Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > انعكاس المفاهيم الإسلامية-الشيعية في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية

8 حزيران (يونيو) 2019

انعكاس المفاهيم الإسلامية-الشيعية في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية

- م.د. فلاح إسماعيل حاجم

ملخص

يتناول باسلوب تحليلي مقارن مختلف جوانب الثورة الإسلامية في إيران ومقدمات قيام الثورة التي أثرت بشكل فاعل على مجمل تطور الأحداث في منطقة الشرق الأوسط منذ انطلاقتها (الثورة) في عام 1979 وليومنا هذا.
كما يتناول البحث الجدل الدائر في أوساط السياسيين ورجال الدولة والمتخصصين في مجال القانون حول التجربة الإيرانية بجوانبها المختلفة. ويركز البحث على تأثير الموروث الفكري للمذهب الشيعي على مجريات الثورة الإسلامية في إيران وخصوصا على بناء المنظومة القانونية المعاصرة لجمهورية إيران الإسلامية. كما يتناول البحث، بنوع من التفصيل، دستور الجمهورية الإسلامية وكيفية تنظيمه لأجهزة الدولة ونشاطها، ودور مجلس صيانة الدستور كجهة رقابية تشريعية مهمة.
ABSTRACT
This Thesis deals, in a comparative analytical way, with different aspects of the Islamic Revolution in Iran, and the premises of the revolution which affect the entire development in the Middle East since 1979 till the present day. The thesis also looks at the current discussions among politicians, state officials, and law academics, about the different aspects of the Iranian experience. It dwells on the effects of the intellectual heritage of the Shia doctrine on the new law system of the Islamic Republic of Iran. The thesis also deals, in some details, the constitution of the Islamic Republic, and how it organize the state departments and their practices, and the role of the Guardian council as an important monitoring legislative tool.

مقدمة

تعتبر تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية واحدة من التجارب الرائدة في ميدان المزاوجة بين القواعد الدينية وتلك المتفرعة عنها (المذهبية) وقواعد الحق (القانون) وخصوصا الدستورية منها. وقد أثارت هذه التجربة، وما زالت تثير، الكثير من الجدل ليس في أوساط المتخصصين في القانون الدستوري فحسب، بل وفي أوساط واسعة من المؤرخين والسياسيين ورجال الدولة، وحتى بين فئات واسعة من الناس في المنطقة العربية والإسلامية وفي العالم أجمع.
وإذا كان الجدل حول التجربة الإيرانية بصدد بناء السلطة يدور، في أغلب الأحيان، حول الجوانب السياسية من هذه التجربة، فإن جوانب أخرى لا تقل أهمية ينبغي أن تكون في الصميم من محاولات البحث في جوانب التجربة الإيرانية، التي يبرز من بين أهمها محاولات بناء القاعدة القانونية لبناء الدولة، مع ثقتنا الكبيرة بأن القانون هو المرآة العاكسة للسياسة، ذلك أن القاعدة السياسية سرعان ما تتحول إلى قاعدة قانونية عند إقرارها في أي من أجهزة الدولة المخولة (الجهاز التشريعي في أغلب الأحيان).
إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما ترتب على ذلك من تنامي نشاط الحركات الإسلامية في مختلف بلدان الشرق الإسلامي واتساع حركة المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، وكذلك النجاح الكبير الذي أحرزته الحركات الإسلامية للوصول إلى السلطة في فترات مختلفة عن طريق صندوق الاقتراع (الجزائر، مصر) يستدعي بالضرورة دراسة هذه التجربة والوقوف على البرنامج الحقوقي- الدستوري لها. بالإضافة إلى دراسة وتحليل دستور الجمهورية الإسلامية في إيران باعتباره نموذجا خاصا لوحدة التقاليد الإسلامية الشيعية في الموقف من السلطة، والتجسيد الحقوقي العملي لنظرياتها عن ولاية الفقيه.

المبحث الأول

حركة التجديد في الفكر الشيعي وتأثيرها على الحركة الدستورية

لقد تميزت حركة التجديد الشيعية، شأن الحركات الإسلامية الإصلاحية بإضفاء العناصر السياسية والحقوقية في مجمل نظراتها. مما أعطى لكيانها القديم ديناميكية التفاعل مع متطلبات المرحلة المعاصرة. وقد تمخض ذلك عن ظهور حركات سياسية شيعية استندت في اغلب الأحيان إلى الموروث الفكري- الأيديولوجي للشيعة.
وقد احتلت إيران موقعاً متميزاً في هذه العملية، وبالأخص في مجال احتلالها ما يمكن دعوته بميدان التجربة العملية للحركة الدستورية، التي كانت بدورها واحدة من نتائج الحركة التجديدية الشيعية. وإذا كان تشابه الحركات الإسلامية في موقفها من ضرورة الإصلاحات القانونية والدستورية، هو نتاج مرحلة معقدة من تطور الفكر والممارسة السياسية، إلا أن ذلك لا ينفي حقيقة أن الفكر السياسي في إيران وخصوصاً في العقود الثلاثة الأخيرة من عصر القاجاريين( )،يحتوي على سمة لا وجود لها على الأقل في مستوى هذه التشابهات في الدولة العثمانية ومصر. وهذه الخصيصة هي الموقف القوي والصامد لعلماء الشيعة في إيران في الدفاع عن الحركة الدستورية التي تطورت إلى ثورة 1905م. ولم يكن الدفاع عن الدستور محدوداً بالعلماء "المتحررين" بل كان هناك عدد من رجال الدين التقليديين، الذين لم يشكوا في أفضلية وجود ضابط قانوني على سلطة الشاه والبلاط وفوائد ذلك، في حين "أن هناك عددا محدودا من مستنيري الفكر داخل الهيئة الدينية- العثمانية والمصرية نالوا هذا المقام والمنزلة المجددة الفعالة في النضال القومي من اجل الحرية ومن أجل حكومة القانون"( ). وعلى هذا الأساس يمكننا القول بأن علماء الشيعة في إيران قد نالوا احتراماً كبيراً وذلك بسبب دورهم الروحي والاجتماعي والسياسي، واشتراكهم الفعال في الثورة الدستورية( ). ان ذلك يؤكد الدور الكبير والفعال لعلماء الشيعة في إيران في السعي لإقامة سلطة دستورية والدفاع عن المفاهيم الدستورية ومن أجل تحديد السلطة بقوانين وقواعد حقوقية، على خلاف ما يؤكده بعض الباحثين والمؤرخين الإيرانيين من أن علماء الشيعة معارضون دائماً لأي نوع من المفاهيم عن الدولة والنظام السياسي بسبب حصرهم الشرعية على حكومة الأئمة"( ). على انه من المفيد جداً الإشارة هنا إلى أن تأثير العلماء الشيعة في استمالة الجماهير إلى الأفكار الدستورية كان أكبر بكثير من تأثير المفكرين المغتربين الذين سعوا إلى نقل النموذج الأوربي. وهذا يعود، باعتقادنا، إلى أن ما يطرحه علماء الشيعة التقليديين هو اقرب إلى الفهم بالمقارنة مع الآراء والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمها المغتربون في حركتهم للتغيير، إذ أن مخاطبة الناس بالاستناد إلى الموروث الفكري الإسلامي وخصوصاً (الشيعي) منه هو أكثر تأييداً مما يطرحه المغتربون. إلا أن ذلك لا يعني بان المؤسسة الدينية الشيعية في إيران وقفت بشكل كامل إلى جانب الحركة الدستورية، فقد ظهر علماء بارزون وقفوا ضد الحركة الدستورية أمثال الشيخ فضل الله، وقد كانت معارضتهم هذه مبنية على أساس انتقادات شرعية بسيطة في مجال الدستور مثل "التعارض بين المسلم من جهة والاعتراف رسمياً بمساواة كل المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن دينهم من ناحية أخرى، وأخطار حرية الصحافة والمطبوعات التي يمكن أن تفتح طريقاً للأفكار والآراء الإلحادية الغربية، وعدم قابلية التعليم الإجباري للبنات للقبول"( ). إلا اننا في الحصيلة العامة، يمكننا القول، بان الحركة الدستورية قد شقت لنفسها الطريق إلى اغلب، ان لم يكن جميع، ممثلي الفئات الاجتماعية والحركات السياسية. اي انها حصلت على ما يشابه الاعتراف الشعبي منذ بدايات القرن في إيران خصوصاً، بعد ان كان رجال الدين الشيعة في الطليعة ممن صاغ الأسس المبدئية والوطنية العامة للقبول بالدستور، باعتباره لا يتناقض في جوهره مع إمكانيات الإسلام، بل على العكس. وهذا ما يمكن ملاحظته في تجربة إيران الدستورية في مخاض كل العقود بالقرن العشرين وهذا ما اتخذ صيغته "الكلاسيكية" الإسلامية في الدستور الإيراني الجديد (دستور الجمهورية الإيرانية الإسلامية). فخصوصيته تقوم أساساً كونه مبني، على أساس التقاليد الإسلامية. فقد أكد الدستور على أن "الخاصية الأساسية لهذه الثورة بالنسبة إلى سائر النهضات التي قامت في إيران خلال القرن الأخير أنما هي عقائدية الثورة وإسلاميتها"( )، لكن الدستور ذاته يقر بأن وضع هذا الدستور لم يكن تجربة جديدة، إنما مهدت له تجارب سابقة منها نهضة (المشروطة) المضادة للاستبداد ونهضة تأميم النفط لمحاربة الاستعمار إذ توصل الشعب الإيراني، إلى أن "السبب الأساسي البارز لعدم نجاح هذه النهضات أنما هو عدم عقائدية هذه الحركات" ويعتبر الدستور الجديد ان الالتزام بالمثل والعقائد الإسلامية هو سر نجاح التجربة الإسلامية في إيران بالإضافة إلى الدور الفعال لقائد هذه الثورة الإمام الخميني الذي أدرك "ضرورة التزام مسار النهضة العقائدية والإسلامية الأصيلة، وهكذا كانت هذه المرة انطلاقه لحركة تغييريه جديدة"( )، أن ذلك يؤكد دون شك الاستناد إلى الموروث الفكري الإسلامي في بناء الدستور وإدخال المفاهيم "الشيعية" الجديدة بصدد السلطة إلى القانون الأساسي، إذ يحتل مفهوم (ولاية الفقيه) كنموذج للحكم الإسلامي مكانه بارزة في الدستور، حيث أوكلت للدستور مهمة "إعداد الظروف المناسبة لتحقيق قيادة الفقيه "جامع الشرائط" والذي يعترف به الناس باعتباره قائداً لهم"( )، ومن خلال ذلك فأن الدستور يؤكد بأن تضمين مبدأ ولاية الفقيه يؤدي إلى "صيانة الأنظمة المختلفة، من الانحراف عن وظائفها الإسلامية الأصيلة"( ). هذا من جهة ومن جهة أخرى فأن القانون الأساسي للجمهورية الإسلامية يرى بأن تولي الفقهاء للسلطة ووجودهم على هرمها كفيل باعتماد القرآن والسنة كمصدرين أساسيين للتشريع والذي يعتمد الدستور عليهما في ادارة المجتمع "وعليه فانه من الضروري لزوم الإشراف التام، والدقيق من قبل علماء المسلمين المتصفين بالعدالة والتقوى والالتزام (الفقهاء العدول)"( ). ولتدعيم موقع القرآن في صياغة الدستور تَضَمَنَ (الدستور) الكثير من الآيات ضمن فصوله ومواده المختلفة، فالقرآن والسنة هما القانون الأساسي والدستور هو الوسيلة أو الأداة التي بواسطتها يتم تنفيذ القوانين الإلهية الموجودة أو المنزلة مسبقاً.
ان واحدة من الخصائص التي تميز دستور جمهورية إيران الإسلامية هي كون القانون الأساسي لم يكن معداً لإيران فقط، بل يمكن اعتباره مشروعاً لدستور مسؤول عن إعداد الظروف المناسبة لإقامة النظام الإسلامي العالمي، إذ يؤكد الدستور بهذا الخصوص بان "الدستور سيّق الظروف لاستمرارية هذه الثورة داخل البلاد وخارجها خصوصاً بالنسبة لتوسيع العلاقات الدولية حيث يسعى مع سائر الحركات الاسلامية والشعبية إلى بناء الأمة الواحدة في العالم"( ).
لقد استفادت الحركة الشيعية في إيران من التقاليد الشيعية السابقة، إذ أن رجال الدين امتلكوا خبرة كبيرة في كيفية خوض الصراع من أجل الدستور وذلك من خلال مشاركتهم الفعالة في حركة المشروطة (الحركة الدستورية) لعام 1905م التي أصبحت السبب في انتصار الحركة الدستورية الأولى. وقد كانت هناك سابقة تمنح أنصار الدستور الإسلاميين تفوقاً على سائر الجماعات ومهارة في الجدل وهي تقدم علم الأصول أو البحث في الأسس النظرية للفقه الذي أحرز تقدماً ملحوظاً منذ القدم بين الشيعة ووصل إلى أوج قمته بشكل جديد في القرن التاسع عشر، حيث كان الأصوليون يرون الاجتهاد والاعتماد على العقل هو العامل الأكثر أهمية في استنباط الأحكام وتشريع القوانين بما يتناسب مع التطورات الجديدة التي تطرحها الحياة ويواجهها المجتمع، بالإضافة إلى ذلك فإنهم كانوا يرون أيضاً إن كل عمل ينبغي أن يكون مباحاً إلا إذا كان الشرع قد منعه صراحة "أصالة الإباحة" في حين يرى الاخباريون* أن عليهم أن يتجنبوا أي فعل غير منصوص عليه في الشريعة خوفاً من ارتكاب الذنب. لكن هذه الاختلافات* ما كان بإمكانها أن تمنع رجال الدين من المساهمة الفعالة والنشيطة وأحياناً القيادية في المشاركة في الثورة الدستورية الأولى (ثورة المشروطة) هذا بخلاف ما يؤكده بعض المستشرقين من ان القوى الفاعلة في الثورة تتألف من مجموعتين هما:

1- المثقفون ذوي الميول الديمقراطية.
2- أولئك الذين انحدروا من عوائل ارستقراطية تلتزم بالقيم الليبرالية.
-  وتعتير الفئة الأولى أكثر تطرفا وحزما في الصراع ضد الحكم المطلق ومن أجل إقامة المفاهيم البرجوازية والضمانات الدستورية وعمل المجلس التمثيلي (البرلمان).
-  أما الفئة الثانية، فبحكم تعليمهم العالي يطالبون بالتكامل مع الثقافة الأوربية والمنجزات الاجتماعية للغرب .

ويذهب ذات الكاتب خطأ إلى أن وقوف بعض رجال الدين إلى جانب الثورة الدستورية كون "رجال الدين الروحيين كانوا قلقين من أن إصلاح النظام القضائي المقترح من قبل الانجليز ممكن أن يؤدي إلى إضعاف المحاكم الشرعية بشكل كبير" إذ أن ازدواجية النظام القضائي "أي وجود المحاكم الشرعية والمحاكم المدنية" قد استمرت لفترة طويلة- منذ العهد الصفوي فصاعداً- بحيث كانت قد أصبحت جزءاً من البنية التقليدية ولم يعد بإمكانها ان تكون محركاً للتغيير"( ).

من جهة أخرى فان الدفاع عن الدستور لم يكن محصوراً في مجموعة من علماء الدين المتحررين، أمثال عبد الله البهبهاني ومحمد الطباطبائي (كما يورد عربجيان)( )، بل كان هناك عدد من رجال الدين غير الثوريين يتقدمهم الشيخ فضل الله نوري لا يشكون أدنى شك في أفضلية وجود ضابط قانوني على سلطة الشاه والبلاط وفوائد ذلك.
فإذا كان النقاش (أو الخلاف) بين رجال الدين أنفسهم محصوراً حول قضايا فقهية وشرعية، فأن تطوره بالارتباط مع محاولات التجديد في الفكر الشيعي، إلى نقاش ارتدى طابعاً سياسياً، إذ أن الخلاف بات يدور حول قضايا من قبيل هل يحق لرجل الدين تولي مناصب قيادية في تركيبة الدولة؟ أو هل ضرورة أساساً لقانون أساسي (دستور) للدولة الإسلامية؟... إلخ.

ان هذه القضايا وغيرها طرحت بشدة أثناء أعداد ومناقشة مشروع الدستور الجديد، وصارت قضية الدستور مصدراً لكثير من الخلافات ليس فقط بين رجال الدين الشيعة والقوى الليبرالية والراديكالية العلمانية، بل وما بين رجال الدين أنفسهم فقد شكلت معارضة قوية أثناء الإعلان عن تبديل الانتخابات على مشروع الدستور من قبل الجمعية الدستورية وإحالته إلى المجلس الدستوري، إذ أعتبر واحد من كبار الدين وهو آية الله شريعتمداري هذه الخطوة: خطأً كبيرا مؤكدا أن "القائد الديني الذي يصبح رئيسا لإيران يهين كرامته، فأن تصبح رئيسا لإيران لا يعتبر رفعة لخادم الدين، بل أن ذلك تنزيلا من الناحية العملية"
في حين أعلن واحد آخر من كبار رجال الدين في إيران وهو آية الله خلخالي أنه" ليس هنالك ضرورة لإقرار أي دستور لإيران، وذلك لأن دستور إيران هو القرآن، وبدل الإصلاحات والجمعية الدستورية يكفي إقرار القانون الأساسي من قبل الإمام الخميني" ( )

المبحث الثاني

يدور الحديث في هذا المبحث عن المبادئ الأساسية والسمات الجوهرية التي يتميز بها لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، باعتباره نموذجا جديدا لم يألف تأريخ التطور الدستوري مثيلا له في السابق، ذلك أنه تمكن، إذا صح القول، من المزاوجة بين المفاهيم والقيم الدينية وقواعد القانون الوضعي، الأمر الذي يعتبر بحد ذاته مادة غنية للنقاش والتحليل.
ولتغطية مختلف جوانب هذا المبحث ارتأينا تقسيمه إلى ثلاثة مطالب هي:
1- المبادئ العامة والسمات الأساسية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
2- التركيبة الداخلية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
3- انعكاس الموروث الفكري الإسلامي – الشيعي في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية.

المطلب الأول

المبادئ العامة والسمات الأساسية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية

لقد تضمن دستور جمهورية إيران( ) الإسلامية جملة مبادئ منها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، مساندة نضال المستضعفين ضد المستغلين (المستكبرين) في أية نقطة في العالم، حق العمل وضمان ظروفه (العمل) التي من شأنها إنهاء استقلال الإنسان للإنسان، حرية التجمع والتظاهر السلمي، تشكيل الأحزاب الدينية والتنظيمات السياسية والنقابية التي لا تتنافى مع مبادئ الجمهورية الإسلامية، حرية النشر وكذلك حرية الإيمان... إلخ، بالإضافة إلى احترام الملكية الخاصة، كما ثبت الدستور بان الدين الرسمي للدولة هو الإسلام (بمذهبه الشيعي-الجعفري) كما أعلن بان الشخص الأول في الحكومة هو رئيس الجمهورية، وقد تعرض مشروع الدستور (بمبادئه المبينة) إلى انتقادات مختلفة من قبل مختلف الشخصيات السياسية وممثلي القوميات بما في ذلك من قبل بعض رجال الدين الإيرانيين.
فقد أعلنت هيئة الحقوقيين الإيرانيين بأن:على "الدستور أن يضمن سلطة الشعب بالمعنى الرفيع لهذه الكلمة...عن طريق تأمين الديمقراطية" . في حين أعلن الشيخ الحسيني (وهو أحد رجال الدين الأكراد) بأنه في حال إقرار مشروع الدستور بالصيغة التي قدمتها الحكومة فأن حقوق الأكراد ستنتهك.
وأعتبر بأنه فقط الهيئة الدستورية، التي تتكون من ممثلي القوميات والحقوقيين وممثلي الأحزاب التقدمية، ورجال الدين التقدميين والعسكريين وغيرهم كفيلة بضمان حقوق الأقليات القومية في إيران( ).
هذا بالإضافة إلى أن مشروع الدستور قد تعرض لانتقادات أخرى مختلفة من قبل الأحزاب الإيرانية (على اختلافها).

المطلب الثاني

التركيبة الداخلية لدستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية

يتألف دستور جمهورية إيران الإسلامية والذي أعد مشروعه من قبل الحكومة وأتم من قبل مجلس الخبراء من اربعة عشر فصلاً ويشتمل على مائة وسبع وسبعين مادة، حيث تناول الفصل الأول (أصول عامة) نظام الحكم في إيران وهو "الجمهورية الإسلامية"(المادة1) في حين تتناول المادة الثانية الأسس التي يقوم عليها الدستور وهي الإيمان بالواحد الأحد "لا اله إلا الله" وان الله هو الحاكم الوحيد المنفرد بالحكم والتشريع، الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساسي في بيان القوانين، الإيمان بالمعاد، والإيمان بعدل الله في التكوين والتشريع، بالإضافة إلى ذلك فقد أكدت هذه المادة على "الإيمان بالإمامة والقيادة المستمرة، ودورها الأساسي في استمرار الثورة التي أحدثها الإسلام بالإضافة إلى أسس ثانوية أخرى، وقد ثبتت المادة الثالثة من الدستور مختلف الحقوق والحريات العامة والخاصة (الشخصية). وقد افرد الدستور مادته الرابعة لاعتبار الدستور مستنداً فقط إلى الموازين الإسلامية واعتبر هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين الأخرى وأناط مهمة تقييد بنوده إلى مجلس صيانة الدستور المؤلف من الفقهاء فقط. وفي الوقت الذي يؤكد فيه الدستور في مادته السادسة على أنه "يجب أن تدار شؤون البلاد في جمهورية إيران الإسلامية بالاعتماد على رأي الأمة الذي يتجلى بانتخاب: رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي وأعضاء سائر مجالس الشورى ونظائرها، أو عن طريق الاستفتاء في المواد التي نص عليها الدستور" يشترط الدستور ممارسة هذا الحق وكيفية ممارسة السلطات الثلاث لصلاحيتها فقط تحت إشراف ولي الأمر وإمام الأمة، مؤكداً بان ولي الأمر والإمام هو شخص واحد (المادة 57) وهو بذلك يكون قد ألغى فعلياً مبدأ الفصل بين السلطات التي نصت عليه المادة ذاتها (57). وهذا ما أكده أحد الأكاديميين المتخصصين في القانون الدستوري وهو خير إله بروين، حيث يكتب "أن السلطات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية والتي هي عبارة عن السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية والسلطة القضائية تكون تحت إشراف ولي أمر المسلمين (الولي الفقيه)" ، مؤكدا بأن "السلطات ونشاطاتها مستقلة عن الأخرى، ولكنها تمتلك نظاما خاصا بها يختلف عن جميع الأنظمة التي فيها فصل للسلطات لأنه طبقا للمادة (57) فإن هذه السلطات تقع تحت إشراف القيادة...." لكننا نلاحظ ازدواجية واضحة في مجال الإشراف على عمل السلطات الثلاث، ففي الوقت الذي نصت فيه المادة (السابعة والخمسون 57) على أن رئيس الجمهورية هو المشرف على عمل هذه السلطات، تؤكد المادة (94) أن "لا مشروعية لمقررات مجلس الشورى الإسلامي إلا بوجود مجلس صيانة الدستور". وفي ذات السياق تضمنت المادة (93) نصا يؤكد أن "لا مشروعية لمجلس الشورى الإسلامي دون وجود مجلس صيانة الدستور، عدا ما يتعلق بإصدار وثائق عضوية النواب، وانتخاب ستة أعضاء حقوقيين لمجلس صيانة الدستور.مهمة إصدار عضوية النواب، وانتخاب ستة أعضاء حقوقيين لمجلس صيانة الدستور "في مجلس الشورى وبذلك تكون المادة (93) قد ألغت صلاحية السلطة التشريعية بإجراء الاستفتاء الشعبي بعد مصادقة ثلثي أعضاء مجلس الشورى الإسلامي حول القضايا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، والثقافية الهامة.
وقد أكد الدستور على أن المهمة الرئيسية لمجلس الشورى، هي إصدار القوانين وفقاً للدستور، أي أن المجلس لا يحق له إصدار قوانين تتعارض مع بنود الدستور والمذهب الرسمي للبلاد (الشيعي) (م/ 71- 72). كما ويتولى المجلس مهمة تفسير اللوائح القانونية التي تتقدم بها الحكومة إلى المجلس (م 74) وباستطاعة عدد من نواب المجلس (لا يقل عن 15 نائباً) التقدم باقتراحات مشاريع القوانين والحصول على موافقة المجلس عليها، غير أن المجلس يحتفظ لنفسه بحق تدقيق ومناقشة جميع شؤون البلاد الأخرى، أي أن المجلس حر باختيار المواضيع التي يود بحثها، كما أن المعاهدات والاتفاقات التي تعقدها الحكومة مع الدول الأخرى لا يمكن أن تكون سارية المفعول إلا بعد مصادقة المجلس عليها (م 77). ومن صلاحيات المجلس أيضاً البت في قضايا الحدود، إذ لا يمكن إحداث تغيير في حدود البلاد الدولية إلا بعد مصادقة أربعة أخماس أعضاء مجلس الشورى أي 80% من مجموع عدد نواب المجلس (م 78) كما أن صلاحيات المجلس النظر في منح الحكومة حق فرض الأحكام العرفية إذ تشترط المادة (م 79) على الحكومة أخذ موافقة المجلس على إعلان الأحكام العرفية بشكل مؤقت ولمدة ثلاثين يوماً فقط قابلة للتجديد. أما بشأن النشاط التجاري والاقتصادي الأجنبي في البلاد فأن المادة (م 81) تعطي المجلس حق منح الأجانب رخصة تأسيس الشركات والمؤسسات الصناعية والتجارية والزراعية في البلاد، غير أن المادة ذاتها لا تذكر الجهة التي تتمتع بهذا الحق غير أن المجلس يتمتع بحق إصدار الرخص لعمل الخبراء الأجانب في البلاد بعد دراسة التوصيات التي تتقدم بها الحكومة (م 82). أما المادة (85) من الدستور، فتمنح المجلس حقا حصريا في إصدار القوانين، أي أن المجلس لا يمكنه تفويض هيئات أو لجان حكومية أو غير حكومية أخرى من خارج قوامه بصلاحياته، إذ يحصر هذه المهمة فقط باللجان التابعة له (للمجلس).
ومن بين أهم صلاحيات المجلس هي منح الثقة للوزارة، أي ان الوزارة بعد تشكيلها لا يمكن اعتبارها قائمة إلا بعد حصولها على ثقة المجلس، ولكن المادة الخاصة بهذه القضية لا تشير إلى النسبة (عدد النواب) التي يمكن بواسطتها للوزارة أن تحضى بها على ثقة المجلس، كما أن أعضاء الوزارة مسؤولين أمام المجلس عن أعمالهم وملزمون بالحضور إلى المجلس والإجابة على أسئلة أعضاءه (م 88)، كما ويحق للمجلس حجب الثقة عن الوزراء (أو عن الوزارة ككل) والوزير الذي تحجب عنه الثقة لا يحق له ترشيح نفسه للوزارة القادمة.
ومن صلاحيات مجلس الشورى المصادقة على نصف عدد أعضاء مجلس صيانة الدستور (6 أعضاء حقوقيين) الذين يرشحهم عادة مجلس صيانة الدستور- غير ان المادة /91/ لا تشير إلى حق مجلس الشورى في رفض من يرشحهم مجلس صيانة الدستور. وتأتي المادة (93) لتؤكد حق مجلس صيانة الدستور في رفض أية مشاريع قرارات صادرة عن مجلس الشورى ما عدا تلك القرارات الثانوية الخاصة بعمل النواب. أن مشاريع القوانين التي يصادق عليها مجلس الشورى ترفع إلى مجلس صيانة الدستور لدراسة مدى تطابقها مع أحكام الدستور والشريعة الإسلامية خلال مدة عشرة أيام قابلة للتجديد مرة واحدة. أن المادة (96) تفصل بين صلاحيات الفقهاء الحقوقيين في مجلس صيانة الدستور. فهي تعطي الحق للفقهاء في النظر في مدى مطابقة مشاريع القوانين مع الشريعة الإسلامية والموافقة عليها تتم بالأغلبية البسيطة من بين أصوات الفقهاء فقط، في حين أن هذه المادة تعطي الحق للأعضاء الحقوقيين، سوية مع الفقهاء، النظر في مدى مطابقة مشاريع القوانين مع أحكام الدستور، وفي هذه الحالة تجري الموافقة بأكثرية أعضاء مجلس صيانة الدستور (الحقوقيين والفقهاء)، ويحق لأعضاء مجلس صيانة الدستور حضور جلسات مجلس الشورى والمشاركة في مناقشة مشاريع القوانين التي ينظر فيها مجلس الشورى. غير ان المادة (97) تخلو من الإشارة إلى حق أعضاء مجلس صيانة الدستور في التصويت عند حضورهم جلسات مجلس الشورى. أما المادة (98) فتحصر حق تفسير مواد الدستور بمجلس صيانة الدستور وليس بمجلس الشورى، وتذهب المادة (99) بعيداً وتحرم مجلس الشورى من حق الإشراف على انتخابات رئيس الجمهورية او الاستفتاءات العامة في البلاد وتحصر هذا الحق في مجلس صيانة الدستور.
ويتناول الفصل السابع من الدستور الأسباب الموجبة لتشكيل مجالس الشورى المحلية وطرق تشكيلها وأدائها لمهامها ووظائفها، كما ويتناول العلاقة بين مجالس الشورى في القرية والمدينة والمحافظة، وعلاقة هذه المجالس برؤساء الوحدات الإدارية المعينين من قبل الحكومة وتلزم المادة (103) هؤلاء الإداريين بمراعاة قرارات مجالس الشورى المحلية الصادرة في نطاق صلاحيات المجالس والتي يجب أن لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية وقوانين البلاد. وتنظر المادة (106) في إمكانية حل مجالس الشورى المحلية، غير أنها لا تحدد الجهة التي تحتفظ بهذا الحق، وهذه المادة ذاتها تمنح مجلس الشورى المحلي حق الاعتراض على قرار أمام المحكمة المختصة.
الفصل التاسع من الدستور يتناول صلاحيات السلطة التنفيذية ابتداء برئيس الجمهورية وحتى الجيش وقوات حرس الثورة. فالمادة (113) تؤكد أن رئيس الجمهورية يعتبر أعلى سلطة رسمية في البلاد وهو المسؤول عن تنفيذ الدستور وتنظيم العلاقات بين السلطات الثلاث: مدة ولاية رئيس الجمهورية 4 سنوات وينتخب من قبل الشعب مباشرةً ويجوز إعادة انتخابه لمرة واحدة فقط (م 114). وتتضمن المادة (115) الشروط التي يجب توفرها في المرشح لرئاسة الجمهورية الإيرانية وأهمها أن يكون مؤمناً بالمذهب الرسمي للبلاد (أي المذهب الشيعي). وتتم انتخابات الرئاسة عن طريق الإشراف المباشر عليها من قبل مجلس صيانة الدستور. ويصادق رئيس الجمهورية على جميع المعاهدات والاتفاقات والمواثيق الدولية التي تبرم بين إيران والدول الأجنبية بعد مصادقة مجلس الشورى عليها.
أما المواد (133، 142) من الدستور فتتناول قضايا تعيين الوزراء وصلاحياتهم ومسؤولياتهم أمام رئيس الجمهورية ومجلس الشورى الإسلامي وكذلك شروط عزلهم وتؤكد المادة (141) على الوزراء العمل في المؤسسات الاقتصادية الحكومية ولا يحق للوزير الجمع بين عمله في الوزارة وعضوية مجلس الشورى، أو العمل في حقل المحاماة أو إدارة أي شركة خاصة أو مختلطة، غير انه يحق له العمل في الجامعات أو مؤسسات البحوث العلمية بالإضافة إلى وظيفته.

ويؤكد الدستور في المادة (144) على ان جيش الجمهورية الإسلامية الإيرانية جيشاً عقائدياً مؤمناً بأهداف الثورة الإسلامية ويقصد بالعقائدية هنا الإيمان بالمذهب الشيعي (الرسمي) وبذلك تحرم هذه المادة على غير الشيعة إمكانية الخدمة في القوات المسلحة أسوة بالأجانب الذين لا يحق لهم أيضاً الخدمة كما نصت المادة (145) على ذلك.
يخصص الدستور فصله الحادي عشر للسلطة القضائية إذ تؤكد المادة (156) من الدستور على ان السلطة القضائية هي: سلطة مستقلة، تدافع عن الحقوق الفردية، والاجتماعية وعليها مسؤولية إحقاق العدالة وتدرج هذه المادة مهمات السلطة القضائية ومنها، التحقيق، وإصدار الحكم في التظلمات، والاعتداءات والشكاوي... إلخ، بالإضافة إلى أحياء الحقوق العامة وبسط العدالة والحريات المشروعة كما تنيط هذه المادة بالسلطة القضائية مهمة الأشراف على حسن تنفيذ القوانين. وتتضمن المادة (157) على انه يتم تشكيل مجلس باسم المجلس الأعلى للقضاء تكون من بين مهامه أعداد اللوائح القضائية، وتعيين القضاة العدول وعزلهم، ونقلهم... إلخ. في حين تحدد المادة التالية (158) أعضاء المجلس وعددهم (15) هم كل من: رئيس المحكمة العليا، المدعي العام للبلاد، بالإضافة إلى ثلاثة قضاة مجتهدين يتم انتخابهم من قبل قضاة البلاد، وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما اشترطته المادة (162) من الدستور في أن يكون رئيس المحكمة العليا، والمدعي العام للبلاد مجتهدين نرى أن جميع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء من المجتهدين ولا مجال لوجود حقوقيين مختصين، حيث يكفي معرفة الشريعة والاجتهاد بها لان يصبح الشخص عضواً في مجلس القضاء الأعلى، وتدعم المادة (163) ذلك إذ تنص على انه يحدد القانون صفات القاضي، وشروطه طبقاً للقواعد الفقهية. وبذلك يكون الدستور الجديد قد كرس بالكامل أحكام الشريعة الإسلامية أن لا مجال لتنفيذ أي قرار أو لائحة قانونية من لوائح الحكومة إذا ما تعارض مع الأحكام الإسلامية كما نصت على ذلك المادة (170) من الدستور.

المطلب الثالث

انعكاس الموروث الفكري الإسلامي – الشيعي في دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية
قد يبدو من الصعب الحكم النهائي حول مدى تطابق انجازات التجربة الإيرانية في نموذجها الإسلامي المعاصر عن السلطة مع مثالها المجرد، إلا انه مما لا شك فيه، هو استناد التجربة إلى حصيلة التراث القديم في قرونه العديدة.

فمن الناحية التاريخية- الفكرية لم يكن بالإمكان توقع الصياغة الجديدة للدستور، باعتباره اسلوب تجلي "القانون العام" للدولة دون كل مآثر الفكر الشيعي الحقوقي- السياسي. ومن الناحية الحقوقية السياسية يمكن اعتبار هذا الدستور نقله إلى الأمام في مجال تعيين المفاهيم التشريعية في صيغة معاصرة إذ اننا لاحظنا بان هذه المفاهيم (الحقوقية) كانت موزعة بشكل عشوائي غير مرتب وقد تم تناولها من قبل كتاب وعلماء (دينيين) مختلفين وكانت خاضعة (المفاهيم) لاجتهادات هؤلاء العلماء لكن دستور جمهورية إيران الإسلامية حاول جمع كل ما أنتجه التراث الفكري الإسلامي (وخصوصاً الشيعي) في القانون الأساسي لهذه الدولة (إيران)، وهنا تجدر الإشارة إلى أن هذا الدستور لا يخلو من النواقص وخصوصاً في مجال تبويبه وترتيب مواده، إذ كما لاحظنا فأن هناك خلطاً كبيراً وقع فيه واضعو الدستور، إذ تم الخلط، كما اشرنا سابقاً، بين مهمات مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور من جهة وبين الأخير ومجلس الشورى من جهة أخرى، إضافة إلى مهمات الهيئات واللجان الأخرى سواء التابعة منها لمجلس الشورى أو لمجلس الوزراء والقيادة العليا (الإمام). وهذا ناتج باعتقادنا من كون الكلمة الحاسمة كانت دائماً ملكاً للفقهاء و(العلماء الدينيين) مما أدى إلى تغييب دور المختصين (الحقوقيين).

غير أن للتجربة الإيرانية في واقعية البديل السلطوي قيمتها وخصوصيتها السياسية- الثقافية. أي احتوائها تلك العناصر الجوهرية المحددة أيضاً بصيرورة الدولة القانونية الإسلامية. وهذا ما نعثر عليه في نموذجها العقائدي وتحول الإسلام إلى عصب الدستور ذاته. وفي هذه العملية الجديدة في التأريخ السياسي- الإسلامي- الحقوقي، تجري صياغة تآلف جديد يرتكز إلى صهر التقاليد المعاصرة في بوتقة البحث عن بديل ثقافي- سياسي. أي انه يطرح مهمة الطريق الخاص وتعددية الكيانات السياسية- الحقوقية. وهو بهذا المعنى، تجاوز الاتجاهية العامة للواحدية المدنية التي أبدعها التطور البرجوازي المعاصر.
فالبديل الحقوقي- السياسي في التجربة الإيرانية يمتلك بهذا المعنى مبرراته ومقوماته الخاصة. وإذا كان في مظهريته العامة يبدو كـ "ابتعاد" عن المسار العام للحضارة السياسية- الدستورية المعاصرة، فأنه في الواقع يعتبر التمثيل المناسب لانعكاس التقاليد العريقة في وعي الذات السياسي- الحقوقي في التجربة الإيرانية، إذ أنها ليست تجربة رد الفعل المباشر تجاه "حضارة الغرب" بل إنها تشكل الاستمرارية الثقافية في إطارها القانوني لأحد نماذج وعي الذات القومي- الثقافي.

الخاتمة

في ختام بحثنا هذا يمكننا أن نخلص إلى النتائج التالية:
1- تعتبر تجربة الجمهورية الإسلامية الإيرانية واحدة من التجارب الرائدة في ميدان المزاوجة بين القواعد الدينية وتلك المتفرعة عنها (المذهبية) وقواعد الحق (القانون) وخصوصا الدستورية منها.
2- كان للموقف الصامد لعلماء الشيعة في إيران أثر كبير في الدفاع عن الحركة الدستورية التي تطورت إلى ثورة 1905م.
3- أن القانون الأساسي للجمهورية الإسلامية يرى بأن تولي الفقهاء للسلطة ووجودهم على هرمها كفيل باعتماد القرآن والسنة كمصدرين أساسيين للتشريع والذي يعتمد الدستور عليهما في إدارة المجتمع.
4- إذا كان النقاش (أو الخلاف) بين رجال الدين أنفسهم محصوراً حول قضايا فقهية وشرعية، فأن تطوره بالارتباط مع محاولات التجديد في الفكر الشيعي، إلى نقاش ارتدى طابعاً سياسياً.
5- تعرض مشروع الدستور إلى انتقادات مختلفة من قبل مختلف الشخصيات السياسية وممثلي القوميات بما في ذلك من قبل بعض رجال الدين الإيرانيين.
6- افرد الدستور مادته الرابعة لاعتبار الدستور مستنداً فقط إلى الموازين الإسلامية واعتبر هذه المادة نافذة على جميع مواد الدستور والقوانين الأخرى وأناط مهمة تقييد بنوده إلى مجلس صيانة الدستور المؤلف من الفقهاء فقط.
7- دستور الجمهورية الإسلامية تجاوز الاتجاهية العامة للواحدية المدنية التي أبدعها التطور البرجوازي المعاصر.

ملاحظة

(1)الاسرة الحاكمة في إيران قبل صعود رضا خان إلى السلطة وإعلان نفسه شاهاً ومؤسساً للإسرة البهلوية عام 1925م، أي عام القضاء الكلي على النظام القاجاري.
(2 )راجع: أحمد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي المعاصر مكتبة مدبولي، القاهرة 1988م- ص 328.
(3)Joseph Eliash "Misconception Regarding the judicial status of the lraian in ternationalgurnal of the middle East X 1979- P- 9- 25.

(4)راجع: أحمد كسروي: الدين والسياسة، طهران 1348هـ ش- ص11 (مأخوذة من كتاب أحمد عنايت، مذكور سابقاً.
(5 )أحمد كسروي، تأريخ مشروطية إيران (ط 6) طهران 1344هـ ش- ص 315- 316.
( 6)دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إصدار المستشارية الثقافية لجمهورية إيران الإسلامية بدمشق- 1985 (المقدمة)- ص 23.
( 7)نفس المصدر- ص 24.
( 8)دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إصدار المستشارية الثقافية لجمهورية إيران الإسلامية بدمشق- 1985 (المقدمة)- ص 30.
( 9)نفس المصدر- ص 30.
(10 )نفس المصدر- ص 29.
( 11)نفس المصدر- ص 28- 29.
*- الاخباريون- قسم من علماء الدين ترفض الاجتهاد وتقول بأن المسؤولية الواجبة بالنسبة للمسلمين هي جمع أخبار الأئمة ورواياتهم، وترى بأن أي مسلم وإن كان عاميا وبسيطا يمكن أن يقوم بهذا العمل، ويعتقدون بأن كل علم غير قابل للثقة، إلا إذا كان صادرا من قبل الإمام المعصوم.
*- الاختلافات بين رجال الدين في الثورة الدستورية ليست حول الدستور بالذات، بل كانت هذه الاختلافات تدور أساسا حول موضوعات فقهية وشرعية.
- ارابجيان، إيران: السلطة، الثورة والإصلاح. دار العلم، موسكو 1991، ص 36-37 (باللغة الروسية).
12 - نفس المصدر، ص 30.
( 13)أحمد عنايت: مصدر مذكور- ص 323.
( 14)ارابجيان، مصدر مذكور، ص 19.
15 - س.أ. أغايف. إيران: ولادة الثورة، دار نشر الثقافة السياسية، موسكو 1984، ص 188.

( 16)- نفس المصدر، ص 189. (باللغة الروسية).
(17 )دستور الجمهورية الإيرانية الإسلامية الصادر عن المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية بدمشق- 1985م.
18 س.أ. أغايف، مصدر مذكور، ص 192.
( 19)نفس المصدر، ص 192.
الدكتور خير إله بروين، الوسيط في القانون الدستوري الإيراني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2009، ص 108.
20- نفس المصدر، ص 109.

المراجع
1- دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إصدار المستشارية الثقافية لجمهورية إيران الإسلامية بدمشق- 1985.
2- أحمد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي المعاصر مكتبة مدبولي، القاهرة 1988م.
3- أحمد كسروي: الدين والسياسة، طهران 1348هـ ش.
4- أحمد كسروي، تأريخ مشروطية إيران (ط 6) طهران 1344هـ ش.
5- دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إصدار المستشارية الثقافية لجمهورية إيران الإسلامية بدمشق- 1985.
6- ارابجيان، إيران: السلطة، الثورة والإصلاح. دار العلم، موسكو 1991 (باللغة الروسية).
7- س.أ. أغايف. إيران: ولادة الثورة، دار نشر الثقافة السياسية، موسكو 1984 (باللغة الروسية).
8- الدكتور خير إله بروين، الوسيط في القانون الدستوري الإيراني، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت 2009.
9- الدكتور فلاح إسماعيل حاجم، القانون الدستوري لبلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، منشورات دار "بيبلوس كوستالتينك" موسكو- 2009 (باللغة الروسية).
10- 9- Joseph Eliash "Misconception Regarding the judicial status of the lraian in ternationalgurnal of the middle East X 1979.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

3 من الزوار الآن

916794 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق