Categories

الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل - الحلقة الخامسة

22 شباط (فبراير) 2019

الحركة الوطنية الفلسطينية الراهنة من الداخل - الحلقة الخامسة

الجزء الثاني:

تاريخية الظاهرة الجهادية في فلسطين

المسألة الأولى:

التأصيل للفكر الجهادي، من أين البداية؟

 المدخل إلى نشأة الظاهرة الجهادية في فلسطين

إن معاينة المقالة الأيديولوجية والسياسية لتنظيمات الظاهرة الجهادية في فلسطين، حاليا، أسهل من المعاينة التاريخية لها، حيث يشكل التصدي لها بالبحث مغامرة ربما تؤدي إلى ورطة لما تكتنفه من غموض ظل يتراكم عبر سنوات طويلة. فالجماعات الإسلامية بالرغم من وحدة التصور والاعتقاد لم تستند إلى نظرية عمل مركزية كما فعلت المنظمات الفدائية باعتمادها مبدأ الكفاح المسلح مصدرا للشرعية في حينه ولمَّا يزل صالحا بعد. أين المشكلة إذن؟ هل هو قصور في العقيدة التي أنجبت أمة إسلامية ذات بأس وسلطان؟ أم في الظروف التاريخية والسياسية التي أملت تأويلات معينة فككت وحدة العمل وقدمت مقالات نظرية متنوعة باعدت فيها ما بين الفاعلين الإستراتيجيين في الحقل الإسلامي أفرادا وجماعات؟

الجهاد والمسؤولية التاريخية

من النادر جدا ملاحظة جماعات إسلامية متعددة وذات قضايا خلافية مركزية قبل العام 1954. غير أن الدارس للحركة الإسلامية في المشرق العربي يلاحظ أن الغالبية الساحقة من التيارات الجهادية وغير الجهادية، بما فيها ذات النزعات الانقلابية أو الداعية إلى تأجيل الجهاد أو التي تحللت من مسؤوليته، قد مثلت، بشكل أو بأخر، خروجا على جماعة « الإخوان المسلمين». ولأن الجماعة تتباهى في كونها « الشجرة الباسقة»، والتي تحملت، تاريخيا، عبء الأمة الإسلامية والنهوض بها مجددا لذا فهي تتحمل، نظريا، الجانب الأكبر من المسؤولية تجاه تفكك الحركة الإسلامية وتباعد أهدافها وتباين مدارسها وأطروحاتها، ذلك أن القضية الخلافية المركزية تتمحور حول مسألة الجهاد ومفهوم « الإخوان المسلمين» له والذي أدى إلى انفلات عدة تيارات من عقالها بعد الاصطدام بالسلطة المصرية (26/10/1954) الأمر الذي أدى إلى انكفائها والسماح ببروز تيارات إسلامية جديدة لم تكن لتصبح ذات شأن لولا هذا الانكفاء. ففي ذلك التاريخ اتُّهمت الجماعة بتدبير اغتيال جمال عبد الناصر رئيس الوزراء في حكومة محمد نجيب. ولم يمض وقت قصير حتى امتلأت السجون بآلاف الأعضاء والأنصار. وتَقرَّر حل الجماعة؛ فشرَّعت المحاكم أبوابها لتصدر قرارات بإعدام سبعة من القيادات نُفذت في ستة منها (7/12/1954) ونجا منها المرشد العام حسن الهضيبي بسبب كبر سنه (63 عاما). وبدأت المعاناة في السجون على يد الشرطة المصرية الشهيرة بممارسة التعذيب الجسدي والنفسي بغض النظر عن الحكومة القائمة . وبلغ الكره والتحريض ضد « الإخوان » حدا دفع السجانين لارتكاب عدة مذابح كان أشهرها مذبحة سجن « ليمان– طُرّة» حيث أُطلقت النيران على سجناء الجماعة وهم في الزنازين فقُتل العشرات منهم وأصيب المئآت بجراح. وبدا واضحا لـ « الإخوان » أن الحكومة – القضاء – الشرطة عازمون على تصفيتهم جسديا حتى لو كانوا داخل السجون وليس خارجها فحسب. وحتى الآن لم تقدم الدولة مبررا لحملتها تلك سوى تهمة « التآمر على الدولة والاغتيال ومحاولة قلب نظام الحكم» وهي تهم أثير حولها جدل كبير كونها فضفاضة تتسع لكل زمان ولكل صنوف التعذيب والقتل. وعلى أساسها ولأسباب أخرى استأنفت الحكومة حملتها الثانية سنة 1965 حتى إذا ما امتلأت السجون مجددا بعشرات الآلاف (أكثر من 30 ألف معتقل) كانت أحكام الإعدام بانتظار المئات لتتوج بعد مضي عام على الحملة بإعدام سيد قطب ولكن هذه المرة بالرغم من كبر سنه. وفي الحملتين لاقى « الإخوان » من التعذيب والتنكيل ظلما دفعهم إلى التساؤل: عما إذا كان الحاكم مسلما؟ أم كافرا؟ والمقصود بذلك جمال عبد الناصر. وفي مرحلة تالية، عما إذا كان السجانون كذلك، ممن يشار إليهم بالمسلمين؟ وأخيرا شاع التساؤل، عما إذا كان المجتمع الذي يعيشون فيه مجتمعا إسلاميا؟ وكانت النتيجة أن خُلع على المجتمع صفة «الجاهلية» التي أصَّل لها سيد قطب قبل إعدامه حيث يُنظر إلى كتابه « معالم في الطريق» العلامة الفارقة في فكر التكفير والتجهيل .

وهكذا تسببت الأحداث والضربات المتلاحقة بظهور تصورات أيديولوجية في عمق الدين فككت الجماعة إلى أربعة تيارات إسلامية تجتمع حول العقيدة لا عليها وتفترق في تحديد الوسيلة لإقامة الدولة الإسلامية. وفي هذا السياق يشار إلى الجماعات التالية:

• السلفيون. ويعتقدون أن السبيل إلى إقامة الدولة الإسلامية وبناء المجتمع الإسلامي هو التربية الدينية؛ تربية الراغبين من الأفراد وتربية الأبناء ليصبحوا أهلا لتمثيل النسق الإسلامي في الإنسان المسلم.
• « الإخوان المسلمون». وهم الجماعة المركزية الذين لا يزالون يحملون اسم الجماعة الأم.
• جماعة المسلمين. وهي التي اشتهرت باسم « التكفير والهجرة».
• جماعة الجهاد.
هذه التشكيلات الأربعة تمخضت عن حوارين داخل الجماعة قام الأول بعد العام 1954 وأسفر عن ولادة التوجه التربوي والإصلاحي (السلفيون والإخوان وجماعة المسلمين). وقام الثاني على خلفية كتاب « معالم في الطريق» وأسفر عن ولادة التيار الجهادي (جماعة الجهاد) . والواقع أن هذا التفكك الذي يصح على جماعة « الإخوان المسلمين» لا يفي بالغرض إذا تعلق الأمر بالحركة الإسلامية العالمية التي مثلت مصر، قبل ظهور المدرسة السلفية الجهادية، مركز الثقل لها. فحتى أواخر القرن العشرين ظلت نظرية العمل الإسلامي تتنازعها ثلاثة مدارس لكل منها أسلوبها في إحداث التغيير الإسلامي الإستراتيجي الهادف لإقامة الدولة الإسلامية وانطلاقا منها استئناف الحياة الاجتماعية الإسلامية، وكذا الإسلام لرسالته الحضارية إلى الناس كافة. لذا فهي ذات هدف واحد وإن اختلفت في الوسائل. وهذه المدارس هي:

مدرسة الدعوة

تشتمل على إجمالي التيارات الدَّعَوية والتربوية والتعبُّدية كجماعات « التبليغ والدعوة» و « جماعة المسلمين» و « السلفيين» ومثلهم. وهذه الجماعات لا تتدخل في القضايا السياسية أو الجهاد بل تترك الأمر للزمن وتحصر اهتمامها المباشر بالتربية والهداية ونشر الدعوة. غير أنها تختلف في أساليب التنظيم ووسائل العمل كما تتباين مواقفها إزاء مصادر التشريع. إذ أن بعضها لا يأخذ بغير الكتاب والسنة وإن كانت جميعها تنطلق منهما.

مدرسة الإصلاح

تمثلها جماعة « الإخوان المسلمين» التي تبتعد عن قضايا الجهاد ومقاومة السلطة والتكفير والتجهيل وهي بذلك مثل رواد المدرسة الدعَوِية إلا أنها تختلف عنها وعن مدرسة الجهاد في كونها تنشط في القضايا السياسية والاجتماعية محاولة الوصول إلى الحكم بطرق سلمية وقانونية عبر الانتخابات البرلمانية، وعبر تربية الفرد وإيجاد المجتمع المسلم والدولة الإسلامية كي يتهيأ لها « الحكم بما أنزل الله». ومع ذلك فإن هذا النهج يختلف من مكان لآخر كلما غيرت جماعات « الإخوان المسلمين» من توجهاتها الإصلاحية نحو العمل المسلح كجماعتي الإخوان في سوريا وفلسطين وربما في مناطق أخرى.
مدرسة الجهاد

وقد عبرت عنها جماعات « الجهاد الإسلامي» في مصر أول ما ظهرت. وأفكارها « توجب خلع الحاكم الكافر وإقامة حكم الله في الأرض» بالقوة كواجب ديني لا مفر منه. وتستلهم دعواها في الجهاد من أطروحات شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية. وتدعم توجهاتها الجهادية بعدد من الدراسات الاجتماعية والسياسية والتاريخية التي تعالج المجتمعات الإسلامية وخاصة المجتمع المصري. وهذا ما يميز أطروحتها عن المدارس الأخرى. لذا فهي توجه انتقادات عنيفة ضد مدرستي الدعوة والإصلاح.

الدور الفلسطيني: مبادرة عامة

رافق نشأة الحركات الإسلامية الجهادية في فلسطين خطاب أيديولوجي يقوم على اعتبار فلسطين قضية مركزية لكل الحركات الفاعلة في حقول العمل الإسلامي على مستوى الأمة الإسلامية وفي إطار مشروع إسلامي نهضوي يستهدف مواجهة المشروع الاستعماري الرأسمالي الغربي البروتستانتي المتحالف، منذ قرون، مع اليهودية ثم مع الصهيونية وإسرائيل. والمتتبع لنصوص الحركات الجهادية ومنشورات مفكريها سيلاحظ نقدا مزدوجا ومريرا للمنظومات الأيديولوجية التي استعملتها القوى الوطنية العلمانية والإسلامية على السواء. وفي المحصلة نتحصل على خطاب أيديولوجي متعدد المستويات والمحتويات يتطلع إلى حشود المسلمين في العالم الإسلامي ليطل عليهم عبر منظومة ثقافية إيمانية – حضارية – تاريخية محورها الجهاد الذي يُقدَّم على أنه الوسيلة الأمثل في احتواء التفكك وفي التغيير الإستراتيجي في أنماط الحياة الاجتماعية والسياسية.

فالخطاب الأيديولوجي الرسمي والثوري استعمل أطروحات وافدة كالماركسية والاشتراكية أو محلية مصطنعة كالقومية والقطرية عكست في واقع الأمر حالة التجزئة التي قامت على أنقاض الدولة العثمانية، رمز « الخلافة» الأخير للأمة الإسلامية وقلبها الأمة العربية. وتبعا لذلك راجت ثقافة مشوهة دخيلة أساسها « التغريب». أما الإسلام الذي لم يكن للأمة العربية قبله وجود عبر قرون طويلة فهو إما مغيب تماما أو أنه محارَب بشراسة. وهذا أمر طبيعي بما أن المشروع الغربي الرأسمالي ما كان له أن يسود لولا إقصاء الإسلام والقضاء على مؤسساته وبناه الاجتماعية والسياسية والقيمية وحتى الإنسانية. وانطلاقا من نمط الدولة الوطنية تكرست سلطة الغرب عبر القوى المهيمنة والنخب الحاكمة التي تدافع عن امتيازات وليس عن ثقافات أو مشاريع تستهدفها بالذات. وتمخض عن تفكك الحركة الإسلامية أطروحات متباينة بعضها نادى بالإسلام باعتباره « دعوة» والبعض الآخر اعتبره « غزوة ».

ومن أجل محاصرة هذا التفكك الشامل سعى الخطاب الجهادي الفلسطيني إلى خلق ثقافة جهادية عابرة للقطرية أو القومية أو الشعوبية، ثقافة لا تنظيمية، بهدف إحداث تلاقح إسلامي، حركي وشعبي، على أرضية القضية الفلسطينية باعتبارها محور المشروع الإسلامي وأساس انطلاقته. لذا فقد وجد هذا الخطاب نفسه معنيا باستباحة فضاءات الحركات الإسلامية كافة منطلقا من تصوراته للخروج من الأزمة ومن واقع الحركة الإسلامية في فلسطين والتي هي حقيقة « صورة عن مثيلتها في الخارج .. وأن الأفكار والاتجاهات والمدارس والرموز الإسلامية في المنطقتين العربية والإسلامية موجودة بكاملها في فلسطين … ابتداء من « الإخوان المسلمين» وانتهاء بحركة الجهاد الإسلامي.. ومن أبي الأعلى المودودي (الباكستان) حتى مالك بن بني (الجزائر) .. وبالتالي فإن الحركة الإسلامية خارج فلسطين والجماهير المسلمة هي رصيد للحركة الإسلامية والجماهير المسلمة داخلها وقوة ودعم ومساندة حقيقية على كافة المستويات … » . ولا شك أن هذا التوصيف لم يُرْجَ منه استدعاء الجماعات الإسلامية الفلسطينية وحدها ولا الرد فقط على الجماعات السياسية العلمانية بقدر ما حاول مناظرة الموجودات الأيديولوجية لتنظيمات الحركة الإسلامية في مصر حيث الثقل المركزي للحركة الإسلامية العالمية وحيث تنظيمات « الجهاد الإسلامي» فيها بهدف توحيد الجهود وإرسائها على أسس ومرتكزات الخطاب الأيديولوجي لتيارات « الجهاد الإسلامي» في فلسطين والتي تتأسس على اعتبار أن (أولا) القضية الفلسطينية قضية إسلامية و (ثانيا) الجهاد قضية مركزية و (ثالثا) القضية الفلسطينية قضية مركزية.

فـ « الجهاد الإسلامي» في فلسطين يرى أن من مسؤولية القوى الإسلامية الرد على القوى العلمانية التي خلت أطروحاتها من البعد الديني في الصراع مع إسرائيل. فالمشكلة الفلسطينية ليست مشكلة وطنية ولا قومية ولا طبقية إنما قضية دين وعبادة، وهو ما لم تأخذ به القوى العلمانية قط. وحتى الميثاق الوطني الفلسطيني لم ترد فيه لفظة الإسلام ولا بأية صيغة لغوية وكأن فلسطين قطعة أرض تقع خارج الزمان والمكان والعقيدة وليس سكانها بمسلمين أو بمؤمنين. أما المركزية الفلسطينية ومؤسساتها فلم تقع من جهتها أية محاولة لتدارك الخلل. وهذا عائد لسببين على الأقل:

• إن منظمة التحرير الفلسطينية نشأت من رحم السياسة المصرية المعادية لجماعات « الإخوان المسلمين» آنذاك وفي خضم شيوع الثقافة التغريبية والإلحادية في المجتمع المصري فضلا عن التحلل القيمي والأخلاقي.
• غلبة اليسار الماركسي على البنية الاجتماعية التنظيمية والأيديولوجية لفصائل المقاومة الفلسطينية، ومن ثم جنوح القيادة الفلسطينية بشكل مبكر جدا للتصالح مع إسرائيل فضلا عن إصرار بعض الشخصيات الوطنية الفلسطينية على تعمد إقصاء حتى لفظة الإسلام من الميثاق الوطني الفلسطيني، مما يجعل توظيف الدين في الصراع معها ضربا من المستحيل.

هذان السببان أخرجا الدين من كونه عمقا تاريخيا للأمة وحضاريا تتواصل معه ومن خلاله الأجيال لأنه مَعِين لا ينضب من الطاقة بخلاف الأيديولوجيات الوضعية والمصطنعة التي يتجاوزها الزمن ولم يكن أيا منها على صلة بالتاريخ العربي أو نتاجا له. والأشد خطورة أنها لا تحفظ حقوقا. وهنا تتجلى قيمة الإسلام الذي لا يتحلل بفعل عامل الزمن ولا يتأثر بهذا الجيل أو ذاك ولا يمكن تجاوز أحكامه أو تعديلها أو المساومة عليها. لهذا جهدت الحركات الجهادية الفلسطينية في التدليل على صحة أطروحتها بـ « إسلامية القضية الفلسطينية» انطلاقا من القرآن والأحاديث النبوية والتاريخ الإسلامي والإيماني. وبذل رموزها إلى جانب العلماء والمفكرين الإسلاميين جهودا معتبرة بتفسير السور والآيات القرآنية المتعلقة باليهود وبيان نهاية دولتهم في فلسطين . ودعمت تفسيراتها بالأحاديث الإخبارية النبوية والتي تتنبأ بفتح « رومِيَّة» بعد أن فتحت « القسطنطينية» وبعودة الخلافة الإسلامية بالإضافة إلى دراسات علمية فريدة نشطت في هذا الاتجاه. أما القوى العلمانية فلم يؤد تجاهلها للمخزون الهائل في الدين إلا إلى الجهل في التراث الديني ومكانة فلسطين في الإسلام الأمر الذي أفقر القضية وشوه الهوية بل فجرها إلى ولاءات وانتماءات متعددة هي أقرب إلى الثقافة الغربية وأنماط حياة مجتمعاتها من قربها إلى ثقافتها ومجتمعاتها التي وُلدت ونشأت فيها. فكانت النتيجة انفصال الثورة عن الجماهير وتحييد قطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية التي عزفت طواعية عن المشاركة في نضال ليست له راية محددة ولا مكونات حضارية أو نفسية تستجيب لمكونات الشخصية العربية الإسلامية.

وبما أن الخطاب الأيديولوجي الإسلامي لا يمايز بطبيعته بين فئة وأخرى فقد توجهت تيارات « الجهاد الإسلامي» في فلسطين إلى كافة الحركات الإسلامية لدفعها نحو الأخذ بدعوى « إسلامية القضية» وتبيُّن مكانة فلسطين في العقيدة واعتبارها القضية المركزية في المشروع الإسلامي بما يوازي مكانتها الدينية. فالقوى الإسلامية أنَّى كانت ينبغي أن تتوقف عن الجدل والمماحكة وتتفهم هذه الحقيقة وضرورة أن يتوحد العمل الإسلامي باتجاه ثابت يقضى باستمرار المواجهة والمشاغلة ضد رأس المشروع الاستعماري في فلسطين حتى لو كانت فعاليات الحركات الإسلامية محكومة بخصوصيات المكان. وإذا ما اتفق على هذه الأطروحات فلا شك أن آليات العمل ستغدو سهلة المنال، ولن تُخلِّف الجهود المبذولة في هذا السياق سوى آثار إيجابية. أما إذا وقع التمسك بالأولويات المرفوعة حاليا فلا يستبعد فشلها بحيث تكون النتيجة خسارة مزدوجة، فلا هي وظفت جزء من جهودها وإمكانياتها لصالح القضية الفلسطينية مباشرة ولا هي حققت شيء من طموحاتها . ولا يخفى أن هذه الدعوة وُجهت أصلا إلى تنظيمات « الجهاد الإسلامي» في مصر قبل غيرها.

وفيما يتعلق باعتبار الجهاد قضية مركزية فهي أطروحة استهدفت جماعات الدعوة والإصلاح، وإجمالا كل الجماعات التي تعزف عن ممارسة الجهاد المسلح أو التي تضع القضية الفلسطينية في مراتب تالية من اهتماماتها. ويعتبر الجهاد في الشريعة الإسلامية الركن السادس الذي لم يقع التنصيص عليه من بين أركان الإسلام الخمسة. ولهذا أُسمي بـ « الفريضة الغائبة». ويعود الفضل في إحياء هذه الفريضة إلى الدكتور صالح سِرِّيَّة الفلسطيني الأصل، وبالذات سنة 1973 عبر كتيب صغير بعنوان « رسالة الإيمان». وانطلاقا منه يمكن التأريخ لبروز جماعات الجهاد في مصر وفلسطين وغيرها من الدول العربية والإسلامية بعد ضرْب جماعة « الإخوان المسلمين» في مصر وتفككها الأيديولوجي والتنظيمي آنذاك. ولا يعرف قبل ذلك عن أية جماعة أو شخصية إسلامية أثارت مسألة الجهاد وتطبيقها قبل، ومثلما فعل، الدكتور سرية. لذا فإن التأصيل للفكر الجهادي الفلسطيني، في حينه، لم يبتعد كثيرا عن مضامين « رسالة الإيمان» ولا عن مضامين كتيب بعنوان: « الفريضة الغائبة» الذي وضعه المهندس محمد عبد السلام فرج مؤسس أحد تنظيمات الجهاد في مصر.

والسؤال هو: لماذا توجه جماعات الجهاد في فلسطين مقالتها الأيديولوجية نحو جماعات الجهاد في مصر؟ وهل يبرر ذلك كون الدكتور صالح سرية فلسطينيا؟ وهل يكفي الزعم بأن الانفتاح على مصر ناجم عن الثقل التاريخي والحضاري للأمتين العربية والإسلامية وكونها أحد المواطن التقليدية للحركة الإسلامية العالمية؟
لا شك في كل ذلك. غير أن وجود مجالات للاتفاق والاختلاف لا بد وأن تكشف عن علاقة ما ربطت بين الجانبين بعضها دفع الجهاديين الفلسطينيين إلى التفاعل مع أقرانهم المصريين. والملاحظ أن تأثيرا متبادلا بين الجانبين وقع على المستوى التنظيمي والأيديولوجي يمكن معاينته من خلال نموذج حركة « الجهاد الإسلامي» الفلسطينية والتي: « ارتبطت قيادات وكوادر منها بالحركة التي حملت نفس الاسم في مصر أثناء دراسة المؤسسين هناك في السبعينات». فالجماعتان تبادلتا التأثير بأطروحات « رسالة الإيمان» والدكتور فتحي الشقاقي وردوده على تعطيل الجماعات الإسلامية اللاجهادية لركن الجهاد بصورة أدق، وإن لم تكن أشمل، مما عرَضته وثيقة الفريضة الغائبة. وشكلت الجماعتان بديلا عن المأزق التاريخي للحركة الإسلامية العالمية باعتمادهما مبدأ الجهاد في التغيير حيث وضعتا حدودا فاصلة بين مدرسة الجهاد والمدارس الأخرى وبات ممكنا التمييز بسهولة بينهما في مستوى العمل والخطاب الأيديولوجي الذي يعج بمفاهيم « الجهاد، الإيمان، الردة الجماعية، تكفير الأنظمة وقتالها … » إلا أنهما لم تشكلا حلا لأزمات الحركة الإسلامية العالمية ومدارسها المختلفة. وها هي نقاط الاختلاف تتجلى بأسلوب العمل والمقالة الأيديولوجية التي تميز بين الجماعتين. إذ أن مؤسسي الجماعة الفلسطينية في مصر وغيرها نشطوا في إطار العمل الإسلامي الجهادي على مستوى الأمة وليس على مستوى قطري محدود، متخذين من القضية الفلسطينية القضية المركزية. ولهذا فهم يبتعدون عن تكفير الأنظمة أو تجهيل المجتمعات لأنهم لا يقاتلون نظام حكم ولا يحاربون مجتمعا جاهليا ولا مجال للتمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية في هذه المرحلة حيث الهدف ينصب على رأس المشروع الاستعماري الغربي – الصهيوني الذي يتحصن في قلب العروبة والإسلام ويضرب كل نهوض محتمل. كما أن الجهاديين الفلسطينيين ليسوا بديلا عن أي من الحركات الإسلامية ولا يناصبونها العداء. والمشكلة المريرة التي حطمت طموحاتهم هي إصرار بعض جماعات الجهاد في مصر على التمسك بأطروحة « مصر أولا» مستدلين بذلك على مكانة مصر العربية والدولية وحجمها وتأثيرها في المحيطين العربي والدولي، وبأن الدكتور صالح سرية ذاته توجه إلى مصر لأنه أدرك هذه الحقيقة. وهذه الجماعات لا تنفي كون فلسطين أو أفغانستان أو إيران … الخ قضية مركزية بيد أنها تختلف على إمكانية اعتبارها قاعدة انطلاق خاصة فيما يتعلق بفلسطين، كما تختلف على آلية العمل. أما تركيزها على مصر فلأن بوسعها استعمال نفس أدوات النظام العلمانية ونفس إمكانياته وهو ما لا يتوفر في أي مكان آخر . إلا أن انقساما حدث وأدى إلى تشتت الجهود وإلى الانكفاء الإقليمي لكل جماعة. ومن خلال معاينتنا للخطابين يمكن رد الانقسام إلى غلبة المحتوى السياسي على الخطاب الأيديولوجي لتيارات « الجهاد الإسلامي» في فلسطين. وفي المقابل يلاحظ من وثائق جماعات الجهاد في مصر غلبة المحتوى الديني على خطابها الأيديولوجي. وهكذا كان على الجهاديين الفلسطينيين أن يتوجهوا إلى المجتمع الفلسطيني حيث تمخض الجهد المبذول هناك عن بروز الظاهرة الجهادية والشروع بمقاومة عنيفة ضد إسرائيل فاجأت كل الجماعات السياسية، المحلية والإقليمية والدولية، دون أن تتخلى عن مقالتها الأيديولوجية بل لتعمل بكل قوتها على احتدام الإشكالية التاريخية بين مدرسة الجهاد ومدرسة الإصلاح ومن ثم تفجيرها بالكامل على الساحة الفلسطينية. ولكن كيف؟ والسؤال الآن هو: أية تاريخية هيأت لظهور مدرسة الجهاد لاسيما وأنها تشكلت من جماعات متفرقة لكل منها تاريخيتها الخاصة؟ بمعنى آخر كيف ائتلفت عدة جماعات مختلفة في إطار ما عرف بـ « سرايا الجهاد الإسلامي»؟ وأية تاريخية أيضا هيأت لمدرسة الإصلاح أن تستأنف العمل بالفريضة الغائبة بعد عزوف امتد لعقود ثلاثة؟ أو كيف يمكن تفسير العمل بالفلسفة الإصلاحية لدى جماعة « الإخوان المسلمين» في فلسطين ثم ممارسة الجهاد فيما بعد؟ وأية فائدة سنجنيها من تنزيل الظاهرة في إطار المجتمع الفلسطيني من حيث هوية الشرائح الاجتماعية وانتماءاتها؟ وأين تتواجد في إطار التنظيم الاجتماعي ولماذا؟ وأية أهمية في ذلك؟ وهل نتوقع الإجابة، في الفصول القادمة، على أكثر من هذه التساؤلات؟

بداية، وبالنظر إلى الترابط التاريخي الوثيق بين الجماعات الإسلامية في فلسطين ومصر، على اختلاف أطروحاتها، سنعمد إلى تقديم عرض موجز لنشأة الجماعات في مصر مركزين على المقالة الأيديولوجية التي كان للفلسطينيين دور في صياغة البعض منها والرد على أطروحات البعض الآخر، فضلا عن العلاقات الأيديولوجية واللاتنظيمية التي قامت بين مؤسسي الجماعتين قبل نشأتهما بقليل وخلال ذلك. أما الجماعات التي سنعرض لها تالياً فهي:

1. جماعة المسلمين « التكفير والهجرة».
2. جماعة « الكلية الفنية العسكرية».
3. جماعة الجهاد.
4. الجماعة الإسلامية.

ملاحظة

ميتشل ( ريتشارد .ب ).- الإخوان المسلمون - ترجمة: محمود أبو السعود / تعليق: صالح أبو رقيق - الطبعة الأولى، 1979 - الحاشية 101 / ص 162. ولأن مكان النشر غير ظاهر على الطبعة نشير إلى أن النسخة حصلنا عليها من مكتبة جامعة اليرموك الأردنية وتقع تحت التصنيف: JQ 3898.M 87,M 5712 .
في الواقع فإن جذور التكفير لدى الجماعة انطلقت مقدماتها الأولى من السجون المصرية في أواخر أيام حسن البنا مؤسس الجماعة. فقد تمخض عن مشاركة الجماعة في الجهاد في فلسطين توجه غربي للانتقام منها الأمر الذي صعَّد الخلاف مع الدولة إلى نقطة اللاعودة لينتهي في العام 1948 بحلها واعتقال قادتها وأفرادها ومصادرة ممتلكاتها. أما حسن البنا فقد أُبقي خارج السجن. وألمح في حينه إلى أن الدولة قررت اغتياله بهذا التدبير. وفعلا اغتيل "البنا" بعد أقل من شهرين على حل الجماعة. ونجم عن هذه الأحداث ضغوطاً شديدة مورست ضد سجناء الجماعة. ويشير أبرز مؤرخي الجماعة أن "الإخوان" امتهنوا بما أصابهم في السجون وبما لحق بأهليهم وشرفهم بقدر ما امتهنوا بأمر صدر بتعليق الآية القرآنية على جدران السجون: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون فسادا أن يُقتّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنْفَوا من الأرض، أولئك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم" (سورة المائدة، الآية 33). قارن مع: ميتشل ( ريتشارد ). - الإخوان المسلمون - مرجع سابق - ص162،164.
خلف الله ( محمد أحمد ) .- الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي، ندوة – مقالة : الصحوة الإسلامية في مصر – مركز دراسات الوحدة العربية ، جامعة الأمم المتحدة – بيروت ، لبنان – الطبعة الأولى، 1987 / ص 64 – 67.
أول تنظيمات الجهاد في مصر ظهرت سنة 1958 بقيادة الشاب نبيل برعي الذي خرج من جماعة الإخوان المسلمين وطالب بالعنف المسلح متخذا من أفكار العلامة ابن تيمية منهاجا للحركة. ثم انشق عنه علوي مصطفى سنة 1973 مع بعض أعضاء التنظيم وأقام تنظيما جديدا سمي بتنظيم الجهاد. وقرر الدخول في حرب مع اليهود على حدود قناة السويس. راجع: أحمد (رفعت سيد). – النبي المسلح، جزآن: الرافضون (1 ) والثائرون ( 2 ) - دار رياض الريس للنشر والكتب - لندن، المملكة المتحدة - كانون الثاني/ يناير 1991 – الجزء الثاني، ص 80. ومن الآن فصاعدا سيتم العودة إلى المرجع دون ذكر اسم المؤلف.

الإسلام وفلسطين – نصف شهرية - نشرة غير دورية تهتم بشؤون الإسلام والقضية الفلسطينية - نيقوسيا، قبرص - دار الجذور للطباعة والنشر - العدد 4 - أيار / مايو 1988 ، ص 2 - 4 .
يسميها الشيخ عبد العزيز عودة أحد مؤسسي حركة الجهاد الإسلامي بـ "الروح الإيمانية". راجع في ذلك: مقابلة أجرتها معه صحيفة الخليج الإماراتية في 2 نيسان (أفريل) 1989.
الإسلام وفلسطين .- مصدر سابق - العدد 15 - حزيران / يونيو 1989 - ص 5 .

 في هذا السياق يرد اسم شفيق الحوت باعتباره الشخصية التي أصرت أكثر من أية شخصية فلسطينية أو جهة على استبعاد الإسلام عقيدة وهوية من الميثاق الوطني.
من الأمثلة على ذلك: العلي (إبراهيم).- الأرض المقدسة بين الماضي والحاضر والمستقبل / 12 - منشورات "فلسطين المسلمة" – لندن. المملكة المتحدة - الطبعة الأولى، 1996. وعمرو (يوسف محمد).- بنو إسرائيل في القرآن الكريم - طبعة تطلب من المؤلف - عمان، الأردن - الطبعة الأولى ،1995. وجرار (بسام): زوال "إسرائيل" في القرآن الكريم: نبوءة .. أم صدف رقمية ؟!…راجع: مجلة "إلى الأمام" – العدد 2189 –21-27 / 5/ 1993. وهي المجلة التابعة للجبهة الشعبية – القيادة العامة. وتعتبر الدراسة من أطرف ما كتب حتى الآن عن الإسلام واليهود. وفي العاصمة الأردنية – عمان صدرت في كٌتيِّب صغير وعلى شريط تسجيلي ومصور سنة 1996. والآن هي شلئعة على أقراص الكومبيوتر. وثمة دراسات أخرى في نشرية الإسلام وفلسطين وأخرى للدكتور صلاح الدين الخالدي في جريدة السبيل الأردنية وكذا للشيخ عبد المنعم أبو زنط في ذات الجريدة التي ابتدأ صدورها منذ العام 1994 أسبوعيا.
الإسلام وفلسطين.- مصدر سابق - العدد 6 - 1 آب / أغسطس 1988 - ص 2.
مصطفى ( هالة ) : الجهاد الإسلامي في الأرض المحتلة - قضايا فكرية - دار الثقافة الجديدة - القاهرة، جمهورية مصر العربية - الكتاب السادس، نيسان/ أفريل 1988 - ص 178 .
ورد هذا الموقف في وثيقة "فلسفة المواجهة" وهو على النقيض مما ورد في وثيقة "الإحياء الاسلامي". قارن بين الوثيقتين في النبي المسلح.- الثائرون ( 2 ) - مرجع سابق - الصفحات على التوالي 236 ، 300-301.

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

9 من الزوار الآن

916820 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق