Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > المقاومة والاعلام > تاريخ الإذاعة الفلسطينية “هنا القدس” الحلقة الأخيرة

19 نيسان (أبريل) 2019

تاريخ الإذاعة الفلسطينية “هنا القدس” الحلقة الأخيرة

نشرة الأخبار

إذا عرفنا أن مدة بث البرنامج اليومي هي عشر ساعات ونصف مقسمة على النحو التالي:
أربع ساعات ونصف باللغة العربية
ثلاث ساعات ونصف باللغة العبرية
ساعتان ونصف باللغة الانكليزية.
تبين لنا أن مدة ساعة من البرنامج العربي تخصص لنشرة الأخبار التي تذاع في الساعات 7.15 صباحاً والثانية ظهراً والسادسة والتاسعة مساءً وتستغرق كل إذاعة من نشرة الأخبار ربع ساعة.
ومن المعروف أن الانجليز كانوا القائمين على تنفيذ سياسة البرنامج العربي، وخصوصاً نشرة الأخبار التي كانوا يشرفون على كل شاردةٍ وواردةٍ فيها، وكانوا يسيرونها حسب غاياتهم وأهوائهم ويبثون ما بين السطور أفكارهم المغلوطة وأساليبهم الملتوية.
وبين السنوات 1939 1945 أي ما بين سني الحرب العالمية الثانية، كان المسؤولون البريطانيون يبذلون جهوداً جبارة لتحبيب الشعب العربي الفلسطيني بالسياسة التي ينتهجونها، ويتحدثون ما وسعهم الحديث عن حرية الشعب البريطاني والديمقراطية التي يتمتع بها، كما كانوا ينددون بالمحور خصوصاً الشعب الألماني، ويعددون مساوئه ومثالبه ويتهمونه بالديكتاتورية والقسوة، والجبروت.
لذا كانت نشرات الأخبار الأربع تغطي أخبار المعارك الطاحنة والقتال الدائر بين الحلفاء والمحور مع الدس الموجه الذي كانت ترتأيه السياسة البريطانية.
ولكن.. ولكن..!
ومع كل الدعاية التي كانوا يقومون بها ضد الشعب الألماني، فإن الشعب العربي الفلسطيني، في الظروف الحرجة التي يعيشها، كان يميل إلى انتصار المحور، أي الألمان تخلصاً من الانكليز وظلم الانكليز، ومن سياستهم الخرقاء التي كانوا يتبعونها لتهويد فلسطين.
ولم تنطل على الشعب العربي الفلسطيني كثرة الأباطيل والأ راجيف التي كانوا يتبعونها في الإذاعة، والسموم التي كانت مخابراتهم تبثها، لعلمهم بان الانجليز كانوا يمهدون لأسيادهم الصهاينة من أجل اغتصاب فلسطين وإنشاء وطن قومي لهم على أرضها.
ملاحظة: لم يكن لمدراء القسم العربي أي سلطة فعلية على ما يبث في نشرة الأخبار.

برامج أخرى

وكان بين البرامج اليومية الثابتة هو برنامج " تمرينات رياضية"، كان يتناوب في تقديمها كل من: السيد ابراهيم سليم نسيبة والسيد حسين حسني كما كان الواحد منهما يقدم أسبوعياً برنامج "الرياضة في أسبوع".
أما عن البرامج الأخرى فقد تحدثنا عن "الأحاديث" (وهو برنامج مخصص للأطفال)
والرواية المسرحية والأغاني الفولكلورية والبرامج الدينية.
بقي علينا أن نذكر ان المسؤولين في الإذاعة الفلسطينية قد خصصوا للقصة المحلية أو المترجمة عن اللغات الأجنبية المتعددة، خصصوا لها ما بين 15-20 دقيقة أسبوعياً.
وكان الرائد الأول لتقديم القصة هو أستاذي خليل بيدس الذي كان يتحف المستمعين بقصصه الطريفة المحبوكة فنياً والتي كان يصوغها بلغةٍ عربيةٍ متينة وأسلوبٍ عربيٍ مشوق.
وقد ساهم كاتب هذا التاريخ الإذاعي بتقديم العديد من القصص المحلية التي تعالج أمراضنا الإجتماعية. أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر القصص التالية:
حبيبته الأولى، وفاء، على باب الدار، توبيخ ضمير، ضغط دم، عودة المغترب، إيمان باللقاء، إمرأة وإمرأة وغيرها كثير.

الخاتمة

إن اختياري لموضوع " تاريخ الإذاعة الفلسطينية 1936-1948 " جاء نتيجة عدة عوامل أهمها:
1- أحببت فن التمثيل حباً سرى في كل نبضة من نبضات القلب وخفقة من خفقاته. وفي سنة 1925، وكنت ما أزال طالباً في مدرسة المطران في القدس، أقبلت على حضور ما كان يعرض من المسرحيات على خشبة المسرح، وصرت أركض وراء كل تمثيلية تصدر أو بحث يتعلق بالمسرح العالمي عامة والمسرح العربي خاصة.
حضرت معظم الروايات التي مثلتها الشفرق المصرية الزائرة، ورحت أدون الملاحظات الطريفة عن المسرح وأنشر في الجرائد والمجلات، الفلسطينية منها والمصرية، تقاريظ للحفلات والمسرحيات التي كنت أشاهدها، ولم أكتف بإقبالي على حضور المسرحيات بل شددت الرحال إلى مصر، يحدوني الشوق كي أشاهد تلك الفرق التي طبق ذيعها الآفاق مثل فرق: جورج أبيض، يوسف وهبي (رمسيس) كما لم أفارق فرقة نجيب الريحاني وأمين عطا الله وعكاشة أخوان والفرقة القومية المصرية، وتمتعت بل أعجبت بمعظم المسرحيات التي عرضتها، والتمثيل المتطور الذي كان يقوم به أفرادها.
ولما اشتد عودي وتمكنت من لغة الآباء والأجداد ، أخذت أصوغ أفكاري وأكتب للمسرح الفلسطيني إذ كنت أكره المسرحيات الأجنبية التي لا تمت إلى حياتنا بصلة.
أسستُ أول فرقة تمثيلية في مدينة القدس باسم " جمعية الفنون والتمثيل" سنة 1928 وكتبت للفرقة ما بين السنوات 1928-1930 ثلاث مسرحيات ذات فصول أربع هي: "الحق يعلو"، " فؤاد وليلى"، و"الشموع المحترقة" التي تمت طباعتها سنة 1936 وقد لاقت هذه المسرحية الأخيرة انتشاراً واسعا ًومُثلت في معظم المدن العربية: القدس، يافا، بيت لحم، غزة، عمان، إربد، زحلة...الخ ثم تكررت محاولاتي في التأليف فبلغ ما ألفته أو ترجمته أكثر من مئة مسرحية.
2- عاصرت محطة الإذاعة الفلسطينية – هنا القدس – منذ تأسيسها عام 1936 وأسست مع أخوي جميل وفريد وابن عم لنا (إميل) وبعض الأصدقاء "فرقة الجوزي"، كما أسلفت، وأسهمنا إسهاماً فعالآً في تقدم المسرحية الإذاعية من حيث التأليف والترجمة والإخراج والموسيقى. وكذلك في ترغيب مستمعي الإذاعة في الاستماع لهذا النوع من الفن الراقي وتعريفهم إليه. وقد قدمنا مئات من الفصول التمثيلية، التراجيديا والكوميديا والدراما وراعينا من جملة ما راعينا أن تكون اللغة العربية سهلة ممتنعة واستعملنا اللغة الدارجة في الفصول الهزلية.
3- حزّ في نفسي أن الموضوع على أهميته التاريخية الفلسطينية، لم يطرقه أحد من الناس، خصوصاً اتحادات الكتاب والصحفيين الفلسطينيين نظراً للظروف السياسية القائمة في بلادنا العربية، لذلك شمرت عن ساعدي، وبمساعدة أخوي جميل وفريد اللذين زوداني بكثير من النصوص والمعلومات، ووطنت العزم أن أخوض الموضوع، موضوع الإذاعة التي عاصرت تاريخها واطلعت على كل كبيرة وصغيرة فيها. عرفت مدراء القسم العربي المرحومين: ابراهيم طوقان، وعجاج نويهض، و عزمي النشاشيبي الذين ربطتني بهم أواصر الصداقة كما عرفت مساعديهم المعروفين: محمد أديب العامري، عصام حماد، موسى الدجاني، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، راجي صهيون، واطلعت عن كثب على المحاولات الدنيئة التي كانت تقوم بها الرقابة الحكومية البريطانية لإسكات صوت الحق العربي والتحيز الذي كانت تمارسه وتطبقه على القسم العبري الذي كان يصول ويجول كما يحلو له ويروق.
4- يلاحقني أبناء شعب فلسطين الذين يتوقون إلى معرفة تاريخ بلادهم ويكثرون من زيارتي وطرح الأسئلة عن الحياة الثقافية في فلسطين وعن الرواد المسرحيين المؤلفين منهم والمترجمين والممثلين والمذيعين وأسماء المسرحيات التي مثلت أو أذيعت زمن الانتداب البريطايني، أسئلة تدل على وعي وذكاء.
-  كيف كان إقبال الجمهور على المسرحيات الإذاعية؟
-  هل كان هناك اتصال بين الفرق التمثيلية العربية الفلسطينية وبين الفرق اليهودية؟
-  نرجو تعريفنا على بعض الكتاب الفلسطينيين وعلى أسماء مسرحياتهم التي أذيعت.
-  هل اعتلت الفتاة الفلسطينية خشبة المسرح؟
أسئلة تتكرر وتتكرر ونزولاً عند رغبة ابنائي الفلسطينيين وحباً في سد ثغرة من ثغرات أدبنا العربي الفلسطيني، وحباً في تأدية رسالة وطنية فلسطينية أقدمت طائعاً مختاراً على كتابة تاريخ الإذاعة الفلسطينية –هنا القدس- (1936-1948)
5- واجهتني صعوبات لا عد لها ولا حصر عندما باشرت عملي في كتابة هذا الكتاب أجملها فيما يلي:
أ‌- كتبت للعديدين ممن كان لهم دور في تقدم الإذاعة الفلسطينية وفي تقدم المسرحية الإذاعية تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً فلم أتلق إلا أجوبة تعد على الأصابع لاتغطي الموضوع.
ب‌- عرفت من جملة ما عرفت أن النصوص الرئيسية قد تركها أصحابها في فلسطين لدى التهجير القسري سنة 1948 لتصبح لقمة سائغة لأبناء صهيون الذين يحسنون استغلال موادها لصالحهم
ت‌- تبين لي بعد الاستقصاء والتحري، أن عدداً من المؤلفين والمخرجين والممثلين قد انتقل إلى رحمته تعالى وأن قسماً آخر قد تفرق في خضم هذا العالم الفسيح طلباً للرزق.
ث‌- انتهيت إلى الرأي أن المصادر في مكتبات الدول العربية ومراكزها الثقافية عن هذا الموضوع قليلة جداً لا تشفي غليل الباحث أو تروي عطشه.
ج‌- زرت في لندن مكتب التوثيق العام Public Record Office فما وجدت إلا أوراقاً مهترئة ومعلومات ناقصة وبعد الجهد والجهيد خرجت بخفي حنين، وأحالني المكتب، ويا لسخرية القدر، إلى عنوان في فلسطين المحتلة لأستقي المعلومات التي أريدها.
ح‌- ولا حرج علي ولا لوم، إن أنا ذكرت دون الخوض في التفسيرات، تلك الأوضاع السياسية المحزنة القائمة بين "الأشقاء" العرب، الأوضاع التي لا تتيح الفرصة لأيٍ كان، من التنقل بحرية من بلد عربي شقيق إلى بلد مجاور دون الحصول على إجازات وتصاريح مسبقة قد تستغرق أشهراً إن لم يجد صاحب الحاجة من يدعمها. ناهيك ذلك التفتيش على الحدود الذي لا يسر الخاطر ولا يشرح الصدر.
ولكن مع كل المعوقات والمضايقات، كنت أشعر بضرورة القيام بهذه الرسالة الوطنية لسدّ النقص القائم ولعدم وجود أي كتاب يغطي تلك الحقبة من الزمن ويبحث في تاريخ الإذاعة الفلسطينية الذي هو جزء لا يتجزأ من تاريخ جهاد أبناء فلسطين، وسجل حافل بتاريخ الرواد الذين كرسوا أنفسهم للفنون الجميلة كالمسرحية والإخراج والموسيقى والغناء والتأليف.
ولعلي بعملي هذا أضع لبنة لأبناء وبنات بلادي الذين تشردوا أو ولدوا خارج أرض الآباء والأجداد، وقاسوا ما قاسوا في سبيل لقمة العيش، ولم تتح لهم الظروف الإستماع إلى الإذاعة الفلسطينية أو الإطلاع على تاريخها.
ولعله يقوم ويتحمس، بعد أن تنجلي الأمور، وتعود المياه إلى مجاريها، من يهتم بهذا الموضوع فيتفرغ له ويتسنى له التنقل بين البلاد العربية كما يحلو له ويروق، ويضيف إلى البحث ما يمكن إضافته، ويسد ثغرات بينت أسباب وجودها، ويكمل سجل الفن الذي يمثل ثقافة شعب، وجهاد أمة ونضالها في سبيل الحق والعدل والحرية وينشد مع المنشدين:.

بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمنٍ إلى مصر فتطوان
فلا حدّ يباعدنا ولا دين يفرقنا
لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان

****
فلسطين مرت عليها قوافل من المستعمرين والغزاة والظالمين ولكنها صمدت عبر التاريخ أمام المظالم، والوحشية، والبربرية، والاضطهادات، ولكنها لقنت هؤلاء الفاتحين، على اختلاف مللهم ونحلهم، لقنتهم دروساً في الفداء، والتضحية، والمقاومة الوطنية، ةالاستشهاد في سبيل الحرية والاستقلال.
وفي اعتقادي أنه إذا تضافرت الجهود، وتوحدت القوى العربية، وتصافت القلوب، واحتل التنظيم محل الفوضى والمهاترات، فلن يقف أي عائق من استرجاع هذه البقعة الغالية، والعودة إلى الأرض الطهور، واحتلال المكانة اللائقة بنا بين الشعوب والأمم.
وإني أتمثل قول شاعرنا الفلسطيني الكبير هارون هاشم رشيد الذي يقول لكل من يلقاه في طريقه:

فلسطيني

أنا اسمي فلسطيني
نقشت اسمي على كل العناوين
حروف اسمي تلاحقني
تعايشني...تغذيني
تبث النار في روحي
وتنبض في شراييني

هو اسمي، إنني أدري
يعذبني ويشقيني

كما يحضرني قول الشاعرالفلسطيني المبدع حسن البحيري حين يقول:

فلسطين يا سرّ دنيا وجودي ويا بسمة النور في مأملي
ويا نبض مجرى دمي في عروقي ويا سلسل الحب في منهلي

إلى أن يقول:

وإما تولّى ربيع الحياة وصوّح منه نديّ الزهر
وحمّ الردى أجلا في كتاب به من منايا البرايا سور
فلا تيأسي من إيابي إليك وإن غيبتني طوايا الحفر
فإني ولو حفنةً من ترابٍ سأرجع في قبضات القدر

المحلق رقم /1/

تأسيس محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية في يافا بفلسطين
بقلم: فهمي شما

إذا ما تعلَّق موضوع، أي موضوع، بجوانب تاريخية، عندئذ يجب على الكاتب أن يتوخى الصدق كل الصدق في السرد، والحقيقة كل الحقيقة في الرواية، ذلك أن التاريخ لا يرحم، ومن يحيد ولو قيد شعرة عن ذكر الحقائق المجردة الصادقة فالتاريخ يتصدى له ويحاربه بل ويفضح له كل ما سرد وكل ما روى.
ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ألسنة الخلق من أقلام الحق)) أي أنه إذا كثر عدد من يذكرون أمراً متفقاً عليه، فلابد وأن يكون ذلك الأمر حقيقة لا لبس فيها ولا جدال.
وموضوع "محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية" دار حوله لغط كبير، وأشيعت عنه حكايات وقصص، وصوّر بعض الناس ممن كانت الأغراض تسوقهم إلى الإشاعات الكاذبة، أن هذه المحطة أنشئت لخدمة الأغراض البريطانية ضد النازية فقط وأن لا شأن للحلفاء بها، وأن كثيراً من علامات الاستفهام تدور حولها، إلى آخر ما في هذه الأقوال، من ضغائن وأحقاد وأغراض، وكما يقول بعض العامة "الغرض مرض" والعياذ بالله، من الأغراض ومن الأمراض.
وقد طلب إليّ صديقي الكاتب الأديب الأستاذ الجوزي أن أسرد له قصة محطة الشرق الأدنى لكي يضمها إلى كتابه الذي يتحدث عن الإذاعات العربية الفلسطينية وعن تاريخها ونشأتها، وما دمت من أوائل الذي أشرفوا على تأسيسها ودعمها وتحقيق شهرتها في العالم العربي أثناء الحرب العالمية الثانية، فقد كُلفت بهذه المهمة الصعبة، ولكني، وليشهد الله، أنني أروي ما سأروي للتاريخ ولتحقيق ما دار ويدور حول هذه المحطة وإنشائها ومسيرتها أثناء الحرب، وإلى أن تحقق النصر للحلفاء على النازية، وعلى الفاشية.
وخطر لي: أن أسرد القصة من أولها، لعلها تلقي ضوءاً على قصة إنشاء تلك المحطة، وعلى مسيرتها ومبادئها.
وأخذت الذكريات تتلاحق، وتجر بعضها بعضاً، وعادت صور الماضي تظهر أمام الذاكرة وكأن تلك الصور قد بدت مرسومة على الشاشة، تتراقص أمام مخزون الفكر لتُعيد ما تراكم من قصص وذكريات وأمان، ورحمه الله الشاعر القائل:

تسير بنا الأيام وهي حثيثة ونحن قيام فوقها وقعود

عندما أطلت الحرب بوجهها على العالم العربي، بين من كانوا يسمون أنفسهم بحلفاء الغرب وبين النازية والفاشية، شعر كل فريق منهم أن يبني لنفسه منبراً يذيع من فوقه أخباره ومبادئه ومُثله.
وقررت بريطانيا وحليفاتها الغربيات أن تنشئ محطة إذاعية عربية تبثّ أخبارها وأخبار الحرب الطاحنة بينها وبين الألمان النازيين.
وكعادة بريطانيا، فإنها تُغرق في الوعود، وتُمني الناس بالآمال والمستقبل المشرق والخير العميم إلى أن تُحقق أغراضها وبعد ذلك...
وينطبق هنا المثل العامي "الكذب ملح الرجال وعيب عاللي بيصدق!!..".
ما لنا ولهذا ولكن، يستخلص التاريخ الحقائق من الأقوال ثم يضعها مجردة لا لبس فيها، ولا جدال، ولهذا نحن نسرد القصة وعلى التاريخ أن يلخص ويستخلص!!.
نشأت الإذاعة أول ما نشأت، في مدينة جنين بفلسطين، لكن مجال إنشاء محطة إذاعية، تبغي الانتشار والشهرة، لا يمكن أن يتحقق في بلد صغير يبعد مئات الكيلو مترات عن أي ميناء أو أية مدينة كبيرة من مدن فلسطين، فكان لابد من البحث عن مدينة تتوافر فيها الإمكانات الفنية والمادية، وتسهل فيها سبل الاتصال والمواصلات، وسبل الصناعة والتوسع الجغرافي والاجتماعي.
وفي جنين، تلك المدينة الصغيرة الجميلة، نشأت المحطة أول ما نشأت وانضم إليها من رجال القلم والفكر والإدارة والفن عدد لا بأس به، اعتبر نواة لجهاز لا بد له من النمو والتوسع.
فقد ضمت آنذاك الأديب الكاتب الدكتور اسحق موسى الحسيني والمرحوم الشاعر الوطني الأستاذ علي السرطاوي، والكاتب الأديب راتب الشامي والأستاذ أحمد عسّه (من سورية)، والأستاذ علاء الدين النمرين، والأستاذ أحمد جرار (المربي المعروف)، وبعد ذلك في يافا الأستاذ محمد الغصيني والأستاذ عبد الرحمن بايعه والأستاذ الكاتب نجاتي صدقي.
ولنعد إلى أول العهد بالإذاعة لأذكر أنني قابلت لأول مرة الرجل النيوزيلاندي الأصل، الانجليزي التبعية، وهو رجل عسكري من سلاح الجو البريطاني برتبة (كولونيل) مسلم الديانة يدعى شمس الدين بن الحاج محمد هاردويك مارزاك، مثقف ثقافة عليا في نيوزيلاندا وتلقى علومه العسكرية في كلية الأركان البريطانية (ساندهرست) ومن ثم نقل إلى المركز الحربي في القاهرة حيث تعلم اللغة العربية.
وقد قابلت الرجل في مكتب الأستاذ موسى العلمي (محامي التاج آنذاك) وفي مكتب الأستاذ سمير شما الذي كان يعمل هناك. وقد قال لي السيد مارزاك بلغة عربية تشوبها اللكنة الأجنبية "اسمع يا أخي، هذه الإذاعة هي عربية مئة بالمئة.. موظفوها كلهم عرب وهي من العرب والى العرب ليس فيها أجنبي غيري وأنا كمستشار في خدمتكم وهذه الإذاعة تابعة إلى الحلفاء وأنت تعرف أن العالم العربي كله تقريباً مع الحلفاء ونحن نريد أن نجعل من هذه الإذاعة، إذاعة عربية إسلامية حليفة تنشر أولاً التعاليم الإسلامية والعربية وكذلك الأخبار والأحاديث والموسيقى العربية فهل تقبل أن تعينني على هذه المهمة!؟.."
واستمهلت الرجل ثلاثة أيام لأرد له جوابي واستشرت الأصدقاء واستفسرت عن الموظفين الذين ذكرت أسماءهم في أول الحديث وأخيراً استخرت الله وقبلت مشورة الأصدقاء وتوكلت على الله فذهبت إلى جنين لأرد الجواب بالإيجاب إلى السيد مارزاك.
وأذكر أنني عندما قابلته في جنين للمرة الثانية كان خائفاً من الرفض وحدثني بعد ذلك ليقول لي أنه فرح جداً بقبولي هذه المهمة التي كانت كما قال حينئذٍ "بأنها أثقلت كاهله حتى اليأس".
وسرنا بالعمل حثيثاً على بركة الله، لكن سيرنا كان بطيئاً جداً لم يعجبني ولم يغذِ تطلعاتي ونشاطي، فقد كانت جنين بلداً صغيراً جداً وإمكاناتها محدودة جداً فلو أنك احتجت إلى برغي من نوع معين مثلاً فلا تجده إلاّ بإرسال مبعوث إلى حيفا أو إلى القدس أو يافا.
وأنك إن بحثت عمن يعرف شيئاً عن الموسيقى فلا تجد أحداً اللهم إلا مطرب بدائي يغني في الأعراس ولا يتقن غير أغنية "على دلعونا". وأنك لو بحثت عن صحفي أو مترجم أو إداري لا تجد أحداً إلا إذا "فتشت ونبشت" في يافا أو في القدس أو في حيفا، وأخيراً عقدت جلسة مع السيد مارزاك وبعض الزملاء وقررنا أن ننقل الإذاعة إلى إحدى البلدان الكبيرة في فلسطين أو في إمارة شرق الأردن (وهكذا كانت تدعى آنذاك).
وكانت هناك عدة احتمالات بحثناها ملياً، فالقدس كانت فيها إذاعة فلسطين الحكومية، ولكن ماذا عن عمان، وذهبنا نقابل سمو الأمير عبد الله (جلالة المغفور له الملك عبد الله بن الحسين) فرحب بالفكرة، وقال هل تتوافر طلباتكم في مدينة صغيرة مثل عمان وطبعاً كانت عمان لا تبتعد في هذا المطلب كثيراً عن جنين، فاتجهنا بعدئذ إلى حيفا وقابلنا الكثير من رجالاتها البارزين أمثال المرحوم الحاج طاهر قرمان والمرحوم تيوفيل بك بوتاجي والمرحوم رشيد الحاج إبراهيم وغيرهم، وهنا أخفقنا أيضاً، ذلك أن اليهود كانوا يسيطرون على الكرمل وما أحاط بالجبل آنذاك من أراض وعمارات.
واتجهنا بعد ذلك إلى صفد ورحب القوم هناك بنا وبمطلبنا إلاّ أن صفد كانت في تلك الأيام لا تختلف عن جنين ولا عمان وأخفقنا هناك أيضاً، وسرح بي الخاطر إلى يافا، فقد كنت أعرفها جيداً، وأعرف أن بها قوماً طيبين وصحفيين ممتازين وكانت تل أبيب تجاورها وفيها جميع متطلباتنا الكهربائية والفنية والصناعية والتقنية.
فتوجهنا إلى يافا وبحثنا عن الموقع الأفضل فاختار القوم لنا أعلى نقطة فيها، وهي "حي الحلوة" المطلة على البحر، وفيها بنايات لا بأس بها ولعلها تفي بمتطلباتنا.
وبذلنا جهوداً مضنية ومفاوضات متعبة إلى أن وفقنا الله فعثرنا على عمارتين كبيرتين تطلان على البحر، وأمامهما قطعة أرض واسعة تفي بأغراض الحراسة والأمن والحركة (إذ وصلت إلينا أخبار غير مؤكدة أن اليهود كانوا سيقاومون فكرة انشاء إذاعة عربية، وأنهم كانوا يتربصون بنا الدوائر).
وهكذا نشطنا في تأسيس وتأثيث العمارتين وبناء ما يلزم بناؤه من استوديوهات ومكاتب وقاعات واستغرق التحضير شهراً ونصف الشهر.
وفي ليلة ماطرة اشتد فيها الريح والبرد حملنا أمتعتنا وأدواتنا ومكاتبنا وتوجهنا إلى يافا، وأخذنا نباشر التأسيس والبناء من الصفر ولم تنقضِ أسابيع قليلة حتى أعلنا افتتاح الإذاعة من "محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية" ووضعنا البرامج ووظفنا الأيدي العاملة الفنية والصناعية وأخذنا نبحث عن المقومات الأدبية. فوفقنا الله لاستقطاب أعلام الرجال والأدب والدين والفن الموسيقي، وجاءنا من نابلس العلامة المرحوم قدري طوقان، والعالم الجليل الشيخ عبد الحميد السائح، والصحفي المعروف الشيخ عبد الله القلقيلي والأساتذة عيسى البندك والدكتور نقولا زيادة والمرحوم هاشم الجيوسي والمرحوم الأستاذ يوسف حنا والأستاذ محمود الخيمي والأستاذ جورج خوري وغيرهم كثيرون كثيرون واستعنت برجال الفكر من مصر فجاء إلينا المرحوم الدكتور طه حسين والأستاذ إبراهيم المازني والأستاذ أحمد أمين والدكتور حسن إبراهيم حسن (والأخير كان عميد كليه الآداب بجامعة فؤاد الأول واختصاصه التاريخ الإسلامي وقد درست الموضوع هذا على يديه وأعانني رحمه الله على الاستمرار في دراسة الموضوع بعدئذ في جامعة لندن).
وكذلك جاءنا من المقرئين الذين اجتذبوا الناس لسماعهم كالشيخ أبو العينين شعيشع (وكان المغفور له الملك عبد الله بن الحسين يطرب كثيراً لسماع الترتيل من الشيخ أبو العينين فكنا نذهب إلى قصره في الشونة، حيث كان الشيخ يرتل وتردد أصداء صوته الرخيم جبال السلط وقيعان أريحا)، وأخيراً جاءنا الأستاذ محمد عبد الوهاب مع الأديب الكبير أحمد الألفي يرحمه الله، وكذلك السيدة ليلى مراد والسيدة أسمهان والسيدة ليلى حلمي والأستاذ المرحوم فريد الأطرش والمرحوم نجيب الريحاني وفرقته، وأمينة رزق ويوسف وهبي وغيرهم كثير من مشاهير الفنانين والمقرئين.
وقد جندنا من كبار الموظفين في شرقي الأردن الأساتذة ضياء الدين الرفاعي صاحب الصوت الرخيم والإلقاء الرائع، والأستاذ بسام عازر والأستاذ أمين أبو الشعر والأستاذ جميل حداد ومن فلسطين الأساتذة أحمد جرار ومحمد الغصين وشفيق نبيل وصبري الشريف (والأخير كتبت عنه مقالات مطولة الأديبة غادة السمان حيث أصبح مخرجاً وتعاون مع المطربة فيروز كثيراً) وكذلك من المذيعين المعروفين الأساتذة منير شما، الراوية الشهير، والأستاذ إبراهيم عريقات، وصبحي أبو لغد، وموسى الدجاني، ومحمد بيبي (والأخير أصبح قيماً يعد مديراً للقسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية)، وقد صادفتنا صعوبات عديدة تتعلق بحراسة الإذاعة فلجأنا إلى سمو الأمير عبد الله آنئذ فأرسل لنا كتيبة من الجيش العربي تحت إمرة ملازم اسمرراض العبد الله الذي توصل إلى رتبة لواء فيما بعد ووزيراً للداخلية في الحكومة الأردنية وساعدنا جلالة المغفور له الملك عبد الله أيضاً بأن أرسل إلينا فرقتين موسيقيتين عسكريتين إحداهما فرقة الموسيقى النحاسية والأخرى فرقة موسيقى القرب (الإسكندرية) وقد جندنا من الموسيقيين المحليين آنئذ "الأستاذ محمد عبد الكريم أمير البزق"، وكذلك الأستاذ المطرب حليم الرومي (الذي أصبح رئيساً للقسم الموسيقي في لبنان وهو الذي اكتشف فيروز)، وكذلك الموسيقار رياض البندك ومن مصر جئنا بعازف القانون الشهير أحمد صبرة ومن سورية الأستاذان عمر الفقير وغالب طيفور (والأخير أصبح مديراً لإذاعة حلب فيما بعد) وكذلك من لبنان السيدة نور الهدى وصابر الصفح وعزام شيبا وغيرهم كثيرون.
ثم مشيناها خطوات واسعة، فزدنا ساعات البث من ثمان ساعات إلى إثنى عشر ساعة يومياً ،وازداد الإقبال على برامجنا المختلفة فأصبحت إذاعة الشرق الأدنى على كل لسان، وأذكر أن المرحوم الوجيه طاهر قرمان دعا وجهاء البلاد من جميع أنحاء فلسطين إلى حفلة غذاء تاريخية وذلك احتفاء بنا وبالجهود الجبارة التي بذلناها لجعل هذا المنبر عربي الصبغة، ذائع الصيت، قوي البرامج.
وأذكر فيما أذكر أن الزميل المرحوم الأستاذ عزمي النشاشيبي كان مديراً لإذاعة القدس وكان يساعده آنذاك المرحوم محمد أديب العامري، قدم احتجاجاً شديد اللهجة إلى المندوب السامي البريطاني يشكو بمرارة إذاعة الشرق الأدنى التي على حد قوله "قتلت إذاعة فلسطين" لأننا نستدرج فنانيهم وأدباءهم ونغريهم بالرواتب الضخمة والإمكانات الواسعة، وإرضاء للصديق النشاشيبي رحمه الله اتخذت قراراً بعدم تعيين أحد من إذاعة القدس إلا بموافقة الأستاذ النشاشيبي شخصياً، وبذا توافر لدينا أحسن المذيعين أمثال موسى الدجاني ومنير شما وسمير أبو غزالة وأنطون صابات وصبحي أبو لغد ومن مصر الأستاذ "البلبل" كما كانوا يسمونه "محمد فتحي" وعبد الوهاب يوسف وغيرهم، والإذاعة بهؤلاء جميعاً تتقدم وتشتهر باضطراد حتى أصبحت الإذاعة الوحيدة التي يستمع إليها المواطنون في جميع أرجاء الوطن العربي.
وبعد مرور أربع سنوات ونصف بدأت تباشير انتصار الحلفاء تلوح في الأفق وجاءت أميركا بقضها وقضيضها تساعد بريطانيا وفرنسا كي تحرز النصر أخيراً على النازية.
وهنا قرر الممولون من الحلفاء أن يفكروا جدياً بنقل الإذاعة من فلسطين إلى قبرص، أحسست أن دعمهم المادي والمعنوي بدأ يتضاءل ثم يتقاعس وتلك عادة موروثة معروفة عن بريطانيا وهي عادة قبيحة ممجوجة اشتهرت بها بريطانيا في سياستها الخارجية حيث أنها تضحي بالغالي والثمين كي تنال مأربها وعندما تصل إلى ما تبتغي يبرد حماسها وتقبض يدها وتتضاءل رغبتها متشبثة بأوهى الأسباب والمعاذير.
فهي قد بدأت بالتقليل من برامجها وبدأت تحيد عن سياستها المناصرة للعرب وبدأت تميل إلى نقل الإذاعة إلى قبرص.
وأخذت تفاوضني بنقل الإذاعة إلى قبرص وعرضت علي الأموال الطائلة والمساعدات القيّمة والسكن المجاني فرفضت رفضاً قاطعاً.
والحق أنهم بعد أن أخفق مشروع نقل الإذاعة إلى القدس ومن ثم توصلهم لقرار نقلها إلى قبرص أرادوا إبداء امتنانهم لجهودي وخدماتي القيمة، دفعوا لي التعويض المناسب آنذاك وزودوني بكتب توصية إلى مجلس التجارة الأعلى في لندن عندما نويت أن أعمل في الحقل التجاري ومن ثم عدت إلى الحقل الإعلامي كما بدأت ومنها إلى حقل التأليف والترجمة.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

8 من الزوار الآن

916827 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق