الصفحة الأساسية > 9.0 الإعلام المركزي > أدبيات التيار > وثيقة تيار المقاومة والتحرير (الحلقة الأولى)
تيار المقاومة والتحرير (حتم)
حتما لمنتصرون
يناير 2013
أولا
استهدف المخطط الاستعماري فلسطين باكراً مع أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان في بؤرة هذا المخطط المركزية هدف تجزئة الوطن العربي تجزئة فاصلة ،وخلق مخلب قط له في منتصف وقلب جغرافية العالم العربي في فلسطين، وذلك لكي ينوب عنه دائما ويؤمِّن له السيطرة والتحكم القادرة على تأمين تدفق الثروات والمقدّرات المستلبة من وطننا العربي، ولكي يمنع إعادة توحيد الجغرافيا العربية وتالياً صياغة مستقبل عربي موحد ينتزع له مكانا قويا، في العالم الجديد الآخذ في التشكل، وهكذا يكون المصير العربي الذي قرره المستعمرون هو التجزئة والتخلف والتبعية والاحتلال والسلاح الأمضى احتلال فلسطين وإنشاء الكيان الصهيوني فيها.
نجح المخطط الكولونيالي الاستعماري في مخططه، وأمَّن تهجير قسم كبير من يهود أوروبا الفارين من وقائع الحرب العالمية الثانية، بالتعاون مع الوكالة الصهيونية التي تولت عقد الصفقة مع حكومة التاج البيريطاني الاستعمارية، وكما أمَّن وصولهم وتمكينهم من الأرض الفلسطينية، أمّن أيضا عمليات الاستيلاء على بعض الأراضي الفلسطينية عبر سياسات وزارة الاستعمار البريطانية ومندوبها في فلسطين التي احتلها، ولاحقا ضمن تفوّق عصابات الصهاينة على الجيوش العربية عام 1948 بعد أن تهاوت مقاومة الثورة الفلسطينية الأولى التي اجتاحت فلسطين مع وعد بلفور عام 1917 واستمرت في موجات متلاحقة الاعوام 1921 والاعوام 1936 وحتى العام1948 والتي وقعت تحت سيل من المؤامرات والضربات المتلاحقة .
في هذاالمناخ الذي نتج عن النكبة الفلسطينية واغتصاب فلسطين وهزيمة الجيوش العربية وفرض اللجوء على شعبنا ومن واقع المخيم بدأت مخاضات استعادة التوازن الفلسطيني، فعادت قوى شعبنا المناضلة إلى العمل والتلاقي والتفاعل والبحث عن الطريق ، لقد ذهبت الاتجاهات الاستراتيجية في هذا المجال إلى خطين متوازيين ، الأول منهما كان هو السائد والذي تعلّق بتفعيل المشاركة السياسية من خلال الأحزاب العربية القائمة وتجربتها في الوطن العربي، وخاصة تلك الأحزاب القومية والشيوعية ، بينما كان الخط الجديد الذي انفجر مع انفجار الثورة الفلسطينية المعاصرة يقول وينادي بالنهوض من الواقع الوطني الفلسطيني لأن الشخصية الوطنية الفلسطينية أصبحت مهددة بضياع جزء كبير من فلسطين نتيجة الاغتصاب الصهيوني وعوامل التشريد واللجوء من جهة، ووقوع القسم المتبقي من فلسطين تحت واقع الإلحاق بالدول العربية القائمة حول فلسطين من دول الطوق وخاصة الأردن ومصر، حيث ألحقت الضفة الغربية بشرق الأردن بينما أصبح قطاع غزة تحت الإدارة المصرية.
مع هدير الثورة المصرية عام 1953 ومعركتها الخالدة في السويس عام 1956 وانتصار الثورة الجزائرية بدعمها وإسنادها من قبل مصر عام 1962،توج الخط الجديد في الوعي السياسي الفلسطيني خطواته العملية بافتتاح الصراع مع العدو الصهيوني في بواكير العام 1965 ففي الفاتح من كانون الثاني أعلن الخط الوطني الفلسطيني انطلاقة الثورة الفلسطينية الثانية عبر بيان العملية الأقوى لقيادة قوات العاصفة الجناح العسكري المقاتل لحركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، وانطلقت قوات العاصفة ومعها الثورة الفلسطينية تقول بتحرير فلسطين كامل فلسطين والعودة إليها وتصحيح الجريمة التاريخية بالقوة، مقدمة ذلك على أنه سيعمل على تحقيق الهدف القومي بالوحدة العربية في ذات الوقت الذي يصون الشخصية الوطنية الفلسطينية ويحييها في الصراع الوجودي مع العدو، لأن طابعه المميز هو التفريغ والاحلال والنكران.
شهدت بداية الستينيات من القرن الماضي تحولا في منهج الخط الوطني الفلسطيني الأول الذي لازم الفعل السياسي من خلال الحاضنة العربية للأحزاب العربية القومية والشيوعية عقب تجسيد الخط الجديد الذي اجترحته حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح»، فقرر الذهاب أيضا إلى تحقيق الشخصية الوطنية الفلسطينية والقومية من خلال استراتيجية الكفاح المسلح وأسلوب الحرب الشعبية، انفصل الفلسطينيون في حركة القوميون العرب إلى خيار تجسيد ذلك عبر قيام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وما تبعها من جبهات عنها أو عن غيرها، والتقى الخطان في نقطة أساسية واحدة من جديد تصر على صيانة وإحياء الشخصية الوطنية الفلسطينية والخصوصية المنبثقة عن ضرورة مواجهة أهداف العدو الاستراتيجية ،وتصرّ على منهج الكفاح المسلح ضرورة لتحقيق ذلك، بينما بقيت نقاط التمايز في قراءة الأهداف القومية وطريقة تحقيقها عند حالها، فبينما أصر الخط القديم على أن الوحدة القومية والنضال في سبيلها شرط لتحقيق التحرير والعودة، ذهب الخط الجديد إلى اعتبار ذلك الهدف القومي الأسمى بالوحدة هو نتيجة طبيعية للتحرير عند إنجازه وأن عامل الوقت في الصراع مع هذا العدو ليس في صالح الأهداف الوطنية ولا القومية أصلا، وأن جبهة عربية مساندة ستكون شرطا مهما للتحرير والعودة ولكنها لن تكون بديلا عن انخراط الخط الوطني الفلسطيني نفسه بالصراع في الخندق الأول.
خاضت قوات العاصفة و«فتح» حربا استنزافية شاملة مع العدو لمنعه من الراحة والتوسع، لكن هزيمة أخرى عام 1967 للجيوش العربية في مصر وسوريا والأردن ذهبت بباقي فلسطين ومعها سيناء والجولان وأجزاء من الأردن ولبنان، فاستعر غرور العدو واشتعلت غطرسته، وفي آذار من العام 1968 ظن أنه سينهي الفصل الفلسطيني من هذه الحكاية فاختار الذهاب إلى عرين الأسود في الكرامة، ولقنته يومها قوات العاصفة وفصائل الثورة الفلسطينية التي كانت قد قررت المواجهة بمؤازرة تالية من مدفعية الجيش العربي الأردني الدرس الأول والذي لم ولن ينساه، في الكرامة أكدت الثورة على أن الطريق الوحيد لدحر العدو هو البندقية والبندقية فقط.
بانتقال العالم من مرحلية الكولونيالية التي تزعمتها بيريطانيا وفرنسا إلى مرحلة الامبريالية التي ورثتها الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية ، وعقب سقوط دور هذه الاخيرة ومنذ فشلها الذريع عام 1956 في السويس، أصبحت الولايات المتحدة هي اللاعب الأول في العالم متقاسمة هذا الدور مع الاتحاد السوفيتي في صراع رعب توازني، وفي هذا المناخ الدولي من الحرب الباردة ضاع ما تبقى من فلسطين نتيجة لحرب الأيام الستة في حزيران 1967.
كانت استراتيجية الولايات المتحدة الامريكية قائمة على أساس سحق المقاومة العربية التي أخذت هوية القومية العربية التي بشّر بها المشروع الناصري في العالم العربي، وبمواجهة الاتحاد السوفيتي من خلال ما كان يعرف باسقاط القلاع واحدة تلو أخرى، وفي الوقت الذي تم توجيه الضربة الأقوى للمشروع القومي العربي عبر هزيمة حزيران، كانت الثورة وفتح هي الأقدر على استنزاف العدو الصهيوني والوصول إليه وإنشاء رأس جسر لإعادة الثقة حتى تنطلق حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية والسورية، وفي هذا المناخ جاءت صولة العاصفة ونتائج معركة الكرامة التاريخية.
عندها أدركت الولايات المتحدة أن الثورة الفلسطينية تستطيع إن تركت على طريق حرب التحرير الشعبية أن تنجز شرحا مفصلا عن الموجز الذي قدمته في ملحمة الكرامة، فبدأت خيوط المؤامرات ونتج عنها استهداف الثورة الفلسطينية في موقع التماس الأطول عبر الخطوط الأردنية- الفلسطينية، فحدثت أحداث أيلول المؤسفة عام 1970 في الاردن، وانتقلت قوات العاصفة والثورة إلى لبنان لتعيد صياغة خط الجبهة والمواجهة مع العدو، واستطاعت أن تحقق ذلك في وقت قياسي وفي أجواء الاستنزاف للعدو ضاعفت الثورة من عملها وبدأت في تلمّس واقع الوطن المحتل لصياغة معادلتها هناك، ومع انتصار الجيوش العربية العسكري اللافت في مصر وسوريا عام 1973 كانت الثورة على طريق الاختبار، طريق البقاء على المواجهة تحت ضغوط جديدة هذه المرة ضغوط المرغبين في لعبة الأنظمة السياسية العربية مع تبدّل السادات إلى أوراق الحل الأمريكي التي جاهر بها ودعا إليها ناسفا ما كان سابقا على هذا من قناعات واستراتيجيات، أو التفريط بالخط الثوري والتساوق مع اتجاه النظام العربي الرسمي إلى التسوية.
وفي هذه المحطة حدثت أول وأكبر الأخطاء التاريخية بتبني ما عرف بخطة "النقاط العشر" على وقع الحديث عن مؤتمر جنيف والتسوية مع العدو، وكان المعنى الحقيقي الخفي لهذا الخيار لا سيما عبر توصيف منظمة التحرير من مؤتمر القمة في المغرب بأنها ممثل الشعب الفلسطيني لغرض تسهيل التسوية عام 74، من حيث هو باختصار العمل على تأهيل الثورة بتحويلها من قوة تهدف إلى تحرير فلسطين إلى قوة تهدف إلى دخول منتدى التسوية على فلسطين وإن تغطت بالغطاء المؤقت، ومع ذلك بقيت نواة صلبة في حركة التحرير الوطني الفلسطيني«فتح»، وفي قوات العاصفة والكفاح المسلح الفلسطيني وبقية فصائل الثورة تؤمن بأن نهج التسوية لن يقود إلا إلى كوارث على القضية الفلسطينية، وبأن الثورة لم تكن مضطرة إلى الدخول في هذا المسار ولا إلى التورط في الجواب على قرارات الامم المتحدة ولا غيرها، وبأن دورها الأول والأخير هو دوام الاشتباك مع العدو وترك اللجنة المركزية وحتى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وخيارها الذي أرادت أن تختبره في هذا الجو.
انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976 ومعها واليها جرى توريط الثورة وتشكلت القيادة المشتركة اللبنانية الوطنية والفلسطينية من جهة والكتائب ومحورها وارتباطها من جهة أخرى، ودخلت سوريا على خط الأزمة، أما السادات فقام بتوقيع معاهدة كامب ديفيد التي اخترقت كل المحرمات القومية عام 1979 ، وبدا واضحا أن العدو في طريقه إلى محاولة جديدة لما عجز عنه في العام 1968 في الكرامة وفي العام 1978 مع اجتياحه لليطاني ومواقع الثورة هناك، وحدث الغزو الصهيوني للبنان عام 1982 لينتج عنه استبسال الثورة وصمودها الصمود الأسطوري ثمانين يوما في حصار بيروت ، ولكي ينتهي هذا الصمود بالموافقة على خروج الثورة الفلسطينية تجاه استقطاب اوسع وأفخاخ أكبر تكفل الواقع السياسي العربي بتشكيلها من حول عنق الحركة السياسية الفلسطينية التي اختارت مسرح التسويات السياسية دون أن ينتج عنها ولو ممر آمن تجاه فلسطين.
على الرغم من واقع الشتات الجديد الذي وجدت فيه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وقيادة الحركة نفسها فيه بعد الخروج من بيروت عام 1982 والاستقرار في تونس وجغرافيا عربية بعيدة كالسودان واليمن والجزائر بدلا من إعادة صياغة واقع آخر أقرب إلى حدود فلسطين يعيد إلى خط المقاومة التعزيز والثقة والدعم، فإن ممراً آمنا كان يجري تكوينه وولادته في الضفة وغزة المحتلة، هذا الممر هو الانتفاضة الفلسطينية المجيدة التي انفجرت في وجه العدو الصهيوني عام 1987 في ذات الجو الذي كان يعيش فيه قناعات استطاعته تهميش الثورة الفلسطينية ونهشها على مهل في مناطق شتاتها البعيدة الجديدة، وخاصة مع اشغال المنطقة العربية كاملة بحرب الخليج الأولى بين العراق وايران الثورة وخسارة ثقليهما في موقع كان من الممكن أن يغيّر واقع الترنح .
كانت محطة ما بعد بيروت مؤلمة إلى أبعد الحدود ذلك أنها لم تنته فقط إلى إخراج قوات الثورة الفلسطينية من ثاني خطوط المواجه المباشرة مع العدو وتصفية قواعد الثوار فيها والإجهاز على ما تم بناؤه وفق نظرية القاعدة الآمنة في حضن الجماهير،ـ بل كان الأنكى فيما لحق ذلك من الداخل عندما تعرضت فتح لأقسى تجربة في انشقاق جزء مهم من كادرها العسكري عام 1983 على خلفية مشتبكة مع عدد كبير من الأسباب والترسبات والتناقضات المؤذية وأهمها مواجهة قرارات قيادة «فتح»، بالذهاب إلى التسويات وإن كان الفساد المخفي الذي حفلت به بعض الدوائر الإدارية والخيار غير المعلن والمنظور تجاه الحل التسووي ضمن منظومة العمل تحت محطة القرارات 242 و338 قد أخذت مفاعيلها وشكلت صاعق التفجير، وحدث الانشقاق في جسد فتح مما أضر كثيراً بثقل خط المقاومة في الحركة لصالح الرهان على التجاربية والتسويات وذلك لأنه لم يتم تغليب ما طالما نادى به خط المقاومة في تحجيم الخلافات الداخلية والسير تجاه العدو فقط.
قرر خط المقاومة أن يوجد له منصة العمل هناك في الوطن فاستمر خط المقاومة في العمل في الداخل ، كانت المهمات صعبة ومعقدة ولكنها أنتجت أرضية شعبية تمكنها من رفع النضال الجماهيري عند الانفجار، وهكذا انفجرت الانتفاضة وفي ذات التوقيت الذي اندلعت فيه انتفاضة شعبنا المناضل المرابط كانت المقاومة اللبنانية تذيق العدو الدروس المرة في لبنان، وكانت توجهات خط المقاومة وخط استهداف العدو في خارطة تيارات حركة «فتح» هي الصائبة، فهي لم تكتف بتسجيل أنصع دروس المواجهة والصمود في الجنوب اللبناني خلال الأعوام التي شهدتها هذه التجربة عبر اسطورة الكتيبة الطلابية وقوات الجرمق، بل امتدت لتصل الماضي بالحاضر عبر تجربة تحضير الأرض المحتلة للانفجار الذي أخذ شكل ما عرف باسم الانتفاضة المجيدة وغابة الحجارة عام 1987، وهي نفس التجربة التي قادت هذا الضمير الفتحاوي الأصيل المصر على قناعاته الراسخة بأن الكفاح المسلح والمواجهة مع العدو هي السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وفي هذا المناخ تشكلت امتدادات تجربة الشهداء الثلاثة حمدي وأبو حسن ومروان وما واكب تعزيز هذا المعتقد وما رافقه عبر دعم هذا الخط الذي لا يقبل المساومة، وظهرت تجربة الشهداء وقيمتها في انطلاق سرايا الجهاد الاسلامي بارزة.
وبدلاً من أن يجري تعزيز المقاومة في الأرض المحتلة واجتراح الطرق والوسائل لإدامة هذا الاشتباك وتوسيعه سيما وأن القيادة الموحدة لهذه الانتفاضة نجحت في خلق هبات شعبية متناوبة ضمن حالة الاشتباك القائمة في ذات الوقت الذي حرصت فيه على الاعتماد الكلي على الاقتصاد الوطني الذاتي أو ما أسمته باقتصاد الحديقة الخلفية وبالتالي معالجة المشاكل التي ألقى بها الاحتلال على منظومة الاقتصاد الفلسطيني طويلا وحال دون تطورها، اتخذت قيادة الحركة قرارات صادمة تحت دعاوى وتبريرات مختلفة، لقد أرادت أن تتجاوب مع التجاربية هذه المرة خارج المنطوق الذي أعلن شعاراً عندما تم تسويق برنامج النقاط العشر القائل بإنشاء السلطة على أي جزء يتم تحريره من العدو بلا قيد أو شرط، لتصبح دخول بازار التسوية الذي افتتح مع مؤتمر بوش الأب بعد حربه على العراق عام 1990.
لم تكن الأسباب التي قادت إلى الاعتراف بالقرارات الدولية التي تكافيء العدو وتنشيء له وطنا في فلسطين السليبة من قبل قيادة الحركة عبر منظمة التحرير مقنعة ،جاءت كلها تحت عنوان واحد ووحيد هو شعور قيادة منظمة التحرير بانشغال العرب عنها أولا وثانيا بمعاقبة بعضهم لها على خيارها فيما يتعلق بالحرب على العراق الشقيق، كان موقف فلسطين واضحا في عدم الموافقة على غزو العراق للكويت، ولكنه كان أوضح في محاولة المستحيل لعدم حصول الحرب على العراق وتغليب الحلول العربية، كانت النتيجة إلباس فلسطين ومنظمة التحرير موقفا لم تقل به وتم تشريد شعبنا من الكويت من جديد مما أدى إلى طعنة قوية في جسد الانتفاضة، مع ذلك كان من الممكن البحث في عدة طرق لتعويض هذا الخلل والسير بطيئا بين حقول ألغام الحالة العربية المنقسمة أبشع انقسام، وحقول الغام الحالة الدولية التي شهدت بدء انهيار الحليف السوفيتي وتفكك أوصاله، لكن القرار لم يكن إلا البحث عن إعادة تعويم مسار الاستجابة لمشروع التسوية، تم ذلك بعد أن غابت حلقات قوية في مركزية فتح اغتالها العدو وربما كانت ستكون مختلفة الرأي فيما سارت إليه سرعة الاندفاع نحو أوسلو، فاستشهاد أبو جهاد إثر اغتيال العدو له في تونس واستشهاد أبو إياد وأبو الهول في عملية استهداف أيضا في تونس أدت إلى زيادة حظوظ ضغوط خط التسوية في فتح والتي مثلها دائما فريق برز فيه محمود عباس.
واختار الشهيد أبو عمار أوسلو محطة يقفز بها إلى الهواء على أمل أن تقوده إلى فلسطين كما قال يوم خروجه من بيروت على متن سفن اللجوء الجديدة، لكنها خطوة كان يراد منها الوصول إلى فلسطين المرحلية بما سينشأ من حقائق قد تقود إلى فلسطين التاريخية، كانت خطوة على حساب فكر خط المقاومة ومفاجئة تغيّرت فيها قواعد المسيرة داخل «فتح»، ولم يعد ممكنا الاستفادة من واقع الهامش المتاح لأنه بدا ضيقا ويضيق أكثر مع التسارع في مغامرة أوسلو ومقامرة اتفاقياتها التي بدا أنها اعتراف بالعدو مقابل اعتراف بمنظمة التحرير بلا أية منصات ممكن الوقوف عليها لا في القدس ولا بتفكيك المستوطنات ولا بتحرير الأسرى ولا بتحرير الاقتصاد، كانت أوسلو فقط مجرد فخ لاصطياد الثورة ومحاولة احتوائها مقابل حالة من التواجد المشروط فوق فلسطين،وضربت أوسلو فيما ضربت منذ عام 1993خطوط الاجتراح والابداع، بدا كما أن لو تم رهن المستقبل بكامله لصالح مجرّد فكرة استمات في التبشير بها فريق التسوية في منظمة التحرير الذي أصبح يضم إلى جانب بعض الوجوه الفتحاوية من الصف الثاني والثالث في قيادة «فتح»، التاريخية عددا من الذين غادروا أو أقصوا من فصائل أخرى في منظمة التحرير بالاضافة إلى قوى حزبية أو نقابية اختارات تشكيل حالة اندفاع نحو الوهم .
اغتال العدو أبو عمار لأنه أدرك أن ياسر عرفات اكتشف عقم ما يمكن أن تخرج به أية عملية تفاوضية من هذا النوع مع العدو وراعيه في أمريكا والغرب وحلفه الاقليمي، وانه لم يكن مستعدا للتفريط بالقضية والتصفية الختامية جملة بلا قيمة ممكن البناء عليها حسبما كان يتوقع ،وإن كان قد دخل مشروعا يصر على أنه تسوية أو ما كان يصفه بـ"سلام الشجعان " لا يعني أن تنقلب هذه إلى مصيدة تصفية، ولانه بادر إلى استعادة الموقف عبر الانتفاضة المسلحة التي انفجرت عام 2000 في فلسطين بتشجيع وتمويل ودعم منه، اعتبر العدو أن أبو عمار صار على قناعة تامة بأن العدو يعد لتحويل مرحلة الاحتواء إلى مرحلة توظيف فبادر إلى هجومه المضاد، ودعم خط المقاومة الاشتباك مع العدو في كل اتجاه، وتقدمت كتائب شهداء الأقصى لتحمل عنوان مواجهة العدو من جديد.
لقد اغتال العدو أبو عمار سياسيا قبل أن يغتاله جسديا عندما نشأ تحالف خط التسوية مع العدو ضده وعندما فرضت عليه الولايات المتحدة ورباعيتها وحلفها العربي شروطها التدريجية، فمن اصطناع منصب رئاسة وزراء للسلطة إلى حصاره في مقاطعته برام الله وقطع الاتصالات عنه، إلى قطع ذراعيه المالي والعسكري عبر جملة من الاجراءات التي تواطأ فيها فريق التسوية في فتح وفي منظمة التحرير، وأخيرا استطاع شارون أن ينفذ جريمة اغتيال الشهيد أبو عمار بالطريقة التي طالما استخدمها عبر التسميم، وخلط العدو الأوراق في ساحة فتح باغتياله الشهيد ابو عمار وبالايحاء أنه سيستجيب لخليفة يقبل أن يكون شريكاً حقيقيا وليس عقبة كأداء كما كان عليه حال الشهيد أبو عمار معه ومع شروطه وخططه.
كان لا بد من عقد مؤتمر حركي لحركة فتح بعد هذا الزلزال السياسي وبعد هذا النتاج لعقد ونصف من المفاوضات غير المنتجة سوى لمزيد من التهويد في القدس والمصادرة في الضفة وتغول الاستيطان بعد أن عاد العدو ليحتل الضفة مجددا ويحاصر غزة ، وبدلا من أن تكون الفرصة لاعادة تقييم مجمل التجربة واستعادة البوصلة سيما بعد فرض التقسيم الجديد على واقع شعبنا بين الضفة وغزة واغتيال قيادات المقاومة الفلسطينية بدءا من الشهيد ابو عمار والشهيد أبو علي مصطفى والشهيد أحمد يسين، ذهبت مناورات خط التسوية إلى حد الانقضاض على ما تبقى من شرعية حركية وعقد محمود عباس مؤتمرا في بيت لحم تجاوز فيه كل الأسس والموروثات والتقاليد الفتحاوية ليكرّس حالة فتحاوية تسوق الحركة إلى موقع خارج الثورة إلى معسكر حزب لسلطة تحت الاحتلال يستخدم في منظمة التحرير لتمرير برنامج سياسي قائم على مختصر الحياة مفاوضات.
واستجاب عباس لكل ما طلبته أمريكا ورباعيتها وما أملاه العدو، فأعلن عباس عن حل كتائب شهداء الأقصى، وقدم إلى مركزيته متحالفا معها وجوه متهمة بلائحة طويلة من الاتهامات، وابتدع تسريح الكادر الفتحاوي العسكري عبر مهزلة التقاعد، وتم إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية للسلطة بحسب برنامج الجنرال الامريكي دايتون وبعقيدة جديدة تحرص على أمن العدو وقطعان مستوطنيه أولا وأخيرا، استهدف المقاومة في الضفة بكافة أجنحتها وأشكالها ووسائلها عبر تنسيق أجهزته مع العدو، وأطلق يد فياض ووزاراته في تخريب ما تبقى من مؤسسات وروحية الحركة، وهكذا انتهت مهزلة خط التسوية إلى انشاء سلطة تحت الاحتلال تقمع شعبها عندما يحاول ان ينتفض في وجه العدو.
عندما انطلقت الرصاصة الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" عبر مجاهدي وفدائيي قوات العاصفة في الفاتح من كانون عام 1965، كان مخاض انطلاقها وعلى تفجّرها تؤشر على حقيقة واحدة وحتمية تاريخية ناصعة هي قانون الثورات لكل الشعوب التي كنست الاحتلال والعدوان واستعادات حريتها وكرامتها، هذا القانون يقول باختصار"ما أخذ بالقوة لا يستعاد بغير القوة"، ولهذا اختارت فتح والعاصفة الطريق الأصعب والأطول ولكنه الأوضح وسارت عليه.
على امتداد مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني ومسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، شكلت نواة فتح الصلبة التي بقيت مؤمنة بهذه الحتمية مهما عصفت الأحداث وتبدّلت المواقع الضمانة لبقاء روحية حركة فتح وأملها في استعادة موقع صنع برنامج الانتصار، وعبرت هذه العقيدة المؤمنة بحرب التحرير الشعبية طريقا وحيدا لتحرير فلسطين وبالكفاح المسلح أسلوبا أنقى وأمثل على درب الفداء والانتصار عن نفسها وعن برنامجها الذي يقوم على خلاصة واحدة " طالما أنك تشتبك مع العدو فأنت في قلب الثورة وبوصلتك صائبة"، وقد قدمت هذه النواة التي عبّرت عن نفسها كتيار أصيل داخل هذه الحركة العظيمة الدروس والأمثلة والشهداء والأسرى والاضافات النوعية التي شكّلت الروافع والمحططات الخالدة في تاريخ الحركة والثورة.
فمن أبطال الكرامة ومعركتها الفدائية الأنموذج في التاريخ المعاصر لحرب التحرير الشعبية، ومن رجال قلعة الشقيف ومقاتلي قوات الجرمق والكتيبة الطلابية وتجربتها الفتحاوية الخلاقة، إلى أبطال الانتفاضة الأولى المجيدة ومناضلي سرايا الجهاد المقدس ،ومن تجربة كتائب شهداء الأقصى إلى تجربة كتائب الشهيد عبدالقادر الحسيني، بقي خط الثورة في حركة "فتح" واضحا بقاعدته الذهبية التي لم يحد عنها، إنها القاعدة التي طالما دانت للمنطلقات والأهداف والمباديء والأساليب الفتحاوية الخالدة، وهي القاعدة التي طالما أثبت التاريخ الفلسطيني المعاصر أنها الثابت في حالة "فتح" دون غيرها لأن فكرتها الأساس هي المعادل الموضوعي لمعنى الثورة، هذه القاعدة تقول "لا فتح بلا بندقية مقاتلة للعدو"، وإن الطريق إلى تحرير فلسطين كل فلسطين لن تكون إلا بالإخلاص والتضحية والفداء.
بقي خط المقاومة الذي لم تتزعزع قناعته ولا تصميمه على طريق عبده الشهداء والأسرى بتضحياتهم وفيا لمبادئه، ومصراً على طريقه فاختار دائما الاستمرار على ذات الطريق، وقد شهدت السنوات الماضية تجليات لمحاولة هذا الخط استنهاض الحركة إلى طريق استعادة حيويتها وعافيتها وموقعها التاريخي في قلب المقاومة، وعبّر ذلك عن نفسه بتسميات متعددة كان منها قيادة الانقاذ الموحدة وقيادة الطواريء الحركية وغيرها وأخيرا تيار المقاومة والتحرير الذي اتفقت عدة جهات في خط المقاومة على اعتماده لانه يشكل عنوان الهدف الثابت في مسيرة خط المقاومة داخل فتح وداخل الثورة الفلسطينية، وعندما تواصل والتقى الفتحاويون في مسار خط المقاومة تعزز هذا الطريق بالذراع العسكري كتائب الشهيد عبدالقادر الحسيني وريث قوات العاصفة ليصل المستقبل بالحاضر بالماضي.
إن كل الجهود الاصلاحية والمحاولات المتكررة التي بذلت على طول الطريق لإصلاح حركة التحرير الوطني الفلسطيني «فتح» وما سينتجه ذلك من تصحيح خط الثورة، انتهت إلى نتيجة سالبة ولم تحقق الغرض منها، فمنذ السبعينيات انتهت تجربة صبري البنا «أبو نضال» وما عرف باسم «فتح المجلس الثوري» إلى نتيجة كارثية باستبدال العدو ونقل البندقية لتصبح بندقية للإيجار وسقوط مدوي لا مثيل له، بينما انتهت تجربة الثمانينيات التي قادها بعض من الكادر العسكري في «فتح» والذين تقدمهم العقيد سعيد مراغة «أبو موسى» وما عرف باسم «فتح الانتفاضة» إلى نتائج سالبة أخرى لم تحقق أصل ما انطلقت من أجله ناهيك عن الانحرافات التي رافقت تجربتها، وانتهت تجربة كادر فتحاوي في غزة إلى ما عرف باسم «فتح الياسر» وتاليا «حركة الأحرار» بقيادة خالد أبو هلال في قطاع غزة تحت سيطرة حركة «حماس» إلى لا شيء يذكر ، وكانت آخر المحاولات الإصلاحية هي تلك التي ارتبطت بالأخ فاروق القدومي على هامش السّعار الذي أصاب تيار التسوية والتصفية في «فتح» بتزعم محمود عباس له وذلك عبر تجربة «قيادة الانقاذ الفتحاوية» إلى نكوص «أبو لطف» عن تكملة المشوار وقبرت في مهدها، وفي حين استمر الكادر الفتحاوي المقاوم في محاولاته الدؤوب للسير بهذه الخطوة عبر تسمية تيار المقاومة والتحرير في حركة «فتح»، معتمداً على الفكرة الأساس والتي طالما تبناها باعتبار أن إصلاح الحركة غير ممكن عبر المؤتمرات والنشاط التنظيمي ،بل من الممكن تحقيقه عبر إدامة الاشتباك مع العدو مستفيدا من الهوامش المتاحة التي وفرتها طريقة العمل في «فتح» أثناء عصر المواجهة المعلن وفي محطاتها ،لكنه يجد اليوم نفسه محاصرا بالواقع الناشئ عن فقدان هذا الهامش نتيجة انقلاب محمود عباس وفريقه عبر ما سمي بمؤتمر بيت لحم «فتح السادس»، حيث انعدمت هوامش المواجهة نهائيا مع وضع محمود عباس ومجموعته كل بيض «فتح» في خط التسوية والتفريط المنحدر بقوة، وفي خط الانقلاب على إرث «فتح» ومبادئها ومنطلقاتها وأساليبها ،كما أن الأدوار الخطرة التي أخذ يلعبها محمود عباس ومجموعته والتي فاقت ضرر اختطاف الحركة وتدمير هياكلها والتلاعب بمصير كادرها ومقاتليها، إلى أدوار الوظيفة الأمنية التي تخدم العدو بشكل مباشر من خلال عمل أجهزة الأمن والتنسيق مع العدو بعد أن دمّر أجهزة الأمن السابقة التي شكّلها الشهيد «أبو عمار» عبر مسلسل التقاعد وتغيير العقيدة الأمنية الوطنية على يد الجنرال كيت دايتون، والانخراط في استحقاقات منع الحركة الوطنية في الضفة المحتلة والقدس من الاشتباك مع العدو علنا كل هذه الحقائق الجديدة جعلت هذا التيار اليوم غير قادر على تجسيد دوره الوطني كما كان دائما تحت تسمية «فتح»، وعليه فإن القرار بالذهاب بعيدا عن فتح بتيار جديد تحت تسمية جديدة أصبحت من الضرورات المؤكدة.
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا