995، وتل أبيب في مارس 1996. وهي تتعرض لنفس ما تتعرض له حماس من ضغوط ومطاردة. وقد استشهد قائدها فتحي الشقاقي في عملية نفذها الموساد الإسرائيلي في 26 أكتوبر 1995. وتشير الانتخابات الطلابية إلى تمتع هذه الحركة بنحو 3-5% من أصوات الناخبين.
عانت م.ت.ف من استضعاف سياسي إثر المحاولات المتوالية لاجتثاثها عسكرياً، ووصلت حالة تهميشها مدى كبيراً في مؤتمر القمة العربي في عمّان في أكتوبر 1987. وعندما اندلعت الانتفاضة المباركة عدّتها م.ت.ف رافعة سياسية لها، فحاولت استثمارها بشكل مبكر. فقامت بتشكيل القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (بعد شهر من اندلاعها)، وشاركت الفصائل الفلسطينية وخصوصاً فتح بفعالية في الانتفاضة. وردَّ الكيان الصهيوني باغتياله لأبي جهاد (الرجل الثاني في م.ت.ف وفي فتح) ـ رحمه الله ـ في تونس في 16 إبريل 1988، وذلك ضمن حملته الشرسة لقمع الانتفاضة. وقد أفادت م.ت.ف من قيام الأردن بفك روابطه الإدارية والقانونية مع الضفة الغربية في 31 يوليو 1988، لتؤكد تمثيلها الرسمي الوحيد لأهل الضفة الغربية، ولتخوض ما أسمته "هجوم السلام الفلسطيني".
وفي المجلس الوطني الفلسطيني التاسع عشر (12-15 نوفمبر 1988) الذي يتبع م.ت.ف تم وضع برنامج فلسطيني قائم على الاعتراف بقرار الأمم المتحدة رقم 181 لسنة 1947 القاضي بتقسيم فلسطين لدولتين عربية ويهودية. واعترفت م.ت.ف لأول مرة منذ 21 عاماً بقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن في نوفمبر 1967. ودعت إلى تسوية سياسية من خلال مؤتمر دولي. وحتى "يتجرع" الفلسطينيون كل هذه "المرارات" فقد أعلن المجلس "استقلال فلسطين". ولقد لقي هذا الإعلان ترحيباً دولياً واسعاً، حيث اعترفت بهذه الدولة حوالي 120 دولة خلال بضعة أشهر. ورغم أن الولايات المتحدة ودول أوربا الغربية لم تعترف بها، ورغم أنها عملياً كانت "أملاً" لم يقم بعد على أرض الواقع، إلا أن ذلك أعاد تحريك القضية دولياً، وأعاد لـ م.ت.ف حضورها السياسي، بعد أن رضيت لنفسها "بتقزيم" مطالبها و"قصقصة" برامجها النضالية.
وفي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات حدثت تغيرات على المستوى العربي والدولي أضعفت كثيراً الموقف الفلسطيني والعربي. فقد حدث مزيد من الضعف والتفكك في الساحة العربية، خصوصاً إثر الاجتياح العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990 وما نتج عنه من عداء بين البلاد العربية، واستنـزاف الموارد والثروات العربية، وتدمير البنية العسكرية للعراق، وتهجير وهجرة مئات الآلاف من الفلسطينيين من الكويت في أثناء الاجتياح العراقي، وبعد انسحابه منها، وما تلاه من حجب الدعم عن م.ت.ف … . وبشكل عام فإن هذا الاجتياح وما استتبعه من "حرب الخليج" ونتائجها، كان له آثار كارثية على قضية فلسطين.
أما في الإطار الدولي، فقد شهدت هذه الفترة انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه، وكذلك كتلة الدول الاشتراكية، وتحولها من حالة المنافسة والعداء مع أمريكا وحلفائها إلى حالة من التوافق و"الاسترضاء"، في ضوء التحول نحو الرأسمالية والديمقراطية الغربية، والحاجة إلى المساعدات الاقتصادية من الغرب. وقد أسهم ذلك في اختلال التوازن السياسي الدولي، الذي كان يستفيد منه الجانب الفلسطيني والعربي إلى حد ما، عندما كانت هناك حالة من التنافر والاستقطاب تسمح بمجال للمناورة.
وهكذا برزت الولايات المتحدة كقوة وحيدة أولى في العالم، خصوصاً بعد حرب الخليج في أوائل 1991. وزاد الوضع سوءاً تزايد النفوذ اليهودي فيها، حتى إنه عيّن في إدارة الرئيس المتصهين كلينتون وزراء يهود في مناصب حساسة، مثل وزيرة الخارجية أولبرايت، ووزير المالية روبرت روبين، ووزير الدفاع وليم كوهين، ووزير الزراعة جيلكمان. هذا بالإضافة إلى وجود سبعة يهود من أصل أحد عشر في مجلس الأمن القومي، ورئاسة اليهودي جرينسبان للبنك المركزي، واليهودي جورج تينيت للمخابرات CIA وغيرها.
وقد استثمرت الولايات المتحدة ذلك في فرض هيمنتها وإدارتها وتصوراتها لنظام عالمي جديد، كما سعت لإغلاق الملف الفلسطيني بما يخدم مصالح حليفها الاستراتيجي"إسرائيل". بينما قطف الكيان الإسرائيلي ثماراً غالية نتيجة انهيار الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية، فأعادت هذه الدول علاقاتها الدبلوماسية معها، كما فتحت أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين المحتلة ـ خصوصاً من الاتحاد السوفيتي ـ وقد احتفل الكيان الصهيوني في 7 مايو 2000 بقدوم المهاجر رقم مليون منذ بداية موجة الهجرة من الاتحاد السوفيتي في سبتمبر 1989، وقام رئيس الوزراء باستقباله بنفسه . وشملت موجة الهجرة هذه نحو 92 ألف عالم متخصص في شتى المجالات ، بينهم عدة آلاف متخصصون في الصناعات النووية، فضلاً عن الكثير من الكفاءات العسكرية العالية، مما زاد من خطورة الكيان الإسرائيلي ومشروعه في المنطقة.
وفي هذه الأجواء المثالية لأمريكا و"إسرائيل"، نجحت الولايات المتحدة في جر البلاد العربية إلى مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي في مدريد في أكتوبر 1991، تلته مفاوضات عربية إسرائيلية مباشرة. ولم تنفع حوالي سنتين من المفاوضات بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي في كسر التصلب الصهيوني. وقد جاءت المفاجأة عندما أُعلن عن اتفاق أوسلو بين الطرفين، حيث كُشف النقاب عن مفاوضات سرية كانت تجري بين الطرفين منذ 20 يناير 1993 من وراء ظهر الوفد الفلسطيني الرسمي المفاوض (برئاسة حيدر عبد الشافي)، ومن دون علم معظم قادة م.ت.ف. وقد وقع الاتفاق بالأحرف الأولى في 19 أغسطس 1993 في أوسلو بالنرويج، وتم التوقيع عليه رسمياً في 13سبتمبر 1993 في واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وحضور ياسر عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين، ووقعه عن الجانب الفلسطيني محمود عباس، وعن الجانب الإسرائيلي وزير الخارجية شمعون بيريز، كما وقعه وزيرا خارجية أمريكا وروسيا كشاهدين.
وقد اتسم اتفاق أوسلو ـ الذي قامت على أساسه السلطة الفلسطينية الحالية ـ بالمرحلية. إذ تضمن حكماً ذاتياً في قطاع غزة وأريحا أولاً على أن يغطي مناطق فلسطينية أوسع في مراحل تالية خصوصاً تلك المأهولة بالسكان، وتشمل صلاحيات السلطة التعليم والصحة والشئون الاجتماعية والضرائب المباشرة والسياحة. بينما تجري المفاوضات حول القضايا الحساسة والوضع النهائي بعد سنتين من بدء الحكم الذاتي. على أن السلوك الصهيوني اتسم بالمماطلة والتسويف والتعجيز، بحيث مرَّ إعطاء الصلاحيات للفلسطينيين بكثير من التعقيدات التي عادة ما كان جوهرها مطالبة "السلطة"بالنجاح في "الاختبار" الإسرائيلي في ضرب حماس وحركات المقاومة، وتقديم السلطة لمزيد من التنازلات. وتم عقد عدة اتفاقيات خدمت أساساً المصالح الصهيونية بشكل أفضل، فكان اتفاق القاهرة (4 مايو 1994)، واتفاق "طابا" في (28 سبتمبر 1995)، مروراً باتفاقية واي بلانتيشن (23 أكتوبر 1998)، ومذكرة شرم الشيخ (4 سبتمبر1999) . ووزعت مناطق الحكم الذاتي إلى مناطق (أ) و(ب). ولا تملك السلطة حالياً سوى حوالي 15% من أراضي الضفة تحت (أ) حيث سيطرتها الأمنية والإدارية، ونحو 20-25% من أراضي الضفة تحت بند (ب) حيث تسيطر إدارياً بينما يكون الإشراف الأمني مشتركاً مع الصهاينة. وقد فشلت السلطة حتى الآن في الوصول إلى تسوية نهائية حول القضايا المصيرية الحساسة.
وبشكل عام، فإن أبرز الانتقادات والملاحظات على اتفاق أوسلو(انظر التفصيلات في الفصل الثامن) يمكن تلخيصها فيما يلي:
1. قضية فلسطين قضية كل المسلمين وليس قضية الفلسطينيين وحدهم، وهي معركة بين حق المسلمين وباطل اليهود، وهي معركة تتوارثها الأجيال، ولا يجوز لجيل أن يرضخ أو يتنازل فيغمط حق الأجيال التالية. وقد أجمع العلماء الثقات على عدم جواز هذه التسوية بالشكل الذي تمت فيه، ودعوا إلى وجوب الجهاد لتحرير الأرض المباركة.
2. تفردت قيادة م.ت.ف بالموافقة على الاتفاق والاتفاقات التي تلته، ولم ترجع حتى إلى الشعب الفلسطيني نفسه، الذي توجد فيه تيارات واسعة معترضة على هذه التسويات من الإسلاميين واليساريين والقوميين، وحتى في حركة فتح نفسها.
3. اعترفت قيادة م.ت.ف "بحق إسرائيل في الوجود"، وبشرعية احتلالها لـ 77% من أرض فلسطين المحتلة عام 1948، والتي لا تجري عليها أية مفاوضات.
4. لم يتم التعرض لأخطر القضايا حيث تم تأجيلها إلى مرحلة المفاوضات النهائية، ولأن م.ت.ف تعهدت بعدم اللجوء إلى القوة إطلاقاً، فقد أصبح الأمر مرتبطاً بمدى "الكرم الصهيوني" الذي يملك عناصر القوة وأوراق اللعبة، وهذه القضايا:
أ ـ مستقبل مدينة القدس، والتي أعلنها اليهود عاصمة أبدية لهم، وصادروا 86%من أرضها، وأسكنوا في القدس الشرقية أكثر من 190 ألف مستوطن.
ب ـ مستقبل اللاجئين الفلسطينيين الذين يزيد عددهم عن خمسة ملايين لاجئ.
ج ـ مستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية وقطاع غزة، حيث صادر الصهاينة نحو 62% من أراضي الضفة والقطاع، وأقاموا أكثر من 160 مستوطنة في الضفة، و 16 مستوطنة في القطاع، يعيش فيها 200 ألف يهودي مستوطن.
5. لا تتضمن مسئوليات السلطة الفلسطينية الأمن الخارجي والحدود، ولا يستطيع أحد دخول مناطق السلطة دون إذن إسرائيلي. ولا يجوز للسلطة تشكيل جيش، والأسلحة تدخل بإذن إسرائيلي.
6. للكيان الصهيوني حق النقض "الفيتو" على أية تشريعات تصدرها السلطة خلال المرحلة الانتقالية.
7. لا يوجد في الاتفاقيات إشارة إلى حق الفلسطينيين في تقرير المصير، أو إقامة دولتهم المستقلة، ولا تشير الاتفاقيات إلى الضفة والقطاع كأرضٍ محتلة، مما يعزز الاعتقاد بأنها أراضٍ متنازع عليها.
8. في الوقت الذي تعهدت فيه م.ت.ف (السلطة الفلسطينية) بعدم اللجوء إطلاقاً للمقاومة المسلحة ضد الكيان الصهيوني، وبحل كافة مشاكلها بالطرق السلمية، فإنها في الوقت نفسه أصبحت مضطرة ـ في ضوء تعهداتها السلمية ـ لقمع وسحق أية مقاومة مسلحة ضد الكيان الصهيوني، ومحاربة أبناء شعبها الذين يقومون بذلك. ووجدت نفسها ـ عملياً ـ أداة لحماية "الأمن الإسرائيلي" في مناطقها، وقامت بحملات اعتقال واسعة وشرسة إثباتاً "لحسن نواياها"، وحرصاً على السلام مع "إسرائيل".
لقد كان الكاتب الفلسطيني المعروف إدوارد سعيد دقيقاً إلى حد كبير عندما قال إن عرفات "ورَّط شعبه بمصيدة لا مخرج منها" ، بينما قال المفكر الفلسطيني هشام شرابي إن القيادة الفلسطينية "لا تعرف كيف يؤخذ القرار، وكيف يتم تقرير المصير" .
السلطة الفلسطينية والوضع الحالي:
بدأ دخول الشرطة الفلسطينية قطاع غزة في 18 مايو 1994، وأدى أعضاء الحكم الذاتي اليمين الدستورية أمام ياسر عرفات في أريحا يوم 5 يوليو 1994. وقد صدقت الكثير من التخوفات حول التسوية وأداء السلطة المحتمل. فلأن اتفاقات الحكم الذاتي مؤقتة، ولأن تسليم الأرض للسلطة يتم "بالقطارة" جرعة…جرعة، ولأن تحقيق أي تقدم بات مرهوناً برضى الطرف الإسرائيلي، فقد وجدت السلطة الفلسطينية نفسها "تحت رحمة" الطرف الآخر، وأصبحت مضطرة للاستجابة لضغوطه، في سبيل الحصول على أية حقوق مهما كانت ضئيلة. وقد سعى الصهاينة إلى المماطلة والتسويف لتحقيق تنازلات جديدة، كما ربطوا بين أي تقدم في التسوية وبين سحق السلطة الفلسطينية للمعارضة المسلحة. ونجح الكيان الصهيوني في وضع حماس والجهاد الإسلامي والمعارضة الفلسطينية كعائقٍ في الطريق، على السلطة أن تدكّه وتقمعه حتى تصل إلى ما تحسبه أهدافاً وطنية فلسطينية.
وبالفعل، فبعد سنوات من اتفاقات أوسلو، لا تزال المماطلات مستمرة، ولم تُحسم القضايا الجوهرية التي كان يجب أن تحسم ـ حسب الاتفاق ـ قبل أكثر من سنتين (1998). ومراكز سيطرة السلطة الفلسطينية الفعلية هي في المناطق المأهولة بالسكان، والتي كان الصهاينة يرغبون منذ زمن طويل بإيكال جميع "المهام القذرة" فيها، من ملاحقات أمنية، وضرائب، وأعمال بلدية…، إلى من ينوب عنهم بذلك، حتى يصبح استعمارهم استعماراً "نظيفاً".
وتضخم الجانب الأمني لدى السلطة الفلسطينية ليقوم بدوره المطلوب، فبلغ عدد الشرطة الفلسطينية نحو أربعين ألفاً، ليشكل أعلى نسبة شرطة في العالم مقارنة بعدد السكان. وشكلت السلطة ثمانية أجهزة أمنية مختلفة، تعاملت دون هوادة مع المعارضة الفلسطينية، ونسقت بشكل مباشر مكشوف مع الأجهزة الأمنية الإسرائيلية والأمريكية. وتضخمت ميزانية الأمن ومكتب الرئيس عرفات لتصبح في سنة 2000 حوالي 70% من مجموع ميزانية السلطة فيما أخذت الوزارات والمؤسسات الأخرى من صحة وتعليم وخدمات اجتماعية وكهرباء … وغيرها كثير باقي النسبة.
وقد كان ذلك على حساب الحالة الاقتصادية التي تراجعت كثيراً، وعلى حساب مؤسسات التعليم والحريات السياسية والمؤسسات الاجتماعية. ففي مايو 1995 نُشر تقرير لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية أشار إلى أن دخل الفرد في قطاع غزة تراجع إلى 500 دولار، بنسبة تراجع 38% عما كان عليه سنة 1993 . وفي إبريل 2000 وصفت شخصيات فلسطينية بارزة ومنظمات حقوق إنسان اتفاق أوسلو بأنه بمثابة كارثة اقتصادية وسياسية للفلسطينيين، ودعت عرفات ـ في وثيقة نشرت في واشنطن ـ إلى الاستقالة. وقالت الوثيقة إن نصيب الفرد الفلسطيني من الدخل انخفض بنسبة 30%، وأن معدل البطالة تضاعف ثلاث مرات في الضفة والقطاع منذ 1993 .
وعانت السلطة من الفساد الإداري والمحسوبية التي تفشت بسرعة في أجهزتها. حتى إن أحد كبار قادة فتح نفسها "محمد جهاد" لم يتورع عن القول إن عرفات قد أحاط نفسه بثلة من اللصوص والمبتزين . ونقل عن شخصية أخرى قولها "العربدات تمارس بشكل يومي في الشارع…، والحديث عن الانحلال والرشوة والمحسوبية يزكم الأنوف" . وفي مايو 1997 صدر تقرير لجنة المراقبة في المجلس التشريعي الفلسطيني التابع لسلطة الحكم الذاتي مؤكداً أن الفساد المالي في أجهزة السلطة والسرقات قد طالت 326 مليون دولار أمريكي، وهو مبلغ هائل ـ وهو ما أمكن كشفه ـ بالنسبة إلى ميزانية السلطة التي كانت بحدود 1500 مليون دولار. وقد صوّت المجلس التشريعي بحجب الثقة عن حكومة عرفات (56 صوت مقابل صوت واحد) بسبب ذلك. وفي نوفمبر 1999 وقّع عشرون مفكراً وشخصية فلسطينية بارزة تحت حكم السلطة وثيقة "العشرين" التي اتهمت السلطة بالفساد والمحسوبية والشللية وقمع الحريات… وغير ذلك. وقد وصف هشام شرابي الوضع قائلاً: "إن السلطة الفلسطينية بتركيبها الحالي لا تمثل الشعب الفلسطيني…، إنها عاجزة عن إحداث أي تغيير في الوضع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وهي نفسها أحد أسباب تفاقم وضعه المأساوي" .
وكان الإنجاز الأكثر تميزاً للسلطة هو القمع الأمني للمعارضة، وحملاتها المستمرة لاجتثاثها، وللقارئ أن يتصور أن السلطة شنّت في السنة الأولى من عمرها 12 حملة اعتقال. وفي قطاع غزة الذي لا تتجاوز مساحته 363كم2 يتبع السلطة 24 مركز توقيف واعتقال، وهناك 32 حاجزاً عسكرياً. وفي شهر واحد مثلاً (19/4-9/5/1995) داهمت السلطة 57 مسجداً 138 مرة في إطار قمعها للاتجاه الإسلامي . وتوالت الحملات الأمنية بعد كل عملية جهادية، وكان أشدها حملة مارس 1996 إثر العمليات الاستشهادية التي نفذتها حماس انتقاماً لاستشهاد يحيى عياش. ولم تنجح محاولات الحوار بين السلطة وحماس، وحدث أكثر من مرة أن تعتقل السلطة محاوريها وتعذِّب عدداً منهم أمثال حسن يوسف وجمال سليم وغيرهم. وقد نجح التنسيق الأمني الصهيوني-الفلسطيني-الأمريكي في إحباط الكثير من العمليات الجهادية، وفي القبض على كثير من المجاهدين. وفي يناير 1997 أعلنت منظمات حقوق الإنسان أن هناك 1600 معتقل فلسطيني في سجون السلطة الفلسطينية بينهم 700 دون تهم أو محاكمة . وقد قُتل حتى الآن أكثر من عشرين شخصاً تحت التعذيب في هذه السجون.
وهكذا، ففي الوقت الذي يتغوّلُ فيه الكيان الصهيوني، ويصادر المزيد من الأراضي، ويبني المستوطنات في الضفة والقطاع، ويستقدم المهاجرين، ويمحو الهوية الإسلامية للقدس، تقوم السلطة بكف يدّ المجاهدين، وتزجُّ بهم في سجونها.
ومما يجدر ذكره أن سلوك السلطة الفلسطينية تجاه المعارضة قد اختلف عند اندلاع انتفاضة الأقصى في 28 سبتمبر 2000. فقد وجدت أنه لا يمكن ممارسة نفس السياسات القمعية في وقت يتنكر فيه الصهاينة لاتفاقياتهم، ويزدادون غطرسة وبطشاً بالشعب الفلسطيني، وفي وقت هبَّ فيه هذا الشعب بأكمله للدفاع عن كرامته ومقدساته. ولذلك، خفّفت السلطة من قيودها على المعارضة، وأطلقت سراح الكثير من السجناء، وأطلقت العنان للمظاهرات والاحتجاجات، لكنها لم تتبنّ العمليات الفدائية، واستمرت في سياستها باستنكار قتل المدنيين الإسرائيليين، غير أنها برّرت هذه العمليات بأنها ردّ فعلٍ على الوحشية الصهيونية في قتل الفلسطينيين الأبرياء، وتدمير بيوتهم، ومصادرة أرضهم، والاعتداء على مقدساتهم. ولم تتعاون السلطة بشكل جاد من الناحية الأمنية مع السلطات الصهيونية مما يسّر على الفصائل الفلسطينية وخصوصاً حماس والجهاد الإسلامي وفتح القيام بالكثير من العمليات العسكرية الموجهة ضد أهداف صهيونية.
الكيان الصهيوني والوضع الحالي:
يقف الكيان الصهيوني في مطلع القرن الـ 21 الميلادي في حالة من الزهو والعلو بعد أن ثبّت دعائمه في ظل دعم القوى الكبرى، وفي أجواء التمزق والضعف العربي والإسلامي، فخلال 52 عاماً من إنشائه (1948 – 2000) تمكن من استقدام نحو مليونين و 900 ألف مهاجر يهودي، وتزايد عدد اليهود في فلسطين المحتلة من 650 ألفاً سنة 1948 إلى حوالي أربعة ملايين و 947 ألفاً في نهاية سنة 2000، أي حوالي 38 % من يهود العالم.
واستطاع الكيان الصهيوني أن يتجاوز عزلته الدولية، فمع انحلال الاتحاد السوفيتي والأنظمة الشيوعية "هرولت" روسيا ودول أوربا الشرقية باتجاه فتح سفاراتها وتعزيز علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الدولة الصهيونية. ومع الضعف العربي والإسلامي إثر احتلال الكويت وحرب الخليج (1990-1991)، وتوقيع م. ت. ف. لاتفاقيات أوسلو، قامت الأردن بعقد اتفاق تسوية سلمية مع الكيان الصهيوني، وتبعتها عدد من الدول العربية بتبادل فتح مكاتب تمثيل تجاري ورعاية مصالح (قطر، عُمان، تونس ...)، وقامت أكثر من خمسين دولة أخرى في العالم بفتح علاقات دبلوماسية واقتصادية مع الكيان الصهيوني.
ومع تراجع مشروع التحرير والحروب العربية، ومع تولي السلطة الوطنية الفلسطينية في الضفة والقطاع مهام قمع المعارضة المسلحة للكيان الصهيوني، استمتع الكيان بحالة من الاستقرار النسبي، مكّنته من مضاعفة نموه الاقتصادي. فقد تمكن من مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي من 15.3 بليون دولار أمريكي سنة 1983 إلى 105.4 بليون دولار سنة 2000 أي بنحو سبعة أضعاف (689%)، ولم يعد تحت رحمة المساعدات الأمريكية والهبات الخارجية التي كانت تشكل سنة 1983 نحواً من 25% من دخله القومي، فأصبحت لا تشكل أكثر من 4%، وإن ظلت مبالغ المساعدات والهبات نفسها دون تغيير (حوالي أربعة بلايين دولار سنوياً). وارتفع معدل الدخل السنوي للفرد في الكيان الصهيوني إلى 18300 دولار أمريكي سنة 2000 ليشكل أحد أعلى الدخول في العالم. وتضاعفت قيمة الصادرات "الإسرائيلية" من حوالي 11.6 بليون دولار سنة 1990 إلى 23.6 بليون دولار سنة 2000. أما ميزانية الكيان الصهيوني لعام 2000 فتقدر إيراداتها بنحو 40 بليون دولار أمريكي، ونفقاتها بنحو 42.4 بليون دولار. وإيرادات هذه الميزانية أعلى بنحو 8 بلايين دولار أمريكي من مجموع إيرادات الميزانيات العامة لمصر وسوريا والأردن ولبنان مجتمعة .
وتتمتع القوات العسكرية الصهيونية بمزايا تجعلها الدولة الأقوى في الشرق الأوسط حسب المعايير المادية، فالقوات العسكرية المتفرغة تبلغ 178 ألف جندي، يمكن مضاعفتها بقوات احتياط عالية التدريب والكفاءة خلال 72 ساعة إلى أكثر من 700 ألف، بل إلى مليون جندي وفق بعض التقديرات. وهي تتمتع بتفوق كبير في كافة أنواع الأسلحة التقليدية وأسلحة الدمار الشامل، حيث تحصل أولاً بأول على أحدث الأسلحة الأمريكية، فضلاً عن وجود أكثر من 200 شركة "إسرائيلية" تعمل في الصناعات الحربية. ويتمتع الكيان الصهيوني باتفاقية تعاون استراتيجي مع أمريكا، وبضمانات رسمية بأن تظل القوة العسكرية الإسرائيلية متفوقة على القوة العسكرية العربية مجتمعة. ويملك الكيان الصهيوني أكثر من 200 قنبلة نووية، ويُعدّ خامس أكبر مصدر للسلاح في العالم، حيث حصل على عقود بيع أسلحة عام 1999 تزيد قيمتها عن 2000 مليون دولار أمريكي .
ومع ذلك، فإن للكيان الصهيوني مشكلاته، فهناك حالة من الانقسام والتفتت وسط الأحزاب السياسية الكبرى، ويشكو الجيش "الإسرائيلي" من حالة من الترهل "النسبية" وضعف المعنويات، وحالات الهروب من الخدمة العسكرية والانتحار.
وهناك مشاكل اجتماعية متمثلة في تزايد حالة الانقسام العرقي والديني بين فئات اليهود الأشكناز والسفارديم، وارتفاع نسب الطلاق، وانخفاض نسب المواليد، كما أن مصادر الهجرة اليهودية في روسيا وأوربا الشرقية قد شحّت وأوشكت على النفاد، ولا يهتم يهود أمريكا وأوربا الغربية بالهجرة، مما يشكل ضربة لمشروع التوسع الصهيوني والدولة اليهودية.
غير أن هذا كله لا ينبغي أن يحوّل أعيننا عن حقيقة قوة هذا الكيان وعلوّه،خصوصاً عندما نقارن ذلك بحقيقة الأوضاع في عالمنا العربي والإسلامي، الذي تواجه دوله مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة أيضاً. ولم تصل مشاكل الكيان الصهيوني إلى الحالة الحرجة التي تؤذن بانحلاله وزواله، إذ لا بد لذلك من مشروع عربي –إسلامي نهضوي شامل يكون على مستوى التحدي.
انتفاضة الأقصى: 28 سبتمبر 2000 – الآن (أكتوبر 2001)
أضافت انتفاضة الأقصى (التي اندلعت إثر زيارة الإرهابي أريل شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى) أبعاداً جديدة على الواقع الفلسطيني والعربي والإسلامي. وقد أكدت موجة الانتفاضة العارمة إصرار شعب فلسطين على نيل حقوقه واستقلاله، والاستعداد للتضحية في سبيل دينه والدفاع عن أرضه ومقدساته. وأظهرت الانتفاضة التفاعل والتضامن الشعبي العربي والإسلامي الرائع، إذ خرجت الجماهير المسلمة في كل أقطار العالم لتعبّر عن نصرتها لشعب فلسطين وقضيته، وتعلن استعدادها للتضحية والاستشهاد حماية لفلسطين والقدس والأقصى. وعاد خيار الجهاد ليظهر أنه البديل الأفضل لمواجهة الاحتلال والغطرسة "الإسرائيلية"، في الوقت الذي وُجِّهت فيه لطمة قاسية لمشروع التسوية السلمية والتطبيع مع الكيان الصهيوني. كما اتحدت كافة الفصائل والحركات الفلسطينية في خندق المقاومة والكفاح المسلح.
وقد كشفت الانتفاضة مرة أخرى عن الوجه القبيح للكيان الصهيوني وفضحته أمام العالم. ولم يتوان الصهاينة في استخدام كافة وسائل القهر والدمار لقمع الانتفاضة، بما فيها القتل المتعمد للأبرياء، والاغتيال السياسي، وتدمير البيوت، وتجريف الأراضي، وحصار المدن والقرى، والاعتقالات. واستخدموا الدبابات وطائرات الهيلوكبتر والطائرات الحربية المقاتلة من طراز اف-16.
وقد صمد أبناء فلسطين صموداً بطولياً طوال أشهر الانتفاضة الـ 13 الماضية، ولا يزالون. وتشير الإحصائيات إلى أنه بعد مرور سنة على الانتفاضة (28 سبتمبر 2000-28 سبتمبر 2001) فقد استشهد 727 فلسطينياً، وجرح نحو ثلاثين ألفاً (أو 35 ألفاً حسب تقديرات أخرى)، وأصيب 2800 منهم بإعاقات دائمة. واستشهد من أطفال فلسطين 159 طفلاً، وجرح آلاف الأطفال، وتقدر نسبة الإصابات في الأطفال واليافعين دون سن الثامنة عشرة بنحو 40% من مجمل إصابات الانتفاضة. وقام الكيان الصهيوني بتدمير نحو خمسة آلاف بيت، واجتثاث 200 ألف شجرة، وقصف 95 مدرسة، وتسبب حصاره في معاناة 218 قرية من العطش الشديد، وارتفعت نسبة البطالة من 11% إلى 57% بين أبناء الضفة والقطاع، وأصبح هناك 265 ألفاً عاطلين عن العمل، وارتفعت نسبة الفلسطينيين تحت خط الفقر إلى 50% ، وخسر الاقتصاد الفلسطيني –الناشئ المنهك- نحو 7.5 بليون دولار أمريكي. .
وتعمد الصهاينة إصابة الجزء العلوي من الجسد، حيث ذكرت التقارير أن 65% من الإصابات كانت في الجزء العلوي من الجسد، وأن 40% من الإصابات باستخدام أسلحة محرمة دولية كرصاص الدمدم الذي يتفجر في الجسد والأسلحة المضادة للدبابات. كما تبنى الصهاينة سياسة الاغتيال السياسي لنشطاء الانتفاضة، حيث استشهد من جراء ذلك نحو ثمانين فلسطينياً من مختلف الفصائل الفلسطينية مثل جمال منصور وجمال سليم من قيادات حماس، ومثل أبو علي مصطفى الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
ولم تفلح كافة الأساليب الصهيونية في قمع الانتفاضة، التي أخذت طابعاً عسكرياً، وازدادت قوة مع تطور الأحداث، فذكرت تقارير "إسرائيلية" أنه يقع ما معدلة 50-70 عملية يومياً ضد أهداف صهيونية. وقد تعمد الكيان الصهيوني أسلوب التعتيم الإعلامي، وعدم الإعلان إلا عما لا يمكن إخفاؤه، وعند ذلك يتعمد إخفاء الخسائر الحقيقية، وإعطاء أرقام أقل للحفاظ على معنويات المجتمع الصهيوني وجنوده، وعلى الثقة بالقيادة الصهيونية، وإشعار المجاهدين أن فعالياتهم وعملياتهم غير مؤثرة، فضلاً عن إضعاف روح التفاعل العربي والإسلامي مع القضية.
وقد شاركت كافة الفصائل الفلسطينية في العمليات العسكرية. ويقدّر مجموع قتلى الصهاينة بنحو 165 بعد مرور سنة على الانتفاضة (وهو ما أمكن معرفته من المصادر الرسمية "الإسرائيلية" التي تتعمد إخفاء خسائرها أو تقليلها)، والجرحى بنحو 1400. وتميزت حماس بعملياتها الاستشهادية التي أحدثت دوياً هائلاً، وزعزعت الأمن في الكيان الصهيوني. فقد نفذت حماس 12 عملية استشهادية خلال السنة الأولى للانتفاضة، قُتل فيها 61 صهيونياً على الأقل، ونفذ معظمها في قلب الأرض المحتلة سنة 1948، في مدن تل أبيب ونتانيا والقدس وكفر سابا ونهاريا وغزة. أما كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح فركزت على عمليات إطلاق الرصاص ضد قوات الاحتلال والمستوطنين في الضفة الغربية والقطاع، حيث قتل نحو 30 صهيونياً. ونفذت الجهاد الإسلامي أربع عمليات كبيرة قُتل فيها عشرة صهاينة. كما نفذت الجبهتان الشعبية والديموقراطية وغيرهما عدداً من العمليات . ومن العمليات النوعية التي تستحق الإشادة عملية اغتيال وزير السياحة "الإسرائيلي" رحبعام زئيفي) وهو جنرال سابق في الجيش "الإسرائيلي"، ومن أشد الصهاينة تطرفاً، وقد نفذت الجبهة الشعبية هذه العملية بجرأة وبراعة منتقمة لاغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى. كما نفذت حماس والديموقراطية عمليات اقتحام نوعية لمستوطنات إسرائيلية.
لقد أحدثت هذه الانتفاضة هزة عميقة في الكيان الصهيوني، وأصابته في صميم القاعدتين اللتين بنى عليهما وجوده المادي، وهما الأمن والازدهار الاقتصادي. وأخذ عشرات الآلاف من اليهود يحزمون حقائبهم ويغادرون الكيان الصهيوني إلى أوربا وأمريكا وأستراليا، وأظهرت استطلاعات الرأي العام أن أكثر من 25% من اليهود في فلسطين يفكرون جدياً في المغادرة وترك البلاد.
ولا زال الكيان الصهيوني بقيادة الإرهابي شارون مصرّاً على قمع الانتفاضة، وإلغاء مكاسبها. وقد استفاد مؤخراً من أجواء انشغال العالم بأحداث تدمير مبنى التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001، وما تلاه من هجوم أمريكا وحلفائها على أفغانستان، ومحاولة القضاء على حركة طالبان وبن لادن... استفاد من ذلك ليستخدم أشرس ما في جعبته من قتل وتدمير وتخريب. لكن الخشية الحقيقية على هذه الانتفاضة تأتي من وسط الشعب الفلسطيني، وبشكل أكثر تحديداً من احتمالات تعاون السلطة الفلسطينية مع الكيان الصهيوني في وأد الانتفاضة بحجة العودة إلى طاولة المفاوضات، وإمكانية تحقيق مكاسب سياسية.
17
[1] لمزيد من التفصيل حول تاريخ فلسطين القديم، انظر مثلاً: محمد أديب العامري، عروبة فلسطين في التاريخ (صيدا-بيروت: المكتبة العصرية، 1972)، والموسوعة الفلسطينية، إشراف أحمد المرعشلي (دمشق: هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1984)، ج1، ص37، وج3، ص273-279، وج4، ص174.
[2] انظر: الموسوعة الفلسطينية، ج1، ص117-129..
[3] حول التفصيلات عن أرض فلسطين ومكانتها في الإسلام يرجى الاطلاع على الفصل الثاني من هذا الكتاب.
[4] انظر: الموسوعة الفلسطينية، ج3، ص271-279، وص666-670..
[5] سورة المائدة:24.
[6] انظر مثلاً حول تاريخ بني إسرائيل القديم المشار إليه في الفقرات السابقة في: ظفر الإسلام خان، تاريخ فلسطين القديم 1220ق.م-1359م: منذ أول غزو يهودي حتى آخر غزو صليبي، ط4 (بيروت: دار النفائس، 1984). والموسوعة الفلسطينية، ج1، ص238، وج3، ص184-186، وص266-268، وج4، ص216-218.
[7] حول فتح فلسطين وبلاد الشام، انظر مثلاً: الأزدي، تاريخ فتوح الشام، تحقيق عبد المنعم عبد الله عامر (القاهرة: مؤسسة سجل العرب، 1970)، وأحمد عادل كمال، الطريق إلى دمشق (بيروت: دار النفائس، 1980)، ومحسن صالح، الطريق إلى القدس، ط3 (لندن: فلسطين المسلمة، 1998)، ص 49 ـ 77..
[8] انظر نص العهدة العمرية في: محمد بن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (القاهرة: دار المعارف، 1969)، ج3، ص 418.
[9] حول فلسطين في عهد الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والأيوبيين، انظر مثلاً: الموسوعة الفلسطينية، ج3، ص 242 ـ 266، وص 426 ـ 428.
[10] ناقشنا في كتابنا الطريق إلى القدس في الفصل الثالث بالتفصيل جهاد المسلمين لتحرير فلسطين من الصليبيين والتتار، انظر: الطريق إلى القدس، ص 89 ـ 128.
[11] انظر مثلاً حول الصحابة والتابعين ورجال الإسلام الذين عاشوا في فلسطين في: ضياء الدين محمد المقدسي، فضائل بيت المقدس، تحقيق محمد مطيع حافظ، سلسلة فضائل الشام رقم 2 (دمشق: دار الفكر، 1985)، ص90-92، ومصطفى مراد الدباغ، القبائل العربية وسلائلها في بلادنا فلسطين (بيروت: دار الطليعة، 1979)، ص47-48، وص111-113، وص138-140، وص188. ومصطفى مراد الدباغ، من هنا وهناك، ص80-83، وص112.
[12] انظر حول هذا الموضوع في: عبد الوهاب المسيري، الأيديولوجية الصهيونية، سلسلة عالم المعرفة، رقم 60-61 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر 1982-يناير 1983)، ج1، ص89-116. وأسعد عبد الرحمن، المنظمة الصهيونية العالمية 1882-1982 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1990)، ص23-26.
[13] انظر حول هذا الموضوع: ريجينا الشريف، الصهيونية غير اليهودية جذورها في التاريخ الغربي، ترجمة أحمد عبد الله عبد العزيز، سلسلة عالم المعرفة، رقم 96 (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ديسمبر 1985)
[14] انظر: ملف وثائق فلسطين، إعداد وزارة الإرشاد القومي، الهيئة العامة للاستعلامات (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، 1969)، ج1، ص121.
[15] انظر: ريجينا الشريف، مرجع سابق، ص106-110، والموسوعة الفلسطينية، ج2، ص279.
[16] Albert H. Hyamson, Palestine under the Mandate 1920-1948 (Great Britain: Methuen, 1950), p.7
[17] انظر: ريجينا الشريف، مرجع سابق، ص79-81، وأسعد عبد الرحمن، مرجع سابق، ص27-30. .
[18] حسان حلاق، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909، ط2 (بيروت: الدار الجامعية للطباعة والنشر، 1980)، ص82-84.، وفي عام 1876 بلغ 13920 يهودياً .
[19] سمير أيوب، وثائق أساسية في الصراع العربي الصهيوني (بيروت: دار الحداثة للطباعة النشر، 1984)، ج1، ص280.
[20] انظر: حسان حلاق، مرجع سابق، ص101-105. .
[21] انظر: وليم فهمي، الهجرة اليهودية إلى فلسطين (مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974)، ص36. وقد قدَّرت مراجع أخرى عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين 1882-1914 بحوالي 55-70 ألفاً، انظر مثلاً: دليل إسرائيل العام، تحرير صبري حريس وأحمد خليفة (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1996)، ص40.
[22] سمير أيوب، مرجع سابق، ج1، ص128.
[23] انظر: صالح أبو يصير، جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن (بيروت: دار الفتح، 1970)، ص33
[24] عجاج نويهض، رجال من فلسطين (بيروت: منشورات فلسطين المحتلة، 1980)، ص326-327.
[25] انظر حول هذا الموضوع في: عبد الوهاب الكيالي، تاريخ فلسطين الحديث، ط9 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1985)، ص37-67.
[26] حول المفاوضات والوعود البريطانية مع الشريف حسين، والفرنسيين، والمنظمة الصهيونية العالمية، انظر: المرجع نفسه، ص72-84. وأيضاً: George Antonius, The Arab Awaking (London: Hamish Hamilton,1955) pp.260-272.
وتقرير اللجنة الملكية: الكتاب الأبيض رقم 5479، النسخة العربية الرسمية، إصدار حكومة الانتداب البريطاني في فلسطين (القدس، 1937)، ص23-31. (اشتهر هذا التقرير باسم تقرير بيل).
[27] أميل الغوري، فلسطين عبر ستين عاماً (بيروت: دار النهار للنشر، 1972)، ص28-30.
[28] كان عدد العرب نحو 610 آلاف واليهود نحو 50-55 ألفاً.
[29] انظر مثلاً لمزيد من التفصيل حول تطور المشروع الصهيوني في : محمد سلامة النحال، سياسة الانتداب البريطاني حول أراضي فلسطين العربية، ط2 (بيروت: منشورات فلسطين المحتلة، 1981)، وحرب فلسطين 1947-1948 (الرواية الإسرائيلية الرسمية) ترجمة أحمد خليفة (قبرص: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984)، ص18، وص26. وصالح أبو يصير، مرجع سابق، ص465-485، ومحمد عبد الرؤوف سليم، نشاط الوكالة اليهودية لفلسطين: منذ إنشائها وحتى قيام دولة إسرائيل 1922-1948 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1982).…
[30] انظر حول ما سبق في: الكيالي، مرجع سابق، ص104-105، وص134-198.
[31] حول هذه الثورات الثلاث انظر: محسن محمد صالح، التيار الإسلامي في فلسطين وأثره في حركة الجهاد 1917-1948 (الكويت: مكتبة الفلاح، 1988)، ص165-191.
[32] انظر: تقرير بيل، ص266، وأيضاً: Palestine Government, A Survey of Palestine, prepared in Dec. 1945 & Jan. 1946 (Jerusalem: Government Printer, 1946), Vol. 1, p.141, p.185, p.224.
[33] انظر: بيان الحوت، القيادات والمؤسسات السياسية في فلسطين 1917-1948 (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1981)، ص301-314، وكامل خلة، فلسطين والانتداب البريطاني 1922-1939 (طرابلس (ليبيا): المنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، 1982)، ص517-521.
[34] زهير المارديني، ألف يوم مع الحاج أمين الحسيني (بيروت: د.ن، 1980)، ص77.
[35] Appreciation of Arab Feeling as affecting Palestine, Memorandum by H.R. Rice Submitted to the Chief Secretary, &Sep. 1933, Secret, Colonial office 733/257/11. .
[36] Palestine: Report on Immigration, Land Settlement and Development, by Sir J.H. Simpson, 1930, Cmd.3686 (London: His Majesty Stationary Office, 1930), pp.141-153.
[37] اشتهر الكتاب الأبيض باسم كتاب باسفيلد الأبيض Passfield White Paper، أما الكتاب الأسود فهو رسالة رئيس الوزراء البريطاني ماكدونالد R. MacDonald إلى حاييم وايزمن رئيس المنظمة الصهيونية العالمية، وقرأها في مجلس العموم البريطاني في 13 فبراير 1931.
[38] الكيالي، مرجع سابق، ص229..
4 من الزوار الآن
916824 مشتركو المجلة شكرا