Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > نهوض اليسار العربى

24 آب (أغسطس) 2019

نهوض اليسار العربى

من أين جاء اليسار العربي في وجوهه المختلفة؟ جاء من...

"نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"

بقلم كريم مروة
مقدمة الكتاب
كنت أفضل، بل كنت أتمنى، لو كلف أحد سواي بمهمة التعريف بكتابي محور النقاشات التي يضمها هذا الكتاب الذي هو بين أيدي القراء. إذ أن ذلك كان سيجعل التعريف أكثرموضوعية مني، أنا مؤلف الكتاب. لكن صديقي الدكتور عبد الغفار شكر هو الذي طلب مني القيام بالمهمة الصعبة، فلبيت طلبه. وها أنا منخرط في غمارها، مغامراً في اقتحام صعوباتها.
وأعترف، في البدء، بأن عليَّ وعلى شركائي في هذا الكتاب الذي بين أيديهم، والذي يضم نقاشات واسعة وقيمة متعددة الإتجاهات لكتابي الآنف الذكر، أعترف بأن للقراء علينا حق إعلامهم بالأفكار الأساسية التي تضمنها كتابي. لكن هذا التعريف بالكتاب وبأفكاره الذي سأحاول القيام به لا يغني القراء عن الإطلاع على الكتاب ذاته، لكي يكونوا قادرين على تحديد مواقفهم، ليس فقط من الكتاب ذاته، ولا من الآراء والأفكار التي سيجدونها في النقاشات، بل، خصوصاً، ليكونوا أكثر استعداداً لتحديد مواقفهم من القضية الأساس التي هي محور الكتاب ومحور النقاشات حوله. والقضية الأساس هذه إنما تتمثل في البحث عن مستقبل جديد وواقعي لليسار في عالمنا العربي. وهي مهمة راهنة وملحة تهدف إلى تجديد اليسار، تجديد أفكاره ورؤاه وقواه ووسائل نضاله، لكي يكون قادراً على الخروج من أزمته، واستعادة دوره الضروري والأساسي، الدور الذي ساهمت الإنكسارات الكبرى من كل الجهات والإتجاهات في تراجعه إلى حدود التهميش، لا سيما في أعقاب انهيار التجربة الإشتراكية في مطالع العقد الأخير من القرن الماضي. وفي الواقع فإن كل ما نكتب، كيساريين، وكل ما نطلقه من أفكار، وكل ما يدور في رؤوسنا وفي مشاعرنا من أحلام، إنما يرمي إلى تحقيق هذا الهدف الكبير. ذلك أن اليسار هو حاجة موضوعية، وحاجة راهنة، ليس في بلداننا وحسب، بل في العالم المعاصر بمكوناته المختلفة.
وقبل أن أدخل في مهمة التعريف بكتابي موضوع النقاشات التي يضمها هذا الكتاب، أود أن أشير إلى أن هذا الكتاب الذي هو بين أيدي القراء يضم جملة قيمة من النقاشات تعددت اتجاهات أصحابها، وتعددت مواقفهم وآراؤهم وأفكارهم، حول ماضي اليسار وحول حاضره وحول مستقبله. وهذا أمر طبيعي. وقد تمحورت هذه النقاشات، في قسم أساسي منها، حول كتابي الآنف الذكر. لكنها أظهرت، في تنوعها، هماً عاماً مشتركاً يتصل بمستقبل اليسار في بلداننا، وبكيفية إخراجه من أزمته.
يتألف هذا الكتاب من أربعة أقسام. يضم القسم الأول منها وقائع الإحتفال الذي نظمه المجلس الثقافي للبنان الجنوبي احتفاءاً بالكتاب، بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية في إطار "بيروت عاصمة عالمية للكتاب". وقد أقيم الإحتفال في القاعة الكبرى بقصر الأونسكو في بيروت، وتكلم فيه عدد من المفكرين العرب والأجانب، وذلك بحضور حشد كبير من المثقفين ومن أهل الرأي من كل الإتجاهات السياسية. القسم الثاني يتضمن وقائع الندوة التي نظمها ودعا إليها مركز البحوث العربية والأفريقية، لمناقشة الكتاب ذاته. وقد أقيمت الندوة في قاعة خالد محي الدين في مقر حزب التجمع، حضرها عدد كبير من مثقفي اليسار في مصر، من كل الاتجاهات. القسم الثالث يتضمن عدداً من المقالات كتبها مثقفون من أهل اليسار في عدد من البلدان العربية، ناقشوا فيها الأفكار التي تضمنها الكتاب. أما القسم الرابع فهو التعقيب الذي أحاول فيه، أنا المؤلف، مناقشة بعض الأفكار التي وردت في مواقف الذين قدموا آراءهم وأفكارهم واجتهاداتهم حول الكتاب، وحول القضية الأساس، قضية مستقبل اليسار في العالم العربي. وإني لأشعر بعميق السعادة لكون كتابي قد ساهم في إثارة هذا النقاش الواسع حول مستقبل اليسار في بلداننا. وهو نقاش لا بد من الاستمرار فيه وتطويره والذهاب به إلى نهاياته، أي إلى تحقيق نهضة جديدة لليسار في بلداننا تعيده إلى لعب الدور الذي ينتظره، الدور الذي من دونه لن تستطيع بلداننا الخروج من أزماتها المزمنة، ومن المآزق في كل المجالات التي تتحمل تبعاته شعوبنا المقهورة، المستلبة الإرادة والمسلوبة الحقوق.
فماذا يقول كتابي "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"؟
يتألف الكتاب من قسمين. القسم الأول يضم مقدمة وفصلين. الفصل الأول يتضمن قراءتي للعالم المعاصر، في حين أن الفصل الثاني يضم قراءتي لمستقبل اليسار في عالمنا العربي وللشروط التي أراها ضرورية لنهضة هذا اليسار.
ولم تكن المقدمة في الواقع مقدمة بالمعنى المتعارف عليه للمقدمات في الكتب. فهي لم تكن تعريفاً بالكتاب، أو مدخلاً يهيء للقارئ الشروط الضرورية لقراءته. بل هي كانت محاولة لطرح أسئلة كبرى، أملتها عليَّ تجارب الحركات الثورية منذ فجر التاريخ. وقد استعرضت هذه الحركات الثورية التي حملت هموم البشرية وطموحها لتحقيق الحرية والسعادة والتقدم للإنسان، من ثورة سبارتاكوس لتحرير العبيد في الأمبراطورية الرومانية، مروراً بثورة الزنج وثورة القرامطة في الإمبراطورية العربية-الإسلامية، وصولاً إلى الثورة الفرنسية وانتهاء بثورة أكتوبر الاشتراكية.
إن الهدف من هذا الاستعراض والاستحضار لتاريخ الثورات هو طرح السؤال الكبير حول الأسباب التي قادت جميع هذه الثورات إلى الفشل، الواحدة منها تلو الأخرى، رغم أنها كانت ترتقي من ثورة إلى ثورة في الفكر وفي البرامج وفي وسائل النضال. وإذ لم أستطع أن أقدم جواباً عن هذا السؤال الكبير، فقد حرصت على التأكيد، بإطلاق، أن المهمة الأبدية المطروحة على الإنسان في عالمنا، الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، هي الاستمرار من دون هوادة في النضال من أجل تحقيق الحرية والتقدم مقرونين بالعدالة الاجتماعية لشعوب الأرض، وتحريرها من كل أشكال العبوديات، ومن كل أشكال القهر والظلم والاستغلال التي ما تزال تعاني منها منذ فجر التاريخ. وحرصت على التأكيد في هذه المقدمة، على أن لا نهاية للتاريخ، كما دأب منظرو الرأسمال المعولم على التبشير به بعد انهيار التجربة الاشتراكية.
أهمية هذه المقدمة، في اختياري لها مدخلاً للكتاب، هي أنها تمهد الطريق أمامي للدخول في متن الكتاب، وفي وظيفته الأساسية التي يشير العنوان إليها " نحو نهضة جديدة لليسار. فهي، إذ تستحضر التاريخ القديم والتاريخ الحديث لتجارب الشعوب في نضالها من أجل تحررها وتحقيق تقدمها وسعادتها، وإذ تتوقف عند الانهيارات التي شهدتها كل تلك التجارب، فإنها، أي المقدمة، تهيء القارئ لمواجهة الأسئلة التي يطرحها الكتاب على أهل اليسار في الفصلين التاليين، الفصل الذي يتحدث عن سمات العالم المعاصر، والفصل الذي يتحدث عن نهضة جديدة لليسار وعن شروط هذه النهضة.
وقد خلصت في نهاية هذه المقدمة إلى وضع شرطين ضروريين لكي يستعيد اليسار دوره وحضوره في حركة التاريخ. الشرط الأول هو أن يبادر أهل اليسار إلى قراءة نقدية موضوعية لتاريخ اليسار القديم، منذ ثورة أوكتوبر، حتى نهاية التجربة الإشتراكية. الشرط الثاني هو أن يقرأ أهل اليسار بدقة سمات العالم المعاصر بكل مكوناته، لكي يحددوا بموضوعية أفكارهم، ويحددوا بدقة المهمات التي يواجهونها في استعادة دورهم التاريخي. لكن هذين الشرطين إذا كانا ضروريين، وهما ضروريان بالتأكيد في نظري، لكي يستعيد اليسار المعاصر دوره في العالم المعاصر، فإنهما غير كافيين. إذ أن على أهل اليسار أن يبذلوا الجهد، استناداً إلى العلوم الإنسانية كلها، للإجابة عن السؤال الكبير الذي طرحته في المقدمة، حول الأسباب التي ما تزال تجعل الوعي البشري قاصراً عن الارتقاء إلى المستوى الذي يجعل البشر يكتشفون طريقهم إلى تحقيق تلك العلاقة الإنسانية الجوهرية بين الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. وقد استشهدت في الفصل الأول من الكتاب بنص لماركس مثير للاهتمام يشير إلى هذا الخلل في الوعي البشري. وهو النص الذي جاء في الكلمة التي ألقاها ماركس في لندن في يوبيل جريدة الشعب people’s paper 14 نيسان-أبريل 1856: "....في زمننا يبدو كأن كل شيء منطوياًَ على نقيضه. فنحن نرى أن الآلات التي تملك قوة عجيبة لتقصير مدة العمل البشري، ولجعله أوفر ثماراً، إنما تجلب للناس الجوع والإعياء. ومصادر الثروة الجديدة، غير المعروفة حتى الآن، تتحول، بفضل سحر ما غريب وغير مفهوم، إلى مصادر للفقر. وتبدو انتصارات التقنيات كما لو أن الانحطاط الأخلاقي كان ثمنها. ويخيل كما لو أن الإنسان قد أمسى، إما عبداً لغيره من الناس، وإما عبداً لسفالته هو بالذات، بالقدر الذي تخضع فيه البشرية الطبيعة لنفسها. حتى نور العلم الصافي لم يعد يمكنه، كما يبدو، أن يشع إلا في خلفية الجهل الحالكة. لكأن جميع اكتشافاتنا وكل تقدمنا قد أدت إلى هذا الواقع الذي يشير إلى أن القوى المادية تكتسب حياة فكرية، بينما تفقد الحياة البشرية جانبها الفكري، وتنحط إلى مجرد قوة مادية. إن هذا التناحر بين الصناعة المعاصرة والعلم المعاصر، من جهة، والإملاق المعاصر والانحطاط المعاصر، من جهة أخرى، هذا التناحر بين القوى المنتجة والعلاقات الاجتماعية في عصرنا هو واقع محسوس، ومحتم، ولا جدال فيه. وبعض الأحزاب يتذمر منه. وبعضها الآخر يريد أن يتخلص من التقنيات المعاصرة لكي يتخلص بالتالي من التناحرات المعاصرة. وبعض ثالث يتخيل أنه لا بد لمثل هذا التقدم الكبير في الصناعة أن يكتمل حتماً بتراجع في السياسة بالقدر ذاته الذي تتقدم فيه الصناعة. أما نحن، فإننا من جانبنا لا نفقد الرؤية لطبيعة هذا الروح الذي يتبدى دائماً في جميع هذه التناقضات. فنحن نعرف أن قوى المجتمع الجديدة لا تحتاج، لكي تفعل فعلها كما يلزم، إلا إلى شيء واحد، ينبغي أن يتملكه أناس جدد، وهؤلاء الناس الجدد هم العمال. والعمال أيضاً، مثلهم مثل الآلات ذاتها، هم من اختراع العصر".
وبالرغم من أهمية هذا النص الذي يطرح فيه ماركس السؤال الكبير ويقدم جواباً عنه، فإن هذا الجواب ذاته، في نص ماركس بالذات، هو جواب إشكالي ومشروط. فضلاً عن أنه، في جوهره، جواب رومانسي وطوباوي. وما أعنيه بالطابع الرومانسي والطوباوي في جواب ماركس هو إشارته المضمرة إلى النظام الشيوعي الخالي من الطبقات ومن التناقضات المتصلة بها، المجتمع الذي وضع له مع صديقه إنجلز بعض سماته التي يختلف فيها ذلك المجتمع نوعياً عن كل المجتمعات البشرية القديمة والحديثة والقادمة. وهو المجتمع الذي يتصور فيه أبوا الماركسية، ماركس وأنجلز، ويحلمان، أن الوعي البشري سيرتقي فيه إلى المستوى الذي يجعل الإنسان الفرد والإنسان الجماعة قادرين، استناداً إليه، على التخلي عن الدولة وعن وظيفتها المتصلة بالانتظام الإجتماعي عبر القوانين القسرية. إذ يصبحان، أي الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، بوعيهما الراقي المتخيل ذاك، قادرين على إدارة شؤونهما الخاصة والعامة، ويصبحان، في الوقت عينه، قادرين على تأمين حاجات المجتمع بأسره، وتأمين الكفاية والحرية والسعادة لجميع الناس، من دون أي تمييز: "من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته".
أما الإشكالية في جواب ماركس عن السؤال الكبير فتشير إليها، في قراءتي لجوهر النص، الجملة الأخيرة من النص الآنف الذكر "...والعمال أيضاً، مثلهم مثل الآلات ذاتها، هم من اختراع العصر..".
لكن ماركس لم يكتف بجوابه المشروط ذاك عن السؤال، ولا اكتفى بالحديث عن الطوبى في المجتمع الشيوعي. بل هو وضع أساساً فكرياً لمشروعه الكبير لتغيير العالم، في كتبه وفي كتاباته السياسية والاقتصادية والفلسفية، وبالأخص في سفره العظيم "رأس المال". وترك للأجيال اللاحقة أن تتابع ما بدأ به، وتستكمله في شروط تاريخية مختلفة.
وبهذا المعنى، في جوهر طرحي للسؤال الكبير وبالاستناد إلى فكر ماركس بالذات، فإن البشرية ما تزال عاجزة، حتى إشعار آخر، عن حل معضلاتها الكبرى، التي تتمحور في الأساس حول حق الإنسان في الحياة وفي الحرية وفي التمتع بالخيرات المادية وبالمنجزات الحضارية، في العلوم وفي التقنيات وفي كل ما يساهم في صنع التقدم. وبهذا المعنى أيضاً، فإن استعادة اليسار دوره في شروط العصر، تصبح ضرورة تاريخية بالغة الأهمية، استناداً إلى دروس التاريخ السابق كله، أي منذ فجر التاريخ، لا سيما بعد ماركس وبعد ثورة أوكتوبر وبعد التجربة الإشتراكية التي ارتبطت باسم ماركس وباسم لينين، وانتهت إلى الفشل وإلى الانهيار بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامها.
تلك إذن كانت مقدمة الكتاب، وتلك هي الإشكاليات التي حاولت أن أضعها أمام القراء. لكنني لم أكتف بطرح الإشكاليات وحدها. بل حاولت أن أقدم بداية تصور للطريق إلى المستقبل، كمدخل إلى الفصلين الأساسيين في الكتاب، مقروناً بنقد ذاتي للممارسات السابقة باسم الاشتراكية في الأنظمة التي حملت اسمها، وفي الأحزاب الشيوعية التي ارتبطت عضوياً بتلك الأنظمة بنسب متفاوتة.
وقبل أن أنتقل إلى عرض الأفكار التي تضمنها الفصلان الأول والثاني في الكتاب، أود أن أشرح بعض الأسباب التي قادتني إلى انتقاء تلك النصوص لكلاسيكيي الماركسية في القسم الثاني من الكتاب. وهي نصوص لماركس وأنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي. وفي الواقع فقد أردت من انتقائي الدقيق لتلك النصوص أن أشير إلى أمرين: الأمر الأول هو أنني كإشتراكي أعتبر أن أفكاري الراهنة هي وليدة تلك الأفكار، ومكملة لها في شروط جديدة، ومتجاوزة الكثير منها، في الآن ذاته. وجوهر ما أرمي إليه في هذه الإشارة إلى العلاقة بين أفكاري الجديدة وأفكار كلاسيكيي الماركسية هي أن الفكر هو تاريخي، أي أنه ينتمي إلى حقبة تاريخية معينة، ويتغير عندما تتغير الشروط التاريخية. الأمر الثاني هو أنني أردت من تلك النصوص بالذات أن أنبه القارئ الإشتراكي إلى أن هؤلاء المفكرين الكبار والرواد كانوا يستشرفون المستقبل، ويحذرون من تقديس النصوص ومن تقديس الارتباط بها، ويحضون المنتمين إلى الاشتراكية على قراءة حركة التاريخ في تطورها وفي تبدل وتغير شروطها.
وبالعودة إلى الفصلين الأساسيين في الكتاب، اللذين مهدت المقدمة لهما بطرح الأسئلة الكبرى، أحب أن أنبه القراء إلى أن هدفي من الكتاب ومن أفكاري فيه هو إثارة النقاش الذي تأخر الإنخراط فيه حول مستقبل اليسار.

عنوان الفصل الأول من الكتاب هو : اليسار وتحولات العصر، نحو نظام عالمي
جديد. ويتضمن هذا الفصل قراءة مكثفة للسمات الجديدة للعصر الراهن كما بدت لي. وهي سمات يستكمل بها العصر الجديد بعض سمات العصر السابق، ويضيف إليها سمات جديدة. وإذا كانت السمة العامة للنظام العالمي السائد هي ذاتها سمات النظام الرأسمالي القديم، فإن عولمة الرأسمال التي تنبأ بها ماركس قد أدخلت سمات جديدة إلى هذا النظام، أكدت دوام وتفاقم ذلك التناقض الكبير والبالغ الخطورة الذي يعبر عنه التقدم المذهل في العلوم وفي التقنيات الجديدة التي ينتجها الرأسمال، ويستخدمها لمصالحه في شكل متوحش يولّد المظالم والأزمات الدورية، وبين أحلام الملايين من البشر التي عبر عنها المشروع البديل لتغيير العالم الذي بشر به ودعا إليه ماركس باسم الاشتراكية، وانهار بعد ثلاثة أرباع القرن بسبب الخلل البنيوي الذي ساد تلك التجربة الإشتراكية الأولى في التاريخ.
يتألف هذا الفصل من فصول فرعية حرصت في عرضها على أن أقدم قدر الإمكان صورة واقعية لتناقضات العالم المعاصر، التناقضات التي تعبر عن الصراع الموضوعي بين اتجاهات التطور فيه، الإتجاه الذي يرمي إلى تحرير الإنسان من عبوديات الماضي والحاضر وتحقيق التقدم والسعادة له، والإتجاه الذي يمارس الإستغلال والقهر على الإنسان ويحرمه من حقوقه وحرياته وسعادته. في الفصل الفرعي الأول بعنوان "مدخل إشكالي إلى تحولات العصر" قدمت قراءتي للتحولات التي يشهدها العالم، بعد انهيار التجربة الإشتراكية، وتفاقم ظاهرة العولمة الرأسمالية العابرة للقارات، والمتجاوزة لأي نوع من الرقابة على تطورها العاصف. وفي الفصل الفرعي الثاني بعنوان "الأزمة المالية الجديدة وبعض الإستنتاجات بشأنها" توقفت عند ظاهرة الأزمة الرأسمالية في صيغتها الراهنة الناجمة عن تجاوز الرأسمال للقوانين بأنواعها المختلفة، وتجاوزه لدور الدولة ولدور المؤسسات الدولية. وهي الأزمة التي يتحمل نتائجها الكارثية، أسوة بالأزمات الدورية السابقة، القسم الأعظم من الناس في كل بقاع الأرض. وتوقفت عند بعض الإستنتاجات الناجمة عن الأزمة المالية الأخيرة التي لم تنته فصولاً. ومن بين تلك الإستنتاجات ما يتصل بالتناقض في اتجاهات التطور في ظل العولمة، بين اتجاه جنيني يبشر بنظام عالمي جديد لم تتوفر شروط قيامه، يشير فيما يشبه العودة إلى دور الدولة وإلى دور المؤسسات العالمية للرقابة على نشاط الرأسمال، واتجاه آخر يناقض الإتجاه الأول، ويعرقل ويعيق التطور نحو ذلك النظام العالمي الجديد المفترض. وقد أشرت إلى جملة من هذه العراقيل والمعوقات التي تحول دون قيام النظام العالمي الجديد الذي تحدثت عنه. وتتمحور هذه المعوقات أمام قيام وتشكل النظام العالمي الجديد في قراءتي لها في الكتاب حول أمرين أساسيين، يعبّر عنهما واقع الحال في العالم المعاصر: الأمر الأول يتمثل في أن أصحاب الرأسمال، بعد أن أصبح هذا الرأسمال معولماً، بالمعنى الموضوعي والسلبي في آن، لم يستخلصوا الدروس من الأزمات الدورية التي يولدها نظامهم الرأسمالي ويولد معها كوارث تصيبهم هم بالذات، وتصيب الأكثرية الساحقة من الناس على وجه الكوكب. وهؤلاء الرأسماليون الذين يتحكمون بالعالم المعاصر هم الثمانية الكبار والعشرون الجدد. ورغم أن بعض قراراتهم يشير إلى بعض الوعي عندهم بالكارثة التي يسببونها للعالم بسياساتهم المالية، إلا أنهم ما يزالون عاجزين عن الخروج، ولو بالحد الأدنى من سياساتهم تلك مع معرفتهم الدقيقة بنتائجها الكارثية. الأمر الثاني يتمثل في أن المتضررين من سياسات الرأسمال المعولم، وهم الأكثرية الساحقة من الناس، فقراؤهم ومتوسطو الدخل وحتى قسم غير قليل من أصحاب الرساميل، ما زالوا يعيشون في حالة ضياع وانقسام وتناقض مصالح، وتدن في الوعي، يجعلهم عاجزين عن التوحد في مواجهة ذلك الرأسمال الفالت من عقاله، وفي مواجهة سياسات أصحابه. وشرط ذلك التوحد هو أن يتم حول برنامج عقلاني ينقذ البشرية من الكوارث المتتالية. وتشكل أزمة اليسار، بصيغه ومدارسه المختلفة، والتراجع والتهميش اللذين يعيش في أجوائهما هذا اليسار، أحد العوامل التي تجعل الرأسمال المعولم يستمر في سياساته الهوجاء وفي الأزمات التي يولدها.
وظيفة هذا الفصل الأول من الكتاب، إذن، هي التأكيد، استناداً إلى وقائع العصر، بأن على اليسار أن يأخذ هذه الوقائع في الإعتبار وهو يبحث عن شروط نهضته الجديدة، التي يحاول بها أن يستعيد دوره التاريخي المطلوب، ويساهم من موقعه الجديد في تحقيق النهضة في بلاده.
أما الفصل الثاني من الكتاب، الذي يحمل عنوان "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"، فهو الفصل الأساسي الذي قدمت فيه مجمل أفكاري حول مستقبل اليسار، والشروط الضرورية، التي من دونها لن يستطيع اليسار في بلداننا أن ينهض وأن يستعيد دوره. وينقسم هذا الفصل إلى ثلاثة فصول فرعية. الفصل الفرعي الأول يحمل عنوان "مقدمات نقدية تأسيسية". وأقتطع من هذا الفصل الفرعي الفقرات التالية التي تلخص قراءتي لمفهوم اليسار في العصر الحالي:
".... وفي الواقع فإن كلمتيّ "إشتراكية" و"يسار"، في مقاربتي هذه حول تجديد اليسار في بلداننا فكراً ومشروعاً مستقبلياً، إنما تتصلان بالتأكيد، من قبلي من حيث المبدأ، بأن هذه المهمة التاريخية التي على اليسار الجديد أن يتصدى لها في الظروف الراهنة، إنما تشكل تواصلاً مع ما ارتبط في الفكر الإشتراكي، فكر ماركس، من قيم ومُثُل إنسانية، وتجاوزاً، في الوقت عينه، للكثير من المفاهيم القديمة التي مضى عليها الزمن. وإذ أشير إلى ذلك فلأنني أحب أن يعلم القارئ بأنني، فيما أقدمه من أفكار في هذا الإطار، إنما أستند إلى ما قدمته لي الحياة وتجاربي فيها، كإشتراكي مخضرم، من استخلاصات حول الجديد من المفاهيم التي ولدتها التطورات العاصفة في العالم المعاصر، والأحداث والوقائع الجديدة التي شهدتها وتشهدها بلداننا في شتى الميادين. لكنني، وأنا أتحدث هنا كإشتراكي بحكم انتمائي التاريخي إلى الإشتراكية، فإنني بت أختلف في أمور جوهرية مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس، التي شاخت وصارت جزءأ من الماضي، وتغيرت علاقتها بالعصر. لكن اختلافي هذا مع تلك المفاهيم لا يلغي ارتباطي الأساسي بما حلم به ماركس، وما دعا إليه، وما نظّر له في مشروعه لتغيير العالم، وما حفلت به كتاباته الفكرية، على امتداد حياته، من تأكيد على أنَّ الإنسان الفرد، والإنسان الجماعة، هو جوهر الحياة، وهدف التقدم في ميادينه كافة. لذلك فإنني، كإشتراكي بالمعنى الذي أشرت إليه، إنما أقارب البحث في المهمات الراهنة التي تتصل ببلداننا، وفي المهمات ذات الصلة بالمستقبل فيها، بطريقة واقعية مختلفة، في الشكل وفي المفاهيم وفي الأدوات، عما سبق لي ولأمثالي من الإشتراكيين أن امتلكناه والتزمنا به في أبحاثنا، وفي حياتنا السياسية والفكرية. وقد توصلت إلى استنتاج أساسي من التجربة السابقة، ومن ممارساتنا فيها، نحن شيوعيي تلك الحقبة، أننا لكي نكون، نظرياً ومن حيث المبدأ، إشتراكيين في بلداننا، وفي هذا العصر بالذات، فذلك يعني بالضروة، بعكس ما كان يحصل غالباً في ممارستنا السابقة، أن نحترم القوانين الموضوعية، وأن نأخذ في الإعتبار الشروط التاريخية الخاصة بالحقبة التي نحن فيها، أي الحقبة التي نحن معنيون بالحديث عنها، ومعنيون، على وجه الخصوص، بتحديد المهمات الخاصة بها في بلداننا. بل إنني أرى، كإشتراكي اليوم، بمعنى التزامي بقيم الإشتراكية وبالأساسي من أفكار ماركس التي تعطي للحرية وللتقدم وللعدالة الإجتماعية في تلازمها المعنى الذي عبّر عنه مشروع ماركس لتغيير العالم، أرى أن ما سأقترحه من مهمات للحاضر من تاريخنا وللمستقبل لا يتصل، لا في الشكل ولا في المضمون، بالقواعد التي سادت في التجربة الإشتراكية المنهارة. لكنني سأظل أستند، في الشروط الجديدة، إلى منهج ماركس المادي الجدلي. وأستبق الحديث عن هذه المهمات، التي أقترحها للحاضر في الطريق إلى المستقبل، للقول، على سبيل المثال، بأنني، أنا الإشتراكي بالمعنى النظري العام وباليوتوبيا، إنما أدعو اليوم، كمهمة لها الأولوية القصوى، إلى بناء الدولة الحديثة في بلداننا. وهي الدولة الديمقراطية بالمعنى الحديث والمتطور للديمقراطية. وهذه الدولة الحديثة الديمقراطية لن تكون، في صيغتها الدستورية، وفي وظائفها، وفي إدارتها للمجتمع، وفي الإجراءات المطلوب منها القيام بها، إلا دولة الحق والقانون (Etat de Droit)، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة تتوفر فيها للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة حقوقه وحرياته كاملة غير منقوصة. والغاية من هذا القول القاطع، في تحديد الأولويات في المهمات الخاصة ببلداننا، هو للتمييز الواضح بين طريقتين مختلفتين بالكامل في النضال من أجل التغيير. الطريقة الأولى هي طريقة ماركس الواقعية للتغيير الديمقراطي، التي يحترم فيها بدقة اختلاف المراحل، واختلاف الشروط التاريخية بين مرحلة وأخرى، واختلاف المهمات. وطريقة ماركس هذه هي الطريقة التي أنتمي في عملي السياسي إليها. الطريقة الثانية هي ما يسمى، في الأدبيات السياسية، الشعبوية، أي الطريقة التي يكتفي أصحابها بطرح الشعارات من دون أن تكون قد توفرت لهذه الشعارات الإمكانات الواقعية لتحقيقها. وهي الطريقة التي تقود أصحابها إلى المغامرات التي يحمّلون المجتمع النتائج الكارثية المترتبة عليها. يحضرني هنا مثال لينين، الذي أعلن، وهو في قمة الهرم في سلطة العمال والفلاحين، بعد أربعة أعوام من انتصار ثورة أوكتوبر، وكنتيجة للدروس التي استخلصها من الحرب الأهلية، ومن موضوعة "الشيوعية الحربية"، بأن مهمة البلاشفة كانت تقضي في تلك المرحلة، من أجل المحافظة على السلطة السوفياتية، ومن أجل تحقيق أهدافها الجوهرية المتمثلة بالحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية، بإقامة رأسمالية الدولة. ذلك أن المهمة الأساسية كانت في تلك المرحلة، بالنسبة إلى لينين وإلى البلاشفة، بناء القاعدة المادية للتقدم، القاعدة التي من دونها لم يكن في حينه مجال للحديث عن مستقبل للإشتراكية في روسيا، ولأهدافها المبتغاة في برنامج لينين... الإختلاف، إذن، بين التاريخين، التاريخ المتصل بالتجربة الإشتراكية المنهارة، والتاريخ المعاصر الذي نحن فيه، هو اختلاف طبيعي، تفرضه التطورات والتغيرات التي شهدها العالم خلال هذا الزمن الطويل بين بداية القرن ونهايته. أما الإختلاف بين الطريقتين فهو اختلاف لا مجال للمصالحة فيه. وهو ما يشير إليه موقف لينين بعد انتصار الثورة، كما أسلفت. وهو، في الأساس، ما أكد عليه ماركس حين جزم بأن أي برنامج يحمل اسم الإشتراكية ولا ينطلق من الوقائع القائمة، ولا يأخذ في الإعتبار إمكان تحقيق المهمات المطروحة فيه، هو برنامج لا صلة له بالإشتراكية. والهدف الجوهري من هذا التأكيد، عند ماركس وعند لينين، على ضرورة الربط بين المهمات وبين الواقع والإمكان، هو التحذير من المخاطر التي يقود إليها دفع الجماهير في نضالات لا توصل إلى تحقيق الشعارات والأهداف التي تخاض هذه النضالات باسمها. إذ أن ذلك من شأنه أن يؤدي، إذا ما تكرر، إلى خلق اليأس لدى هذه الجماهير من إمكان تحقيق أي تغيير في شروط حياتها. فتصبح هذه الجماهير، في ظل يأسها، أمام خيارين: فإما أن تنكفئ بانتظار السعادة التي تأتيها في مرحلة ما بعد الموت، أو أن تصبح، بفعل اليأس، أداة عمياء في خدمة قوى هوجاء، كما تشير إلى ذلك بعض نماذج من هذا الزمان، التي تمارس فعل التدمير في بلداننا على وجه الخصوص، وفعل التدمير في مناطق أخرى من العالم. وهو ما صار يعرف باسم الإرهاب.... جوهر المسألة هنا إنما يكمن في أن الشروط التاريخية هي التي تحدد المضمون الأساسي للأهداف، الأهداف التي يفترض ببرنامج التغيير أن يتضمنها في كل حقبة من حقبات التاريخ، في كل بلد من البلدان، ومنها، بالطبع، بلداننا بالذات. وهذه الشروط ذاتها هي التي تحدد القوى صاحبة المصلحة في تحقيق هذه الأهداف، وتحدد، في الوقت ذاته، أشكال النضال وأدواته ووسائطه، التي بإمكانها واقعياً، وليس بالوهم، أن تقود إلى تحقيق هذه الأهداف، كلياً أو جزئياً.... غير أن ما أرمي إليه، في هذا البحث حول المشروع الجديد لليسار في العالم العربي، هو التوسع في دائرة أهل اليسار، التوسع المستند إلى التوسع في القاعدة السياسية والإجتماعية للقوى التي تنتمي إلى اليسار، أو التي تعتبر اليسار ممثلاً لمصالحها. والأسباب الموجبة لهذا التوسع عديدة، كما أراها في قراءتي للأحداث وللوقائع الراهنة في بلداننا العربية وفي العالم، وفي المهمات التي يمكن استخلاصها من هذه الأحداث والوقائع. أول هذه الأسباب يكمن في أن التخلف السياسي والإقتصادي والإجتماعي السائد في بلداننا، الذي تعود جذوره القديمة والحديثة إلى أنظمة الإستبداد، وإلى عوامل أخرى داخلية وخارجية، هذا التخلف هو الذي يجعل من قضية التغيير الديمقراطي قضية وطنية تهم شرائح واسعة من مجتمعاتنا. أما السبب الثاني فيتمثل في أن ظاهرة الإستقطاب عالمياً ومحلياً، التي ولدها ويولدها الرأسمال المعولم، والتي تتخذ لها في بلداننا أشكالها الخاصة، قد وسعت قاعدة القوى المتضررة من هذا الإستقطاب، وجعلت قضية التغيير تتجاوز الشرائح التي كانت تنحصر في الطبقة العاملة وفي الأجراء والمستخدمين العاملين في شتى ميادين النشاط الإقتصادي وفي شتى أشكال الإنتاج في المدينة والريف.... اليساري، إذن، يمكن أن يكون متأثراً بأفكار الإشتراكية، منذ ماركس حتى اليوم. ويمكن أن يكون عضواً في حزب إشتراكي، أو شيوعي، أو في حزب قومي متأثر بالإشتراكية. ويمكن أن يكون ديمقراطياً بالمعنى الواسع للمفهوم. لذلك فاليساري، الذي أتوجه إليه في هذا البحث حول حاجة بلداننا إلى نهضة جديدة، باسم المشروع الجديد لليسار، هو كل من ينتمي إلى هذا الجمهور الواسع، الذي يريد لبلده الحرية والتقدم اللذين لا يمكن تحقيقهما إلا في النضال لإحداث تغيير جوهري في الواقع القائم، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وقيمياً. هنا، بالذات، تكمن أهمية هذا المشروع الذي أقترحه لليسار في العالم العربي، في هذه الظروف التي نحن فيها، بكل تجلياتها.... غير أنني أرى أنه سيكون من الضروري التأكيد هنا، منعاً لأي التباس، بأن أهل اليسار ليسوا أوصياء على المجتمع، ولا هم المالكون المطلقون للحقيقة، ولا تمثل برامجهم، بالضرورة، وفي كل الأوقات، كل ما تطمح إليه شعوبهم في حركة التغيير. بل أن على أهل اليسار هؤلاء، من كل المواقع والمدارس، أن يعملوا بصورة دائمة لتصويب وتسديد مواقفهم وسياساتهم، وأن يبذلوا أقصى جهدهم لإقناع الجماهير التي يمثلونها، ومجمل الشعب، بأنهم أوفياء، في الممارسة السياسية والأخلاقية، لما يقدمونه من برامج ترمي إلى تقدم أوطانهم، وإلى تحقيق السعادة لشعوبهم. لكن عليهم، في الوقت ذاته، أن يدركوا أنَّ لهم شركاء في النضال من أجل التغيير، حتى ولو لم يكونوا متفقين معهم في بعض المواقف الفكرية والسياسية".
ويتضمن الفصل الفرعي الثاني تعداد المرتكزات الأساسية التي ينبغي أن يستند إليها مشروع التغيير باسم اليسار. وهي جملة من البديهيات الأخلاقية التي لا يستطيع اليسار أن يسلك طريقه إلى التغيير من دون أن يعيد الإعتبار لها في فكره وفي برنامجه وفي ممارساته، وفي أشكال وأدوات ووسائل نضاله.
أما الفصل الفرعي الثالث فهو يتضمن القضايا التي أعتبرها مهمات اليسار في بلداننا، في الوقت الراهن، أي في هذه الحقبة بالتحديد من تاريخ العالم، ومن تاريخ بلداننا فيه، وفي الوقائع التي لا يمكن تجاوزها والقفز فوقها.

هذه القضايا وعددها عشرون قضية ألخصها بالعناوين العامة التالية:
1- بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة الحق والقانون والمواطنة وحقوق الإنسان. وهي بنظري، القضية رقم واحد في البرنامج الذي أقترحه لليسار الجديد.
2- إعادة تشكيل المجتمع المدني بمؤسساته الديمقراطية، على قاعدة الديمقراطية والتعددية.
3- الدفاع عن الوطن وعن سيادته واستقلاله ووحدة شعبه وأرضه، ضد كل أنواع العدوان والتدخل في شؤونه من أي جهة أتي هذا التدخل.
4- تحقيق التنمية الإقتصادية والإجتماعية، التي تصنع التقدم، وذلك وفق سياسات واقعية.
5- الإهتمام بالثروة الوطنية على صعيد كل بلد، والثروة القومية على صعيد البلدان العربية عموماً، لصالح التقدم وسعادة الإنسان.
6- الإهتمام بالتنمية الإجتماعية، التي تتصل بالإنسان الفرد والإنسان الجماعة.
7- الإهتمام بالضمانات الإجتماعية في كل فروعها، في العمل وفي الصحة وفي التعليم وفي السكن، وفي الأمومة وفي الشيخوخة الخ...
8- الإهتمام بالثقافة وبالمعرفة في فروعها المختلفة.
9- الإهتمام بالبحث العلمي، الذي يشكل الأساس في تحقيق التقدم.
10- الإهتمام بالتراث الثقافي في كل ميادينه.
11- الإهتمام بالشباب وبقضاياهم في جوانبها المختلفة.
12- الإهتمام بالمرأة لجهة تأمين حقوقاً في المساواة في كل المجالات.
13- مواجهة التطرف في كل أشكاله.
14- الإهتمام بالبيئة.
15- العمل بكل الوسائل المتاحة لإزالة الإستبداد في بلداننا، في كل أشكاله، وتحرير بلداننا من آفاته.
16- التضامن مع الشعب الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة لتأمين حقوقه المشروعة في إقامة دولته المستقلة على أرضه وعاصمتها القدس الشرقية.
17- الإهتمام بالأقليات القومية وتأمين كامل حقوقها.
18- السهر على توطيد علاقات التكامل بين البلدان العربية في شتى المجالات الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والعلمية.
19- إقامة علاقات مع العالم، على قاعدة السيادة الوطنية والتفاعل مع ما يجري من تطورات وتحولات.
20- إقامة علاقات تضامن وتكامل مع قوى التغيير في العالم.
تلك هي العناوين العامة لبعض القضايا التي أراها أساسية فيما أقترحه كمشروع جديد لنهضة اليسار في العالم العربي. وهو مشروع لا يستقيم إلا إذا انخرطت في نقاشه وفي بلورته، على قاعدة المبادئ الديمقراطية واستناداً إلى الوقائع القائمة، كل قوى اليسار في عالمنا العربي. وهي قوى كبيرة ذات نفوذ في وسط الفئات الشعبية، وفي وسط المثقفين، وفي وسط الشباب. لكنها قوى غير منظمة في معظمها في أحزاب. بل هي، في معظمها، ابتعدت عن الأحزاب، يسارها ويمينها. وانتظرت، ولا تزال تنتظر، من يقودها إلى المستقبل على أسس منهجية جديدة ووفق برنامج واقعي للتغيير الديمقراطي. وأزعم أن هذه المهمة هي مهمة هذا اليسار الجديد، الذي يفترض به أن يحمل هذا المشروع النهضوي الجديد للتغيير. لكن هذا اليسار، عندما سيولد بتنويعاته المختلفة، لن يكون لوحده في هذه المعركة التاريخية القادمة. بل إن عليه أن يسعى لكي يلتقي مع كل من هم معنيون بتحقيق هذه المهمة الكبرى. وفي مطلق الأحوال فإنَّ من الضروري أن يجهد هذا اليسار الجديد في البحث عن صيغ جديدة لانتظام عمله. وهي صيغ تختلف حتماً عما كان سائداً في الأحزاب القديمة. إلاَّ أنَّ من الخطأ الفادح عدم الاستفادة من الإيجابي في تجارب تلك الأحزاب، والإستفادة، في الوقت عينه، من السلبي في تلك التجارب. وعلى قاعدة ما يمكن استخلاصه من التجارب القديمة، وما يمكن استنتاجه مما هو جديد في شروط العصر الجديد، ينبغي التوصل إلى الصيغة، أو الصيغ، الأفضل لتشكيل اليسار الجديد في العالم العربي. فهذا اليسار هو المؤهل عندما سيولد لحمل راية النضال من أجل تحقيق هذه القضايا التي يمكن أن يتكون منها برنامج التغيير الديمقراطي في بلداننا. وهو برنامج تتنوع في إطاره، وفق شروط كل بلد، المهمات الملموسة الخاصة. لكن هذه الشروط لن تشكل، بالإختلاف بينها، أسواراً صينية بين مكونات هذا اليسار على الصعيد العربي. بل ينبغي لهذا اليسار، على العكس من ذلك، أن يبحث عن أشكال وصيغ للتنسيق والتكامل بين مكوناته، حول ما هو مشترك من مهمات وقضايا تهمّ بلداننا جميعاً.
هذا هو كتابي، وهذه هي، باختصار مكثف ومتعسف وناقص، أفكاري الأساسية فيه، التي اجتهدت في اعتبارها، من وجهة نظري، الأسس الضرورية التي تضعنا على الطريق في اتجاه نهضة جديدة لليسار في عالمنا العربي. وهو اجتهاد، مجرد اجتهاد، ومحاولة، مجرد محاولة، من يساري مخضرم، أستند فيهما إلى تجربتي الطويلة، تجربة عمري كله، في الصواب فيها وفي الخطأ، وذلك من أجل العمل والنضال داخل أطر اليسار، لتحقيق الهدف الكبير الذي يعبر عنه ويدل عليه عنوان الكتاب.
وبالتأكيد فإن أحداً لا يستطيع ادعاء امتلاك الحقيقة لوحده، ولا يستطيع ادعاء امتلاك الرؤية للمستقبل لوحده. فلنعمل معاً، من مواقعنا المختلفة، لإخراج اليسار من الحال الذي هو فيه، إلى المستقبل. ولا سبيل أمامنا سوى البحث والنقاش والإجتهاد، والإعتراف كل منا بالآخر، وعدم إطلاق الإتهامات، يساراً ويميناً، وفي اتجاهات شتى، على من نختلف معهم. فالحرية، حرية الرأي والفكر والعمل، ينبغي أن تبقى على الدوام قاعدة أساسية للعلاقات بين الناس، لا سيما بين من يعتبرون أنفسهم أصحاب مشروع عظيم لتغيير العالم باسم اليسار، في الإتجاه الافضل والأرقى والأكثر حرية وتقدماً ومساواة وسعادة للبشر.

القسم الأول

حوارات من بيروت

صقر أبو فخر طارق مترى- إريك رولو
فيصل دراج- الطاهر لبيب
أنور مغيث- حبيب صادق- نبيه عواضة
مارسيل خليفة

تقديم: بيروت تحتفي بيسارها

صقر ابو فخر
باستثناء كريم مروة ربما كان من المحال على أي يساري أن يجمع، في يوم الأحد، هذا الحشد المتنوع من النخب الثقافية والسياسية في مدينة لاهية مثل بيروت: يساريون من مشارب شتى، ويمينيون من صنوف مختلفة، ومثقفون تقدميون وليبراليون احتشدوا أمس في القاعة الكبرى للأونيسكو ليحتفلوا بصدور كتاب "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" (دار الساقي، 2010)، وليكتشفوا أن هذا الشاب الثمانيني، أي كريم مروة، لا يزال يحوك، بدأب النملة، خيوط مشروع فكري سيستغرق ربع قرن من الزمن؛ هكذا قال لي قبل نحو عشر سنوات، واعتقدت حينذاك أن هذا الكلام لا يُحمل إلا على محمل الأمل والتفاؤل، لأكتشف لاحقاً، وبالتدريج، أن كريم مروة فقأ حصرمة في عيون الكسالى، واصدر، خلال هذه الفترة، ما لا يقل عن عشرة كتب.
غاب الشيوعيون اللبنانيون، إلا القليل منهم. وهؤلاء جاؤوا بصفة شخصية، وكان ذلك لافتاً ومريباً. وحضر تقدميون عرب ليكونوا الى جانب أحد أبرز أعلام اليسار العربي في حقبة الزهو الثوري في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين. ولم نتمكن من التقاط أي مسؤول فلسطيني ممن يتسابقون في كل يوم على تصدر المسيرات المكرورة ولو كانت دعماً لقناديل البحر. ومهما يكن الأمر فإن هذا اللقاء البهيج قد قال ما أراد بالرياح المعاكسة لمسيرة الانسانية. وجمع ما كان من المحال جمعه في حقبة سابقة: صادق جلال العظم وجوزف أبو خليل على سبيل المثال.
إنه يوم جميل من أيام "بيروت عاصمة عالمية للكتاب" منحه لنا المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية. ولعلها من اللحظات النادرة في تاريخ الثقافة في لبنان أن تحتفي مجموعة من الناس بصدور كتاب راقٍ من دون أي غاية تسويقية أو ما يماثلها من المقاصد المكشوفة أو الخفية. وهذه الفضيلة تجلل ليس كريم مروة وحده بل المجلس الثقافي للبناني الجنوبي أيضاً، وحبيب صادق بالتحديد، ولا نستثني بالطبع المثقف الألمعي الوزير طارق متري.
افتتح الإحتفال الدكتور سناء أبو شقرا بكلمة موجزة بدأها بالإشارة إلى القدرة المذهلة عند كريم مروة على التفاؤل، يدفعها اجتهاد لا يتعب وهمة شابة، مجنحة تتوسل حدود المعجزة، بالمعنى الذي يشير إلى أنه لا حدود للوهم. ويتابع أبو شقرا مشيداً بجهد كريم من أجل تجديد اليسار لا بالقطع بل بالتجاوز بالمعنى الجدلي للتجاوز.
وكانت الكلمة الأولى للوزير طارق متري الذي قدم قراءة معمقة في الكتاب، فرأى فيه دعوة متجددة الى فهم الواقع، متحررة في الوقت نفسه من الأيديولوجيا، ومن إرث النظرة الثنائية الى العالم على غرار "رؤية بوش" أو "رؤية بن لادن". واكتشف أن في الكتاب يوتوبيا يستعين بها الكاتب لا بوصفها خيالاً، بل مدى للأمل، أي أن الحلم والواقعية لا تتناقضان في هذا السياق بل يتكاملان. وقال إن هذا الكتاب يعيد الإعتبار للسياسة ويضع بناء الدولة في مقدمة الأولويات؛ دولة ديموقراطية لا دولة متسلطة. ولاحظ ان الكتاب يفرِّث الهدف عن الطريق الى الهدف، مع رفض للعنف كوسيلة للوصول الى الهدف. ووصف كريم مروة بأنه "مفكر حق ومناضل حق ومجدد حق"، ورأى ان صدقية كتابه تنبع، أولاً وأخيراً، من كتاب حياته.
ثم ألقت سلوى سعد كلمة إريك رولو (فرنسا) الذي تغيب لاسباب خارجة عن الارادة، والذي حاول ان يستكشف عناصر تراجع اليسار في العالم، فلاحظ أن اليسار كان يحكم معظم دول الاتحاد الأوروبي في سنة 2002، أما اليوم فقد تراجع كثيراً. وقال إن عجز الاشتراكية الديموقراطية هذا ناجم عن عجزها عن مواجهة مشكلات العولمة.
أما فيصل دراج (فلسطين) فقد شهد لكريم مروة بإلحاحه على النقد. فهو منذ سبعينيات القرن العشرين ما فتئ يكتب عن أزمة حركة التحرر الوطني العربية، لكنه بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، انعطف الى تقصير المسافة بين الاشتراكية والليبرالية. وهذا الكتاب الجديد إنما هو استئناف لكتاباته السابقة، لكن بلغة جديدة. وقال إن كريم مروة يعتقد ان أي نهضة ممكنة لليسار تتضمن نهضة لليمين في الوقت نفسه لأن لا يسار بلا يمين. وفي الحالين فإن شرط أي نهضة هو وجود مجتمع ديموقراطي ونظام سياسي ديموقراطي. لكن دراج تساءل: كيف يمكن أن ينهض اليسار في مجتمع عربي بلا سياسة، وفيه نظم طاردة للسياسة؟ وفي جميع الأحوال فإن اليسار ـ بحسب دراج، ضروري للعالم لأنه يعني تنظيماً للنقد الجماعي، وكتاب كريم مروة هو دفاع عن أفكاره الثابتة لكن بأشكال متغيرة.
رأى الطاهر لبيب (تونس) أن الكتاب يتضمن معرفة ومشروعاً، لكن لغته كانت هادئة جداً؛ "هدوء مستفز غير شائع في الكتابات اليسارية. وقارن بين اليسار العربي واليسار الفرنسي، فرأى أن خلف اليسار الفرنسي ثمة إرثاً كبيراً جداً هو إرث فلسفة الأنوار وتراث الثورة الفرنسية وتراكم فكري هائل. واستنتج ان المقارنة الجدية بين اليسارين غير ممكنة، ومع هذا فإن ما أنجزه اليسار العربي معرفياً، في تاريخه المحدود، كان، على صعيد الفكر السياسي، أرقى بكثير مما أنجزته التيارات السياسية الأخرى، ولا يقل أهمية عما أنجزه اليسار الأوروبي. ولهذا استغرب الطاهر لبيب كيف ينكل اليساريون بتاريخهم مع أن أهم مثقفي المرحلة الماضية كانوا يساريين.
وتحدث أنور مغيث (مصر) الذي لاحظ بدوره ان لغة الكتاب هادئة على عكس الكتابات اليسارية التي هي إما تنديدية أو استنفارية. واضاف بالقول إن الكتاب يتضمن مراجعة لبعض المفاهيم الماركسية مثل العنف والثورة ودور الطبقة العاملة في عملية التغيير، ورغبة في ان يستكمل اليسار بنفسه المشروع النهضوي العربي، هذا المشروع الذي يمكن حصره اليوم بنقاط ثلاث هي: الوقوف ضد الاستبداد، وبناء دولة المواطنة، والعلمانية.
ثم قدم الأسير المحرر نبيه عواضة كلمة اعتبر فيها المقاومة فناً مبدعاً، وتساءل: هل الأزمة التي يعيشها اليسار اليوم هي أزمة يسار في مواجهة مشكلات العصر، أم أنها أزمة يساريين لم يتمكنوا من تجاوز إخفاقاتهم؟
ثم تكلم حبيب صادق فرأى ان كريم مروة كان أحد ثلاثة أعلام في الفكر اليساري في لبنان. والأثنان الآخران هما: حسين مروة ومهدي عامل. وقال إن هاجس كريم مروة يبقى هو هو، أي التغيير.
أما صاحب الكتاب فقال إن أخطاء كثيرة ارتكبها اليسار، ولا بد من نقدها. ولو لم يكن الغلط فادحاً لما كان حالنا على ما هو عليه الآن. لكنه أكد أن من دون اليسار لا تغيير على الاطلاق.
وكانت خاتمة الحفل كلمة متلفزة لمارسيل خليفة، عاد فيها بالذاكرة الى عمشيت وإلى زمن الأحلام الجميلة والتطلعات المتوثبة، وتحدث عن علاقته بكريم مروة وبدايات العمل السياسي المشترك، وغنى "يطير الحمام، يحط الحمام".
أثارت بعض الكلمات مناقشات متشعبة بعد نهاية الاحتفال، ولا سيما كلمات طارق متري والطاهر لبيب وفيصل دراج. وكان لا بد من متابعتها على طاولة الغداء في مطعم الجسر التي شهدت كثيراً من الآراء والأفكار المتصلة بهذا الحفل.، وبالكتاب وبأفكار ورؤى كريم مروة.

تجديد اليسار بالتجاوز وليس بالقطع

د.سناء أبو شقرا
أستاذ جامعي (لبنان)
(افتتح الدكتور سناء أبو شقرا الاحتفال بالكلمة التالية وقدم الخطباء:)
في ليل الأزمات ينحت كريم مروة مسارب للأمل وكوى" للحلم. انها لقدرة مذهلة على التفاؤل، يدفعها اجتهاد لا يتعب، وهمة شابة، مجنحة تتوسل حدود المعجزة – أقول المعجزة لأنني لا اؤمن بحدود للوهم.
لم يفارق مشروع تجديد اليسار، فكرا" وممارسة وتنظيما"، عقل كريم منذ كان أحد قادة هذا اليسار البارزين. كتب، وناضل، وثابر، محاولاً تقصي أسباب الفشل في مواجهة التحديات الجديدة دائما". وها هو اليوم يضيىء، مع شمعة الثمانين، نجمة جديدة يضيفها الى كوكبة أعماله الفكرية.
لن أناقش في هذا التقديم السريع مضمون الكتاب وقضاياه. سيكون نقاش، ونأمل أن يساهم فيه كثيرون. هنا أكتفي فقط باشارتين :
الأولى هي أن تجديد اليسار أو بناء يسار جديد هما، بالنسبة لكريم، تعبيران عن معنى واحد في نهاية المطاف، حتى لو كان التعبير موضع جدل، وحتى لو كان الاختلاف يذهب أبعد من اللغة الأبجدية الى لغة الترميز الواسع. هو لا يحب أن يقطع بل ان يتجاوز، بالمعنى الجدلي الايجابي لفكرة التجاوز. ثم هناك امتلاء الذاكرة، وهناك الحنين الانساني، وهناك الأهم : التواضع. فتوليد الجديد أبوة تحمل تعسفا وادعاء بعيدين تماما" عن بنية كريم النفسية والذهنية. همه أن يحفز اليسار، قائما" أو آتيا" من الغد، لأن يكتشف في نفسه عناصر الحياة، والقدرة على ابداع نماذج اجتماعية وفكرية تستجيب لضرورات المواجهة في المرحلة الراهنة من تطور العالم والرأسمالية.
الثانية اشارة من بنية البحث : عندما يثقل المؤلف كتابه بنصوص مختارة من كلاسيكيات الفكر الماركسي – وهي بالمناسبة نصوص جميلة وحاضرة – فليس لأنه يقترحها مرجعية جديدة لمنظومة ايديولوجية ليسار ما، بل للتمثل بكون ماركس تعامل مع فكره – ودعا الآخرين لأن يفعلوا – ككتابة مفتوحة على الاحتمالات، ونقد مستمر من الفكر للفكر نفسه، حين يمتحن ذاته في تجارب الحياة.
أجمل وأرقى الأفكار لا تعدو كونها تأطيرا" باهتا" للحظات عابرة من الانساني، الحي، الباحث أبدا" عن العدالة والحرية في دروب التاريخ والمستقبل.
محاولات اصلاح كثيرة فشلت عبر التاريخ، لكنها تركت، كلها، معالم وبصمات. واذا كانت محاولات القرن العشرين التي أعلنت نفسها اشتراكية، قد قصرت عن أهدافها المعلنة، الا أن بصماتها على التاريخ كانت اكثر عمقا" وتأثيرا"، لأن منظومات القيم اكتسبت هذه المرة قدرة أعلى على التحقق عبر التصاقها المباشر والواعي بالصراع الاجتماعي،من جهة، وبارادة الناس في تقرير مصائرهم من جهة ثانية، بعيدا" عن اية قوى متعالية عن المجتمع، غامضة الأهداف، أو مجهولة الدوافع. مع ماركس الصراع بات مكشوفا" والتاريخ شفافا".
ذلك هو كريم في كتابه الجديد. حامل القيم عينها التي تخاطب عقل ونضال الملايين من البشر للخروج من غابة الاستغلال، والتخلف، والجشع، وشهوات السلطة الى مجتمع جدبر باسم الانسانية.

إعــــــادة الاعتبار إلــى السياســة

وإلى الثقافة والأخلاق في السياسة

د. طارق متري
وزير الإعلام اللبناني
يدعونا كريم مروة إلى فهم متجدد لواقعنا، العربي واللبناني، على نحو يتحرر من أسر الإيديولوجيا والأفكار المسبقة، ومن الإيديولوجيات على اختلافها، لا سيّما تلك الطالعة من نظرة ثنائية إلى العالم، من الكون إلى محلياتنا الصغيرة، ومن جورج دبليو بوش إلى أسامة بن لادن وكل من حذو حذوهما في التعميم والإختزال وشيطنة الخصم. وفي هذا الفهم محاولة للإبتعاد عن الأحكام القيمية المستندة إلى نسق مجرد من الأفكار حسب ما جاء في نص غرامشي الذي نقرأه في آخر الكتاب.
ويجعل صاحبنا من الدفاع عن حقوق الإنسان قضية النهضة الأساسية ويقول بمحاذرة الإنزلاق إلى الشعبوية والمغامرة، اللتين تيسران أو تسوغان الإستهانة بها. غير أنه يدرك أن المسالك التي يحاول فتحها تبدو وعرة، لا بفعل العوائق التي تضعها جدلية الإخفاقات الإشتراكية وتحولات العصر الكبيرة فحسب، بل أيضاً بفعل بعض المواقف السياسية والخيارات الفكرية لليسارين القديم والمحدث أو المستحدث.
ويستعين على الوعورة بالأمانة للواقع، وهي عنده التزام أخلاقي، فضلاً عن كونها مسألة معرفية، بحيث لا تستولي الغرائز على إعمال العقل ولا يتفوق تقديس النصوص وضعها خارج الجدل، على التساؤل والتردد والنقد. ويستعين أيضاً بنوع من اليوتوبيا، لا بوصفها خيالاً أو طلباً للمحال، بل بوصفها مبدأ للأمل، متصالحاً مع فكرة التغيير الديمقراطي، وعلى مراحل. فلا يكون الحلم والواقعية على طرفي نقيض، بل لكل مجاله واستقلاله عن الآخر وان من دون انفصال، على غرار العلاقة بين الأخلاق والمعرفة. ويستعين ثالثاً بالعودة إلى البديهيات التي لا تعفينا بداهتها من ضرورة إزالة الغشاوات والإلتباسات التي تحيط بها من غير صوب.
وينطلق في رسم الملامح العامة للمشروع الجديد لليسار في العالم العربي من إعادة الإعتبار إلى السياسة. ويضع بناء الدولة في مقدمة القضايا. فالسياسة عند كريم مروة ليست "خناقة شرقية"، كما يسميها ياسين الحافظ، لا يعرف الكثيرون كيف بدأت ولا يعلمون متى تنتهي، بل هي تتعدى مجرد صراع على السلطة، يتوسل المضامين الثقافية والإجتماعية والإقتصادية. وتشترط إعادة الإعتبار هذه تحرير العمل السياسي من الآفات الشائعة في بلداننا باسم السياسة، أي النفاق والخداع والتزوير والعناد والإفساد وإثارة الغرائز، والتي يعرفها أهل اليسار كسواهم، وفي بعض الحالات أكثر منهم.
كما تتلازم عنده مع احترام التنوع وحق الأفراد والجهات في التعبير عن اختلافها ويدفعه ذلك إلى الدعوة إلى القطيعة مع ممارسة سادت لدى المجموعات السياسية، لا سيما الحركات التقدمية، والتي أعطت نفسها حق اتهام من يعارضها وقمع المختلف وتخوينه وممارسة العنف ضده، الفعلي والمعنوي، وذلك باسم امتلاك الحقيقة واحتكارها. ولعله في ذلك يضع تحت السؤال القاسي تلك النظرية المعرفية التي يحسب أصحابها أن منظومة أفكارهم علم فيما هي ايديولوجيا أو وعي زائف عند سواهم.
كما يضع تحت السؤال ذاك المفهوم للدولة الذي لا يعترف باستقلالها، وإن نسبياً، عن الطبقات الإجتماعية والقوى السياسية. ويرى، على هذا الأساس، ضرورة الفصل في الفهم والممارسة بين الدولة كمؤسسة دستورية والسلطات التي تأتي بالإنتخاب إلى موقع القرار فيها وتتغير تغيراً دائماً. لذلك فإنه يشدد على أولوية بناء الدولة، الدولة الديمقراطية الحديثة، دولة الحق والمواطنة. ورغم أنه لا يشير إلى لبنان على نحو مباشر، لا يسعنا إلا التشديد معه على هذه الأولوية، لأسباب كثيرة لا يعوزها البرهان، وفي سياق سياسي حيث لا يجد البعض حرجاً في أن يبقى مشروع الدولة معلقاً والبلد بمثابة أرض منازلة، لا مجرد مواجهة لعدوان إسرائيل المتمادي.
وفي سياق داخلي متصل، يثير كريم مروة، بلغة لا لبس فيها، سؤال العلاقة بين الهدف المبتغى تحقيقه من النضال والطريق إليه. ويبدو أنه، في ما يشبه القطع على حد قوله، أن العنف بكل أشكاله لم يعد صالحاً كوسيلة نضالية من أجل التغيير المنشود.
والسؤال عن تلك العلاقة هو في حقيقة الأمر دعوة للإنسجام بين الغايات النبيلة والوسائل المتعددة للوصول إليها. وهو بالوقت نفسه دعوة للمواءمة بين القيم والعمل من أجل سيادتها في كل الميادين. فلا ديمقراطية من دون ديمقراطيين، ولا تجاوز للطائفية من دون لا طائفيين. فالديمقراطية ليست مجرد خصائص للنظام السياسي بل ممارسة في نواحي الحياة كلها. والطائفية لا تكون بغيضة عند المطالبة بإلغائها ومشروعة عند استثمارها في التعبئة كما في الصراع على السلطة.
أيها الأصدقاء،
يخاطبنا كريم مروة، المثقف الحق والمناضل الحق والمجدد الحق، بقدر عال من النزاهة الفكرية، أي من الصبر والشجاعة، ولا يفارقه التواضع، تعززه الخبرة والمعرفة والرصيد المعنوي ولا تقوى عليه. ولا يخفى على من يعرفه، بل على من يقرأه أيضاً، أن صدقية كتابه تنبع من كتاب حياته، من حاريص إلى صور وبيروت وبغداد وبودابست وفيينا وموسكو. وها نحن اليوم شهود لها.

أزمة اليسار في كل مكان

د. إريك رولو
سفير سابق وكاتب فرنسي
مع استحالة مشاركتي اياكم هذا النهار، وهو ما كان سيسعدني ويشرفني، ومع رجائي بأن تقبلوا اعتذاري عن الغياب، أسمح لنفسي بأن أقدم ملخصا" لمداخلة كنت أنوي تقديمها.
موضوع اليسار شديد الحضور والإلحاح، ليس في العالم العربي وحده. فاليسار، بجميع مكوناته، يجتازأزمة عميقة في أوروبا كذلك.
فرنسا، مثلا"، تقودها حكومة هي الأكثر يمينية منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، أي منذ نصف قرن. ونجاحها في الانتخابات انما كان يشير الى التحول الحاصل في الرأي العام. فالحزب الشيوعي الذي كان يمثل ربع الهيئة الناخبة في سنوات ما بعد الحرب هو اليوم في موقع هامشي مع نسبة تصل بالكاد الى خمسة بالمئة. والحزب الاشتراكي الذي خسر السلطة منذ ثماني سنوات، مهدد بخسارة الجولة الرئاسية القادمة، رغم النجاح الذي حققه في الانتخابات البلدية الأخيرة. فانقساماته، وعجزه عن اقتراح برنامج بديل عن برنامج اليمين حتى الآن، قد يؤديان في الواقع الى خسارة جديدة.
وتبدو خسارة اليسار شديدة الوضوح على مستوى الاتحاد الأوروبي بمجموعه. سنة 2002 كانت الاحزاب الاشتراكية الديمقراطية تحكم أكثر من نصف دول الاتحاد، أي خمسة عشر دولة، في حين لم يبق منها اليوم سوى خمسة غير مضمونة الاستمرار. الليبرالية الجديدة التي غذاها تشكل الاتحاد تتوسع، وتزداد رسوخا".
عديدة هي أسباب أزمة اليسار الأوروبي، ولاتزال تحتاج الى أن تتحدد بدقة. علما" أن كثيرا" من المحللين يعتمد مقولة أن انهيار الاتحاد السوفياتي بخّس فكرة الاشتراكية نفسها. لكن عجز الاشتراكية الديمقراطية، من جهة ثانية، عن تقديم حلول للمشكلات التي تولدها العولمة، يفسر بلا شك ما يصسبها من خيبات.
أما عن أسباب وأسس أزمة اليسارالعربي، فان كتابات كريم مروة الكثيرة توفر مادة توثيق جديرة باهتمام كل الذين يعزعليهم بناء الديمقراطية في البلدان العربية وتطورها. في هذا الخصوص، يبدو لي أن هناك كتابين لا غنى عنهما لفهم مقولات المؤلف:
الكتاب "في البحث عن المستقبل"، الذي صدر في العام الماضي يلقي الضؤ على تطور فكر كريم مروة، الذي غادر موقعه القيادي في الحزب الشيوعي اللبناني ليتحول الى كاتب متحرر من قيود التنظيم، فيحلل ماض تغيّر، ويستكشف، في غنى تجربته الخاصة، آفاق المستقبل. وذلك هو جوهر مؤلفه الجديد الصادر هذه السنة بعنوان "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". ويبرهن هذا النص على أن التغيرات العميقة التي جرت في العالم على كل المستويات تستوجب بإلحاح مراجعة شاملة لبرامج اليسار وستراتيجياته وتكتيكاته. وتؤكد قراءة الكتاب أن مشروع التحديث الطموح هذا لا يمكن أن يتحقق الا في اطار من الديمقراطية المتقدمة.
بديهي أن يكون استشراف المستقبل أكثر مشقة من تحليل الماضي، بخاصة وأننا نعيش مرحلة انتقال لا نعرف مساراتها وغاياتها. لا بد اذا" من أن نأمل بأن يتحلى مفكرون آخرون بالجرأة اللازمة لصياغة مقترحات قادرة على المساهمة في تجديد اليسار. وهنا تكمن أهمية مداولاتكم التي يؤسفني مجددا" ألاَّ أكون مشاركا" فيها.

كريم مروة القلق والمقلق

د.فيصل دراج
باحث وناقد (فلسطين)
الحديث عن كريم مروة حديث عن القلق والإقلاق الفكريين، وحديث عن هوية، لا تستمر في الحياة إلا إذا تجدد، فكرياً، المنتمون إليها.
منذ منتصف السبعينات الماضية، وما تلاها، كتب كريم في مجلة "الطريق" الراحلة عن أزمة حركة التحرر الوطني العربية. وكتب، بعد سقوط التجربة الإشتراكية، عن التجدد الفكري وحوار الأيديولجيات، والحوار المحتمل بين العلمانيين وغيرهم، ووصل إلى اجتهاد مضطرب، قصّر المسافة بين الإشتراكية والليبرالية. كان يقول في مسعاه: أنا أفكر إذن فأنا موجود، وأنا أقترح فأنا موجود، وأنا أفكر وأقترح من وجهة نظر هويتي، هوية اليسار.
يستأنف في كتابه الجديد "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" ما بدأ به منذ عقود. ويستأنف إقلاقنا، متفائلاً، في زمن عربي تخفف من الحركة والتنفس. ربما هذا دوره، فقد كان حزبياً لعهد طويل، والحزبيون متفائلون بطبعهم. غير أنه وهو يطرح، متفائلاً، ما يقترحه لا تغيب عنه صعوبة الطريق. ولهذا قال: "نحو"، مشيراً إلى بداية مقترحة، لايعلم نهايتها إلا الله. ولهذا أيضاً عهد، في كتابه، إلى اليسار المبشر به بمهمة "بناء الدولة"، التي تحتاج إلى يسار بصيغة الجمع، وإلى يمين ويسار، وإلى يمين بصيغة الجمع أيضاً.
ومع أنه يدعو إلى نهضة اليسار فهو يدعو، ضمنياً، إلى نهضة اليمين، إذ لا يسار بلا يمين، ولا يسار ولا يمين، وهما فكرتان سياسيتان، إلا بفضاء سياسي ديمقراطي لا وجود له في العالم العربي. وقد يقال إن اليمين موجود. وهذا القول، بالمعنى السياسي، ليس صحيحاً. فالسلطات العربية لا تقبل بالسياسة ولا تمارسها، منذ أن طردت مبدأ الهيمنة بمبدأ القمع، والجماعات المتعصبة، التي "تحتكر الإيمان"، ترمي بالسياسة خارجاً، منذ أن قرر المؤمن، وهو فكرة مجردة، أن يطرد فكرة "المواطن" والمجتمع.
يبدأ مروة من نهضة اليسار التي تتضمن، منطقياً، نهضة اليمين، ويعطف عليهما فكرة بناء الدولة، داعياً إلى الحداثة الإجتماعية، التي تتضمن الديمقراطية والسياسة والمواطنة ودولة القانون والإلتزام بقضية فلسطين، التي تعبّر عن العجز العربي قبل أن تحيل على الضياع الفلسطيني. وإذا كان في الدعوة إلى نهوض اليسار وضوح مجزوء، فإن الربط بين توليد اليسار المنشود وبناء الدولة العربية المنشودة فيه من الألغاز شيء كثير.
هنا يبدو كريم مروة قلقاً ومقلقاً، وهنا يلتحف بفضيلتين كريمتين، ويتطلع إلى حلول، ممكنة ربما، ومؤجلة كثيراً على الأرجح. فهو قلق يتحدث عما يجب أن يكون، وهو مقلق في طرح الأسئلة: كيف نستولد السياسة من مجتمع عربي أبوي طارد للسياسة، وكيف يخلق يسار في مجتمع ما قبل- حداثي، وكيف تنجو فلسطين من "سطوة" العجز العربي وبربرية الإحتلال الصهيوني؟ تحيل هذه الأسئلة على رهان ما، وعلى إرادات ما، وعلى مستقبل ما قد يأتي وقد لا يأتي.
لازمت فكرة الرهان الإيطالي ميكيافيللي حين سأل: كيف يمكن توليد إمارة جديدة من إمارة غائبة؟ ولازمت طه حسين حين سأل كيف يمكن توليد مجتمع تظلله المعرفة من مجتمع تكتسحه الأمية وتسوسه سياسة فاسدة؟ نجح الأول وأخفق الثاني وبقيت فكرة الرهان، التي تمسك بها رومانسيون قدامى وجدد، اعتقدوا أن "مبدأ الأمل" يروض الحاضر والمستقبل معاً. ولهذا لا يزال كريم مروة، كما غيره من النهضويين العرب، يقتفي آثار طه حسين، وإن أخذت الخطى المتعبة،هذه المرة، صيغة اليسار، لا صيغة النهضة، وهما متماثلتان على أية حال.
وسؤال مروة هو: هوية اليسار، التي تختلف فيها الفكرة عن التطبيق. فللأفكار الممتدة من عبد الرحمن الكواكبي إلى غرامشي، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل، فضاؤها المجرد الخاص، وللتطبيق حيز آخر يتضمن الشرف والمعاناة والإنحراف والإنحدار أيضاًً.
قد يكون في حديث مروة ما يدفع إلى طرح أسئلة ثلاث: متى كان اليسار العربي، في عمله السياسي، يسارياً، ومتى كان هذا اليسار نفسه، في العمل السياسي، يمينياً. ما الذي يمكن استئنافه من تاريخ اليسار الذي وقع في أكثر من خطأ، وقدم مساهمة واسعة في الثقافة وتحديث الثقافة العربية؟ وثالث الأسئلة هو: ما هو شكل اليسار المقترح اليوم، في سياق عربي قطع كلياً مع السياق السابق الذي أعطى ظاهرة حداثية منها ولادة اليسار العربي؟
مهما تكن الإجابة فإن وجود اليسار العربي كان ضرورة في الماضي، ولا يزال ضرورياً لمستقبل العالم العربي، رغم دعاة الإستثنائية العربية، الذين يضعون المجتمعات العربية خارج التاريخ.
اليسار، في التحديد الأخير، هو النقد الوطني البناء من وجهة نظر الحداثة الكونية والتحرر الوطني، والدفاع عن فلسطين من دون أوهام، وهوية اليسار من تنظيم النقد الجماعي، الذي يعثر، بعد زمن، على أشكال الحزبية الملائمة.
كريم مروة إنسان موقف، ومثقف قضية، يدافع عن أفكاره الثابتة بأشكال متغيرة، ويسأل ويسائل غيره، مدفوعاً بصدى من الماضي يقول : ما العمل؟

اليسار العربي: ملابسات النقد والنقد الذاتي

د. الطاهر لبيب
باحث اجتماعي (تونس)
يجمعنا، اليوم، حول كريم مروّة، كتابُه عن نهضة جديدة لليسار العربي، كتَبه ﻜ "اشتراكي مخضرم، من موقعه المستقِل راهنا"، على حد تعبيره. في الكتاب معرفةٌ وتجربة ومشروع تغيير، باسم اليسار، وفيه، فوق كل هذا، هدوءٌ مستفِزّ بعدم استفزازه: فأنت لا تصل إلى رأي قد تخالفه فيه إلاّ وقد هدّأتْ من رأيك مفاهيمُ العقلانيّة والموضوعيّة والنسبيّة وما جرى مجراها... في الكتاب، إذاً، حِنكة وحكمة. ومهما يكن، فمزيّة الكتاب الأولى هي في سعة ما يتّسع له النقاش. وممّا يتسع له، ضِمناً، إذ تحاشى الخوضَ فيه، قديمُ اليسار الذي ساد نقدهُ ونقده الذاتي، باسم الجديد أو من دون جديد. ملاحظاتي هي، إذاً، في اتجاه ماضٍ، من الظلم أن يتخلّى عنه حاضرٌ ليس هو، بالضرورة، أفضلَ منه.
إن كان لليسار أن يعرَّف فالتجاوز من أكثر الكلمات شمولاً وكثافة. لها مُلحقاتها، طبعاً: أن تكون الحركة تقدّماً وأن لا تحمل وعياً زائفاً، وأن تكون غير ذلك مما ألِفت قولَه نُصوصُ اليسار. وإذا ذهبنا بالاستعارة بعيداً، قُلنا، على وجه الكناية: إذا كان في الواقع القائم "جنّةٌ" فوجهة اليسار جنّةٌ أفضل. وللجنّة الفضلى أسماءٌ كثيرة وسبلٌ متوازية أو متقاطعة، أكثرها جذباً وسراباً تسمَّى إيتيوبيا. ويبدو – وهذه مفارقة – أن سبلاً ومسارب كثيرة امًّحتْ، وبقيت الايتوبيا يترجرج سرابها، صوراً وحنيناً. السبب، في ما أرى، أن للإيتوبيا، وللسراب أيضاً، وجهاً تراجيديّاً لم تُمحَ ملامحُه، منذ بداية الأساطير. من هذه الملامح ما يوحي ﺒ "البطولة الإشكاليّة"، كما رآها لوكاتش: بطولةِ من يصرّ على مواجهة المستحيل، وهو يعلم أنه مستحيل. لنختم التعريف، إذاً، بأن التجاوز قد يكون نحو المستحيل: مستحيلِ اللحظة، إذ لا مستحيلَ، تاريخيّاً، في المطلق.
اليسار العربي الذي كان، هذا الذي نعرّفه في الماضي حديثُ عهدٍ، ولحظته قصيرة. قد يعود به بعض العرب إلى أوائل أجدادهم، ولكنّ المواربة، مهما كانت حيلتُها، يصاحبها شؤم اليسار في حقول الدلالات القديمة: إنه شؤم الخروج من وعلى، شؤم الفتنة، وقبل ذلك شؤم من أُوتيَ الكتابَ بشِماله. شِمال الجزيرة نفسُه بحرٌ وهلاك.
معلومٌ ما تناثر وتباعد، عبر العصور، من بؤر التنوير والإحتجاج، ولكنّ اليسار العربي، في اصطلاح اليوم، لا امتداد له في التاريخ. قد تكون ارهاصاته في ما تداخل بين النهضة والإستعمار، ولكنّ الدفع كان بعد النّكبة والقوّةَ بعد النكسة أو الهزيمة: 67 منعطفٌ حاسم. استخلاصٌ أوّل: نشأ اليسار العربي من أزمة، وأزمة النشوء هذه تحوّلت سريعاً، خلال عقدين على الأكثر، إلى أزمة وجود. هذا هو عُمر اليسار العربي الذي يُنتقد ويُنتقد ذاتياً.
قد يتهوّر البعض في المقارنة بيساراتٍ أخرى. لنتّخذ مثلاً يسار فرنسا: وراءه "الأنوار"، وهو ابن الثورة الفرنسية (التي أكلت منه ما أكلت). بدأ توبوغرافيّاً: عنى اليسارُ، أوّلَ ما عنى، جلوسَ الليبيراليين أو "الحرّيين" يسار المجلس، في حين جلس المحافظون جهة اليمين. وكان لا بد من مرور قرن من الزّمن، تقريباً، قبل أن تتحوّل المقابلةُ إلى يمين ويسار، أي أن يكتسب اليسار معناه المتداول اليوم. هذا المدى الزمني أتاح للفكر أن ينبني وأن يتراكم، وللحركات أن تمتد وأن تتصارع، ولمستويات الواقع أن تتمفصل.
لا مقارنة إذاً: فلا عمر اليسار العربي امتدّ إلى توالي مراحله وتراكم تجاربه ولا الزمن الاجتماعي العربي اتّسع لنضج حركته. استخلاصٌ ثانٍ قد يكون ضدّ التيار الغالب: ما انجزه اليسار العربي، في حدود العمر الذي افتكّه من قبضة الزمن العربي كان أرقى ما وصل إليه الفكر والفكر السياسي العربي في تاريخه الحديث والمعاصر. هذا الانجاز الكثيف، المضغوطُ في ضيق العمر والزمن ليس أقلّ قيمةً ولا أثراً مما أنجز آخرون، في ظروف أخرى.
لهذا يبدو غريباً تنكيلُ بعض اليسار العربي بماضيهم، ويبدو أغربَ منه اعتذارُهم عن وعي سابق: وعيِ مرحلةٍ بنى البعض فيها البدائلَ وناضلوا واضطُهدوا وقُتلوا من أجلها. ممَّ يعتذرون؟ من واقعٍ لم يتحمّلهم؟ من جدليّةٍ زيّفها أن اليمين كان أجهزةً لا فكر لها يجادله اليسار فيه؟ يقول بعض اليسار الناقدِ ذاتَه إنه لم يفهم الواقع الموضوعي: هذا صحيح، ولكن هل ساد في مرحلته، في الكون كلّه، غيرُ ما كان له من آليات الفهم والتحليل والتفسير؟
ما حدود النقد الذاتي إن لم تكن حدودَ المرحلة؟ أن تبنيَ جديداً أو أن تعيد بناءً أو أن تستخلص الدروس، كما يقال، فهذا من صلب التجاوز، من تعريف اليسار، لكنّه ليس فرصةً للاعتذار عن لحظةٍ مؤسِّسةٍ كان فيها الجهد والإصرار وكان لها، ككلّ لحظةٍ، أخطاؤها. اختصاراً، ليس المطلوب تطهيرَ لحظةٍ ماضية وإنما المطلوب الدفاع عن استثنائيّتها وعما بذل جيلها من أجلها.
للنقد الذاتي، إذا، حدود مرحلته، وله أيضاً حدود شرعيته: هناك من تغيّرت أفكاره ومواقعه، متحرّكاً داخل اليسار، وهذا ملمح حياةٍ وتطوّر، ولكنّ كُثراً من قدامى اليسار نقدوا يسارَهم من مواقع لم تعد لها صلة باليسار ولا بتخومه. النقد، في هذه الحالة، تبريرٌ للانزياح ولتغيير الموقع. وهو لذلك لا يُقنع، وقلّما يرتقي إلى ما ينتقده من فكر وتجربة.
ماذا بقي من اليسار العربي؟ لا ندري، على وجه الدقّة. ما نعلمه أن قلّة متحركة أو ثابتة حيث كانت، لا يزال التجاوزُ حاملَ فكرها وحاملَ بدائلها ومواجهاتها. ما نعلمه أيضاً أن أغلب من ساروا باليسار أو سار بهم غيّروا مساراتهم إلى ضفاف أخرى. توزّعوا في فضاءات أوسعُها ثلاثة: السياسةُ التي لها قدرة الاحتواء بالإغراء، استيعاب الخبرةِ مسلوبةً من فكرها، والدينُ الذي عرف هجرةً إليه، هجرةً بلا عودة، طلباً للغفران، ثم الإعلامُ الذي يجيد صنعَ مثقفين عابرين في ثقافة عابرة.
الحيرة هنا والآن، لا في أمرِ ما مضى. لِيجبْ قدامى اليسار عن سؤال أوّل: أين كانوا وأين أصبحوا؟ وعن أسئلة أخرى، منها: هل، حقّاً، أخذتهم حيويّةُ الفكر إلى حيث هم أم أخذتهم رياح أخرى؟ في الإجابة، مهما كانت وكانت ذرائعُها، ما يجعل من نقد اليسار لحاضره ضرورةً أخلاقية. الماضي أنجز وخاب ظنُّه ومضى.
نعم، لا نعرف، على وجه الدقّة، ما بقي من اليسار العربي. هذا إذا نُظر إليه، كما هي العادة، من منظور الفكر السياسي والتجربة السياسيّة. أما إذا نُظر إليه من منظور فكري أو معرفي فما ظهر منه، في لحظته، وما بقي منه، واسع التأثير إلى اليوم. بعضه لم يكن مسبوقاً، في إبداعه، وبعضه لم يأت، بعدَه، ما يرتقي إليه. لِنتذكّر، من الستينيات وأوائل السبعينيات، نصوصاً مؤسِّسةً في الشعر والرواية، وأعمالاً كبرى في المسرح والسينما، وفي الموسيقى والفن التشكيلي، وكذلك في البحث والتحليل. إنها، إلى اليوم، معالمُ كبرى، وهي ما كان لها أن تكون لولا حركة اليسار وما ارتبط بها من طلائعيّة عالميّة وعربيّة. لا يعني هذا أن كلَّ من أبدع في مرحلة اليسار كان منه، ولكنه يعني أن تلك المرحلة كانت محفّزةً ليسارها ولغيره.
مثقفو تلك المرحلة، شئنا أم أبينا، هم كبار مثقفي العرب في تاريخ الفكر العربي المعاصر: لقد أبدعوا في صياغة أحلامٍ لم يستفق واقعُ العرب لتحقيقها. لقد تراجعت المرجعيات الفكرية الكبرى وتراجعت معها الحركات التغييريّة والإحتجاجيّة، ولكنها تركت خيوطاً لها في النسيج الفكري، في التمثّلات وفي اللّغة، بعضها امتدّ إلى وريثٍ غير شرعي، إلى الخطاب الرسمي العربي.
لقد أردت ردّ اعتبارٍ إلى جيل يسهل نقدُه على مقاعد الورشة الجديدة. أما المستقبل فله مستشرفوه، ولا قدرةَ لي على المجازفة فيه.

الإنتماء لحلم البشرية في الحرية والتقدم

والعدالة الإجتماعية

د. أنور مغيث
أستاذ جامعي (مصر)
في ما يشبه البشارة في قلب الاحباط العربي السائد جاء كتاب الأستاذ كريم مروة "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". العنوان يطرح الأمل ويتضمن الحدس بأن الطريق طويل، ولكنه يوحى في نفس الوقت ببدء الخطوات الأولي. والعنوان يحتضن الهم العربي من المحيط إلى الخليج. ويبدو هذا الإلمام للواقع العربي أمراً بديهياً لا تحتاج مشروعيته إلى تبرير، فقد بدأ اليسار في فكرنا المعاصر عربياً في منطلقاته وفي آليات عمله وفيما نتج عنه من آثار. وهكذا أيضاً عليه أن يعاود المسير. وقد جاءت أيقونة الغلاف الزخرفية لتؤكد هذا البعد العربي كما ترسل رسالة ضمنية تحمل معاني التنوع والإختلاف الذى يشكل لوحة كلية يجمعها الاتساق والإنسجام.
جاء أسلوب كريم مروة في الكتاب هادئاً وحميمياً بصورة قد تبدو متنافرة مع كلمة اليسار الموجودة على غلاف الكتاب. فلقد تعودنا أن نقرأ حينما يتضمن عنوان كلمة "يسار" إما كتابة تنديدية بالانتهاكات والمظالم، وإما كتابة استنفارية آمرة عن المهام العاجلة الواجب انجازها بلا هوادة أو تأخير. وفي كلتا الحالتين سواء من الغضب أو من الحماس تغيب الحكمة. والحكمة ليست حلولاً فنية لمشكلات عملية ولا نظريات دقيقة لتفسير الظواهر. أي أنها ليست تكنولوجيا ولاعلم ولكنها دائماً هي الانشغال بالمصير. ومن هنا تأتى الروح التى يبثها أسلوب كريم مروة والتى تفسح مجالاً كبيراً للتروى والتأمل. ولكن ذلك لا يعني أن القضايا المطروحة غير ملحة. فالكتاب مهموم بآلام الانسان وأحلامه، وبالواقع البائس للمواطن العربي وإمكانيات تغييره. أننا بالفعل إزاء قضايا ملحة. ولكنه نوع جديد من الإلحاح، فالأمر لا يتعلق بخطأ يمكن إصلاحه عن طريق اتخاذ إجراء معين، وإنما هو إلحاح يمكن أن تنطبق عليه تلك العبارة التى اختمم بها دريدا إحدى مقالاته "الأمر خطير ويحتاج لتأمل عميق وطويل، خذوا وقتكم ولكن عليكم أن تنجزوا ذلك سريعاً".
السمة المهمة الأخرى التى يجدر الاشارة إليها في أسلوب كريم مروة هي ذلك الطابع الديمقراطي الذي يدرك أن الحقيقة بنت الحوار. فنراه من وقت لآخر يقطع فيض أفكاره المسترسل لينبه القارئ بأنه من المستحسن ألا يوافقه الرأى ويكفيه فقط أن يشاركه المهم. ومن هذا المنطلق نبدأ حوارنا معه.

أفاق نظرية
يبدأ كريم مروة تأملاته بإعلان شهادة إنتماء لحلم البشرية. ويصيغ هذا الحلم في موكب من المصطلحات الكبرى هي الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية. وتبدو هذه القيم هنا وكأنها مترادفة أو تستدعى إحداها الأخرى. ولكننا في الحقيقة هنا أمام إشكاليات أكثر منها أحلاماً. إذ يوجد في الفلسفة السياسية تعارضاً بين الحرية والعدالة الاجتماعية، فإما أن تفتح الباب للحرية فيزداد التفاوت وإما أن تفرض العدالة الاجتماعية فتضع قيوداً على الحرية. لا أعنى هنا أن علينا أن نختار اختياراً استبعادياً بمعنى أن نكتفى بواحدة من القيمتين ولكن أن نعترف بالتوتر القائم بينهما وأن نضع العلاقة بينهما موضوع مراجعة دائم طبقاً لتطور حاجات البشر وتطلعاتهم.
أما مفهوم التقدم فلقد خضع هو الآخر لمراجعات كثيرة في ثنايا فلسفة التاريخ، وثار جدل بشأن مضمونه إن كان تكنولوجياً أو أخلاقياً، وحول استخدامه لتبرير هيمنة الأكثر تقدماً على المتخلف. كما أن به بعداً صوفياً لأنه يقوم على الإيمان، ويغلق الآفاق المحتملة المفتوحة أمام التاريخ، ولنذكر في هذا الصدد تعبير ماركس : "إما الاشتراكية وإما الهمجية"، فليس أمامنا إذن أى ضمان مسبق.
وتنطلق تأملات كريم مروة من ضرورة استخلاص الدروس من ثورات التمرد ضد القهر والإستغلال عبر التاريخ. ولكن التجربة السوفيتية تحتل موقعاً متميزاً ليس فقط لقربها التاريخي من حالنا الآن ولكن أيضاً لأننا ننتمي إليها بمعنى من المعاني. وهنا يمكننا أن نلاحظ نوعاً من الحرج في التعامل النقدى مع التجربة اللينينية في ثنايا الكتاب. فهناك تراوح بين اعتبارها تجربة اشتراكية وبين اعتبارها عملية بناء لرأسمالية الدولة. صحيح أن الكتاب بين لنا أن رأسمالية الدولة كانت استجابة جدلية لقراءة بارعة قام بها لينين للظروف الموضوعية التى واجهها، ولكن لماذا نصر إذن على اعتبارها تجربة اشتراكية وهو الأمر الذى أدى بعد ذلك إلى فرضها على أنها الاشتراكية الوحيدة الممكنة وتم تهميش نقادها من الماركسيين مثل كارل كورش واليسار الهولندى وغيرهم؟ ونحن لا نذكرهم هنا لنقول أنهم كانوا على حق، ولكن فقط لنقول أن تعاملنا مع أفكارهم كان من شأنه أن يشجع روح النقد بدلاً من روح التحيز التى سادت زمنا طويلاً.
ولاشك أن كريم مروة من موقعه "المستقل" قد ملأ كتابه بهذه الروح النقدية الفعالة. فهو رغم تقديره للدور التاريخي لكارل ماركس في تقدم الوعى البشرى بأشكال اغتراب الانسان، يدعونا إلى هجرة بعض أفكاره التى ربما لم تعد ملائمة: وأولها فكرة العنف الذى أصبح غير مجدى. ورغم وجاهة مراجعة هذه الفكرة إلا أن ذلك قد يعصف بفكرة المقاومة. فقد يتسرب إلى قارئ الكتاب أن بناء الدولة الحديثة أو دولة القانون هو في مصلحة الجميع وسوف يلقى كل عون. ولكن من البديهي أن لهذا المشروع أعداء مما يستدعى إبتكار أشكال من المقاومة لمواجهة أعداء الداخل والخارج لهذا التطلع المشترك بين قوى عديدة في المجتمع.
كما تعرضت فكرة الثورة أيضاً لمعول المراجعة. وبالطبع فإن فكرة الثورة لو تصورناها حدثاً سياسياً نقرأ عن وقوعه في عناوين صحف الصباح فإنها تكون أمراً يصعب تحقيقه الآن، وإن تحقق فإنه قد يكون انتصاراً عابراً. ولكن الثورة باعتبارها مشروع طويل يقوم على اتاحة الفرص أمام مبادرات الأفراد والجماعات لممارسة حياة سياسية واقتصادية واجتماعية تساهم في حصار النمط الرأسمالي السائد، تظل أمراً مطروحاً كمهمة على عاتق البشر. ولقد أشار جيل ديلوز إلى أن التغيرات الكبرى على مستوى الكتلة ربما لا تعنى شيئاً في حياة الأفراد اليومية ولكن التغيرات على المستوى الذريهي التي في النهاية تطرح التغيير الكبير الحاسم. فتحويل نظام سياسي من ملكية إلى جمهورية قد لا يشعر تجاهه مواطن بسيط بأي تغيير ولكن إقامة مدرسة للبنات في قرية من القرى قد يكون له أثر تاريخي أعمق. ولهذا فالجهود البسيطة غير المحسوسة للافراد والجماعات تلعب في النهاية دوراً كبيراً وأظن أن هامش تأثيره يتسع مع مرور الزمن.
أما فيما يتعلق بالدور التاريخي للطبقة العاملة، فلقد جعلت البطالة الهيكلية التى صارت سمة للنظام الرأسمالي في عصرأزمته الدائمة، من وضع العامل المستغل وضعاً مميزاً يدفع العمال إلى الحرص عليه بدلاً من التخلص منه. ومن هنا يأتي الهاجس المشروع الذى يملأ كتاب كريم مروة الخاص بضرورة أن يضم مشروع التغيير قوى اجتماعية جديدة ومتنوعة. ولكن كيف يمكن لهذه القوى على تنوعها القيام بعمل مشترك يسمح بإحداث تراكم؟ أظن أن تراثنا النظري والعملي فقيراً في هذا المجال.
ويذكر كريم مروة في أكثر من موضع في كتابة فكرة ضرورة أن يقوم اليسار بتحقيق السعادة للبشر. ومفهوم السعادة هنا من المفاهيم البراقة ولكنها مليئة بالألغام، فهو قادم من التصور المعيارى للسياسة التى يهندسها الحكماء كما هو الحال عند افلاطون والفارابي. أما السياسة الحديثة والتى تعني الادارة الاجتماعية لصراعات المصالح فيختفي منها هذا المفهوم. إذ أنه من الصعب أن يكون تحقيق السعادة هدفاً سياسياً، لأن الفرد قد يشعر بالسعادة إذا شرع في علاقة عاطفية جديدة أو إذا حصل أبناؤه على درجات عالية في فصول الدراسة. ومن جهة أخرى يمكن لنا أن ندرك الخطر الشمولي الكامن في وصول مجموعة إلى الحكم، مهما حسنت نواياها، ترى أن عليها تنفيذ برنامج سعادة للجميع. ربما يستحسن أن نستبدل به مفهوم الحرية التى يرى توكفيل أنها تقف وكأنها نوع من العناية الإلهية أو الغائية التى يبدو أن كل أحداث التاريخ وتقلباته متجهة إليها.
ويسكن الكتاب توتر دائم بين ماهو وطني وماهو عالمي، فيدعو المؤلف إلى التمسك بالدولة الوطنية وضرورة دعمها في مواجهة زحف رأس المال المعولم ولكنه في نفس الوقت يشير إلى احتمال يبدو مطروحاً وهو الاتجاه إلى حكومة عالمية. ولقد نبه برتراند رسل إلى أن كل مجتمع من المجتمعات قبل ظهور الدولة كان يعيش في حالة حرب أهلية دائمة حتى تأتى مجموعة تمتلك أسباب القوة والنفوذ وتقوم بتشكيل الدولة التى تعبر عن مصالحها وتفرض القانون بالقوة على الجميع فتضمن الأمن والسلام الاجتماعي ثم تبدأ بعد ذلك المسيرة الطويلة التى يقوم بها المحكومون لانتزاع الحقوق. فالدولة تبدأ دائماً استبدادية ثم تتجه شيئاً فشيئاً إلى الديمقراطية.
ولهذا يرى أن المجتمع الدولي بعد الحروب العالمية الفتاكة والمدمرة لا أمل له سوى أن تقوم قوة كبرى بتشكيل حكومة عالمية استبدادية تفرض احترام القانون الذى سيكون بالضرورة في مصلحتها فتحقق السلام ثم تبدأ بعد ذلك مسيرة انتزاع الحقوق والإدارة الديمقراطية للمجتمع الدولي. لاشك في أن الامبريالية الاميريكية المتغطرسة لن تجد تبريراً أفضل من هذا لممارسة قمعها الكوني. ولكننا لو تصورنا أن قيام حكومة عالمية يظل أفقاً مطروحاً وتصورنا أن هناك إمكانية لسيناريو مختلف. أي أن تبدأ هذه الحكومة بشكل ديمقراطي من خلال التضامن الانساني فإن علينا أن نراجع مفهوم السيادة الوطنية وأن نتخلي عن جزء منها اذا كان في ذلك مصلحة انسانية عامة. ولقد وجد هذا القصور تعبيراً قانونياً له في مؤتمر البيئة الأول المنعقد في استكهولم حيث وافقت الدول الموقعة على ان تتخلي بمحض إرادتها أن جزء من سيادتها من أجل الحفاظ على بيئة ملائمة للحياة على كوكب الأرض.
إن النصوص التي أوردها في كريم مروة في الجزء الثاني من الكتاب بالغة الدلالة وتفتح الطريق لاختيارات شتى ولكنها تنتمي في معظمها لعصر يختلف كثيراً عن عصرنا. واعتقد أن علينا أن نتفاعل بشكل أكبر مع نصوص يسارية حديثة تطرح علينا مهام ملائمة لعصرنا الحالي.

في مهام اليسار العربي
يطرح كريم مروة على اليسار العربي مهمة استكمال مشروع النهضة بل ويوجه نقداً ثاقباً حين يرى أن الممارسة العملية لليسار فيما سبق قد وضعت عوائق في وجه هذا المشروع. ويمكن التدليل على صلاحية نقده هذا بكثير من الأمثلة وسأكتفي بأن أذكر مثلين. لقد وعى المفكرون الليبراليون العرب الأوائل بضرورة تحرير المرأة، وواجهوا في سبيل ذلك عنتاً شديداً لكنهم صمدوا بصلابة في وجه هذه الرياح العاتية. ويتجلى ذلك في جذرية ما رفعوه من شعارات. فأحمد لطفي السيد يكتب على صفحات الجريدة : "علينا أن نحرر أمهاتنا قبل أن نحرر أو طاننا". ويؤكد على مركزية قضية تحرير المرأة فيقول "حرية المرأة هي الأمارة الوحيدة على حرية الأمة". وكذلك وضع محمد حسين هيكل وطه حسين على صدر صحيفة السفور التى أسساها عام 1914 شعار "ليس الحجاب مفروض على المرأة وحدها ولكن على الأمة بأسرها ".
ثم جاء اليسار بعد ذلك ليجعل من قضية المرأة قضية هامشية تحت دعوى أن الجميع مضطهدون وأن المرأة سوف تتحرر في غمار التحرر العام للمجتمع، فبعد تأسيس الدولة الاشتراكية سوف يتم منح الحرية للجميع.
والمثال الثاني يتعلق بنقد الموروث الثقافي. فقد كان قاسم أمين يرى أن الطريق السهل في استخدام حرية التفكير هو نقد الحكومة والإستهزاء بها، في حين أن الطريق الصعب هو نقد معتقدات المجتمع وأخلاقه وعاداته. ويبدو أن اليسار قد لجأ إلى الطريق السهل متذرعاً بمقولة ماركس في أن علينا الانتقال من نقد السماء إلى نقد الأرض. والحال أن ماركس حين طرح هذه المهمة في مواجهة كتابات الهيجليين الشبان كان يرى أن فلسفة كانط قد قامت باللازم فيما يتعلق بنقد السماء. أما في فضاءنا الثقافي العربي المعاصر فلم يتوفر من يقوم بها بشكل حاسم ولهذا كان المفروض أن تظل مهمة ملقاة على عاتق اليسار ولكنه فضل عدم الدخول إلى غيوم الميتافيزيقا وآثر الاهتمام ببلورة مشاريع السياسة العملية.
وربما لهذا السبب ألصق، الاستاذ كريم مروة، شبهة الشعبوية على الممارسات السياسية لليسار. والواقع أن السياسة التى تجعل كل هدفها هو الحصول على أصوات المنتخبين أو على الشعبية من خلال ما يسمى في التعبير الشائع ركوب الموجه قد تصادف بعض النجاح ولكنه قصير الأمد. أما السياسة الحقيقية فهي تطرح على الناس ما يحتاجون إليه لا ما يريدونه، والعلمانية خير دليل على ذلك. ففي ظروف التدهور الثقافي والسياسي السائد في مجتمعاتنا العربية قد لا يصادف طرحها قبولاً شعبياً ولكننا نحتاج إليها بصورة ملحة لتكريس حقوق المواطنة والممارسة الديمقراطية. ولهذا ينبغي أن تظل العلمانية سمة من السمات المميزة لليسار العربي.
يريد كريم مروة لليسار العربي في مرحلته الجديدة أن يكون واقعياً وعملياً وقادراً على تحديد الممكن حتى تكون ممارسته السياسية فعالة. وفي هذا الاطار يحذر من الوقوع في الفوضوية لأنها لا ترمى لتحقيق العدالة بشكل واقعي وليس طوباوياً. ويمكن لي هنا أن اتخذ موقفاً نقدياً من هاتين الاشارتين السلبيتين اللتان أو ردهما الأستاذ كريم فيما يتعلق بالفوضوية والطوباوية.
فبالنظر إلى التراث الفكرى لليسار المكتوب باللغة العربية نلاحظ وجود ألوان شتى من الاشتراكية : الماركسية البرلمانية، البلشفية، الفابية، التروتسكية... إلخ. ولكن يغيب عنه كل من التيار الفوضوى والتيار الطوباوى. والواقع أن الفوضوية رافد مهم من روافد الفكر الاشتراكي يتميز براديكالية النقد للدين والدولة والأخلاق. ولقد أدت ضروب النقد الفوضوي التى حملت عناوين مثل "موت العائلة" و "موت المدرسة" إلى الدفع بحلول مبتكرة مثل حقوق الطفل ومدرسة الباب المفتوح وغيرها. ومما لاشك فيه أن ترجمة أدبيات هذا التيار بل وتبنى بعض أطروحاته من قبل فصيل من فصائل اليسار سوف يمثل إثراء لحركة اليسار العربي. كما ابتعد اليسار العربي عن الاستفادة بتراث الاشتراكية الطوباوية وربما بسبب صفة "العلمية" التى ألحقت بالمماركسية. والواقع أن أنجلز حين نشر كتابه الذى يتعرض فيه للاشتراكية الطوباوية كان تحت عنوان "الاشتراكية من اليوتوبيا إلى العلم" وهو عنوان يوحي بالتواصل والتراكم. ولكنه بعد ذلك أعيد طبعة بعنوان "الاشتراكية الخيالية والإشتراكية العلمية" وهو ما يوحى بالانفصال والتعارض. وربما بسبب هذه النبذ لتيارات الاشتراكية الطوباوية جاءت كثير من كتابات أعلام اليسار العربى معبرة عن وصف دقيق لمثالب الواقع ومشكلاته ولكنها كانت فقيرة في الخيال وتميل إلى البحث عن البرامج الجاهزة.
ولقد شدد الاستاذ كريم مروة على ضرورة الاكتفاء في الوقت الحالي بالعمل على التخلص من الاستبداد وتأكيد المواطنة وإقامة دولة القانون. وهي مهام ضرورية وملحة وشرط لكل ممارسة سياسية فعالة وكل تحسين ملموس لواقع المواطن العربي ولكن هذا الاكتفاء يجعلنا نقع داخل السجال الحالي حول مبرر وجود اليسار في أى مجتمع في العالم. فهل اليسار يمثل مجرد إدارة مختلفة للنظام الرأسمالي كما هو الحال مع الأحزاب الاشتراكية في أوروبا، أم أنه يطرح على المجتمع مشروع بديل. وأظن أن أزمات الرأسمالية الحالية والحظر الذى تمثله على المجتمع تفرض على اليسار بذل الجهد في بلورة مشروع بديل يمثل أفقاً بعيداً لممارسة السياسية ولكنه يظل مطروحاً أمام الجمهور حتى وإن لم يحظ بالتنفيذ العاجل.
تبقي في النهاية قضية لا يغفلها الأستاذ كريم ولكنها تأتى لديه كواحدة في موكب القضايا التى يتبناها اليسار وهي قضية البيئة. والواقع أننا لو أخذنا هذه القضية مأخذ الجد وليس فقط من باب إبراء الذمة، فإن ذلك سوف يقلب الكثير من المفاهيم التى تطرح بوصفها بديهية في برامج اليسار. وأول هذه المفاهيم هو القول بالتطور المطرد لقوى الانتاج الناتج عن تقدم العلوم والمخترعات والذى يؤدى بدوره إلى تجاوز علاقات الانتاج السائدة التى بالضرورة لم تعد ملائمة فيفرض التغير التاريخي نفسه. ولكن من الواضح أن علاقات الانتاج هي التى تتحكم في قوى الانتاج من خلال برامج التمويل واحتكار البحث مما يجعل التقدم العلمي ليس ضمانة للتغيير التاريخي. ولقد أدت أزمة البيئة إلى انقلاب الآية. فلقد بنى ماركس ثقته في حتمية قيام الثورة على فكرة أن الرأسمالية سوف تعمل على الافقار المتزايد للعمال الذين لن يفقدوا سوى أغلالهم. ولكن بدا أن الرأسمالية تمكنت من التحايل على هذا التحدى. أما التحدى الجديد الذى يصعب التحايل عليه هو محدودية الموارد الطبيعية. ولقد كان آدم سميث يرى أن الرأسمالية يمكنها أن تنمو باستمرار ولكنها تقف عند الحدود التى يسمح بها كوكب الأرض. ونظراً لأن الرأسمالية تقوم على تحقيق الربح باستمرار ولن يتحقق الربح المستمر إلا من خلال تنامي الاستهلاك ولن يزيد الاستهلاك إلا بزيادة الانتاج وهذه الزيادة بدورها لن تتم إلا بالاستنفاد المتزايد لموارد الطبيعة. وهنا يأتي التناقض الذي يصعب التحايل عليه.
ولهذا يرى الكثيرون أنه لا يوجد حل لأزمة البيئة إلا بالذهاب إلى ما وراء الرأسمالية. ولقد وضعت هذه الأزمة مفهوم التنمية موضع المراجعة فيطرح الآن الكثير من علماء الاقتصاد مبدأ "معدل تنمية صفر"، وهو ما يعني موت الرأسمالية. كما ينتقد اقتصاديون آخرون مفهوم التنمية المستدامة الذى تتبناه الأمم المتحدة والبنك الدولي باعتباره من المسكنات التى تهدف إلى إطالة عمر الرأسمالية. إن وعي اليسار العربي بهذه الأزمة العالمية ضروري لتقديم تصور مبتكر عن التنمية والتى كان سقف طموحها هو نمط حياة المواطن الغربي، والواقع أن سكان البلاد الغربية المتقدمة يمثلون حوالي 15% من سكان المعمورة ولكنهم يبثون 75% من الملوثات في الغلاف الجوي. فعلينا أن نتخيل لو عاش باقي البشر بنفس الطريقة في العيش. ولا نعني من ذلك أن نرضي بالتفاوت الشنيع بين الشمال والجنوب، وإنما علينا الا ننساق أمام وعود التنمية الغربية الزائفة والمكلفة. "والثورة الزراعية" في الهند خير مثال على ذلك حيث قبلوا بزراعة نباتات قمح معدلة جينياً. تنتج أربع أضعاف محصول القمح العادى ولكنه حماية النبات الضعيف كانت تقتضي زيادة استخدام المبيدات الحشرية مما جعل الأرض بعد عشرين عاماً غير صالحة للزراعة.
وهناك دعوة عالمية إلى ضرورة تبنى نمط حياة "قنوع" يتجنب الأفراط في الترفيه وتجنب البذخ والإنفاق السفيه. وقد لوحظ أن البلاد التى لا يكون فيها تفاوت كبير بين أنماط حياة السكان مثل الدول الاسكندرنافية التى نادراً ما يسعى الناس فيها إلى البحث عن ساعات عمل إضافية لزيادة دخولهم.
إن الأمر لا يحتاج إلى فرض احترام البيئة عن طريق دولة استبدادية وإنما يمكن للحوار الحر والديمقراطي أن يتخذ من القوانين والإجراءات ما من شأنه الحفاظ على البيئة طوعاً وليس قهراً. وهذا أيضاً يقتضى من اليسار العربي أن يقدم للنشئ الثقافة التى تساعد على تكوين تشخصيه جديدة ذات تطلعات جديدة وسلوكيات مختلفة، كما يقتضى أن يساهم بشكل فعال في مساعدة القوة الشعبية الغربية سعياً إلى حصار مخططات الشركات الرأسمالية الكبري. ولعل هذا المجال هو أكثر المجالات احتياجا لحوار الحضارات والتى اتصور أن على اليسار العربي أن يبلور مساهمات ملموسة يتم طرحها عالمياً.
وتبقى كلمة أخيرة بخصوص البعد العربي لليسار الجديد فمما لاشك فيه أن الممارسة السياسية لأى مجموعة من مجموعات اليسار سوف تكون مشروطة بالهامش الديمقراطي المتاح وموازين القوى الخاصة ببلدها. ولكن ماهو ليس مشروطاً بالظروف الخاصة بكل بلد فهو العمل الثقافي والذى يقتضى بالفعل بلورة استراتيجية عمل ثقافية مشتركة تتضمن نقداً جذرياً لكل ما يحفل به فضاؤنا الثقافي من مظاهر للتخلف، وتقدم للقراء العربي ما انتجته العقول البشرية في تصور حضارة بديلة. وينبغي أن تقترن هذه الاستراتيجية بآليات في الترجمة والنشر، كما يقتضى كذلك إتاحة المجال لشباب المبدعين والباحثين في العالم العربي للتعبير عن أنفسهم وضخ دماء جديدة في تيار الثقافة التقدمية في العالم العربي.
وعلى المستوى السياسي، ينبغي، رغم اختلاف ظروف كل بلد، أن تكون هناك قنوات من الحوار والتواصل والتنسيق في شكل جمعية أو منتدى متخلص من أى مركزية ديمقراطية تفرض الالتزام بالتعبير عن خط سياسي أو موقف معين.
وأظن أننا باجتماعنا هنا لمناقشة ماجاء في كتاب الأستاذ كريم مروة نكون قد بدأنا أولى خطواتنا في هذا السبيل.

اليساري المسكون بهاجس التغيير

أ.حبيب صادق
أمين عام المجلس الثقافي للبنان الجنوبي
... اسمحوا لي أن أستهلَّ مقالي، في هذا المقام، بتوجيه أطيب التحيات إليكم كافة مقترنة ببالغ الشكر لكم على جميل تلبيتكم لدعوة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي إلى المشاركة في هذا الحفل الثقافي الحاشد الذي يقيمه المجلس بالتعاون مع وزارة الثقافة في إطار "بيروت عاصمة عالمية للكتاب" وذلك احتفاءً بصدور كتاب " نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" للصديق الحميم كريم مروة.
ولعلَّ من المفيد القول: أنَّ هذا الكتاب الجديد يأخذ الرقم الواحد والعشرين في لائحة الكتب التي وَسِعَ كريم مروة أن يصدرها تباعاً، في مسيرته الكتابية الطويلة. علاوة على ما لا يُحصى من الدراسات والمقالات التي زوَّد بها الكثير من المجلات والصحف العربية وغير العربية.
ومن يتابع كريم مروة في مسيرته هذه يستوقفه، باهتمام وإعجاب، ليس الكم الغزير من الكتابات، المتعددة المواضيع والصيغ فحسب، بل يستوقفه، أيضاً، أمران لافتان، يتجلَّى الأول منهما في كونه أحد قلَّة قليلة قُيِّض لها الخوض، في خضم هذه الصناعة، من رموز مؤسسة حزبية، ذات تاريخ عريق ساطع، تأسَّست، إذ تأسّست، على أنضج وأعمق ما ابدعه الفكر الإنساني من طاقةٍ تنويرية نهضوية لتغيير العالم بأسره.
وفي حدود معرفتي، فإنَّ كريم مروة، هو، على تفاوتٍ في الكم والكيف، أحد تلك القلَّة التي لا يتجاوز عددها الثلاثة لا أكثر. أما الإثنان الخالدان فهما شهيدا الفكر والموقف حسين مروة ومهدي عامل.
ترى ألا يدعو هذا الواقع الماثل إلى التساؤل والأسى؟؟
هذا عن الأمر الأول، أما الأمر الثاني فيتجلَّى في ذلك الهاجس المتَّقد، هاجس التغيير، الذي صدرت عنه، ولمَّا تزل، كتابات كريم مروة في السياسة والإجتماع والأدب وفي شؤون فكرية ونظرية. كتابات أرسلها في الناس، إبَّان عمله الطويل، في موقع قيادي متقدِّم في الحزب الشيوعي اللبناني، ثم تابع إرسالها في الناس بعد انقطاعه التنظيمي عن هيكل الحزب وانصرافه إلى الاجتهاد في البحث وإعادة النظر فالكتابة...
وحسبي، للتدليل على ذلك، أن أشير إلى أنَّ خمسة من مؤلفاته الأخيرة قد أنشأها مسكونةً بذلك الهاجس المهيمن، فثلاثة منها تولَّت نشرها دار الفارابي، ذات الاتجاه اليساري المعروف، وهي على التوالي: " نحو جمهورية ثالثة" (2001) و "عشية أفول الإمبراطورية، أسئلة حول موقعنا في عالم الغد" (2003) ثم " الفكر العربي وتحولات العصر" بمشاركة ستة عشر مفكِّراً عربياً (2006).
أما الكتابان الآخران، فقد صدرا عن غير هذه الدار وهما: "أزمة النظام العربي وإشكاليات النهضة" بمشاركة ثلاثة مفكِّرين عرب (2006) و "في البحث عن المستقبل" (2009).
في ضوء ما تقدَّم، نجد كريم مروة في كتابه الصادر حديثاً عن دار الساقي "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" يغذ السير قُدُماً، في الطريق الذي رسمه لنفسه، للتعبير بالمزيد، من الكتابة، عن هاجسه الأصلي المتمثِّل بفكرة التغيير.
في هذا الكتاب الجديد، كما في كتبه السابقات، يطالعنا كريم مروة بما يشبه لزوم ما يلزم يفيد أنَّ كلَّ ما يبسطه من أفكار وآراء واقتراحات لا يعدو كونه محاولةً، مجرد محاولة، لا يرمي، من ورائها، إلى عرض أفكاره وآرائه واقتراحاته فحسب بل يرمي، أيضاً، إلى دعوة الآخرين إلى الخوض في خضم نقاش مشرع الأبواب على الإضافات النقدية الموضوعية.
بيد أنَّه في كتابه الجديد بدا أكثر دقَّة في تحديد إطار النقاش إذ رسم، في القسم الأول منه، معالم مشروع جديد لليسار في العالم العربي محدِّداً له، بالأرقام، عشرين مهمة، مفصَّلة باقتصاد، اسماها قضايا، وطالب اليسار الجديد في أن ينهض بها بروح المسؤولية العالية، ثم الحق بالقسم الأول قسماً ثانياً وأخيراً، تضمَّن نصوصاً منتقاة من فكر ماركس، ومن فكر كبار الماركسيين الأوائل، لكونه رأى فيها "ما يخدم الأفكار والإقتراحات التي قدَّمها حول ما يزعم أنَّه يصح أن يكون مساهمة في صناعة مشروع جديد لليسار في العالم العربي، وذلك باسم اشتراكية ماركس؛ أو باستلهام الأساسي من أفكاره فيها، وبالاستناد إلى منهجه المادي الجدلي..."
وحيث إنَّ الأستاذ كريم دعانا إلى ولوج حلبة النقاش للمزيد من الإسهام في صوغ المشروع النهضوي الجديد، فأستميحكم العذر إذا ما خرجت قليلاً عن هذا السياق العام لأدخل، من فوري، في سياق خاص، لبعض الوقت، متوخياً إلقاء حزمة ضئيلة من الضوء على تلك العلاقة التي انعقدت بيننا في عروةٍ وثقى لا انفصام لها...
فإلى خمسة عقود مضت تعود علاقتي المركَّبة بأبي أحمد. أقول مركبة لكونها علاقة تشكَّلت، مع تعاقب الأعوام، من جملة مكوِّنات انصهرت في بوتقة الصداقة العميقة الخالصة... وحسبي، هنا، أن أشير، إشارة خاطفة، إلى أربعة مكوِّنات منها لا أكثر:
فالمكوِّن الأول ينحدر من صلب الانتماء، وراثةً، إلى أرض الجنوب الأم الطيِّبة الشامخة القامة وإلى تاريخه الحافل بالمواقف والمآثر. ويتولَّد المكوِّن الثاني من الانتساب الواحد إلى شجرة الأُسَر الدينية في الجنوب، جبل عامل تاريخياً، فأُسرتانا تنتسبان معاً إلى هذه الشجرة التقليدية. أما المكوِّن الثالث فقد تشكّل تدريجياً، من الهموم والإهتمامات المشتركة المتصلة بوجوه الحياة العامة الراهنة من جهة، وتتصل، من جهة ثانية، بكنوز التراث العربي وبالكتابات المعاصرة في الأدب العربي والفكر السياسي والتاريخ وفي الثقافة العامة. وأما المكوِّن الرابع والأخير فقد نهض بنيانه، مدماكاً مدماكاً، على ما راكمته من خلاصات القراءة النقدية للأوضاع السياسية والإجتماعية والإقتصادية والثقافية في لبنان وفي غيره من البلاد العربية، وعلى ما أفضت إليه تلك القراءة من استنتاجات وعِبَر، ثم على ما خلَّفه، من آثار مجدية، العملُ المشترك في ميادين السياسة والإجتماع والثقافة، وذلك في منأى عن الانتظام الحزبي أو التأثُّر به.
وفي هذا الصدد لا يسعني اليوم إلاَّ البوح بما كنت أجده في سلوك الصديق كريم تجاهي، من حرصٍ على بقاء العلاقة الثنائية بيننا في حدود الصداقة الخالصة، من دون أن يخالطها طيف من التأثُّر الحزبي. وهذا سلوك يتعارض، كما هو معروف، مع نمط السلوك السائد في الأوساط الحزبية، إذ من شأن الحزبيين، على تفاوتٍ في مواقعهم، أن يبذلوا، قصارى جهدهم، لاكتساب المزيد من المنتسبين إلى أحزابهم.. ولا أُخفي أنَّ ذلك السلوك من كريم تجاهي لاقى عندي صدىً حسناً للغاية فأكبرتُ صاحبه في سرِّي، ولم أحاول الوقوف منه على الدواعي التي حملته على انتهاجه بلا أي تردُّد...
وعاماً بعد آخر راحت العلاقة بيننا تتوثَّق حتى استوت على مقامٍ، وطيد الأركان، من المودَّة والثقة والإخلاص.
وعلى الرغم من ذلك، فكثيراً ما كنَّا نتفق في الرأي، وكثيراً ما كنَّا نختلف. بيد أنَّ هذا الاختلاف، على تعاقبه، لم يخلخل نسيج تلك العلاقة أو يوهنها بل كان يزيدها تماسكاً وصلابةً.
وعلى هذا المستوى الرفيع من التماسك والصلابة استمرت علاقتنا عقب استقالة كريم من مسؤوليته الحزبية وانقطاعه إلى البحث والتقصِّي فالكتابة، آخذاً بمذهب الاجتهاد في قراءة الأحداث والتحولات، في حقبة شديدة الاضطراب والإنهيارات، شهدت تصدُّعات، متفاوتة في العمق والسِّعة، في مواقف لفيف من القيادات اليسارية في العالم العربي، ما استثار حفيظة قليل أو كثير من رفاقهم القُدامى، فاعتكر جو الثقة وتوتَّرت الصلات واشتدَّت نبرة التساؤل، وقد ذهب نَفَر منهم إلى حدودٍ قصوى في متاهة الاتهام والتجريح فالإدانة.
... تلك مرحلة عصيبة وعصبية تُذكر، اليوم، للدرس والعبرة.
وبعد فاسمحوا لي، ثانية، في أن أعود إلى مجرى الحديث الذي انقطع سياقه العام بإجازة منكم قصيرة.
أزعم أني قرأت النص الممهور بتوقيع كريم مروة، بروية وإمعان، فأفدت كثيراً من خطابه المشحون بالجدية والحماسة. فهو، أي النص، خلاصة تجارب متنوعة عميقة كثيرة الأبعاد وبعيدة المرامي، تضافرت على إنتاجها وصقلها عقود ستة من الهموم والشواغل السياسية والإجتماعية والفكرية، ومن مغالبة الصعاب والتحديات المتلاحقة.
بيد أنَّ أول ما استوقفني، إعجاباً، في النص روحان توأمان: روحُ الإخلاص الصميمي في الدعوة وروح الجدِّية الصارمة في المطالبة..
برغم ذلك ففي هذا النصّ، كما في كل نص كتابي آخر، ما يستدعي وجهَيْ التباين معاً: وجه الترحيب والإشادة ثم وجه النقد المتراوح بين الموضوعية والعصبية.. ولما كانت معالم هذه وتلك من الكثرة بحيث يضيق بها وعاء الوقت المحدَّد لنا في هذا الاجتماع، أراني محكوماً بالاختيار القسري، فأسارع إلى اختيار أربعة معالم، لا أكثر، من كل مجموعة من وجهَيْ التباين:.
في المجموعة الأولى
أولاً: أن ينطلق كريم مروة، في مشروعه النهضوي، من موقع اليسار، تحديداً، وأن يخاطب به قوى اليسار، على تعدد أطرافها، في العالم العربي، فأمرٌ يستدعي الترحيب والإشادة بلا أدنى ريب، فكيف إذا أضفت إلى ذلك تقديره البالغ للدور التاريخي الذي قام به اليسار القديم ذهاباً إلى القول: أنَّ "اليسار الجديد، الذي يسعى إلى إظهاره وإبراز عناصره ومكوِّناته، إنَّما ولد من رحم القديم ثم يحاول أن يتجاوزه من دون أن يتنكَّر له، ومن دون أن ينفي انتسابه التاريخي له".
ثانياً: مصارحته القوى اليسارية، في سياق حديثه عن المهمة التاريخية التي تواجهها، راهناً، بأنَّها ليست مهمة سهلة على الإطلاق، بل هي شديدة التعقيد والصعوبة على الرغم من ذلك تجده يبادر إلى القول بثقة: "فلا خيار أمام هذا اليسار، سوى الدخول في التجربة من جديد، بواقعية قصوى وبنفسٍ طويل، والسير قدماً في اتجاه المستقبل تحت شعار التغيير الديمقراطي".
ثالثاً: دعوته الملحَّة إلى قيام الدولة الوطنية الديمقراطية، برغم أنَّ الرأسمالية المعولمة قد تجاوزت، في تطورها العاصف، حدود الدولة الوطنية وحدود الدول كلِّها، مع ذلك لم يتردَّد في الكلام: "أن الدولة الوطنية تستطيع أن تمارس نوعاً من الرقابة على حركة الرأسمال، ومن شأن هذه الوظيفة الأساسية للدولة أن تجعلها ضامنةً لانتظام الحياة الاجتماعية، وهذا ما يحول دون وقوع موبقات شنعاء كالجريمة المنَّظمة والفساد وسرقة خيرات المجتمع"...
رابعاً: انتقاله، من الحيِّز المحدود، في الزمان والمكان، إلى الحيِّز اللاَّمحدود، في تصوير هاجسه بفكرة التغيير. ومن فرط استغراقه بهذا الهاجس تجده ينتقل بك من أرض الواقع القائم إلى سديم الحلم الهائم. فإذ به يرى في ما يرى النائم، السديد الرؤيا، أنَّ نظاماً عالمياً جديداً يبزغ نجمه الوردي في الأفق الشفيف، فيسارع إلى رسم فاتحة الطريق إليه من إدراكٍ عميق لمعاني "المهمة التاريخية التي بدأها ماركس، قبل ما يزيد على قرن ونصف قرن، ألا وهي مهمة تغيير العالم التي ستظل مهمة الأجيال الجديدة للبشرية جيلاً بعد جيل".
هذا بعض ما وسعني قوله في شأن بعض المعالم في النص التي تستدعي الترحيب بها، أما في شأن المعالم التي تستدعي النقد الموضوعي، فأكتفي بطرح ما يصلح، ربما، لمزيد من النقاش.
في المجموعة الثانية
أولاً: إنَّ ما يطالع القارئ اليساري، مبثوثاً بكثرة في ثنايا النص، كلامٌ يفصح عن أنَّ التغيير مهمة أساسية من المهمات التي يتعيَّن على اليسار الجديد الاضطلاع بها، تجسيداً عملياً ليساريته. ولكن حين يمعن القارئ النظر في طبيعة المهمات التي أوردها صاحب النص، يجدها أقرب إلى طبيعة الإصلاح ليس أبعد. ذلك لأنَّ التغيير، الجذري بخاصة، له دلالة بنيوية، لا يخطئ إدراكها الوعي النقدي، لكون التغيير، بحكم طبيعته يُحدث تغييراً في صلب بنية السائد، بكامل مكوناته، فيزلزل تحصينات الواقع القائم، واحداً بعد الآخر، ويهمِّش كوابحه، جملةً وتفصيلاً.
بالمقابل، فإنَّ الإصلاح، بحكم طبيعته هو الآخر، لا يتحرك إلاَّ في أحشاء بنية السائد مقيَّداً بشرط احترام "الشروط الواقعية"، على نحو ما جاء في النص تكراراً. إذاً فأقصى ما يرمي إليه الإصلاح أن يُحدث ترميماً أو تجميلاً في هيكل السائد، أو يُجري تعديلاً في تشريعاته الخاضعة، بدورها، لقانون النظام المهيمن، كأن يُصار، مثالاً، إلى إجراء تعديل شكلي في قانون الانتخاب النيابي أو البلدي...
ثانياً: يأخذ القارئ اليساري، على صاحب النص، إغفاله القيام بمراجعة نقدية موضوعية لتجربة اليسار، اللبناني في الأقل، لا سيما أنه أمضى ردحاً طويلاً من عمره في موقع متقدم في قيادة أحد فصائله البارزة. ثم يأخذ عليه، أيضاً، إغفاله الوقوف عند ما أحرزته قوى اليسار العربي، بنضالاتها المرهِقة على مدى عقود، من نجاحات سياسية واجتماعية وأدبية وثقافية وفكرية وما حصدته، في الوقت عينه، من خيبات وانتكاسات مريرة، تبقى مادةً تاريخية تصلح للدراسة والإعتبار...
ثالثاً: يسجِّل القارئ اليساري على صاحب النص أنه تقصَّد، عامداً، عدم إيراد كلمة إشتراكية في أي مهمة من المهمات التي اقترحها على أهل اليسار، مبرِّراً ذلك باسترشاده بموقف لينين في برنامجه المعروف "بالسياسة الاقتصادية الجديدة".
وهب أنَّ لينين، يقول القارئ اليساري، لم يتحدث في ذلك البرنامج عن الاشتراكية، فهل سقطت الإشتراكية من برنامج حزبه التاريخي؟ الحزب الذي كان يضع الاشتراكية في رأس المهمات الاستراتيجية التي يسعى إلى تحقيقها، ثم إنَّ صاحب النص هو بالذات، كما سبقت الإشارة، من "رأى في فكر ماركس ما يخدم أفكاره واقتراحاته للإسهام في صوغ مشروع جديد لليسار وذلك باسم اشتراكية ماركس أو باستلهام الأساسي من أفكاره فيها".
والجدير بالذكر، هنا، أنَّ الاشتراكية، هي أكثر من مهمة، إنَّها الأُفق الذي تندرج في سياقه شتى المهمات التي يضعها نصب عينيه حزب يساري (ماركسي)، والإشتراكية هي وحدها التي تضع في مقدم مهماتها الأساسية، مهمة القضاء النهائي على التفاوتات الاجتماعية وعلى استغلال الإنسان للإنسان في هذا العالم.
رابعاً: كما يسجِّل القارئ اليساري على صاحب النص أنه ذهب بعيداً في موقفه من الطبقة العاملة، في كونها ضمرت حجماً وضعفت قدرةً وفقدت دورها في ظل الرأسمالية المعولمة، كما ذهب بعيداً في تقدير التحولات التكنولوجية، التي يشهدها العصر الحديث، أو في توسيع نطاق خيراتها على "جميع البلدان غنيّها والفقير..." كما يقول حرفياً.
ليس لي من المعرفة ما يخوِّلني الخوض في غمار هذا البحث الصعب المراس، من هنا ألجأ إلى أحد سادة المعرفة الأفذاذ في مجتمعنا العربي هو سمير أمين، فأستعين برأيه على تحقيق مرادي إذ يقول.." إنَّ كل ثورة تكنولوجية تحوِّل، فقط، البنى التنظيمية للعمل، وإذا كان المجتمع طبقياً فلن تُلغى هذه الطبقات بفعل التحوُّل المذكور، بل ستغيِّر من شكلها، ولعلَّها، إلى درجة ما، توهم باختفائها كما هي الحال الآن".
ثم يسأل سمير أمين نفسه في شأن التحولات في تنظيم العمل فيقول: " فما هي، يا ترى، النتائج الاجتماعية الحقيقية المترتِّبة على التحولات السائدة؟!
ويسارع إلى الإجابة بالقول: "الصعود السريع والإستثنائي في نصيب عوائد رأس المال المعولم والملكية على حساب عوائد العمل، التهميش والفقر، والإقصاء لأقسام ملحوظة من الشعوب".
هذا في شأن الأثر الطبقي لتحولات الثورة التكنولوجية.
أما في شأن اتساع نطاق خيراتها على مختلف أقطار العالم وفق ما جاء في متن النص "أنَّ ثورة التقنيات والمعرفة والإتصالات قدمت للشعوب، في جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة، المتقدمة منها والمتخلفة، على حد سواء، الأدوات التي توفِّر للإنسان امتلاك المعارف في ميادينها المختلفة من دون عناء".
أما في هذا الشأن فحسبي أن أورد ما جاء على لسان عالم الاجتماع جاك قبانجي وخلاصته: "أنَّ ما تنتجه ثورة المعرفة والإتصالات من مفاعيل تقع في دائرة التداول والإستهلاك، فيما دائرة الإنتاج تقع خلف هذا النتاج، كما تحدد محتواه ونوعه وكميته وهدفه.. ترى هل تتوحَّد كل شعوب الأرض على مسافة متساوية من دائرة الإنتاج هذه؟! وهل من يستهلك النتاج (المعرفة أو المعلومة) كمن ينتجها؟! ثم أين يقع هذا كله من عملية تقسيم العمل على الصعيد الدولي؟؟! وكيف تبرز مفاعيل الاستغلال الرأسمالي المكثف لقوة العمل الرخيصة في بلدان الأطراف؟!
وبعد فأجدني، أميل إلى، في نهاية المطاف، إلى الأخذ بمذهب القائلين بأن اليسار، الماركسي بخاصة، مطالب اليوم، برغم هزاله وتشتّته، بأن ينتفض من ركوده المزمن وبطالته الفكرية، ويتقدم من جديد للقيام بدوره الطليعي في جمع أطراف اليسار الديمقراطي العلماني والعمل معاً على صوغ برنامج نهضوي جديد، وتحديد آليات التنفيذ المرحلي باتجاه تحقيق الديمقراطية والمساواة والعدالة الاجتماعية، بأفق إشتراكي، وإقرار علمنة الدولة ومبدأ المواطنة وتحديث المجتمع وتعزيز الحراك العربي الديمقراطي التقدمي، والسعي، المنهجي الدؤوب، إلى تحرير الأرض العربية المحتلة، بشتى السبل المتاحة، في فلسطين والجولان وفي جنوب لبنان.
ولا شك في أن الهيئة المختارة ديمقراطياً للاضطلاع بمهمة صوغ البرنامج المنشود لسوف تستضيء بما جاء في مشروع كريم مروة، المدرج في كتابه "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" وبما جاء في مشاريع أخرى صاغها أو يسعى إلى صوغها يساريون ديمقراطيون علمانيون هنا في لبنان وهناك في سائر الأقطار العربية.

وأخيراً يشرفنا أن نعرب، باسم المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، عن بالغ تقديرنا وجزيل شكرنا لسادة هذا المنبر، وهم من أفذاذ المفكِّرين والباحثين وقد جاؤوا إلى بيروت: عاصمة الكتاب والحرية والأسئلة، من فلسطين ومصر وتونس وفرنسا إضافة إلى المشاركين اللبنانيين وفي مقدمهم الصديق الدكتور طارق متري وزير الإعلام.
وفي الختام يسعدنا، بالغ السعادة، أن نعرب عن أطيب التمنيات للصديق الحميم أبي أحمد، كريم مروة، في مناسبة بلوغه الثمانين من عمره المكتنز بالمنجزات المهمة، قولاً وعملاً، وبالمشاريع المستقبلية، المثيرة للجدل والسجال، آملين أن يمضي قدماً في مسيرته الكتابية، بحثاً وكشفاً وعطاءً، باتجاه المستقبل السعيد المضيء، مستقبل الإنسان في أرض العرب كافة، والإنسان في جنبات الأرض قاطبة..

كتاب المقاومة لكريم مروة

الرصاصة التي أصابت الهدف

أ.نبيه عواضة
أسير محرر ومقاوم في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية
تحت مظلة يسار داع لنهضة في الفكر والممارسة نلتقي.. نزعم أننا من أصحاب ثقافة النقد ولغة التجدد والتطور والتقدم..
نستظل بكنف عباءة المقاومة ونعرفها فنا مبدعاً خلاقاً متنوعاً رحباً ممتدة على مساحة الوطن العربي بكل قضاياه..... نلتقي إذن لا تجديدا للعهد والوعد والبيعة وهي مفردات الفتها المنابر شرقاً وغرباً يمينا ويساراً لتشكل نوعاً من التعمية على واقع هو اشد حلكة وأكثر تعقيدا من أي استسهال بالوصف.. فماذا عساي أقول في حضرة كبار المبدعين والمثقفين وأهل الفكر وأنا ممن كان يقال عنهم حطب الثورة أكانوا الشهداء الذين قضوا نحبهم قبل أن يبدل واقع الحال تبديلا، فظلوا انقياء ما عبثت بهم المرحلة، وما وقعوا في حيرة مرة.. أم الأحياء منهم المسكونين بهاجس التساؤل الكبير هل هزمنا ؟ هل هزمت معتقداتنا رغما عنا أم لسبب منا حين منعنا عن أنفسنا بأنفسنا ضرورة المراجعة والتقييم والتجديد ؟.. هل هزمنا الفكر اليميني والسلفي والأصولي لأنه تجاوزنا أم هزمنا لأننا تخلفنا عن مواكبة العصر ممارسة وتفكيرا، تخلفنا عن الحياة.. وبعد
لماذا تعذر علينا النهوض ونحن بناة ثقافة التحرر والتقدم ؟ وهل ما نعانيه هو أزمة يسار فكري سياسي تنظيمي أم مشكلة يساريين عاجزين عن تجاوز إخفاقاتهم، فضاعوا بين ركام الانهيارات، تارة تخبطا، وتارة أخرى مكابرة..
هل كان مشروعنا مشروعاً ثورياً قابلاً للحياة ؟ هل كان ديمقراطياً ؟ هل كنا ديمقراطيين أم أننا مارسنا قمعاً سلطوياً تحت شعار الحفاظ على الذات، استمراراً لما كنا نعارضه ووقعنا ضحيته حين رددنا نحن أيضاً لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.. هل كان مشروعنا مشروعاً وطنياً وان الذي حصل هو عملية إجهاض له نفذتها أنظمة عربية مسيطرة قمعاً لإرادة شعوبها ومقدراتها. هل واجهنا تلك الأنظمة ؟ أم أننا سايرناها وخضعنا لها بذريعة دقة المرحلة وصعوبتها.
ابن حزب ترك بصمات ناصعة في سجل البلاد، وكواحد من أولئك المقاومين الشيوعيين واليساريين السابقين والحاليين ممن كان لهم شرف حمل البندقية المقاومة تحريراً للأرض ودفاعاً عن الوطن بوجه الغزاة الصهاينة بعيدا عن الحصرية والمهام المعدة سلفا،واحد من المعتقدين بسيادة منطق المقاومة الجامع بين التحرر الوطني والتغيير الاجتماعي الذي يطال الرغيف ولقمة العيش ومقومات بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة دولة العدالة والرفاهية والمساواة.. فانطلاقاً من تجربتنا هذه ومن اجل تثبيت حقوق أمنا بها وأمنا أنها بنت التاريخ ومنطقه.. وانطلاقاً من تلك الهواجس التي حفرت وجعاً على جدار المعتقلات حين طالت زردات السلاسل بعضاً من أحلامنا... نسأل
هل من ضرورة لليسار في بلد ضاق بالثوار الحقيقيين وضاج بمنتحلي الصفة حين كثرت فيه تسميات الثورة واستولى على المصطلح طغاة الشعب من مفسدين وطائفيين وإقطاع سياسي ومالي ؟ هل من ضرورة لليسار وما هو هذا اليسار الذي نريد ؟ يسار الحداثة.. يسار معفى من الصفات.. من الملكية الحصرية للحقيقة..يسار مجرد من التبعات السلبية لاسمه القديم وتجربته القديمة ؟ أم إننا نريد يساراً شكلياً يحدد نفسه بموقع جلوسه على طاولة الملك لتختلط عليه الرايات ويضيع بين ألوانها ومهماتها.. فيصبح ملحقاً هنا أو تابعاً هناك.. فيكون واهما بالحالتين
إن الحياة أوسع من التجارب..... والأفكار ليست بنت الهواء ولا هي تسقط مع المطر، الأفكار تحتاج إلى قامات تحملها فتغنيها.. إلى إرادة وعزيمة بغية تحقيقها... فقد آن الأوان للخروج من تحت الماء والتأكيد على أن رؤية الشمس لا تكفي لإزالة البلل..
ذات يوم لقم كريم مروة بندقيتنا برصاصة عنوانها كتاب عن المقاومة، وقد أصابت الهدف.. واليوم يقدم لنا دعوة صريحة.. هي أشبه بالصرخة.. مستخدما القلم نفسه تحريضاً لنا كي ننهض من جديد.. فهل يصيب مرة أخرى.. ولوحة الحياة ناقصة بلا ريشة اليسار والوانه.
أخيراً
بحضرة ثقافة الجنوب ومجلسه الشاكي لبيروت توقه رؤية جبل عامل معافى بتعدد منابر الحرية فيه، ليجد العاصمة وقد تغيرت ملامحها تقاتل بضراوة كي تعود نبراسا للثقافة الوطنية المتحررة من اسر الطائفية والمذهبية ووجهاً نضالياً يناصر الكلمة والكتاب والقضايا المحقة والعادلة على مستوى الوطن والأمة والعالم.. فاستعادة اليسار لدوره هو استعادة الوطن كل الوطن لحلمه...

كم سعينا لتغيير هذا العالم

بالكتابة والحب والإيقاع والموسيقى

أ. مارسيل خليفه
الموسيقار اللبناني
في هذا اللقاء الحميم في قصر الأونيسكو، ليتني كنت أستطيع أن أكون معكم مباشرة، أن أكون بينكم، أن أجد مقعداً للحنين على وقع الصداقة مع "أبو أحمد".. لكنني أجلس أمام الكاميرا في البعيد البعيد، أتلو وأبوح بهذا النص، رغبة في التعبير عن فرح غامض، عن سعادة ما، وسط هذا الظلام الدامس.
تعود بي الذاكرة إلى سنة 1976 عندما ذهبت إلى باريس هارباً من ضيعتي عمشيت مع كوكبة من الأصدقاء، حيث لم تتحمل المنطقة ميولنا اليسارية في حروب صغيرة وكبيرة امتدت حتى يومنا هذا.. والتقيت هناك بالأصدقاء الجدد الذين غصت بهم مقاهي المدينة. ورحت بخجل وتردد أعرض بعضاً من تجاربي الموسيقية الأولى.
كان الأصدقاء الجدد يسمعونني ويهزون برؤوسهم. كريم مروة أدرك يومها تماماً ما هو مشروعي، أو على الأقل جدية ما أحاول الخوض فيه. وفي صباح باكر من شهر آب لسنة 1976 دخلت إحدى استديوهات باريس الصغيرة وسجلت اسطوانة "وعود من العاصفة" بعد أخذ ورد ولقاءات مع مسؤولي شركة الأسطوانات الفرنسية Le Chant du Monde "الغناء مع العالم". وظهرت الأسطوانة في احتفالات الـ Humanite بالقرب من بسطة للحمص والفول والفلافل على خشبة الجناح اللبناني.
أتذكـّر يا "أبو أحمد" كم سعينا أن نغير هذا العالم واستبدال فوضاه بالكتابة، بالحب، بالإيقاع، بالموسيقى. وكم حرضنا الناس على الفرح لا الغياب، وعلى الحياة لا العدم.
فتجريدنا اليوم من حقنا في إبداء الرأي على أرضنا هو بمثابة الشك في قمر الحب الذي يغمر ليلنا الدامس بالغصة الصريحة.
نحن الذين لم يبق لنا في هذا العالم إلا "الحلم" نتمسك به كخشبة خلاص ضد هذا المد الطافح بالكراهية والبؤس.
فلماذا يعتقد البعض أننا سوف نتنازل عن هذا الحق. بل سندافع عه بشتى الأشكال، في حين أنهم يمعنون في غزل الشباك ونصب الفخاخ لأجمل خطواتنا – نحو المستقبل.
صديقي ورفيقي "أبو أحمد". سأظل أحبك اليوم وأنت على مشارف الثمانين كما كنت أحبك شاباً متحمساً وأخرقاً. وهذا حق مشاع، كما أعتقد، وليس لأحد مصادرته. أنت الذي ولدت من صخرة جبل عامل متميزاً برهافة عصفور.
ها نحن يحدق بنا الخطر دون أن نملك دفاعاً غير هذه الكلمات وهذه الأفكار، والإيمان الأعظم بأننا ذاهبون إلى مستقبلنا الذي نريده ونحلم به، بالرغم من كل محاولات تعطيل خطواتنا وتعويق ذهابنا الفاتن.
أصدقائي،
اسمحوا لي أن أرى في مشاركتي اليوم بهذه الأمسية الخاصة بكريم مروة موقفاً ثقافياً، إبداعياً، فكرياً، إعلامياً يتجدد بطبيعته، والتأكيد على حقيقة يقولها كل منا بطريقته، بعمله، بموقفه، وخاصة عندما يكون الوطن على ما هو عليه من حكم طائفي ومن تفكك وتشرذم. فليس الفكر هنا محايداً، ولا الموسيقى هي أيضاً محايدة. وموقفنا ليس إلا مع قلب المواجهة المحررة للإنسان وللوطن في آن، وللسلام الداخلي مع النفس والسلام مع الآخرين من ذوي القربى الفكرية، الأصدقاء والأصدقاء، حيث حاجتنا كبيرة إلى الهدأة الداخلية والطمأنينة، والشعور العميق بالقيم العظيمة التي تحفظ للإنسان الإنساني فيه، وحيث الحاجة كبيرة إلى أنسنة العلاقات بين البشر وإعادة تأسيسها على قواعد الإختلاف والإختلاف والتسامح والمحبة والإنصاف واحترام الكرامة ونبذ العنف والتعصب والطائفية والقهر والإضطهاد والإحتلال.
يا صديقي.. يا "أبو أحمد"
لعلك توافق معي على اعتبار هذا الإحتفال وجهاً من وجوه التعبير عن مسؤولية ما تجاه الثقافة والفكر وتجاه الناس والوطن في آن. نرفض فيه تهمة "التسييس" التي تشهر بوجه القلم والريشة ولا تشهر إلا لعرقلة نهوض البحث والإبداع وإلى اتخاذ موقف ثقافي ووطني. وإن المروجين لهذه "التهمة" هم الذين يمارسون، بالحقيقة، أبشع أنواع السياسة، سياسة تدمير الفكر والثقافة وإخضاع المفكرين والمثقفين لقوى القهر المتعددة الأشكال، سياسة إخراجنا من معركة شعبنا وسياسة التهميش.
يا كريم مروة..
تابع ما بدأت به من سنين واسهر على حماية الفكر ليصبح حصناً لا يهزم. لا تهدأ وانت في الثمانين لا في مكان ولا في قالب ولا في حالة... ابحث دائماً عن تلك الشمس الحارقة حتى لو ذابت مع أفق بعيد، وأعيد صياغة الحب والشوق والولع والتخيل والإيقاع والموسيقى، صوتاً مبدعاً لا مسـتتبعاً. أبحث عن بيان جديد نستأنف فيه الرحيل نحو ضفاف أخرى ومفردات أخرى للتعبير النظيف عن العالم والذاكرة والوطن والحياة في رحلة إلى المستقبل "الغامفض" (نحبه غامضاً دائماً)
يا صديقي "أبو أحمد"
هل تستطيع هذه الأمسية أن تخلصنا من ثقل أشياء عديدة ترمي بوزنها على الذاكرة كما على الجسد والروح، وكأن سنين الحياة تهرب ونحاول أن نلتقطها، أن نستوقفها، أن نستدعي كل شيء مجدداً لنروي مع إيقاعها بشكل مفتوح قليلاً من المعنى.
يا رفيقي "أبو أحمد"
ليس لعلاقة الإنتماء التي تربطني بالفكر الذي حملته سوى واحدة من بين العناصر العديدة التي أعتز وأمجد بها حياتي بلا تردد. ربما الحياة سوف تخلو من المغزى إذا خلت من هذا الإنتماء وافتقرت إلى الحب، لأني أرى مع الإنتماء سلوكاً إنسانياً في الدرجة الأولى.
صديقي
لا أستطيع أن أرى حدوداً مع صداقتك، أراها مفتوحة على كل الإحتمالات. وأرغب في أن تصدقني بأنني أطمع بأن أتوصل إلى ممارسة حريتي إلى أقصاها وأن أحقق أمنية، ذات يوم، بأن أصبح واحداً منكم، كما قلت لك في عيد عمال عمشيت في سبعينات القرن الماضي، عندما أتيتنا مع عروستك نجوى.
أحييك ومبروك لبلوغك سن الرشد. وحاول أن لا تشعر بذلك الزمن الفيزيائي الذي يتلاشى مع الجسد. أرى من البعيد سعف نخيل وغصون زيتون، أرى أولاداً وشموعاً. أسمع تراتيلاً وأنغاماً ورجع أجراس.
النساء خرجن وفي أيديهن أرز وزهر. الموكب يقترب والأغنية طالعة من الجسد.
يطير الحمام، يحط الحمام

القسم الثانى

حوارات من القاهرة

حسين عبد الرازق- عبد الغفار شكر
سامر سليمان- عبد الشكور حسين
مصطفى مجدى الجمال- محمد فرج
محمد سعيد دوير- عبد القادر ياسين
عماد عطية- إيمان يحيى- أحمد بهاء الدين شعبان سعد الطويل- حلمى شعراوى

نظم مركز البحوث العربية والأفريقية بالتنسيق مع مؤسسة خالد محيي الدين الثقافية ومركز آفاق اشتراكية والمركز الاجتماعي الديمقراطي والكتلة الاشتراكية للتغيير ندوة لمناقشة كتاب "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" للمفكر اللبناني الأستاذ كريم مروة شارك فيها أكثر من خمسين شخصية من كل مواقع اليسار المصري وأجياله المختلفة وذلك يوم الاثنين 19 يوليو (تموز) 2010، وأدار الندوة كل من حسين عبد الرازق مدير مؤسسة خالد محيي الدين الثقافية، عبد الغفار شكر نائب رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية.
وقد ارتأى منظمو الندوة، لعدم توفر نسخ من الكتاب، تصوير الفصل الثاني منه وتوزيعه على المشاركين في الندوة. لذلك فقد اقتصر نقاش المشاركين في الندوة، باستثناء عدد قليل منهم، حول هذا الفصل بالذات.

افتتح الندوة الأستاذ حسين عبد الرزاق بدعوة الأستاذ كريم مروة مؤلف الكتاب لتقديم ملخص مكثف لمحتويات الكتاب. وكان الغرض من هذه المقدمة إطلاع المشاركين في الندوة ممن لم تتح له إمكانية قراءة الكتاب بقسميه وبفصوله. ثم بدأ النقاش.

أ. حسين عبد الرازق (عضو المجلس الرئاسي لحزب التجمع التقدمي الوحدوي)
شكراً للأستاذ كريم مروة على ما قدمه من تلخيص هام بالنسبة لمن لم يقرأ الكتاب وتقديمه له بإيجاز ووضوح رغبة الإنسان عادة في الإفاضة وليس الإيجاز عند حديثه عن مؤلف خاص به. سنجد في الأوراق الموزعة عليكم أنه حدد اليساري بأنه يمكن أن يكون متأثراً بأفكار الاشتراكية من ماركس حتى اليوم ويمكنه أن يكون عضوا في حزب اشتراكي أو شيوعي أو حزب قومي متأثراً بالاشتراكية ويمكن أن يكون ديمقراطياً بالمعني الواسع للمفهوم. فاليساري الذي يتوجه إليه في هذا الحديث هو الذي يريد لبلده الحرية والتقدم وسيادة العدالة الاجتماعية الذي لا يمكن تحقيقهم إلا بالنضال لإحداث تغيير جوهري في الوضع القائم.

د.عبد الغفار شكر (نائب رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية):
أن مناقشة كتاب كريم مروة أمر له أهمية كبيرة لأنه أحد القيادات التاريخية للحزب الشيوعي اللبناني وهو في نفس الوقت مثقف عربي اهتم بقضايا الأمة العربية له علاقات نضالية في معظم الأقطار العربية. أنضم كريم مروة لمن لا يعرف إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1952 وتحمل مسئوليات متدرجة فيه إلى أن وصل لمسئولية نائب الأمين العام عام 1984. وقرر بعد ذلك التخفف من مسئولياته الحزبية ليتفرغ أكثر للعمل الفكري لأنه جمع في مسيرته الطويلة بين العمل السياسي والعمل الحزبي وأحيانا العمل العسكري والعمل الفكري. وقد جعلته مسئولياته داخل الحزب يلعب دوراً رئيسياً بالنسبة لصحافة الحزب وكان آخرها مجلة الطريق، وللأستاذ كريم مروة العديد من المؤلفات والكتب ومئات المقالات والدراسات. من مؤلفاته "نحو جمهورية ثالثة" و"الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث" و"الفكر العربي وتحولات العصر" و"في البحث عن مستقبل" و"كريم مروة يتذكر" وأخيراً الكتاب الذي يدور حوله النقاش اليوم "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". طلبت من ستة من الأصدقاء يمثلون اتجاهات مختلفة أن يقرأوا الكتاب كاملاً وأن يعدوا قراءة نقدية له. سأعطيهم الكلمة أثناء النقاش حتى يكون هناك نوع من التجاوز. هؤلاء الزملاء الأربعة هم د. شريف حتاتة ود. صلاح السروي ود. سامر سليمان والمهندس أحمد بهاء الدين شعبان والأستاذ عبد القادر ياسين والأستاذ مصطفي مجدي الجمال ومن يريد الكلمة يعطيني اسمه.

د. سامر سليمان (أستاذ الاقتصاد السياسي بالجامعة الأمريكية وعضو مجلس تحرير مجلة البوصلة)
مساء الخير أنا سعيد بوجودي للتعليق على كتاب هام للأستاذ كريم مروة. وفر لي منظمو اللقاء الفصل الثاني من الكتاب لأعلق عليه والمعنون بـ "نحو نهضة جديدة لليسار" وهو ما سأعتمد عليه في مناقشتي لأنه لسوء الحظ لم يتح لي فرصة قراءة الكتاب كاملاً. أحيي بداية المؤلف على الحيوية الذهنية التي تمتع بها الفصل. فقد شعرت دون مبالغة تدفق وحيوية في بعض الأحيان لم أشاهدهما في كتابات شابة. أتفق في الحقيقة مع المواقف السياسية الموجودة في هذا الفصل بشكل شبه تام وهو ما شعرت في البداية أنه سيصعب مهمتي لأن التعليق على كتاب تختلف معه أسهل بكثير جداً من التعليق على كتاب تتفق مع خطوطه العامة. إلا أن ذلك لا ينفي تحفظي الشديد جداً على طريقة عرض الأستاذ كريم مروة للأفكار والمواقف السياسية، ففي رايي أن الروح المكتوب بها النص تخلو نهائياً من النقد الذاتي. رغم وجود مواقف أرى أنها جيدة جداً لكنها أيضاً جديدة وكان من المفترض أن يعود بنا الأستاذ كريم كذا خطوة إلى الوراء ليقول لنا لماذا يري هذه المواقف الجديدة صحيحة؟ ولماذا لا يصح استمرار المواقف القديمة؟ وما هي الأرضية الفكرية التي استطاع من خلالها الوصول إلى هذه المواقف؟
أختلف أيضاً مع طريقة استدعاء النصوص لتبرير مواقف جديدة لأني أرى أن مواقف الأستاذ كريم الجديدة قادرة على الدفاع عن ذاتها. فاستدعاء النصوص التاريخية لتدعيم مواقفي تكتنفه روح أصولية كما أنه من الممكن أيضاً لأخرين استدعاء نصوص مخالفة لتلك التي أتيت بها للتأكيد مثلا على مواقف ستالينية قديمة. فلماذا لم تكن هناك محاولة لعمل مراجعة فكرية؟ فلقد أخذ الاستاذ مروة موقف جيد جداً من وجهة نظري في موضوع الدولة.. فلا أحد يعيش في منطقتنا ولا يري أن هناك مشكلة ضخمة في بناء الدولة في العالم العربي من السودان جنوباً إلى لبنان شرقاً وموريتانيا غرباً. وحتى أقدم وأرسخ دولة في المنطقة ممثلة في الدولة المصرية تعاني مشاكل خاصة بفرض سلطة القانون، وهناك الآن أيضاً مشاكل في سيناء.. موقف ناضج جداً أن تتحدث عن فكرة بناء الدولة لكن هذا ليس موقفك منذ 20 سنة.. فلماذا لم تؤصل لهذا التجديد بشكل فكري. ألم يكن المارسكيون مقتنعون بضرورة تحطيم الدولة لفتح الأفق للتحرر الإنساني؟ أنا لا أقف اليوم في هذه المنطقة نهائيا، وأري هذا الكلام طوباوياً وليس له أي محل من الإعراب. ولكن في هذه النقطة لا يجب العودة إلى النصوص التاريخية. فحتى ماركس ولينين لن يخدماني في هذا الموضوع نهائياً..
أري إننا بحاجة إلى تعريف لـ "الدولة" وإخضاع ذلك الذي قدمته الماركسية للتحليل والنقد بما يمكننا بعد ذلك من وضع أسس راسخة لموقعنا الجديد المدافع عن وجود الدولة مع إصلاحها وإخضاعها لاحتياجات الطبقات العاملة. كنت شخصياً مهتما منذ وقت طويل بموضوع الدولة وقرأت في هذا الموضوع لماركسيين وغيرهم وفشلت في أن أجد تعريف ماركسي للدولة بالمعني العلمي للتعريف. فماركس ولينين وبعدهما بولنتزاس تحدثوا عن الدولة باعتبارها أداة للقهر الطبقي تمتلكها طبقة لقهر الطبقات الأخرى.. لكن هذا التعريف لم يذكر ما هي الدولة أساساً، هو يتكلم عن وظيفة الدولة؟ الفكرة الموجودة عندي هي أن الدولة ببساطة شديدة عبارة عن مجموعة من المؤسسات العامة، من الممكن أن تكون في الواقع تحت سيطرة مجموعة حاكمة تسخرها لمصالحها أو تحت سيطرة ديكتاتور يأخذها في ركابه- لكن تبقي في النهاية فكرة أن الدولة مجموعة من المؤسسات العامة. إذا عرفت الدولة بهذا الشكل يمكن لي أن أتخذ الموقف الذي أتبناه اليوم منها باعتبارها مؤسسة هامة جداً لإدارة شئون المجتمع. أتخيل أنه لابد من الإشارة عند الحديث عن الـ "مجتمع" في أطروحة يسارية أو تحررية، إلى وجود مجال عام ومصالح مشتركة بين الناس تتجاوز المصالح الفردية، أحد أشكال تحققها وتنظيمها والدفاع عنها يتم من خلال الدولة ومن خلال أشكال أخرى مثل الاتحادات النقابية والأحزاب. إلا أن الدولة هي الآن الشكل الأعم والأرقي في مسألة تنظيم المجتمع ولا يمكن تجاوزها. وبالتالي لا يمكنني اليوم تبني هذا الموقف السياسي إلا إذا رجعت وأسست فروضاً نظرية غير موجودة في الكتابات الماركسية الكلاسيكية.
أتفق تماما أيضاً مع تحديد الأستاذ كريم للبرنامج المرحلي على أنه برنامج ديمقراطي وأتفق تماما أيضاً مع البديهية التي حاول التأكيد عليها وأعني بذلك فكرة المرحلية وأن كل مرحلة لها طبيعتها وتناقضاتها ومطالبها. فلا يوجد ناس يناضلون في الفراغ. تقول قراءة الأستاذ كريم أن القضية المحورية هي الديمقراطية بالمعني الواسع للكلمة. أوافق تماما على هذا الاستنتاج وإن كان عندي سؤال ماذا يفرق بين اليسار وأي تيار ديمقراطي آخر؟ فماذا يفرق بين اليسار والليبرالية؟ أقف هنا عند أن فكرة النضال الاجتماعي في كتاب الاستاذ مروة ليست بالوضوح الكافي. لن يكون الفارق بين اليسار والتيار الليبرالي واضحا إذا تحدثنا عن الديمقراطية وفقط. فالمفصلي والمحوري في اليسار وما يعرفه ويحدده في رأيي هو الإيمان بنظرية القيمة في العمل والتي أرى أنها أهم ما كتبه ماركس. فنظرية ماركس في الدولة وكتابات لينين من بعده في هذا المجال ضعيفة جداً وغير مؤسسة لكن الإسهام الحقيقي الماركسي والذي أعتقد أنه مازال صامداً إلى اليوم هي نظرية القيمة في العمل التي لم تستطع كل النظريات التي حاولت نقدها سوي أن تضع هوامش عليها. الأصل في الموضوع أن أي منتج بشري يحتاج إلى العمل وأي قاعدة إنتاجية للمجتمع، الصناعة، الزراعة أنتجها العمل. التقط ماركس هذه الفكرة من بعض المفكرين الكلاسيك وأوصلها إلى نهايتها وبني عليها فكرة حق الطبقة العاملة في ناتج عملها باعتبارها المنتج الحقيقي. أهم تحفظ على هذه النظرية طرحه شومبيتر عن "المنظم" على اعتبار أن الطبقة العاملة ليست الوحيدة المشاركة في العملية الإنتاجية وأن أي عملية إنتاج لمنتج معين بحاجة إلى منظم لها. محاولاً بذلك إعطاء دور للرأسماليين في عملية الإنتاج بحيث يخرجون عن دائرة الطفيلية في حالة ما ارتبطوا بتنظيم العملية الإنتاجية وتواجدوا في أماكن عملهم لتنظيم العمل. بهذا المعني الرأسمالية طبقة ضرورية بقدر ما هي تقوم بتنظيم الإنتاج، وهي طبقة يمكن الاستغناء عنها بقدر ما يمكن تنظيم الإنتاج من خلال الدولة أو من خلال اتحادات وتنظيمات أصحاب العمل من العمال والمهندسين والمحاسبين وغيرهم. نحن الآن لا نمتلك برنامج عملي لإدارة العمال والدولة للإصول الإنتاجية في المجتمع. وعلي هذا فالاشتراكية قضية مؤجلة. لكن تأجيلها لا يجب أن يحصر اليسار في النضال الديمقراطي بشكله السياسي. فاليسار لابد وأن يبحث دائماً عن أشكال لتنظيم الإنتاج من قبل المنتجين والعمال (التعاونيات مثلاً) ويجب عليه أيضاً أن يناضل من أجل أن تتجاوز الديمقراطية الحدود السياسية لكي تصل إلى الديمقراطية الاجتماعية والإقتصادية والتي وإن لم تكن ستزيل الطبقة الرأسمالية إلا أنها ستحد من توحشها.
أ.عبد الشكور حسين (كاتب سياسي)
تقول الدراسة التي قام بها الأستاذ كريم مروة أن هناك يساريين دخلوا في فتن طائفية ودمروا مجتمعاتهم وبالذات في لبنان وبعض البلدان المجاورة لها. وتستثني من ذلك الشيوعيين في مصر وتونس وبعض البلدان الأخرى. وبدل ذلك على ضيق النظر في المحل الأول. يزعج السيد كريم مروة أمران في الماركسية هما الدولة والطبقة العاملة. تعني الطبقة العاملة في حدود قراءاتي في الماركسية حاملا لهموم الإنسانية والطبقات الأخرى ومنقذا لها وليس أبدا ما فهمه السيد كريم مروة. من يقف وراء مثل ما يقوله الأستاذ كريم يريد أن يموَّه العمود الفقري للصراع في الإنسانية اليوم لكي يمكنوا الرأسمالية المتوحشة من الانتفاع.
يصف الأستاذ كريم مروة ود. سامر سليمان نفسهما بأنهما ماركسيان لكن الماركسي درس الدولة على أنها مؤسسة قهر تتكون من الشرطة والجيش يطالب الأستاذان كريم مروة وسامر سليمان بالدولة الرشيدة التي لا يمكن إنجازها في الواقع لأنها محض مقولات رأسمالية للضحك على الشعوب. فالدولة الرشيدة لا تقيم إلا سلطة الطبقة العاملة وحلفاءها والكادحين. أما غير ذلك فيريدون أن يشغلونكم به عما هو رئيسي. ولا أريد أن أطيل وإن كان في كتاب السيد كريم مروة أخطاء كثيرة تحتاج إلى تصحيح.

د.عبد الغفار شكر (نائب رئيس مركز البحوث العربية والأفريقية):
من الواضح أن المناقشة تحفل منذ بدايتها بتنوع في الآراء. أريد أن أقول أن الأستاذ كريم مروة شخصية مثيرة للجدل ولا يضيق بهذا النقاش والتنوع في الآراء وهذا جيد لأن الحاضرين قيادات سياسية وفكرية وعندهم إمكانيات لاستيعاب مثل هذه الاتجاهات المتعددة في الآراء.

كريم مروة: طبعاً
مصطفي مجدي الجمال (باحث بمركز البحوث العربية والأفريقية):
الأستاذ كريم مروة قيمة كبيرة في حياتنا الفكرية، بل وحتى الشخصية. أذكر أن كتاباته في السبعينيات كانت ملهمة جداً لي ولزملائي، خاصة فيما يتصل بنقد الأفكار اليسارية المتطرفة التي ربما كانت تصادف وقتها هوي في نفوس البعض، رغم أننا في الوقت نفسه كنا نشعر بقلق داخلي حقيقي تجاه تلك الأفكار- رغم شدة الانبهار أمامها- على الأقل من زاوية جدواها أو قدرتنا على ترجمتها في الواقع العملي.
وبمناسبة كتاب الأستاذ كريم مروة الجديد فإنني أمتدح قدرته في إطلاق الحوار وإثارة التفكير في وقت عزّت فيه هذه القدرات، وجرأته في طرح آرائه- حتى تلك التي سأختلف معها- بوضوح يُحمد له ودون التفاف أو محاولات للتعمية أو التغليف الخادع. وكذلك أهنئه على هذه القدرة في الإجمال والتعميم، فهو لم يتركنا أمام شذرات فكرية هنا وهناك، إنما أجملها في النهاية فيما رآه مشروعاً لنهضة جديدة لليسار في العالم العربي، وإن لم يزعم بالطبع أنه مشروع نهائي أو مكتمل أو غير قابل للتطوير والإثراء من قبل آخرين.
كم كان كريم مروة موفقاً حينما خصص عددًا كبيراً من الصفحات لنصوص ماركسية لا تزال بالغة القيمة حتى اليوم، وفي الظروف الرمادية المرتبكة التي نعيشها. ولعلّي أركز بشكل خاص على المغزي الذي تفوح به تلك النصوص أكثر من مضمونها الحرفي. فهي- أي النصوص- تبين لنا بمنتهي الوضوح المنهج الجدلي العلمي الذي اتسم به مؤسسو الماركسية ومطوروها وما امتلكوه من نزعة إنسانية عميقة، ومرونة فائقة إزاء الظروف ومستجدات التاريخ التي لا تنتهي، وتسلحهم بالموضوعية وعدم الانجراف وراء النزعات الإرادية المبالغة، أو الرضوخ البليد للواقع الظالم، وأخيرًا- وليس آخرًا- قدرتهم الفذة على التطبيق الفعال في الزمان والمكان المحددين.
كل هذا يدعونا إلى إعادة التأكيد على "تاريخانية" النصوص، وأن نتعلم منها بالدرجة الأولي قدرة أولئك المفكرين على تطبيق المنهج الجدلي في الظروف والملابسات التي واجهتهم. كما يجب أن نستخلص منها أن إبداعهم النظري المهم جداً كان إبداع مناضلين متفاعلين إلى أقصي الحدود مع الحركات الجماهيرية والطبقية، وأيضاً مع مستجدات العلوم وإنجازاتها المتراكمة. أي أنه لم يكن إبداع مفكرين عباقرة معزولين أو منعزلين أو حالمين. من ثم أستخلص أن أي إبداع نظري أو حتى سياسي يجب أن يكون ثمرة حوار خصب لعقل الجماعة "الثورية" في الوطن والإقليم والعالم.
بعد هذه المقدمة التي طالت أؤكد أنني لا أنوي مناقشة أسلوب تبويب أو تناول الكتاب لموضوعاته، وإنما سأركز على مناقشة بعضٍ من الأفكار المهمة الكثيرة التي وردت به.
أول ردة فعل تبدت على أثناء القراءة، أنني ساءلت نفسي: ترى هل تعود الماركسية "غريبة" كما بدأت؟ وهل نحن بصدد إعادة البناء النظري من نقطة الصفر؟ وهو سؤال له علاقة بتفاعلات وتداعيات فكرية خاصة بي، ولا ألصقها عنوة بالأستاذ كريم مروة.
إن الماركسية قد شيدت- ولا شك- "إمبراطورية" فكرية متماسكة في مرحلة متوسطة من عمرها، وبقدر ما كان هذا مظهراً من مظاهر القوة، فقد كان أيضاً من مظاهر "الطغيان" الذي شلّ القدرات الإبداعية على المستويين الإقليمي والوطني. خاصةً وأن هذه "الإمبراطورية" كان لها في وقت من الأوقات "فاتيكانـ"ـها الخاص، الذي يفرض قوانينها "السرمدية" الأشبه بقوانين الطبيعة، والمتسلحة للأسف بفرمانات "الحرمان الكنسي" في صورة الاتهامات المتعالية بالانحرافات اليمينية واليسارية "الانتهازية"، دون أن تمنح المناضلين في الميادين الصراعية شديدة التنوع حق الاجتهاد أو التفاعل مع سياقاتها الخاصة.
وأرجو ألا أكون شديد القسوة حين أقول إن التقدميين في العالم العربي اضطروا (تحت ضغوط الصراعات الدولية، خاصة في فترة الحرب الباردة، وبفعل قوة الانبهار بالنموذج السوفيتي والصيني بعد ذلك عند البعض..) اضطروا إلى إدمان الحصول على "المنتجات النظرية وحتى السياسية والتكتيكية الجاهزة"، دون إجراء حساب دقيق لنتائجها على حركتهم في واقعهم المباشر، بل وحتى دون تحليل مادي تاريخي يُعتد به لهذا الواقع.
نتيجةً لهذه الوضعية القاصرة لم ينقطع الحديث عن أزمات في الفكر الماركسي في مراحل تاريخية مختلفة نوعياً. وإذا نظرنا فقط للنصف الثاني من القرن العشرين، فقد كانت هناك مثلاً أزمات فكرية كبري حول الموقف السليم من البرجوازيات الوطنية، والموقف من الفلاحين وهل يمكن اعتبارهم قوة ثورية أساسية، وحول إمكانية التطور غير الرأسمالي ودور المثقفين والطلاب والبرجوازية الصغيرة والعسكرتاريا والزعامات الكاريزمية، وحول إمكانية بناء الاشتراكية عن طريق البرلمان والموقف من حرب العصابات الثورية، وحول المسألة اليهودية وإمكانية الاعتراف بقومية يهودية أو دولة صهيونية استيطانية، وحول التعاطي مع المنجزات المتلاحقة للثورة العلمية والتكنولوجية، وحول الانفراج أو الوفاق الدولي، وحول البيروسترويكا... هذا مجرد غيض من فيض.
وفي كل مرة يتداعي حديث الأزمة كانت هناك مشروعات عديدة للخروج من الأزمة. ولكن يؤسفني القول إن معظم المشروعات التي صيغت وطرحت في العالم العربي كانت مشروعات لا تغادر الأوراق، أي مشروعات بلا أجنحة وغير قادرة على الإقلاع من مكانها، أو إلهام الجمهور. لماذا؟
أقول إننا قد دأبنا على الذهاب إلى التجريد قبل أن نكوّن معرفة ضافية بالواقع الملموس. ومن ثم نسارع إلى وضع القواعد ورسم المسارات قبل النظر المليّ في التنوع القائم بالواقع المباشر. وأضيف أن معظم المشروعات التي طُرحت علينا في المراحل المتلاحقة لم تكن نتاجًا لجهد جماعي بقدر ما كانت إعمالاً لقريحة فردية.
يجب أيضاً على مشروعات الخروج من الأزمة- وهذا من نافلة القول- أن تراعي السياقات الإقليمية والدولية (وهو ما حاول كريم مروة القيام به في كتابه، وإن تظل هناك اختلافات بالطبع حول قراءة السياقات ذاتها)، وسياقات التطور المجتمعي المحدد، كما يجب أن تتسم مشروعات الخروج من الأزمة بما أسميه التوازن السيكلوجي (بمعني عدم الإفراط في جلد الذات أو الدفاع عنها) وعدم التهرب من الأسئلة الكبري والأسئلة المباشرة على السواء، دون أن تعتبر بالطبع أنها تقدم إجابات نهائية نموذجية.
الأخطر من هذا أنني لا أتصور مشروعاً للخروج من الأزمة- ناهيك عن مشروع للنهضة- لا يبدأ بالنقد الذاتي لليسار في البلد والإقليم المعنيين على الأقل. وهذا للأسف ما لم أعثر على أثر له في كتاب الأستاذ كريم مروة.
وأظن- وأحسبني على حق- أن أي مشروع من النوع الذي نتحدث عنه يجب أن يبدأ من التحليل والتنظير وتقديم الجديد السياسي والتنظيمي على المستوي الوطني، ولا أقول المحلي، وأن يهتم بالعمل على ما أسميه "توطين" الفكر الاشتراكي. ذلك لأن الماركسية مثلاً لا تزال "غريبة" في المجتمعات العربية، حتى على مستوي اللغة والمصطلح، ناهيك عن رؤيتها للعالم ومنظورها التحليلي.. ونحن في البلدان العربية لم نقدم للماركسية ما يمكن أن يُغنيها نظرياً على المستوي العالمي، أو على مستوي واقعنا الوطني والإقليمي من خلال إبداع رؤي جديدة، والسبب كما أسلفنا هو تقديس النصوص وتمجيد النموذج. ومن المتصور أن تكامل وثراء الإبداعات المختلفة في شتي أقاليم العالم هي الذي سيغني الماركسية بحق، ويجعلها "ذات صلة" وقابلة للحياة.
كما ألاحظ على "المشروع" المقدم من الأستاذ كريم مروة أنه لا يربط الأهداف (التي سأفترض أنها محددة موضوعياً لا ذاتياً) بالقوى القادرة على القيام بها، ولن أتطرف فأقول إنه لم يربطها بالوسائل اللازمة للتنفيذ.
يري الكثيرون أن البداية الحقة تتمثل في نقد "اشتراكية القرن العشرين". ولا غبار على هذا، ولكن النقد الذاتي- الذي نؤيده بالطبع- يجب أن ينصب أساسًا وأولاً على ممارسات كل فصيل ماركسي في بلده، ولا يمنع هذا بالطبع من توجيه جهد "ثانٍ" لمراجعة التجربة ككل وفي البلدان الأخرى، بل وحتى مراجعة الاجتهادات النظرية المختلفة بعد وضعها في سياقاتها.
غير أن هناك نقطة خاصة بما يمكن أن يقوم به الماركسيون في العالم العربي في مجال المراجعة النظرية، والتنظير الوطني، وهي أنه ليست لدينا مؤسسات حزبية أو معاهد قادرة على القيام باستخلاص نظري لمجريات الماضي وتطورات العصر، أو تكون قادرة على الأقل على الهضم النقدي لمخرجات الفكر الاشتراكي العالمي في العقدين الماضيين على الأقل. وهذا بطبيعة الحال يصب لمصلحة الأستاذ كريم مروة الذي يحاول بجهده الفردي سد هذه الثغرة، وإن كان هذا يسم مشروعه بالطابع الفردي الذي لا مفر منه حتى الآن, ما لم يكن المشروع المذكور شرارة لعمل جماعي كبير.
إزاء هذا كله، يدعونا التواضع المحمود- في ظل هذا الظرف المفهوم- إلى أن نركز على التجديد السياسي والتنظيمي، وأن نتلقف المبادرات الجماهيرية والمحلية بروح أكثر انفتاحًا، بقصد التعلم والتطوير، وليس برغبة السيطرة والإستيعاب.
عند هذه النقطة أقول إن هناك علامات مهمة على الطريق يجب أن نمر بها قبل المسارعة ببلورة، أو الادعاء ببلورة، مشروع للنهضة، حتى مع الاعتراف بكونه مشروعًا/ عملية قابلة للتجديد المتواصل. وأوجز علامات الطريق هذه فيما يلي:
أولاً: ضرورة تحديد مواقف واضحة من قضايا تاريخية لها أهمية ملحة في نضالنا الحالي، مثل: الموقف من القومية العربية، أرض فلسطين التاريخية، أطروحة "القومية" اليهودية، الستالينية، البيروسترويكا، النموذج السوفيتي والصيني والكوبي..الخ..
ثانيًا: حسم نسبي لمسألة المرجعية، مع مراعاة أن الاشتراكية كانت قائمة قبل ماركس ولينين، وبعدهما. كما يجب حسم العلاقة بين المرجعية والممارسة المحلية، وماذا أيضاً عن مرجعياتنا المحلية؟
ثالثًا: ضرورة أن تتسم اجتهاداتنا بتعدد مستويات التحليل (دولية، إقليمية، محلية) ورصد التفاعلات بينها، وتحديد مركز ثقل هذه المستويات الذي يتغير من مرحلة لأخرى.
رابعًا: حسم أوليّ لقضايا شديدة الأهمية من قبيل: الإصلاح أم الثورة؟، القوى الطبقية التي "نراهن" عليها مع رصد متغيراتها، كُنْه وطبيعة الإطار أو الأطر الحزبية والجبهوية التي نتحرك فيها، ما هي العلاقة بين قضايا النضال المختلفة (الاقتصادية، الديمقراطية، الوطنية، القومية، الأممية،..) وما هي الحلقة الرئيسية في المرحلة المحددة بالبلد المعني، ما طبيعة وحجم الدور الذي يلعبه العامل الثقافي في قضايا ملحة بأوطاننا مثل الطائفية والدين السياسي والتنوير والأبوية..، ثم ما هو الموقف من الحركات الاجتماعية التقليدية والجديدة، وكيف يمكن إدراجها في النضال السياسي العام، وكيف يمكن بناء وعي سياسي جديد قائم على أسس طبقية واضحة في ظل انشغال قيادات يسارية كثير بالنشاط الحقوقي والتنموي في المنظمات الأهلية..
أنتقل إلى ملاحظة قد يراها البعض شكلية، وهي ليست كذلك. فالأستاذ كريم مروة عنون كتابه كالآتي "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". وقد كان واضحًا في استبعاده لتعبير "اليسار العربي". ومع ذلك فإنه لم يفسر لنا ما الذي يوحد هذا "العالم العربي"، أو يوحد "اليسار" في هذا العالم العربي، وما علاقة هذا بوجود سمات ثقافية ونضالية خاصة باليسار في كل بلد عربي.
والآن، بعد المناقشة المنهجية السابقة، أنتقل إلى مناقشة بعض القضايا التفصيلية في الكتاب/ المشروع.
(1) وردت بالكتاب صفحة 59 فقرة أظن أنها غير موفقة بالمرة، أقتبسها كاملة حتى لا أستخدم منهج "لا تقربوا الصلاة"!!. تتحدث الفقرة عن "الهزائم العسكرية المتتالية التي أسفرت عنها مغامرات قادة هذه النظم وحلفائها هنا وهناك في الحروب مع إسرائيل تحت الشعار الزائف ’ لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ’ ". ويضيف الكاتب: "وهذا هو الوضع بالذات هو الذي أدي إلى أن تستولي الغرائز والمشاعر، بدلاً من العقل والعقلانية، على سلوك كثرة من الناس في تعاملهم مع أحداث حياتهم الخاصة، ومع الأحداث المأساوية التي تشهدها بلداننا"- انتهي الاقتباس.
وفي البداية أسجل اعتراضي الشديد الذي يصور الهزائم التي عرفتها المنطقة العربية بشكل يوحي أنها جاءت نتيجة "مغامرات" القادة فحسب. لو كانت العبارة أن المغامرات والنزعة غير العقلانية قد أسهمت في الهزائم، لما كانت هناك مشكلة مع الصياغة. ترى ألم تكن الهزائم نتيجة حتمية أيضاً للتواطؤ والعدوان الإمبريالي؟. ثم إذا أخذنا مثلاً حرب 1956 التي انتهت بهزيمة عسكرية ونصر سياسي، هل يمكن القول إن تأميم قناة السويس كان مغامرة غير عقلانية؟ ولماذا هذه المبالغة في إدانة شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".. ألم يرفع الحزب الشيوعي السوفيتي شعار "كل شيء من أجل الجبهة.. كل شيء من أجل النصر"؟ وهو الشعار الذي امتدحه كل الشيوعيين والرأسماليين في العالم.
ولا تفوتني الإشارة إلى عبارة "الحلفاء هنا وهناك".. فهل يقصد الأستاذ كريم مروة أن الاتحاد السوفيتي هو الذي ورط عبد الناصر في حروب مصر؟ أم أن العبارة منصرفة حصرياً للإيماء إلى حزب الله وعلاقته بإيران وسوريا. إن كان التفسير الأخير مقبولاً منه فلم لم يكن الكاتب صريحًا في حديثه.
(2) اجتهد الأستاذ كريم مروة اجتهادًا محمودًا في تطوير تعريف "اليسار". ولكن الأمر لا يخلو من خلاف. ففي صفحة 66 يُدخل ضمن تعريف اليساري ما يلي: "يمكن أن يكون اليساري ديمقراطياً بالمعني الواسع للمفهوم". فإذا كان يقصد مفهوم "الديمقراطية الاجتماعية" فلا ضرر عندي، ولكن إذا كان هذا النطاق الواسع يضم "ديمقراطيين سياسيين وفقط" (ولو مرحليًا) فهو غير مقنع بالمرة عندي، لأنه يحذف الأساس الطبقي للمفهوم تمامًا.
كما يُدخل الأستاذ كريم مروة في تعريفه لليساري أن يكون المرء "عضوًا في حزب قومي متأثر بالاشتراكية". ولا مانع عندي في هذا أيضًا. ولكن أليست القومية بعدًا وسمة ثقافية بدرجة أولي، ومن ثم أتساءل: "هل يمكن أن يأتي اليساري أيضاً من أرضية دينية"؟ إنه سؤال عويص. ليست لدي أي إجابة عن هذه الاحتمالية حتى الآن، ولكنه من التداعيات المنطقية للتعريف المقدم.
(3) يتحدث الأستاذ كريم مروة في صفحة 78 عن مبدأ الفصل بين السلطات. وكان حرياً به أن يقول إن اجتهاده هذا هو تطوير أو نقض لنظرية الدولة في الماركسية، مع العلم بأنه لا مانع لدي من الأصل للتعاطي الجدلي مع مقولة من هذا القبيل. ولكن ألم يكن من الأفضل وضع هذا المبدأ في إطار النضال الدستوري فحسب، لأنه- علمياً ونظرياً وعملياً - لن يكون هناك هذا النوع من الفصل بين السلطات إلا في يوتوبيا ديمقراطية.
ثم يتحدث الكاتب عن ضرورة الشراكة والتكامل بين مؤسسات المجتمع وبين الدولة، ويصنّف بين هذه المؤسسات "جمعيات أرباب المال والعمل" (وأظنه يقصد بـ"العمل" هنا البزنس أو "رواد الأعمال" وليس القوى العاملة، خصوصًا وأنه سبق وأن أفرد فقرة للنقابات). وهو طرح جديد، أتمني من الأستاذ كريم مروة أن يدعمه بشواهد واقعية، لأنه يصعب على كثيرين المراهنة على شراكة سيكون فيها سعد الحريري وجعجع، أو سلام فياض ودحلان، أو نجيب ساويرس وأحمد عز، أو كبار الماليين في الخليج..الخ.
وحتى إن تحققت هذه الشراكة فهل يتصور أنها كافية لتحقيق تغييرات جذرية، أم لإدخال بعض الإصلاحات الكميّة؟ خاصة وأنه بافتراض أن مؤسسات المجتمع ستكون راديكالية بأكملها، يصعب على تصور أن تكون الدولة نفسها كذلك.
(4) في صفحة 83 يتحدث الكاتب عن ضرورة "سياسة جديدة لاستثمار الثروة في بلداننا". وهو مطلب أؤيده بكل قوة. ولكن يُلاحَظ أن يأتي هذا في مشروع يغالي- إن لم يخنّي التعبير- في تقديس السيادة الوطنية للبلدان العربية (من الواضح أن الشأن اللبناني- السوري يلقي بظلال قوية جداً هنا).. فما هو الأساس الذي يمكن أن تقوم عليه دعوتنا للخليجيين وبلدان نفطية أخرى في العراق وشمال أفريقيا، إلى تصريف ثرواتهم على النحو المحمود الذي نقترحه؟ لا اعتراض لي بالمرة، ولكن ألم يكن من الأوجب أن تنطلق هذه الدعوة من منظور قومي حتى لا تظل دعوة في الفراغ؟
(5) عندما تعرض الأستاذ كريم مروة للقضايا الاقتصادية والإجتماعية، فصّل تفصيلاً مفيدًا، إلا أن الملاحظة القوية هنا هي تعرضه لتلك القضايا من منظورين لا ثالث لهما: المنظور الحقوقي، والمنظور التنموي. وللأسف لم ينجح في أن يضع معالجاته القيمة هنا في سياق إحداث تغيير حقيقي في علاقات الملكية. وهذا هو بيت القصيد في المشروع الذي بين أيدينا.
الخلاصة هنا أننا أمام برنامج طموح لدولة برجوازية وطنية رشيدة، وليس برنامجًا استراتيجياً لإجراء تغيير جذري وحقيقي. ولو كان الكاتب قد صرح بأنه يطرح برنامجًا مرحلياً لما كانت هناك مشكلة. وحتى بالنسبة لهذا البرنامج المرحلي، أين هي أدلته الموضوعية/ المادية على وجود هكذا برجوازية وطنية مستنيرة.
والأخطر من هذا كله أنني لم أصادف في التحليل المقدم إضافات نوعية كنت أنتظرها في رصد الدور الوظيفي للصهيونية، أو العولمة المسلحة، أو الإمبريالية الجماعية، أو إمكانية نشوء تجمعات إقليمية أو تحركات عربية مقاومة للإمبريالية.. ونحن جميعاً مشتركون في هذا التقصير مع الكاتب، ولا نخصه به.
ختام حديثي أن المشروع المقدم هو مشروع ديمقراطي. وفي ظني أنه لا يجوز أن ننتظر تحولاً ديمقراطياً شاملاً في أوطاننا بمعزل عن تغيير اجتماعي جذري، وموقف وطني وقومي صلب.
أ.محمد فرج (أمين عام مساعد حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي):
من الممكن ألا نختلف على المهام المختلفة المذكورة في فصل الكتاب الذي قمنا بقراءته. فبدًء من التسعينيات بدأ الحديث عن عدم المجابهة بطرح المهام الصعبة أو المستحيلة. لا أعتقد في ما قاله د. سامر بأن الماركسية ليس عندها تعريف للدولة بل على العكس من ذلك أرى أن الماركسية واضحة تماما في هذا الشأن، فالعمود الفقري للتحليل الماركسي يتمثل في موضوع الدولة وتاريخيتها وتطور المجتمعات الذي تحتل فيه سلطة الدولة والطبقة أو الكتلة الاجتماعية الحاملة للتغيير مكانة أساسية والتعريف العام للدولة ليس بالبساطة الذي يبدو عليها عندما نحاول أن نجرد ونختصر فنقول أن الدولة أداة للقهر الطبقي. نعم أنها كذلك ليس فقط بمعني الجيش والشرطة ولكن أيضاً القهر المادي وإدارة الصراع الطبقي والهيمنة عبر الأجهزة الأيديولوجية للدولة ممثلة في المسجد والكنيسة ومؤسسات التعليم والإعلام.. الخ. تقهر عادة الدولة وتقمع بقوي ناعمة وليس القمع بمعني القتل والسجن.. الخ. في موضوع إمكانية استقلالية سلطة الدولة وأجهزتها السياسية عن الطبقات، أعتقد أن ماركس نفسه له تعريف لتلك الحالة في دراسته "الثامن عشر من برومبير".
هناك نقطة أساسية أود الحديث عنها وأسميها بالقضية الغائبة في تحليل الأستاذ كريم مروة. أستطيع أن أتفق مع البرنامج.. أتفق.......... مع فكرة المرحلية لأنني ممن تربوا في السبعينيات على ربط المرحلية بالإستراتيجية وأن التكتيك الذي لا يخدم الإستراتيجية خطر شديد، لست تروتسكياً ومع ذلك أقول أني تعلمت من تروتسكي في هذا الشأن لكن القضية الغائبة في تحليل الأستاذ كريم مروة أنه طالما أن هناك يسار جديد في عالم جديد وظواهر جديدة، فبالتالي هناك يسار متنوع ومتسع إلى هذه الدرجة يعبر عن القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع. والسؤال هنا هل التنوع مجرد تنوع لنزاعات فكرية أم أنه يعكس أتساع قوي اجتماعية عريضة في المجتمع أوسع من الطبقة العاملة.. الخ؟ السؤال الثاني هل يستطيع هذا اليسار النضال من خلال الشكل التنظيمي القديم الذي ابتدعه لينين؟ لا اقصد بذلك المركزية الديمقراطية فقط وإنما وحدانية التنظيم الثوري أيضا. فهل لا يزال التنظيم الوحيد اليسأرى إذا كان متنوعاً هو الحزب الشيوعي أم أنه من الممكن كما يفرز الواقع أن يكون هناك يسار متنوع بتنظيمات متعددة تعترف ببعضها؟ فيكون هناك كما هو الحال في مصر الحزب الشيوعي وحزب الشعب يعترف كل منهما بالآخر كحزب شيوعي ثم هناك حزب إصلاحي هو التجمع يعترف الحزبان الثوريان به. سؤال آخر: هل ذلك مسار للثراء أم أنه يعمل ضد العملية الثورية. أيضاً ما هي إمكانية وجود تنوع في الفكر داخل الحزب الواحد سواء كان الحزب الشيوعي أم التجمع؟ ويطرح ذلك أيضاً سؤالا حول العلاقة الجدلية بين الأغلبية والأقلية؟ فهل تحكم الأغلبية وتخضع الأقلية لها أم تقود الأغلبية ولكن في ظل وجود أساليب جديدة ولوائح جديدة تتيح للأقليات التعبير عن نفسها في القيادة؟ أعتقد أننا نبحث ذلك في التجمع ولا نطبقه ولم نحققه بعد للأسف الشديد!! حيث لا نزال نعمل وفق الجانب الفكري الأساسي في المركزية الديمقراطية، المتمثل في تطبيقها التنظيمي المباشر في حكم الأغلبية المنتخبة وانتظار الأقلية لخمس سنوات حتى يمكنها العودة للتأثير في القرار مرة أخرى أو لا تعود أبدا!!

أ.محمد سعيد دوير (أستاذ فلسفة)
قرأت مبدأياً كتاب الأستاذ كريم مروة كمفكر وليس كسياسي. هناك فرق بين الأمرين، فكمفكر سنتحدث عن الكليات ومنطق الأفكار. أما كسياسي فسنتجاوز ذلك إلى كيفية العمل. أقول كملاحظة عابرة لمن يريد أن يقرأ عن الدولة في الماركسية أن هناك كتاب للدكتور صلاح أبو نار عبارة عن رسالته للدكتوراه اسمه "الدولة عند ماركس". النقد في رأيي كدارسي للمنهج مرحلة تالية للتفسير وطالما أن التفسير لم يكتمل لا يمكن أن نقيم نقداً حقيقياً. سأتحدث سريعاً في ثلاثة نقاط. أولاً أتاحت لي الظروف أن أحضر رسالة دكتوراه في فلسفة العلوم فنظرت إلى الرأسمالية من داخل العلم ونظرية العلم التي يتجاهلها عادة بعض الشئ بعض السياسيين ووجدت أن الرأسمالية في أزمة شديدة نظراً لأستغلالها الشديد للعلم من الجانب التطبيقي وليس النظري، حيث أصبحت تتعامل مع العلماء كعبيد يعملون على نهضة دولتها الرأسمالية حتى أصبحت هناك اليوم لـ "العلم" الرأسمالي داخل الولايات المتحدة الأمريكية لتجاهله الجانب النظري المؤسسي الحقيقي للحضارة وهو ما أشار إليه سنينجل في كتابه الهام "أزمة الحضارة الغربية". ثانياً سأتبرع بممارسة النقد في الرأسمالية طالما إننا نمارس اليوم النقد في الاشتراكية. تحيا اليوم الرأسمالية ولأول مرة في تاريخها في الخمسين عاماً الأخيرة بدون مرجعية فلسفية فكرية. تعيش الرأسمالية الآن على مرجعية فكرية من القرن الـ 19 وليس القرن الـ 20 إذن الرأسمالية أيضاً في أزمة وليس الاشتراكية فقط. ثالثاً إننا نعيش مرحلة استثنائية ليست طبيعية منذ عام 1990 وحتى الآن. تتمثل إستثنائيتها في أربعة ظواهر هي أولاً اضطراب أيديولوجي ليبرالي واشتراكي وثانياً نزعة شكية في المفاهيم الأساسية وثالثاً زيادة حالة الاغتراب الإنساني على مستوي العالم الرأسمالي والعالم الشرقي ودول العالم الثالث وأخيراً زيادة حدة الاستقطاب العالمي. وفي المراحل الاستثنائية يا أستاذ كريم لا يجب إقامة إنساق فكرية متكاملة لأنها تتميز بسيادة حالة التساؤل فيها وليس حالة الإجابة وبالتالي من غير المنطقي أن ننتظر إجابة على التساؤلات التي نطرحها لأن هناك نقطة هامة قالها الأستاذ كريم وهي أنه ناقش في كتابه نصوص الآباء الخاصة بماركس وانجلز- فأعطونا فرصة كجيل شاب أن نناقشكم فيما ذكرتموه. اسمح لي يا أستاذ كريم أخيراً بأن أختلف معك تماما فيما ذكرته عن مفهوم اليسار لأنه في الحقيقة مصطلح غير فلسفي ولا اقتصادي ولا اجتماعي وبالتالي لا أجد له تفسيرا. فهو حال يصف جلوس شخص على يسار آخر ليس أكثر. فقد تم تجاوز المعني التاريخي لمصطلح اليسار في الجمعية الفرنسية الوطنية بمفهوم ماركسي والماركسية والشيوعية. أما الدلالة التي أعطاها الأستاذ كريم لليسار فهي أقرب إلى القاموس الليبرالي وهو ما لاحظته الحرية ومفهوم التقدم.
وأشكركم وأسف على الإطالة.

أ.عبد القادر ياسين (مفكر يساري فلسطيني):
انشتلت شتلة الشيوعية، وجاءت إلى بلادنا، بسبب التخلف الذي كنا نرسف فيه، وجعل ذلك الحركة الشيوعية تبدو وكأن أبوها هناك في الثورة التي انتصرت. وكان هناك داخل الحزب أب على رأسه، يقطع رأس من يقترب منه. جعل هذا النظام الأبوي بعض الآباء والأبناء يرتبكون، وبعضهم فسد (خرب) تمامًا، بعد انفراط عقد الاتحاد السوفييتي وسقوط "المعسكر الاشتراكي".
أود أن اقوم بمراجعة نقدية سريعة لمسيرة الحزب الشيوعي اللبناني، وأتفق مع الرفيق الذي سبقني بأن نزعة الليبرالية بشعة في الكتاب. وأرى أن برنامج النهضة المقترح يندرج تحت صيغة "تخفيض الأسقف"، حتى تطبق على صدورنا، ويجهز علينا الأستاذ كريم.
لم يسلم الإسلام الحركي من الأستاذ كريم، وهو هنا يذكرنا بآخرين، لم يعد لديهم إلا ذلك الحديث. وكأن الإسلام الحركي هو العدو، وليس هناك وجود لإسرائيل، ولا الولايات المتحدة الأمريكية. بل إن المؤلف كان حنونًا في بعض المواضع على الولايات المتحدة وإسرائيل!
كما لا يصح، أبدًا وضع سماحة السيد حسن نصر الله مع بن لادن، ومع حماس في سلة واحدة! لأن حماس غير حزب الله، وحزب الله بعيد تمامًا عن القاعدة. لا يجوز أن نشبِّه الحزب الذي أتي بانتصار عجز الجميع في المنطقة، بمن فيهم عبد الناصر، عن إحرازه، بابن لادن. ونصفهم مرة بالإرهاب ومرة بالظلامين. فهذا كلام ينفي عنا صفة الوطنية، لأننا نستخدم في هذه الحالة كلام الأمريكان نفسه.
إن البرنامج الذي قدمه الأستاذ كريم أقل من برنامج وطني ديمقراطي، إنه يندرج تحت عنوان "الليبرالية الجديدة".
فيما يخص فلسطين، يري قضيتنا تتعثر بسبب الغطرسة الإسرائيلية، وتنكرها لحقوق الشعب الفلسطيني، وتخاذل وتواطؤ الدول الكبري والمجتمع الدولي. فيما لم يبرئ الحكومات العربية من مسئولياتها الأساسية عن الكارثة الفلسطينية. ويشير، محقًا، بعد ذلك إلى الأشكال الهشة التي تحققت من الوحدة الوطنية الفلسطينية. لكن الأنكي أنه يسمي الاصطفاف الراهن انقسامًا على الذات، وتفككًا، وصراعاً حول المواقف السياسية وأشكال النضال (ص90). وليس صراعاً بين نهجين مختلفين.. ترى لو كان كريم مروَّة فلسطينياً أين تراه يقف؟! أما بالنسبة لسلاح حزب الله فقد كرر كريم مروَّة، للأسف، كلام أقصي اليمين اللبناني.

م. عماد عطية (قيادي يساري)
أعتذر عن عدم توافر فرصة قراءة الكتاب كاملاً، لكني مطلع على كثير من كتابات الأستاذ كريم مروة خلال السنوات الماضية وآخرها كتابه "البحث عن المستقبل". مما يجعلني أقول بقلب مطمئن أني متفق إلى حد كبير مع التوجهات التي تعبر عنها هذه الكتابات بما في ذلك الفصل الذي وصلني من هذا الكتاب وقمت بقراءته.
الانطباع الأول لدي قراءة هذا الفصل، كان الشعور بالإشفاق الشديد على الأستاذ كريم لاضطراره إلى تدبيج أكثر من عشر صفحات في ما أسماه بالبديهيات لكي يثبت لنا – بالرجوع لكتابات مؤسسي الماركسية - أشياء من قبيل ضرورة انطلاقنا من الواقع وتقديمنا برامج واقعية إلى آخره، مما يعكس وجود إرهاب فكري يضطر مفكر بوزن كريم مروة إلى تقديم الكثير من المبررات والحيثيات قبل أنا يجرؤ على قول كلام مختلف بعض الشئ عما تعودت الناس على سماعه. وهذا شئ مؤسف جداً في واقع الأمر.
أهم ما في كتاب الأستاذ كريم ما أسماه بخطأ القفز على المراحل. فالمسألة الرئيسية إننا إذا كنا ماركسيين فعلا فيجب أن ينطلق برنامجنا من الوضع الحالي لتطور القوى المنتجة في المجتمع، ولا يمكن بناء برنامج واقعي إلا على أساس من هذا الفهم. المشكلة أنه جري اختزال الفكرة الاشتراكية والشيوعية والخطاب الماركسي والشيوعي والإشتراكي إلى مجرد خطاب يناصر الفقراء والمحرومين، وهذا غير صحيح. ربما كان صالحا قبل ماركس ولكنه لم يعد كذلك بعده، لأنه لم يعد صالحا الحديث عن الاشتراكية بمعزل عن التقدم المتمثل في تطوير القوى المنتجة، مما يجعل تحرير المنتجين وفكرة المساواة ممكناً. لم يعد من الممكن الفصل بين فكرتي التقدم والمساواة لأنهما في حقيقة الأمر على علاقة وثيقة بعضهما ببعض. خاض الأستاذ كريم مروة في مقدمته الطويلة ليصل إلى أن الهدف هو القضاء على الاستبداد والتخلف، وأضيف شخصياً إليهما التبعية، وأقول أني متفق تماما مع هذا الهدف الذي يعني من وجهة نظري أن نعيد النظر في أشياء كثيرة. فللأسف الشديد ما يزال يسود خطابنا، مع وجود استثناءات، مفردات مرحلة التحرير الوطني المنتمية إلى القرن الماضي. أعتقد أن مرحلة التحرير الوطني ليست سمة العصر حتى لو كان هناك بقايا من الحالة الاستعمارية لا يمكن إنكارها مثل الاستعمار الاستيطاني الصهيوني على أرص فلسطين. فمأساة فلسطين قضية وطنية وتندرج طبعاً تحت بند التحرر الوطني. هناك أيضاً قضايا أخرى مثل احتلال العراق وأفغانستان. لكن هذه الحالات لا تجعل من مرحلة التحرر الوطني طابع العصر، ولذلك يجب أن يحدث تحول كبير في خطابنا. وهنا أتفق تماما مع الأستاذ كريم في استنتاجه إننا يجب أن نتحدث في هذا العصر وفي مصر مثلا عن بناء جبهة ديمقراطية "تحالف ديمقراطي" وليس جبهة وطنية شبيهة بتلك الجبهات التي تميز بين بورجوازية وطنية وأخرى متعاونة (متحالفة- مرتبطة) مع الاستعمار. فهل أصبح مع عالم العولمة اليوم والتحولات الموجودة في الطبقة العاملة أي معني لتقسيم البورجوازيات بهذا الشكل؟ يضعنا هذا التساؤل أمام أسئلة كثيرة مثل هل المطلوب بناء حلف ديمقراطي أم حلف وطني؟ أن ما يحدث حالياً ليس استعماراً بالمعني التقليدي. لقد تم تجاوز مرحلة التحرر الوطني وإن لم يتم بالطبع تجاوز مرحلة الهيمنة والسيطرة الإمبريالية على العالم. لكن آليات السيطرة والهيمنة اليوم مختلفة وبالتالي تحتاج إلى استراتيجيات مختلفة لمواجهتها. فما هي هذه الاستراتيجيات؟ وإذا كانت منطقتنا بالذات لا تزال تعاني من بقايا حالة الاستعمار القديمة ممثلة في الاستعمار الاستيطاني الصهيوني على بعد أمتار من مصر.. فكيف يمكن مفصلة المهام الجديدة مع المشكلات الموجودة في المنطقة - التي تنتمي لعصر سابق - ومتطلباتها؟
بقيت ملحوظتان، الأولي حول موضوع المرحلية والثانية حول الاعتراض على هذا البرنامج بوصفه ليبرالياً. يصبح الحديث عن المرحلية سليما إذا أخذناه بمعني أنه لا يمكن بناء أي برنامج إلا بناء على الواقع الحالي ومستوي تطور القوى المنتجة.. الخ لكن إذا أخذنا موضوع المرحلية بالتعبيرات التي كنا نستخدمها في الماضي بمعني مراحل وتحالفات تسلم إلى مراحل أخرى.. فاسمحوا لي أن أتحفظ على تلك الطريقة في التفكير لأن المسألة ليست مراحل تسلم إلى مراحل بقدر ما هي مسألة تطور مستمر يشهد انتكاسات وثورات. فإذا كنت تتحدث عن الاشتراكية أو الشيوعية باعتبارها التقدم والمساواة، يصبح كل تقدم في هذا الطريق يقربنا من الهدف ويجب أن نعرف أن هذه عملية لا نهائية بمعني أنه لا توجد محطة وصول ولا مجتمع يحقق هذا الهدف، أي أن التقدم والمساواة لا يصلان أبدا إلى منتهاها. لا نحن ولا أولادنا ولا أحفادنا سيشهدون ذلك، لكن هذه العملية يجب أن تكون هدفنا والحاكم في نضالنا على أساس إننا نناضل وبشكل مستمر من أجل مزيد من التقدم والمساواة والديمقراطية. بالنسبة للاعتراض على البرنامج المقترح بوصفه ليبرالياً، طبعاً إذا لم نمفصل بين قضيتي المساواة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية يصبح من الممكن وصفه بذلك لكننا لم نقم هنا بذلك. دعونا نقول أيضاً بمنتهي الوضوح أن الغرب نفسه خان ما يسمي بالديمقراطية الليبرالية، وهي إحدي مخترعاته، منذ أن مارس الاستعمار القديم وترك الصهاينة يحتلون فلسطين ولا يزال يخونها إلى اليوم. ومع ظهور الليبرالية الجديدة هناك تراجع شديد في الديمقراطية حتى في البلاد الغربية نفسها. يجب ألا نقلق من هذه الليبرالية لأن الماركسية لم تكن أبدا ضد الأفكار الجديدة التي جاءت بها الرأسمالية ولا التي جاءت بها الليبرالية لكنها كانت تنتقد دائما مثاليتها (عدم مطابقتها للواقع) عندما تتحدث مثلا عن مساواة أمام القانون بين أناس غير متساويين في الواقع. فلو مفصلنا المعني الماركسي للمساواة بقضية الديمقراطية سنسير في الطريق الصحيح.

د.عبد الغفار شكر
يطرح الأستاذ كريم مروه من واقع خبرته كمفكر ومناضل إشتراكي مركسي رؤيته للمهام الراهنة لليسار الجديد في الوطن العربي، حيث يضع على رأس هذه المهام بناء الدولة الحديثة الديمقراطية في بلداننا كمهمة لها الأولوية القصوي وتعتبر الحلقة الرئيسية في نضال القوى الإشتراكية، وهي في مفهومه الدولة الديمقراطية بالمعني الحديث والمتطور للديمقراطية، وبنص كلماته فإن " هذه الدولة لن تكون في صيغتها الدستورية، وفي وظائفها، وفي إدارتها للمجتمع، وفي الإجراءات المطلوب منه القيام بها، إلا دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات الديمقراطية، دولة تتوفر فيها للإنسان الفرد وللإنسان الجماعة حقوقه وحرياته كاملة. وهو عندما يتحدث هنا عن الإنسان الفرد والإنسان الجماعة إنما يميز بين المفهوم الليبرالي للديمقراطية الذي يركز فقط على الحقوق والحريات السياسية الفردية كالحق في التعبير والحق في التنظيم والمفهوم الإشتراكي للديمقراطية الذي يضيف إلى هذه الحريات الفردية نوعاً آخر من الحقوق والحريات التي تتصل بالطبقات والجماعات الإجتماعية وهي في الغالب حقوق إقتصادية وإجتماعية مثل الحق في العمل والحق في التعليم والحق في الصحة والحق في السكن.
ينطلق كريم مروه في طرحه لهذه المهمة من واقع التجربة التي عاشها اليسار العربي وما آلت اليه أحوال مختلف الأقطار العربية في ظل النظم الحاكمة السلطوية، ويري أن أي إجتهاد لتحديد مهام اليسار في الوقت الراهن يجب أن يرتكز على الخبرات المحصلة من هذه التجربة والنظر اليها برؤية نقدية تستخلص الدروس المستفادة منها.
كما ينطلق في نفس الوقت من التحولات التي جرت في العالم من حولنا وعلي رأسها إنهيار النظم الإشتراكية والثورة العلمية والتكنولوجية المعاصرة وإنفراد الرأسمالية العالمية بقيادة الإقتصاد العالم وما ترتب على هذا كله من نتائج كارثية لسنوات العالم عامة والشعوب العربية بوجه خاص ويؤكد كريم مروه أنه في إجتهاده لتحديد مهام اليسار الراهنة يرفض الشعبوبية التي ينتهجها بعض اليساريين والتي تكتفي بطرح الشعارات من دون أن تكون قد توفرت لهذه الشعارات الإمكانات الواقعية لتحقيقها، وأنه ينتهج في المقابل طريقة ماركسي في الدراسة والتحليل التي تقوم على الواقعية في النظر للتغيير الديمقراطي التي تحترم إختلاف المراحل وإختلاف الشروط التاريخية بين مرحلة وأخرى وإختلاف المهمات ويؤكد في هذا الصدد " أن الشروط التاريخية المتغيرة هي التي ينبغي الإستناد اليها والإنطلاق منها لتحديد المهمات الملموسة للنضال من أجل تغيير الواقع القائم في بلد من البلدان في الإتجاه الأرقي من الناحية الإقتصادية، والأكثر عدلاً من الناحية الإجتماعية، والأكثر إحتراماً لحقوق الإنسان ولحرياته ولخياراته، تلك الحقوق والحريات والخيارات التي ينظمها القانون في دولة الحق والقانون".
ورغم ما طرح في هذه الندوة من إنتقادات لرؤية كريم مروة ورغم أن أصحاب هذه الإنتقادات هم زملاء أعزاء لهم مكانتهم ودورهم النضالي في الحركة الإشتراكية المصرية إلا أنني أنحاز بشدة إلى رؤية كريم مروة لأن الدرس الأساسي المستفاد من تاريخ العرب الحديث والمعاصر أن كل أحلامنا الوطنية والقومية السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية قد تحطمت على صخرة الإستبداد، فقد هزمنا في كل مواجهة عسكرية مع إسرائيل نتيجة للسياسات التي إتبعتها نظم الحكم السلطوية والتي حالت دون تمكين الشعوب العربية من مراقبة أداء السلطة التنفيذية والصحيحة، كما فشلت جهود التنمية الإقتصادية للسبب نفسه وتمكنت فئات محدودة من الإستيلاء على ثمار العمل الوطني وخيرات البلاد لإنفرادها بالسلطة وحرمت الشعوب من عائد عملها وتضحياتها. كما نذكر جميعاً كيف فشلت الوحدة المصرية السورية وكيف تعثرت جهود الوحدة العربية بين أقطار أخرى بسبب حرص هذه النظم الإستبدادية على مصالحها الضيقة وتغليبها على المصالح المشتركة للشعوب العربية يضاف إلى هذا كله أن هذه النظم قد أهدرت تضحيات الشعوب العربية من أجل الإستقلال الوطني وأعادة بلادنا إلى حظيرة التبعية الأجنبية لضمان حماية وجودها تحت المظلة الأجنبية للولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا فإن أحلامنا في التقدم الإقتصادي والعدالة الإجتماعية والإستقلال الوطني وإستعادة فلسطين والوحدة العربية قد تحطمت كلها على صخرة الإستبداد، ولا يمكن للشعوب العربية أن تخرج من المأزق الراهن التي تعاني من وطأته إلا من خلال التحول الديمقراطي وبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة تمسك فيها الشعوب بزمام الأمور ويتمتع فيها المواطنون بحرياتهم وحقوقهم الأساسية كأفراد وجماعات إجتماعية وطبقات.
ولا تأتي موافقتي مع ما يطرحه كريم مروه حول أولوية بناء الدولة الديمقراطية كمهمة أساسية لليسار العربي من هذا المنطلق النظري فقط، بل لأنه يتفق مع تجربتي الشخصية في صياغة البرنامج السياسي العام لحزب التجمع الذي صدر سنـ1998ـة تحت إسم مجتمع المشاركة الشعبية، وقد توصلنا في هذا البرنامج إلى إستنتاجات مماثلة لما يطرحه كريم مروه. هذا ما تؤكده تجربتي الشخصية كرئيس لجنة إعداد البرنامج العام التي كانت تضم في عضويتها عدداً من كبار المفكرين الإشتراكيين والمناضلين اليساريين مثل الدكتور إسماعيل صبري عبدالله والدكتور إبراهيم سعدالدين والدكتور ابراهيم العيسوي والدكتور جودة عبدالخالق والدكتور سمير فياض والأستاذ حسين عبدالرازق وغيرهم.
حيث إنطلقنا في صياغة البرنامج الجديد ( صـ13ـ ) من أننا ( لا نستطيع ونحن نستكشف آفاق المستقبل ونستعد لصياغة برنامج عام جديد أن نتجاهل تلك المتغيرات العميقة في بنية المجتمع المصري وما شهده العالم من حولنا من تطورات شملت مصر والوطن العربي. بل يتعين علينا أن نتعرف على هذه التطورات التي أدت إلى تغييرات شاملة مصرية وعربية ودولية، وأن نفهم أسبابها وأهم النتائج المترتبة عليها ).
وأكدنا في هذا البرنامج أن الإشتراكية هدفنا النهائي ولكنها لايمكن أن تتحقق في ظل الظروف الراهنة، وأن الوصول اليها يتطلب المرور بمرحلة إنتقالية نناضل خلالها من أجل إقامة ( مجتمع المشاركة الشعبية )، وأن الديمقراطية هي أفضل نظام سياسي لتطور نضالنا حالياً ومستقبلاً، وأنها قاعدة أساسية في المجتمع الإشتراكي الذي نصبو اليه ونكافح من أجل تحقيقه وضرورة صبغ المجتمع كله بالسلوك الديمقراطي وليس فقط في علاقة الحاكمين بالمحكومين. ويطرح البرنامج مسألة التنمية الوطنية المستقلة خاصة ركائز مجتمع المشاركة الشعبية لما يمكن أن يترتب عليها من ( تحرير البشر من القيود التي تحرمهم من المشاركة في صنع القرارات التي تمس شئون حياتهم وشئون مجتمعهم ويمكنهم من التمتع بهذه المشاركة من خلال المؤسسات الرسمية والأهلية على السواء.
ويؤكد البرنامج أيضاً ( إن ديمقراطية المشاركة التي يستهدفها حزبنا ليست نظاماً للحكم فحسب، بل هي بالإضافة إلى ذلك نظام للحياة يشمل مختلف جوانب المجتمع وشئونه، وهي تتضمن مقرطة المجتمع ومقرطة الدولة إلى جانب مقرطة الحكم ).
وكما يطرح كريم مروه عدداً من القضايا والمهمات الأساسية لتكون في صلب برنامج التغيير الذي يتبناه اليسار، فإن البرنامج العام الجديد لحزب التجمع الصادر سنـ1998ـة يطرح المقومات الأساسية كديمقراطية المشاركة على نحو قريب جداً من القضايا العشرون التي يطرحها كريم مروة منها :
- إحترام التعددية الإقتصادية والسياسية والثقافية في المجتمع
- قيام مجتمع مدني قوي.
- تأمين حد أدني من الحقوق الإقتصادية والإجتماعية يكون أساس التكافؤ في القدرة السياسية.
- إقرار الحقوق والحريات السياسية والمدنية.
- ثقافة ديمقراطية تقوم على قيم الإعتراف بالآخر والحوار الموضوعي والتسامح.
- تأكيد الوحدة الوطنية كقيمة مجتمعية تكفل حقوق المواطنة المتكافئة لجميع المواطنين، بغض النظر عن إنتمائهم الديني.
- إعلام ديمقراطي حر.
- حكم محلي شعبي حقيقي.
- التوسع في أشكال المشاركة الشعبية المباشرة.
كما يطرح البرنامج العام قضايا البيئة والمرأة والشباب والتكامل العربي وحقوق شعب فلسطين التاريخية.
من الطبيعي أن تكون هناك إختلافات في صياغة القضايا بين طرح كريم مروه والبرنامج السياسي العام الجديد لحزب التجمع ولكن المهم هنا هو التوجه العام الذي يؤكد على أولوية الديمقراطية وبناء الدولة الديمقراطية.
بل إن الإتفاق بين طرح كريم مروه وبين البرنامج الجديد لحزب التجمع في مصر تحيد إلى مفهوم اليسار في الوقت الراهن. حيث يتوسع كريم مروة في مفهوم اليسار، وهو توسع يستند إلى التوسع في القاعدة السياسية والإجتماعية للقوي التي تنتمي إلى اليسار، أو التي تعتبر اليسار ممثلاً لمصالحها. وبعد أن يستعرض كريم مروة الأسباب الداعية إلى هذا التوسع في المفهوم يؤكد ان اليساري في الوقت الراهن يمكن أن يكون متأثراً بأفكار الإشتراكية منذ ماركس حتى اليوم، ويمكن أن يكون عضواً في حزب إشتراكي أو شيوعي أو في حزب قومي متأثر بالإشتراكية، ويمكن أن يكون ديمقراطياً بالمعني الواسع للمفهوم. انه كل من ينتمي إلى هذا الجمهور الواسع الذي يريد لبلده الحرية والتقدم اللذين لايمكن تحقيقها إلا بالنضال لأحداث تغيير جوهري في الواقع القائم سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً وثقافياً وفنياً.
وفي نفس الإتجاه يؤكد حزب التجمع أن مجتمع المشاركة الشعبية يتطلب قيامه تشكيل تحالف إجتماعي جديد تجمعه المصلحة المشتركة في إقامة النظام الديمقراطي يضم الطبقة العاملة والفلاحين والفئات الوسطي والرأسمالية المصرية المنتجة التي تتعارض مصالحها مع الرأسمالية العالمية وتتعارض مع إتساع المجال أمام الرأسمالية الأجنبية في مصر.
ويلتقي طرح كريم مروة مع طرح برنامج التجمع في رفض العنف وإنتهاج الأساليب الديمقراطية السليمة.
هذا التوافق في التوجه العام بين رؤية كريم مروة ورؤية عدد من أهم مفكري اليسار في مصر يؤكد أهمية تجديد الفكر الإشتراكي في مختلف الأقطار العربية، والإجتهاد في فهم المتغيرات والظروف الجديدة، والتحلي بالشجاعة في طرح ما يرونه ضرورياً لإخراج اليسار العربي من مأزقه الراهن، والتحلي برحابة الصدر إزاء ما يوجه من إنتقادات إلى هذا الطرح، فمن خلال مثل هذا النقاش النزيه المفتوح يمكن أن يتوصل اليسار العربي إلى رؤية متكاملة تنير له الطريق إلى مستقبل أفضل.

د. إيمان يحيي (المفكر اليساري وأستاذ بجامعة قناة السويس):
يأتي كتاب الأستاذ كريم مروة استمراراً لمسيرة طويلة من التجديد والمسار الخاص لمجموعة من اليسار السوري و اللبناني بدءاً من فرج الله الحلو حتى نقولا الشاوي وجورج حاوي. كان الخروج من إسار المقولات و القوالب النمطية في التفكير والتمرد على التبعية للتفكير السوفيتي أهم ما امتازت به تلك المجموعة، التي أخذت موقفاً مميزاً عن بقية اليسار العربي تجاه لصراع العربي_الصهيوني و تجاه المقاومة الفلسطينية و الكفاح المسلح "العمل الفدائي". وكان الحزب الشيوعي اللبناني والحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي- جناح رياض الترك) قريبين جداً من الفكر القومي. يختزل كثيرون مشكلتنا اليوم في عالمنا العربي في مشكلة السلطة/ الأنظمة الحاكمة. هذا في رأيي جانب فقط من المشكلة لكن الأزمة التي نعيشها اليوم هي أزمة مجتمعية شاملة. هناك خلل في التفكير ليس قاصراً على اليسار وإنما يشمل أيضاً كافة الاتجاهات السياسية، و لعل ذلك يعود إلى الثقافة التي ننتمي إليها. الاستبداد الذي تئن من وطئته الشعوب العربية ليس استبداداً سياسياً فقط، بل هو استبداد اجتماعي و ثقافي و ديني، بالأحري هو استبداد يشمل كافة مناحي الحياة. و لعل ذلك يعود بنا إلى مهمة اليسار، فلا يمكن أن يقوم مشروع يساري ناجح وهو يعادي حقوق الإنسان. أصبحت تلك مسألة أساسية اليوم لأنها نتاج لتطور الإنسانية ولذلك علينا أن نتساءل لماذا يسير العالم كله في اتجاه ونحن نسير في الاتجاه المضاد؟ لا يمكن أن يكون هناك تجديد في الثقافة إذا كنا نسير في الطريق المعاكس لتطور الإنسانية، أيضاً لا يمكن أن يكون هناك تجديد و اجتهاد في الدين اذا خاصم ذلك التجديد مسيرة التطور الانساني و قيم الانسانية. أرى شخصياً الأولويات في الفصل الذي قرأته من كتاب الأستاذ كريم مروة بديهيات يعرفها و توصل اليها كل الناس حتى في مصركما يظهر من الخطابات السياسية في الشارع و مما يظهرمن ممارسات أعضاء حركات التغيير اليومية، واليسار بالمناسبة يتبعها أيضا. لكنني أختلف مع كريم مروة في ترتيبه للأولويات ووضعه قضية الدولة رقم 1 بالنسبة لها وتأخيره القضاء على الاستبداد والديمقراطية إلى رقم 13 أو 15. أتساءل بالنسبة لفكرة عدم الفصل بين السلطات وجمع الدولة لها في يد واحدة.. هل سنقوم بإعادة اختراع العجلة؟ ألا تكفي التجارب التي فشلت، و منها تجربة الاتحاد السوفيتي التي استمرت 75 سنة ثم سقطت في النهاية على وجهها. توصلت البشرية حتى الآن إلى أن النظام النيابي هو أفضل نظام ديمقراطي.. لا نعرف إلى ماذا سنتوصل فيما بعد؟ لكن الديمقراطية المباشرة أثبتت عدم صلاحيتها. وتوصلت البشرية إلى أن الفصل بين السلطات أكثر طريقة يمكن أن تقلل إلى حد ما من الاستبداد. لذلك أعاتب بشدة الأستاذ كريم في موضوع استحضار النصوص التي جاء بها في فصل كامل منفصل.
أبعد أن تحررت من النصوص تعود إليها مرة أخرى لتلتمس فيها سنداً شرعياً لحديثك متمثلا في ماركس؟ ماذا تختلف في ذلك عن أعضاء الحركات الدينية السلفية؟ الماركسية منهج وليست نصوصاً. هناك أيضاً نقطة هامة لم يركز علىها "كريم مروة" كثيراً وهي الثقافة والدين. وكان هناك كثيرون- كنت واحد منهم وكان منهم أيضاً حسين مروة _ عم الأستاذ كريم- رحمة الله عليه، ينادون باشتباك اليسار مع الثقافة السائدة والثقافة الدينية التي تمثل جزءًا كبيراً جداً منها. وللأسف لا يقوم بعض اليساريين بذلك رغم أن تلك مهمة أساسية لليسار، ألا وهي تنظيف عقول الناس من الخرافات و الأفكار الرجعية و في نفس الوقت استجلاء النقاط الايجابية في تراثنا الثقافي و الديني و تطويرها.
أشكر الأستاذ كريم مروة وأتفق معه في 90% مما ذكره في كتابه وأرى أنه عند مناقشة موضوع فكري معين أن نركز بالأساس على الأفكار مع عدم الفصل التعسفي بين الفكري والسياسي و أخذه في الإعتبار، فمن الممكن أن يتحدث الأستاذ كريم في ندوة أخرى عن الوضع في لبنان
ملاحظة أخيرة كثرت الكتابات في الفترة الأخيرة عن نهوض اليسار العربي و لعلها تعبيراً عن فكرة طيبة حول ضرورة تطوير اليسار العربي، لكنني أخشي أن يكون الحديث عن "اليسار العربي" في تعبيره الضبابي و الأعم محاولة يتهرب بها كثير من الكتاب في المشرق العربي عن مناقشة الواقع اللبناني أو السوري، لأنه يبدو أن هناك يد غليظة تمنعهم عن ذلك.

م.أحمد بهاء الدين شعبان (مفكر يساري وأحد قيادات حركة كفاية):
أحييي الأستاذ كريم مروة على كتابه القيم والهام الذي أعتقد أنه ياتي في وقته الحقيقي إسهاما من مفكر ومناضل في قضية أساسية نشعر جميعاً بأهميتها وهي نقد اليسار في منطقتنا والبحث عن أسباب إخفاقاته وطرق الخروج من المشكلات التي يعانيها. قبل التطرق إلى ما جاء في الكتاب، أتحفظ على الفكرة الأساسية التي طرحها الأستاذ كريم مروة القائلة بأن الاشتراكية فشلت. فهناك لا شك فشل لتجربة الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية لكن ذلك يعني فشل الاشتراكية بشكل مطلق. فحتى الرأسمالية المستمرة منذ عدة قرون تعيش أزمة ومشاكل حقيقية عميقة، بينما تنهض الاشتراكية في مناطق عديدة من العالم وعلى رأسها أمريكا اللاتينية، وهو ما لم نجد له أي إشارة على الإطلاق في كتاب الأستاذ كريم. فهل فشلت الاشتراكية؟!. أن إحدي موجاتها تعثرت واختفت تجربة من تجارب التطبيق الاشتراكي؟.. لكن هذا ليس نهاية المطاف هناك دائما إمكانية للتطور والنهوض من جديد وعمليات التحول الاجتماعي بطبيعتها عمليات طويلة المدي. أتصور أن البرنامج المقدم من الأستاذ كريم أقرب إلى الليبرالية منه إلى اليسار الاشتراكي. أعتقد أن الفارق الأساسي بين اليسار الديمقراطي والليبرالي ينهض على انحياز اليساري الديمقراطي لقضية التحول الاجتماعي. وإذا نزعنا الديمقراطية الاجتماعية من البرنامج الديمقراطي سنكون بصدد برنامج ليبرالي. القضايا المطروحة في برنامج الأستاذ كريم يرددها في الحقيقة بالضبط رجال الفكر الجديد بالحزب الوطني الديمقراطي وجمال مبارك ود. أسامة الغزالي حرب في حزب الجبهة الديمقراطية وغيرهم من المفكرين الليبراليين. أنا كيساري أناضل وأدافع عن الديمقراطية لأنها وسيلتي لتحقيق الديمقراطية الاجتماعية، إذا لم يكن هذا البُعد واضحا يحدث إرتباك وخلط كبير في القضايا. أريد أن ألفت النظر إلى نقطة ثانية هي قضية الدولة التي دار حولها جدل مع د. سامر سليمان، فلازلت اعتقد أن التفسير الماركسي الوظيفي للدولة باعتبارها أداة هيمنة طبقية صالحا 100%، وإلا فاذكروا لي دولة في العالم كله فوق الطبقات ولا تدافع عن مصالح طبقية نحن نعيش ذلك بشكل واضح والدولة في منطقتنا طبقية 100%. هناك نص للأستاذ كريم مروة يقول فيه أن الدولة مؤسسة دستورية ذات إستقلالية نسبية عن الطبقات الاجتماعية والقوى السياسية ليس هناك في حقيقة الأمر دولة بهذا الشكل.

الأستاذ كريم مروة (مقاطعا): هذا كلام ماركس وليس كلامي.

م.أحمد بهاء الدين شعبان (مستكملا):
حتى لو كلام ماركس.. لا زلت أعتقد على آية حال أن الدولة أداة هيمنة طبقية ولم تكن أبدا لها استقلالية إلا نسبية وفي مراحل تاريخية معينة. لا يحدث أن تكون الدولة على قدر من التوازن في السلطات تجاه الطبقات الاجتماعية إلا حينما تكون الطبقات الكادحة والشعبية قوية إلى الدرجة التي تمكنها من هز التحالف بين الدولة والطبقات المالكة. وتظل الدولة فيما عدا هذه اللحظات التاريخية النادرة أداة للقمع الطبقي كما عرفنا. يتضح أيضاً في البرنامج تواضع الموقف من قضيتي الاستعمار والصهيونية. أعتقد أن قيمة اليسار في السنوات الأخيرة تتمثل في أنه كان في طليعة المناهضين للاستعمار والصهيونية، ليس بالتصور القومي (التقليدى) ولكن أخذا في الإعتبار أننا نمر بمرحلة تاريخية واضحة جداً ترتبط فيها الرأسمالية الأمريكية (المستغلة لنا) بقواها الباطشة (الإمبريالية الامريكية) التي تعادينا الآن وتتصدي لأهدافنا القومية والوطنية. لا أرى بالتالي كيساري أي تناقض في مواجهتي لمشروع الهيمنة الأمريكية باعتباره مشروع رأسمالي يشتغل العمل على المستوى العالمى ومشروع إمبريالى للسيطرة على مقدراتنا ويسعى للهيمنة على العالم. وفي رأيي أن الإشارة إلى تحمل الأنظمة العربية لمسئولية الكارثة الفلسطينية يعفي ضمنياً الإستعمار والصهيونية من مسألة اغتصاب فلسطين. فتبدو المسألة كما لو أن أخطاء الأنظمة العربية هي التي أضاعت فلسطين. وهذا غير صحيح. نعم الأنظمة العربية 100% مدانة ومخطئة، لكن أيضاً هناك تخطيط استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية والإستعمار الغربي والصهيونية لاحتلال المنطقة بسبب وجود البترول، وأشياء كثيرة أخرى.
يكاد الحيز الاجتماعي أيضاً أن يكون غائباً في هذا البرنامج. فلم تأت فيه أي سيرة تشى بالانحياز الموضوعى للطبقات الشعبية مع أنه من المفترض أنه برنامج لليسار، إلا في الحديث عن الفقر والذي تم تناوله باعتباره بٌعدًا أخلاقيًا. أي أنه هناك بعض الفقراء مطلوب حل مشكلتهم، دون أن يشكلوا طبقة اجتماعية لها حق مشروع في نصيبها العادل من الثروة الوطنية. أعتقد أن ذلك يضعف جداً هذا البرنامج كبرنامج لليسار العربي. يدين الأستاذ كريم في كتابه أيضاً العنف الثوري إدانة كاملة- فهل كل أشكال العنف الثوري كانت كارثية وضارة ومدمرة للعمل الوطني والثوري كما يرمى فى كتابه؟!. أعتقد أنه من الصعب إطلاق حكم بهذا الشكل. هناك بعض التجارب وليست كلها لجأت إلى العنف الثوري وأدت إلى نتائج كارثية. ما الذي يمكن أن ندينه مثلا في عنف الثورة الفيتنامية في مواجهة العدوان الأمريكي والعملاء الفيتناميين؟ وهل كانت هناك إمكانية لتحرير فيتنام بغير مواجهة العنف العدواني الإمبريالي بالعنف الثوري؟ أعتقد أن إدانة العنف الثوري بشكل مطلق فيه إفتئات على حقائق التاريخ. هناك ممارسات للعنف يمكن إدانتها، بل ويجب إدانتها، لأنها خَّربت العمل الوطني وهناك دعاوي للعنف والعنصرية والعصبية تُخَّربُ وتدمر العمل الوطني. لكن لا يجب إدانة العنف الثوري بشكل مطلق.. فهل نعتبر حمل الشعب الفلسطيني اليوم للسلاح في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني كارثة أو تدمير أو تخريب؟
من الممكن القول بأن بعض ممارسات الجماعات الفلسطينية وحماس أدت إلى الإساءة للنضال الوطني الفلسطيني وخَّربت كثيراً فيه. لكن الثورة الفلسطينية ثورة حق ومن الواجب علينا أن تقر بأن العنف الثوري يصبح أحيانا- حينما تتعذر السبل الأخرى- الوسيلة الوحيدة لفك الاحتباس في لمعارك الوطنية.
يمكن قبول هذا البرنامج باعتباره برنامج فك اشتباك مع اليسار الماركسي، وبرنامج لليسار الليبرالي الديمقراطي بشكل عام.. لكن هل أستطيع كيساري مصري النضال من أجل الديمقراطية متجاهلا البعد الاجتماعي في بلد يرزح أمثر من 40% من سكانه في فقر مدفع، ومثلهم يعيشون فقراء، والعمال والفلاحين يفترشون الشوارع للمطالبة بأجور توفر لهم الحد الأدني من متطلبات الحياة؟! ماذا سيحدث لو قمت بذلك؟ سيدير الناس ظهورهم لي باعتباري شخص قادم من المريخ في أفضل الأحوال!! هذا هو في رأيي السبب في استمرار الانفصال حتى هذه اللحظة بين إضرابات العمال والمثقفين (الأفندية) مثلنا، وبقاء نظرتهم إلينا على إننا ناس مترفين نتحدث عن قضايا بعيدة عن لقمة عيشهم.
وأخيراً هل ما قلته لا يعني أن اليسار في أزمة؟ نعم اليسار في أزمة، ولكن المخرج المطروح من الأستاذ كريم يعمق من أزمة اليسار ولا يحلها، ولا حتى يساعد على الخروج منها.
فالمخرج ليس فى أن نتخلى عن، أو نخفف من، انحيازاتنا اليسارية، إنما فى أن نكون أكثر يسارية، بمعنى أكثر قربًا من الناس وهمومها وأحلامها وتطلعاتها، وأكثر قدرة على التعبير عن إرادتها، وأعتقد أن أفكار طرحها الزملاء أثناء النقاش قد تساعدنا على الخروج من هذا المأزق، منها فكرة التعددية الحزبية. ربما يساعد ذلك على أن تنشط كل مجموعة في قطاع وتخلق بذلك إبداعًا جديدًا لرؤية اليسار أو فصيل أو مجموعة منه للنضال، هل لا تزال مثلا فكرة البناء الحزبي الهرمي المنضبط إنضباطا عسكرياً صالحة؟! ربما لو قدمنا تجارب جديدة للتنظيم اليسارى مستفيدين مثلا مما حدث في أمريكا اللاتينية وإبداعاتهم في هذا السياق، ومستفيدين من أخطاء تجربتنا الخاصة ونتائجها السلبية طوال السنوات الأخيرة، قد يساعدنا على الخطو للأمام. أشار الأستاذ كريم إلى نقطة هامة، أوافقه فى أنها محور أي جهد يساري جديد، تتمثل في الاهتمام بالشباب وتجديد دم اليسار المصري والعربي الذي يعاني التآكل. كنت أتصور أن ثورة الاتصالات والمعلومات ستحتل جانباً كبيراً من الكتاب، ففي مصر نشهد الآن ممارسات جديدة لمئات الآلاف من الشباب المنتمين موضوعياً إلى اليسار عن طريق النت والفيسبوك والتي قلبت الدنيا. كما لم أرى أي مناقشة لظاهرة "الحركات الاجتماعية الجديدة" رغم أنها أصبحت المتصدية تقريباً للحراك الاجتماعي في مجتمعاتنا.. فهل يمكن أن نرتبط بهذه الحركات كيسار، وأن نوحدها ونقودها ونوجهها، لنرقَّي من أساليب عملها حتى تنتصر، وينتصر اليسار، في النهاية..؟

د. صلاح السروي
يقول مؤلف الكتاب أن فكرته الأساسية تدور حول ضرورات التعلم من أخطاء التجارب السابقة وبالتالي عرض في عجالة في مقدمته لتاريخ الثورات القديمة التي بدأت ثورة سبارتكوس مروراً بالثورات التي شهدها العالم الإسلامي مثل ثورة الزنج والقرامطة وصولا إلى كوميونة باريس وثورة أكتوبر الاشتراكية واستخلص المؤلف من ذلك أن كل هذه الثورات فشلت وأن ثورة أكتوبر بالتبعية لم تتعلم من أخطاء الآخرين وفشلت أيضا.
وقد جاء دورنا لنتعلم من أخطاء السابقين حتى لا نفشل. تصورت حقيقة في هذا السياق إننا بصدد ثورة جديدة وبالتالي علينا أن نجرد حساب الثورات السابقة لكي لا نقع في نفس أخطاءها وننتهي إلى ما إنتهت إليه، فإذ بي أجد إننا أمام رفض لوجود الثورة نفسه. من يتابع بعض المثقفين اليساريين وبعض الحركات الشيوعية في العالم على مختلف ألوانها وأشكالها سيجد حالة من الإحباط الشديد من إنهيار الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي أدي ببعض الأحزاب الشيوعية إلى تغيير أسمائها وخلع تسميه الشيوعية منها، وحتى الاحزاب التي كان بإسمها كلمة العمل أبدلتها بالاشتراكي فقط مثل حزب العمال الاشتراكي المجري الذي أصبح الحزب الاشتراكي المجري مما يشير إلى تخلي واضح عما تدل عليه كلمة العمال من التزام ما بالدور القائد والأساسي لهذه الطبقة في عملية التغيير وأيضاً تخلي عن الماركسية. أخشي إننا وصلنا إلى مرحلة التخلي عن المنطلقات الأساسية لفكرة وجود اليسار في حد ذاته. اليسار موجود أساسا لبناء حضارة إنسانية جديدة وأفق إنساني جديد ينتفي فيه الاستغلال والقمع والقهر وتتفجر فيه الطاقات والملكات البشرية الحقيقية التي يجري طمسها وتشويهها وتحويلها إلى طاقات تدميرية في ظل المجتمع الطبقي القاهر. إذا تناسينا هذه المهمة الثورية بالمعني الكامل والمباشر للكلمة، علينا أن نبحث لأنفسنا عن تسمية أخرى. فنحن قمنا من أجل حالة طبقية اجتماعية محددة ومنحازون طبقياً للطبقات المنتجة المقهورة. طبعاً البعد الأخلاقي واليوتوبي قائم بلا شك. ولكننا لا نحلل على أساسه وإنما على أساس البعد العلمي والمعرفي، على أساس ما يطرحه الواقع من وقائع حقيقية. ولذلك أنا متفق مع الأستاذ كريم مروة تماما في فكرته عن عدم القفز على الواقع والتعامل بشكل مرحلي مع المتغيرات. وهذا ليس بالكلام الجديد. لكن إذا تناسينا القضية الأساسية الاستراتيجية التي قام من أجلها فكر اليسار بجوهره واساسه سنواجه في الحقيقة مشكلة كبيرة، ركزت صفحات الكتاب كثيراً على كلمة "النهضة" على أساس أن علينا الآن الإسهام في تحقيق نوع من النهضة على مستوي التحرير السياسي والحركات التضامنية والإجتماعية والشبابية.. الخ. بالرغم من أن ذلك يتوافق مع فكرة اليسار لكنه لا يمثل جوهر عملية الفكر اليساري وليس المقولة الأساسية لحركة اليسار طبعاً اليساريون هم من عملوا على تنقية التراث وبشروا بمجانية التعليم وحرية التفكير والتعبير ووحدهم يقفون تقريباً الآن بجوار قضايا المرأة وحرية التفكير ضد المصادرة وقمع الأفكار. فاليسار على مدار تاريخه كان تنويراً.. لكن التنوير بأي اتجاه؟! فهل يمكن مثلا قبول تطويع فكرة قبول الآخر على مستوي بعض المقولات التي ظهرت حديثا لتعني ذلك الآخر الذي يري التطبيع مع الكيان الصهيوني أمراً ممكناً؟! هنا نخلط الأوراق والموضوعات بعضها بعضاً ونزيف المفاهيم والمعاني الحقيقية لفكرة الاختلاف. أنا مؤمن طبعاً بحق الإختلاف لكن ذلك لا يعني باي حال من الأحوال إيماني بحق الآخر في قتلي ومحوي وسحقي. أنا مؤمن بحق الأمريكيين في الوجود لكني لست مؤمنا بلا شك بحقهم في احتلال العالم. أن مبارحة المنطلقات والمفاهيم النظرية الأساسية والمواقف الجذرية الرئيسية والمواقع والخنادق التي انطلق منها اليسار تعني إننا بإزاء عملية خلط أوراق. أضع أي شخص يري نفسه إصلاحياً وليبرالياً على عيني ورأسي لكني أعجب كثيراً لأن يطرح ذات الشخص نفسه كيساري دون أن تشغله القضية الاجتماعية وقضية بناء أفق إنساني جديد متحرر من التبعية والإمبريالية والقمع والقهر. فهناك موجة في السنوات العشر الماضية لنقد الماركسية إجمالا وقد أشار الزميل عبد الحسين شعبان إلى الجهد القائم بهدف تحطيم المرايا ليس بالمعني التخييلي أي لانها تخايل الذات وبالتالي يعني تحطيمها تحطيم الخيالات والأطياف والأوهام، إنما يتم ذلك بدعوي المراجعة. لا أميل إلى التجريم والتخوين لكن إذا لم نربط هذه المحاولات بعضها ببعض ولم تقدم لها قراءة سياقية متكاملة سنصل إلى شئ ما لا اتمناه في الحقيقة، نعم اليسار حقاً في أزمة ولابد أن نعترف لكن لابد أيضاً من تشخيص العوامل الموضوعية الحقيقية التي أفضت إلى ذلك. يمر اليسار المصري والعربي بأزمة وليس كل اليسار في العالم، فيسار أمريكا اللاتينية ليس في أزمة. وحتى اليساريين في أوروبا ليسوا في أزمة بهذا القدر الذي نحن فيه. تتعلق أزمتنا في رأيي بالثقافة وتكتيكات اليسار التي أخذت من لحظة التكوين والنشأة منحي نخبويا، ربما يعود ذلك إلى العناصر الأجنبية التي شهدت ولادته، الأمر الذي جعله ليس شعبياً بالمعني الحقيقي للكلمة. إلا أن ذلك لا يعني بأيه حال أنه لم يكن مؤثرا. فاليسار وقف وراء كثير جداً من المفاهيم والأفكار الثورية التي حكمت مصر أيام عبد الناصر مثل الإشتراكية وحقوق العمال والفلاحين. ولولا ما حفره اليساريون بدمائهم وجلودهم المتقطعة تحت السياط في السجون ما كان لأحد أو كل من هب ودب أن يتشدق ويتفاخر بهذه المفاهيم التي جري حفرها في مجري الثقافة المصرية بفضل تضحيات الشيوعيين المصريين. إذن اليسار المصري أثر تأثيراً قوياً في مجري الحياة وإن لم يكن التأثير المرتجي الذي يمكن من خلاله أن يمثل أحد الأطراف الرئيسية في حركة السياسة المصرية لكن لا يعني ذلك أن التاريخ صودر على هذا النحو وإن علينا أن نلحق بأذيال عربة الليبرالية الكهنة حتى يكون لنا مكان.

د.شريف حتاتة (روائي ومفكر يساري)
من يتحدث في نهاية الجلسة يتمتع بميزة وفي الوقت نفسه يُواجه صعوبة. الميزة هي إمكانية الاستفادة مما قاله الذين سبقوه في الكلام. الصعوبة هي أن الحاضرين في نهاية الجلسة يُعانون من الإرهاق بعد الاستماع إلى عدد من المتحدثين. أياً كان الأمر فالمهم أنني سعيد بوجودي هنا اليوم، وهذا لعدة أسباب، في مقدمتها طبعاً وجود الأستاذ "كريم مُروة" بيننا، وهذا اللقاء الأول بيني وبينه. السبب الآخر هو الأشياء التي تربطني بالأصدقاء اللبنانيين، فقد كانوا ملجأ للكتاب أمثالي عندما عجزوا عن النشر في مصر. بالإضافة إلى هذا زرت "لبنان" وأنا صغير واستمتعت بجمالها، بالجبال، بالزهور والنباتات والأشجار، فقد كان معنا أستاذ في علم النباتات نظم لنا عدة رحلات فيها. ثم أنا مغرم بالمأكلوات والشراب اللبناني. هناك إذن أسباب مختلفة تجعلني متحيزاً للأستاذ "كريم مُروة".
قرأت الكتاب الذي نناقشه اليوم مرتين. قرأت الجزء الأول كاملاً لكني أسقطت من القراءة النصوص التي أوردها في آخره، وبهذه المناسبة أُريد ان أحذركم من تطور حدث لي. لم أعد كما كنت متفرغاً للسياسة أساساً، وإنما أصبحت أكتب الرواية وأتابع التطورات السياسية إلى حد ما، لكن ليس على نحو منتظم. لذلك أصبحت ميالاً لقول أشياء قد تُثير عندكم قدراً من الإستغراب، مع ذلك لا أُريد أن أكتمها لشعوري بأنها ربما تُضيف أبعاداً للحوار.
عندما قرأت الكتاب تملكني الإنطباع بأنه ليس كتاباً عن اليسار في البلاد العربية، وإنما أساساً عن اليسار في "لبنان". إن المؤلف عندما قام بكتابته كان متأثراً بالأوضاع في "لبنان". أكد إنطباعي هذا إهتمامه الكبير بموضوع توطيد أركان الدولة، وبناء قدرتها المستقلة، عن الطوائف والأحزاب، وأساساً عن "حزب الله"، وهذه مسألة لا غبار عليها لأن من المفروض أن تنبع النظريات من الواقع، وليس ان نطبق المقولة التي كانت شائعة في وقت من الأوقات بين صفوف اليساريين بـ"ضرورة تطبيق النظرية على الواقع". يُضاف إلى ذلك أن الكتاب تغلب على اتجاهاته النظرة الليبرالية في بعض المسائل الهامة على حساب التحليل ذي الطابع اليساري، وقد دفع هذا المهندس "أحمد بهاء الدين شعبان" إلى الإعتراض عما جاء فيه في كثير من الأجزاء، وقوله بأن الكتاب لا ينطبق على الأوضاع في "مصر" حيث يلعب الصراع بين الطبقات دوراً أهم بكثير عن الصراع بين الطوائف والفئات. مما يطرح تساؤل. هل كتاب الأستاذ "كريم مُروة" هو كتاب عن نهوض اليسار العربي أم أساساً كتاب عن نهوض اليسار في "لبنان".
فيما يتعلق بالنصوص التي وردت في الجزء الأخير من الكتاب الملاحظ انها جميعاً نصوص قديمة مرت عليها سنوات، مما يُفقدها جزءاً من قيمتها، فقد تغيرت الأوضاع في عالمنا كثيراً فلماذا لم يلجأ إلى الكتابات اليسارية التي صدرت حديثاً في عدد من بلدان أمريكا اللاتينية، وأوربا، وآسيا التي يمكن أن تكون أكثر نفعاً في هذا المجال؟ لو فعل لكان قد قام بعمل أكثر فائدة لنا فنحن معزولين إلى حد كبير عن مثل هذه التجارب لأسباب تتعلق باللغة، ولأسباب أخرى غير ذلك.
أريد أن أدخل الآن في صلب الكتاب، وأن أبدأ بمناقشته من الزاوية التي طرحها مؤلفه، وهي أهمية أن نقوم بدراسة تاريخ الثورات لنتبين الأسباب التي أدت إلى فشلها. هل كانت أسباباً موضوعية، أم أسباباً ذاتية، أم مزيج من الأثنين؟ وهنا طرأ على ذهني سؤال خاص بالثورة السوفيتية قد يبدو غريباً، ربما يُشبه إلى حد ما الأسئلة التي أطرحها على نفسي كروائي عغندما أفكر في حبكة الرواية التي أكتبها. لو فُرض أن "ستالين" هو الذي مات في بداية الثورة بدلاً من "لينين"، هل كان سيُؤدي ذلك إلى مسار مختلف للثورة في "روسيا"؟ في محاولة للإجابة على هذا السؤال تذكرت ما قاله "ماركس" عن ان الثورة الإشتراكية ستقوم أولاً في البلاد المتقدمة صناعياً،ذلك أن الثورة كما أشار صديقي "عماد عطية" هي صيرورة متواصلة من مرحلة إلى مرحلة، والمرحلة الرأسمالية الصناعية هي التي تصنع الأوضاع اللإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية التي تجعل الإنتقال إلى الإشتراكية ممكناً. إنها تُمهد لها بخلق الظروف المادية، والفكرية، والعليمة التي تجعل هذا التحول ميسراً. تُوفر الكوادر، والإمكانيات الضرورية للقيام بنقلة جوهرية في المجتمع. لكن اللثورة السوفيتية لم تتوفر لها هذه الظروف فقد قامت في بلد شبه إقطاعي، شديد التخلف، كما أن عضوية الحزب البلشفي لم تكن تتعدي العشرة آلاف في بلد زراعي زاد عدد سكانها عن مائة مليون. لم يصل الحزب إلى الحكم بسبب نشاط أعضائه الجماهيري لسنين طويلة في المدن، والريف، وإقامتهم شبكة واسعة من العلاقات، وخوضهن صراعات يومية متواصلة مع مختلف فئات الشعب وطبقاته ضد القيصرية، أي عن طريق إقامة قاعدة جماهيرية ممتدة في البلاد. لقد وصل إلى السلطة عن طريق تدبير ما يُشبه الإنقلاب. استولي عليها ثم شرع في إقامة النظام الإشتراكي استناداً إلى هذه السلطة. من هنا نبعت الاتجاهات الفكرية التي سادت في الحركة الشوعية لسنين طويلة، وهي اتجاهات كانت تعتبر أن مهمتها الرئيسية هي الإستيلاء على السلطة ثم القيام ببناء الإشتراكية اعتماداً على جهاز الدولة. التأييد الذي لاقته هذه الحركة شبه الإنقلابية في "روسيا" كان سببه قرار صاغه "لينين" أنهي به الحرب الدائرة إذ ذاك وأعلن فيه توزيع الأرض على الفلاحين مما جعل الملايين يُعلنون تأيدهم للثورة. الملايين من سكان المدن، وأساساً الريف كانوا فلولاً غير منظمة، معدمين وجهلة، ومرضي سئموا الحرب، سئموا لكوارث والموت، والجوع والحرمان، سئموا الفقر الذي عانوا منه طويلاً فاشتعلت آمالهم عندما استولي البلشفيك على الحكم.
إن هذه الأحداث تُذكرني إلى حد ما، قياس مع الفارق بالطبع، باستيلاء الضباط الأحرار على الحكم في "مصر"، ثم إعلانهم التدرييجي لخطوات ثورية دون أن يكونوا معتمدين على حزب جماهيري، أو على حركة شعبية منظمة واسعة النطاق. لذلك عانت الثورتان فيما بعد من مشاكل كثيرة، ومنها عدم وجود كوادر يُمكن الإعتماد عليها في تحديد الخطوات الثورية وتنفيذها. لكن الآن أصبح واضحاً أن مهمة اليسار تبدأ قبل الإستيلاء على السلطة، أي تبدأ بزراعة بذور الديموقراطية والإشتراكية داخل المجتمع وتنميتها. إنها مهمة تتم خطوة تلو الخطوة بالتعاون مع كل القوى الديموقراطية في المجتمع لتغيير المؤسسات، ومحاصرة الإستغلال، وبناء قاعدة إنتاجية للمجتمع، وتغيير العلاقات الإقتصادية والغجتماعية، وتكوين الكوادر، وتغيير الثقافة والأفكار، ثم الوصول إلى السلطة لا عن طريق الإنقلاب، وإنما اعتماداً على حركة ديموقراطية واسعة سلمية. هناك عملية تمهيد وتغيير طويلة المدى على اليسار أن يقوم بها وهو لا يزال خارج الحكم.
من هنا أوافق على ما كتبه الأستاذ "كريم مُروة" وأيده فيه الأستاذ "عماد عطية" عن ضرورة سعي اليسار مع القوى الديموقراطية الأخرى نحو القيام بعملية تحديث برجوازي في المجتمع. كما أن هذه الضرورة تبين لنا لماذا سعي "لينين" لتنفيذ ما أسماه بالسياسة الإقتصادية الجديدة التي تضمنت إجراءات لتشجيع عملية التنمية في المجتمع بالإعتماد على المجهود الفردي للملاك الفلاحين في الريف، والإستفادة من استثمار رءوس أموال أجنبية تُفتح لها الأبواب لدخول البلاد. مع ذلك نظراً للتخلف الشديد الذي كان قائماً في روسيا، ولمحدودية كوادر الحزب البلشفي لانعرف ما كان يُمكن أن يترتب على هذه السياسات، ولا نعرف لو عاش "لينين" هل كان سينتهي إلى مصير مختلف عما حدث لها على يد "ستالين"؟
لقد أراد "ستالين" أن يُعجل بالبناء الإشتراكي دون أن يُتيح الفرصة لنوع من التنمية الإقتصادية، والإجتماعية، ذات الطابع البرجوازي، فلجأ إلى الأساليب الإدارية القمعية، إلى القفز فوق المراحل، إلى إجبار الفلاحين على تكوين الجمعيات الزراعية التعاونية، والتخلي عن أساليب الإستغلال الفردي للأراضي، إلى القهر البوليسي، والسجون، إلى التصنيع بوتيرة متسارعة، وفي هذا الصدد قد يكون من المفيد أن أعود إلى الخلافات التي قامت بين "لينين" وأقطاب الدولية الثانية الذين كانوا أنصار للتطور الدتدريجي الديموقراطي البرجوازي الذي تلعب فيه الأحزاب الإشتراكية دوراً في التحول المطلوب نحو الإشتراكية، وهذا حتى وإن كانت قد انتهت الإشتراكية الديموقراطية إلى ما انتهت إليه. كذلك ربما من المفيد أن نعود إلى الخلاف الذي قام بين جناح البلشفيك والمنشفيك في الحزب الإشتراكي الديموقراطي الروسي حول أسس تنظيم الحزب، فقد عارض المنشفيك فكرة المركزية الشديدة، واعتماد التنظيم الحزبي على محترفين ثوريين سريين. إنها جميعاً خلافات في أسلوب التفكير الثوري متعلقة بقضية الأسلوب الديموقراطي الجماهيري في العمل السياسي، وفي الإعداد للثورة. إنها قضايا ذات أهمية كبيرة في عمل الأحزاب اليسارية، وفي الإتجاهات التي ينبغي لها السير عليها في المستقبل فقد ظلت الأفكار اللينينية هي التي سيطرت لسنين طويلة على نشاط الأحزاب الشيوعية. أهمل اليسار الشيوعي الكتابات الأولي للإشتراكيين الديموقراطيين مثل "كاوتسكي" و"برنشتاين" و"روزا لوكسمبرج" وغيرهم بينما قد نجد فيها ما يُفيد في هذا الموضوع.
ربما على اليسار أيضاً أن يتمعن ما يحدث في الصين حيث يُوجد حزب شيوعي في الحكم. مع ذلك هذا الحزب يُشرف الآن على عملية تطوير رأسمالي عميق، وواسع النطاق للمجتمع الصيني فهل يعني هذا أن الحزب الشيوعي أدرك أهمية بناء مجتمع رأسمالي متطور قبل أن يتمكن من التركيز على بناء النظام الإشتراكي؟ أم معناه أنه إنحرف بالشعب الصيني عن طريق الإشتراكية إلى الرأسمالية على نحو قد يُشبه من بعض الوجوه ما حدث مع الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية في "أوروبا"؟ هل تخلي الحزب الشيوعي الصيني نهائياً عن أهدافه الإشتراكية وتحول إلى حزب برجوزاي يُصارع لكي تُصبح الصين الدولة الرأسمالية الأهم والأقوي في العالم؟ هل كانت هناك في نظرة الأحزاب الإشتراكية الديموقراطية إلى التطور الإشتراكي جوانب صحيحة رغم أنها انحرفت عن مسارها لتُصبح أداة للرأسمالية فيما بعد؟ وهل في سياسات التي يتبعها الحزب الشيوعي الصيني جوانب تتعلق بالتطور إلى الإشتراكية ينبغي الإنتباه إليها؟ مثل هذه الأسئلة لم تُطرح في المناقشات أو في الدراسات اليسارية لأننا مازلنا نتمسك بالمسلمات التي قادت خطواتنا حتى الآن.
أُريد أن أنتقل بعد ذلك إلى قضية المرأة. أشار إليها الأستاذ "كريم مُروة" في الأهداف التي حددها للنهوض باليسار في المجتمعات العربية. من وجهة نظري جاء ذكرها متأخراً نسبياً فهي مذكورة تحت الرقم السادس العشر في هذه الأهداف، بينما أرى أنها أهم من ذلك بكثير. هناك حقيقة ينبغي التنبه إليها وهي ألاَّ وجود للديموقراطية في مجتمع مبني عل القهر الأبوي للمرأة، على التفرقة بينها وبين الرجل، على علاقات بين الجنسين مشوهة، مبنية على سيطرة الرجل على المرأة، في جميع المستويات وفي كل المجالات، امتداداً من الدولة وأجهزة الحكم في القمة، إلى الأسرة والزواج والأطفال في القاعدة أي في الحياة العامة المتعلقة بالسياسة، وفي الحياة الشخصية للرجال والنساء. هذا رغم أن المرأة تقوم بتحمل أعباء مهمة في جميع مجالات الحياة، أنها تُمثل نصف المجتمع بل ربما أكثر من نصفه. المجتمع الذي لايُطبق المساواة بين الرجل والمراة سيظل أعرجاً، والسعي نحو تحقيق هذه المساواة، وإلغاء التفرقة بين الجنسين واجب اليسار قبل غيره من التيارات والمنظمات في المجتمع مهما كانت هذه المهمة صعبة ومعقدة، فطالما أنه تُوجد تفرقة في مجال من المجالات، ستتسرب هذه التفرقة إلى كافة أنظمة ومناحي الحياة.
ليس من باب الصدف أن الإخوان المسلمين شرعوا منذ سنين في تكثيف نشاطهم بين صفوف المرأة. إنهم يُدركون أن السيطرة على المرأة جزء أساسي من فرض سيطرتهم على المجتمع، أن المرأة إذا إنحازت إلى التيارات الوطنية الديموقراطية واليسارية في المجتمع ستُشكل عنصراً له وزن، وتأثير كبير على مختلف نواحي الحياة، ستُؤدي إلى تغيرات جذرية في المجتمع. إنهم واعون بهذه الحقيقة ويرون فيه خطراً عليهم. إنهم لذلك يخوضون معركة ضارية للحفاظ على عادة ارتداء الحجاب، وحتى النقاب، فالحجاب ليس مسألة شكلية. إنه غطاء للرأس، أي غطاء للجزء من الجسم الذي يحتوي على العقل. الحجاب يرمز إلى اعتبار المرأة مجرد جسد بلا عقل، دورها إمتاع الرجل، والإنجاب، وخدمة الزوج، ورجال الأسرة، والبقاء في البيت. دورها أن تظل عنصراً جوهرياً في الحفاظ على المجتمع الطبقي الأبوي، على تخلفه، على التفرقة الجنسية القائمة في كل المجالات. دورها ألاَّ تُشكل مع الرجل جزءاً من حركة التحرر والتقدم الإنساني الذي نصبو إليه. المطلوب هو أن يظل نصف المجتمع يعيش بلا إرادة وبلا فكر.
في النهاية أشكر الأستاذ "كريم مُروة" على كتابه الذي استفدت منه واستمتعت به، وأتمني أن تكون لنا معه لقاءات أخرى فنحن في حاجة إلى أن نتحاور مع اليساريين والتقدميين في البلاد العربية، أن نتبادل معهم تجاربنا وأفكارنا. في الختام أقول أنه مازال عالقاً بذهني قضية لم نطرحها، تساؤل ينبغي أن يُشغل أذهاننا. هل في عصر العولمة لا يزال يُوجد ما يُطلق عليه المشروع القومي المستقل، أي إمكانية للتنمية المستقلة في كل بلد على حدة؟ هل أصبحت المشاريع القومية جزءاً لاينفصل عن مشروع عالمي للتحرر، والديموقراطية، والتمنية الإقتصادية والإجتماعية التي تُؤدي إلى مُحاصرة سيطرة الشركات المتعددة الجنسية، ورأس المال المالي المسيطر على عالمنا؟ هل توجد صيغة جديدة للنضال يُصبح فيها نضال شعوب العالم مترابطاً، ويُصبح فيه مشروعهم هو إقامة نظام بديل للعولمة الرأسمالية يربط ما بين الحركات القومية على نطاق العالم؟ هل يستطيع كل بلد أن يُواجه وحده القوى الإقتصادية العسكرية العابرة للأوطان التي تحكم العالم بعد أن جعلت منه سوقاً موحداً تسيطر عليه؟

أ.صلاح عدلي (المتحدث باسم الحزب الشيوعي المصري):
أحيي الأستاذ كريم وأعتقد أن ميزة الجهد الذي قام به أنه وضع تحت يدينا فكر واضح لأنصار ما يسمونه ب، "اليسار الجديد" والذي بدأ يتبلور بعد انهيار تجربة الاتحاد السوفيتي. بدأ هذا الفكر هنا في مصر بكتابات د. رفعت السعيد عن الأسقف المنخفضة وهو منتشر أيضاً في العالم كله. ولذلك أرى أن الكتاب بحاجة إلى نقاش كبير وتساؤل أساسي هو هل لا يزال هذا اليسار الجديد بعد 20 سنة من التحولات والتطورات التي لا أملك للأسف الشديد فرصة لتوضيحها يساراً جديداً أم أنه أصبح أيضاً يساراً قديماً؟ تقوم الماركسية نفسها كنظرية على عدم الإطلاق لكني أرى متفقاً في ذلك مع أحمد بهاء الدين شعبان وصلاح السروي- أن الجوهر الأساسي لكتاب الأتساذ كريم ينطلق من فكر ينطبق عليه فكر اليسار بمعناه الرحب وليس اليسار الراديكالي أو الماركسي الذي ينطلق من جوهر فكر ماركس المتمركز حول الصراع الطبقي. أتفق مع الأستاذ كريم في أنه هناك عالم جديد وتطورات كبيرة تحدث في العالم علينا دراستها لكن جوهر الأمور لا يزال كما هو. قال الأستاذ عبد الغفار أن السؤال الأساسي المفترض أن يدور حوله النقاش هو هل بناء دولة ديمقراطية بالمفهوم المطروح في الكتاب النقطة البرنامجية الرئيسية في هذه المرحلة؟ من الممكن أن أوافق على أن الديمقراطية هامة وجوهرية وأساسية لليسار اليوم لكن المفهوم المطروح اختزل كثيراً من الأمور وسأورد مثلا واحدا على ذلك لأوضح كلامي. فالنقاط أو المستويات الأربعة الرئيسية في العدالة الاجتماعية التي تحدث عنها الأستاذ كريم تختلف كثيراً مع مفهوم اليسار لها. ذكر الأستاذ كريم هذه النقاط كالآتي:
1-مستوي التقدم الاقتصادي
2-ترسيخ الديمقراطية السياسية
3-التكامل بين الدولة والمجتمع
4-توعية المواطنين
وأتساءل هنا، أين التوزيع العادل للثروة؟ وهو في الواقع جوهر الأمور، أين مسألة الاستغلال؟، أين الهيمنة الأمريكية؟

أ.ممدوح بكر (عضو اللجنة المركزية لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي):
لم اقرأ للأسف الشديد كتاب الأستاذ كريم لكني أقول من خلال ما سمعته من مداخلات الزملاء أني أختلف معه في خطه العام لأنه يبدو أن طرحه اتبع كثيراً من المقولات الليبرالية وللأسف الشديد هذه هي أزمة اليسار التي بدأ يخوضها في الدول العربية عامة ومصر خاصة. أختلف مع المهندس عماد عطية فيما ذكره عن انتهاء فترة التحرر الوطني لأن حركات التحرر الوطني سواء الناصرية أو البعثية لم تنجز تحرراً كاملاً وناجزاً ولم تبني دولة مؤسسات ولم تتحرر كاملاً من التبعية، وهو ما كشفته حقيقة حركة الثورة المضادة في مصر في 15 مايو 1971 وما ترتب عليها وكذلك الحال بالنسبة لعراق البعث. لكن الحركة الشيوعية العربية كانت للأسف الشديد ذيلية والمثال الواضح على ذلك الحزب الشيوعي العراقي الذي تحالف مع البعث وكذلك قرار الشيوعيين الخاطئ في مصر عام 1965 بحل تنظيماتهم والإندماج في مؤسسات الدولة الناصرية. أختلف أيضاً مع ما قاله د. سامر سليمان عن الدولة. وإذا كنا نميز في تلك المسألة ما بين حقبتي ما قبل الرأسمالية والرأسمالية، فإننا حتى لو أخذنا المجتمعات القروسطية الإسلامية كنموذج وطبقنا عليها نظرية إبن خلدون عن العصبية سنجد أن الدولة فيها لم تكن إلا مجمل حكم القبائل والعصبيات فاستطاعت بذلك قبيلة مثل قريش بناء دولة وإقامة إمبراطورية لم تكن الهيمنة والسيطرة الطبقية كما هو معروف غريبة عنها. والدولة الرأسمالية كذلك وأعتقد أن بعض المتحدثين افاضوا في هذه النقطة ولذلك لن أتطرق إليها. أريد أخيراً الحديث عن فكرة المرحلية. قدمت الأدبيات التروتسكية وتلك الخاصة بمدرسة التبعية، المهمشة للأسف الشديد مثل أدبيات سمير أمين وبول باران وغيرهما حلولا للخروج من هذه الأزمة. نحن بحاجة إلى برنامج حد أدني عاجل يتضمن بالأساس إقامة نظام حكم وطني ديمقراطي حقيقي يتخلص من الاستعمار والتبعية ويقيم اقتصاداً معتمداً على الذات وشكرا.

م. سعد الطويل
الكتاب بصفة عامة متأثر بالأوضاع في لبنان وهي ليست نموذجا لبقية الدول العربية وهذا يدعو لبعض التحفظ عند التعميم على البلدان العربية رغم ما يشملها جميعاً من اشكال الحكم الاستبدادي.
أتفق مع ما قاله المؤلف عن عدم التوقف عند أقوال ماركس، وأضيف أن الماركسية الحقيقية هي أن تبدأ من أقوال ماركس الأساسية وتتبع منهجه المادي الجدلي في تحليل الواقع الحالي لتصل إلى التاكتيكات الواجب اتباعها حالياً لتحقيق الهدف الاستراتيجي وهو مجتمع ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان أي المجتمع الاشتراكي أو الشيوعي والتسمية لا تهم.
ومن هنا فالمجتمع الديمقراطي الذي يناضل اليسار لتحقيقه يجب أن تكون سمته الأساسية توجهه نحو العدالة الاجتماعية، وفي المدى الطويل تحقيق مجتمع المساواة الخالي من استغلال الإنسان للإنسان. ويأتي ضمنا توفير التعليم الراقي والرعاية الصحية الكاملة والسكن المناسب لجميع المواطنين، مع ضمان بقية حقوق المواطنة كحرية الرأي والتعبير والإجتماع والتجمع في منظمات شعبية حرة كالنقابات والجمعيات الأهلية إلخ، ولم يؤكد الكتاب بما فيه الكفاية على التوجه الاستراتيجي لليسار كما هو موضح، واكتفي بالتركيز على الحقوق الفرعية، وبالتالي يمكن القول إن ما يدعو إليه الكتاب هو إقامة منبر ديمقراطي ليبرالي وليس يسارياً.
أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فقد أرجع عدم قابليتها الحل في المدى القريب "للغطرسة" الإسرائيلية، و"عجز" المجتمع الدولي عن إيجاد الحل، وهي نظرة بعيدة عن حقيقة القضية. فالقضية الفلسطينية نشأت عندما تبنت بريطانيا الامبريالية مشروع هرتسل الصهيوني بإقامة دولة يهودية في فلسطين تكون القاعدة المتقدمة للتوسع الإمبريالي في المنطقة وشجعت الاستيطان اليهودي الواسع في فلسطين التي احتلتها بعد الحرب العالمية الاولي. وعندما زارت لجنة الأمم المتحدة فلسطين في عام 1947 لدراسة الوضع على الأرض واجهتها العصابات الصهيونية بسلسلة من الهجمات الدامية على العرب والبريطانيين مما دفع أغلبية اللجنة للتوصية بالتقسيم. وقد وافق الاتحاد السوفيتي على هذا القرار رغم إعلانه أنه ليس الحل الأمثل،.ووافقت جميع التنظيمات الشيوعية على القرار لأنه- إلى جانب التأييد السوفيتي- قرر استمرار الوحدة الاقتصادية بين الدولتين، واستفتاء الشعبين بعد عامين على الوحدة مجددا. ولا ننسي أن حكومة السعديين وبقية الأقليات تحت حكم فاروق انتهزت فرصة الحرب لإعلان الأحكام العرفية لمحاربة الشيوعيين وبقية القوى الديمقراطية في مصر.
وأعلنت بريطانيا أنها لن تتعاون مع هذا القرار، وشجعت عميلها الأمير عبد الله على ضم الضفة الغربية من فلسطين لمملكته (وهو الذي كان قد اتفق مع جولدا مائير- بمباركة بريطانيا- على عدم مقاومة القوات اليهودية لدرجة أن جيشه بقيادة جلوب باشا والضباط الإنجليز تركوا لليهود نصف المنطقة العربية التي حددها القرار). واستولت مصر التي كانت تحت الاحتلال البريطاني على قطاع غزة وبه مائتا ألف من اللاجئين الفلسطينيين.
وهكذا عادت بريطانيا لفلسطين من الشباك بعد أن خرجت من الباب. ولا ننسي أن بريطانيا كانت تعتقد أنها الراعية الأصلية لإسرائيل وستحتفظ لذلك بنفوذها لديها. وبالطبع فإن إسرائيل الصهيونية كقاعدة أمامية للإمبريالية اتجهت بدلا من ذلك لزعيم وقائد الإمبريالية الجديد وهو الولايات المتحدة.
بناء عليه فالقضية الفلسطينية لن تجد حلا حقيقياً طالما بقي القطب الأوحد الأمريكي بدون منافس حقيقي على رأس العالم، وهو يحتاج لهذه القاعدة المتقدمة في هذه المنطقة الحساسة والغنية بالبترول على أن تبقي شوكة في جنب شعوب المنطقة على الدوام بوصفها استعماراً استيطانياً معادياً. ولا يمكن لأي عميل استعماري آخر أن يقوم بهذا الدور (كما كان السادات يتخيل مثلا)، ولهذا السبب لا تتوقف "الغطرسة" الإسرائيلية فهي جزء لا يتجزأ من نظام السيطرة الإمبريالية. وحتى الانقسام الفلسطيني وهو بالفعل مما يساهم في استبعاد الحل، لا يخرج عن قواعد المؤامرة الاستعمارية فالدول التي تعادي حماس هي من توابع الإمبريالية الأمريكية في المنطقة، والدول التي تؤيد عباس ليست بأفضل من ذلك كثيرا! وانقسام الشعب الفلسطيني لا يخدم إلا الأهداف الإمبريالية.
وأتفق مع المؤلف في شجبه للشعبوية والشعارات الزائفة. فشعار "المقاومة" يساء استغلاله كثيرا، ولا أوافق على تسمية العمليات الانتحارية الثلاثين التي قامت بها حماس خلال أربع أو خمس سنوات من أعمال المقاومة الحقيقية فهذه يجب أن تكبد العدو خسائر حقيقية في قواته أو عتاده بما يدفعه للتراجع أو الانسحاب، أما قتل مائة أو مائتين من المدنيين إنما يعطيه حجة لتأليب الرأي العام العالمي على الفلسطينيين (مع أن هذا الرأي العام العالمي هو القوة الوحيدة اليوم التي تمنع إسرائيل من تنفيذ مخططاتها لإبادة الفلسطينيين أو طردهم من بلادهم أي الترانسفير). وحتى العملية الوحيدة للمقاومة التي نتج عنها أسر جندي إسرائيلي واحد (شاليط) وتوافق إسرائيل على مبادلته بألف أسير فتبددها حماس بالإصرار على الإفراج عن بعض قادتها ضمنهم. أما التصور الساذج أن شعب إسرائيل سيثور لقتل مائتي مدني (خلال خمس سنوات) على حكامه فيدفعهم إلى التراجع عن جرائمهم فهو في الحقيقة مبالغة في تصور أن إسرائيل بلد ديمقراطي يتجاوب فيه الحكام مع رغبات الشعب!

د.حلمي شعراوي (متطلبات الحوار الجديد حول "النهوض الجديد" لليسار العربي )
ليس الأستاذ "كريم مروة" في حاجة إلى اعترافنا بخبرته التاريخية كسياسي ومثقف لبناني، لكننا فقط نحسده دائما على ما أتيح له من خبرات واتصالات واسعة ومتنوعة في العالم، جعلت التنوع الذي عاشه في لبنان يشتبك بتنوع هائل في المكان والزمان. من هنا كان فهمه لما حدث في العالم من تطورات وما تقتضيه معايشتها من مدركات ذاتيه وموضوعية على المستوي العربي، وهو في كل ذلك يطرح نفسه للمناقشة المعمقة، ويعتبر- عكس الكثيرين- أن هذه المناقشات من حول كتاباته جزء من آليات معرفته بالعالم، وبالمثقفين من مواقع مختلفة، وأذكر أننا سبق أن ناقشنا أفكاره بالقاهرة لساعات في مركز البحوث العربية والأفريقية، وتعمقت الاختلافات كما برزت أوجه الاتفاق، وإذ به يضع وقائع هذا الملتقي في صدر الكتاب الذي صدر تعريفا بفكر كريم مروة أواخر التسعينيات، وها هو، بعد أن أصدر العديد من كتبه الغنية بالأفكار، يأتي إلينا في القاهرة حاملا لكتاب يعتز به كإثراء للمستقبل وليس مجرد تحليل للماضي في قضية تعبر عن هموم وآمال الجيل المنصرف كما هي للجيل الصاعد، ذاك هو كتاب "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". فنلتف حوله نناقشه بكل ما لدي الجميع من مسلمات أو تجديدات، ولنضع أمامه نصا قد يراه مفيدا لمزيد من الإضافة من جانبه.
لأني أعرف كريم مروة لأكثر من ربع قرن، فإني أعرف مرونة تفكيره إزاء النصوص والقوالب الجامدة، ورغبته في طرق أبواب الجديد، ولذا أتوقع مغامراته دائما ومن ثم توقعت من عنوان هذا الكتاب، ما هو أبعد من أن يكون "إيديولوجية" للواقع المتغير، ولا أن يقترب من الظواهر "بأفكار مسبقة"، واستبشرت من ذلك كثيرا، ووجدت ملامح كثيرة لهذا المنهج بالفعل، خاصة في عرضه لقضايا المستقبل. لكن الأستاذ "كريم مروة" لم يستطع أن يتخلص كثيراً من تكوينه الفكري الراسخ، وأعباء ماضية فراح يلزمنا في عديد من المواقع بالكتاب بنصوص تاريخية من ماركس وانجلز ولينين، وهو ما اعتقد أنه راغب في تجاوزهم بالتأكيد، ولم أر فائدة كبيرة لهم بالنسبة لاجتهاداته إلا أن يكون مخاطباً البعض ممن لا يزالون يتشككون في إمكانية التجديد!
وأنا مازلت أتساءل: هل تصل مناوشتي هذه لطبيعة اختياراته للنصوص الملحقة التي توقفت أيضاً عند جرامشي؟ مع أنه منتبه في تقديمها لأهمية الكثيرين المحدثين عنهم، من لوكاتش حتى هسيا وبينغ؟ وبالطبع فإني لا أتوقع عملا موسوعياً يدور بنا إرجاء التاريخ والجغرافيا، ولكني على أي حال كنت أرجو أن يكون "كريم" كريما مع الماركسيين الشبان لجرهم إلى الجديد باعتراف ماركسي قديم مثله بهؤلاء وغيرهم من ماركس ماركسي العالم الأول بل والثالث أيضا.
ومادمنا نشير إلى العوالم الأخرى" والعالم الثالث، فليدعني "كريم مروة" أسأل عن سبب غياب أي إشارة إلى التجربة الصينية قديما أو حديثا في أي موقع بالكتاب وهو الذي خبرها وكتب عنها بإحتداد أحيانا ولكنها تظل جديرة بالعرض النقدي، وضمن تجارب العوالم الأخرى الذي نطالبه بتحديد موقعنا منها بدلا من تجاهله لأية إشارة إلى هذه الخبرات التاريخية والحديثة في هذا العالم، وقد كانت رؤيته ضرورية أيضاً من مخضرم قديم يخوض في غمار الحداثة والتجديد وأنا أعرف كيف أن خبرة "كريم مروة" بهذه "العوالم" المتعددة، قد وصلت به من آسيا لأفريقيا لأمريكا اللاتينية، وأعرف صداقاته وعلاقاته الحميمة من الهند إلى جنوب أفريقيا إلى البرازيل وفنزويلا وغيرها. ألسنا في حاجة دائمة لإشعار أجيالنا الحديثة بتراث الماركسية واليسارية عموما على صعيد العالم، الذي عرفه الماركسيون العرب جيدا، وإن لم يعبروا عنه بنفس ما يتطلب من عمق.
ألم يكن ذلك يساعد "كريم مروة" على مقاربة وضع اليسار العربي في هذه الفترة مع العوالم الأخرى بدل عالم الأممية التقليدية التي أعرف ملاحظاته عليها. وهل كان ذلك سيجعله يعالج "المسألة القومية" عند الماركسيين العرب على نطاق أوسع وبضرورات أرحب من عنفنا مع المفهوم!. وهل تساعد التطورات الحديثة والإقليمية على مزيد من تواجدهم أمام قضايا الوطن الملحة أم يبقي التقسيم القطري حتى في مجال فكري، رغم اكتساحات العولمة للقطري والإقليمي على السواء؟ هل يمكن أن اقول للاستاذ كريم أن كلمة "العالم" العربي" لا تعبر عن شئ، ولا يوجد لها مثيل في العالم، ويكاد يكون مصطلح "الإقليم" أو "المنطقة" أكثر تعبيراً إذا كان ثمة تصميم على رفض كلمة "الوطن العربي"؛ والوقوف عند حد التكامل بين دوله؟
دعنا نعود للنقطة الأساسية وهي أن الأستاذ كريم لابد أن لاحظ غياب التنظيمات العربية عموما، حزبية أو أهلية عن تجمعات لبلدان الجنوب لا يجب أن تغيب عنها فكراً أو رؤية للعالم. وأختصر هنا بأني أقصد منتديات العولمة الجديدة مثل "المنتدي الاجتماعي العالمي" الذي اجتمع في مواجهة تجمع دافوس، ولمسنا قمته في بورتو أليجري وبومباي. وكذا "منتدي البدائل العالمي"، وذلك في بحث العرب عن وجودهم مع آخرين في داكار وباريس. مثلما سبق أن "وجدو" بقوة في حركة عدم الانحياز، أو تجمع الدول النامية... الخ. وأنا أثير ذلك بالشكل السابق انطلاقاً من أن الأستاذ كريم يخاطب حركة شعبية عربية بالأساس ويتحدث عن المستقبل لوجود العالم "مع الآخرين" تنوعوا الآن بالتأكيد، ولا أعني هذه النظم الاقصائية، والتي لا ينفع معها تفكير ولا اقتراب.
شعرت في بعض الفقرات المتناثرة التي يرد فيها ذكر الدولة، الوطنية، أن الفكرة تبدو قلقة عند الأستاذ كريم بين الاحتياج لضبطها لتطور المجتمع وخاصة الاقتصادي، وبين رفضها بسبب تاريخها الاستبدادي وطنية أو شيوعية في هيئة رأسمالية الدولة. ويظل الحكم عنده حائراً بين كفاية الديمقراطية والحريات لبقاء الدولة الوطنية، وبين نفي مفهوم الدولة الوطنية لصالح "دولة وسمنستر" الليبرالية. بل يذهب (ص 37 مثلا) إلى صعوبة تحديد طبيعة النظام البديل، وحين يسأله القارئ أو القوى الجديدة أن تبدع بديلها فالتحذير الوحيد عنده يكون من الأيديولوجيا!!.
تصورت أيضاً أن يعالج الأستاذ كريم بتفصيل ضروري مسألة "القوى الفاعلة" في المجتمع الجديد الذي يتحدث عن مستقبله، واعني به الأحزاب السياسية والمجتمع المدني الذي يشير إليه أيضا، لأنني افتقدت هذا البعد في النص المنشور. وقد يكون إحباطنا جميعاً من الأحزاب القائمة سبباً في هذا التجاهل، لكننا نعرف أيضاً أن الإنسان حيوان سياسي، وان "المملكة السياسية" هي بديل المملكة السماوية أو الدينية، ولابد أن يحدد مفكر مثل كريم مروة تصوره للحزب، لأن حالة لبنان مثلا تختلف كثيراً عن حالة مصر، وكلاهما على ما يبدو ينفي حرية التعامل أو التداول في مملكة سياسية حقيقية. وقد فسرت لنفسي رفض الأستاذ كريم لذكر أية واقعة تتعلق بالبلدان العربية، حتى يحتفظ النص ببراءته الفكرية، وهذا اقدره؛ وإن كانت تصنيفات أحزابنا في الوطن العربي جديرة بالبحث، الحديث يطول مع الأستاذ الصديق كريم مروة، ولابد أن أتوقف هنا حتى لا أثقل عليه، خاصة إذا مررنا على عشرين نقطة يوردها في برنامجه المستقبلي، وأرجو أن تكون الإشارات السابقة جميعاً ذات هدف مستقبلي وليس نوعاً من الوقوف على الأطلال كما قد يبدو في عرض بعضها بما لا أريده فهي مجرد رغبة في انتظار تأملات معمقة أثق أن كريم مروة قادر عليها، كما أن حوار جادا على المستوي العربي، ومن جانب القوى الشابة خاصة، سيكون ذا فائدة حقيقية "لنهضة جديدة لليسار العربي".
في ختام الندوة عقب كريم مروة على المناقشات باختصار.

القسم الثالث

كتابات أخرى حوب الأطروحات

صقر أبو فخر- بيار أبى صعب
مارس اشتى

لقي كتاب كريم مروة لدى صدوره اهتماماً كبيراً في وسائل الإعلام اللبنانية. وقد نشرت جميع الصحف والمجلات وقائع الاحتفال الذي أقيم في الأونيسكو. كما نقلت وقائع الاحتفال بعض قنوات التلفزة والإذاعات، وأجريت مع المؤلف لقاءات حول الكتاب وحول أفكاره فيه المتعلقة باليسار، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ونشر عدد من المثقفين اليساريين مقالات في صحف ومجلات عربية، ناقشوا فيها أفكار كريم مروة، من مواقع الإتفاق معه، كلياً وجزئياً، ومن مواقع الإختلاف معه، حتى التناقض. وأرسل عدد من المثقفين مساهماتهم في النقاش مباشرة من دون أن تنشر في وسائل الإعلام لكي تصدر في هذا الكتاب. وقد انتقينا عدداً من هذه المقالات بتنوع مواقف أصحابها، استكمالاً للنقاش حول الموضوع المهم الذي يطرحه كريم مروة، موضوع نهضة جديدة لليسار العربي.

نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي

أ.صقر أبو فخر
كاتب (لبنان)
من المسائل الفكرية القليلة جداً التي كاد الإجماع يعقد حولها اليوم، عدم إمكان تعريف "اليسار" بدقة تامة. ولو عرضت هذه المسألة في ستينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، لكان الجواب البديهي والتلقائي هو أن "اليسار" يعني ذلك التيار العام، السياسي والفكري، الذي يولي قضية العدالة الإجتماعية موقعاً مركزياً في نضاله، والذي يقف الموقف المعاكس للرأسمالية وطرائق حكمها، ويعادي الإستعمار والإمبريالية والرجعية. وينخرط انخراطاً عضوياً في العمل في سبيل السلم العالمي، ويتضامن، بقوة، مع نضال الشعوب الأخرى من أجل تحررها الوطني والطبقي وعلى النقيض من هذا التعريف المباشر، نشهد في هذه الأيام ماركسيين يدعون إلى التحالف مع جماعات الإسلام السياسي على طريقة رياض الترك في سوريا، وشيوعيين انووا في سياق واحد مع أنصار سياسة الولايات المتحدة الأميركية (الإمبريالية سابقاً!) لمواجهة خطر الإسلام السياسي أو حكومات عربية بعينها، على طريقة بعض الشظايا الشيوعية في لبنان المتحلة من الحزب الشيوعي التاريخي. لقد اختفت عناصر الإفتراق والإختلاف بين اليسار واليمين على أيدي هؤلاء، وغاب التمايز الجوهري بينهما، واندرج الجميع في صيغ سياسية مضحكة حقاً.
هناك أيضاً شيوعيون ويساريون وقوميون شاخوا منذ زمن طويل. ولم يبق لهم إلا حمل عكازاتهم والجلوس في مقاهي الأرصفة وذم الزمان، تماماً مثل عجائز القرى اللواتي ما إن ترى الواحدة منهن فتاة شابة وجميلة حتى تفتتح حملة السلق بالكلام! هؤلاء رأوا شبابهم الآفل يتحدد في الحركات الإسلامية الصاعدة فشرعوا في تقبيل أيدي زعمائها المتخلفين أشواطاً عن اليسار القديم بوجهيه الشيوعي والقومي التقدمي. ومن عجائب الدهور وغرائب الأمور أن بعض شراذم اليسار صار صديقاً للسلطات العربية إياها، وبات غير متناقض مع السياسات الرسمية لهذه السلطات، ولو جزئياً للجماعات الإسلامية الجديدة، والساعية لإيجاد كتلة إجتماعية-سياسية تقف إلى جانبها في وجه الإسلام السياسي. وهذه الشراذم ضعيفة على المستوى الشعبي، وسقيمة على المستوى الفكري، ولا طموحات سياسية لديها من شأنها أن "تنقز" الحكومات المتسلطة وبالتدريج، باتت هذه الشراذم "اليسارية" جزءاً من التكوين العام للسلطة، أي جزءاً من "الإستابشمنت"، كما يجري اليوم في الأردن مثلاً.

البحث عن أفق
كريم مروة يخالف هؤلاء على طول الخط، وميزته أنه لا يشيخ، فهو لا يزال يبحث ويفتش ويفكر، ومع أنه ما برح حالماً بالحرية والتقدم والعدالة، إلا أنه واقعي جداً. وواقعيته ترغمه، عكساً لإرادته المتفائلة، على القول "إن عالماليوم.. وعالمنا العربي جزء منه، محكوم إلى زمن غير محدد بالنظام الرأسمالي المعولم بكل ما فيه من تناقضات" (ص27). هذا هو تشاذم العقل لدى كريم مروة. لكن تفاؤل الإرادة يقوده إلى التصريح بأن "النظام الرأسمالي ليس حتمية تاريخية نهائية: حتمية تجعل النضال من أجل الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية.. نضالأً من دون جدوى ومن دون أمل" (ص29). كتابه الجديد "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" عبارة عن كتابين يتضمن الأول منهما مساهمة أولية في تحديد اليسار في العالم العربي. ويتضمن الثاني نصوصاً مختارة لماركس وأنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي. وهذا الكتاب محاول لتقديم تصور جديد لليسار في العالم العربي انطلاقاً من التصدي للإنكسارات والتراجعات والإنهيارات التي لا يمكن أنتكون "نهاية التاريخ" (ص7). والكتاب، في أحد جوانبه، محاولة لمعرفة الأسباب الموضوعية التي أدت إلى انهيار التجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي (ص8). ومع أن كريم مروة يركز على الماضي كمنطلق لا بد منه، إلا أن غايته هي البحث عن أفق للمستقبل. وفي هذا الميدان أصدر كتابه "في البحث عن المستقبل" (بيروت: دار الساقي، 2009).
يقول كريم مروة في تناوله انهيار التجربة الإشتراكية: "إن من بين عناصر الخلل الأساسية في التجربة الإشتراكية التي أدت إلى انهيارها بعد ثلاثة أرباع القرن من قيامه، أن معظم المسؤولين الأساسيين عن وضع أفكارها موضع التطبيق قد انزاحوا عن تلك الأفكار في الممارسة" (ص14). ويضيف: "إن ليني عمد وهو في قمة الهرم في سلطة العمال والفلاحين.. إلى إقامة رأسمالية الدولة. ذلك أن المهمة الأساسية كانت في تلك المرحلة... بناء القاعدة المادية للتقدم. تلك القاعدة التي من دونها لم يكن في حينه مجال للحديث عن مستقبل للإشتراكية في روسيا" (ص56).
لا يمكنني تفسير انهيار تجربة هائلة كالثورة الإشتراكية في روسيا سنة 1917 بالسلوك اليومي لقياداتها. على أهمية دور المسلك الفردي للقادة في إنهاك أي ثورة. لقد كان مقتل ثورة أوكتوبر هو أنها قامت في مجتمع زراعي متخلف، وليس في مجتمع صناعي متطور، ولهذا دب الصراع فوراً بين عمال المدن وفلاحي الأرياف على الغذاء. والحقيقة، بحسب اعتقادي، أن ثورة أوكتوبر لم تعش ثلاثة أرباع القرن، بل خمسة أعوام فقط. أما نموذج "رأسمالية الدولة" فلم يكن خياراً ثورياً قط، وإنما الخيار المر، والقاصمة التي حطمت أفق المستقبل للثورة الروسية. ثم أنجنبت فيما بعد الإستبداد الستاليني. ولم يكن أمام لينين آنذاك إلا أن يسلم بهزيمة الثورة بعد التمردات المتتالية في سنة 1921(عمال وبحارة بتروغراد مثلاً. والفلاحين الذين كانت السلطة تصادر ثلاثة أرباعغلالهم لإطعام المدن غيرالمنتجة بعدما توقفت المصانع جراء الحرب الأهلية وحروب التدخل الخارجي)، أو أن يختار "رأسمالية الدولة" مرغماً. وقد اختار فعلاً، من خلال "السياسة الإقتصادية الجديدة" (النيب) طراز الدولة الرأسمالية. لكن من دون رأسماليين هذه المرة. وهذه الدولة هي التي أنشأت القاعدة المادية لدولة كبرى مقتدرة. إلا أنها فشلت في منافسة الرأسمالية المقابلة ذات الطراز الأميركي. وسقطت بعد ثلاثة أرباع القرن في ميدان سباق التسلح والتخلف الإنتاجي وغياب الحريات، وتمكنت مصالح متنافسة ومتشابكة من تفتيت مجاله الحيوي، أي "المنظومة الإشتراكية"، على أيدي مجموعة من الرأسماليين الجدد الذين نشأوا في أحضان البيروقراطية "الإشتراكية" السابقة، وقتصادي والإجتماعي وغياب الحريات الفردية والجماعية.

ماركس ونظام الإختلاف
لا يسقط كريم مروة عن نفسه في معمعان السجالات التي يخوضها هنا وهناك صفة الإشتركية والماركسية بالطبع. لكنه يعترف (وهذه جرأة ماكانت متاحة للشيوعيين في الماضي) بأنه بات يختلف "في أمور جوهرية مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس التي شاخت وصارت جزءاً من الماضي وتغيرت علاقتها بالعصر" (ص54) ومن هذه الأمور الجوهرية مفهوم "الطبقة العاملة" كحاملة لمشروع التغيير. وفي هذا الحقل يقول "إذا كانت تلك التجربة (يقصد التجربة الإشتراكية في أوروبا والإتحاد السوفياتي) قد اعتبرت الطبقة العاملة في مفهومها القديم هي حاملة مشورع التغيير، وأن بعض شرائح المجتمع من الفقراء ملحقة بها، فإن وقائع العصر تشير إلى أن الأمور اختلفت عن السابق، وأن الشرائح المعنية بالتغيير قد كبرت وتنوعت وتعددت" (ص31).
هذا الكلام قاله اليسار الجديد، الأوروبي والأميركي، في ستينات القرن العشرين. حتى روجيه غارودي، الذي كان لا يزال آنذاك منظراً للأحزاب المنضوية في الفكل السوفيات، اتخذ مواقف تعديلية من دور الطبقة العاملة في كتابه المشهور"البديل". وعلى غراره أطلق هيربرت ماكوزه أفكره في "الإنسان ذوالبعد الواحد" و"الماركسية السوفياتية" وغيرهما. إذن، الكلام على تحول دور البروليتاريا كحامل لمشروع التغيير ليس حديثاً. أما كلمة "الفقراء" التي أكثر الشيوعيون من استخدامها في كتاباتهم فهي مجرد كلمة وصفية غير علمية. والفقر عموماً هو البيئة التي تلتقط السلطات منها أزلامها، ولا سيما بين أوباش المدن ورعاع الأرياف اللاهثين وراء لقمة العيش، والمستعدين لبيع قوتهم لمن يدفع ثمن قوتهم. وأمثال هؤلاء هم ميليشات الحرب حيناً، وقبضايات الأحزاب دائماً، وحراس قادة الجماعات الدينية الجديدة أحياناًً، والجمهور الذي يحتشد في كل مناسبة دائماً.
كان الشيوعيون الثوريون معادين لفكرة الدولة إلى حد بعيد. وكان الفكر الماركسي في القرن التاسع عشر يبشر باضمحلال الدولة في مرحلة ما من تاريخ الإنسانية. وفي كتاب لينين "الدولة والثورة" فقرات مطولة في هذا الشأن جعلت الدارسين يرون أن لينين، في الوقف من الدولة، اقترب من باونين وابتعد قليلاً عن ماركس. والدولة في الأدبيات الماركسية هي أداة مرحلية تستخدمها البروليتاريا ضد أعدائها الطبقيين قبل ان تنهي وجود الطبقات، وتحل نفسها كطبقة ليصبح المجتمع كله بلا طبقات وبلا دولة أيضاً.
إنها يوتوبيا جميلة بلا شك. لكن الماركسي كريم مروة يقرر، في خضم نقده الأفكار التي عاشت طويلاً على هذه اليوتوبيا، ما يلي: "أنا الإشتراكي...أدعو اليوم، كمهمة لها الأولوية القصوى، إلى بناء الدولة في بلداننا، وهي الدولة الديمقراطية.. دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات الديمقراطية، دول تتوفر فيها اللإنسان الفرد وللإنسان الجماعة، حقوقوه وحرياته كاملة غير منقوصة" (ص55). وأبعد من ذلك،فإن كريم مروة يدعو إلى إعادة دور الدولة في الإقتصاد على طريقة جون ماينارد كينز أحد كبار منقذي الرأسمالية من عقابيل أزمة 1929-1932، وعدو الشيوعيون على لامستوى النظري. لكن كريم مروة يستأنس في هذا الميدان بماركس لا بكينز، فيعترف بأن للدولة في النظام الرأسمالي "استقلالية نسبة إزاء الطبقات الإجتماعية وإزاء القوى السياسية المعبرة عنها، ولا سيما الطبقة الإجتماعية السائدة التي يعد وجود هذه الدولة تعبيراً عن مصالحها" (39).
إذا كان كبار منظري الثورة في القرن التاسع عشر أمثال ماركس وبلانكي وباكونين لم يحيدوا عن فكرة العنف الثوري، استناداً إلى تجربة الثورة الفرنسية وتجربة كومونة باريس على سبيل المثال، وإذا كانت جميع الثورات اللاحقة في القرن العشري قد اعتمدت العنف وسيلة أساسية للتغيير أو لمواجهة عنف السلطات المستبدة، فإن كريم مروة الذي كان أحد مؤسسي "قوات الأنصار" في سبعينات القرن العشرين لا يتردد في القول: "أنا ضد العنف بالمطلق، وضد العنف الثوري تحديداً... وأنا أيضاً ضد الكفاح المسلح ولكن ليس بالمطلق: ضده كشعار للتغيير، كوسيلة للتغيير، لأن التغيير إنما يتم بشكل تدريجي...أما دكتاتورية البروليتاريا فقد وقفنا ضدها بالمطلق. وقد كانت خطيئة ترتبت عليها جرائم فكرية وسياسية فيما بعد. المركزية الديمقراطية كانت الاخطر في تاريخ الأحزاب (الشيوعية) لأنها الدكتاتورية بعينها (الشرق الأوسط 17/9/2009). ويشدد في كتابه على "أن العنف، بكل أشكاله، لم يعد صالحاً كوسيلة نضالية من أجل التغيير" (ص67)، وأن الوقت قد حان لجميع المجموعات السياسية ذات اليسار وذات اليمين" كي تقر "بأن العنف، مهما كانت الأهداف المبتغاة منه... لا يقود إلا إلى التدمير، تدمير الذات، وتدمير المجتمع، وتدمير الأهداف" (ص72).
المشروع الجديد لليسار أفكار موازية
المشورع الجديد لليسار العربي، كما صاغه كريم مروة في هذا الكتاب، مفصل في عشرين قضية تبدأ ببناء الدولة الديمقراطية العلمانية على أنقاض دولة الإستبداد، ثم تشدد على إعلاء شأن المجتمع المدني كنقيض للمجتمع الأهلي، وعلى حل المسألة الوطنية وتحقيق التقدم الإقتصادي. الأمر الذي يجعل إمكان تحقيق الضمانات الإجتماعية كالصحة والسكن فضلاً عن الإهتمام بالثقافة والمعرفة والبحث العلمي والتراث، متاحاً. ويشدد المشروع كذلك على دور الشباب وحقوق المرأة والنضال ضد التطرف والإستبداد، وحماية البيئة والقضية الفلسطينية والأقليات القومية والإثنية والطائفية، وضرورة التكامل العربي وتمتين العلاقة مع قوى التغيير في العالم العربي كله (ص77-94).
ومن الواضح أن هذا المشروع يدعو إلى الإصلاح أو التغيير المتدرج، لا إلى الثورة: أي الإصلاح الذي يفضي إلى قيام دولة الحق والقانون، وإلى ترسيخ المؤسسات الديمقراطية، والسعي لتحقيق العدالة الإجتماعية. إنه، إذن، مشورع إصلاحي ذو أفق تغييري، أي ثوري في نهاية المطاف، وهو يدمج قيم الديمقراطية بمبادئ اللييبرالية على غرار ما فعلته قوى ثورية كثيرة في القرن التاسع عشر في سياق صعود الفكر الإشتراكي، بينما يجري اليوم دمج قيم الديمقراطية بمبادئ الليبرالية (وليس النيوليبرالية التي تسعى للخلاص من دولة الرعاية) في مجرى العولمة المختلف عليها، وفي مجرى "نشوء حضارة عالمية قيد التكون" (ص 42). ويرى كريم مروة أن "العولمة المعاصرة ظاهرة تاريخية واتجاه تاريخي" (ص29). وعندما يقول ماركسي عن ظاهرة ما إنها "تاريخية"، فهو يعني أنها مشروعة ولا يمكن الوقوف ضدها. وفي هذا الميدان أقول إن هناك فارقاً بين الأممية (أوالعالمية) والعولمة. المسيحية أممية لأنها أرادت تحويل العالم بحسب أفكارها. والإسلام أممي لأنه رغب في تحويل العالم بحسب معتقداته. والماركسية أممية لأنها تطلعت إلى تغيير العالم بحسب نظريتها في التغيير. أما العولمة فلا تريد تحويل العالم ليتلاءم مع أفكارها. فهي لا أفكار لها. لكنها تصنع في كل يوم واقعاً جديداً ومتغيراً وثورياً استناداً إلى الإكتشافات المذهلة والمتسارعة للعلم.
وفي جامب آخر للمسألة، فإن الليبرالية في أوروبا وقبلها الديمقراطية، ظهرتا في سياق نشوء المجتمع الحديث وقيم الحرية الفردية وتقليص دور الدولة. بينما الليبرالية العربي تظهر اليوم في سياق آخر ومختلف: سياق معارضة النظم المولية، وليس في سياق ظهور فسفة ليبرالية وثقافة اجتماعية تتبنى قيم الحرية الفردية، ومن أجل توفر الديمقراطية يجب أن يتوفر مفهو الشعب ومفهوم الدولة معاًز وهذا المفهومان أخلفا وعودهما، إلى حد كبير، في العالم العربي، لأن الأمة في أوروبا تكونت أولاً ثم ظهرت الدولة التعاقدية. أما في السلطة العربية فقد ظهرت الدولة أولاً كدولة ذات عصبية قبلية – دمّية (الدولة الأموية، الدولة العباسية، دولة المماليك، دولة السلاجقة، دولة بني عثمان...) ثم حاولت تأسيس أمة ذات فئات إجاتماعية. لكنها كانت، منذ البداية، دولة طفيلية عاشت على الخراج والجزية والأعشار والرسوم والمصادرة. فهي دولة ريعية تماماً. وحتى اليوم، لا تزال بعض الدول ريعية، ولا يشكل مواطنوها إلا أقلية من السكان تعتاش على أعطيات "الدولة". أي أن "الدولة" تمولهم بدلاً من أن يمولوا هم الدولة كدافعي ضرائب. ودافع الضرائب في الدول الحديثة، كما هو معروف، هو أحد الأسس المهمة التي بني عليها المجتمع المدني.
إن عدم ظهور مجتمع ودولة، بالمعنى الحديث في المنطقة العربية، كان سبباً في استمرار الإستبداد ودول الإستبداد على حالها. هذه الدول الريعية، في بعض وجوهها، ليست إلامزيجاً من الشركة المالية والسلطة القبلية. وأبعد من ذلك، فإن الإصلاح والتحديث اللذين يدعو إليهما برنامج تجديد اليسار، ما عادا من شأن الطبقات الإجتماعية العمالية أو حتى الفقيرة. لأن الطبقات الفقيرة كانت في الأمس غارقة بين سطوة ملاك الأرض وتابعيهم من رجال الدين والجند. وصارت اليوم عالقة بين أجورها القليلة المنخفضة وتقديمات الرعاية الإجتماعية إن وجدت. أما الإصلاحات الطفيفة التي شهدتها الدولة العثمانية، على سبيل المثال، فقد جاءت ثمرة من ثمار الإكراه الخارجي الذي فرضه التوسع الرأسمالي، وليس نتيجة نمو قوى التقدم في داخل المجتمع. فهزيمة الجيش العثماني أمام محمد علي باشا أرغمت السلطان محمود الثاني في سنة 1926 على إلغاء الإنكشارية وتأسيس قوة عسكرية نظامية مسلحة تسليحاً حديثاً، وهزيمة الدولة العثمانية أمام روسيا في سنة 1877 أدت إلى ظهور أفكار الإصلاح ومصلحين من طراز مدحت باشا. تماماً مثلما كان مرض الطاعون عاملاً من عوامل الإصلاح الديني في أوروبا، لأن العقلاء رفضوا نصيحة الكنيسة بمداواته بحليب الحمير. ومن مفارقات عصرنا أن الإصلاح الديني في أوروبا مهد لظهور عصر الأنوار. بينما حركة "الإصلاح الديني" في مصر. كما ظهرت على أيدي جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وغيرهم. ركزت على العودة إلى السلف الصالح. فكان من نتائج ذلك الظهور حركة الإخوان المسلمين. فالنهضويون في أوروبا غلبوا المستقبل على الماضي، بينما مال "الإصلاحيون" في بلادنا العربية إلى تغليب الماضي على الحاضر والمستقبل معاً. وها نحن نحصد الرياح السامة وغبائرها التي تحمل معها في كل يوم الغرهاب والعنف والكراهية والتعصب والطائفية.
نشر في مجلة "دراسات فلسطينية" عدد ربيع 2010

التأرجح بين البراغماتية والطوباوية

أ.بيار أبي صعب
كاتب (لبنان)
"نضال البشريّة من أجل نظام أفضل لحياتها، لن ينقطع رغم الانهيارات التي شهدها القرن العشرين". في كل ما كتبه المفكّر والكاتب اللبناني أخيراً، تطالعنا تلك النظرة "المتفائلة" إلى المستقبل، مرفقة بمراجعة للتجربة السياسيّة التي بنى عليها وعيه وتاريخه ومشروعه. ما زال كريم مروّة يصنّف نفسه على أساس انتمائه التاريخي إلى اليوتوبيا الاشتراكيّة، و"مشروع ماركس لتغيير العالم الذي سقط في منتصف الطريق". ومن هذا المنطلق يقدّم في كتابه "نحو نهضة جديدة لليسار العربي" (الساقي)، مقترحات نقديّة، مدرجة في سياقها التاريخي، كي "يستطيع اليسار في عالمنا العربي أن (...) يستعيد موقعه ودوره المفترضين من حركة التقدّم". ويقدم باقة مختارة من النصوص المرجعيّة لماركس وإنغلز وغرامشي...
الكتاب يستحق نقاشاً معمّقاً في الأسس والتحديدات والتحليلات التي يضعها "الرفيق أبو أحمد" بين يدي ما يسمّيه "اليسار الجديد" المدعو إلى النهوض واستئناف المسيرة. علماً أنه لا يدّعي غوصاً في إشكالات فكريّة أساسيّة، بل يكتفي بإعلان مبادئ، يتأرجح بين البراغماتيّة والطوباويّة: قد يبقى بعض القرّاء على جوعه مثلاً أمام تشخيص ديكتاتوريّة السوق في زمن العولمة ووسائل مقاومتها، أو أمام تناول الحركات الدينيّة وجذورها في حركيّة الواقع، أو لدى تحديد أطر النضال من أجل تحرير الأرض. وقد يجد البعض الآخر نفسه أمام مشروع سوسيو ـــــ ديموقراطي في المصاف الأخير، وإن لم يذهب الكاتب إلى النهاية في تسميته وتحديد معالمه. حتّى إن الجزء الأكبر من برنامجه لليسار الجديد، من السهل أن يتبنّاه أي حزب يميني معتدل. لكن ما هم؟ حين نقرأ جديداً لكريم مروّة، نفكّر أن الدنيا ما زالت بألف خير!
نشر في جريدة "الأخبار" اللبنانية تاريخ

اليسار في كتابي ّ حواتمة ومروة:
التباس في المفهوم وتباين في الوجهة

د. فارس اشتي
أستاذ جامعي (لبنان)
صدر خلال عام مضى كتابان لقائدين شيوعيين:
الأول لنايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين منذ نشأتها في العام 1969 حتى اليوم، "اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير (نقد وتوقعات)"
الثاني لكريم مروة، أحد قادة الحزب الشيوعي البناني وعضو مكتبه السياسي منذ المؤتمر الثاني (1968) حتى مطلع التسعينات، "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"
ويسجل لهذين القائدين إقدامهما على الكتابة، أولاً، وعلى الكتابة في موضوع اثير لديهما وكانا فاعلين في تنظيماته،ثانياً، وعلى الكتابة النقدية التي يستبطنها كل من العنوانين (نهضة ونهوض)، ثالثاً.
وليس غريباً على الاثنين ذلك، وكل منهما أقدم على نقد تجربة سابقة له، إنْ بنقد حواتمة لتجربته في حركة القوميين العرب وتحوله نحو الماركسية أو بنقد مروة لتجربته في الحزب الشيوعي اللبناني ومشاركته في قيادة التحول فيه في المؤتمر الثاني للحزب (1968).
وبرغم ايحاء العنوانين بالوجهة النقدية لليسار، فانهما اختلفا في حدود النقد ووجهته، إذ اكتفى حواتمة بالإشارة الخجولة لازمة اليسار وضرورة مراجعة تجربته وافاض بانتصارات اليسار المتعاظمة في العالم وبصحة سياسات اليسار الثوري الفلسطيني، وبأزمة الامبريالية، بحيث بدت وجهته الإيغال في التمسك بقديمه والسير على خطاه لمواكبة النهوض اليساري في العالم، في حين كان مروة اكثر جراءة في الاقرار بازمة اليسار وبضرورة مراجعة تجربته، أنْ بالإقرار الصريح بذلك او بالدعوة الى عمل جمعي للقيام بذلك اوبالاشارة الى المستجدات في العالم او بالمهام التى طرحها على اليسار اليوم وكانت وجهته في ذلك ربط اليسار بالديمقراطية ونقد تقديس النص والواقعية.
ويطرح الكتابان قضية ملتبسة فيهما هي اليسار،اذ لم يحدد اي منهما معنى اليسار وكأنه بديهية،لا بل يوحيان بان اليسار هو الماركسية، رغم تفلت خجول خلاف ذلك، الأمر الذي يستدعي تحديد معنى اليسار ليناقش الكتابين على ضوئه.
فاليسار مصطلح حديث، عُرف عشية الثورة الفرنسية الكبرى (1789) حين جلس ممثلو طبقة العامة إلى يسار رئيس الجمعية الوطنية وجلس ممثلو طبقة الأشراف إلى يمينه. فأشير إلى ما يمثلون من أفكار جديدة وسياسات تغييرية تبعاً لموقعهم الجغرافي في الجلسة مقارنة بما يمثله الأشراف وموقعهم إلى اليمين، فكان اليسار يساراً، قضية وموقعاً، تبعاً لليمين وكانا ضمن حقل معرفي وسياسي واحد.
وأدرج السياسيون في المجالس النيابية في أوروبا، لاحقاً، واقعة الجمعية الوطنية الفرنسية، لما تمثله ولرمزيتها في التاريخ الأوروبي الحديث، عرفاً حيث شاع جلوس المعارضين للحكومة على يسار الرئيس وجلوس المؤيدين لها على اليمين.
وليس هذا الأصل الجغرافي للمصطلح بعيداً عن الأصل اللغوي الذي عنى، في أحد معانيه، العضو الأضعف في ثنائية التكوين العضوي للجسم البشري واشتق منه معنى الضعة والضعف إلى درجة فُضل معها اليمين على اليسار، أعضاء في الجسم واتجاهاً في السير والحركة، في المأثور العربي الإسلامي، بالرغم من عدم ورود لفظ اليسار واليسرى في القرآن الكريم بالمعنى العضوي ووروده في المعنى الثاني ومقابلة اليمين بالشمال، أعضاءً واتجاهاً.
وشاع استخدام اليسار في كل مؤسسة أو جماعة للدلالة على القائلين بالتغيير أو العاملين له والرافضين للوضع القائم مقابل اليمين للدلالة على المتمسكين بالوضع القائم والرافضين للتغيير؛ ففي حقل الاجتماع السياسي يسار ويمين وفي حقل اليسار نفسه يسار ويمين وفي حقل اليمين نفسه يسار ويمين،فالحزب المعارض للحكومة حزب يساري والمعارضون داخل الحزب المعارض لقيادته يساريون وقيادته يمينية،وكذا في كل جمعية وجماعة ومؤسسة.
وبهذا المعنى اليسار، وكذا اليمين، موجود في كل بنية مجتمعية، تحدد طبيعته وقواه التناقضات فيها ومعياره رفض الأمر الواقع والعمل، قولاً أو فعلاً، لتغييره بافتراض التغيير المنشود هو الاقرب الى التقدم والأكثر عدالة وإنسانية، الأمر الذي يعني تعدد اليسار بتعدد البنى المجتمعية.
وهو، في حقل الاجتماع السياسي الأكمل( الدولة)، المعترضون أو المعارضون للسلطة القائمة في هذا الحقل،سواء أكانت حدود الاعتراض سياسية ام اقتصادية ام ثقافية ام كلها معاً، وقد يتكون من يسار كل بنية مجتمعية في هذا الحقل او من بعض هذه البنى الخارجة، كلياً أو جزئياً، من السلطة الحاكمة او عليها. ومعياره، بهذا التحديد، الموقف من السلطة الحاكمة المراوح بين برنامج تغييري وانتقادات عابرة وجزئية، وقواه متعددة المنابت المجتمعية والبرامج السياسية والرؤى الإيديولوجية، وطبيعته يحددها الوضع العياني للبلد وزمانه.
ويعني هذا، أولاً، أنّ اليسار "يسارات" تبعاً للبلد المعني ودولته ونظامه وللمرحلة الزمنية التي يمر بها وللقوى الفاعلة فيه ْ.
ويعني هذا، ثانياً، أنّ اليسار مرتبط ببنية مجتمعية ارقاها حتى يوم الناس هذا هي الدولة، الأمر الذي يعني عدم الدقة في القول بيسار عربي لعدم وجود انتظام سياسي واحد (دولة )تحكم بلدان العرب، أولاً، ولعدم وجود برنامج يُحكم على أساسه، ثانياً، والأصح القول اليسار في الدول العربية ؛ اذا ما بُني في كل منها يساراً على أساس برنامج يحدد طبيعته.
ويعني هذا، ثالثاً، أنّ اليسار غير الماركسية وغير الشيوعية،بالرغم من الترابط بينهم، إذ كانت الماركسية، كاتجاه، والشيوعية، كأحزاب وبرامج، الأكثر تغييرية بين الاتجاهات والأحزاب الأخرى، فكانت معياراً لليسار في حقل الاجتماع السياسي العام يحكم على يسارية الآخرين بمدى قربهم، فكرياً أو سياسياً، منها، وكذا في كل مؤسسة وجماعة، دون أن يعني ذلك انتفاء اليسار غير الشيوعي ودون أن يعني أيضاً انتفاء قيام يسار على يسار هذه الأحزاب والذي عرف في أمريكا وأوروبا منذ خمسينات القرن الماضي باسم اليسار الجديد المستلهم لأفكار ماركس وماو تسي تونغ وماركوز ثم كاسترو وغيفارا والناقد للأحزاب الشيوعية وأنظمة حكمها في بعض البلدان.
إلا أن هذا الالتباس بين اليسار، فكراً وممارسة، والماركسية، فكراً وممارسة، ومصادرة الثانية للأول لا يعني تطابقهما؛ فاليسار مصطلح يأخذ معناه من اليمين في لحظة معينة وتبعاً لقضية محددة وفي إطار معرفي وسياسي فهو مصطلح فضفاض يأخذ معناه من الوضع وبالقياس على آخر، واليساريون تبعاً لذلك، سمتهم التغيير تبعاً للحقل الموجودين فيه وللإطار العاملين فيه.
أما الماركسية فتأخذ معناها من حقل معرفي آخر، إذ تشكل اتجاهاً علمياً يرى المعرفة العلمية هي معرفة الفئة ذات الموقع الأساسي في الإنتاج والهامشي في العلاقات المجتمعية، وتدعي أن الطبقة العاملة (البروليتاريا) هي هذه الفئة ، بخلاف آخرين من الاتجاه نفسه الذين يرون النساء أو الطلاب أو الهامشيين هي هذه الفئة. والماركسيون، تبعاً لهذا، هم العاملون، فكراً أو ممارسة من خلال هذا الاتجاه بأي منهج فكروا أو بأية مؤسسة عملوا.
والشيوعيون هم العاملون ضمن تنظيمات وعلى ضوء برامج تلحظ الواقع العياني لبلدانهم ومستمدة من الاتجاه الماركسي الذى يُفترض بالقائلين به والعاملين على ضوئه ان يمثلوا مصالح أكثر الفئات جذرية في المجتمع، وهم بهذا أكثر التنظيمات يسارية.
ويمكن القول، بعد هذا التوضيح، أن الكتابين ارتبكا وأربكا قرائهما بعدم تحديد معنى اليسار الذي يكتبون عنه، فاختلط اليسار، بعامة، مع اليسار الماركسي، بخاصة، وتعامل ناقدوهما على ضوء ذلك، الأمر الذي أضعفهما كمشروعين للتغيير: رؤيا النهوض... ونحو نهضة جديدة لليسار.. فلكل من اليسار واليسار الماركسي مقومات مغايرة للأخرى.
وقد يكون الاقرار بضرورة مراجعة التجربة السابقة في الكتابين نقطة انطلاق سليمة، إلا أنها عامة جداً واصبحت مستهلكة لكثرة تكرارها، وما ورد في كل منهما لم يرتقِِ الى المستوى المتوقع من كاتبيهما وما يختزنا من تجربة غنية.
فقول حواتمة باهداف لليسار الديمقراطي وباشادة بانتصارات اليسار في اكثر من بلد في العالم، وبخاصة في أمريكا اللاتينية، وبصمود اليسار الثوري الديمقراطي الفلسطيني، و بضرورة إعادة اليسار بناء حركته الاجتماعية والسياسية ودعوته لتحرير العقل ملامح لمراجعة. الا انها غير كافية لقائد بمستوى حواتمة ولم تصل الى خواتمها ؛ فالاهداف هذه هل هي لليسار، بعامة، أم لليسار الماركسي، بخاصة، وهل هي لليسار العربي (أين العروبة فيها؟) أم لليسار في كل بلد عربي (أين الدولة غير المسلم ببديهية وجودها)؟ وانتصارات اليسار في بلدان في العالم غير عربية، وفي مرحلة ما بعد انهيار المنظومة الشيوعية هل كانت هبة اوقدراً ام ان لها اسبابها فما هي ؟ وماهي التغيرات التي أدت إليها ليصار للأخذ بها، عربيا؟. وصمود اليسارالثوري الفلسطيني هل هو انتصار ام تحصن، وفي الحالين لماذا ؟ ليصار، أيضاً، إلى الاستفادة منه، عربياً. واعادة بناء اليسار لحركته الاجتماعية والسياسية... أين وكيف ومتى ؟
وقول مروة بمرتكزات أساسية لمشروع التغيير باسم اليساروتحديد قضايا ومهمات مباشرة في برنامج التغيير ولوج في المراجعة في أكثر من موقع :
اولها : القول الصريح بها.
ثانيها : عدم الادعاء بامكانيته انجاز هذه التي تتطلب جهوداً جمعية، لافراد وتنظيمات ولاختصاصات متعددة ومتنوعة.
ثالثها: التواضع في القول بان ما قدمه يحتمل الصواب والخطأ، وهي مساهمة على ضوء تجربته الشخصية في تنظيمات اليسار.
رابعها : طرحه مرتكزات وقضايا ومهمات مباشرة لبرنامج تقييري باسم اليسار يقوم على:

1-مرتكزات هي:
إعادة الإعتبار للسياسة، بمضمونها الثقافي والعلمي والإقتصادي والإجتماعي، وباستنادها إلى الأخلاق. وشرط ممارسة هذه السياسة سيادة ثقافة التنوع والتعدد وحق الافراد والجماعات في التعبير عن اختلافاتها.
الاحتكام لقوانين انتظام اجتماعي تصوغها الدولة وتضمن العدالة والمساوة بين المواطنيين وشرطها الديمقراطية للجميع وشرط مؤسسات الدولة النزاهة والموضوعية التي لا تتوفر من تلقاء نفسها،بل تحتاج إلى النضال المتواصل.
الالتزام بالعمل السياسي السلمي واحترام المرحلية في النضال والتحرر من الشعبوية والفوضوية والعدمية.
الاخذ بالإعتبار تغير المفاهيم في الفكر السياسي والإجتماعي بتغير الازمنة وضرورة معرفتها بدقة من القائلين بالتغيير.
2- مهام هي: (بناء الدولة الديمقراطية الحديثة، تجديد مؤسسات المجتمع المدني والإرتقاء بصيغها، الاستقلال والسيادة الوطنيين، تحقيق شروط التقدم الاقتصادي، سياسة جديدة لاستثمار الموارد الطبيعية، تحقيق تنمية اجتماعية، توفير الضمانات الاجتماعية،الاهتمام ب:الثقافة والمعرفة،البحث العلمي،الشباب، المرأة، البيئة،ثم النضال ضد التطرف وأنظمة الاستبداد، دعم القضية الفلسطينية، ايلاء مسألة الأقليات الاهتمام،توطيد علاقات التكامل العربي، الموقف الحاسم ضد السياسات الأمريكية وضد الأصولية السلفية،التعاون بين قوى التغيير على مختلف مكوناتها.)
ومع اهمية المرتكزات والمهام التي طرحهما مروة، يمكن أن تثار حولها الملاحظات الآتية :
1 - هل هي، المنطلقات والمهام، لليسار، بعامة، أو لليسار الماركسي، بخاصة. فاذاكانت لليسار فقواه في كل بلد تحدد مهامه،بعد الدراسة الدقيقة لوضعها، وإذا كانت لليسار الماركسي فيفترض أن يسبقها مهام أخرى.
2- إن تحديد منطلقات ومهام لليسار الماركسي يفترض مراجعة لتجربة هذا اليسار ليبنى عليها برامج جديدة، ولا يكفي ما تستبطنه هذه المنطلقات والمهام من مراجعة.
3- إن المنطلقات المطروحة هي بحكم البديهيات،وان لم تكن كذلك في التجربة العربية، وهي منطلقات تصلح ان تكون لكل القوى السياسية.
4- إن المهام المطروحة لا تصلح أن تكون مهام في برنامج لما يفترضه البرنامج من مهام محددة يمكن للقوة أو القوى التي تطرحه أن تنجزه خلال فترة محددة، تبعاً لبلدها ولوضعها، وأن كانت تصلح كتوجهات عامة لبرامج.
6/انّ هذه المهام يمكن ان تختصربعنوان وحيد هو بناء الدولة المدنية التي هي، في وجه من وجوهها،مواجهة للقوى الرأسمالية العالمية التي تعمل لفرط مابُني من مؤسسات تحدّ من توسع سوقها وتعيد احياء العصبيات الأولية وبناء كيانات لها، وهي، في وجه آخر، الإطار الذي يضمن يوفر الشروط للنضال من اجل تحقيق الديمقراطية وحقوق الاقليات والمرأة والشباب وغيرها من المهام، وهي، في وجه ثالث،القاعدة الاساسية لبناء التكامل العربي ودعم قضية فلسطين.
انّ هذه القراءة النقدية للكتابين لاتلغي الاشادة بالجهد المبذول فيهما والتوجه النقدي لتجربة واضعيهما،على ما بينها من تفاوت، والأمل بيسار جديد ومتجدد، وبحذو قادة آخريين للكاتبين بنقد تجربتهم، وكذا الاحزاب والقوى المدعية الانتماء الى اليسار.
نشر هذا المقال بجريدة النهار 3ديسمبر 2010

نقاش متعدد الجوانب مع أفكار كريم مروة
حول اليسار

د. كاظم حبيب
باحث إقتصادي (العراق)
منذ أن تعرفت على كريم مروة في منتصف الستينيات من القرن الماضي في بيروت وأنا في طريقي إلى بغداد بصورة سرية, ومنذ أن بدأ حوارنا بشكوك مشروعة حينذاك حول مدى صواب ما طرحه الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي وتبنته الحركة الشيوعية العالمية عن إمكانية ولوج طريق التطور اللارأسمالي وتجاوز مرحلة الرأسمالية صوب الاشتراكية أو ما سمي بطريق التوجه الاشتراكي ونظريات الانتقال إلى الاشتراكي في البلدان النامية, ومنها البلدان العربية وحين تمادى البعض, (فالتر أولبريشت), وأطلق على مصر بأنها تسير في الاتجاه الاشتراكي, منذ ذلك التاريخ بدأت متابعتي لنشاط الحزب الشيوعي اللبناني ولكتابات ومواقف كريم مروة. كنا جميعاً من مدرسة واحدة هي المدرسة الماركسية–اللينينية. وكنا نشترك بذات الأحلام، والكثير منها كان أوهاماً يجمعها نوايا حسنة. كان ينقصنا إدراك لمخاطر تلك الأخطاء. ومع ذلك فقد كانت تلك الفترة مليئة بالحركة الدائبة وبالتضحيات الجسام والبطولات النادرة التي اجترحها الشيوعيون والتقدميون والديمقراطيون في البلدان العربية, رغم الحصيلة الضعيفة لذلك النضال التي اقترنت بانتكاسات سياسية واجتماعية كبيرة على صعيد الحركة الشيوعية العالمية والمنظومة الاشتراكية، طاولت عموم منطقة الشرق الأوسط, ومنها البلدان العربية.
ومنذ ما يقرب من عقدين, وقبل وقوع الزلزال الكبير الذي هزَّ العالم المتمثل بسقوط الاتحاد السوفييتي وبقية الدول الإشتراكية. وهو زلزال شببيه، في شروط تاريخية مختلفة، بالزلزال الذي هز العالم لدى قيام الدولة السوفييتية في أعقاب انتصار ثورة أوكتوبر في عام 1917, منذ ذلك التاريخ الجديد المشار إليه بدأ التفكير لدى مجموعة من مناضلي الحركة الشيوعية والحركة اليسارية في البلدان العربية بضرورة التمعن في ماضي الحركة الشيوعية وأحزابها السياسية وماضي حركة اليسار وحاضرها وآفاق المستقبل, ومتابعة جادة للتحولات الكبيرة الجارية في العالم والتغيرات الحاصلة في منطقة الشرق الأوسط واستيعاب الواقع المتحرك والمتغير سلباً أو إيجاباً في البلدان العربية.
لا شك في أن حركة البريسترويكا في الإتحاد السوفييتي منذ العام 1984/1985 قد حركت المياه الراكدة في أوساط وأحزاب الحركة الشيوعية العالمية، ودلت على عمق الأزمة التي يعاني منها الفكر الماركسي-اللينيني وتعاني منهاحركة اليسار على الصعيد العالمي. وهي الأزمة التي دفعت برفاق في الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية إلى التفكير بعقلية نقدية لماضي ولحاضر الحركة الشيوعية والعمالية ولسياسات أحزابها ولممارساتهم الفعلية, ومنها الحزب الشيوعي اللبناني- وإلى التطلع في مشروع جديد نحو المستقبل. في هذه الفترة بالذات كنا في الحزب الشيوعي العراقي نتابع أوضاع الحزب اللبناني والصراعات الفكرية والسياسية التي كانت تجري داخله، والمواقف المتباينة إزاء الكثير من الأحداث، وبروز تيار تجديدي فيه يحمل رؤية جديدة ويطرح أفكاراً جديدة للمشكلات التي تعاني منها البلدان العربية. ولم تكن كل تلك الرؤى والأفكار موضع ارتياح أو تقبل من جانب العديد من الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية, ومنها الحزب الشيوعي العراقي. ولم يكن ذلك الجديد في الفكر وفي السياسة كله على صواب, إذ لم يكن قد بني على أسس وقواعد متينة وواضحة حينذاك.
كان كريم مروة أحد أبرز وأنشط من اجتهد لتكوين رؤية جديدة ونقد للكثير من مواقع الفكر القديم الذي كان راسخاً في أذهان غالبية الرفاق في الحركة الشيوعية في لبنان وفي سائر البلدان العربية. وكان يستند في عرض أفكاره تلك إلى معرفة نظرية جيدة وإلى استيعاب لمكونات المنهج المادي الجدلي وسبل استخدامه، وإلى قراءة مدققة للواقع المتحرك وتجربة غنية ومتراكمة عبر عقود من العمل الفكري والسياسي ومن العلاقات الواسعة مع قوى حركة اليسار على الصعيدين العربي والعالمي.
ومنذ ما يقرب من 15 سنة, وأنا أتابع كتابات الأستاذ كريم مروة ومواقفه الجديدة من الحزب الشيوعي اللبناني وفي الحركة الشيوعية في البلدان العربية ومن محاولاته في بث روح التجديد في الحركة اليسارية في بلداننا, كما كنت أتابع الرفض والمقاومة الشديدة التي كان يواجهها من قوى متنفذة في الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية من جهة, والرضا والقبول من جانب قوى يسارية تتطلع للجديد وللتجديد من جهة أخرى.
علينا باستمرار أن نتذكر بأننا كنا, كشيوعيين, نعمل في حركة شديدة التماسك والإنغلاق الإيديولوجي على الذات والإنضباط الحديدي الذي لم يفسح في المجال للفكر من الإنطلاق بحرية ومبادرة حيوية. كانت المدرسة قد التزمت بالنظرية الماركسية–اللينينية التي تحولت بمرور الزمن إلى أشبه ما يكون بـ"دين" وإلى قيد شديد على فكر وحركة وحرية الإنسان الشيوعي وقدرته على ممارسة الإستقلال الفكري. كما كانت التربية وحيدة الجانب ومتعالية على المدارس الفكرية الأخرى. بعكس ما كان يفترض أن تكون عليه. ولهذا كنا, نحن أعضاء هذه المدرسة الفكرية, شديدي القناعة بنظريتنا دون أن يكون لدينا أدنى شك وقلق حول تحليلاتنا واستنتاجاتنا، بعكس ما كان يتطلبه الموقف العلمي الرصين من الغوص في أعماق الأحداث وتحليلها بعناية واستخلاص المقولات. كنا نستهلك ما ينتجه السوفييت من مقولات واجتهادات, دون أن نمتلك الحق عملياً في المبادرة الفكرية وطرح ما نفكر به. ومن هنا نشأ الجمود في حركتنا. وبدأت مظاهر الأزمة الفكرية والسياسية في الحركة الشيوعية وفي حركة اليسار على الصعيد العالمي منذ زمن بعيد. ثم تراكمت وتشابكت وتفجرت تلك الأزمة في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وأحدثت ذلك الزلزال, الذي لا تزال مفاعيله تبرز بصيغ مختلفة.
لا شك في أن الحركة الشيوعية في البلدان العربية قد لعبت دوراً متميزاً وملموساً في النضال ضد الإمبريالية وضد السيطرة الأجنبية ومن أجل تعزيز الإستقلال والسيادة الوطنية وتنشيط عملية التنوير الديني والإجتماعي والدفاع عن مصالح الكادحين والمحرومين. وقدمت في نضالها الكثير من التضحيات الجسام قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. لكنها كانت في الوقت نفسه قد ارتكبت الكثير من الأخطاء التي خلفت عواقب غير قليلة على الصعيدين الفكري والسياسي وعلى صعيد الممارسة العملية. ويبدو لي إن واحدة من أبرز تلك الأخطاء الفكرية والسياسية للمدرسة الماركسية–اللينينية, التي كنا جزءاً منها, هي القناعة الإيمانية غير المبررة بأننا كنا دوماً على حق وأن الحقيقة كانت إلى جانبنا وأن الصواب كان يقترن بتحليلاتنا وتقديراتنا للواقع وللمهمات التي كانت تواجه شعوبنا. واستندنا في تلك القناعة إلى إننا كنا نستخدم المنهج المادي الجدلي بشكل صحيح, ولم يكن الأمر هكذا دائماً. بل كنا في تلك القناعة على خطأ كبير. لقد كانت رغباتنا وطموحاتنا تسبق تحليلاتنا. وكانت هي الموجهة الفعلية لتلك التحليلات وليس الواقع القائم باعتباره أساس وقاعدة التحليل الفعلية. أورد مثالاً واحداً على ذلك. لقد توصلت الحركة الشيوعية في وقت مبكر إلى القناعة بأن الرأسمالية كانت تقترب من نهايتها, إنها كانت في المرحلة الثالثة من أزمتها العامة, وأنها كانت على قاب قوسين أو أدنى من مرحلة لفظ أنفاسها ممهدة بذلك لمرحلة جديدة في حياة البشرية, مرحلة الإشتراكية الخالية من الإستغلال والحرمان والعبودية لرأس المال. وقد بلغ الأمر بسكرتير عام الحزب الشيوعي السوفييتي, نيكيتا خروشوف, أن طرح مقولة وهمية خادعة مفادها "أن أفق بناء الشيوعية في الإتحاد السوفييتي لم يعد بعيداً، بل هو أصبح قريباً جداً!, في وقت كانت الأزمة السياسية والإقتصادية والإجتماعية قد بدأت منذ سنوات العقد السابع من القرن العشرين تشدد من خناقها على رقاب شعوب الإتحاد السوفييتي وتلقي بظلالها على الحياة اليومية للإنسان السوفييتي. لقد تم إنكار واقع وجود تناقضات وصراعات اجتماعية وسياسية في المجتمع السوفييتي, باعتبار أن الإشتراكية لا تعرف التناقضات, وبالتالي لم يتحركوا باتجاه حلها, مما زاد من فعلها وعمق من تلك التناقضات وشدد من الصراعات وكاد يحولها إلى نزاعات. وسرنا مع الإتحاد السوفييتي في ذلك التصور الحالم. وكنا واهمين وارتكبنا بذلك, كحركة وكأحزاب وكأفراد, سلسلة من الأخطاء الفادحة كان يفترض فيها, ومنذ فترة غير قصيرة, أن تدفعنا إلى إعادة النظر بحركة اليسار عموماً, وبالأحزاب الشيوعية منها بشكل خاص، من أجل استخلاص الدروس والعبر من الماضي واستيعاب حركة الحاضر واستشراف المستقبل. ولا بد لنا أن نعترف هنا مرة أخرى بأننا كنا مستهلكين للتنظير السوفييتي الذي كان في الغالب الأعم إرادي النزعة وسطحي التحليل في التعامل مع المادية التاريخية. ولم نكن مبادرين وفعالين في التحليل المطلوب لأوضاعنا المحلية وللأوضاع على الصعيدين الإقليمي والدولي, مما أوقعنا في أخطاء ومطبَّات كثيرة وكبيرة.
والآن وللأسف الشديد نلاحظ حراكاً ضعيفاً في صفوف الشيوعيين باتجاه إعادة النظر الجادة بالماضي وبسياسات الأحزاب الشيوعية, مما ساهم بتقسيم حركة اليسار إلى جزء قديم وآخر يطمح للتجديد. وإذ يتمثل القديم بتلك الأحزاب التي تعيش بين مدينتي "نعم ولا" وفق تعبير جميل للشاعر الروسي يفجيني افتوشنكو, أي بين الخشية من التغيير والتعثر في ما جرى تحديده, وهو قليل, وبين عدم القدرة على متابعة التغيرات الكبيرة الجارية في عالمنا الراهن, والعجز بالتالي عن فهم ضرورات إجراء التغيير والتجديد الفكري والسياسي والتنظيمي والتجديد في العلاقة مع فئات وقوى المجتمع داخل حركة اليسار في البلدان العربية. أما الجديد في اليسار فلا يزال في بداياته. فهناك تيار التجديد الذي يتمثل بإفراد وجماعات صغيرة أخذت على عاتقها طرح رؤيتها الجديدة حول الأفكار والإحداث والسياسات السابقة, قدمت تحليلاتها للواقع الجاري ومهمات المرحلة الراهنة والسعي لاستشراف المستقبل. ولا شك في أن كل ما هو جديد لا يصطدم بالقديم فحسب, بل ويُحارب بقوة من جانب حاملي المشروع القديم. إذ يتهم أصحاب المشروع الجديد باليمينية وبالمساومة مع الإمبريالية والبرجوازية وما إلى ذلك. ومثل هذا التوجه يلحق الضرر البالغ عملية التجديد المنشودة في حركة اليسار ويعطلها, ولكن الجديد سيفرض في المحصلة النهائية نفسه عاجلاً أم آجلاً.
نحن اليوم أمام محاولات واجتهادات جادة لتجديد فكر ومشروع اليسار في البلدان العربية. ونجد لذلك نواتات في الكثير من البلدان العربية, ومنها لبنان والعراق على سبيل المثال لا الحصر. ويحتل كريم مروة مكانة مرموقة ومتميزة بين دعاة التجديد في فكر ومشروع اليسار الديمقراطي في لبنان والبلدان العربية. ويتجلى ذلك في النشاط الدءوب, وهو ابن الثمانين عاماً, في مجموعة الكتب والمقالات واللقاءات الغنية التي نشرت التي يتحرى فيها الكاتب بجهد مثابر ومسؤولية عالية عن سبل تجديد حركة ومشروع اليسار. ومن بين ابرز ما كتبه إلى الآن يتصدر كتابه الأخير "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". وهو كتاب يستحق القراءة والمناقشة بجدارة.(دار الساقي, بيروت, 2010)
إن الإنطلاق بحركة اليسار نحو آفاق جديدة وتجديد فعلي لفكرها ومشروعها السياسي يتطلب الإلتزام بالقواعد التالية:1- ضرورة الإستخدام السليم والعلمي للمنهج المادي الجدلي في البحث والتحليل والتدقيق في الظروف الملموسة لواقع هذا البلد أو ذاك؛ 2- الإنطلاق من واقع الحياة اليومية للناس ومن المتغيرات الجارية على الإقتصاد والمجتمع وعلى فكر ووعي الفرد والمجتمع أولاً, وكذلك التغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي ثانياً, من أجل تحديد المهمات والأهداف المرحلية والإبتعاد عن محاولة القفز فوق المراحل أو حرقها؛ 3- تأمين الربط العضوي بين عملية التغيير في البنية الإقتصادية والإجتماعية في هذا البلد أو ذاك, وبين تطور وعي الفرد والمجتمع وسعيهما المشترك لصالح حرية الإنسان وحقوقه المشروعة وسعادته والعدالة الإجتماعية, واستخلاص مدى الإستعداد الفعلي للمشاركة في عملية التغيير. 4- تشخيص دقيق وسليم للقوى الإجتماعية التي يهمها إنجاز مهمات المرحلة التي يفترض أن تتبلور في مجالين أساسيين: أ- مجال تحديد المهمات في إطار برنامج تستوجبه طبيعة المرحلة؛ ب- أن تكون المهمات المطلوب تحقيقها متطابقة مع القوى الإجتماعية والسياسية المعنية بالنضال لتحقيق المشروع الوطني والديمقراطي.
في هذا الإتجاه يحدد كريم مروة بعض المرتكزات العامة التي يفترض أن تسود في العلاقات السياسية, بعد أن غابت عنها طويلاً، مثل الأخلاق والصدق والشفافية واحترام الرأي والرأي الآخر ورفض العنف وسياسة القوة، والتحول صوب التنافس الديمقراطي في تحقيق المهمات، والتداول الديمقراطي السلمي والبرلماني للسلطة، وفصل الدين عن الدولة، وحرية وحقوق الإنسان وحرية المرأة...الخ, ثم يخلص إلى تأكيد مرتكزين أساسيين. في المرتكز الأول يؤكد مروة أن المفاهيم العامة في الفكر السياسي والإجتماعي, وفي الفكر عموماً, هي مفاهيم متغيرة, أي غير ثابتة عنده (ص 74). في حين يتلخص المرتكز الثاني في كون ".. بلداننا هي جزء من عالم يتغير وتجري فيه تحولات كبيرة, وأن علينا أن نكون جزءاً من هذه التحولات, في الإتجاه الصحيح فيها, ضد الإتجاهات النقيضة لمصالح بلداننا ولمصالح البشرية عموماً." (ص 74/75). وهما مرتكزان يفترض ألا يغيبا عن ذهن من يعكف على دراسة الأوضاع السائدة في بلداننا وفي العالم المعاصر.
إن الإستناد إلى المنهج المادي الجدلي في دراسة أحداث السنوات المنصرمة تجعلنا وجهاً لوجه أمام جملة من المسائل المهمة التي يمكن تلخيص أبرزها فيما يلي: 1. القفزة الهائلة في مستوى تطور القوى المنتجة المادية والبشرية على الصعيد العالمي. وهي نتاج الثورة العلمية-التقنية, ثورة الإنفوميديا, التي ساهمت في نقل الرأسمالية إلى مرحلة جديدة في تطورها, هي مرحلة العولمة في جميع مجالات الحياة باعتبارها عملية موضوعية لا مرَّد لها, حولت العالم إلى قرية كونية متلاصقة في دورها ودروبها. وقد أسهمت هذه الثورة في توفير إمكانية أفضل للرأسمالية على الصعيد العالمي في معالجة مشكلاتها وأزماتها الإقتصادية بمستويات جديدة ترمي بثقل عواقبها على الفئات الأكثر ضعفاً عند شعوب الدول الرأسمالية المتقدمة وعند شعوب البلدان النامية على نحو خاص. وهو ما تشير إليه وتؤكده الأزمة المالية والإقتصادية الجديدة الجارية، التي تفجرت في نهاية العام 2009، وتفاقمت في بداية 2010 ولم تصل إلى نهايتها حتى الآن. لكنها توفر، في الوقت نفسه، توفر إمكانية جديدة لدفع عملية التطور في البلدان النامية إن أحسن تجاوز السلبيات التي تنشا عن السياسات العولمية التي تمارسها الدول الرأسمالية المتقدمة إزاء البلدان النامية. 2- إن الإنهيار الكبير للاتحاد السوفييتي وبقية بلدان مجلس التعاضد الإقتصادي قد نشأ بفعل عوامل داخلية وتراكمات كثيرة ارتبطت بالواقع الذي انطلقت منه تلك البلدان ومن التراكم الذي كان يتم على ذلك الأساس الهش من البناء, إذ لم تتوفر لروسيا القيصرية في حينها القاعدة المادية ولا الوعي الفردي والإجتماعي الكافيين والضروريين للتوجه صوب بناء الإشتراكية. وهو ما حصل بالفعل في البلدان الأخرى التي لحقت بالاتحاد السوفييتي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتبنت نموذجه للإشتراكية. وعليه فأن العوامل الخارجية لم تلعب سوى الدور المساعد لتعجيل الإنهيار. 3 - الإنتكاسات المتلاحقة لحركة التحرر الوطني العربية التي اقترنت بعدد كبير من العوامل, بما في ذلك مشروع الأحزاب الشيوعية وحركة اليسار عموماً, إضافة إلى الحركات القومية والدينية المتشددة, التي يعود بعض أسبابها لطبيعة المهمات التي رفعتها تلك الحركات التي لم تكن متناغمة مع طبيعة المرحلة ومع مهماتها ولا مع أساليب وأدوات النضال. 4- تبلور قراءة جديدة أكثر واقعية وفهماً وأكثر تدقيقاً في مسألتين مهمتين, هما: سبل التعامل مع الفكر الماركسي ومنهجه المادي الجدلي من جهة, والإستناد إلى الواقع الذي تعيش فيه شعوب البلدان النامية, ومنها البلدان العربية, عند استخدام هذا المنهج المادي الجدلي لإعادة النظر في الماضي وفهم الحاضر واستشراف المستقبل من جهة أخرى.
نحن إذن أمام قوى لا تزال تحمل القديم وتتشبث به وترفض التنازل عنه ولا تريد أن ترى الجديد أو هي عاجزة عن رؤيته لأي سبب كان, وأخرى قرأت الجديد واستوعبت ضرورة وعي القوانين الموضوعية المحركة لعمليات التحول الإقتصادي والإجتماعي في هذا البلد أو ذاك، التي على ضوئها يمكن رسم المهمات التي يفترض النضال من أجلها في المرحلة الجارية.
في هذا الإطار يضعنا كريم مروة أمام مجموعة من القضايا الجوهرية التي ربما ليس عليها خلاف كبير في الظاهر, ولكن الإختلاف حولها يبدأ في الممارسة العملية.
إن الدراسة التي يقدمها لنا كريم مروة غنية ومتعددة الجوانب سأحاول أن التقط منها بعض النقاط المهمة لإبداء الرأي بشأنها: 1- طبيعة المرحلة والموقف من بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. ذلك السؤال الذي يواجهنا في المرحلة الراهنة هو تحديد المهمة المركزية في النضال الذي تخوضه شعوب الشرق الأوسط بشكل عام وشعوب البلدان العربية على نحو خاص؟ هنا أجد نفسي متفقاً مع الكاتب حين يؤكد أن المهمة التي تواجه شعوبنا ليست تحقيق الإشتراكية, بل هي مهمات وطنية وديمقراطية, تقع في إطار مرحلة انتقالية تتطلب إقامة العلاقات الإنتاجية الرأسمالية في اقتصاديات ومجتمعات البلدان العربية, رغم الإختلاف في مستويات تطورها. إننا إذن أمام مهمات التخلص من بقايا العلاقات ما قبل الرأسمالية وبناء الرأسمالية التي يفترض أن تكون غير منفلتة لكي تشكل القاعدة المادية لتطور جديد مناسب للقوى المنتجة المادية والبشرية, إضافة إلى ربط ذلك بمستوى تطور وعي الإنسان الفردي والجمعي المجتمعي.
فشعوب البلدان العربية لا تزال تعيش في ظل علاقات إنتاجية واجتماعية متنوعة تتراوح بين البداوة والفلاحة, علاقات أبوية وعلاقات إنتاج شبه إقطاعية متخلفة وعلاقات عشائرية, وبين مجتمعات نمت لتوها علاقات إنتاج رأسمالية حديثة التكوين وفي مجالا ت التجارة والعقار, وأخرى نمت فيها علاقات الإنتاج الرأسمالية نسبياً, كما في كل من مصر وسوريا والمغرب والعراق, وأخرى قائمة على الإقتصاد الريعي النفطي. وفي جميع هذه البلدان يلاحظ وجود نظم سياسية غير ديمقراطية واستبدادية وغياب الحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الإجتماعية واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. كما تلعب المؤسسات الدينية دورها البارز في التأثير على فكر الإنسان وعلى الكثير من سلوكياته وتصرفاته إزاء نفسه وإزاء الآخر.
نستخلص مما تقدم استنتاجاً جوهرياً يؤكد بان مهمة شعوب هذه البلدان, مهمة أحزابها اليسارية على وجه الخصوص، لا تكمن في رفع شعارات اشتراكية تتجاوز حدود المرحلة الديمقراطية, بل يفترض لهذه الشعارات أن تتطابق مع طبيعة المرحلة ومهماتها الأساسية, التي بلورها كريم مروة في المشروع الذي طرحه كبرنامج مرحلي لليسار العربي, رغم التباين الذي يمكن أن يحصل حين يجري الحديث عن كل بلد بشكل ملموس.

إن هذا الإقرار يقود إلى الرؤية التالية:
1- إن المرحلة الراهنة ليست مرحلة انتقالية من الرأسمالية إلى الإشتراكية أو تجاوز المرحلة الرأسمالية, بل هي بالتحديد مرحلة انتقال من علاقات ما قبل الرأسمالية، وهي علاقات متشابكة, علاقات رأسمالية حديثة التكوين وضعيفة، الإنتقال إلى علاقات إنتاجية رأسمالية متقدمة. 2- هذه الرؤية الواقعية لا تعني بأي حال إيقاف النضال من أجل مواجهة محاولات تشديد استغلال العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين والمثقفين في هذه البلدان, بل يفترض أن يتواصل النضال من أجل الحد من هذا الإستغلال بقوانين اقتصادية واجتماعية ملزمة.
إن هذا الواقع يطرح علينا سؤالاً مشروعاً: إذا كانت المهمة الراهنة ليست اشتراكية ولا شيوعية, وإذا كانت ذات طابع وطني وديمقراطي, تقود إلى إرساء قواعد ومبادئ الحرية الفردية وحرية المجتمع وسيادة الديمقراطية ودولة القانون والحق والمؤسسات الدستورية.. الخ, فأن هذا يفترض أن يتجلى في ثلاث مسائل جوهرية بعيداً عن الهروب إلى أمام:أ- إن على البرامج الجديدة التي يفترض أن تطرحها قوى اليسار للنضال مع قوى الشعب من أجل تحقيقها مرحلياً التي يفترض أن تتناغم مع فهم الواقع واستيعاب مهمات وأساليب وأدوات تغييره. ب- إن اسم هذا الحزب اليساري أو ذاك ينبغي أن ينسجم مع طبيعة المهمات المرحلية. جـ- إن تحديد الأدوات والأساليب السلمية والديمقراطية التي تختارها قوى اليسار للنضال من أجل تحقيق تلك الأهداف, ينبغي أن تكون بعيدة عن العنف والقوة والسلاح وعن الإنقلابات.
إن هذا التوجه يحصن قوى اليسار من الهروب إلى أمام, كما حصل في بداية ثورة أكتوبر 1917. ففي الوقت الذي استنتج فيه لينين في كتاب "الدولة والثورة" في العام 1916 بأن روسيا غير جاهزة للبناء الإشتراكي بأي حال, فإنه سرعان ما قرر بعد الثورة مباشرة السير بالبلاد تحو بناء الإشتراكية! ثم عاد عن ذلك في العام 1921 في "برنامج السياسة الإقتصادية الجديدة (النيب) انطلاقاً من قناعته بعدم واقعية ذلك البرنامج. وكان ستالين منذ العام 1922 تقريباً قد هيمن على قيادة وسياسة الحزب والدولة ودفع بهما صوب تنفيذ النهج المتطرف الأول في بناء الدولة السوفييتية الجديدة بعد أن فرض العزلة الفعلية على لينين المريض حتى مماته. وقد انتهت هذه الدولة في العام 1989/1990 إلى النهاية المأساوية المعروفة لنا جميعاً. وعلينا أن نتذكر البرامج الطموحة التي طرحتها الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية خلال العقود المنصرمة التي عجزت عن تحقيق الكثير والأساسي منها, وساهمت عملياً, في خلق أجواء الإحباط السائدة في الوقت الراهن، بسبب انهيار التجربة الإشتراكية. وكانت الأحزاب الشيوعية في البلدان العربية تنطلق في وضع برامجها السياسية والإقتصادية والإجتماعية من المقولة التي سادت حينذاك بأن العالم يعيش مرحلة الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية, وكان الصراع بين الإشتراكية والرأسمالية هو المؤثر المباشر على تفكيرنا وتحليلنا, في حين أن الرأسمالية كانت ولا تزال تمتلك مقومات البقاء متجاوزة أزماتها الدولية. إذ هي كانت ولا تزال ضرورة موضوعية لاقتصاديات مجتمعاتنا. ولهذا يمكن القول بوضوح إن برامجنا في العديد من القضايا الجوهرية والأساسية لم تكن متطابقة مع واقع بلداننا حينذاك ومع الواقع القائم في العالم.
ومن هنا جاء مشروع البرنامج الذي طرحه كريم مروة في كتابه " نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" مطابقاً بخطوطه العامة والأساسية, كما أرى, لمهمات المرحلة والواقع الراهن في البلدان العربية, مع ضرورة جعل فقراته أكثر ملموسية بالارتباط مع واقع كل بلد. لقد هربنا إلى أمام في برامجنا السابقة ولا بد من العودة إلى أرض الواقع بعيداً عن الأوهام, ولا بد أن تكون لقوى اليسار أن تبني أحلامها التي تعطي لنضال الإنسان حيويته والمجتمع وتشبع طموحاته المشروعة, أحلام العيش في أجواء الحرية والديمقراطية والمواطنة المتساوية والعدالة الإجتماعية والسلام.
ماذا يقدم لنا كريم مروة في مشروع برنامجه الجديد؟
ابتداءً يمارس كريم مروة, وقبل تقديمه مشروعه, نقداً موضوعياً وواعياً لتجربة الحركة الشيوعية في العالم العربي خلال العقود المنصرمة، التي جاءت في أعقاب الحرب العالمية الثانية, وبشكل أكثر ملموسية منذ العقد السابع من القرن الماضي. إذ بدون مثل هذه الرؤية النقدية للتجربة المنصرمة بما لها وما عليها لا يمكن التقدم خطوات ثابتة وقوية نحو الأمام لتحقيق نهضة جديدة في حركة اليسار. فمن يعجز عن القيام بدراسة نقدية لماضي الحركة وحاضرها بجرأة ومسؤولية واستخلاص دروسها, يصعب عليه تحقيق التجديد ووعي مهمات الحاضر والدفع السليم باتجاه مستقبل أفضل. ومن الجدير بالإشارة إلى أن كريم مروة لا ينسى بأنه كان من المشاركين الفعالين في وضع تلك البرامج القديمة ومن مواقع القيادة أيضاً, وبالتالي فهو ينتقد نفسه من موقع المسؤولية في قيادة الحزب الشيوعي اللبناني حينذاك. ويؤشر ذلك إلى مصداقية النقد الذي يمارسه.
بعد ذلك يقدم لنا كريم مروة مشروع برنامج نضالي ديمقراطي متوازن يتضمن عشرين بنداً يعالج فيها قضايا النضال في ظروف المرحلة الراهنة التي تستهدف بناء الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يتمتع فيها الفرد بحقوق الإنسان والمواطنة الحرة والمتساوية, سواء أكان رجلاً أم امرأة, دولة حق وقانون ديمقراطي, دولة مؤسسات ديمقراطية, دولة ينمو في إطارها المجتمع المدني الديمقراطي الحديث، وليس المجتمع الأهلي القديم. دولة مدنية تفصل بشكل واضح بين الدين والدولة وتحترم جميع الأديان والمذاهب. ويطرح مروة في هذا الجزء من الكتاب بقية بنود البرنامج الذي يقترحه بجوانبه الإقتصادية والإجتماعية والثقافية والبيئية, من دون أن يغفل الموارد الطبيعية وسبل استثمارها. كما يعطي مكاناً خاصاً للضمانات الإجتماعية، ويدعو إلى احترام حقوق الأقليات القومية في البلدان العربية، ويشدد على ضرورة النضال لتحرير بلداننا من أنظمة الإستبداد ومن المظالم التي تفرضها على شعوب البلدان التي تسود فيها هذه الأنظمة.
ولم ينس مروة القضية الفلسطينية, إذ أفرد لها فقرة خاصة باعتبارها واحدة من ابرز القضايا التي تشكل مصدر القلق والتوتر والحروب في منطقة الشرق الأوسط. ومن حقه أن يحمل أربعة أطراف مسؤولية الوضع في فلسطين, وهي إسرائيل وسياسات الإحتلال والقمع والغطرسة التي تمارسها بإصرار وعناد, وعجز الدول الكبرى والمجتمع الدولي عن المساهمة في حل هذه المعضلة, وكذلك الحالة المزرية السائدة في معسكر القوى الفلسطينية والبلدان العربية. كما يفترض أن يضاف إلى ذلك عامل التدخل الفظ في شؤون الشعب الفلسطيني من جانب دول المنطقة وبشكل خاص إيران وسوريا التي ساهمت في نشوء الواقع الراهن عموماً والمشكلة الناشئة عن انقلاب حماس في غزة ورفضها حل الخلاف مع الحكومة الشرعية في الضفة الغربية.
ويتطرق مروة إلى موضوع التكامل الإقتصادي بين البلدان العربية والتنسيق السياسي لصالح الدفاع عن القضايا العربية الملحة والعادلة, ثم يطرح بصورة دقيقة أهمية العلاقة بين الدول العربية والعالم, إنطلاقاً من أن بلداننا هجزء من هذا العالم ولنا فيه مصالح ولنا قضايا يستوجب حلها وجود مثل تلك العلاقات مع جميع دول العالم لمساعدتنا في حل الإشكاليات الإقليمية التي لم تحل إلى الآن, ومنها القضية الفلسطينية ومشكلة الإرهاب..الخ. وأخيراً يضع كريم مروة أمامنا بوضوح الموقف الذي يفترض أن تتخذه قوى وحركة التغيير الديمقراطي في العالم العربي من قوى وحركة التغيير على الصعيد العالمي, داعياً إلى تحقيق التعاون والتنسيق في النضال من اجل الوصول إلى قواسم مشتركة فيما بينها لتعمل من اجل تحقيقه تغيير فعلي في سياسات الدول الكبرى في الكثير من القضايا الملحة السياسية منها والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والبيئية والعسكرية, ورفض التهديد باستخدام القوة أو الحروب الإستباقية من جانب الدول الكبرى وحل المعضلات بالطرق السلمية الديمقراطية, ورفض الإرهاب الدولي المتصاعد الصادر عن قوى الإسلام السياسية المتطرفة وإدانته ومعالجة العوامل التي تتسبب في بروز ظاهرتي التطرف والإرهاب على الصعد الإقليمية والدولية.
في الختام أود أن أشير إلى ثلاث نقاط مهمة: 1- حول العولمة
علينا أن نميز بوضوح, بخلاف ما يطرح من جانب بعض قوى اليسار, بين العولمة كعملية موضوعية باعتبارها مرحلة من مراحل تطور الرأسمالية لا مرد لها, وهي مرتبطة عضوياً بالتطور الهائل الحاصل في القوى المنتجة المادية والبشرية على الصعيد العالمي, وهي ذات طبيعة رأسمالية وتسري عليها قوانين المرحلة الرأسمالية في تطور المجتمع البشري, وبين السياسات العولمية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الرأسمالية المتقدمة وخاصة السبع الكبار + واحد التي تعبر عن محاولة جادة للهيمنة على الاقتصاد العالمي والتحكم بتطور البلدان النامية واستغلال شعوبها. وإذ تشكل بلداننا جزءاً من العالم المعولم موضوعياً حيث يفترض في هذه البلدان الإستفادة القصوى من الجوانب الإيجابية في هذه العولمة لصالح تطورها المستقل, فأن على شعوب هذه البلدان العمل الجاد للتخلص من الجوانب السلبية الناشئة عن سياسات الدول الرأسمالية المتقدمة التي تسعى باستمرار إلى التضييق على وجهة تطور هذه البلدان ورمي ثقل أزماتها على عاتق الفئات الكادحة من شعوبها وشعوب البلدان النامية. 2 - حول الأحزاب الشيوعية, لقد تشكلت الأممية الثالثة في العام 1919 جاء في أعقاب ثورة أكتوبر 1917 ونشوء الإتحاد السوفييتي ومحاصرته من جانب الدول الرأسمالية المتقدمة حينذاك والحرب التي شنت ضده من قبل 22 دولة رأسمالية وحاجته إلى دعم دولي من جانب حركة شيوعية جديدة في مواجهة أحزاب الحركة الإشتراكية للأممية الثانية. وإذ انتقلت بعض الأحزاب الإشتراكية أو أجنحة فيها إلى الأممية الثالثة, فقد تأسست في سنوات لاحقة مجموعة من الأحزاب الشيوعية في العالم العربي بقرار من الأممية الشيوعية. وعبر تشكيل الكومنترن الذي لعب دوراً كبيراً في هذا المجال وربط الحركة الشيوعية بمركز توجيهي واحد هو الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفييتي, أصبحت الحركة الشيوعية عموماً مستهلكة للفكر السويفييتي بدلاً من أن تقوم تلك الحركة بصفاته المختلفة بانتاج أفكارها انطلاقاً من واقعها الخاص. لقد تمت روسنة الفكر الماركسي في فترة مبكرة من تأسيس الحركة وجرى تعميمها وترويجها وبشكل خاص في فترة هيمنة ستالين على مركز الحركة الشيوعية العالميةً تحت مصطلح الماركسية-اللينينية. إن تأسيس الأحزاب الشيوعية في العالم العربي جاء استجابة لحاجة تضامن دولية بين أنباع الماركسية-اللينينية من جهة, ووجد استجابة محلية حينذاك بسبب السيطرة الإستعمارية والتخلف الشديد والبؤس الواسع النطاق في البلدان العربية والدور السلبي للمؤسسة الدينية في التنوير الديني والإجتماعي من جهة ثانية. إن إدراك هذه المسألة والسعي للتخلص من احتمال إقامة أي مركز قادم للحركة اليسارية هو السبيل لتطور الحركة وتقدمها فكراً وممارسة. إن هذه الوجهة تحقق استقلالية الحركة في كل بلد من البلدان, وهي ضرورية لوضع سياسة تتطابق مع , أو تقترب جداً من, الواقع وهي لا تتعارض مع الحاجة الفعلية إلى التضامن والتشاور والتعاون والتفاعل في ما بين الأحزاب والقوى اليسارية على الصعد المحلية والإقليمية والدولية. 3. القضية الثالثة التي تهمنا نحن الذين نعاني من تراجعات حادة وانكسارات شديدة في حركة التحرر الوطني وبناء الدول الوطنية الديمقراطية الحديثة التي يثيرها بوعي ومسؤولية عالية كريم مروة, هي العلاقة الجدلية بين النضال من أجل الحرية والحياة السعيدة في الماضي منذ عهد سبارتاكوس مروراً بثورة الزنج في العراق وانتهاء بالواقع الراهن, وبين الفشل الذي أصيبت به تلك الحركات الذي تعود بعض أسبابه إلى عدم توافر الشروط الموضوعية للنجاح، إضافة إلى عدم امتلاك الوعي الضروري لدى تلك الحركات بالواقع الذي لم تدركه تلك الحركات جيداً ولم تستوعب حركة التاريخ وسبل التعامل الواعي مع القوانين الموضوعية. إن العالم يتحرك بمجمله نحو الأمام والإرتدادات الحادة التي تصيب أجزاء من هذا العالم لا تؤثر كثيراً إلا بمقدار ما تساهم في تعديل المسيرة العامة. ومن هنا فأن انهيار الإتحاد السوفييتي والمنظومة الإشتراكي يجسد مجموعة من الحقائق التي تؤكد بأن البدايات لم تكن صائبة والواقع لم يكن مدركاً بشكل جيد وأن ما كان قد جرى قد تناقض مع ما كان يفترض أن يكون, وبالتالي اصطدم الفكر الإنتقائي بواقع الحال. كل ذلك يستوجب من قوى اليسار الجديد إعادة النظر في دراسة التجربة والعوامل التي تسببت في انهيارها وسبل الخلاص منها من خلال دراسة واقع العالم والمتغيرات فيه في ضوء المنهج العلمي المادي الجدلي.
إن انهيار النظام السياسي في الإتحاد السوفييتي وفي غيره من الدول لا يعني ثلاث مسائل جوهرية: لا يعني انتصار الرأسمالية على الإشتراكية أولاً؛ ولا يعني فشل الفكر الإشتراكي أو فكر العدالة الإجتماعية والحرية والديمقراطية للإنسان الفرد والمجتمع ثانياًَ؛
++ كما لا يعني أن على قوى اليسار في العالم, ومنها قوى اليسار في البلدان العربية, أن تتوقف عن الحلم بعالم جديد خال من الإستغلال والبؤس والفاقة شريطة أن تعي مراحل تطور المجتمعات التي تعيش فيها وتنأى بنفسها عن الأوهام وتشخص المهمات والأهداف بصورة دقيقة وتستفيد من دروس التجارب السابقة منذ كومونة باريس في العام 1871 إلى الوقت الحاضر ثم تواصل النضال من أجل الأهداف الإنسانية النبيلة وفق تلك المراحل وليس بالقفز فوقها.
لقد كان الفضل الكبير لماركس وإنجلز أنهما وضعا أو استكملا وضع منهج علمي للبحث والتدقيق واستخلاص الإستنتاجات الضرورية للممارسة السياسية من قبل الأفراد أو الجماعات أو الأحزاب السياسية, إنه المنهج المادي الجدلي. واستخدام هذا المنهج بوعي ومسؤولية في دراسة الواقع القائم في كل بلد من البلدان أو على الصعيدين الداخلي والخارجي أو الإقليمي والدولي, يساعدان على معرفة الماضي وفهم الواقع القائم والعوامل الفاعلة والمؤثرة فيه والمتغيرات الحاصلة عليه والسياسات التي يفترض انتهاجها وفق المرحلة التي يمر بها هذا المجتمع أو ذاك. إنه الطريق الأسلم لوضع المقولات وتحديد المهمات والأهداف بعيداً عن الإتكاء على النظرية التي هي ليست بالأساس سوى تجريد وتجسيد الواقع القائم وصياغته في مقولات. من هنا جاء تشخيص إنجلز حين قال "الماركسية ليست عقيدة جامدة, بل نظرية مرشدة". فحين يتغير الواقع الذي نعيش فيه, تتغير المقولات النظرية أيضاً. لا بد إذن من صياغة مقولات جديدة في ضوء العلاقة بين الظواهر الجديدة الفاعلة. ومن هنا يمكن القول بأن الكثير من المقولات النظرية التي تحدث بها ماركس وإنجلز في حينها لم تعد سارية المفعول حالياً أو شاخت, ولكن دراستها تساعد في فهم طريقة التعامل مع الواقع وتحليله ليس أكثر. لكن القوانين التي تم اكتشافها بصدد الرأسمالية مثلاً فهي لا تزال فاعلة لأنها مرتبطة بتشكيلة اجتماعية اقتصادية, رغم أن فعل هذه القوانين متباين من بلد إلى آخر وفق مستوى تطور البلدان وعوامل أخرى.
وإذا كان الجزء الأول من كتاب كريم مروة يتمتع بهذا الغنى الفكري والسياسي, فأن الجزء الثاني منه تضمن نصوصاً منتقاة من ماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي. وهي نصوص مهمة يطرح أصحابها في زمانهم رؤية جديدة ومهمة يتبناها وليلتقي عندها الكثير من قوى اليسار في البلدان العربية. لكنها لا تزال غير مؤثرة في الساحة السياسية العربية والشرق أوسطية, وهي مهمة جداً من أجل تحريك المياه الراكدة في هذه المنطقة من العالم, رغم حركتها السريعة في أماكن أخرى من العالم. إن المشكلة التي يمكن تشخيصها بالنسبة لقوى اليسار في العالم العربي هي أن ساعة هذه القوى, ونحن منها, لا تزال متوقفة تقريباً, في حين أن الزمن يجري وبسرعة ولا يقتصر الأمر على عدم تقدمنا خطوات إلى أمام, بل إلى واقع تراجعنا عن حركة الزمن وعن المسيرة والتقدم والحضارة العالمية.
مقال أرسل للنشر في الكتاب

السياق المعطل وفضيلة الارتباك

د. فيصل دراج
باحث وناقد (فلسطين)
ما الذي أراد كريم مروّة قوله في كتابه الجديد: "نحو نهضة جديدة لليسار العربي"؟ قد يأتي الجواب من الكتاب لكنه يأتي، أولاً من وظيفة الكتابة عند قائد سياسي أراد أن يكون "مثقفاً فاعلاً"، مؤمناً بأن "الكتابة الملتزمة" تبني المجتمع من جديد، أو تصدّ عنه الهدم الذي يقع عليه. فمنذ منتصف سبعينات القرن الماضي، بدأ كريم الكتابة عن "أزمة حركة التحرر العربية" وحاول، بعد عقد من الزمن، أن يعقد حواراً بين "الدين والإيديولوجيات"، وأن يعطي قولاً في قضايا "المسألة الفلسطينية"... وسواء كتب أو لم يكتب، فقد ذهب التاريخ في الإتجاه الذي أراده: هزمت الأزمة المأزومين وحررتهم من التزامات لا يستطيعون القيام بها، واعتصم "الاتجاه الديني" بانتصاره، وذهبت المسألة الفلسطينية إلى حيث عليها أن تذهب، رغم بلاغة قديمة ومقاتلين ومقاتلين جدد.
ترجم الفرق بين غايات الكتابة المستمرة وحركة الواقع العنيد إيمانية، لها شكل العادة، أملت على "الكاتب الملتزم" أن يتمسك بحقيقته، وأن لا يقيم وزناً للهزيمة أو الإنتصار. وعن هذه الإيمانية المتوارثة، التي تنسب إلى الكتابة واجباً لا يمكن التحرر منه، صدر كتاب كريم الجديد، الذي هو كتابة جديدة لأحلام قديمة. بيد أن ما يجعل الكتاب جديراً بالقراءة، لا يعود إلى إيمانيّته، فالإيمان الراضي عن أحواله منتشر في كل مكان، بل إلى ارتباك يثير الفضول: فالكاتب بلغ الثمانين، وكتب في موضوعه غير مرة، وينشر خطاباً تبشيرياً له بعد جماعي، ويلتزم بفكر كان يدعي احتكار الحقيقة، ذات يوم. يعبّر الإرتباك عن فكر قلق وعن نظر يساري انتهى ولا يعرف كيف يبدأ، وعن يسار قديم وقع عليه التعب والإغتراب. لذا يشكّل كتاب كريم مروة الجديد وثيقة يسارية عن يسار مرهق مغترب، أضاع جوهره ويبحث عنه، أو أضاعه ولم ينتبه إلى ضياعه.
الدعوة إلى اليسار في زمن منهار
كيف يتكشف الإرتباك في كتاب مروّة؟ يتكشّف، أولاً، في محاولة كسر قاعدة قديمة، سارت بين الإنسان النموذجي وثبات العقيدة. قال جوزيف ستالين مرة: "لا يمكن تغيير إنسان جاوز الأربعين إلا إذا كسرته". يواجه القول كريم بصعوبتين: فقد بلغ الثمانين وعليه أن يُكسر مرتين، وأن يظل موحداً رغم الكسر المزدوج، فهو يذكر اسم ماركس أكثر من مرة، ويعود أكثر من مرة إلى ماضيه، ويريد في الحالين أن يبقى "يسارياً". يتجلّى درس كريم في المحاولة الصعبة التي تريد أن تحتفظ بالمكسور موحداً، وأن تجمع بين زمن سياسي قديم واضح الصفات رحل وزمن جدير سياسي لا تزال ملامحه غائبة. وعلى الرغم من الجهد المبذول، في مصالحة التناقضات، لا يصل كريم إلى ما يريد الوصول إليه، فلا هو بالستاليني القديم ولا بالماركسي الجديد، بل في موقع ثالث غائم الحدود يدعوه: اليسار. يعطي هذا الضياع، المختار حيناً والإلزامي حيناً، للكتاب أهميته، ويعيّنه وثيقة يسارية، بالمعنى الإيجابي للكلمة، لأن فيه ما يعترف بأولوية الحياة على النظرية، وما يرفض التصور الماركسي ـ الديني، الذي يقول بصحة الأفكار وخطأ التطبيق، كما لو كان الماركسيون لا يعبّرون عن "الماركسية"، أو كما لو كانت هذه الأخيرة "روحاً نقية"، لا يحسن التعامل معها إلا الأنقياء. لم يشأ كريم مروة أن يكون نقياً يفصل بين النظرية والحياة، وبين الأفكار واختبار الأفكار، منتهياً إلى: فضيلة الإرتباك، أي إلى فكر نقدي يدرك أن حل القضايا يأتي خلال البحث عن حلها ولا يوجد جاهزاً في كتاب، أو لدى "مرجع يساري" قادر على "الفتوى". يرتبك الفكر النقدي وهو يسائل تاريخه ويرتبك أكثر وهو يقرأ المستجدات، التي لم يعرفها زمن اليقين: ما إمكانية العمل السياسي في مجتمع طبقي انطفأ فيه صراع الطبقات؟ وما شكل العمل الإيديولوجي في مجتمع عربي أصبحت "تليفزيوناته" مصدراً لخليط من الفتاوى الدينية؟ وما أشكال التعامل مع "طبقة كادحة" تطمئن إلى فكر إيماني يستعيض عن "الطبقة" بالجماعة؟ وما معنى عروبة فلسطين حين يصبح الشأن الفلسطيني فلسطينياً، مع استثناءات محدودة (الموقف السوري والمقاومة اللبنانية)؟ ليس الإرتباك، الذي يخترق خطاب مروة الإ الفرق بين الإستعمال القديم للمفاهيم النظرية والمستجدات القائمة، التي تطالب بتصورات جديدة، أو باستعمال جديد لصيغ نظرية سابقة. لا يترجم الموقف استهانة بعادات نظرية متقادمة، بل الإعتراف بأولوية الواقع على الفكر، ذلك أن فضائل الإيديولوجيات من آثارها العملية، وأن الإعتراف بالأزمة، بصيغة الجمع، مدخل محتمل إلى تجاوزها. يرتبك كريم مروة وهو يعالج ذاتاً منكسرة، تريد أن تبقى موحدة، ذاهباً إلى ارتباك آخر عنوانه: اليسار. ولكن ما هو هذا اليسار المشتهى، إن كان موجوداً، وما تعريف اليسار المشتهى اليوم، إن كان محتملاً؟ يأتي الجواب من الماضي، ولا يأتي واضحاً، لأن جميع الأحزاب السياسية الأساسية، في زمن غير هذا، كانت يسارية: الشيوعيون وتحرير المجتمع، البعثيون والمناداة بالحرية والقوميون العرب وإعلاء القومية فوق الطوائف والمعتقدات الدينية، والقوميون السوريون والمناداة بتساوي المرأة والرجل والليبراليون المؤمنون بالبرلمان والإنتخابات... ولهذا يبدو المجتمع العربي، منذ مطلع القرن العشرين إلى نهاية ستينياته، في أجزاء كثيرة منه، "مجتمعاً يسارياً". فما هو القاسم المشترك بين النزوعات الحزبية المشار إليها، وما هو اليساري منها، وغير اليساري، من وجهة نظر الحاضر القائم؟ وما تبقى منها، بالمعنى العملي، اليوم، تمتعت بيسارية كاملة أم مجزوءة؟ يطرح كريم مروة بديلاً يسارياً، دون أن يعرّف اليسار حالماً بشيء من الماضي وحالماً ـ أكثر ـ بحاضر يوحد ما كان منقسماً في الماضي. تحمل كلمة اليسار، في الخطاب المرتبك دلالات كثيرة: فهي مفهوم نظري لموضوع لا وجود له، "عليه أن يتكوّن"، وانتقال من قديم إلى جديد عن طريق السلب، يعرف ما تركه (مَن لم يسمع بالمركزية الديمقراطية وصراع الطبقات والنزعات التحريضية؟)، ولا يعرف ما يذهب إليه، وهي تمسك بهوية تدافع عنها أطراف محاصرة. ولعل هذا الحصار، الذي يتأمله كريم بصدق لا صراخ فيه، هو الذي جزأ اليسار المجزأ، وترك له اليوم هوية شكلانية: اليساري هو الذي يندّد بـ"الأخطار الخارجية" ويحاذر الحديث عن "الأخطار الداخلية"، أو الذي يفاضل بين "تسامح السلطة" واستبداد "البدائل المطروحة"، أو ذاك الذي يذكر "أمراض المجتمع" ولا يحدّد أسبابها وصولاً إلى يساريين متسقين يستأنفون ما كانوا عليه. يكتفي كريم بطرح "فكرة تبحث عن اتجاه"، ويستنهض أنصار الإتجاه، كي يعطوا الفكرة ملامح تتجاوز الفكرة، وهو في الحالات جميعاً يعطي

صياغة جديدة لأحلام قديمة، ولا يخشى الإرتباك.
يرتبك كريم في علاقته بذاته، وفي علاقته بموضوع شعاره، وفي الوسائل المقترحة، القريبة من ليبرالية يسارية، أو يسار ليبرالي، أو من شيء ثالث يحتاج إلى اسم جديد. فهو يطرح، في كتابه مقولات متتابعة، يكمل بعضها بعضاً تفضي في تكاملها، إذا تحققت، إلى نهضة اليسار. غير أن المقولات، في تعدادها وتصنيفها، تسمح، في حال تحققها، بنهضة الليبرالية لا بنهضة اليسار. ذلك أن الليبرالية تقول بحقوق المواطنة والمجتمع المدني ودولة القانون، وتقول، في اللحظة عينها، بالفردية والتنافس الفردي وبأولوية الفردي على الجماعي وبحرية السوق، ولا تكترث كثيراً بالعدالة الإجتماعية... هل المطلوب ليبرالية تأخذ صفة اليسار، أو يسار يستعير هوية ليبرالية؟
يواجه كريم مروة الخلط بين تصورين مختلفين مستعيناً بشعار الإشتراكية. لكن الشعار يواجهه بإشكالين جديدين: نسيان معنى "التطبيق الإشتراكي: في الماضي القريب، والوقوع في العمومية السياسية التي تبسط معنى الإشتراكية وتجعل منها هدفاً مستقلاً مكتفياً بذاته. ليست الإشتراكية في تطبيقها العربي القريب، على الأقل، إلا شعاراً إيديولوجياً سلطوياً، يبرّر قمع المجتمع لحساب نخبة حاكمة، وممارسة بيروقراطية، لا إشراف عليها، أفضت إلى توليد "رأسمالية متوحشة" جديدة. وما قطاعها "العام"، الذي اختصرت فيه كلمة الإشتراكية، إلا قطاع سلطوي خاص، أمّن للنخبة الحاكمة الجمع بين القرارين الإقتصادي والسياسي معاً.
إذا كانت السعادة هي تبصّر الحقيقة، كما يقال، فإن الإشتراكية، المشار إليها، تلغي السعادة وتنتهك الحقيقة. لا يعترف اليسار، بالمعنى الحقيقي، بالاشتراكية، بل بالممارسات السياسية، التي تحرّر الإنسان وهو ذاهب إلى تحرّره، وتقترح ما يحتاج الإنسان إليه، من حيث هو ذلك "اللامتوقع"، الذي يجعله الكفاح الإنساني ممكناً. وبسبب ذلك تبدو كلمة الإشتراكية غير ضرورية، وغير ضرورية على الإطلاق، لأن فيها ما يضع للفعل الإنساني سقفاً، وما يحاصر كفاح الإنسان الذي يريد أن يكسر الحصار. فالإنسان المتمرد يصنع ما أتاح له تمرده أن يصنعه، تاركاً التسميات الجاهزة جانباً، اشتراكية كانت أو غير ذلك.
وقع كريم على فتنة التسمية، وهو ينطلق من عمومية سياسية ليبرالية، تقول بتحرر المجتمع، علماً أن المجتمع المتحرر لا وجود له، فهناك أفراد متحررون لا غير، وأن السياسة العامة لا وجود لها أيضاً، فهناك سياسة خاصة بكل موقع من المواقع الإجتماعية: سياسة خاصة بالطلبة "اليساريين"، وهم يقاتلون من أجل حقوق متساوية في تعليم وطني، وسياسة خاصة بـ"العمّال"، وهم يطالبون برفع الأجور وتحسين شروط العمل، وسياسة خاصة بالشأن الديني، تميّز بين الفقر الحقيقي وحلوله الوهمية... لا وجود لسياسة عامة إلا في وعي براغماتي يعترف بالظواهر الإجتماعية ويمحوها، ويفصل بين البشر وقضاياهم، محيلاً القضايا جميعاً على "نخبة متعالية"، تقرر المقبول والمرفوض
إذا كان في الخطاب اليساري، لزوماً، مكان للمواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني وما يشتق منه، فإن ما يميزه من الخطاب الليبرالي هو السياسات المشخصة المتميزة التي تجعل هذه المقولات ممكنة. فلا لغز في معنى المجتمع المدني، ولا جديد في تعداد حقوق المواطنة الإقتصادية والسياسية والثقافية، ولا شيء يرتجى من تصنيف الأسباب التي تضطهد الفلسطينيين وحقوقهم، لأن السؤال، كل السؤال، في أشكال الفعل السياسي الموائمة، التي تحقق ما هو ليبرالي وتنقده، وتنفتح على سياسية وآفاق يسارية، أو ما يشبهها. على الرغم من النقد الذي يمكن أن يوجّه إلى كتاب كريم مروة، فإن هذا النقد يصبح مصطنعاً، إن أخذ بمبدأ العلاقة بين النص والسياق، كما يقول العاملون في النظرية الأدبية. فكما أن قراءة "ماركسية" فرح أنطون على ضوء ماركسية مهدي عامل لا تفضي إلى شيء، فإن قراءة فكر كريم مروة على ضوء "الماركسية المدرسية" لا تؤدي إلى شيء كثير. فالمسألة ليست في قبول أفكار المجتمع الليبرالي أو رفضها، بل في المطالبة بـ"حداثة سياسية" في مجتمع عربي معادٍ للحداثة. فالمجتمع الأول، القائل بالفردية والتنافس الفردي، مجتمع أنجزت حداثته، ولو بشكل منقوص، على خلاف مجتمع عربي تقليدي، ألغى السياسة، التي هي مقدمة ضرورية للحداثة الإجتماعية. ولهذا يبقى ما يطرحه كريم مروة مشروعاً وتحريضياً: مشروعاً وهو يدعو إلى حداثة اجتماعية، وتحريضياً، لأن مؤلف الكتاب يدعو إلى "اتجاه جماعي"، ويدعو أنصاره إلى تجسير المسافة المرغوب. تأتي أهمية كتاب كريم عن "فوضى الأسئلة"، التي لا يسمح السياق اليساري الراهن بتنظيمها، بسبب تأخر تاريخي يوزع القضايا الراهنة والفكر اليساري الراهن على زمنين مختلفين: رحل أحدهما ولم يتبلّور ثانيهما. وما دعوة كريم، المربكة المرتبكة، إلا دعوة إلى إقامة علاقة نقدية بين الفكر والواقع، يصبح فيها الفكر غير ما كان، لأن القائم منقطع عما كان.

دعوة غير شكلانية في منظور شكلاني تأخذ دعوة كريم في منظور "الماركسية المدرسية" صفات متعددة يوحد السلب بين أطرافها جميعاً: فهو يخلع جلده ويستعير جلداً آخر، ويتخلّى عن "جماعته" ويذهب إلى آخرين. غير أن هذا الموقف، الذي يريد أن يكون طهرانياً، ينسى أن معنى الماركسية يكمن في الربط بين الحاجات الإنسانية والإمكانيات الفعلية للشرط التاريخي المعيش، إلا إذا أراد "الماركسي المفترض" أن يلتحق بالامكانيات المجردة ويكتفي بها. فالماركسية، بكل بساطة، مأزومة إلى حدود التداعي وتاريخها كله، على أية حال، سلسلة من الأزمات، وإن كان سقوط "المعسكر الإشتراكي" قد مزج بين الأزمة والهزيمة. وإذا كانت الماركسية هي التركيب النظري الأكثر ارتقاء لأفضل منجزات الفلسفة الأوروبية، كما قال آلتوسير ذات مرة، فإن هذا التركيب، ولا ما هو أقل منه بكثير، ممكن في مجتمع عربي اكتسح فيها "الداعية" موقف المثقف، واكتسحت فيها "الجماعة" موقع الحزب السياسي، وتعايشت السلطة فيه، وبيسر كبير، مع الداعية والجماعة معاً.. ما مدى الزمن التاريخي الفاصل بين "فوضى الفتاوى" التي توزّعها "التلفزيونات وفلسفة "البراكسس التي قال بها أنطونيو غرامشي"؟ تنظر الماركسية المدرسية إلى "الكتب" متجاهلة الواقع ومحتفية بالتسمية، حال بعض القوميين العرب الذين يحررون فلسطين ويهزمون الإستعمار ويحققون الوحدة العربية، مؤمنين بأن "روح العروبة" تهزم نقائضها في جميع الأزمنة. والمنسي، في الحالين، هو "إصلاح الوعي"، الذي يشرح للإنسان أفعاله الذاتية، والإصلاح المعنوي ـ الأخلاقي، الذي يعيد الإعتبار إلى السياسة: فما هو وضع مجتمع "تخفّف" من الصراع الطبقي؟ وإذا كانت الطبقة تتعيّن اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، كما يقول غرامشي، فهل يمكن الحديث عن الطبقات في المجتمع العربي بصيغة الجمع؟ وكيف يمكن التعامل مع "استثنائية عربية" تتنافس فيها السلطة والمجتمع على إدانة الحداثة؟
وقد يأتي هجاء كريم مروة من منظور تبسيطي متفائل، يستنكر "التخاذل، رافعاً شعار "أزمة الرأسمالية" اليوم، مطالباً كريم، وغيره، أن ينظروا إلى "حقائق العصر الجديدة"!!! وهذا المنظور طريف بأكثر من معنى: فالنظام الرأسمالي مأزوم دون أن تكون الرأسمالية في أزمة، لأن الطرف الذي يعمّق أزمتها لم يستطع الوقوف بعد. أكثر من ذلك إن تاريخ الرأسمالية، وكما أكدّ سمير أمين أكثر من مرة، هو تاريخ أزماتها، وتاريخ تصدير هذه الأزمات إلى الخارج أيضاً. وتأتي المفارقة، طبعاً، من موقع آخر أكثر طرافة: ما حدود عقلانية العقل المتفائل الذي يصرّح بأزمة الرأسمالية "الخانقة" ولا يقول عن "الاستنقاع العربي" شيئاً، إلا إذا اعتبرنا أن الإنتصار العربي في "معركة حطين" انتصار متأبد، وأن في "معركة القادسية" ما يعوّض عن جميع الهزائم القائمة؟ وواقع الأمر أن الثناء على "أزمة الرأسمالية" صورة عن "الانتصار عن طريق الآخر"، الذي تؤمّنه كرة القدم، إذ المتفرج على المنتصر منتصر بدوره. لا يزال العرب، منذ أن كتب نجيب عازوري "يقظة الأمة العربية" ـ 1906ـ يتحدثون عن هزيمة الصهيونية، التي سلب مشروعها من العرب القرن العشرين كله، كما لو كان الحديث عن الهزيمة يساوي النصر، بل يتجاوزه. إن ما يحتج عليه كريم مروة، ببساطة ووضوح، هو تخلّف العالم العربي وهوانه وانسحابه من الصور الحديثة إلى عصور سابقة، محاذراً "ثقافة الأدعية"، والبلاغة السعيدة الإنتصارية.
من أين يأتي النقد الثالث الذي يحوّل كريم إلى "زائدة مريضة" لا ضرورة لوجودها؟ يأتي من دعوى أن أحزاب اليسار العربية قائمة، وأن الدعوة إلى يسار جديد، وهو مجرد افتراض ودعوة خيّرة، تسيء إلى هذه الأحزاب أو تؤدي إلى إضعافها، أو تغوي بانقسامها، علماً أن المرتبك المنقسم خير من المطمئن الموحّد. فالمطلوب ليس الأحزاب في ذاتها، متوارثة كانت أو شبه متوارثة، بل فعلها السياسي والثقافي في الحياة اليومية، والمطلوب اكثر تأمل "البنية الحزبية" التي تعتنق، أحياناً، مبدأ المرتبية الصارمة، الذي هو استعادة لسياسة تقليدية ترى في الإمتثال فضيلة أساسية. وواقع الأمر أن كريم غير معني بنصرة حزب أو بهجاء آخر، ذلك أن كتابه يتحدث عن إمكانية توليد السياسة في مجتمع لا سياسة فيه، أي عن إمكانية وجود الشروط الموضوعية التي تجعل "العمل الحزبي" ممكناً، لأن وجود "الأحزاب" لا يعني، دائماً، وجود الحياة السياسية. فهناك النزعة الشكلانية، الممتدة من "مقامات الحريري"، في الأدب إلى أحزاب شكلانية، وهناك "قوة العادات"، التي تريد "موقفاً طبقياً"، في اللغة، دون أن تتحرى إمكانية الطبقات في المجتمع. وبسبب ذلك فإن كتاب كريم يدعوه إلى نهضة اليسار واليمين معاً، فلا سياسة إلا بوجود بدائل متناقضة، ولا يسار بلا يمين، ولا يسار ولا يمين إلا في مجتمع سياسي، لأن اليمين واليسار مقولتان سياسيتان. يطرح كتاب كريم موضوع الوعي التاريخي، القادر على ربط النص بالسياق، أو المفهوم النظري بزمانه، والذي يجعل من توليد "المجتمع الليبرالي"، مع معرفة نقائصه، مشروعاً يسارياً، ويعيّن "حقوق المواطنة" بديلاً من "الثورة البروليتارية". ذلك أن القول بـ"البروليتاريا"، وهي مفهوم نظري تاريخي، في مجتمع تحكمه "فوضى الفتاوى" استظهار لغوي بريء لا أكثر. فكما أن بعضاً من "الجماعات الدينية" يريد استقدام "الحكم الراشدي" إلى الحاضر، ناسياً اختلاف الحاجات وخصوصية "الخلفاء الأربعة"، فإن بعضاً من "أهل اليسار" يريد تطبيق أفكار "البيان الشيوعي"، أو رغبات "ساطع الحصري" على مجتمع أخطأ الثورات الحداثية جميعاً، وانتقل من "روح العروبة" إلى الركام الجهوي والإثني والطائفي.

حول بعض قضايا اليسار
من أين جاء اليسار العربي في وجوهه المختلفة؟ جاء من التنوير ومجتمعية السياسة والثقافة، وبدايات الإستقلال الذاتي ـ النسبي للحركة الشعبية، التي تكوّنت خلال الكفاح ضد الإستعمار والمشروع الصهيوني. فقد جاء التنوير بمفهوم المقارنة، بين ما استجد وتقادم، وبين الأنا والآخر، وبين الماضي والمستقبل... وترجم هذه المقارنة، منذ مطلع القرن العشرين وما تلاه، ببدائل سياسية متعددة، احتفت بالصحافة والترجمة ودور النشر والدعوة إلى القراءة... ساعدت على ذلك، أيام السيطرة الإستعمارية المباشرة، سلطات ضعيفة ومجزوءة الشرعية وبدايات حركات شعبية. لا غرابة أن تأخذ أحزاب اليسار الوليدة بمقولات التنوير المختلفة: الدعوة إلى التعليم، تحرر المرأة، العدالة الإجتماعية، الإنفتاح على الثقافة العالمية، وكل ما يحيل على الحداثة الإجتماعية. ولا غرابة أيضاً أن تتزامن ظواهر سياسية ـ ثقافية متكاملة: الحزب، المثقف، الصحيفة، الجمعيات المدنية، الحوار الإجتماعي، وغيرها من الظواهر التي لا تنشغل بـ"الخصوصية"، وترى في العالم العربي جزءاً من العالم. يطمح كريم مروة إلى استعادة هذه الظواهر، في زمن آخر، أكثر صعـوبة وتعقيداً، بسبب انهيار فكرة المستقبل و"ركود" أنظمة وزعت الركود على المجتمع بأسره.
يستدعي كتاب كريم مروة ملاحظتين، تقول الأولى: هل يمكن ترهين أهداف "ماضية" عاشت هزيمتها أكثر من مرة؟ والجواب، وهو مستوحى من عبد الله العروي، يقول: تظل الأهداف الضرورية، الواجب تحققها، صحيحة، دون النظر إلى مآلها، ما دامت صحيحة وتحققّها شرط لنهوض المجتمع. وتقول الملاحظة الثانية: هل السياق الراهن المتسم بضعف اليسار، ملائم للدعوة إلى نهضة اليسار؟ إن التعلل بالسياق دعوة إلى توطيده، واطمئنان إلى ما هو قائم ومألوف، كما لو كان في الدعوة إلى الجديد ما يثير الخوف. يتأمل كريم مروة، وهو يعطف فكرة إصلاحية على أخرى، هذا المشهد العربي كله ذاهباً إلى الجوهري، أي شروط الحداثة الإجتماعية، التي لا سياسة ولا أحزاب ولا مستقبل الإ بها. يصبح اليسار، بهذا المعنى، مجازاً نهضوياً واسعاً، اجتماعياً ووطنياً وقومياً في آن، لا يختزل إلى "حزب" واسع الطموح أو فقير الهموم. وتصبح الدعوة إلى التنوير، رغم "هزيمة الكلمة"، دعوة يسارية بامتياز، "تحلم" بمجتمعية السياسة والثقافة قبل أن ترى إلى الأشكال الحزبية القائمة. يقال: "على المعلم أن يعلّم التلميذ"، والسؤال: من يعلّم المعلم كي يكون قادراً على تعليم التلميذ؟ قال طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر": لا تعليم بلا ديمقراطية، ولا ديمقراطية بلا تعليم. فصل القول بين التعليم ومحاربة الأمية، وبين مجتمعية السياسة والإحتكار السلطوي للسياسة.
يدعو كريم مروة، في كتابه "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" إلى مبدأ المساواة، حيث للبشر حقوق متساوية في العمل السياسي، وحيث الإعتراف بالمساواة في السياسة مدخل إلى النهضة، ومبتدأ لبناء أحزاب جديدة، تتوزع على اليمين واليسار معاً. يظل تعبير اليسار، في الحالات جميعاً، مجازاً مركباً، يتضمن الوطنية والتنوير والدفاع عن المعرفة، والإنتقال من المعلوم إلى المجهول، ومن الحاضر إلى المستقبل. ومن دون هذه العناصر المتداخلة يغدو تعبير اليسار فارغاً، يجاري سلطة، أو يتصرف بموروث، أو يلبي "سلعة سياسية" من سلع السوق، توهم المشتري أنه أمام أحزاب متعددة، وأنه قادر على "شراء" ما يريد. اليسار مشروع وطني نقدي وهوية غير مكتملة وموروث وسيرورة، لها شروطها، ترهّن الهوية والموروث، وذلك الفكر التنويري الممتد من الطهطاوي إلى قسطنطين زريق، ومن فرح أنطون إلى مهدي عامل وسمير أمين، ومن معارك أحمد عرابي ويوسف العظمة وعبد القادر الحسيني إلى المقاومة الوطنية اللبنانية.
أعطى كريم مروة صياغة جديدة لأحلام قديمة، مكتفياً بالأسئلة وظلال الإجابات. وقد نطرح عليه بحثاً عن الوضوح الأسئلة التالية: ما معنى اليسار اليوم وما هي ملامح الهوية اليسارية؟ ما الفرق بين اليسار المشتهى واليسار القديم، وهل من اقتراحات عملية تجعله ممكناً ولو بقدر؟ ما الذي تبقى صالحاً من الماركسية اليوم؟ ما الفرق بين دعوته ودعوة سمير أمين "التحالف الوطني الشعبي الديمقراطي"، التي قال بها الإقتصادي الشهير قبل عقدين من الزمن؟ كل الأحلام كلمات، دون أن تشبه كل الكلمات الأحلام.
نشر في جريدة "السفير" اللبنانية
بتاريخ 6 أغسطس (آب) 2010

كيـــف السبيــل

غسان الرفاعي
قيادي سابق في الحزب الشيوعي اللبناني
ليس لاحد أن يدعي أن كلمته هي "الفصل" في موضوع البرنامج العتيد لقوى اليسار... ذلك لأن لهذا "البرنامج" ماضياً في التجربة، فيها الإيجاب وفيها السلبي.. وتقيم الحالي لم يرس، بعد، على قاعدة موضوعية سليمة... والمفروض أن يكون له "مستقبل" لم تتبلور مبررات ولادته على نحو متكامل مقنع بعد. بل ما زال يتخبط باجتهادات متضاربة..
في هذا الخضم، سأساهم في نقاش كتاب رفيق وصديقي كريم مروة: "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" لكونه الكتاب الذي حوى مجمل العناوين الرئيسية لما يجابه قوى اليسار. ومقاربتي هذه تنطلق من واجبي ومسؤوليتي كمناضل "محترف".. ولا أدعي أي منطلق آخر سوى وضع بعض ما جمعت من تجربة وتوظيفها في خدمة ورشة النقاش الكبيرة التي يجب فتحها، ولا يجوز تأخيرها أكثر مما تأخرت...
لا أتردد في القول إن كريم مروة دائماً "ملهمي"، بمعنى أنه كان محفزي على الحوار والمساجلات السياسية والفكرية أكثر من أي "خصم" فكري أو سياسي آخر. ذلك لأن يتناول، دائماً، ويحاول أن يعالج المسائل الحادة والشائكة والناضجة للبحث في أوضاعنا العامة، بجرأة فكرية ومعنوية نادرة... وهي مسائل تشغلني بالدرجة نفسها التي تشغله. ويستمد كريم هذه القوة المعنوية والجرأة الفكرية من معينه الشخصي الغني في تجربة العمل السياسي المباشر، من موقعه القيادي في الحزب، وبتماسه المباشر مع الأطراف الأخرى: منظمات وأحزاباً وحكومات وقادة، داخلياً وعربياً ودولياً، سواء على صعيد الإلتقاء، أم التعارض معها...
وكثيراً ما كانت هذه "الحصيلة" مادة نقاشنا المشترك داخل الهيئات القيادية التي كنا، سوية، أعضاء فيها مدة تناهز الأربعة عقود. وعليّ أن أعترف بأنه ما كان لي أن أحصل على مثل هذه المادة الغنية لولا كريم، وذلك لانغماسي في الجزء الأكبر من هذه الفترة في العمل السياسي الحزبي الداخلي.
هذه ليس تجربتي الأولى، العلنية، في النقاش معه. بدأت التجربة حين أصدر مقالاته الثلاث التي تناول فيها قضايا القومية والإشتراكية والديمقراطية والدين والثورة. نشرت في النصف الثاني من العام 1989. وقد ناقش الكثيرون، في حينه، أفكار كريم، وكنت واحداً منهم. ونشرت المقالات وكل النقاشات التي دارت حوله في كتاب حمل اسم: حوارات!
وتكررت، بعد ذلك، نقاشاتي معه، المنشورة منها وغير المنشورة. وكان هناك، دائماً، تبادل رأي منشورة.. عليّ أن أقول، في تقييم هذه النقاشات، إنها كانت تقابل من قبل كريم بانفتاح وإيجابية، على الرغم مما كانت تتسم بها أحياناً من حدة. ومع هذا التفاعل الإيجابي فيما بين الآراء وتصادمها لم يؤد النقاش، بالضرورة، إلى تغييرات جوهرية في المواقف التي أبداها كل منا، وإن كنت أعر دائماً، بفائدتها القصوى بالنسبة إليّّ شخصياً. وأرى أن تعميم مثل هذا التفاعل الإيجاب فيما بين الآراء والإجتهادات الفكرية والسياسية التي يطرحها أهل اليسار، والديمقراطيون عموماً في هذه الأيام، بات أكثر ضرورة وأكثر جدوى من أي وقت مضى، خصوصاً من أجل بلورة ملامح اليسار الجديد وخطة عمله المستقبلية. فالملاحظ أن مثل هذا التفاعل الإيجاب مفقود بصورة عامة. وهو نادر إذا ما حصل! وفي حال حصوه عادة ما يتسم به هو التناحر. بمعنى سعي كل طرف إلى نفي الطرف الآخر. وهذا ما يعطل جدوى النقاش من حيث هو مسعى عبر الجهد المشترك للوصول إلى الحقيقة على صعيد الفكر، وإلى التقارب العملي على صعيد الممارسة.
أود أن أوضح، منذ البداية، مفهومي لموضوع التجديد على صعيد اليسار، الذي تدور النقاشات حوله. فأنا أنطلق من أننانعيش أساساً – كما في أيام ماركس- في ظل نظام العلاقات الرأسمالية العالمي. وأن التغييرات الكبيرة الحاصلة في هذا النظام لم تغير في طبيعة وأسس العلاقات السياسية – الإقتصادية –الإجتماعية التي تحددها التناقضات الأساسية في قلبه، وأن الميل نحو العالمية في تطور الرأسمالية الذي أشار إليه ماركس، والذي تحول في أيامنا هذه إلى بدء عملية عولمة متكاملة، أدى ويؤدي إلى أن تلعب المراكز الأساسية للرأسمالية المتطورة دور العامل الموجه الأساسي لمجمل التطور العالمي والعلاقات الدولية، وإلى تحوله، بدرجات متفاوتة، إلى عامل رئيسي في توجه وتطور كل بلد على حدة، وبالدرجة الأولى بالنسبة إلى البلدان النامية، كل منها وفق خصائصه السياسية والإجتماعية والإقتصادية التي رسا عليها حالياً، عبر مساره التاريخي...
في هذا الضوء تتحدد – حسب رؤيتي وقناعتي- قاعدة التجديد الذي يجري الكلام عنه، وليس خارج هذه القاعدة. وهذا يعني أن التجديد ينبغي أن ينطلق من محاولة كشف وفهم تجليات التناقض الأساسي الذي كشفه ماركس في حينه، في ظروفنا الراهنة، وتبيان فعله على الصعيد الإقتصادي والمالي والإجتماعي والسياسي في البلدان المتقدمة، وانعكاسات ذلك على جميع هذه الصعد في كل من البلدان النامية، ومنها لبنان والبلدان العربية الأخرى، بالنسبة إلى جميع قضاياها الوطنية والتنموية والقومية...
وأي مسعى، واع أو عفوي، لإخراج مفهوم التجديد عن هذا الإطار يحمل، في رأيي، خطر الإنحراف بقوى اليسار عن الخط الموضوعي للتطور (لا أريد أن أسميه الخط الثوري)، إما باتجاه التكيف عبر سياسة براغماتية مع الإستراتيجية الجديدة للرأسمالية المعولمة للهيمنة، وإما باتجاه فوضوية ثورية لا أفق لها، بسمات وهويات مختلفة.
إن الإنطلاق من هذا الفهم المبدئي لطبيعة العولمة الرأسمالية ودورها العام بالنسبة إلى التطور العالمي، والخاص بالنسبة إلى كل بلد، يتطلب – من أجل وضع صياغة استراتيجية لقوى اليسار – حسبما أرى، من قوى اليسار الدراسة الأشمل والأعمق والأكثر تفصيلاً والأكثر ملموسية لخصائص مجتمعاتهم الخاصة الإقتصادية بالدرجة الأولى وكذلك فيما يتعق بالتركيب الإجتماعي (الطبقي-القومي-القبلي-الديني-الإيديولوجي..) لمتابعة حجم وطبيعة التأثيرات التي يتركها نهج واستراتيجية العولمة عليها راهناً وفي المدى البعيد. وعلى أساس هذا فقط، وتحديداً، يمكن الكلام عن إمكان بلورة استراتيجية فعالة، ومنفتحة لتوحيد جهود كل القوى الإجتماعية والسياسية الراغبة والتي لها مصلحة في التغيير، في المجتمع المعني.
بهذه الرؤية، ومن هاجس هذه الدوافع، ناقشت أفكار رفيقي وصديقي كريم في كتابه "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". وقد تداولت وإياه –وأنا أكتب هذا الحوار- مجمل الأفكار والمآخذ التي تجمعت لدي، فكان استقباله إيجابياً ومشجعاً في آن. وقد اعتبرت موقفه هذا محفزاً إضافياً لتقديم ما أطرح على بساط النقاش والحوار الأوسع، لفتح آفاق أرحب لتقارب أكثر فيما بين قوى اليسار والديمقراطية في لبنان بالدرجة الأولى، وحبذا لو سرى على النطاق العربي أيضاً، لخلق أجواء تفاهم أوسع وأعمق.
لماذا أقدمت على مناقشة الأفكار الواردة في كتاب كريم مروة "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي"؟
أولاً، لأن موضوع الكتاب، كما يشير إليه العنوان، هو، حسب رأيي، موضوع أساسي في إطار الوضع الحالي للبنان وسائر البلدان العربية. وله أثره الخاص في طبيعة المسار المستقبلي للتطور العام للمنطقة، في حال نجاح بناء هذا التيار، أو في حال فشله.
نحن بدورنا، كما كريم، ندرك ونقدر حجم الصعوبات والعراقيل أمام إنجاز هذه المهمة. فالنهج المنحرف والخاطئ، وطنياً ومبدئياً الذي مارسته قيادة الحزب الشيوعي الرسمية في السنوات الأخيرة، أفقد الحزب استقلاليته العملية وضرب وره السياسي الخصا المبادر. وهذا خلق إحباطاً معنوياً عاماً – لا عند الشيوعيين وسب، بل عند الجمهور كذلك. وجاءت التركة السياسية السلبية الثقيلة التي سببها فشل التجربة الإشتراكية الأولى لتزيد وتعمق حالة الإحباط العام، خاصة مع ما لوحظ من تنشيط لعمل الأجهزة الإيديولوجية لأعداء الإشتراكية، على تنوعهم، لتعميم حالة الإحباط وخلق حالة نفسية لتقبل التكيف مع الحالة الجديدة التي تتمثل بسلسلة المشاريع الموجهة إلى منطقتنا من قبل الولايات المتحدة خصوصاً، ومن قبل إسرائيل، وضرورة الإستسلام لها باعتبارها قدراً بالنسبة إلى شعوبنا حاضراً ومستقبلاً.
ثانياً، لأن المنهجية التي اتبعها كريم في معالجتهخ للقضايا الواردة في الكتاب، لا تؤدي، حسب قناعاتي، إلى تحقيق الغاية التي ابتغاها. ذلك لأن طروحاته وأفكاره جاءت عامة ومشتتة، مع غياب تراتبية منطقية تنتظمها وتوحدها. كما أنه حدد أهدافاً، دون أي تبرير لها بالشروط السياسية والإقتصادية والإجتماعية التي تتطلبها أو تفترضها، وفي كثير من الحالات لاحظنا تناقضاً بين الأهداف من حيث الطبيعة من جهة، ومن حيث إمكان تحقيقها من جهة أخرى. وهذا الأمر يشي بأن لا قراءة حقيقية (عميقة وشاملة) للوقائع الراهنة محلياً وعربياً وعالمياً.. لتحديد طبيعة المتغيرات وحجمها على مختلف هذه المستويات جميعاً. وبالتالي ما كان بالإمكان استخلاص استنتاجات جديدة، ولا وسائل جديدة مقنعة. وهكذا بقيت الأهداف "دون اختراع شيء غير موجود" كما يعترف كريم نفسه في الصفحة 75. وبالتالي ظلت هذه الأهداف تكراراً لتمنيات خيرة قديمة، لا أكثر ولا أقل.
بعد قراءتي الثانية للكتاب، يتراءى لي أن مكمن الخطأ في المقاربة المنهجية المتبعة ينكشف في دعوة كريم لضرورة قراءة المستجدات العالمية والعربية والمحلية قراءة "غير أيديولوجية، قراءة موضوعية!" كما يقول. هذا الطرح يبين أن مفهوم كريم للإيديولوجيا يعني أنها تتعارض مع الموضوعية! من هنا لا بد من تحديد معنى الإيديولوجيا كمهمة أولى، لكي يتسنى لنا في ضوء ذلك تحديد العلاقة بين الإيديولوجيا والواقع الموضوعي. وذلك لتبيان هل هذه الإيديولوجيا، حقاً، تتعارض مع الموضوعية أم لا؟ فإن تحقيق هاتين المهمتين يتيح لنا تفسير ذلك التشوش الناتج من الإلتباس الناشئ عن مفهوم الإيدويولوجيا في صفوف قوى اليسار عموماًًًًً، الذي ينبغي رؤيته وإعلانه، لا إخفاؤه، خصوصاً بعد سقوط التجربة الإشتراكية. وينبغي الإعتراف بأن خصوم اليسار يستخدمون، بذكاء، حالة الإلتباس هذه، لمحاصرته وعزله وشله عن الفعل على المسرح السياسي.
إن الإيديولوجيا، حسب فهمنا لها، في ضوء مادية ماركس الديالكتيكية – التاريخية، هي أحد مكونات البناء الفوقي للمجتمع، الذي يعبر ويعكس فكرياً تناقضات البناء التحتي وحركيته، وعلى وجه الخصوص التناقض الأساسي، أي التناقض بين الطبقتين الاساستين في المجتمع المعين. بهذا المعنى ينتفي ويسقط الكلام عن وجود إيديولوجيا واحدة، من حيث المضمون والوظيفة، أي من حيث الإستهداف. على هذا الأساس كذلك، ينتفي وصف الإيديولوجيا بأنها ظاهرة غير موضوعية. ولكن عند تفسير دورها السياسي والإجتماعي لا بد من الأخذ في الإعتبار مدى عكسها لمصالح أي قطب في التناقض الأساسي. بمعنى آخر، يجب التحديد هل هي تعكس القوانين الموضوعية الدافعة للتطور الإجتماعي (أي التعبير عن مصالح القطب الإجتماعي التقدمي في المجتمع)، أم أنها تسعى إلى عرقلة مسار هذه القوانين؟ (بحكم تمثيلها لمصالح القطب المحافظ أو الرجعي في المجتمع).
إن هذا التحديد المبدئي العام، التخطيطي لدور الإيديولوجيا ليس تحديداً مغلقاً بصورة مطلقة، بمعنى أنه لا يمنع بروز ظاهرات "شاذة" عن هذه القاعدة في الحياة السياسية والإجتماعية والفكرية في جبهتي هذا الإنقسام الإستقطابي المحدد نظرياً. فليست نادرة الحالات التي تطلق فيها شخصيات متنورة، منفتحة على المستقبل، بحكم ثقافتها العميقة وإنسانيتها، مواقف وشعارات تخدم مصالح التقدم والديمقراطية في المجتمع، رغم انتمائها إلى الطبقات السائدة. وفي المقابل ثمة مواقف وشعارات غير قليلة يطلقها بعض من صفوف الطبقات ذات المصلحة في التغيير، تصب على الصعيد العملي، في الإتجاه المعاكس لمتطلبات الممارسة المتوافقة مع القوانين الموضوعية للتطور بدوافع وأسباب ذاتية. وتتجلى هذه المواقف بصورة خاصة في اتجاهات فوضوية تضفي على النضال وشعاراته أحياناً "شحنة ما فوق الثورية" مما يبطل هذا النضال ويجهضه. أو تتجلى بطروحات تبرر التكيف مع الواقع القائم وتجمله بحجج مختلفة باسم الواقعية. وقد شهدت الحركة الشيوعية واليسارية عموماً، نماذج مختلفة من الصنفين- أدت إلى نتائج بالغة الخطورة، كما هو معلوم.
إن هذا الإلتباس في فهم "الإيديولوجيا" ودروها، (الذي هو أحد المظاهر الرئيسية في خلل المنهجية التي اتبعت في الكتاب)، كما أرى، هو الذي أدى – في أغلب الظن، إلى الإرتباكات في التحليل والتقويم لكثير من الظاهرات والمسائل سواء على الصعيد الفكري العام أم على الصعيد السياسي. ومن الطبيعي أن يكون لهذه الإرتباكات أثرها في الإستنتاجات التي بنيت على ذاك التحليل والتقويم. أشير هنا إلى بعض النماذج الرئيسية التي لها علاقة مباشرة بمسائل تأسيسية يقوم عليها بنيان الكتاب، وتحديداً القضايا التي تتعلق ببناء اليسار الجديد... وصوغ برنامج هذا اليسار... الخ، حيث أسند ذلك كله إلى فهم خاص للعولمة ودورها، وإلى تحليل معين للأزمة المالية الحالية وأبعادها...وتقدير غير واقعي لطبيعة العلاقات الدولية ومستقبلها ودور الأمم المتحدة... وطرح مفهوم الحضارة العالمية الجديدة على هذا الأساس... وتفسير مفهوم الدولة من حيث المبدأ وفي الممارسة.. بصورة ذاتية وتحليل الكيفية التي جرت بها أوضاع بلداننا في ظل هذه المفاهيم... الخ، وكان لا بد من نقاش الطروحات المتعلقة بهذه المواضيع من أجل التمهيد لما نعتقده أسلم واصح من الناحية النظرية والسياسية لإعادة بناء اليسار الجديد وتأسيسه.
ثالثاً، بنيجة القراءة النقدية الإجمالية للكتاب خرجت بقناعة بأن ما نحتاج إليه لتجديد اليسار، بل لإعادة تأسيسه، هو أكثر وأبعد من تعداد مطالالب ومهام عامة يراد تحقيقها! فالمهم العشرون التي يحددها كريم كبرنامج لعمل اليسار ليست كافية لبناء هذا اليسار. إننا أمام معضلة أكبر وأكثر خطورة. إننا أمام ضرورة تبرير وجود اليسار نفسه من جديد، بعد الإنهيارات والهزائم، وبعد ما أدت إليه من إحباط عام ما زال يشل الفكر والعمل عند أوساط واسعة من الناس. ونحن نرى بأن هذا التبرير المطلوب لوجود اليسار له وجهان: الوجه الأول يتعلق بتبرير وجود اليسار كقوة سياسية مميزة على قاعدة التناقضات العالمية، سواء تلك الناتجة من استراتيجية العولمة تجاه لبنان والبلدان العربي، أم تلك الناتجة من تناقضات وتصادمات المصالح بين القوى الإجتماعية والسياسية الداخلية... والتفاعل والإحتمالات الناشئة عن ذلك... والوجه الثاني يتعلق بتبرير الأهداف المميزة التي يسعى اليسار إلى تحقيقها تبريراً منطقياً، علمياً موضوعياً مع تبيان أشكال واساليب تحقيق ذلك، والمراحل المتدرجة (أوالمتتابعة) في هذه العملية السياسية الإجتماعية... الخ.
هذا المنحى من العمل لإعادة تاسيس اليسار وفق رؤية تجديدية هو وحده يمكن أن يساعد على تقريب مختلف قوى وفصائل اليسار وتياراته وتوحيد جهودها على أساس طوعي وديمقراطي. وهذا المنحى بالذات يتيح تخفيف، ثم إزالة، آثار الإحباط الذي يشل النشاط السياسي للجماهير، وبالتالي يهيئ الظروف تدريجاً لبناء الكتلة الشعبية التاريخية التي بمقدورها إجراء التغيير الديمقراطي.
لا شك أنه طريق نضالي صعب ومعقد وطويل... إلا أنه الطريق الواقعي الوحيد لتحقيق هدف التغيير الديمقراطي.
مقدمة كتاب المؤلف "كيف السبيل"
يناقش فيه كتاب كريم

مروة الذي لا يكلّ واليسار المحتضر

يجب التمعن بعين العقل التي تخترق ظاهر
المسائل وتتعمق أبعد من الأوجه المتلونة للأحداث.
هيغل

جهاد شمص
كاتب (لبنان)
شهد قصر الأونيسكو، في سياق نشاطات "بيروت عاصمة الكتاب"وبرعاية وزارة الثقافة الاحتفال بنشر مؤلفٍ جديد بعنوان " نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" للمفكر كريم مروة. وقد سبق الكتاب سلسلة من الأعمال والمقالات تعكس تطور أفكار المؤلف.
كريم مروة، إبن عائلة شيعية معروفة بالتقوى، لم يحقق أمنية والده المميز بالمرونة والانفتاح بأن يصبح عالماً دينياً كالعديد من أقربائه. لكنه أصبح بالأحرى مناضلاً لا بل،بعد فترة وجيزة، قائداً من الصف الأول في الحزب الشيوعي اللبناني. وقد عرض تلك المسيرة في كتاب " كريم مروة يتذكر: في ما يشبه السيرة" حيث حاوره صقر أبو فخر. كما كان قد نشر كتابين: "في البحث عن المستقبل" و "الشيوعيون الأربعة الكبار في تاريخ لبنان الحديث" اللذان يبدوان كتمهيد لكتابه الأخير.
يستوحي المؤلف من تجربته الطويلة كقائد شيوعي لبناني لمراجعة مسيرته بمنظار نقدي راهن مستبصراً في الوقت عينه الآفاق لتلمس درب يتيح "لليسار"، على اختلاف تلاوينه، الخروج من الطريق المسدود حيث يجد نفسه الآن.
التحدي الذي يواجهه كريم مروة أكثر تعقيداً من ذلك؛ فقد بذل أكثر من خمسين عاماً، ومعظمها في موقع قيادي، في قلب حركة شكّل إنهيارها المروع خطراً حقيقياً على القيم ذاتها المفترض أنها المدافعة عنها: العدالة الإجتماعية، الإشتراكية، إنعتاق المظلومين إلخ...
أثارت مقاربة ومنهجية مروة وستثير بالطبع ردود فعلٍ متنوعة. فالبعض من " رفاقه السابقين في النضال" لا يوافق إطلاقاً لى هذا النوع من "الهرطقة". والبعض الآخر يرى أن الهزيمة تنحصر ببلدان المعسكر الشرقي وبحلفائه. ويبحث متفانون في معاداة الإمبريالية عن جينات ملائمة عند كل من يرفض "العولمة"الشيطانية مهما كان الدافع الحقيقي لتلك "الممانعة".
لكن البعض أيضاً يتسائل إذا ما كان بإمكان كريم مروة، بعد إنهيار المشروع الذي كرس له تلك الحقبة من حياته، أن يتقدم بإقتراحات صالحة وقابلة للتحقيق ليسار معاصر! بل أن البعض يناقش مبرر وجود يسار.
من الواضح أن كريم مروة يسعى للمساهمة في النقاشات، لابل وحتى في الجهود لإعادة صياغة وإطلاق تيار يساري أكثر تكيفاً مع متطلبات العصر، بمفهوم متحرر من كل دوغماتية، حيث لا تصبح "الثورة"بديلاً بذاتها عن الإرتقاء مما يولد هجائن مبهمة الملامح تلحق الضرر بالتطور الذي يشكل القوة المحركة للتاريخ.
إن مساهمة كريم مروة، ومثيلاتها بنوايا مشابهة، مفيدة بالضرورة. إن الشاغلين الحاليين للموقع الذي أخلاه اليسار السابق، والذين يطرحون أنفسهم كمالكين حقيقين إستعادوا ما كان قد انتزع منهم بشكلٍ طارئ، يعيدون إنتاج نفس النوع من العدمية المدمرة التي أدت إلى سقوط حركات طرحت نفسها كمجسد ومحقق لأفكار العدالة والتقدم. ومن قبيل الصدف أن حرف الراء ‘ R’ الفارق بين كلمتي "ثورة" و"إرتقاء" بالأجنبية "révolution’-évolution" يطرح بعض الصعوبات على عدد من "المعادين الجدد" للإمبريالية.
مقال أرسل للنشر في الكتاب

الليبرالية بصفتها يساراً: كريم مروّة نموذجاً

سلامة كيلة
كاتب (سوريا)
عاد الرفيق كريم مروة يدعو إلى إنهاض اليسار في "العالم العربي" بعد رحلة "نقدية" طويلة، بدا فيها كأنه ينقلب على أصوله، وهو المدمج في تاريخ الحزب الشيوعي اللبناني لكأنهما واحد. وفي هذه الرحلة "النقدية" الطويلة شدد "النقد" على الماركسية إلى حدّ الدعوة إلى تجاوز ماركس، وعلى التجربة الاشتراكية إلى حدّ الدعوة إلى محاكمة لينين. وكان مفصل النقد، ككل الموجة التي سادت منذ انهيار المنظومة الاشتراكية، هو الديموقراطية. والسؤال الذي يفرض ذاته ونحن نتلمّس عنوان كتابه الجديد: نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي (إصدار دار الساقي)، هو، ما اليسار الذي يقصده صديقنا كريم؟
يبدو من كل ما أورده كريم أن اليساري اليوم هو من ينطلق من طبيعة مهمّات المرحلة التالية لانهيار التجربة الإشتراكية، والرامية إلى إحداث "التغيير الديموقراطي". وهو "الاشتراكي"، وانطلاقاً من "منهج ماركس المادي الجدلي"، يدعو "كمهمة لها الأولوية القصوى، إلى بناء الدولة الحديثة"، "وهي الدولة الديموقراطية بالمعنى الحديث والمتطور للديموقراطية"، "دولة الحق والقانون". لكن كريم، على عكس ما يفرض منهج ماركس المادي الجدلي، لا يشير إلى معنى الدولة الحديثة، ويتبنى "الحق والقانون" دون أن يتساءل عن ماهيتهما كما فعل ماركس حين نقد "فلسفة الحق عند هيغل". وهو ينطلق من أن التغيير الديموقراطي يفرض شن هجوم على التغيير الثوري، والعنف، والثورة. وبالتالي، سيبدو أنه اتكاءً على "مهمات المرحلة" ومنهج ماركس، وعلى ضوء انهيار الإشتراكية، يعود من ماركس إلى ما قبل هيغل بدل أن يتقدم إلى الأمام استفادةً من التجربة الإشتراكية، وفهماً لطبيعة المهمات التي يطرحها العصر.
يطرح مروّة "الشعارات" العامّة التي جاءت بها أفكار النهضة الأوروبية
هل هذا يسار؟ سنلمس أن ما هو مطروح هو "الشعارات" العامة التي جاءت بها أفكار النهضة الأوروبية قبل كل التحوّل الكبير الذي تحقّق بانتصار الرأسمالية، من حيث عموميتها، ومن حيث تجردها من الأساس الطبقي. فأيّ دولة؟ وأيّ حق؟ وأيّ قانون؟ ربما كانت هذه الأفكار صحيحة حينها لكونها كانت تتأسس في تضادّ مع فكر القرون الوسطى، الذي لم يكن يعرف الحق والقانون، وكانت الدولة هي الفرد الحاكم، لكنها أصبحت جزءاً من التشكيل الجديد، وبالتالي تموضعت طبقياً، فأصبحت المساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية تعني المساواة أمام القانون، الذي هو قانون الرأسمالية المنتصرة، والذي يقرّ باللامساواة في الملكية، ويشرّع الإستغلال. وأصبحت الدولة التي هي "فوق الطبقات"، كما ينطلق كريم في هذا الوقت من القرن الواحد والعشرين، هي دولة الرأسمالية في مواجهة العمال. وتحوّلت العدالة إلى تفارق طبقي هائل، وتحدَّدت في حق الحصول على الأجر فقط. وكانت مهمة ماركس هي كشف هذه العمومية التي تسم هذه المفاهيم، وتحديدها طبقياً، وهو ما أقام عليه تصوره انطلاقاً من الجدل المادي، الذي تحددت ماديته من كونه قد انطلق من الإقتصاد والطبقات لا من الأوهام الإيديولوجية مثل "دولة الحق والقانون"، و"الدولة الديموقراطية". فقد فسّر هذه الأفكار انطلاقاً من الأساس المادي الذي أوجدها، ولماذا أصبحت شعار الرأسمالية؟ وكيف كانت تغطي على التمايز الهائل في توزيع الثروة؟ وبالتالي ليوضح الطابع الطبقي للدولة، والقانون والحق. ويؤسّس على ضوء ذلك رؤية مختلفة، تنطلق مما هو اقتصادي وطبقي، وتؤسس لرؤية تمثّل الطبقة العاملة. هنا كريم، وباسم منهج ماركس، يعود إلى ما قبل ماركس، إلى الأفكار العامة التي نتجت من عصر الأنوار، قبل أن تصبح جزءاً من التكوين المجتمعي، والوعي الإجتماعي، أي قبل أن تتموضع ويتحدّد معناها في سياق صراع الطبقات. وإذا كان يدعو إلى الإنطلاق من العصر، نجده يستحضر أفكاراً تبلورت قبل ثلاثة قرون، ويعتقد بأنها تمثّل أساس نهضة اليسار في القرن الواحد والعشرين. وقد يكون وضعنا هو الذي يفرض البحث عن الحق والقانون والدولة، حيث ما زالت تسكن فينا، وفي الواقع، بقايا القرون الوسطى، التي هي الأساس الذي ينتج هذه الأوهام، وبهذا الشكل. لكن حاجتنا إلى الدولة والحق والقانون تفرض أولاً، أن لا يظل المنطق الذي يحكمنا هو منطق القرن الثامن عشر، بل أن ننطلق من منهج ماركس الذي يبدأ من الإقتصاد والطبقات، وبالتالي تفسير استمرار القرون الوسطى في الواقع، وعدم تحقّق الحداثة التي انتصرت في أوروبا، والتي تشمل الحق والقانون والديموقراطية والعلمانية...، انطلاقاً من هذا المنهج. وملاحظة أن انتصار كل ذلك في أوروبا تحقق بعد التحوّل الكبير الذي تحقّق في البنية الإقتصادية مع نشوء الصناعة. ومن ثم الإجابة عن سؤال لماذا لم تنجح كل محاولات التطوّر عندنا؟ وهل كان ذلك نتيجة تخلّف الوعي وعدم التمسك بالدولة والحق والقانون؟ إن ما يطرحه كريم (وأكثر منه) كان أساس مشروع النهضة العربية، الذي لاقى الفشل، فلماذا لم يتحقق؟
إن الإنطلاق من الأفكار لا يفسّر شيئاً، ولهذا ظل كريم في "الأفكار". واللافت هو أنه بات يعدّ المفاهيم الليبرالية هي اليسار، وبات يطرح مهمات لا تخرج عن أيّ تصور ليبرالي، ويميل إلى التكيف مع المنطق العام الذي تفرضه الرأسمالية، كل ذلك باسم اليسار. وكلنا نريد "دولة الحق والقانون"، و"الدولة الحديثة"، لكنّ المسألة تتعلق بتحديد السياق الذي يمكن أن يتحقق فيه ذلك. وهل يمكن أن يتحقّق دون تحقيق التطور الإقتصادي؟ وهل يمكن تحقيق كل ذلك في إطار رأسمالي، أم أن وضع القرن العشرين، ثم القرن الواحد والعشرين يفرض أن تُطرح في سياق مختلف؟
الصديق كريم يهرب من الطبقات والتحديد الطبقي، ليتحدث عن "القاعدة الإجتماعية لمشروع التغيير" لكونها قد "توسّعت، وهي تتوسّع باستمرار، لتشمل أوساطاً جديدة"، وهي أوسع من الطبقة العاملة، كما يشير. لكن هذا الأوسع كان منذ زمن بعيد، حيث إن الوضع في بلداننا كان، وما زال، يفرض تحالفاً واسعاً، فما الجديد الذي يأتي به سوى تمييع اليسار، أي تمييع أفكار اليسار لكي تتحوّل إلى ليبرالية؟
الصديق كريم، لا شك في أن رؤية الحركة الشيوعية كانت خاطئة، ولا شك في أن التجربة الإشتراكية قد انهارت، لكن ليس البديل هو الليبرالية القديمة، ليبرالية الأفكار العمومية. وليس البديل هو تكرار المواقف ذاتها تحت مسميات رؤية جديدة ويسار جديد. هل تعتقد بأن الحركة الشيوعية كانت تهدف إلى تحقيق الإشتراكية في بلداننا؟ ألم يكن هدفها الأساس هو "الحكم الوطني الديموقراطي"، الذي بتّ تسمّيه "الدولة الحديثة"؟ ألم تقبل الدولة الصهيونية ورفضت العنف، وتحدثت عن التضامن العربي، وأسست على ضرورة انتصار البورجوازية؟ ماذا تضيف إذاً؟ باستثناء، ربما، التكيف مع الرأسمالية الراهنة بدل الموقف الشيوعي القديم ضد "الإمبريالية ومشاريعها".
لسوء الحظ، ما زال منهج ماركس بعيداً عن الفهم، وطموح التطور ما زال ملتبساً، ودور العمال ما زال مجهولاً. كما لا نزال ندور في فلك الرأسمالية، ولم نلحظ أنها باتت هي الواقع القائم، وأن كل الأزمات القائمة هي نتاجها، وبالتالي أن التطور يفرض تجاوزها. ومن المؤسف أن كريم مروة ينظّر مساره السابق في الإطار الليبرالي، لكن يمكن القول بأن الوعي "الماركسي" الذي تشبّعه، كما كثير من الشيوعيين، يوصل فقط إلى أفكار القرن الثامن عشر، لكن تلك "الماركسية" كانت صورية، لوّنت المنطق الصوري أكثر مما كانت تجاوزاً له. وهذا ما نلمسه في كتاب "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي".

نشر في جريدة السفير
في ١٠ أيلول ٢٠١٠

كريم مروة: خطوة إلى الأمام... خطوتان إلى اليسار

كمال اللقيس
كاتب (لبنان)
إذا ما اتفقنا على أن وجود اليسار هو ضرورة موضوعية وحاجة وطنية قومية وعالمية، جاز الحديث والبحث عندئذ عن نهضة جديدة أو عن مفهوم جديد لليسار. ولأن شبح السقوط المدوي لما كان يسمى اصطلاحاً بالتجربة الإشتراكية المنجزة، ما زال وسيظل يخيم على العالم إلى أمد غير منظور، سيبقى هاجس الخروج من المأزق نحو أفق يساري ما، يكتسب مشروعية راهنة ومستقبلية.
كريم مروة، ذاك المفكر الشيوعي الذي يهجس دائماً بالجديد ويواكب حركته، الذي عارك وجادل في شأن اليسار وناضل في سبيله، يقدم مساهمة في هذا المجال من خلال كتابه الجديد "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" الصادر عن دار الساقي 2010، والذي يضم في دفتيه قسمين.
يتناول القسم الأول عدة مواضيع نذكر منها: اليسار في العالم العربي وتحولات العصر، الأزمة المالية العالمية الجديدة، نحو نظام عالمي جديد، المرتكزات الأساسية في مشروع الغيير باسم اليسار.
ويضم القسم الثاني نصوصاً منتقاة من ماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي.
وقبل الولوج في مناقشة الكتاب أظن بأن هذه العجالة لن تفي القسم الثاني منه حقه من البحث النظري المعمق للماركسية عبر ممثليها الكلاسيكيين، فهو قد يشكل مادة لمقال ثان في المستقبل من الأيام. مع التشديد على العروة الوثقى بين جزأيّ الكتاب:"إن ثمة تواصلاً دائماً بين أحداث التاريخ الكبرى، والأفكار التي تولد في رحمها أو تسهم في صنعها، وأن الجديد من الأحداث الكبرى ومن الأفكار المتصلة بها إنما تولد من ذلك القديم، ويتخذ له بعد الولادة كياناً مستقلاً وسمات خاصة في شروط عصره..." (المقدمة، ص9).
وبقدر ما يبتعد المرء عن إطلاق أحكام حتمية وعن استخدام عبارات حاسمة، بقدر ما يقترب من العلمية أكثر. وبقدر ما يتحرر اليساري الشيوعي من ثقل التجربة الماضية مع عدم القطع معها نهائياً، بقدر ما تنضج يساريته وتتفتح. وفي هذا الصدد- وعبر اللغة غير القطعية-، أزعم بأن الكاتب عمد ونجح في استدراج المتلقي اليساري تحديداً إلى ملعبه، وتواطأ معه إيجابياً وضمنياً على بلورة مشروع يساري مستقبلي من خلال اختبار مادة الكتاب ومناقشتها. أما الشرطان الضروريان لتحقيق هذا الهدف فمتوفران:
1- هاجس الكاتب وقلقه على مشروع اليسار
2- توخي الدقة والموضوعية في طرح المشكلة الأزمة.
ويبدو أن الكاتب قد أفاد من خبرة الأيام وتجارب التاريخ، فجاءت أفكاره الأساسية نهضوية أي منسجمة مع عنوان كتابه وهي تلخص بالتالي:
أولاً: تجنب الصيغة التقريرية وهذا ما ظهر في السطر الأول من الكتاب: "هذا الكتاب هو محاولة مجرد محاولة... وهي أفكار أحاول فيها وباسمها الإسهام في تقديم تصوّر جديد لليسار..". ويضيف مروة: "أما الهدف الثاني فهو استكمال معرفة أو محاولة معرفة ما توصل إليه ماركس.." (ص 8). وفي موقع آخر، ينبه القارئ "إلى أنني لا أدعي في هذا التقديم للكتاب، وفي الكتاب ذاته، أنني سأقدم إجابات عن الأسئلة الكبرى التي تطرحها الأزمة الراهنة لليسار. كلا قطعاً" (ص 10).
ثانياً: التحرر من عبء الأيديولوجيا في قراءة التجربة الفاشلة. وهذه خطوة جد جدية في الإتجاه الصحيح: "أما الشرط الثاني فهو أن تقوم هذه القوى الجديدة لليسار خصوصاً بقراءة غير أيديولوجية، أي من دون أفكار مسبقة، قراءة تتميز بقدر عال من الدقة والعمق والموضوعية... والوظيفة الأساسية لهذه القراءة هي تقديم العناصر التي يمكن هذا اليسار الجديد أن يستند غليها في تحديد أهدافه الملموسة بواقعي، وفي تحديد وسائط نضاله بواقعية أيضاً، من أجل تحقيق هذه الأهداف" (ص 9). وللتدليل على صحة هذا الزعم أحيل القارئ الكريم إلى ما قاله يوماً لويس ألتوسير بأن أدلجة ماركس أماتته كفيلسوف وكإقتصادي فذ.
ثالثاً: الإلتفات إلى الجوهر الفعلي لنضال اليسار، إلى النواة الإجتماعية، أي إلى الإنسان الذي ظلم وغُيِّب في التجارب التاريخية السابقة "... إلا أن لنضالنا الجديد.. أشكالاً جديدة، علينا أن نحددها بدقة وبواقعية آخذين في الإعتبار مبدأ أساسياً يتصل بالإنسان وبحريته وبحقه الأساسي في الحياة، أي أن علينا أن نتجنب في نضالنا الصعب القادم.. الإستهانة بحقوق الإنسان والإستهانة بحياته..." (ص 19).
ولأن مشورع اليسار لا يتحقق بإيعاز من قوى مما فوق طبيعية، أو من خلال أحلام طفولية ورغبات بشرية مشروعة، ولاستكمال حلم ماركس في التغيير، فإن على اليسار أن يعي بأنه لا يتحرك في الفراغ، بل أن نضاله سيكون بالغ التعقيد والصعوبة" (ص 27).
ومع اقتراب الكاتب من ملامسة لب القضية، أي نهضة اليسار، نراه ينفض عن كاهله ما علق به من تميمات وإسقاطات ويقينيات لطالما كبلت اليسار الماركسي وجعلته أسير قراءة صنمية للماركسية أفرغتها من روحها أي من جدليتها "التي تحترم اختلاف المراحل واختلاف الشروط التاريخية بين مرحلة وأخرى واختلاف المهمات" (ص56). أعتقد أن الكاتب هنا يلهج بلسان حالي وحال الكثيرين الحريصين على نهضة اليسار من كبوته لا بل سباته: "مهمة اليسار الجديد في هذا الظرف التاريخي بالتحديد هي العمل على تحديد دقيق وواقعي للأهداف الممكنة التحقيق، الأهداف التي تتصل بنقل بلداننا من حالتي التخلف والإستبداد ووضعها على طريق الحرية والتقدم واحترام حقوق الإنسان وإدخال القوانين الديمقراطية إلى مؤسسات دولها التي تجعلها جزءاً من العصر ومن تحولاته" (ص54).
"لكنني وأنا أتحدث هنا كإشتراكي بحكم انتمائي التاريخي إلى الإشتراكية، بت أختلف في أمور جوهرية مع عدد غير قليل من مفاهيم ماركس التي شاخت وصارت جزءاً من الماضي وتغيرت علاقتها بالعصر. الإ أن اختلافي هذا مع تلك المفاهيم لا يلغي ارتباطي الأساسي بما حلم به ماركس... على امتداد حياته، من تأكيد على أن الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، هو جوهر الحياة وهدف التقدم في كل ميادينه".
وحسناً فعل الكاتب –قبل تقديم مقترحاته لنهضة اليسار- عندما حدد مفهومه لليساري اليوم: "اليساري، إذن، يمكن أن يكون متأثراً بأفكار الإشتراكية منذ ماركس حتى اليوم، ويمكن أن يكون عضواً في حزب إشتراكي، أو شيوعي، أو في حزب قومي متأثر بالإشتراكية. ويمكن أن يكون ديمقراطياً بالمعنى الواسع للمفهوم. لذلك فاليساري الذي أتوجه إليه في هذا البحث... هو... الذي يريد لبلده الحرية والتقدم اللذين لا يمكن تحقيقهما إلا بالنضال لإحداث تغيير جوهري في الوضع القائم" (ص66). ويعتقد الكاتب "بأن الوظيفة الأساسية في تقديم القضايا الآتية الذكر كبرنامج لليسار الجديد هي تسليط الضوعلى الواقع القائم، وإثارة النقاش حوله من أجل خلق وعي جديد يمهد لنهضة جديدة لليسار في العالم العربي" (ص77).
ونذكر بعض من هذه القضايا مثل: بناء الدولة الديمقراطية الحديثة. تحقيق التقدم الإقتصادي. التنمية الإجتماعية والبشرية. الإهتمام بالشباب تنشئة وتعليماً. حقوق المرأة. الإهتمام بالبيئة. القضية الفلسطينية. حماية الأقليات في العالم العربي. التعاون بين قوى التغيير في العالم العربي.
ومع تقدير الكبير لكل ما تم استعراضه من قضاي مقترحة لبرنامج اليسار الجديد، أعتقد بأن ثمة قضيتين لم يؤت على ذكرهما: قضية النضال من أجل عالم خال من السلاح النووي. وقضية إعادة التفكير في الهيكلية المركزية والمقفلة لأحزاب اليسار باتجاه اعتماد النسبية في التمثيل لمختلف الآراء والإجتهادات.
وسأسمح لنفسي في الختام، أن ألخص كل ما ورد من قضايا في كلمة واحدة هي أن على قوى اليسار أن تلج الحداثة من بابها العريض. وعليها بعد التصالح مع ذاتها وواقعها، أن تعترف- إن أرادت ألا تتخلف عن حركة الحياة- بأن العولمة هي ظاهرة موضوعية ذات اتجاه تقدمي وبأن الووف في وجهها يعتبر موقفاً رجعياً.
وعليه، فهذه القوى منوط بها أن تنخرط بقوة في هذه العولمة، وتناضل بكل الأشكال وفي كل الساحات لأنسنتها كما ورد في متن الصفحات الأخيرة من القسم الأول من الكتاب.

نشر في مجلة الأفق اللبنانية في حزيران 2010

نظرة يسارية إلى الأمام

عطية مسوح
كاتب (سوريا)
يثير المفكر الماركسي كريم مروة لدى قارئه الجاد نزعة التفكير والحوار. فهو يطرح أفكاراً عميقة جريئة، تستند إلى تجربته الغنية في العمل السياسي والفكري وثقافته الواسعة المتنوعة وطموحه الصادق إلى العدالة والحرية.
كريم مروة ينظر إلى الأمام. وحين يراجع ماضي الحركة اليسارية العربية عامة، والشيوعية خاصة، فإنه يفعل ذلك مدفوعاً بهاجس النهضة والتقدم. فالماضي عنده تجربة ينبغي أن تدرس دراسة نقدية، لا لتدقيق الماسرات تدقيقاً جزئياً فقط، بل لإحداث الإنعطافات حين تقتضي الضرورة. وقارئ كتابه الجديد "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي" يلمس أن الضرورة قائمة، وأن مسيرة اليسار العربي الذي هو حاجة موضوعية لا غنى عنها لتحقيق نهضة العربوتحزرهم وتقدمهم تحتاج إلى انعطاف جذري في بنية هذا اليسار ومضامينه وجدول أعماله، وأن الحوار حول هذا الإنعطاف مهمة كبيرة أمام اليساريين العرب، للوصول إلى حركة، أو حرات يسارية يكمل بعضها بعضاً، تستطيع النهوض بأعباء المرحلة، والتواصل مع اليسار العالمي، لمواجهة التوحش الرأسمالي المعولم وحماية الإنسان وقيمه.
الكتاب، وهو صادر عن دار الساقي عام 2010، يتكون من قسمين، الأول بعنوان "اليسار العالمي وتحولات العالم المعاصر"، والثاني عبارة عن نصوص مختارة لماركس وإنجلز ولينين وبليخانوف وروزا لوكسمبورغ وغرامشي، اختارها المؤلف بدقة. وهي تؤكد نقطتين ركز عليهما المؤلف في بحثه، هما: ضرورة الإنطلاق من الواقع الموضوعي ومعرفة احتياجاته وتبدلاته، وتقديم ذلك على أية فكرة نظرية، والتحلي بالنزعة النقدية، التي تشمل نقد الواقع ونقد الآخر ونقد الذات.
ولعل هذه المختارات تعزز صدق ما عبر عنه المؤلوف بقوله إنه سيظل يستند في هذه الظروف والشروط الجديدة إلى منهج ماركس المادي الجدلي، ويتمسك بالخيار الإشتراكي والقيم الإنسانية.
في القسم الأول من الكتاب يطرح الكاتب عدداً من الفكر التي يشكل بعضها قاعدة ينطلق منها لوضع عشرين نقطة لا بد لليسار الجديد من الإستناد إليها حتى ينهض ويحقق الفاعلية. ومن هذه الفكر ما يتعلق بجوهر المرحلة العالمية الراهنة التي يناضل اليساريون فيها. وهي مرحلة العولمة، التي يحددالكاتب جانبيها الإيجابي والسلبي. فهي تحقق التقدم الشامل، وتشق أوتوسترادات المعرفة والإتصال، وتعمم الكثير من التقنيات الحديثة، وهي تزيد الإستغلال وتشدد الظلم والتمييز والتفاوت في الثروة، كما تدمر الطبيعة.
ويفيد الكاتب إلى الأذهان فكرة الحاجة إلى نظام عالمي جديد. لكنه يبين المعوقات التي تقف في وجه الوصول إلى هذا النظام. ويفصلها في عشرة معوقات يتصل معظمها بالرأسمالية العالمية والقوى المحافظة فيها. وهي قوى لا مصلحة لها بهذا النظام، ويتصل بعضها بضعف فاعلية الحركات اليسارية والتقدمية.
في هذه الظروف الدولية، وظروف التخلف العربي في كل جوانب الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، يرى الكاتب أن المطلوب من اليسار العربي أن يضع برنامجاً جديداً للتغيير، وأن يؤسس حركة معاصرة تقوم علاقتها مع اليسار القديم على أخذ الإيجابي والتخلي عن السلبي، وتحدد أهدافاً مرحلية واقعية تصب في الهدف الكبير وهو "نقل بلداننا من حالتي التخلف والإستبداد، ووضعها على طريق الحرية والتقدم واحترام حقوق الإنسان".
وبهذا المعنى، يؤكد الكاتب أن اليسار العربي معنى باستعادة حركة النهضة.
أما الفكرة الرئيسية التي يرى الكاتب ضرورة الإنطلاق منها لتقوية النزوع اليساري التغييري وتحقيق فاعليته في عالمنا العربي، فهي رحابة النظر إلى مكونات اليسار، أو ما سماه "التوسع في دائة أهل اليسار". فاليساري هو كل من يريد لبلده الحرية والتقدم سواء أكان شيوعياً أم إشتراكياً أم قومياً متأثراً بالإشتراكيةأم ديمقراطياً بالمعنى الواسع للمفهوم. إنه كل من يسعى إلى الخلاص من التخلف ويقف في وجه الغستقطاب الرأسمالي عالمياً ومحلياً".
هنا يوسع كريم مروة دلالة المفهوم، ويوسع بالتالي قاعدة النضال من أجل التحرر والتقدم والعدالة. لكن هذا التوسيع يعني المزيد من التنوع والتعدد في الحركة اليسارية. وهذا ما يقتضي شرطاً آخر للمارسة السياسية اليسارية. وهو أن تسود في الحركة ثقافة التنوع والتعدد وحق الأفراد والجماعات في التعبير عن الإختلاف.
وإذا كانت ثقافة التنوع ضرورية في الصف اليساري ذاته، فهي ضرورية في المجتمع كله. أما لصراع من أجل تحقيق الأهداف، بين اليمين واليسار، بين القوى المتناقضة في مصالحها ورؤاها فمن الضروري أن يجري بوسائل ديمقراطية، بعيداً عن العنف. وهكذا يؤكد الكاتب فكرة نبذ العنف من الحياة السياسية نبذا كلياً، منسجماً مع الهدف المرحلي الكبير الذي طرحه، وهو بناء الدولة الحديثة في بلداننا العربية. وهي الدولة الديمقراطية، دولة الحق والقانون.
بعد ذلك يطرح الكاتب عشرين قضية (أو مهمة) تشكل المرتكزات الأساسية لبرنامج التغيير اليساري الذي يقترحه، ويفصل في عرض هذه القضايا، التي هي القسم الأكثر أهمية في الكتاب.
لا يتسع المجال في هذه المقالة لعرض تلك القضايا العشرين بالتفصيل. وأي عرض لها لا يغني القارئ عن مطالعة الكتاب. لكنها قضايا تشمل كل جوانبالواقع بتجلياته العربية والقطرية، وانطلاقاً من مهمة بناء الدولة الحديثة، والمجتمع المدني بدلاً من المجتمع الأهلي، والتقدم الإقتصادي والتنمية والضمانات الإجتماعية، والثقافية والعلم، وقضايا الشباب والمرأة وغير ذلك.
أما القضية الوطنية والقومية فتحتل موقعاً مهماً. ففي الأولى يقدم الكاتب الإنتماء الوطني على أي انتماء آخر. وفي الثاني يدعو إلى التكامل العربي التدرجي وصولاً إلى الإتحاد العام بين الدول العربية، ويولي القضية الفلسطينية اهتماماً خاصاً.
يأتي ذلك كله بمضامين واقعية جديدة تعبر عن استيعاب معطيات العصر وإيقاعاته، ووضع اليد على أخطاء الماضي، والتمسك بأهداف التحرر والتقدم والعدالة.
الكتاب جدير بأن تعقد حوله ندوات ولقاءات حوارية. فقد يجد كثير من اليساريين في بعض أفكاره ما يخالف قناعاتهم وآراءهم. فأفكار الكتاب مغايرة لما هو مألوف في صفوف الحركات اليسارية التي ناضلت على امتداد القرن العشرين.

نشر في جريدة النور السورية

هل تنهض حركات اليسار من جديد في منطقتنا؟

سمير مرقص
كاتب (مصر)
حظيت دراسة الحركات الدينية السياسية فى منطقتنا العربية بالاهتمام العلمى على مدى عقود فى الغرب وعندنا.. من حيث بنيتها وتوجهاتها وأهدافها ومشروعاتها. وكذلك الليبرالية الجديدة التى صاغت نخبتها التوجهات الإقتصادية والتحولات السياسية النسبية فى المنطقة منذ الثمانينيات. المفارقة أن الحضور الإجتماعى والسياسى لكل من الحركات الدينية والليبرالية كان على حساب تراجع اليسار فى العالم العربى.. بيد أن الإهتمام بدراسة أفق تجدد حركة اليسار العربى بدأت فى البزوغ مرة أخرى فى السنوات الأخيرة.. وربما يكون من المفيد إلقاء الضوء على بعض هذه الدراسات..
شرطان لتجديد اليسار
فى مطلع هذا العام أصدر كريم مروة القيادى السياسى الماركسى اللبنانى المخضرم، كتابه المهم "نحو نهضة جديدة لليسار فى العالم العربى"، عن دار الساقى ببيروت.. حيث يحاول المؤلف أن يقدم فى هذا الكتاب "مشروعاً لنهضة جديدة لليسار فى العالم العربى، بعد الإنكسارات والتراجعات الكبرى التى شهدها هذا اليسار فى العقود الأخيرة..". وحيث يقترح جملة من "المبادئ والأفكار التى يراها ضرورية لخروج اليسار من أزمته الراهنة" بغية استخلاص العناصر الأساسية التى يمكن لليسار الجديد أن يستند إليها فى تحديد انطلاقته الجديدة وأهدافه ووسائل نضاله".. وللوصول لهذا الهدف وضع شرطين، الأول إعمال "القراءة النقدية الموضوعية لأحداث التاريخ القديمة والجديدة،.. لأن ذلك من شأنه امتلاك المعرفة التى تمكن من إدراك الأسباب الموضوعية المتصلة بإرادة البشر وبمستوى وعيهم، أو معرفة جوانب من تلك الأسباب الموضوعية التى حالت حتى هذه اللحظة التاريخية التى نحن فيها دون تمكن البشرية من تحقيق أحلامها العريقة والدائمة فى الحرية والتقدم والعدالة الإجتماعية مجتمعة ومتحدة".. أما الشرط الثانى الذى يضعه كريم مروة فهو القيام "بقراءة غير أيديولوجية للمتغيرات والتحولات التى تجرى فى العالم المعاصر..".
وفى ضوء هذين الشرطين يؤكد مروة حقيقة "أن ثمة تواصلا بين أحداث التاريخ الكبرى،والأفكار التى تولد من رحمها، أو تسهم فى صنعها، وأن الجديد من الأحداث الكبرى، ومن الأفكار المتصلة بها إنما يولد من ذلك القديم، لكن هذا الوليد الجديد لا يجوز له، ولا يستطيع موضوعيا، أن ينكر، أو أن يتنصل لصلة النسب التى تربطه بالتاريخ السابق على ولادته وبالأفكار التى كانت سائدة فيه باسم التقدم بمعانيه المتعددة التى يرمز إليها،علمياً ومعرفياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وإنسانياً".. فى هذا السياق يضع مروة التاريخ كمدخل لفهم الحاضر وإدراك المستقبل من جهة.. كذلك للتأكيد على وحدة التجربة الإنسانية..

اليسار: الفهم التاريخى
وإدراك التحولات المعاصرة
ينطلق الكتاب من المقارنة بين ثورة العبيد التى قادها سبارتاكوس فى الإمبراطورية الرومانية وبين ثورة الزنج فى التاريخ العربى الإسلامى.. ويقول إن فشلهما كان بسبب استخدام الثوريين لنفس الأساليب والطرق التى استخدمها الجلادون الذين ثاروا عليهم وكأنهم أعادوا إنتاج الظلم.. ويحيل مروة إلى الدراسة المميزة التى كتبها طه حسين فى مجلة الكاتب المصرى فى أربعينيات القرن الماضى والتى أشار فيها إلى "أهمية الثورتين، وإلى الخلل داخلهما الذى أسهم، إلى جانب عوامل خارجية، فى فشلهما"..
وانطلاقاً من هذا المثال يضع المؤلف بعض المبادئ لكيفية الدراسة الموضوعية من أجل فهم ما جرى عبر المسيرة الإنسانية إلى يومنا هذا، والأخذ بالسياق الموضوعى الذى جرت فيه كل ثورة وحدث فارق وأنتجت فيه كل فكرة على مدى التاريخ.. ويفرق مروة فى هذا الإطار، بين الأديان فى صورتها الثورية وبين حملة الشعارات الدينية من أدعياء الإنتماء للأديان كونهم باتوا نموذجا للحركات المعادية للحرية وللتقدم والمعادية للإنسان ولسعادته"..
والخلاصة، أن استحضار مجمل تلك الأحداث التاريخية وما جرى من ثورات وما انطلق من أفكار منادية بالحرية وبالتقدم للبشرية، يعكس تواصل وعدم انقطاع نضال البشرية من أجل نظام أفضل لحياتها، بيد أن هناك حاجة لفهمها بعناية.. وفى نفس الوقت ضرورة فهم ما طرأ من تحولات فى العالم المعاصر..
وفى هذا المقام، يحلل كريم مروة، الأزمة المالية الحالية فى ضوء الأزمات المتتالية للرأسمالية ويخلص إلى أن "رأس المال المعولم" نعم متوحش ولكنه كون مع تطوره اتجاها موضوعياً يقود إلى وحدة للعالم ينبغى الإقرار بها.. ولكن لابد أيضاً من تصحيح التعاطى معها بالقبول بإيجابياتها والتفاعل معها وبمواجهة ما يأتى منها من مظالم وذلك بتجاوز المواجهة من خلال استنفار الهويات الخاصة لأنها ستؤدى إلى نتائج غير التى نريدها.. كما لابد من توطيد مواقع الدولة الوطنية.. والإنخراط فى الإتحادات الإقليمية.. وأخيراً إنجاز برامج يسارية فى ضوء الواقع..

الحاجة إلى دراسات من نوع جديد
وعن بلداننا فى الداخل، اجتهد مروة، فى تقديم اقتراحات تحدد مهمات الحاضر والمستقبل.. ولعل من أبرز هذه المهمات: المعرفة الدقيقة للمتغيرات التى حصلت وتحصل فى مجتمعاتنا.. وهنا يتفق مروة مع روجر أوين (أكاديمى بريطانى الأصل يعمل بجامعة هارفارد الأمريكية ومتخصص فى قضايا الشرق الأوسط ومُلم بشئونه)، فى دراسته المعنونة: "جدول أعمال جديد لحركات اليسار العربية" (التى نشرها منذ سنتين)، حيث وضع مجموعة من المداخل الأساسية التى يجب أن تنطلق منها حركات اليسار العربية والتى سوف يترتب عليها مجموعة من المهام وذلك كما يلى:
ضرورة اعتراف اليسار بالتغيرات الجذرية التى شهدتها اقتصاداتها ومجتمعاتها منذ آخر مرة بحث فيها اليسار العربى فى هذه المسائل بالتفصيل.
ففى الحالة المصرية على سبيل المثال يشير أوين إلى ما يلى:
لا يمكن الإبقاء على التصنيف الذى يفيد أن الطبقات الإجتماعية الدنيا فى مصر تتألف فقط من فئتى العمال والفلاحين القديمتين، فعلى الأرجح يقول أوين إن نسبة عمال المصانع من القوى العاملة الصناعية باتت اليوم أقل بكثير من تلك التى كانت قائمة منذ خمسين عاماً. كذلك لم تعد فئة الفلاحين تنطبق على معظم العاملين فى المجال الزراعى.. وهذا الأمر سوف يفيد بحسب مروة فى توسيع القاعدة السياسية والإجتماعية للقوى التى تنتمى إلى اليسار، أو التى تعتبر اليسار ممثلا لمصالحها..
لابد من الأخذ فى الإعتبار أن الدراسات السابقة قد تجاهلت مساحات كبيرة من البلاد خارج القاهرة.
فى ضوء هذه المداخل يؤكد أوين أن نجاح أى مشروع يسارى مشروط بمعالجة هذه المشاكل مباشرة، من خلال ما يلى:
إجراء الكثير من الدراسات التحليلية السياسية والإجتماعية الجدية، ليس فقط لتقييم التأثيرات التى تنتج عن التغييرات بل أيضاً لفهم ديناميكيتها والطرق التى ستساهم فيها هذه التطورات فى تغيير الإقتصاد السياسى للبلدان المعنية فى العقود القادمة.
تأليف مجموعات بحث منظمة، أو إنشاء معاهد بحث لمساندة الحكومة فى عملها كمجموعة "بريتش فابيان سوسايتى" التى تم إنشاؤها فى أوائل القرن العشرين.

المشروع الجديد لليسار
ويحدد كريم مروة، فى نهاية رؤيته المستقبلية 20 قضية لابد أن يتضمنها المشروع الجديد لليسار العربى وذلك على التوالى: (1) بناء الدول، (2) المجتمع المدنى بمؤسساته المختلفة وهو هنا يميز بين المجتمع المدنى والمجتمع الأهلى، (3) المسألة الوطنية، (4) شروط تحقيق التقدم الإقتصادى لإخراج بلداننا من تخلفها المزمن، (5) الموارد الطبيعية وتوظيفها الأفضل، (6) التنمية الإجتماعية وشروط تحققها الأمثل، (7) الضمانات الإجتماعية، (8) الثقافة والمعرفة، (9) البحث العلمى، (10) الإهتمام بكل ما يتصل بالتراث الثقافى والإجتماعى، (11) الإهتمام بالشباب، تنشئة وتعليما وعملا، (12) حقوق المرأة، (13) النضال ضد التطرف، (14) الإهتمام بالبيئة، (15) النضال ضد أنظمة الإستبداد، (16) المسألة الفلسطينية، (17) مسألة الأقليات فى الوطن العربى، (18) توطيد علاقات التكامل العربى، (19) العلاقة بالعالم، (20) العلاقة بين قوى التغيير فى الوطن العربى.
لعل من أهم ما طرحه كريم مروة فى رؤيته هو استعادة نمط من التفكير نُزع انتزاعاً بفعل ثقافة السوق التى أعلت من التفكير البراجماتى العملى على حساب التفكير التحليلى الذى يأخذ فى الإعتبار تحليل موازين القوى وصراعاتها وتناقضاتها.. ويعيد إلى الديناميكية الإجتماعية اعتبارها.. إنه نموذج جدير بالتفاعل معه فى لحظة نتطلع فيها إلى المستقبل..
نشر في جريدة الشروق المصرية

"اليسار" وإصلاح الحالة العربية

د. أنور مغيث
استاذ جامعي (مصر)
في قلب الإحباط العربي السائد جاء كتاب المفكر اللبناني الأستاذ كريم مروة "نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي". والعنوان يحتضن الهم العربي من المحيط إلى الخليج. ويبدو هذا الإلمام للواقع العربي أمراً بديهياً لا تحتاج مشورعيته إلى تبرير. فقد بدأ اليسار في فكرنا المعاصر عربياً في منطلقاته وفي آليات عمله وفيما نتج عنه من آثار. وهكذا أيضاً عليه أن يعاود المسير، جاء أسلوب كريم مروة في الكتاب هادئاً وحميمياً بصورة قد تبدو متنافرة مع كلمة "اليسار" الموجودة على غلاف الكتاب.
فلقد تعودنا أن نقرأ حينما تأتي في عنوان كلمة "يسار" إما كتابة تنديدية بالإنتهاكات والمظالم، وإما كتابة استنفارية آمرة عن المهام العاجلة الواجب إنجازها بلا هواده أو تأخير. وفي كلتا الحالتين سواء من الغضب أو من الحماس تغيب الحكمة. والحكمة ليست حلولاً فنية لمشكلات عملية ولا نظريات دقيقة لتسير الظواهر، أي أنها ليست تكنولوجية وعلماً، لكنها دائماً هي الإنشغال بالمصير. من هنا تأتي الروح التي يبثها أسلوب كريم مروة والتي تفسح مجالاً كبيراً للتروي والتأمل. لكن ذلك لا يعني أن القضايا المطروحة غير ملحة. فالكتاب مهموم بآلام الإنسان وأحلامه، وبالواقع البائس للمواطن العربي وإمكانيات تغييره. إننا بالفعل إزاء قضايا ملحة. لكنه نوع جديد من الإلحاح. فالأمر لا يتعلق بخطأ يمكن إصلاحه عن طريق اتخاذ إجراء معين. إنما هو إلحاح يمكن أن تنطبق عليه تلك العبارة التي اختتم بها جاك دريدا إحدى مقالاته "الأمر خطير ويحتاج لتأمل عميق وطويل، خذوا وقتكم لكن عليكم أن تنجزوا ذلك سريعاً".
لقد انطلق كريم مروة من خبرة طويلة في صفوف اليسار العربي والدولي، ومن رصد لتحولات العالم يملؤه الرغبة في الفهم والإستجابة، وكشف حساب لواقعنا العربي، ووضع المواطنين فيه تملؤه الحسرة والألم.
أول ملامح المشهد العالمي هي تلك الأزمة التي يعيشها اليسار في العالم بعد انهيار التجربة السوفييتية. ويقتضي الخروج منها تقديم قراءة نقدية نجد ملامح لها في كتابه، حيث يدعو إلى التخلي عن الشمولية في الحكم ونبذ العنف حتى ولو كان ثورياً وتوسيع جمهور اليسار وعدم الإقتصار على الطبقة العاملة. أما الآمال الكبرى عن الإشتراكية والعدالة الإجتماعية والحرية فقد أودعها في منطقة الأحلام حتى يستطيع اليسار تبني سياسة واقعية ملائمة. ويرصد مروة تحولات العالم المعاصر بشكل مختلف، طالباً من اليسار ألا يستعجل الحكم على نهاية الرأسمالية بسبب الأزمة المالية أو التقييم السلبي للعولمة بسبب توحش رأس المال المعولم. ويرى أن جزءاً من الإضطرابات ينشأ بسبب التناقض بين تقدم العلم والصناعة وبين قصور الوعي البشري، وأن رأس المال المعولم يسير في اتجاه موضوعي يقود إلى وحدة العالم، التي يقتضي الإقرار بها أن يخرج المغلقون على هوياتهم القديمة من الأسر الذي يضعون أنفسهم فيه ويدخلوا العصر من أبوابه الواسعة.
أما فيما يخص المنطقة العربية فيقدم مروة نقداً مهماً لتجربة اليسار فيها. فاليسار العربي تقاعس عن استكمال الجهد الذي قدمه مفكرو النهضة الأولى في القرن التاسع عشر في إرساء دعائم الديمقراطية والتقدم. وبالفعل لو نظرنا إلى قضايا مثل حرية المرأة أو نقد الثقافة التراثيرة نجد رصيد اليسار فيها قليلاً، لأنه افترض أن حل المشكلة الإجتماعية سوف يحل تلقائياً باقي المشكلات. بل إن ممارسة اليسار العربي أقامت معوقات في طريق التقدم، من وجهة نظر كريم مروة، بتحالفه مع الإتجاهات القومية التي وصلت إلى الحكم عبر الإنقلابات العسكرية وأنشأت أنظمة استبداد معطلة لعملية التقدم في بلادنا. ويطرح مروة سؤالاً مهماً: ماذا يعني أن يعرّف في أيامنا مواطن عربي نفسه بأنه يساري؟ الإجابة ببساطة هي أن يعلن انحيازه لقضية التغيير الديمقراطي في بلادنا. وهو ما يعني ضرورة توسيع القاعدة الإجتماعية لجمهور اليسار، والتعايش مع حركة يمينية قوية لضمان تداول السلطة، ورد الإعتبار للسياسة بتخليصها من النفاق والخداع والتزوير والشعبوية. إن أوضاع العالم العربي تطرح الكثير من القضايا التي نمكن أن تكون منطلقات لبرنامج اليسار. أول هذه المهام هو بناء الدولة الديمقراطية الحديثة أي دولة الحق والقانون، التي لكن تكون ديمقراطية ينبغي أن تكون علمانية يتم الفصل في كل مؤسساتها بين الديني والسياسي بما في ذلك الأحوال الشخصية. هذا الفصل سوف يؤدي إلى تحرير الدولة من الإستخدام السيئ للدين وتحرير الدين من قبل أصحاب المصالح الذين يقحمونه فيما ليس من وظائفه.
وينبغي على اليسار أن يكون أكثر القوى السياسية مراعاة لما يحدث في العالم من تحولات. وذلك يجعل من قضية البيئة والبحث عن تنمية ملائمة وعدم إهدار الموارد الطبيعية موضوعات أساسية في برنامجه، إلى جانب الموضوعات التقليدية والتي للأسف رصيد العالم العربي فيها قليل، مثل حقوق المواىطنين والضمانات الإجتماعية والصحية التي يجب أن تشمل الجميع وحقوق المرأة والإهتمام بالشباب. وفيما يخص القضية الفلسطينية ويؤكد مروة أهميتها لليسار العربي، لكنه يدعو اليسار إلى نقد أساليب النظم الحاكمة في مصادرة حقوق المواطنين باسم القضية الفلسطينية، وإلى تحرير القرار الفلسطيني من تسلط الحكومات العربية والإقرار بحق الشعب الفلسطيني في جولته المستقلة في حدود ما قبل 5 يونو 1968. ويختتم مروة الكتاب بمجموعة من النصوص التي اختارها من كتابات المفكرين اليساريين العالميين تؤكد بالطبع هذا الميل الديمقراطي بما يعني أن التجربة الشمولية السابقة كانت انحرافاً أو مرحلة وضعها التاريخ بين قوسين لتعود بعدها السياسة إلى مجراها الطبيعي.
يقع الكتاب في 215 صفحة من القطع المتوسط. ويشمل على قسمين. القسم الأول يتعرض الفصل الأول فيه للتحولات في عالمنا المعاصر. وفي الفصل الثاني يتناول رؤيته لمستقبل اليسار العربي. أما القسم الثاني فيضم نصوصاً مختارة من مفكري الإشتراكية.
نشر في جريدة الأهرام المصرية
بتاريخ 9 يونيو 2010

القسم الرابع

تعليق على المناقشات: كريم مروة

أود، قبل البدء في التعقيب على المناقشات، أن أعرب عن سعادتي في كون كتابي قد حظي بهذا الإهتمام الكبير الذي لم أكن أتوقعه، وفي كونه قد أثار هذا القدر الكبير من الأفكار التي تضمنتها كتابات ومداولات مثقفي اليسار العربي من كل الاتجاهات والتيارات، قديمها في التاريخ، وجديدها في النشأة. إلا أن المهم، البالغ الأهمية، في هذا النقاش الواسع والمتنوع والمتعددة اتجاهاته، هو ما يعبّر عنه من همّ حقيقي ومن بحث جدي لدى أهل اليسار، همّ وبحث يهدفان إلى إخراج يسارهم من أزمته العميقة، في جوانبها الفكرية والسياسية، التي يعيش فيها منذ ثلاثة عقود، أي قبل انهيار الإتحاد السوفياتي وانهيار التجربة الإشتراكية التي ارتبطت بنموذجه، على صعيد السلطة وداخل الحركة الإشتراكية بمدارسها المختلفة. وهي الأزمة التي همشت هذا اليسار وهمشت دوره عربياً وعالمياً، وأخرجت من دائرة نفوذه ومن قواه القديمة أعداداً كبيرة ممن ناضلوا وكافحوا وأبدعوا في مختلف ميادين النشاط، وقدموا الكثير الكثير من التضحيات، وحققوا الكثير الكثير من الإنجازات. مصدر السعادة عندي في هذا النقاش يتجاوز، إذن، الجانب الشخصي، إلى ما هو أعم وأشمل، أي إلى ما هو مشترك بين أهل اليسار من كل الإتجاهات والتيارات والمدارس، في سعيهم لتجديد يسارهم وإخراجه من أزمته.
إلا أنني، بالمقابل، لا أستطيع إلا أن ألاحظ بأن هذا القدر الكبير من الإهتمام بمستقبل اليسار في بلداننا، سواء في كتابي وفي النقاشات حوله، أم في سائر الكتابات والكتب والندوات والمؤتمرات التي تصدت لمعالجة أزمة اليسار، لم يقدمنا كثيراً في الإتجاه الذي يجعلنا نثق بأننا بدأنا سلوك الطريق الموصل إلى ذلك المستقبل الذي يستعيد فيه اليسار، في شروط العصر، دوره كحاجة موضوعية لإخراج بلداننا من أزماتها، المتعددة جوانبها ومصادرها. وهو، لعمري، أمر يدعو إلى القلق. ذلك أن تراجع اليسار وتهميش دوره في بلداننا قد ساهم في جعل شعوبنا ضحية لأنواع ثلاثة من المخاطر المباشرة على حياتها: الإستبداد في السلطة الذي غيَّب وهمش الدور المفترض للدولة ولمؤسساتها، وعمّق تخلف بلداننا وفاقم الظلم الإجتماعي فيها، والإستبداد في المجتمع الذي تمارسه الأصوليات الدينية التكفيرية، وهمجية الرأسمال المعولم بصيغه المختلفة.
وأسمح لنفسي أن أشير، في هذا السياق، إلى أن لأزمة اليسار في بلداننا، على وجه الخصوص، - وأزمة اليسار هي ذات طابع عالمي- التي تتمثل في تراجع وتهميش دوره ووزنه، أسباباً موضوعية وأسباباً ذاتية. الأسباب الموضوعية الأساسية تتمثل في انهيار التجربة الإشتراكية بعد ثلاثة أرباع القرن على قيامها كأول محاولة من نوعها لتغيير مسار حركة التاريخ، الإنهيار الذي أحدث صدمة كبيرة في عقل ووجدان ومشاعر وأحلام الملايين من فقراء العالم، وخلق اضطراباً غير مسبوق في الوعي الفردي والجماعي، بما في ذلك في أوساط اليسار، نخباً سياسية وثقافية وجماهير عريضة، وترك فراغاً هائلاً سارع الرأسمال المعولم بأكثر الوسائل وحشية وظلماً وقهراً واستغلالاً إلى ملئه على طريقته ولصالح تعظيم أرباحه. أما الأسباب الذاتية فتتمثل في عدم قدرة قوى اليسار العالمي الأساسية، واليسار العربي جزء منه، على مراجعة التجربة الإشتراكية بعد انهيارها مراجعة نقدية لمعرفة الأسباب الحقيقية التي قادتها إلى الإنهيار فيما يشبه الزلزال. وبالتأكيد فإن هذين النوعين من الأسباب، الموضوعي منها والذاتي، قد ترافقا وأكملا واحدهما الآخر. فإذا كان انهيار التجربة قد خلق تلك الصدمة الكبيرة وذلك الإضطراب الكبير، فإن التخلف عن القيام بالمراجعة النقدية لمعرفة الأسباب التي قادت التجربة إلى الإنهيار، قد أدخل اليسار في الأزمة، وجعله في حالة استعصاء على الخروج منها إلى المستقبل. وقد واجهت اليسار في ظل الأزمة حالتان غريبتان: الحالة الأولى تتمثل برفض المراجعة من قبل البعض، واعتبار أن الإنهيار إنما حصل بفعل مؤامرة إمبريالية. الأمر الذي أبقى هذا اليسار أسير حنين طفولي إلى ماض مضى ولن يعود. وهي الحالة الأكثر مأساوية في مكونات اليسار العربي والعالمي. الحالة الثانية تتمثل باليأس عند كثيرين في أوساط النخب الثقافية والسياسية اليسارية، وفي أوساط الجماهير، اليأس من المستقبل، والخروج من الأحلام التي تكسرت إلى الواقع القائم، والقبول به، والإندماج فيه، برغم مظالمه المتعددة أشكالها والمتعددة النتائج المترتبة عليها.
أردت من هذه المقدمة التي تسبق التعقيب أن أعلن بأن تمسكي بما أوردته من أسباب أدت إلى أزمة اليسار في بلداننا، كجزء من أزمة اليسار في العالم، لا يعني أنني مغلق الباب على أفكاري. فهذا، كما تشير إلى ذلك كل كتاباتي وكتبي، أمر خارج طباعي وطبعي. لكنني كنت، وما زلت، آمل في أن يكون النقاش حول أفكاري وأفكار سواي نقاشاً يساهم، ولو بحدود في مراحل أولى، في إخراج اليسار من أزمته ليحتل مكاناً أخر تكون فيه الأفكار أكثر وضوحاً، وأكثر ارتباطاً بالواقع، وأكثر قدرة على تسهيل خروج اليسار من أزمته إلى المستقبل.
وبعد، فإنني أود أن أعلن لأصدقائي الذين شرفوني باهتمامهم بكتابي، أنني قرأت بإمعان وبدقة كل ما كتبوه وكل ما أثاروه من نقاشات حول كتابي. وتولدت لديّ ثلاث ملاحظات من بعض ما قرأت وسمعت. الملاحظة الأولى أن بعض الذين ناقشوا الكتاب، أو قرأوا الفصل الخاص منه بنهضة اليسار، لم يناقشوا النص، كما بدا لي، وربما أكون مخطئاً، بمقدار ما ناقشوا بأفكار مسبقة ما تصوروه، أو ما خيّل إليهم أو ما وصل إلى سمعهم عن بعض مواقفي، التي أختلف فيها اليوم عن أفكاري السابقة، من دون أن أتخلى عن يساريتي التي حاولت، وما أزال أحاول، تجديد انتمائي إليها، بالفكر وبالمهمات، سواء في كتابي هذا أم في كتب أخرى لي سابقة. وهي أفكار اختلفت فيها عن الكثير من أفكار أهل اليسار في بلداننا، واختلفت فيها مع بعض أفكار ومفاهيم ماركس، الأفكار والمفاهيم التي أعتبرها، برغم أهميتها التاريخية، قد فقدت قيمتها، مع مرور الزمن، ومع تغير وتبدل الظروف والشروط التاريخية. وهو أمر طبيعي. فالأفكار والمفاهيم هي دائماً، بنت تاريخها. وأصحاب الأفكار لم يخلقوا أنبياء مرسلين، ولا كتبهم وكتاباتهم هي كتابات وكتب مقدسة. وماركس ذاته رفض إعطاء أي طابع عقائدي دوغمائي لأفكاره ولمفاهيمه. وبرغم هذه الملاحظة الأولى على بعض ما قرأت فقد قررت أن أعقّب على أفكار وأحكام هؤلاء الأصدقاء من دون إحراج لهم ومن دون أفكار مسبقة عندي إزاء آرائهم وأفكارهم. فحق الإختلاف، حتى ولو شابه خلل ما، هو حق مقدس بالنسبة إليّ. الملاحظة الثانية هي أن بعض النقاش كان جارحاً، في اتخاذه طابع المحاكمة والإتهام بالكفر وبالتحريف. وهو أمر لا يستوي ولا يستقيم في النقاش بين أهل اليسار خصوصاً، وهم يبحثون عن حل واقعي لأزمة يسارهم. ذلك أن من يدعي من أهل اليسار امتلاك الحقيقة دون سواه، وينصّب نفسه حكماً، هو مخطئ إلى حدود الإدانة. ومع ذلك فقد قررت أن أدخل في النقاش مع هؤلاء الأصدقاء من دون حرج لهم ولي. الملاحظة الثالثة هي أن عدداً غير قليل من الذين ناقشوا الكتاب لم يقرأوه بفصوله الثلاثة، وبقسميه. وهو أمر يشكل خللاً في قراءة الكتاب وفي مناقشة أفكاره. فالفصل الذي وزع على المشاركين في ندوة القاهرة من الكتاب الخاص بقراءتي لنهضة اليسار هو مسبوق بمقدمة هي جزء من الكتاب، عرضت فيها لمسار الحركات الثورية في العالم منذ فجر التاريخ، وللفشل الذي منيت به جميعها، ومسبوق بفصل آخر قدمت فيه قراءتي لسمات العالم المعاصر بعد انهيار التجربة الإشتراكية، العالم الذي يهيمن فيه الرأسمال المعولم بكل الأشكال، القديم منها والحديث.
إلا أن هذه الملاحظات لا تغير قولي الذي بدأت به هذا التعقيب من أنني سعيد بقراءة هذا الكم النوعي المتعدد من الآراء والأفكار حول واقع اليسار وحول مستقبله، من خلال مناقشة كتابي. ولجميع الذين ساهموا في النقاش كل احترامي لأفكارهم وتقديري لحقهم في الإتفاق مع أفكاري، أو مع بعضها، وفي الإختلاف معها، أو مع بعضها.
لقد استنتجت من قراءة النصوص كلها أن النقاش تمحور، في الأساس، حول المواضيع والقضايا التالية: 1- حول المراجعة النقدية لتجربة اليسار، ارتباطاً بالتجربة الإشتراكية قبل انهيارها وبعد الإنهيار. 2- حول مفهوم اليسار في العالم المعاصر، وحول هويته، وحول مكوناته الإجتماعية، وحول أفكاره وحول المهمات المتصلة بدوره وحول آليات النهوض به. 3- حول نوع المهمات المطروحة أمام اليسار في بلداننا في هذه الحقبة من تاريخها، وحول المرحلية في النضال، أي حول المهمات التي تعود لكل مرحلة من المراحل، التي يستكمل فيها النضال أدواره. 4- حول مفهوم الدولة وحول الدور المناط بها في العالم المعاصر وفي بلداننا، على وجه التحديد، أية دولة وأية وظيفة لها، وأية مهمات راهنة تتصل بهذه الوظيفة. 5- حول مفهوم كلمة عربي في حديثي عن اليسار، تعليقاً على عنوان الكتاب "الي سار في العالم العربي". 6-حول طبيعة ونوع وآلية القراءة من موقع اليسار للرأسمال ولحركته ولتطوره ولأزماته الدورية في ظل العولمة في العالم المعاصر. 7- حول الفكر ودوره، وحول النصوص الماركسية التي أوردتها في القسم الثاني من الكتاب، والموقع الذي يعود لهذه النصوص في البحث عن نهضة جديدة لليسار في العالم العربي.
ويهمني، وأنا أناقش أصدقائي حول هذه القضايا وحول مواقفهم وحول موقفي منها، أن أعلن لهم بأنني حرصت على التأكيد في كتابي بأن ما أقدمه من أفكار حول نهضة اليسار العربي هو محاولة، مجرد محاولة، لا أجزم فيها بأمر، ولا أعطي لنفسي صفة الحكم أو ما يشبه ذلك، معاذ الله. وهي محاولة أستند فيها إلى تجربتي الطويلة في مواقع مسؤولة ولمدة زمنية طويلة داخل أطر اليسار في بلدي لبنان وفي علاقتي مع اليسار العربي والعالمي. وأستند فيها، أيضاً، إلى طموحي في أن أرى يسار بلداننا قد استعاد عافيته ودوره، قبل أن أغادر الحياة، بعد أن تجاوزت الثمانين من العمر.
لنبدأ في القضية الأولى التي تتعلق بالمراجعة النقدية وبشروطها، وتتعلق بدوري فيها، وموقعي منها، كما تشير إلى ذلك النقاشات. وأود أن أشير هنا إلى أن لهذه المراجعة النقدية جانبين يكمل أحدهما الآخر. فهي تحتاج من أهل اليسار في بلداننا، وهو الأمر الذي يعنيني ويعني أصدقائي اليساريين، أن يرتبط فيها الجانب المتعلق بالتجربة الإشتراكية في الإتحاد السوفياتي وفي المنظومة العالمية التي حملت اسم الإشتراكية، بالجانب المتعلق بتجربة اليسار بتياراته المختلفة في الأحزاب خارج السلطة، سواء بالإرتباط العضوي لتلك الأحزاب بالتجربة، بنموذجيها السوفياتي والصيني، أم بالإختلاف والتمايز عنها بنسب متفاوتة. لذلك فإنني أتفق مع الذين ربطوا بين هذين الجانبين من المراجعة النقدية. وفي التعقيب على الملاحظة التي تقول بأن كتابي قد خلا من النقد والنقد الذاتي، أن ألفت نظر الأصدقاء إلى أن القسم الأول من الكتاب يتضمن جزءاً من هذا النقد بشقيه، لكنه نقد مجتزء وغير كاف وغير مقنع، وأعترف بذلك. وأود، في الوقت عينه، أن أذكرهم بأن كتبي التي تجاوزت العشرين كتاباًًً منذ سبعينات القرن الماضي قد امتلأت بهذين النقد والنقد الذاتي. إلا أن من المفارقات أن عدداً من الأصدقاء، ممن ساهموا في نقاش الكتاب، رأوا، بخلاف الأصدقاء الآخرين، أنني أكثرت من النقد والنقد الذاتي إلى حدود المبالغة في جلد الذات. وذكرني هؤلاء الأصدقاء بالإنجازات وبالرموز الكبيرة التي برزت، باسم الإشتراكية، في بلداننا وفي العالم في الآداب وفي الفنون وفي الفكر وفي العلوم، وتركت بصماتها على عصر بكامله. وإذ أشكر أصدقائي على هذه الملاحظة، وأتفق معهم في رأيهم، فإنني أحذر، بالمقابل، من أن يؤدي الحديث عن المنجزات إلى إخفاء وتغييب الأخطاء، لا سيما تلك التي قادت التجربة إلى الإنهيار.
يتمحور النقاش في القضية الثانية حول مفهوم اليسار وحول هويته. وهي القضية الأهم في كل النقاشات. ذلك أن ثمة اختلافاً كبيراً حول مفهوم اليسار وحول أفكاره وحول تحديد هويته وحول المهمات المطروحة أمامه وحول قاعدته الإجتماعية في شكل أكثر تحديداً. وفي الواقع فإن هذا المحور الذي يشكل الأساس في كتابي والأساس في النقاشات هو موضوع صعب وشائك. لذلك فإنني لا أعترض على وصف محاولتي في تحديد مفهوم اليسار وفي البحث عن نهضته بالإرتباك، ولا أعترض على وصفي بالإنسان القلق والمقلق. فالإنسان القلق هو إنسان حقيقي، كما وصفه أحد الأصدقاء، إنسان يبحث ويفتش ويجرب، ولا يتعب ولا ييأس ولا يغرق بالأوهام. لذلك فهو قلق ومرتبك. إلا أن ملاحظة عامة قد تكونت عندي من خلال النقاشات حول هذا الموقف هي أن بعض النقاشات كانت تدور، كما بدا لي، في حلقة مفرغة. وإذا كان بعض الأصدقاء قد اتهمني بأنني غيبت في تحديدي لليسار دور الطبقة العاملة باعتبارها حاملة مشروع التغيير، وأنني، في تحديدي للقاعدة الإجتماعية لليسار المعاصر، غيبت الطابع الطبقي لليسار، وغيبت الصراع الطبقي، وهي تهمة غير دقيقة، فإنني أتساءل، وأرجو ألا أكون متعسفاً، هل أخذ أصدقائي في الإعتبار، في تحديدهم لليسار ولدور الطبقة العاملة، المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم بعد مرور مائة وخمسين عاماً على وفاة ماركس، وبعد مرور المدة الزمنية ذاتها على أفكاره ومفاهيمه وعلى تحديداته لأقطاب الصراع في المجتمعات المعاصرة؟ ولن أدخل هنا في النقاش حول الجديد الهائل الذي أدخلته العلوم والتقنيات على عملية الإنتاج وعلى القوى ذات الدور الحاسم فيها، والجديد غير المسبوق الذي أدخلته التطورات على المجتمعات وعلى طبيعة ونوع الصراعات داخلها، ليس فقط بين المالكين لوسائل الإنتاج والعاملين بالأجر، بل كذلك داخل الفئات الإجتماعية ذاتها في مواقعها المختلفة، فئات المالكين وغير المالكين. ذلك أن الإكثار من الحديث عن الطبقة العاملة، وعن الصراع الطبقي، من دون تحديد للمفهوم المعاصر للطبقة، ومن دون رؤية موضوعية للمتغيرات التي شهدتها الطبقات والفئات الإجتماعية في كل المواقع، لا يقدم معرفة بالواقع القائم في بلد ما، ولا يقدم معرفة بالواقع القائم في العالم المعاصر.
ولست أرمي من هذه الإشارة إلى المتغيرات الكبرى التي شهدها العالم خلال القرن ونصف القرن من عمر الزمن إلى تغييب دور الطبقة العاملة في النضال باسم اليسار من أجل التغيير، استكمالاً لمشروع ماركس. كلا. لكنني أريد أن أشير إلى أن مفهوم الطبقة ذاته قد أصبح بحاجة إلى تحديد جديد أكثر دقة وأكثر صلة بالواقع المعاصر. وأزعم، في ضوء قراءتي لوقائع العصر وللمتغيرات الكبرى فيه، أن الطبقة العاملة في المفهوم الماركسي القديم لها لم تعد، بالدقة، كما كنا نتصور في أدبياتنا القديمة، هي وحدها حاملة مشروع التغيير، الذي يسعى اليسار المعاصر إلى تحقيقه في بلداننا وفي سائر البلدان، بحسب الظروف الخاصة بكل منها. وتشير الوقائع المعاصرة أن القاعدة الإجتماعية التي تعاني من الظلم ومن الإستغلال، والتي تنشد التغيير بصفتها صاحبة المصلحة فيه، قد اتسـعت موضوعياً. وضاقت، بالمقابل، قاعدة القوى المهيمنة التي يستهدفها التغيير ويستهدف مواقعها. أقول ذلك من دون أن أدعي امتلاك الحقيقة فيما أقول. بل هي محاولة مني في فهم المتغيرات على جميع الصعد التي يشهدها العالم المعاصر، بما في ذلك في تحديد مفهوم اليسار وتحديد هويته وتحديد قاعدته الإجتماعية وتحديد مهماته. أما التهمة التي قيلت بصيغ مختلفة في وصف مفهومي لليسار، تهمة الليبرالية، فهي لا تشكل، بالنسبة إليّ، تهمة لأنها لا تدخل في النقاش الحقيقي حول جوهر ما طرحته من أفكار تتصل بتحديد وتجديد مفهوم اليسار. وقد تولد لديّ إحساس، أرجو أن أكون مخطئاً فيه، بأن كثيرين من أهل اليسار، لا يدركون بوعي أنهم هم ويسارهم يعيشون في قلب أزمة كيانية بكل المعاني، وأنهم معنيون، من موقع مسؤوليتهم، ببذل الجهد النظري والعملي لسلوك الطريق الواقعي الذي يقودهم، في شروط العصر، إلى الخروج من تلك الأزمة وإلى تحقيق التغييرالمنشود.
يقودني هذا الحديث على مفهوم اليسار إلى الحديث في المحور الخاص بالمهمات التي تواجه اليسار في بلداننا في هذه الحقبة التاريخية التي نعيش فيها. وهي القضية الثالثة. وفي الواقع فإن النقاش حول مفهوم اليسار من دون تحديد المهمات التي يفترض بها أن تكون مهماته تحديداً، المهمات ذات صلة بالزمان وبالمكان المحددين، هو نقاش غير واقعي. إذ لا يوجد مهمات عامة بالنسبة إلى أية قوى سياسية واجتماعية، وبالأخص بالنسبة لليسار. على أن اليسار، في محاولتي لتحديده وتحديد هويته وفي تحديد انتمائي القديم والحديث إليه، هو الذي يفترض به أن يحمل في مشروعه المهمات الأساسية للوطن وللشعب اللذين ينتمي إليهما. لذلك، فإنني، حين حددت في كتابي المهمات العشرين، كمهمات راهنة لليسار في بلداننا، بمعزل عن الترتيب لها حسب الأولويات، إنما انطلقت أولاً من الواقع القائم في بلداننا الذي استوحيت منه هذه المهمات، وانطلقت ثانياً من تحديدي لدور اليسار في تحقيق هذه المهمات، وانطلقت ثالثاً، من أن مشروع اليسار للتغيير الذي يحدد هويته إنما يبدأ واقعياً من المهمات الراهنة في الطريق إلى المستقبل، وليس بالقفز فوق الواقع في اتجاه الحلم والوهم في الوصول إليه. واستناداً إلى تجربتي الشخصية في اليسار التي استحوذت على عمري كله، أستطيع القول بأننا، في الحزب الشيوعي اللبناني، على سبيل المثال، كنا دائماً نحدد مهماتنا النضالية، انطلاقاً من قراءتنا لواقع بلداننا. ولم نجد تناقضاً قط بين أحلامنا في الوصول إلى ما تدعو إليه وتبشر به أفكارنا الإشتراكية، وبين النضال من أجل تحديث القوانين العامة في الدولة لجعلها أكثر ديمقراطية، والنضال دفاعاً عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء وعن المثقفين والشباب وعن حقوق المرأة والطفل والبيئة. وقد أشرت في أحد فصول الكتاب إلى تقارير قائد حزبنا الشهيد فرج الله الحلو، التي لم تتضمن كلمة إشتراكية في الحديث عن المهمات المطروحة أمام الشيوعيين. وبالطبع فحين أتحدث عن تجربتي الشخصية وعن تجربة حزبي، في هذا السياق، فلست أرمي إلى القول بأننا في مواقفنا السياسية والفكرية كنا دائماً على حق في أي أمر من الأمور، وأننا لم نرتكب أخطاء، بعضها كان فادحاً. وقد أشرت إلى أجزاء من تلك الأخطاء في كتبي، لا سيما كتاب سيرتي "كريم مروة يتذكر فيما يشبه السيرة". وكان أكبر تلك الأخطاء الفادحة دخول الحزب في الحرب الأهلية، وعلاقاته مع الدول العربية التي كانت تضطهد شعوبها، وتضطهد الشيوعيين بشكل خاص. لكن المهم، فيما نحن بصدده، هو أن المهمات المباشرة في اللحظة التاريخية المحددة الموضوعة أمام أهل اليسار هي التي تحدد القاعدة الإجتماعية لهذا اليسار، وهي التي تعطيه مفهومه المعاصر، وتعطيه دوره وموقعه، كيسار، في كل ما يتصل بقضايا الوطن والشعب. ولا أرى، فيما يتعلق بي، كيساري مخضرم، أية ضرورة راهنة لتحديد قاطع للهوية الفكرية لليسار، إلا بالمعنى العام الذي تعبّر عنه القيم والمثل الإنسانية التي حملتها وبشرت بها الإشتراكية. وعلينا أن نقر، كيساريين، من دون خوف على موقعنا ودرونا، بأن بعض اللحظات التاريخية تخلق أساساً موضوعياً لتقاطع مؤقت في المصالح بين أهل اليسار وبين أهل اليمين في العمل لتحقيق مهمات معينة.
هنا، بالذات، يأتي الحديث عن الدولة. وهي القضية الرابعة. وفي الواقع فقد استغربت كيف أن بعض الأصدقاء قد عاب عليّ وضع مهمة بناء الدولة الحديثة كمهمة أولى بين مهمات اليسار. وأعترف بأنني لم أفهم ماذا يريد المنتقدون قوله بصدد الدولة. ففي معرفتي المتواضعة التي أغنتها تجربتي الحزبية، وقراءاتي لكتابات ماركس ولكلاسيكيي الماركسية التي تحدثت عن الدولة في المجتمعات البشرية، لا سيما في ظل الرأسمالية، فإن نضال أحزابنا كان يتجه دائماً نحو استحداث قوانين جديدة تغيّر قوانين رجعية لصالح قوانين ديمقراطية تخدم مصالح المجتمع بعامة، وتخدم مصالح الفئات الكادحة على وجه التحديد. أي أننا كنا نضع أمامنا مهمة تعديل في وظائف الدولة وفي وظائف مؤسساتها لكي تكون أكثر عدلاً وأكثر احتراماً لحقوق ومصالح الفئات الفقيرة، آخذين في الإعتبار أن الدولة هي دولة الطبقة السائدة، طبقة الرأسماليين تدافع عن مصالحهم، وأنها بفعل وظيفتها العامة، كناظم للمجتمع، تتخذ، في حدود معينة وبالنضال، صفة استقلال نسبي عن الطبقة التي تمثل مصالحها في السلطة. وإذا كان الأمر كذلك فإن مهمة تحديث الدولة وتحديث قوانينها والعمل على تحريرها من أنماط الإستبداد والظلم والإستغلال، هي مهمة ذات أولوية بالنسبة لليسار قبل سواه من القوى السياسية في بلداننا. وإلا فما هو المطلوب؟ هل المطلوب أن يضع اليسار أمامه مهمة إقامة دولة بروليتارية باسم الإشتراكية فوراً، ورفض الدولة الرأسمالية القائمة، ورفض التعامل معها، بانتظار قيام هذه الدولة البروليتارية؟! والأغرب من ذلك هو أن بعض أصدقائي اعتبر أن حديثي عن الدولة وعن شروط تحديثها ونزع طابع الإستبداد عنها هو حديث يخص لبنان. وكأن قضية الدولة محلولة في كل البلدان العربية، باستثناء لبنان! علماً بأن لبنان هو البلد الوحيد الذي يسود فيه نظام ديمقراطي، ويجري فيه تداول متواصل للسلطة، وتجري فيه انتخابات في كل مؤسسات الدولة، برغم ما يشوب هذا النظام الديمقراطي من تشويهات.
يقودني الحديث عن الدولة إلى المحور الخاص بالمشترك بين البلدان العربية. وهي القضية الخامسة. فقد أثار عنوان الكتاب تساؤلاً عند بعض الأصدقاء في صيغة اليسار في العالم العربي، بدلاً من صيغة اليسار العربي، تساؤلاً يتعلق بموقفي من القومية العربية والأمة العربية. وذهب البعض إلى حد اتهامي بأنني أتسامح مع إسرائيل ومع أميركا وأقلل من اتهامي لهما، في حديثي عن الوضع المأساوي الذي يعيش فيه الشعب الفلسطيني في ظل الصراعات بين فصائله، وفي إشارتي الساخرة إلى شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وحديثي عن الهزائم العسكرية التي منيت بها الأنظمة العربية فيما اعتبرته مغامرات في حروبها، التي بدلاً من أن تحرر فسلطين أدت إلى احتلال كامل أراضيها وإلى احتلال أجزاء من أراض عربية أخرى. وأرى في هذه الإعتراضات، المترافق بعضها باتهامات تشبه التخوين، الإعتراضات على كلامي من يساريين، ما يشبه، في قراءتي لها، الدفاع عن الأنظمة التي تستبد بشعوبها وتقمعها وتزايد في الحديث عن المعركة القومية وتحوّل الجيوش إلى قوى أمن تحمي سلطاتها واستبدادها المتمادي. أليس في ذلك ما يدعو إلى الغرابة؟!
أما فيما يتعلق باستخدام صفة "العالم العربي" بدلاً من "الأمة العربية" أو ما يشبه ذلك، فلا يعني من قبلي التنكر لانتمائي العربي. فلست بحاجة إلى شهادة من أحد في نضالي ونضال حزبي على امتداد عقود طويلة من أجل القضايا العربية، على أرض لبنان بالذات، وفي المحافل الدولية. لكن انتمائي العربي لا يفرض عليّ تبني نظريات ومواقف ومشاريع وأفكار وشعارات وتسميات أعتبرها، في معظمها شعبوية وغير ذات معنى وجدوى. وهو ما دلت عليه ممارسات الأنظمة القائمة وممارسات الأحزاب والحركات القومية خلال أكثر من نصف قرن. وتقودني هذه القضية إلى موضوع المقاومة لأقول لمن نسي أو من لم يعرف إن للمقاومة تاريخاً مجيداً في لبنان يحمل عنوان الشيوعيين بامتياز. وهي مقاومة، تعود في تاريخها إلى العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، كان الشيوعيون اللبنانيون شركاء فيها، بصيغ مختلفة، لأخوانهم من الوطنيين السوريين في ثورة 1925-1927، وشركاء لأخوانهم من الوطنيين الفلسطينيين في ثوراتهم المتعددة من عام 1929 حتى عام 1936. أما التاريخ الحديث للمقاومة في لبنان على وجه التحديد، فيعود إلى عام 1948، حين انخرط الشيوعيون مع أخوانهم من الوطنيين اللبنانيين والفلسطينيين في جيش الإنقاذ، ودفع الكثير منهم حياته في عدد من المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في قرى الجنوب اللبناني. وكانت مجزرة بلدة حولا أكثرها وحشية. إذ سقط فيها أربعون شهيداً بينهم عدد من الشيوعيين. واستمرت المقاومة ضد العدوان الإسرائيلي بدور أساسي للشيوعيين على امتداد العقود التالية، مع المقاومة الفلسطينية لدى نشوئها، مروراً بالحرس الشعبي الذي أسسه الحزب الشيوعي اللبناني في عام 1969، وصولاً إلى جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي أطلقها الشيوعيون في وجه الغزو الإسرائيلي للبنان في عام 1982. ومعروفة بطولات المقاومين باسم تلك الجبهة. أشير إلى هذه الوقائع لكي أقول لرفاقي من أهل اليسار بأن مقاومة حزب الله، التي لا يمكن لأحد أن ينكر دورها الأساسي في تحرير الأرض في عام 2000، إنما اتخذت طابع حرب جيوش خلافاً لما هي عليه حرب الأنصار كما عرفناها في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية في مقاومة الإحتلال النازي. وكانت مقاومة حزب الله بصفتها تلك وبالبطولات التي اجترحها المقاومون باهظة الكلفة على الشعب اللبناني في جنوبه الصامد خصوصاً. وأود أن أذكر، في هذا السياق من التداعيات حول المقاومة، بأن المقاومات جميعها عند كل الشعوب إنما ينتهي دورها بعد تحقيق هدفها في تحرير الأرض، لتعود إلى الدولة بمؤسستها السياسية والعسكرية مهمة الدفاع عن الوطن. وهذا ما كررته في كتاباتي وكتبي منذ عام 2000 وحتى الآن، داعياً حزب الله أن يهدي مقاومته وتجربته الرائدة فيها وبطولات مقاوميه إلى الدولة، وأن يعمل مع سائر القوى الوطنية اللبنانية على جعل المقاومة، كحق مبدئي عندما يفرض العدوان الخارجي، الإسرائيلي وغير الإسرائيلي، قيامها بدورها، مقاومة شعبية شاملة إلى جانب الجيش، وتحت كنف الدولة. والتأكيد على هذا الأمر في لبنان إنما يعود إلى أن الخطر من بقاء المقاومة في صيغتها الطائفية والمذهبية، خارج الدولة، هو أنها أصبحت سبباً في انقسام اللبنانيين، بدلاً من أن تكون، استناداً إلى دورها التاريخي في التحرير، مصدراً أساسياً لوحدة اللبنانيين حول دولتهم، التي يفترض أن يعملوا معاً لأن تكون دولة حق وقانون ومواطنة ومساواة وحقوق إنسان. وغني عن التأكيد أن هذا الموضوع إنما يحتاج إلى عقل كبير وإلى مسؤولية وطنية عالية في إيجاد حلول عقلانية له بعد أن اتخذ طابع التحدي والصراع، حلول تحافظ على معنى المقاومة، وتكرّم أبطالها من كل الإتجاهات والفرقاء، وتحميهم، وتخرج الصراع حول المقاومة ذاتها، كمبدأ وممارسة، من دائرة التخوين المتبادل.
القضية السادسة في النقاش تتمحور حول تحديد طابع وسمات العصر الذي نحن فيه اليوم، وتحديد طبيعة النظام الرأسمالي المعولم المهيمن. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بأن الرأسمال المعولم هو الذي يهيمن اليوم، بمكوناته المختلفة، على العالم ويتحكم بمصائر البشرية. ولا أظن أننا بحاجة لأن نقنع بعضنا بالأسباب التي جعلت هذا الرأسمال المعولم يحمّل نتائج أزماته المتواصلة المتكررة للأكثرية الساحقة من الناس في جميع البلدان، الغنية منها والفقيرة منها على وجه الخصوص، الأزمات التي تعلـٌّمنا الكثير عنها وعن استمرارها وعن اتخاذها طابع أزمات دورية، من قراءاتنا في كتابات ماركس وكبار كلاسيكيي الماركسية. أسوق هذا الكلام لأقول بأننا بحاجة من موقعنا كيساريين عرب في بحثنا عن نهضة ليسارنا تخرجه من أزمته الخانقة التي همشته وهمشت دوره، بحاجة لأن نعرف بدقة علمية، وبواقعية، طبيعة وسمات العصر الذي يهيمن فيه الرأسمال المعولم بوحشيته، وأن نحدد بدقة علمية، وبواقعية، الطرائق التي يستعيد بها يسارنا دوره في ظل هذا الوضع، وليس خارجه. إلا أن أية قراءة غير واقعية للعالم المعاصر، تستند إلى تصورات خيالية وإلى أوهام، يعلن أصحابها، ببساطة مدهشة، أن هذا الرأسمال المعولم سينهار من تلقاء ذاته بسبب أزماته، وأنهم سيرثونه بعد انهياره ليعيدوا للمشروع الإشتراكي موقعه في حركة التاريخ، هذه القراءة ليست خاطئة فحسب، بل هي مليئة بالمخاطر على دور اليسار وعلى موقعه في حركة النضال من أجل التغيير. وقد حاولت في قراءتي للعالم المعاصر وللتحولات فيه، وللإتجاهات المتناقضة في هذه التحولات، أن أدعو أهل اليسار في بلداننا للبحث عن نهضة يسارهم في هذه الشروط التاريخية، بالتحديد، خارج تلك الأوهام وخارج تلك الشعارات الشعبوية التي شوّه استخدامها معنى اليسار لدى شعوبنا وأفقده مصداقيته.
أما القضية السابعة الذي تمحور النقاش حولها، فتتصل باختياري لنصوص كلاسيكيي الماركسية في القسم الثاني من الكتاب. وبالطبع فإن من حق الأصدقاء أن يتساءلوا عن السبب الذي دفعني لاختيار هذه النصوص بعينها وإلى وضعها في الكتاب، رغم أنني كنت صريحاً في تحديد أسبابي في المقدمة التي وضعتها لهذه النصوص.
لن أدخل في النقاش مع أصدقائي الذين أبدوا استغرابهم لوضع هذه النصوص في الكتاب. سأكتفي بتقديم توضيح أحدد فيه الغرض من هذا الإختيار. لقد أردت من هذه النصوص بالذات التي انتقيتها بعناية أن أشير إلى أن ماركس وكلاسيكيي الماركسية كانوا، في الأفكار التي عرضوها لمجمل القضايا المتصلة بالإنسان وبحريته في إطار المشروع الإشتراكي لتغيير العالم، يستشرفون المستقبل، حتى وهم يدافعون عن أفكارهم في زمانهم. وهذا يعني أنهم كانوا يؤكدون بأن الأفكار هي تاريخية، أي أنها بنت تاريخها، وأنها تتغير مع تغير الشروط التاريخية. وكان هدفي من ذلك تحذير رفاقي من أهل اليسار من البقاء في أسر تلك الأفكار القديمة، وإعطائها طابع القداسة، الأمر الذي يبقيهم في الماضي، ويمنعهم من رؤية المتغيرات التي تأتي بها أحداث التاريخ. هذا أولاً. ثم أنني أردت أن أبيّن من خلال هذه النصوص كيف أن كلاسيكيي الماركسية كانوا يمارسون بمسؤولية كبيرة التعبير عن أفكارهم وعن سياساتهم، انطلاقاً من المتغيرات التي كانت تحدث أمامهم، من ماركس إلى لينين إلى غرامشي. ثم أنني أردت، في الوقت عينه، أن أقول لأهل اليسار أن الجديد إنما يولد من القديم، ويتخذ له بعد الولادة صفته وسمته الخاصة به، التي تحددها طبيعة المرحلة الجديدة التي يعيش فيها. لكن على هذا الجديد أن يبقى وفياً للقديم الذي ولد منه، أي أن يستكمل ما وصل إليه ذلك القديم، في شروط جديدة بتجاوز القديم من دون القطع معه. ذلك أن التاريخ هو تواصل، ولا انقطاع فيه. وبالطبع فلا نهاية للتاريخ. لكن المهم والأساسي في اختياري الواعي لتلك النصوص هو أنني أردت منه أن أبيّن أمرين أساسيين: الأمر الأول يتعلق في التركيز عند ماركس وعند كلاسيكيي الماركسية على دور الإنسان الفرد كأساس للجماعة، وعلى حقوقه كمعطى أولي في التاريخ. الأمر الثاني يتعلق في التركيز على أهمية الفكر وأهمية دوره في صنع التاريخ، بشرط أن يكون هذا الفكر متحركاً، متغيراً، وفق الشروط التاريخية، والتركيز، في الآن ذاته، على أهمية دور أهل الفكر في جعل فكرهم فكراً راهناً يعبّر بواقعية عن مشروع اليسار وعن دوره في مسار حركة التاريخ.
تلك هي بعض الأفكار التي استوحيتها من النقاش الذي أثاره كتابي وأثارته أفكاري ومواقفي فيه. وإذا كنت قد ركزت على بعض القضايا التي كانت محور اختلاف في الرؤى بيني وبين أصدقائي، فإنني لا أستطيع إلا أن أتوجه بالشكر إلى أصدقائي الذين أعلنوا اتفاقهم معي في العديد من أفكاري، حتى وهم يتمايزون عني في تحديدها. وأخص بالذكر توقفهم عند المرتكزات التي اعتبرتها في الكتاب مرتكزات ذكّرت فيها بضرورة إعادة السياسة إلى أصلها وربطها بالثقافة وبالأخلاق، وإخراجها من الشعبوية والعدمية والإنتهازية، وجعلها أكثر احتراماً لحقوق الإنسان، وأكثر حرصاً على تحريره من العبوديات الجديدة التي حولته، في الإصطفافات السياسية والعقائدية، إلى ما يشبه القطيع.
وبعد، فإنني أعتبر أننا ما نزال في بداية الطريق إلى النهضة، وأننا ما نزال بحاجة إلى تجديد الآليات والشروط التي تؤهلنا لأن ندخل من الباب الواسع، لا من الأبواب الضيقة، إلى تلك الأهداف التي تعبّر عن مشروعنا اليساري لتغيير بلداننا. وهذا التأكيد بالطبع يتطلب منا أن نواصل النقاش حول مكونات اليسار على اختلاف اتجاهاته، وأن نبذل جميعنا المزيد من الجهد في البحث عن مستقبل اليسار من دون أفكار مسبقة نحاكم فيها بعضنا البعض. فالمهم بالنسبة إلينا هو أن نخرج يسارنا من الهزيمة إلى النهضة لاسترجاع موقعه الطبيعي الذي يعود له لتحقيق التقدم لبلداننا والحرية والسعادة لشعوبنا.

ملاحظة

مركز البحوث العربية والإفريقية
(القاهرة)

نهوض اليسار العربى
حوارات مع أطروحات كريم مروة

أعمال ندوات وكتابات فى بيروت والقاهرة

اســـم الكتاب: نهوض اليسار العربى
تـأليـف: كريم مروة وآخرون
إعـــداد فني: ناهد عفيفي
مـركز البحـوث العـربية والإفريقية: 5شارع حسن برادة متفرع من شارع قرة بن شريك– أمام
مستشفى رمد الجيزة- القاهرة
ت/ف: 7744644-5714785
البريد الإلكتروني: info@aarcegypt.org
الموقع على الإنترنت: www.aarcegypt.org

قائمة مطبوعات
مركز البحوث العربية والأفريقية
1987- 2010

1. فؤاد مرسى، مصير القطاع العام فى مصر، 1987.
2. لطيفة الزيات (تحرير)، المشكلة الطائفية فى مصر، 1988.
3. رشدى سعيد وآخرون، أزمة مياه النيل، 1988.
4. عواطف عبد الرحمن، المدرسة الاشتراكية فى الصحافة، 1988.
5. وداد مرقس، سكان مصر، 1988.
6. أبوسيف يوسف وآخرون، النظرية والممارسة فى فكر مهدى عامل: أعمال ندوة فكرية، 01989
7. إبراهيم برعى، دليل قرارات المجلس الاقتصادى والاجتماعى العربى 1953/1989.
8. إبراهيم العيسوى، المسار الاقتصادى فى مصر وسياسات الإصلاح، 1990.
9. إبراهيم بيضون وآخرون، ثقافة المقاومة ومواجهة الصهيونية أعمال ندوة لجنة الدفاع عن الثقافة القومية 1990
10. أحمد عبد الله (تحرير)، انتخابات البرلمانية فى مصر، نشر مشترك مع دار سينا 1990.
11. حيدر إبراهيم، أزمة الإسلام السياسى، الجبهة الإسلامية القومية فى السودان، 1990.
12. نادر فرجانى، الأزمة العربية الكبرى ودور المثقفين، نشر مشترك مع لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، 1990.
13. محمد عبيد غباش، من لا يعرف شيئا فليكتب، خربشات رجل بلاد النفط، 1991.
14. ألفت الروبى، الموقف من القص فى تراثنا النقدى، 1991.
15. محمد على دوس، حياة موارة فى العمل السياسى العربى الأفريقى، 1991.
16. أحمد نبيل الهلالى وآخرون، اليسار المصرى وتحولات الدول الاشتراكية : أعمال ندوة عقدت بالمركز 01992
17. أمينة رشيد وآخرون، قضايا المجتمع المدنى فى ضوء فكر جرامشى (مع دار عيبال بدمشق)، 1992.
18. سمير أمين،من نقد الدولة السوفيتية إلى الدولة الوطنية، 1992.
19. المسألة الفلاحية والزراعية فى مصر:أعمال ندوة عقدت بالمركز، 1992.
20. جويل بنين، زكارى أوكمان، العمال والحركة السياسية فى مصر ج،1 ترجمة أحمد صادق سعد، 1992.
21. إشكاليات التكوين الاجتماعى والفكريات الشعبية فى مصر: أعمال ندوة بالمركز نشر مع دار كنعان، 1992.
22. أحمد يوسف أحمد: منطق العمل الوطنى- حركة التحرر الوطنى الفلسطينية فى دراسة مقارنة مع حركات التحرر الأفريقية بالتعاون مع مركز القدس للدراسات الإنمائية عمان، 01992
23. ليلى عبد الوهاب، سوسيولوجية الجريمة عند المرأة، 1992.
24. أحمد محمد البدوى، لبن الأبنوس يازول، 1992.
25. مركز دراسات المرأة الجديدة ومركز البحوث العربية، المرأة وتعليم الكبار،1992.
26. إدريس سعيد، عظام من خزف، 1993.
27. دارام جاى ( تحرير)، صندوق النقد الدولى وبلدان الجنوب، ترجمة/ مبارك عثمان، نشر مع اتحاد المحامين العرب، 1993.
28. مايكل دراكوه (تحرير)، الأنهار الأفريقية وأزمة الجفاف، نشر بالتعاون مع منظمة البحوث الاجتماعية لشرق وجنوب أفريقيا 1994.
29. عادل شعبان وآخرون، الحركة العمالية فى معركة التحول، 01994
30. نادية رمسيس فرح (تحرير) السكان والتنمية فى مصر نشر مع دار الأمين،1994.
31. آمال سعد زغلول، دور الحركة الشعبية فى حرب السويس، 01994
32. لجنة الدفاع عن الثقافة القومية (دراسات ووثائق 1979-1994)(من مقاومة التطبيع إلى مواجهة الهيمنة) 1994.
33. على عبد القادر، برامج التكيف الهيكلى والفقر فى السودان، 1994.
34. حلمى شعراوى وعيسى شيفجى، حقوق الإنسان فى أفريقيا والوطن العربى،1994.
35. لطيفة الزيات (ترجمة وتعليق)، حول الفن، 1994.
36. جودة عبد الخالق (تحرير)، تطور الرأسمالية ومستقبل الاشتراكية فى مصر والوطن العربى : ندوة مهداة إلى فؤاد مرسى، 1994.
37. عبد الغفار شكر، التحالفات السياسية فى مصر 1994.
38. صادق رشيد، أفريقيا والتنمية المستعصية، ت/ مصطفى مجدى الجمال، 1995.
39. عبد الغفار أحمد، السودان بين العروبة والأفريقية، 1995.
40. بيترنيانجو، من تجارب الحركات الديمقراطية فى أفريقيا والوطن العربى، مع اتحاد المحامين العرب ترجمة حلمى شعراوى وآخرون، 1995.
41. سمير أمين (تحرير)، المجتمع المدنى والدولة فى الوطن العربى: حالة مصر، نشر مشترك مع دار مدبولى، 1996.
42. سمير أمين (تحرير) المجتمع المدنى والدولة فى الوطن العربى : حالة لبنان، مشترك مع مدبولى 1996.
43. مصطفى كامل السيد (تحرير)، حقيقة التعددية السياسية فى مصر، نشر مشترك مع مدبولى 1996.
44. سيد البحراوى (تحرير)، لطيفة الزيات : الأدب والوطن، نشر مشترك مع دار المرأة العربية، 1996.
45. عبد الباسط عبد المعطى: بحوث الطفولة فى الوطن العربى، نشر مشترك مع المجلس العربى للطفولة والتنمية، 1996.
46. جويل بنين، زكارى لوكمان، العمال والحركة السياسية فى مصر الجزء الثانى، ترجمة إيمان حمدى، نشر مع دار الخدمات النقابية والعمالية،1996.
47. عبد الغفار شكر (تحرير)، الجمعيات الأهلية وأزمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية فى مصر، نشر مشترك مع دار الأمين، 1997.
48. سمير أمين (تحرير)، المجتمع المدنى والدولة فى الوطن العربى : حالة المشرق العربى نشر مشترك مع دار مدبولى، 1997.
49. سمير أمين (تحرير)، المجتمع المدنى والدولة فى الوطن العربى : حالة المغرب العربى نشر مشترك مع دار مدبولى، 1997.
50. كمال مغيث (تحرير)، التعليم وتحديات الهوية القومية، نشر مشترك مع دار المحروسة، 1998
51. عبد الغفار شكر، اليسار العربى وقضايا المستقبل 1998. نشر مشترك مع دار مدبولى، 1998.
52. عاصم الدسوقى (تحرير)، عمال وطلاب فى الحركة الوطنية المصرية. نشر مشترك مع دار المحروسة، 1998.
53. محمد أبو مندور وآخرون، الإفقار فى بر مصر، نشر مشترك مع دار الأهالى، 1998.
54. عبد الغفار أحمد (تحرير)، إدارة الندرة، ترجمة صلاح أبو نار وآخرون،1998.
55. لايف مانجر وآخرون، البقاء مع العسر، ترجمة صلاح أبو نار- مجدى النعيم، 1998.
56. نجاتى عبد المجيد وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤى:من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965: الجزء الأول بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 1998.
57. لايف مانجر، لفوفة النوبة، ترجمة مصطفي مجدى، 1999.
58. أمينة رشيد ( تحرير): التبعية الثقافية : مفاهيم وأبعاد، نشر مشترك مع دار الأمين، 1999.
59. محمود عودة، (إشراف)، الأسر المعيشية فى الريف المصرى، نشر مشترك مع جامعة عين شمس، 1999.
60. محمد محيى الدين، (إشراف)، نساء الغزل والنسيج : الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، 1999.
61. عبد الحميد حواس وآخرون، المأثور الشعبى فى الوطن العربى، نشر مشترك مع المنظمة العربية للتربية وللثقافة وللعلوم، 1999.
62. عبد الباسط عبد المعطى(تحرير)، العولمة والتحولات المجتمعية فى الوطن العربى، نشر مشترك مع دار مدبولى، 1999.
63. عزة خليل (إعداد)، خريطة سياسات وخدمات الطفولة فى مصر، نشر مشترك مع المركز القومى للثقافة والطفل، 1999.
64. يوسف درويش وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤى: من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965: الجزء الثانى بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 1999.
65. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية: مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد الأول، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، أكتوبر 1999.
66. أمينة رشيد (تحرير)، الحريات الفكرية والأكاديمية، نشر مشترك مع دار الأمين، 2000.
67. فاروق القاضى، فرسان الأمل : تأمل فى الحركة الطلابية المصرية،2000.
68. جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق في علم اللغة، الورقة الأولى-يناير2000 حول (مشكلات تدريس اللغات فى مصر)، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة.
69. محمد سيد أحمد وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤى: من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965: الجزء الثالث بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2000.
70. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد الثانى، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، مارس 2000.
71. أحمد مختار منصور، الجراحة فى الحضارة العربية الإسلامية، دراسة تاريخية، 2000.
72. جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق في علم اللغة، الورقة الثانية- نوفمبر2000 (دراسات حول اللغة العربية فى مصر)، الورقة الثالثة، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة.
73. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد الثالث، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، أكتوبر 2000.
74. حلمى شعراوى، أفريقيا فى نهاية قرن، نشر مشترك مع دار الأمين، 2000
75. أديب ديمترى وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤى:من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965: الجزء الرابع بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2001.
76. مصطفى مجدي الجمال (تحرير)، فلسطين والعالم العربى، نشر مشترك مع دار مدبولى، 2001
77. عبد الغفار شكر (تحرير)، تحديات المشروع الصهيونى والمواجهة العربية. نشر مشترك مع دار مدبولى، 2001.
78. فرانسوا أوتار وفرانسوا بوليه، فى مواجهة دافوس، ترجمة : سعد الطويل، نشر مشترك مع دار ميريت، 2001.
79. عبد الغفار شكر (إشراف)، الجمعيات الأهلية الإسلامية فى مصر، نشر مشترك مع دار الأمين، 2001.
80. كويسى براه، اللغات الأفريقية وتعليم الجماهير، ترجمة وتحرير حلمى شعراوى، بالتعاون مع مركز الدراسات المتقدمة للمجتمع الأفريقى بكيب تاون، الناشر، دار الأمين، 2001.
81. فيتينو بيكيلى، وآخرون، دراسات مختارة/ التحولات الاجتماعية والمرأة الأفريقية، بالتعاون مع منظمة أوسريا بأديس أبابا، تقديم د. عبد الغفار محمد أحمد، الناشر دار الأمين، 2001.
82. أحمد القصير وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤى:من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965: الجزء الخامس بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2001.
83. رمسيس لبيب (تحرير)، العمال فى الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، الورشة الأولى بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965،2001.
84. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية: مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد الرابع، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، أكتوبر 2001.
85. سعد الطويل (تحرير)، الأجانب فى الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، الورشة الثانية، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2002.
86. جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق في علم اللغة، الورقة الثالثة- مايو 2002 (مساهمات فى اللغويات العربية)، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة.
87. سمير أمين، مستقبل الجنوب فى عالم متغير، نشر مشترك مع دار الأمين، 2002.
88. أكيكي بى موجاجو وآخرون، دراسات اجتماعية في شرق وجنوبي أفريقيا، بالتعاون مع منظمة أوسريا بأديس أبابا، الناشر دار الأمين، 2002.
89. سمير أمين وآخرون، العلاقات العربية الأوربية: قراءة عربية نقدية، نشر مشترك مع دار الأمين، 2002.
90. يسرى مصطفى (تحرير)، المجتمع المدنى وسياسات الإفقار فى العالم العربى، نشر مشترك مع دار ميريت، 2002.
91. فخرى لبيب، حلمى شعراوى (تحرير)، منظمة التجارة العالمية ومصالح شعوب الجنوب، بالتعاون مع منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية وعدد من المنظمات غير الحكومية، الناشر مركز المحروسة، 2002.
92. إسماعيل عبد الحكم وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤى: من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965: الجزء السادس بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2002.
93. عبد الغفار محمد أحمد، فى تاريخ الأنثروبولوجيا والتنمية فى السودان، ترجمة: مصطفى مجدى الجمال، نشر مشترك مع دار الأمين، 2002.
94. عبد الغفار شكر (تحرير)، الجمعيات التعاونية كمنظمات شعبية تنموية- الجزء الأول، نشر مشترك مع مركز المحروسة، 2002.
95. حنان رمضان (تحرير)، المرأة فى الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، الورشة الثالثة، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2002.
96. عريان نصيف (تحرير )، الفلاحون فى الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، الورشة الرابعة، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، 2002.
97. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد الخامس، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، 2002.
98. سمير أمين وآخرون، الاشتراكية واقتصاد السوق: تجارب (الصين- فيتنام- كوبا)، نشر مشترك مع مكتبة مدبولى، 2003.
99. عبد الحميد حواس، أوراق في الثقافة الشعبية في مصر، نشر مشترك مع دار الأمين، 2003.
100. عبد الغفار شكر (تحرير)، الجمعيات التعاونية كمنظمات شعبية تنموية- الجزء الثانى، نشر مشترك مع مركز المحروسة، 2003.
101. مدحت أيوب (تحرير)، الأمن القومى العربي، نشر مشترك مع مكتبة مدبولى، 2003.
102. طايع آصيفا وآخرون (تحرير)، العولمة والديمقراطية والتنمية: تحديات وآفاق، نشر مشترك مع منظمة العلوم الاجتماعية لشرق وجنوبى أفريقيا (أديس أبابا)، ومركز المحروسة، 2003.
103. فخرى لبيب (تحرير)، الطلبة فى الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، الورشة الخامسة، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، 2003.
104. جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق فى علم اللغة، الورقة الرابعة- مايو 2003 (قضايا حول اللغة العربية والتعبير العلمى)، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة.
105. هويدا عدلى (تحرير)، ثقافة وسائل الاتصال فى الوطن العربى: الإعلام والهوية، نشر مشترك مع دار الأمين، 2003.
106. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد السادس، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، 2003.
107. سمير أمين، فرانسوا أوتار (تحرير)، مناهضة العولمة : حركة المنظمات الشعبية فى العالم، ترجمة: م.سعد الطويل، نشر مشترك مع المنتدى العالمى للبدائل، ودار الأمين، 2003.
108. أحمد برقاوى وآخرون، الدولة الوطنية وتحديات العولمة فى الوطن العربى، نشر مشترك مع مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية دمشق ومكتبة مدبولى، 2003.
109. رمسيس لبيب(تحرير)، الانقسامية وأزمة الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، الورشة السادسة والسابعة، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، 2003.
110. محمد ماهر الجمال، أحمد لطفى السيد: دراسة فى الخارطة المعرفية، نشر مشترك مع دار الأمين، 2003.
111. عبد الغفار شكر (منسق البحث)، نظام الخدمة العامة فى مصر وآفاق تطويره: دراسة حالة محافظة دمياط، بالتعاون مع شبكة الجمعيات الأهلية للتنمية وقضايا النوع بدمياط، 2003.
112. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد السابع، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، 2004.
113. ريمى هيريرا وآخرون، ترجمة باتسى جمال الدين، الثورة الكوبية... إلى أين....؟ دراسة فى ملامح التاريخ الكوبى واستشراف القرن الواحد والعشرين، نشر مشترك مع منتدى العالم الثالث ودار العالم الثالث،2004.
114. أليون سال (تحرير)، ترجمة: سعد الطويل، أفريقيا 2025، أى مستقبل؟ نشر مشترك مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، المدينة برس، 2004.
115. دينيس فينتر وآخرون، دراسات اجتماعية في شرق وجنوبي أفريقيا، العدد الثالث نشر مشترك مع منظمة العلوم الاجتماعية لشرق وجنوبى أفريقيا (أوسريا) بأديس أبابا، الناشر المدينة برس، 2004.
116. هاين ماريز، جنوب أفريقيا:حدود التغيير: الاقتصاد السياسى لمرحلة الانتقال، ترجمة صلاح العمروسى وعزة الخميسى، نشر مشترك مع منتدى العالم الثالث وآخرون، الناشر دار الأمين، 2004.
117. د.أحمد زايد – د.عروس الزبير (تحرير)، النخب الاجتماعية: حالة الجزائر ومصر، نشر مشترك مركز البحوث فى الاقتصاد التطبيقى من أجل التنمية بالجزائر، مع الناشر دار مدبولى، 2004.
118. د. حمدى عبد الرحمن –عزة خليل، المجتمع المدنى ودوره فى التكامل الأفريقى، نشر مشترك مع مركز المجتمع المدنى –جامعة ناتال، الناشر المدينة برس، 2004.
119. فاروق القاضى، آفاق التمرد: قراءة نقدية فى التاريخ الأوروبى والعربى الإسلامى، نشر مشترك مع المؤسسة العربية للدراسات والنشر بالأردن، 2004.
120. جوزيف بوسير وآخرون، دراسات اجتماعية في شرق وجنوبي أفريقيا، العدد الرابع نشر مشترك مع منظمة العلوم الاجتماعية لشرق وجنوبى أفريقيا (أوسريا) بأديس أبابا، الناشر المدينة برس، 2004.
121. سمير أمين وآخرون، الصراع حول المياه: الإرث المشترك للإنسانية، ترجمة: م. سعد الطويل، نشر مشترك مع منتدى البدائل العالمى الثالث، الناشر مكتبة مدبولى، 2005.
122. عبد العال الباقورى، وعد بوش.. بلفور الجديد: الحصاد المُر للساداتية، الناشر مكتبة مدبولى، 2005.
123. رمسيس لبيب (تحرير وتقديم)، اليسار فى الثقافة المصرية، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، الناشر دار الثقافة، 2005.
124. ألفريد نهيما (تحرير)، قضايا السلم المنشود فى أفريقيا: التحولات والديمقراطية والسياسات العامة، ترجمة:مصطفى مجدى الجمال، نشر مشترك مع منظمة بحوث العلوم الاجتماعية لشرق وجنوبى أفريقيا (أوسريا) بأديس أبابا، الناشر دار الأمين، 2005.
125. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد الثامن، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، 2005.
126. جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق فى علم اللغة، الورقة الخامسة- يونيه 2005 (اللغة والإيديولوجية والسلطة)، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة.
127. عزة خليل (تحرير)، تقديم سمير أمين، الحركات الاجتماعية فى العالم العربى، نشر مشترك مع المنتدى العالمى للبدائل، الناشر مكتبة مدبولى، 2005.
128. سامية الهادى النقر، الجمعيات الأهلية والإسلام السياسى فى السودان، الناشر مكتبة مدبولى، 2005.
129. عروس الزبير، الجمعيات الأهلية الإسلامية- حالة الجزائر، نشر مع دار الأمين، 2006.
130. أحمد سليّم وآخرون، سلسلة كتب شهادات ورؤي : من تاريخ الحركة الشيوعية المصرية جـ7 بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتي عام 1965، 2006.
131. عبد الأمير السعد، الاقتصاد العالمى: قضايا راهنة، نشر مشترك مع دار الأمين، 2006.
132. حسام رضا، إسرائيل فى الزراعة المصرية، الناشر مركز المحروسة، 2006.
133. زهدى الشامى وآخرون، دراما أمريكا اللاتينية، دروس التنمية والتحدى الديمقراطى، الناشر مركز المحروسة، 2006.
134. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال (مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد التاسع، نشر مشترك مع كوديسريا ودار الأمين، 2006.
135. عبد الله على إبراهيم، أصيل الماركسية: النهضة والمقاومة في ممارسة
الحزب الشيوعي السوداني، نشر مشترك مع دار الأمين، 2006.
136. آرشى مافيجى، التشكيلات الاجتماعية فى أفريقيا- دراسة فى النظرية والتطبيق إقليم البحيرات العظمى، ترجمة: مصطفى مجدى الجمال- تقديم حلمى شعراوى، الناشر، مركز المدينة للإعلام والنشر، 2007.
137. ب. بيكمان- ل.م. ساشيكوني (تحرير)، أنظمة العمل واللبرلة: إعادة هيكلة علاقات الدول- المجتمع فى أفريقيا، ترجمة: عزة خليل، الناشر مركز المحروسة، 2007.
138. سمير أمين (إشراف)، الفلاحون وتحديات القرن الواحد والعشرين، ترجمة: باتسى جمال الدين- غادة طنطاوى، مراجعة سعد الطويل، الناشر دار العالم الثالث، 2007.
139. وداد مترى: قلب بحجم الوطن، إعداد مركز البحوث العربية والإفريقية، مطبعة مركز المدينة، 2007.
140. سعد الطويل وآخرون (تحرير)، وثائق الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، المجلد الأول من 1944-1952، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، ونشر مشترك مع دار العالم الثالث، 2007.
141. مصطفى مجدى الجمال، كتاب البوليفاري، تشافيس : جدل الثورة والكاريزما، نشر مشترك مع مكتبة مدبولى، 2007.
142. عبد الأمير السعد، قضايا رأس المال والعمل، نشر مشترك مع مركز المحروسة، 2007.
143. حسنين كشك- حنان رمضان ( تحرير)، أحوال الزراعة والفلاحون فى ظل سياسات التكيف الهيكلى، نشر مشترك مع مركز المحروسة والخدمات الصحفية والمعلومات، 2007.
143(أ). جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق فى علم اللغة، الورقة السادسة- سبتمبر 2007 (قضايا فى الازدواجية اللغوية العربية)، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة، 2007.
144. سمير أمين (إشراف)، العمال وتحديات القرن الواحد والعشرين، الناشر دار العالم الثالث، 2008.
145. سمير عبد الباقى (تحرير)، هديل اليمام وراء القضبان: مختارات من قصائد الشعراء الشيوعيين المصريين فى السجون والمعتقلات من 1945-1965، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، نشر مشترك مع دار العالم الثالث، 2008.
146. سعد الطويل (تحرير)، المهنيون وأزمة الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، الورشة التاسعة، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، 2008.
147. إلهامى الميرغنى(تحرير)، حوارات ساخنة بين اليسار العربى والأوروبى، بالتعاون مع مؤسسة روزا لوكسمبورج الألمانية، الناشر دار العالم الثالث، 2008. وصدر أيضًا باللغة الإنجليزية.
148. زهدى الشامى (تحرير)، فى البحث عن بديل لمشاكل الزراعة والفلاحين في مصر بالتعاون مع مركز المحروسة، 2008.
149. سعد الطويل وآخرون (تحرير)، وثائق الحركة الشيوعية المصرية حتى عام 1965، المجلد الثانى من 1952-1953 ، بالتعاون مع لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتى 1965، 2008.
150. إيمان البسطويسى (تحرير)، الثقافات المحلية فى ظل العولمة: دراسات مصرية أفريقية، بالتعاون مع معهد البحوث والدراسات الأفريقية- جامعة القاهرة، الناشر دار العالم الثالث، 2008.
151. مدحت أيوب (تحرير)، بدائل التنمية، بالتعاون مع الجمعية العربية للبحوث الاقتصادية، الناشر دار العالم الثالث، 2008.
152. جردا منصور، مديحة دوس (تحرير)، سلسلة أوراق فى علم اللغة، الورقة السابعة، نشر مشترك مع جماعة اللغويين فى القاهرة، 2008.
153. محمد جويلى، الثأر الرمزى: تماس الهويات فى واحات الجنوب التونسى، تقديم د.الطاهر لبيب، بالتعاون مع دار العالم الثالث، 2008.
154. مجموعة من العلماء الصينيين، أحوال الصين: دراسات نقدية، ترجمة مصطفى مجدى الجمال وآخرون، بالتعاون مع دار العالم الثالث، 2008.
155. شهيدة الباز(إشراف)، مصطفى مجدى الجمال(مسئول التحرير)، (أفريقية - عربية : مختارات العلوم الاجتماعية، المجلد العاشر، نشر مشترك مع كوديسريا ودار العالم الثالث، إبريل 2009.
156.عبد الغفار شكر، الصراع حول الديمقراطية فى مصر، نشر مشترك مع مركز المحروسة، 2009.
157.عبد العال الباقوري(تحرير)، الإستراتيجية الإسرائيلية تجاه الوطن العربى، نشر مشترك مع مركز المحروسة، 2009.
158. ضياء الدين زاهر (تحرير)، تمويل التعليم فى مصر، نشر مشترك مع كوديسريا، 2009.
159. حلمى شعراوى (تحرير)، فى رحاب فاروق كدودة: التنمية والديمقراطية، 2009.
160. حلمى شعراوى، أفريقيا من قرن إلى قرن، نشر مشترك مع مكتبة جزيرة الورد، 2010.
161.عاصم الدسوقى (تقديم)، حنان رمضان (الإعداد والتصنيف)، مجلة الفجر الجديد، المجلد الأول، والثانى، مطبوعات المركز بالتعاون مع صندوق التنمية الثقافية، 2010.
162. عبد الغفار شكر وآخرون، الأحزاب السياسية وأزمة التعددية فى مصر، نشر مشترك مع دار جزيرة الورد للنشر والتوزيع، 2010.

كراسات المركز
1. أحمد هنئ، حول إجراءات الإصلاح الاقتصادى فى الجزائر، 1988.
2. عصام فوزى، ترجمة ثلاثة قراءات سوفيتية فى البيريسترويكا، 1988.
3. أشرف حسين، ببليوجرافيا الطبقة العاملة، 1988.
4. عبد العظيم أنيس، قراءة نقدية فى كتابات ناصرية، 1989.
5. مصطفى نور الدين عطية، المجتمعات التابعة ومشكلات التنمية المستقلة، 1989
6. موشى ليوين وآخرون، تقديم/ فؤاد مرسى، البيريسترويكا فى عيون الآخرين، 1990
7. محمد أبو مندور وآخرون، أزمة المياه فى الوطن العربى، نشر مشترك مع دار الأمين، 1999.
8. إسماعيل زقزوق، المهمشون بين النمو والتنمية، نشر مشترك مع دار الأمين، 1999.
9. عبد الغفار شكر، تجديد الحركة التقدمية المصرية، نشر مشترك مع دار الأمين، 2000.
10. حنان رمضان (إعداد)، العراق تحت الحصار، نشر مشترك مع دار الأمين، 2000.
11. أحمد صالح، الإنترنت والمعلومات، نشر مشترك مع دار الأمين، 2001.
12. عريان نصيف (تحرير)، الأرض والفلاح، نشر مشترك مع دار الأمين 2001.
13. أحمد عبد الله، عمال مصر وقضايا العصر، نشر مشترك مع دار المحروسة، 2002.
14. عريان نصيف (تحرير)، التشريع التعاونى فى مصر: الواقع.... وآفاق المستقبل، نشر مشترك مع دار الأمين، 2000.
15. د.محمد ماهر الجمال، مضامين التربية الشعبية، في مجلة "الأستاذ" لعبد الله النديم، نشر مشترك مع دار الأمين، 2003.
16. مدحت أيوب, قضايا فى الاقتصاد المصرى بعد التكيف الهيكلى, نشر مشترك مع دار الأمين, 2003.
17. كلود كاتز وآخرون، ترجمة يوسف درويش، إمبريالية القرن الواحد والعشرين، نشر مشترك مع دار الأمين, 2003.
18. سمير أمين، الفيروس الليبرالى: الحرب الدائمة وأمركة العالم، نشر مشترك مع مركز المحروسة, 2004.
19. محمد إسماعيل زاهر، أزمة الوعى العربى بين الحملة الفرنسية والحملة الأمريكية، نشر مشترك مع دار الأمين، 2004.
20. بهيج نصار، البحث عن مفهوم للديمقراطية فى مرحلة الثروة العلمية والتكنولوجية الراهنة، نشر مشترك مع دار الأمين، 2004.
21. الحركة العمالية المصرية: الخبرة النضالية وآفاق المستقبل، نشر مشترك مع مركز المحروسة، 2004.
22. د.حامد الهادي، إحصاءات السكان والحيازة الزراعية: تحليل اجتماعي، نشر مشترك مع دار الأمين، 2005.
23. د.سيد عشماوى، الدراسات الحديثة في تاريخ مصر الاجتماعي الحديث خلال السنوات العشر الأخيرة، نشر مشترك مع دار الأمين، 2005.

كتيبات كوديسريا
1- أوكوادبا نولى، الصراع العرقى فى أفريقيا،1991.
2- ايبو هو تشغول، الجيش والعسكرية فى أفريقيا، 1991.
3- ديساليجن رحماتو، منظمات الفلاحين فى أفريقيا : قيود وإمكانيات، 1991.
4- جيمى آديسينا، الحركات العمالية وضع السياسة فى أفريقيا، 1992.
5- مومار ديوب، ممادو ديوف، تداول السلطة السياسية وآلياتها فى أفريقيا، 1992.
6- أديمولات - سالو، البيئة العالمية: جدول أعمال بحث لأفريقيا، 1993.
7- م0 مامدانى،آخرون، الحركات الاجتماعية والعلمية الديمقراطية فى أفريقيا، 1993
8- ثانديكا مكانداويرى، التكيف الهيكلى والأزمة الزراعية فى أفريقيا، 1993
9- آرشى مافيجى، الأسر المعيشية وآفاق إحياء الزراعة فى أفريقيا، 1993.
10- سليمان بشير ديانى،المسألة الثقافية فى أفريقيا، 1996.
11- ميشيل بن عروس، الدولة - والمنشقون عليها، 1996.
12- عبدو مالك سيمون، عملية التحضر، والتغير فى أفريقيا، 1999.
13- أمينة ماما، دراسات عن المرأة ودراسات النساء فى أفريقيا، 1999.
14- تادى آكين آنيا، العولمة السياسية الاجتماعية فى أفريقيا، 1999.
15- ممادو ديوف، ليبرالية سياسية أم انتقال ديمقراطى : منظورات أفريقية، 1999.
16- حكيم بن حمودة نظريات ما بعد التكيف الهيكلى، 2000.
17- كلوديو شوفتان، ماذا بعد ممارسات التنمية المشوهة فى أفريقيا؟، 2000.
18- أشيلى ميبمبى، عن الحكم الخاص غير المباشر، 2000.
19- تشيكيلاك. بيايا، الشباب والعنف والشارع فى كنشاسا: نسمع ونفهم ونصف، 2001.
20-سليمان بشير ديانى، إعادة بناء المعنى: نصوص ورهانات لقراءة مستقبل أفريقيا، 2001.
21- عثمان كان، المثقفون الأفريقيون المتحدثون بلغات غير أوروبية، 2005.
22- جومو كوامى صندارام، الاعتبارات الاقتصادية للتجديد الوطنى، ترجمة:
إسماعيل زقزوق، بالتعاون مع كوديسريا، 2008.

سلسلة كراسات اللجنة الاقتصادية لأفريقيا
أ- التنمية بالمشاركة
1- تعزيز التواصل بين مؤسسات صنع السياسة الحكومية وبين الجامعات والمراكز البحثية من أجل دعم الإصلاح الاقتصادى والتنمية فى أفريقيا0
2- تحسين أداء المشروعات العامة فى أفريقيا: دروس من تجارب قطرية0
3- تحسين أداء المشروعات العامة فى أفريقيا.
4- تعبئة وإدارة الموارد المالية فى الجامعات الأفريقية.
5- تحسين إنتاجية الخدمات العامة فى أفريقيا.
6- دعم حيوية الجامعة الأفريقية فى التسعينيات ومابعدها0
7- تهيئة البيئة لتنمية الفعاليات التنظيمية فى أفريقيا0
8- تعبئة القطاع غير الرسمى والمنظمات غير الحكومية من أجل الإصلاح الاقتصادى والتنمية فى أفريقيا.
9- الأخلاقيات والمساءلة فى الخدمات العامة الأفريقية.
10- أعمال ندوة حول الديمقراطية والمشاركة الشعبية لقادة نقابات العمال فى أفريقيا0
11- الإثنية والصراع السياسى فى أفريقيا.
12- ميثاق عمل للمنظمات غير الحكومية فى أفريقيا.
ب- سلسلة التنمية بالمشاركة
1- دراسة حالة فى ناميبيا.
2- دراسة حالة فى أوغندا.
3- كيف تؤثر المنظمات الأهلية فى السياسات عن طريق البحث والضغط والدعوة.
4- المبادئ الأساسية لتعزيز الحوار والتعاون والتداخل بين الحكومات والمنظمات الشعبية.
5- دراسة حالة فى جامبيا.
6- دراسة حالة فى أثيوبيا.
ج- سلسلة الدليل التدريبى للتنمية بالمشاركة الشعبية
1- الاتصال فى خدمة التنمية بالمشاركة.
2-المنظمات المحلية غير الحكومية وتحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء فى المجتمعات المحلية.
3- مناهج تطوير المنظمات الأهلية للمشروعات.
4- تخفيف الفقر وصيانة البيئة.
5- تعريف دور وأهمية اتصال دعم التنمية من أجل المشاركة الفعالة فى عملية التنمية.
6- إدارة المشروعات الصغيرة
7- تصميم فعال لخدمات تنظيم الأسرة
8- دور مؤسسات المجتمع المدنى في منع وإدارة وحل الصراعات فى أفريقيا.

النشرات
1- نشرة البحوث العربية:من العدد التجريبى يناير 1990 إلى العدد (15-16) سبتمبر2003- مارس2004.
2- نشرة المجلس الأفريقى لتنمية البحوث الاقتصادية والاجتماعية (كوديسريا): من العدد الأول أبريل 1991 إلى العدد الحادى والخمسون، 2008.
3-نشرة العلوم السياسية الأفريقية: من العدد الأول إلى العدد الثامن والثلاثون، أغسطس 2003.
4- نشرة الذاكرة الوطنية- مع لجنة التوثيق- العدد الثانى-أكتوبر 1996.
5- نشرة منتدى العالم الثالث بداكار: العدد الأول يوليو 1996- العدد الثانى يونيو 1997.
6- نشرة المنتدى العالمى للبدائل: العدد الثالث- فبراير 2002.
7- نشرة منظمة العلوم الاجتماعية لشرق وجنوبى أفريقيا (أوسريا)، العدد الثانى، يناير 2006.

تحت الطبع.
1. الجزء الثالث من وثائق الحركة الشيوعية المصرية من 1953- 1954.
2. شهادات ورؤى: الجزء الثامن.
3. أدب السجون

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

8 من الزوار الآن

916824 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق