الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > المقاومة والاعلام > تاريخ الإذاعة الفلسطينية “هنا القدس” الحلقة الثانية
أحاديث الإذاعة
كان للأحاديث العلمية والأدبية والفنية والدينية والتاريخية دور هام في تاريخ الإذاعة الفلسطينية أي من عام 1936 إلى عام 1948 فإنها أي الأحاديث شاركت في تذكير الشعب بأبطاله العرب الميامين الذين خاضوا معارك فاصلة دفاعاً عن التراب المقدس، وذوداً عن كرامة الأمة العربية، وفتحت أعين الشعب إلى حقوقه المغتصبة، ونبهته إلى الأخطار المحيطة به، وساعدت المرأة العربية الفلسطينية في أن تلعب دورها الكبير في الحياة الاجتماعية والوطنية والسياسية.
وإن الخوض في موضوع الأحاديث الإذاعية التي قامت بها الطبقة المثقفة العاملة يطول ويطول، فهناك المئات من الموضوعات التي أسهم فيها كتابنا وشعراؤنا وأدباؤنا وأساتذتنا خلال سني الإذاعة الفلسطينية، ولكنني آثرت أن أمرّ مرّ الكرام على بعض الأحاديث التي لا مصادر لها ولا نصوص، وأتوسع في أهم الأحاديث التي كان لها الوقع الحسن والتوعية الوطنية.
وفي موسوعته الفلسطينية "من أعلام الفكر والأدب في فلسطين" يذكر المرحوم يعقوب العودات (البدوي الملثم) نقلاً عن المرحوم الأستاذ عجاج نويهض الذي تسلّم إدارة محطة الإذاعة الفلسطينية في القدس مدة أربع سنوات، يذكر ما يلي:
"ومن الذين أسهموا في المجهود الإذاعي من أدباء العرب وعلمائهم وشعرائهم: محمد كرد علي رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق، وخليل مردم وشفيق جبري وسامي الكيالي وفؤاد الخطيب وبشارة الخوري (الأخطل الصغير) وطه الراوي وعبد الوهاب عزام وخليل تقي الدين ونسيم يزبك وحليم دموس وعباس العقاد وعبد القادر المازني والشيخ عبد العزيز البشري والدكتور محمد عوض".
"ومن فلسطين الأساتذة: عبد اللطيف الطيباوي وعمر الصالح البرغوثي ومحمد عبد السلام البرغوثي وحمدي الحسيني وخليل بيدس (القاص الأول في فلسطين) والشيخ سليمان الجعبري ومحمد يونس الحسيني ووديع الحسيني ووديع البستاني واسكندر الخوري البيتجالي وعادل جبر ومحيي الدين مكي وجميل الجوزي ونصري الجوزي وطيبو الصيداوي من هواة الرواية والتمثيل وغيرهم".
وكان من أبرز الأديبات النسائيات:
سلوى السعيد وماري صروف شحادة وأسمى طوبي ووديعة شطارة وقدسية خورشيد وعزيزة الحشيمي الصالح وغيرهن.
في مكان آخر من كتاب "حديث الإذاعة" يقول الأستاذ نويهض:
"غير أن هناك أمراً لا بد من الإشارة إليه، وهو أن هذا الكتاب الأول من هذه السلسة قد مثّلت أحاديثه حظاً طيباً من الإنتاج الفكري لرهط كريم من علماء العرب وأدبائهم وأديباتهم، لا في فلسطين وحدها، بل في الأقطار العربية المجاورة من سورية ومصر ولبنان، ولا يبعد أن نرى في المستقبل القريب حديث الإذاعة يُمثّل في شرقنا العربي هذا، نزعة الفكر في مختلف الأقاليم والحواضر والعواصم من القدس ودمشق وعمان وبغداد وبيروت والقاهرة ومكة والرياض وصنعاء واليمن والخرطوم وغيرها".
وينهي الأستاذ حديثه بقوله:
وكأن الشاعر في الزمن السابق قد ألهم الإشارة إلى عصر المذياع لما قال:
غَنّتْ سليمى في الحجاز فأطرَبتْ مع بعدها أهل العراق نشيدا
ولو أنها رقصتْ بمصرَ فقد ترى في أصبهان لقدّها تأويداً
القدس 12 شعبان 1361 25 آب (أغسطس) 1942
وقد تصدر الكتاب "تحية فلسطين" للأستاذ بشارة الخوري (الأخطل الصغير) أذاعها من محطة القدس مساء الخميس في 2 نيسان (ابريل) سنة 1942. قال لا فضّ فوه:
فلسطين لستُ سوى دمعةٍ تهاوتْ على بسمة حائرة
تعانقتا فاستحال العنا ق لهيبا على شفة ثائرة
فلسطين يا حُلُمَ الأنبيا ء ويا خمرة الأنفس الشاعرة
حملْنا لكِ المهجَ الظامئا تِ وأصديةَ القُبل الطاهرة
فلسطين يا هيكلَ الذكريا تِ على جبهة الأعصر الغابرة
مُضَمّخةً بغُبار الحرو بِ مُخضّبةً بالمنى الزاخرة
* *
فلسطين يا جمحات الخيا لِ مجنحةً بالرؤى الساحرة
هناك على شرفات النجو مِ أرى مكّةً تلثم الناصرة
* *
وكما يقول الراسخون في العلم والمقدرون للدور الذي تلعبه المرأة في الحياة العامة فإننا نستهل حديثنا عن الرائدات الفلسطينيات اللواتي أسهمن في رفع مستوى البرامج الإذاعية، وقد راعينا تاريخ الإذاعة كما هو وارد في كتاب "حديث الإذاعة" ولعل ذلك كان بين السنوات 1940 1942.
1905-1983
"إلى الأم العربية"
تكلمت السيدة أسمى طوبي بموضوع "إلى الأم العربية" عن تربية الطفل ودعائمها الثلاث: الصدق، الواجب، الشرف.
والمقال طريف ولكنه طويل آثرنا أن نقتطف منه فقرات.
تقول السيدة أسمى:
"ومن الفضائل الأساسية التي تعدّ دعائم للتربية، الشعور بالواجب، وقد يزعم البعض أن هذا الأمر يجب أن يترك للزمن، غير أنهم مخطئون في زعمهم لأن (الواجب) يجب أن يتعلمه الطفل ويعتاده وهو في المهد.
نعم يجب أن يتعلم إنّ عليه تبعة، ولو أنها تصغر أو تكبر وفقاً لسنه، ومتى فهم الولد ذلك وألفه، شب رجلاً يقدس الواجب على اختلاف أنواعه، إشرعي يا سيدتي في ذلك من المنزل، وأفهمي طفلك واجبه نحو من حوله.. فأخته الصغيرة يجب مراعاتها ومداراتها، وجدته الشيخة يجب احترامها ومساعدتها، ووالده ووالدته يتحتم عليه احترامهما والعمل بمشيئتهما.
إن الذي يفهم كل هذا ويعتاده طفلاً، تفخر به الإنسانية رجلاً".
إلى أن تقول:
"الواجب نحو الأمة، تضامن الفرد مع الفرد في سبيل سعادة الأمة. خير البلاد هي التي فيها (مهدي ولحدي) وخير الأمم هي التي متى دعتني لبّيت نداءها في الحال..
إن الطفل الذي يلقّن كل هذا ويحفظه ويعتاده، هو رجل الغد، هو باني المجد، هو حامل لواء عزّ الأمة وعظمتها".
السيدة أسمى طوبي أديبة معروفة وتعتبر من أقدم كاتبات فلسطين وأعرقهن في الحركتين الأدبية والوطنية.
لها كتب مطبوعة منها:
مصرع قيصر روسيا تمثيلية عكا 1925.
صبر وفرج تمثيلية عكا 1943.
الفتاة وكيف أريدها عكا 1943.
الدنيا حكايات بيروت.
أحاديث من القلب بيروت 1955.
عبير ومجد بيروت 1966.
نفحة عطر بيروت 1973.
وهي مختارات ومقالات اجتماعية وأدبية.
المرأة العربية في فلسطين.
هذا الكتاب تركته في المطبعة لدى مغادرتها مدينة عكا.
وقد أسهمت إسهاماً فعالاً في الحركة الوطنية الفلسطينية، وعملت مع رفيقات لها في "اتحاد عكا" وشغلت أمانة سرّ هذا الاتحاد منذ تأسيسه عام 1929. وفي أواخر عهد الانتداب كانت رئيسة الاتحاد النسائي العربي في عكا.
نشرت جريدة الأنوار البيروتية في عدديها 150 / 4461 و 4462 المؤرخين 8 و 9 / 4 / 1973 "إن المطران سبيريدون خوري متروبوليت زحلة وبعلبك وتوابعها، بالنيابة عن المنظمة الفلسطينية وضع وسام قسطنطين المعظم من رتبة ضابط أكبر، على صدر الأديبة أسمى طوبي تقديراً للأعمال الإنسانية والأدبية التي قامت بها لحظات حياتها. وهو أول وسام لقسطنطين الأكبر يقدم لامرأة"
وتتابع الجريدة: "وبكت أديبتنا الكبيرة أسمى طوبي عندما قلدوها الوسام وقالت: شكراً لكم من الأعماق فقد غمرتموني بعطفكم".
ما هي مؤسسة قسطنطين المعظم، وما هي أهدافها في هذا العالم المضطرب؟
هدف هذه المؤسسة باختصار هو أن تسعى سعياً حثيثاً كي تجعل عالمنا هذا أفضل مما هو.
تحتاج المؤسسة إلى قلوب رحيمة وأقلام تنشر الحب الأخوي، وعقول ذكية تخطط من أجل تخفيف ويلات هذا العالم، والقيام بحملات منظمة ضد تجار الحروب والأسلحة النووية المدمرة، والعمل على مساعدة الشعوب الفقيرة التي تحتاج إلى الغذاء.
وكان الشاعر القروي حاضراً فوقف وألقى قصيدة مطولة نقتطف منها هذه الأبيات:
مجال القول أوسع من خيالي وأضيق من مجالك في الفعال
فما لقضاء حقك من سبيل سوى هذا التعلل بالمحال
إلى أن يقول:
فلسطينية وكفاك فخراَ بأقدس تربة وأعزّ آل
طهارة مريم وكمال عيسى ومعراج النبي إلى الأعالي
مقامك من ربيبات الدلال مقام القدس من دنيا الجلال
"التربية في الأسرة العربية"
هي من مدينة يافا ومن عائلة صروف التي تمرست بالعلم والأدب. أخذت تنشر مقالاتها في عدة صحف منذ عام 1920 فهي من أوائل رائداتنا من حملة الأقلام.
تزوجت من الصحفي المرحوم بولس شحادة صاحب جريدة "مرآة الشرق" التي كانت تصدر في القدس الشريف وهي حماة المرحوم يعقوب العودات (البدوي الملثم).
امرأة خلوقة مهذبة متزنة في أحاديثها تعمل دائماً لرفع مستوى الفتيات الفلسطينيات وإرشادهن إلى الطريق المستقيم.
ألقت العديد من المحاضرات في الجمعيات والأندية الفلسطينية، في يافا، وحيفا، والقدس، وغزة، ورام الله.
ولقد ردد المذياع مذياع محطة الإذاعة الفلسطينية- محاضراتها التي كانت تلقيها أسبوعياً وذلك لمدة ثلاث سنوات متوالية.
كانت من مؤسسات جمعية السيدات العربيات في فلسطين عام 1927.
بعد النكبة عاشت في رام الله، نشيطة كالمعتاد حاملةَ في نفسها الكثير من الأسى المقرون بالأمل كما تقول زميلتها أسمى طوبي.
وأسوق إلى القارئ الكريم فقرات من حديثها، "التربية في الأسرة العربية" والذي أذاعته من محطة القدس الشريف.
"قلت مرة في بعض أحاديثي أن الأسرة العربية، ليست في حاجة إلى دار جديدة، تحتوي على الفاخر من الرياش، والآنية الفضية والذهبية.. بل حاجتها إلى المرأة الجديدة، التي تعرف كيف تربي للأمة أولاداً يكونون رجال المستقبل رجالاَ فيهم الرجولة الحقّة، يعشقون الإخلاص والفضيلة والصدق والعمل، ويعتمدون على نفوسهم، ويفهمون معنى الحرية والإخاء والمساواة. نعم إننا في حاجة إلى مثل هذه المرأة، التي تقضي في بيتها السنين الطوال، تطويها في تربية أولادها وتهذيبهم، ليكونوا رجالاً تفخر بهم أمتهم".
ونقتطف مقطعاً ثانياً من حديثها القيّم، تقول:
"إن تربية البنين ليست عملاً سهلاً، بل هي من أصعب الصعاب، وتحتاج إلى جهود جبارة وتضحية عظيمة.
وكل هذا من واجبات الأم في البيت، ونحن إن لمنا الأم الجاهلة على تفريطها وقلة معرفتها وعدم مقدرتها، فكم يكون مقدار لومنا للفتاة المثقفة والأم المتعلمة، التي رأت في المدرسة، غير ما رأته أمها، والتي قرأت من كتب التربية، ما لم تقرأه أمها في حياتها، والتي شاهدت من أساليب التعليم والتهذيب والرقي، ما لم تشاهده أمها من قبل. وإذا كان الأمر على غير ما يجب أن يكون، فلماذا نبعث أولادنا إلى المدارس؟ أنبعثهم لكي يتعلموا فيها اللغات الأجنبية بغية الرطانة بها ومزجها بلغتهم العربية؟ أم ليتقنوا قراءة الروايات وفن الرقص والخلاعة؟ إن في الكتب الأجنبية كثيراً من الأدب الصحيح، وأصول التربية الحديثة والثقافة الحقيقة..
فلماذا لا تستعين أمهاتنا الحديثات بهذه الكتب، ويجعلنها دستورهن في تربية أولادهن".
إلى أن تقول:
"إن الخلق المتين هو الذي جعل (حفنة) من العرب يقوّضون أركان الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية.
وقد صدق الشاعر في قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
"شخصية المرأة"
لم نعثر على سيرة الآنسة قدسية خورشيد لنقدم لمحة صادقة عن حياتها وجهادها، ولكننا بعد قراءة حديثها الكامل يتبيّن لنا أنها ذات ثقافة عالية وإن الموضوع الذي طرقته والآراء التي قدمتها لتدل دلالة واضحة على سعة في الفكر وتطور في الرأي.
ولعلها في هذه الأيام تكون أماً أو جدة تقوم بتربية أبنائها وأحفادها على أسس تربوية سليمة.
وإلى القارئ الكريم فقرات من حديثها وتبدأه بقولها:
"كل شيء في الحياة يتطور بتطور العصر، ويتقدم بتقدم الإنسان. ولما كانت دعائم الحياة على ركنين، هما المرأة والرجل، فتقدم أحدهما مرتبط بتقدم الآخر. وهل تعدّ المدنية حقيقية والتقدم صحيحاً، إذا سار النصف إلى الأمام خطوات، وتخلف النصف الآخر عنه أميالاً؟..
"لا شك أن المدنية تتقدم، ولا شك كذلك أن مركز المرأة فيها خطير، بل هو في أوج الخطورة وقد أصبح لها الشأن الممتاز في توجيه العالم".
"فما هي المؤهلات التي تخولها أن تتبوأ هذا المركز السامي عن جدارة؟
إن أول أمر جدير بالعناية والاهتمام هو شخصيتها. فهي من أهم العوامل التي تهيئ سبل النجاح للمرء مهما كان نوع العمل الذي يقوم به".
وتتحدث بعد ذلك بإسهاب عن العوامل التي تؤثر في شخصية المرأة ألا وهي: الوراثة البيئة الغرائز الإرادة.
وفي مكان آخر تقول:
"اننا في حاجة يا سيداتي إلى خلق متين، وإرادة قوية، وعزيمة شديدة لا تخور ولا تنهزم أمام كلمة نقد في غير محلها، أو ازدراء كاذب لا يقبله عقل". هنرييت سكسك
المعروفة إذاعياً باسم الآنسة سعاد
من جملة من كتبت إليهم وإليهن السيدة هند خماش فقد كانت قبل النكبة من الطفلات الرائدات المشتركات في برامج الأطفال والمحدثات من محطة الإذاعة الفلسطينية. قالت في رسالة رقيقة بعثتها إلي في الثالث والعشرين من شهر نيسان (ابريل) عام 1983:
"بدأت بالاشتراك في أحاديث الأطفال في صيف عام 1944 وبقيت كذلك حتى النكبة 1948 تحت إشراف مقدمة البرنامج الآنسة "سعاد" المعروفة بالسيدة هنرييت سكسك فراج".
"الموضوعات التي كانت تعدها مقدمة البرنامج، جذابة متنوعة، تتناول التمثيليات الهادفة إلى تربية الطفل، وحسن تكيفه مع أسرته وبيئته بقالب علمي جذاب مع كثير من الأناشيد الوطنية، والأغاني ذات الأنغام اللطيفة المحببة إلى القلب، تتناول حياتنا اليومية، الأسرية، المدرسية، أغاني حول الحيوانات الأليفة. كانت لنا فرقتنا الموسيقية الخاصة، كان عدد المشتركين من الأطفال ذكوراً وإناثاً يصل من 8 15 أو أكثر. وكلهم مبدعون خصوصاً الأخت الزميلة فيروزشقيقة المطرب فهد نجّار. وكنا نلقى تشجيعاً مستمراً من السيد مديرالقسم العربي في الإذاعة آنذاك المرحوم عزمي النشاشيبي بحيث اعتبرني وفيروز نجمتي الأحاديث، وزاد مكافأتنا المالية تقديرً وإعجاباً".
إلى أن تقول:
"أصدقك القول أيها الأخ الكريم، لقد فتحت رسالتك في قلبي جراحاً عميقة.
فمع أجمل الذكريات التي أحملها تتضخم النكبة التي عشناها نكبتنا في فلسطين الغالية وتتردد كلمات إحدى الأناشيد في عقلي وقلبي:
فلسطين أنت عيوني أحميك طيّ جفوني
للعرب ذخراً دومي فلسطين يا فلسطين"
وتذكر السيدة هند مشكورة أنها أتمت دراستها الثانوية في مدينة دمشق، وتخرجت من المعهد العالي للخدمات الاجتماعية بالقاهرة بليسانس عام 1959. تزوجت في نهاية عام 1960 ثم انتقلت إلى حلب وعملت في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل حتى نهاية عام 1980. حيث وصلت إلى رتبة مدير معاون ثم تركت العمل لأسباب صحية.
ثم تستطرد فتقول:
"هنرييت سكسك فراج من مواليد القدس، اشتركت في تقديم برامج الأطفال من محطات "هنا القدس"، محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية ثم في الإذاعة اللبنانية. كانت برامجها محببة إلى الأطفال، تنم عن أدب راق وأسلوب محبب.
تنقلت هنرييت بعد النكبة في عدة بلدان عربية، عملت في مكتب "تنمية المواد التدريسية" في ليبيا ووضعت للصغار كتاباً طريفاً عن القصص الشعبي بعنوان "يا حزاركم".
ألفت كتاباً باللغة الانكليزية بعنوان "The Gallant Five" ( الشجعان الخمسة) تحدثت فيه عن أفراس عربية، وقد قامت بنشره إحدى دور النشر الأميركية.
وعندما رجعت إلى الأردن، أخذت تعمل لإصدار سلسلة من كتب القراءة الابتدائية بالاشتراك مع فريق من المربين بطلب من وزارة التربية الأردنية".
هنرييت من عائلة كريمة مثقفة، كان والدها المرحوم جورج الخوري سكسك مدرساً ومفتشاً في المدارس الأرثوذكسية العربية في فلسطين وشرق الأردن، ووالدتها السيدة كاترين مؤسسة وأمينة سر جمعيات خيرية عديدة أذكر منها المستشفى الخيري الأرثوذكسي، وملجأ للمرضى والمقعدين، ودار لحضانة الأطفال، ومستشفى للولادة، بيت الأطفال المشلولين، الخ.. وكانت ابنتها هنرييت تساعدها في أعمالها الخيرية هذه.
هي زوجة الأستاذ الأديب عصام حماد من كرام العائلات المقدسية المعروفة. .
تخرجت فاطمة من دار المعلمات في القدس الشريف سنة 1941 ودرّست في مدينة بيت لحم ثم في دار المعلمات الريفية برام الله وبعدها التحقت بدار الإذاعة الفلسطينية في أوائل عام 1946 بصفة مذيعة ومنتجة.
كانت تشرف على قسم برامج المرأة والأطفال، إضافة إلى أنها كانت تشارك زوجها عصام في تقديم البرامج الثقافية الخاصة والعامة.
وبمزيد من الاعتزاز والفخر أذكر أنها بالإضافة إلى المذيعتين المصريتين صفية المهندس وتماضر توفيق كنّ ثلاثتهن، أوائل المذيعات اللائي خضن ميدان العمل الإذاعي الحرفي الرسمي، وفي وقت واحد تقريباً في العالم العربي كله.
كان صوتها الحنون الهادئ الرزين يحبب نفسه إلى الأطفال والكبار معاً،لغتها العربية سليمة ومعلوماتها الثقافية ممتازة وبقيت تقدم برامجها الطريفة حتى نهاية الانتداب البريطاني وحلول النكبة الفلسطينية عام 1948.
زاملت زوجها في الإذاعة السورية (1950 1952) وفي الإذاعة الأردنية (1952 1957) وفي الإذاعة الألمانية الديمقراطية (1958 1965) بعد ذلك عملت مدرسة للغة العربية، ثم أمينة للمكتبة في دار المعلمات بوكالة الغوث برام الله ثم بوكالة عمان (1965 1971) ثم في قسم التصنيف بمكتبة الجامعة الأردنية بعمان (1978 1983).
واستأنفت فاطمة نشاطها في الدار الأردنية للثقافة والاعلام- عمان ، الأردن
وبعد أن قدمنا نماذج من الأدب النسائي وأحطنا القارئ الكريم بجهود بعض الرائدات الفلسطينيات، علينا أن نعرج على أحاديث الرجال ونقدم نماذج عما قدموه من أبحاث قيمة، وآراء تحررية هادفة.
ومن صانعي الإذاعة الفلسطينية والمشاركين في تقدمها السادة الفلسطينيين الكرام..
ولد في طيبة بني صعب (قضاء طولكرم) عام 1910، تلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدرسة طولكرم الأميرية. التحق بدار المعلمين في مدينة القد س ونظراً لنباهته وذكائه أوفدته مديرية معارف فلسطين إلى الجامعة الأميركية في بيروت، حيث نال شهادة البكالوريوس في الأدب العربي والتاريخ.
تعاطى مهنة التعليم في فلسطين وغذى المجلات الفلسطينية والعربية بمقالات قيمة نالت استحسان القراء.
وفي التاسع والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947 عين عبد اللطيف مفتشاً عاماً في الإدارة المركزية في القدس، أرسل في بعثة إلى لندن، ولكن نكبة فلسطين 1948 حالت دون رجوعه إليها، وفي لندن كان يدرس أنظمة التربية والتعليم في المدارس الانجليزية ونال عل دراسته درجة الدكتوراه.
عبد اللطيف خلوق، ذكي، متوقد الفكر، كان محبوباً من كل من عرفه. وكانت محطة الإذاعة الفلسطينية هي التي ربطت بين صداقتنا.
وقد أذاع من محطة القدس بين السنوات 1942 1943 أربعة أحاديث تحت عنوان "الجيش في الإسلام" كما أذاع اثني عشر حديثاً قيماً موضوعها:
"التربية والتعليم في العصور الإسلامية".
وإني أسوق إلى القارئ الكريم الصفحة قبل الأخيرة من أحاديثه:
"كان اضمحلال شأن اللغة العربية، من أول المصائب التي حلت بالثقافة الإسلامية العربية. وأثر ذلك في التربية والتعليم كبير الخطر. فالمعروف أن الفرس كانوا شركاء العرب في دولة الخلافة. ولكنهم ظلوا يرقبون فرصة، يتخلصون فيها من حكم العرب السياسي، ومن سلطانهم الثقافي. وجاءت هذه الفرصة بعد سقوط الخلافة، فتحللت بلاد الفرس تدريجياً من سلطان اللغة العربية، فانحصر استعمالها في الشؤون الدينية، وفي بعض المدارس، وعند بعض العلماء. وظل ذلك في ازدياد، حتى جاء زمن لم يبق فيه للعربية سلطان على الفرس.
ونشأ عن هذا، وعن ضعف العرب السياسي، وعن تفشي اللحن في الكلام، والعقم في البحث والتأليف، أن تضاءل شأن اللغة العربية، حتى في مصر والشام والعراق، وغلبت عليها أساليب الأعاجم في الكتابة، وبعض ركاكتهم في التعبير والاصطلاح. وهذا كله جعل اللغة وتعليمها أمراً صعباً، وزاده صعوبة ما طرأ على المدارس والكتاتيب، من انحطاط في المستوى العلمي والإداري على وجه الإجمال".
ويستأنف: " يخيل إلى السامع، أن في هذه الأوصاف شيئاً من الغلو، خصوصاً وأمامنا عدد كبير من المؤلفين والمفكرين والشعراء الذين ظهروا في تلك الفترة، وكتبهم وآراؤهم ما زالت في متناولنا، نعتمد عليها في كثير من الأبحاث..فمن لا يعرف المقّري وابن خلدون وابن العربي وابن الفارض وابن خلّكان والمقريزي والسيوطي؟ وكلهم ظهروا في ذاك الزمان.. كل هذا صحيح، وظهور أفراد مبرزين في عصور مظلمة، أمرٌ غير غريب، أو مستحيل الحدوث، ولكن كل هذا لا يمنع من صحة المميزات العامة التي ذكرناها فيما سبق...
ويقول في النهاية: "وإني أكون بهذا، قد وصلت ببحث التربية والتعليم في العصور الإسلامية، إلى أول القرن السادس عشر، وهو أول عهد جديد، يمكن الوقوف عنده، واختتام هذه السلسلة من الأحاديث".
وقد أذاع عبد اللطيف الطيباوي هذه الأحاديث قبل حصوله على درجة الدكتوراه.
ومن كتبه باللغة العربية:
التصوف الإسلامي العربي – القاهرة 1928
محاضرات في تاريخ العرب والإسلام – جزءان- بيروت 1963و 1964
القدس الشريف في تاريخ العرب والإسلام – دمشق 1980
دراسات عربية وإسلامية – دمشق 1983
وله مؤلفات باللغة الانجليزية أذكر منها:
"التعليم العربي في فلسطين في عهد الانتداب" صدر في لندن عام 1956.
"المصالح البريطانية في فلسطين(1800-1901)" طبع في اوكسفورد 1961.
"المستشرقون الناطقون بالإنكليزية" – لندن- 1964
"المصالح الأميركية في سورية (1800-1901) أوكسفورد 1966".
"تاريخ سورية الحديث" ويشمل تاريخ لبنان وفلسطين – لندن 1969
" القدس- مكانتها في الإسلام والتاريخ العربي"- لندن 1969
"التربية الإسلامية" – لندن 1972
"بحوث عربية وإسلامية في التربية والتاريخ والأدب" - لندن 1973
"العلاقات البريطانية العربية ومسألة فلسطين (1914- 1921)" – لندن 1977
"الأوقاف الإسلامية في القدس" – لندن 1978
ثم كان الحادث الأليم الذي ذهب ضحيته الأستاذ الطيباوي، فقد صدمته سيارة في ميدان "بيدفورد سكوير" بلندن فقضى نحبه صباح الجمعة السادس عشر من شهر تشرين الأول 1981 م.، رحمه الله الرحمة الواسعة.
من مواليد دير غسانة من قضاء رام الله. تلقى علومه الابتدائية في مدرسة القرية وأنهى دراسته الثانوية في الكلية العربية بالقدس عام 1928. أوفدته مديرية المعارف في فلسطين في بعثة إلى الجامعة الأميركية في بيروت.
نال بكالوريوس في العلوم عام 1931 وراح يمارس التعليم، وفي عام 1944 استقال من التدريس ليعمل سكرتيراً عاماً للبنك العربي في القدس.
وتسنى له وقتئذ أن ينشر الافتتاحيات القومية في جريدة الدفاع ويذيع سلسلة من الأحاديث بعنوان:
"ديار العرب والإسلام"
وهي ست عشرة حلقة عناوينها كالآتي:
1 ديار العرب والإسلام.
2 الجزيرة مهد العروبة ومبعث الإسلام.
3 الحجاز مهبط الوحي.
4 الحكومة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.
5 فتح الشام.
6 بطل اليرموك.
7 الشام موقعها وحدودها.
8 الأجناد.
9 فتح العراق.
10 فتح مصر.
11 فتح فارس وخراسان.
12 تغلغل الإسلام في قلب آسيا.
13 توطيد الحكم العربي في شمال أفريقيا.
14 كيف تمت سيادة العرب على البحر المتوسط.
15 فتح الأندلس.
16 الإمبراطورية العربية في أوج عظمتها.
وفي حديثه الأول " ديار العرب والإسلام "يقول:
" رسخت الحضارة القديمة في رقعة الأرض الواصلة بين المحيط الهندي وسلسلة الجبال الأوروبية، وهذه البقعة التي تشمل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وما يحيط بهما من بلاد، كانت مراكز حضارات ومبعث أمم ومدنيات. وقد تعاقبت على هذه الأقاليم صورٌ من الحياة متباينة، وتقلبت عليها دول مختلفة، وعمرتها أممٌ عديدة، ولكن أمة من هذه الأمم التي نشأت في هذا الجانب من العالم وحكمت جزءه المعمور، لم تحافظ على كل ما كان لها أو جلّه محافظة الأمة العربية. فقد عمرت هذه الأمة التاريخية الجزيرة السعيدة منذ فجر التاريخ، ولم يطأ عرينها أجنبي أو ترسخ فيه قدمه. وتجاوزت الجزيرة في موجاتٍ وعلى دفعاتٍ متفاوتةٍ في القدم. ثم كانت موجتها الأخيرة، منذ نحو أربعة عشر قرناً، وهذه الموجة اتصلت بأمواج المحيط الأطلسي ولم ترتد عنه، منذ وقف على ساحله عقبة بن نافع قبل ألف وثلاثمائة سنة.
كما نقتطف مقطعاً من حديثه الإذاعي السادس عشرحيث يقول:
"والقرن الأول الهجري هو العصر العربي من تاريخ الإسلام، فهذه الفتوح العظيمة، قام بها السلاح العربي، وهذه المعارك التاريخية الحاسمة كسبها قُوادٌ عرب أفذاذ أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص والمثنّى وسعد بن أبي وقاص وقتيبة بن مُسلم وعقبة بن نافع وعبد الله بن عامر، وكان الجيش في كل مكان، من أبناء القبائل العربية، وقد قاموا بأمور عظيمة لا تجارى: كوّنوا إمبراطورية، دخل في حوزتها معظم العالم المتمدن المعروف وقتئذ، ونشروا في أرجائها دين العرب ولغة العرب".
تميز محمد عبد السلام البرغوثي بذكاء نادر وثقافة عالية كما جمع بين العلم والأدب.
توفي في عمان في الثامن والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) 1952 ودفن في مقبرة باب الساهرة ببيت المقدس.
1874-1949
ولد في مدينة الناصرة عام 1874 وتلقى علومه الابتدائية في مدارسها.
وفي عام 1822 تأسست الجمعية الإمبراطورية الفلسطينية الروسية وكانت ناشطة لمنافسة الدول الغربية في بسط نفوذها في المملكة العثمانية وذلك بتأسيس المدارس والمستشفيات وقد أنشأت معهداً عصرياً في الناصرة تعلم فيه عدد كبير من كتابنا أمثال خليل بيدس وميخائيل نعيمة وغيرهم.
أقام خليل في المدرسة الداخلية الروسية 6 سنوات من عام 1886 إلى 1892 وبعدها استحق أن يتولى إدارة المدارس الابتدائية.
أصدر عام 1908 مجلة "النفائس". وفي عام 1909 أسس "النفائس العصرية" التي اشترك في الكتابة فيها فحول الكتاب أمثال خليل السكاكيني، إسعاف النشاشيبي، اسكندر الخوري البيتجالي.
انتقل إلى مدينة القدس، وشارك في الحركات القومية وطالب الأتراك بإنصاف العرب وكتب مقالات ضد الحكم التركي سنة 1916 فحكمت عليه السلطات بالإعدام فالتجأ إلى البطريركية الأرثوذكسية. وفي عام 1920 بعد دخول الانجليز قاد مظاهرة في عيد النبي موسى وألقى خطبة نارية في الجماهير حاضاً على الثورة للإجهاز على وعد بلفور، فقبضت عليه السلطات وحكمت عليه بالإعدام، وأودع سجن عكا. ونظراً لقيام المظاهرات في المدن الفلسطينية بدلت السلطات حكم الإعدام بالسجن مدة خمسة عشر عاماً وبقدوم المندوب السامي اليهودي هربرت صموئيل عفا عن المساجين السياسيين.
مواقفه الوطنية لا تعد ولا تحصى.
كنت أحد تلاميذه في مدرسة المطران المعروفة بسان جورج وهي مدرسة انجليزية، ولكنه كان كالأسد الهصور يقف مواقف مشرفة من إضرابات الطلاب ومواقفهم الوطنية كما كان دائماً يحضّنا على الدرس والمثابرة ويبين لنا الأخطار المحيقة بفلسطين بعد صدور وعد بلفور المشؤوم.
المرحوم خليل بيدس رائد من رواد القصة في فلسطين، له 45 كتاباً كما ذكر ذلك "الكتاب العربي الفلسطيني" الصادر عام 1946.
من كتبه المطبوعة، ابنة القبطان 1898، الطبيب الحاذق، العقد الثمين، تاريخ روسيا القديم، الكسور الدارجة، الكسور العشرية، شقاء الملوك، أهوال الاستبداد، الدول الإسلامية، ملوك الروس، درجات الحساب جزآن، درجات القراءة 7 أجزاء من سنة 1913 1921، العرش والحب، مختار البيان والتبيين بالاشتراك مع شريف النشاشيبي، مسارح الأذهان، الكافي في الصرف، نحن واللغة أحاديث لغوية أذاعها من الإذاعة الفلسطينية وغيرها كثير.
ومن سلسلة إحياء التراث الثقافي الفلسطيني أصدر له اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين الأمانة العامة- كتاب "مسارح الأذهان" وكانت المطبعة العصرية بمصر قد أصدرته عام 1924.
توفي في بيروت سنة 1949.
حديثه في محطة الإذاعة الفلسطينية كان بعنوان "إلى فتياننا" نقتطف منه فقرات:
"كل من سار في طريق أدرك نهايتها، ومن سعى رعى، ومن جال نال. والناس في هذه الحياة كخيل الرهان. الكل يسعى، والكل يركض. وكل واحد يريد أن يسبق غيره، ويصل إلى هدفه قبل غيره.. صونوا صحتكم وقوتكم، وحافظوا على روح الفتوة، ولو أصبحتم كهولاً وشيوخاً.. احترسوا من الغفلة عن نفوسكم، فللنفس ومضات، فاغتنموها، تزيدوها إشراقاً إلى إشراق. وفي النفس قوى كثيرة تفوق كل عدٍ وإحصاء، فاحرصوا عليها ولا تبددوها".
وفي نهاية حديثه الطويل يقول رحمه الله: "واعلموا رعاكم الله، أن الدنيا طريدةٌ لا يقتنصها إلا الصياد الماهر النشيط. فليكن كلٌّ منكم ذلك الصياد... ولا تنسوا أن قيمة الإنسان ما يحسنه (وإنْ ليسَ للإنسان إلا ما سعى)".
1904- 1990
من مواليد القدس الشريف. تلقى علومه في المدرسة "الصلاحية" ثم انتقل إلى كلية "الفرير" بالقدس والتحق بكلية الشباب المعروفة بعدئذ بالكلية الانكليزية عام 1923.
وبين السنوات (1923 1926) أمضى اسحق دراسته في الجامعة الأميركية في القاهرة.
وفي عام 1930 نال شهادة الليسانس في الآداب من جامعة القاهرة وبعدها حصل على الدكتوراه من جامعة لندن عام 1934.
مارس التعليم في الكلية العربية عند عودته من انجلترا حتى عام 1946 عندما عيّن مفتشاً للغة العربية في مديرية المعارف حتى عام النكبة أي 1948.
وبعد النكبة تنقّل يدرّس الأدب العربي في كل من حلب وبيروت والقاهرة وفي معهد الدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية.
الدكتور اسحق من أنشط من عرفت، نشر مقالات قيمة في مجلات الثقافة، والرسالة، والأديب، والأبحاث، والآداب، وله مؤلفات عديدة نذكر منها:
1 رأي في تدريس اللغة العربية، طبع عام 1937.
2 علماء المشرقيات في انكلترا، طبع عام 1940.
3 مذكرات دجاجة التي نال عليها جائزة دار المعارف للطباعة والنشر، طبع عام 1943. كما قام الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين الأمانة العامة- بطبع هذا الكتاب ضمن سلسلة إحياء التراث الثقافي الفلسطيني عام 1981.
4 العروض السهل (جزءان) بالاشتراك مع صديقنا المرحوم فائز الغول عام 1945.
5 فن إنشاد الشعر العربي (مترجم عن الفرنسية) بالاشتراك مع الأب اسطفان سالم عام 1945.
6 النقد الأدبي المعاصر عام 1967 .
7 الأدب والقومية العربية عام 1967.
8 عروبة بيت المقدس عام 1967.
وفي 19 شباط (فبراير) 1946 أذاع حديثاً من محطة الإذاعة الفلسطينية في القدس، بعنوان: "مشاكل اللغة العربية والحياة العربية الحديثة" يقول فيه:
"يرجع المؤرخون بداية النهضة الأدبية الحديثة في العالم العربي إلى آخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر الميلاديين. ولكن نهضة المجتمع العربي تأخرت عن النهضة الأدبية زمناً وسبقتها سرعة سير واتساع أفق. وحسبنا أن ننظر إلى المجتمع العربي اليوم حتى نراه يكاد يكون متصل الأسباب بالنهضة الأوروبية الحديثة، فالمدن العربية تحاكي إلى حد كبير المدن الأوروبية وليس هناك فروق كبيرة بين البيت العربي الحديث والبيت الأوروبي من حيث البناء والفرش واستعمال الآلات والأواني ووسائل الترفيه وما إلى ذلك. وربما تأخذك الدهشة إن دخلت بيتاً عربياً قديماً يرجع بناؤه إلى مائة أو مائتي سنة ووجدت أثاثه وفرشه وأدواته وأوانيه من طراز ما يستعمله الأوروبيون اليوم في بيوتهم، وليس من الغلو أن نقول أن المجتمع العربي في عمومه، قد قطع مئات السنوات في عشرالسنوات. فهل اللغة العربية نفسها جارت المجتمع العربي في وثباته؟ الواقع أنها لم تجاره فبين المجتمع العربي واللغة العربية فجوة واسعة وإن كان التفاوت بينهما سائراً سيراً محسوباً. وما سبب هذه الفجوة الواسعة؟ لقد استقرت اللغة العربية الفصيحة في الكتب وظلت مستقرة فيها لا تعرف السبيل إلى المجتمع العربي، منذ أفل نجم الحضارة العربية إلى مطلع هذا القرن أو إلى منتصف القرن الماضي على الأكثر. ومن جهة أخرى حالت موجات النهضة من قبل المغرب وكانت في بعض الأحيان بلسان عربي وفي بعضها الآخر بغير لسان. وهكذا لم تتفاعل النهضة الحديثة واللغة العربية الا تفاعلاً يسيراً للغاية ومن نطاق ضيق جداً.
وبدأت حركة الإحياء أو البعث في البلاد العربية بالأدب وربما كانت بداية طبيعية ولكنها على كل حال أحيت من العربية الجانب الأدبي دون سائر الجوانب. ولغة الأدب أبعد من أن تعبر عن العلوم والفنون المستحدثة وما جد في الحضارة من مرافق وآلات. فجاءت التعابير العربية الحديثة أِشبه بثوب عتيق فضفاض على غادة مجلوبة الحسن.
والتفت الكتّاب إلى الحياة يبغون وصفها والتعبير عن مرافقها فأعجزتهم اللغة، وأقرب دليل على ذلك أن الكاتب لا يجد في لغته مدداً يعينه على وصف فرش بيت أو أدوات حانوت أو لباس غانية. وهكذا اضطر الكتاب إلى أن يحتالوا على الكتابة وكانوا يتجنبون النواحي المادية وطوراً يعممون أو يوجزون".
إلى أن يقول:
"ولم تتطور كتب اللغة وكتب القراءة عامة تطوراً يتفق والحياة الحيوية. فالمعاجم العربية جعلت مادتها الكتب القديمة، واختلف العلماء في الفصيح والدخيل والمعرب. ولم يؤلف معجم واحد على الطريقة الأوروبية الحديثة، وهكذا توافرت العوامل على بقاء اللغة العربية بعيدة عن الحياة الحديثة إلا في حالات نادرة، وما السبيل إلى ملء الفراغ؟
لابد أولاً من أن ندرك عمل اللغة في المجتمع على وجهه الصحيح فاللغة (عادة اجتماعية) وفصلها عن المجتمع يؤدي إلى جمودها.
ثم لا بد من أن نذكر أن اللغة وحدات ثقافية لا يصح فصلها عن الثقافة أو التمييز بين اللفظ والمعنى، وسبيل إحياء اللغة هو إحياء الثقافة نفسها. وعلينا أن نذكر ثانياً ما يقرره علماء اللغة من أن خير وقت لتعلم اللغة هو السنوات الأولى أي وقت الطفولة فنعنى بتعويد الطفل عادات لغوية صحيحة. وإذا قرّ الرأي على استعمال اللغة الفصيحة فعلينا أن نذكر أن خير وسيلة لنشر تلك اللغة هم الأطفال أنفسهم دون سواهم. ثم لا بد من أن يتسع أفق فهمنا اللغة فهي ليست محاكاة فحسب ولكنها إخراج جديد.
أما العلوم الحديثة فلابد من أن تستساغ في العقل وأن تخرج منه بصورة عربية وفق الروح العربية والأساليب العربية. ولا خطر من بضع كلمات تمتصها اللغة وتعربها.
وأخيراً أمامنا وسيلة جديدة للإفادة من نشر الثقافة اللغوية هي الراديو والسينما وهما خير وسيلة لنشر اللغة الصحيحة في الجمهور العربي في أوسع بيئاته".
وفي عام 1946 أيضاً أذاع الدكتور اسحق حديثاً طريفاً بعنوان "كيف نفهم الأدب"، وقرأنا له مؤخراً كتاباً قيماً بعنوان: "قضايا عربية معاصرة" صادراً عن "دار القدس" بيروت حزيران (يونيو) 1978.
والدكتور اسحق يحتل مكانة مرموقة في العالم العربي وهو عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة وعضو مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة.
وقد حضر الدكتور اسحق وزوجته إلى القاهرة بين 10-16 كانون الثاني ونزل في فندق شبرد وذلك لحضورالحفل الذي أقيم في الثالث عشرمن يناير لتكريم الأدباء والفنانين الفلسطينيين المبدعين ونال وسام القدس مع شهادة استحقاق من دولة فلسطين. وقد التقيته آنئذٍ بعد غياب ما يقرب النصف قرن إذ كنت أحد المكرمين أيضاً.
إن هذا الإحتفال، إضافةً إلى تكريمه للمبدعين من أبناء الوطن، أتاح لهم الفرصة للقاء واسترجاع الذكريات عن فلسطين الحبيبة.
1903-1984
ومن الذين كتبوا إلينا وردوا على أسئلتنا الأستاذ داود كردي وقد أذاع سلسلة من الأحاديث من محطة القدس بعنوان: "تعلم اللغة الافرنسية" زادت على سبعين حديثاً.
الأستاذ دواد من مواليد القدس سنة 1903، خريج كلية الفرير بالقدس عام 1923، مارس مهنة التعليم في عدة مدارس ومعاهد منها كلية الفرير وكلية تراسانتا (الأرض المقدسة)، كان يدرّس اللغة العربية والفرنسية.
أصدر في مدينة القدس مجلة شهرية باسم "الأخلاق" ساهم في تحريرها والكتابة فيها عدد كبير من الأدباء والشعراء.
وعلى أثر النكبة لجأ إلى عمان وأنشأ معهداً لتعليم اللغات والضرب على الآلات الكاتبة، وتقديراً لخدماته الجلّى منحته الحكومة الأردنية وسام التربية من الدرجة الثالثة عام 1975 كما منحته الحكومة الفرنسية وسام الأكاديمية الفرنسية من درجة ضابط وذلك عام 1950، ووسام ضابط المعارف العامة الذهبي عام 1964.
و يكون الأستاذ داود قد أمضى خمسين عاماً في حقل التربية والتعليم، عندما انتقل إلى رحمته تعالى سنة 1983.
ومن المتعذر نشر مقتطفات من أحاديثه الكثيرة كونها تختص بتعليم اللغة الفرنسية.
1910-1988
ولد الأستاذ صالح في قلقيلية عام 1910، تلقى علومه الابتدائية في مدرسة البلدة وفي مدرسة يافا العجمي.
التحق بالكلية العربية سنة 1922 1923 لتفوقه في الدراسة الابتدائية وأتم علومه فيها في العام الدراسي 1927 1928 وحصل على شهادة دار المعلمين، كما نال شهادة المترك الفلسطيني.
وفي سنة 1936 نال الشهادة العليا الفلسطينية لمعلمي المدارس الثانوية.
اشتغل مدرساً منذ عام 1928 وتنقل في عدة مدارس منها قلقيلية، كفر سابا ثم عين مديراً لمدرسة الطيرة (بني صعب) وبعدها عين مديراً ليعبد ثم نقل إلى مدرسة الرملة الثانوية وبقي فيها حتى عام النكبة 1948.
وفي سنة 1950 1951 عين مديراً لمدرسة عرابة الثانوية وفي سنة 1956 نقل إلى عمان مديراً لمدرسة رغدان الثانوية.
والأستاذ الخطيب شاعر موهوب نظم الشعر منذ حداثته وله ديوان شعر مطبوع يفيض رقة وجمالاً.
ألقى صالح سلسلة من المحاضرات والأحاديث أثناء الانتداب البريطاني وكان لها الوقع الحسن.
وأذكر من هذه الأحاديث الإذاعية ما يلي: الأصمعي، الزمخشري، الحريري، أحمد بن عبد ربه.
ولننقل فقرات من موضوعه القيم "الأصمعي" الذي أذاعه في الثاني عشر من كانون الثاني (يناير) عام 1942، قال:
"قبل أن أتكلم عن الأصمعي استعرض النهضة الأدبية اللغوية في مدينتين من مدن العراق قد لعبتا دوراً عظيماً في إحياء هذه النهضة في القرن الثاني الهجري: أولاهما البصرة تلك المدينة الزاهرة بعلمائها وأدبائها في ذلك العهد الذين يعدون بحق واضعي أسس النهضة الأدبية بما قاموا به من تدوين وتأليف وتصنيف واستنباط وقياس، وثانيتهما الكوفة وهي تلك المدينة المزاحمة للبصرة في رجالاتها، المنافسة عليها نهضتها الأدبية اللغوية. فتآزر العلماء والأدباء فيها لمزاحمة أهل البصرة فأسسوا مذهباً خاصاً يضارع مذهب البصرة في النحو واللغة ليعلوا عليها رغم أن لها فضل الأسبقية وحق الزعامة الأدبية لرسوخ قدمها فيها ولأنها أول مدينة عنيت بالنحو واللغة وتدوينهما واستنباط القواعد لهما. كانت هاتان المدينتان تتنافسان على إحراز وكسب السبق في بغداد في بلاط الخلفاء ولكن كفة الكوفيين كانت ترجج على البصريين مع أن الآخرين يفوقونهم عددا ًوعُددا، تدويناً وتصنيفاً، بحثاً واستنباطاً. ولا عجب أن يفوز الكوفيون عليهم في الرأي المسموع والقول المتبوع ما دام الكسائي ذا الحظوة العظمى عند الرشيد، فهو مؤدب ولديه الأمين والمأمون، وهو كوفي، بل زعيم مذهبهم اللغوي. له الرأي الأفضل والعصمة العليا فيما بين الكوفيين، ولا بدع فهو المتعصب لهم المتشدد في زعامتهم. وما زال هذا شأن الكوفيين والبصريين حتى تألق في جو البصرة نجم زاهر أشرق نوره على أفق العراق أجمع فأطفأ نوره نور المتقدمين في بلاط الخلافة وظل يتقرب من الخليفة حتى وصل إلى الأوج فكان يطارح الرشيد بملح من ملح الإعراب ويفاجئه بالحكايات الأدبية مما حبب الرشيد بالأصمعي وقربه منه كثيراً فارتفع مقامه وسمت منزلته وشاع ذكره وحسنت حالته".
ثم يذكر الأستاذ الخطيب كيف تعرف الأصمعي بأمير المؤمنين هارون الرشيد وما لقي من الحظوة عنده ثم يقول:
"كان الأصمعي راوية العرب وأحد علماء اللغة المصنفين فيها، وأنه كان كثير التطواف في البوادي يقتبس علومها ويتقلى أخبارها ويتحف الخلفاء بها ويُكافأ عليها بالعطايا الوافرة والهدايا الفاخرة.
وقد سماه هارون الرشيد "شيطان العرب" إشارة إلى عظيم استطلاعه أحوالهم وأخبارهم، وقال عنه الأخفش:
"ما رأينا أحداً أعلم بالشعر من الأصمعي".
كان الأستاذ الخطيب يعيش مع عائلته وأولاده في مدينة عمان، ولم تخل زياراتي له عندما أنزل عند أخي، من سماع أشعار الهوى والشباب والأمل المنشود، وأشعار الوطنية الصادقة التي كانت تجيش في صوره. توفي، رحمه الله، في الثمانينات".
"العرب وموقفهم من الحرب الحاضرة"
ألقى الأستاذ المازني حديثة من محطة الإذاعة الفلسطينية في القدس، في اليوم العاشر من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1940 بدعوة من محطة فلسطين اللاسلكية، يقول رحمه الله:
"لقد شاءت المقادير، أن تزيد ما بيننا من روابط الجنس واللغة والدين أيضاً، والميراث التاريخي الحافل، فجعلنا سواء في حالنا، وفيما نرجو ونتوقع، وما نكره ونخاف، وفي نظرنا إلى المستقبل، وأملنا فيه، وإشفاقاً مما يمكن أن يجيئنا به. وأنا أعني بلاد العربية كلها، لا مصر و فلسطين وحدهما... وقد كانت بلادنا جميعها تابعة للدولة العثمانية القديمة، على تفاوت بين أحوالها. فكانت مصر إمارة لها استقلالها الداخلي، ولكن بريطانيا العظمى تحتلها، وكانت البلدان العربية الأخرى- الحجاز والعراق وسورية ولبنان وفلسطين ولايات عثمانية تحكمها الدولة العثمانية حكماً مباشراً.
وقد بدأت الحركة العربية في البلاد العثمانية من قبل الحرب الماضية، وكانت لها جمعيات وفروع في كل قطر تقريباً، فلما قامت الحرب، وثقلت وطأة الحكم (العرفي) على البلاد العربية، نزع أهلها إلى الثورة، وسعوا سعيهم للتحرر، فكانت الثورة العربية المشهورة، والتي انتهت بإخراج البلاد العربية من الحكم العثماني.
إلى أن يقول:
اتجه العرب في الحرب الماضية، إلى بريطانيا، بطبيعة الحال، فقد كانت في حرب مع تركيا، وكانت هي الدولة الكبيرة الحرة القادرة على معونتهم، والمستعدة لذلك، ولأن بلادهم واقعة على طريق إمبراطوريتها، فمن الممكن والمرغوب فيه، أن تقوم الفريقين علاقات مودة وتعاون لخيرهما معاً.
وبريطانيا تدافع عن كيانها وتذود عن حقيقتها، أو تقاتل في سبيل الحرية لنفسها، والعالم ضمناً. وقد صارت القضية التي تدافع عنها، هي قضية الحرية العامة للأمم، كبيرها وصغيرها. ولم يجئ هذا عفواً وإنما جاء للتطور الطبيعي الذي حدث في إمبراطوريتها هي نفسها، فقد كان لها في أول الأمر مستعمرات وأملاك، وكانت تسيطر على هذه الأملاك سيطرة القوي على الضعيف، والمتحضر على المتخلف.
ولكن الحرب الماضية جاءت بتطّور عميق فتحولت العلاقة بينها وبين هذه الأملاك، إلى شركة حرة بين شركاء متساوين في الحقوق والواجبات. وصارت إمبراطوريتها مجموعة حرة من الأمم الحرة، ولكل واحد من هذه الأملاك حرية الرأي والتصرف والتقرير".
ومن هنا صارت الدولة البريطانية إمبراطورية، ليس من همّها ولا من غاياتها، الاستيلاء على البلدان الأخرى بل أن تعيش معها في سلام وتعاون وتبادل المنافع، لا تعتدي، ولا يعتدى عليها.
"يقابل هذا، إن ألمانيا وإيطاليا دولتان، قامتا تطلبان الأملاك والمستعمرات وتنشدان التحكم في مصائر الشعوب واستغلالها، لخيرهما وحدهما، فلا أمان لضعيف معهما.
وقد حفلت السنتان الأخيرتان بسلسلة من الاعتداءات، لا مثيل لها في تاريخ العالم، الذي لم ير شبيهاً لهذه المحنة، التي يعانيها في هذا الزمان. ويسمع العرب دعاة هاتين الدولتين يقولون إن ألمانيا وإيطاليا، لا تبغيان إلا الخير للعرب، والاستقلال لشعوبهم وإلا إنقاذهم من الانجليز. وينظرون فإذا ألمانيا قد استعبدت نصف أوروبا، وأخضعت لسلطانها النرويج والدنمرك وبلجيكا وفرنسا فضلاً عن تشيكوسلوفاكيا وبولندا ورومانيا. قد يقال إن ألمانيا ستعيد إلى كثير من هذه الأمم حريتها، وقد يكون هذا أو لا يكون، ولكنه لن يكون لها استقلال صحيح، كالذي كان لها من قبل، إذا قدر أن تنتصر ألمانيا.
فهل يتصور أحد أن ألمانيا تكرم العرب وهي تهين هذه الدول؟ هل يتوهم إنسان، أن تترك ألمانيا وإيطاليا بلاد العرب وما فيها من مصادر الثروة الطبيعية وهما تغدران بأمم أوروبا؟ وهب ألمانيا انتصرت في هذه الحرب فإن انتصارها يكون معناه، أنه لم تبق في العالم أمةٌ كبيرة تستطيع أن تقاومها، وتعترض طريقها، وتصدها عن البغي والطغيان. فمن ذا الذي يمنعها حينئذ أن تصنع ما تشاء بالأمم الصغيرة من أمثالنا؟".
"إن العرب يعرفون بالتجربة ومن الواقع أنها جماعة من الأمم، يسهل جداً، ومن الطبيعي أيضاً، أن تكون حليفةً وصديقةً لجماعة الأمم البريطانية.. ويعرفون أنه لا مطمع لبريطانيا في بلادهم وأن كل ما تحرص عليه، هو سلامة إمبراطوريتها، فإذا اطمأنت إلى ذلك، ووثقت منه فلا مأرب لها بعد ذلك.. وقد حررت بريطانيا فعلاً بلاداً شتى للعرب عاشت معها في سلام ووئام مثل مصر والعراق والحجاز، وهناك بلاد أخرى للعرب، لا يزال ينقصها أن تفوز بحقها في الحرية، وهذه أملها الوحيد، منوط بتقليم أظافر، الطغيان النازي والفاشي، وانتصار قضية الحرية العامة".
وأحب أيضاً، قبل أن أختم هذا الحديث، أن أقول، إني أرجو أن يكون إدراك الإنكليز لهذه الحقائق التي أشرت إليها، صحيحاً تاماً، كإدراك العرب.
وألقى إبراهيم عبد القادر المازني حديثاً آخر بعنوان:
وقد أذاعه مساء يوم السبت في الثالث عشر من شهر تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1940 وقارن فيه بين الانجليز والنازية والفاشية إلى أن يقول:
"والذين يعرفون الانجليز ويخالطونهم أو يدرسون تاريخهم، أو يحصّلون آدابهم، يعرفون أن هذه أيضاً من خصائص الطباع الانجليزية، وما زالت مزيّة التربية الانجليزية إنها (استقلالية). وبيت الانجليزي هو قلعته وحصنه، والقوم جميعاً سواءٌ في الحقوق والواجبات، وحرية الفرد مكفولة إلى حدّ يعزّ نظيره في زماننا هذا، بل في أي زمان، سوى زمان العرب.. ولا اعتماد لأحد على أحد، إلا حين تدعو الحاجة إلى التعاون. والعالم كله مدحوٌّ مبسوط لمن يأنس من نفسه القدرة على المغامرة والاجتهاد. والعدل والإنصاف أساس الحياة عندهم ، وعلى قواعدهم يقوم بناء المجتمع، ولا فضل لمخلوق عن آخر إلا بحقه ومزيته، والمروءة والشهامة عنصران بارزان في سلوك الأفراد، والشجاعة فيهم من أبرز خصائصها القدرة على طول الصمود، وعظم الجَلَد، وشدة المراس.
أفلا ترون أن هذه، صورة من أخلاق العربي أيضاً؟".
ثم ينتقل إلى مهاجمة الديكتاتورية ويبيّن مساوئها: "يرتب الشعوب حسب أقدارهم وقيمهم عنده (يقصد هتلر) فيجعل العرب في المرتبة السادسة أو ما دونها.
ويعطل الفكر الإنساني، لأنه يحتم أن يفكر الناس على نحو ما يفكر هو، وإلا كان جزاء المخالف القتل أو التعذيب في محلات الاعتقال.
ولا إرادة لأحد، ولا رأي لمخلوق، ولا حق لآدمي، في أن يعمل أو يفكر، أو يحس، كما يعمل ويفكر ويحس الآدمي الحرّ، وعليه أن يكون رهن المشيئة العليا، فيعمل ما تأمره به، ويتلقى ما تجود به عليه، من غير أن يشكو.
وقد حدث في ألمانيا أن وشى الأب بابنه، والابن بأبيه، والزوجة ببعلها. فانصب جام النقمة على المسكين، وتلقى الواشي الشكر، وفاز بالتمجيد، ورُفِع قِبَل العيون، كمثل يحتذى".
"الحرب بعد اثني عشر شهراً وستة أسابيع"
يبدأ الأستاذ العقاد حديثه الذي ألقاه من محطة الإذاعة الفلسطينية في القدس مساء الاثنين الواقع في 23 رمضان سنة 1359، 14 تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1940 بما يأتي:
• "ولا أحسب أن بقعة من بقاع الأرض شغلت العالم كما شغلته هذه البقعة من قديم الزمان ومن قديم العصور، فمنذ ثلاثة آلاف سنة، وهذه البلاد تبلغ العالم رسائلها السماوية والأرضية ولاءً بغير انقطاع، وفي كل قطر من أقطار الأرض، تُرتّل الآيات والأناشيد في المعابد، ومصدرها الأول من هذه البلاد، وبغير حاجة إلى الأسلاك أو إلى الأجهزة أو إلى أمواج الأثير، يفهم السامعون أنهم ينصتون إلى محطة فلسطين،
وأنها تتحدث إليهم منذ آلاف السنين، فهي أقدم المذيعين في العالم على هذا الاعتبار".
م«لاحظة المؤلف:يبدو أن السلطات الحاكمة أوعزت إلى مدير القسم العربي في الإذاعة الفلسطينية أن يدعو محدثين معروفين ليتحدثوا عن الحرب العالمية الثانية وترجيح كفة الحلفاء في الوقت الذي كان الشعب الفلسطيني يؤثر انتصار المحور نظراً للإساءات التي أنزلها بهم الانكليز في فلسطين أثناء ثورة 1936 التي لقنت بريطانيا دروساً في الوطنية والصمود وبرهنت على وحشيتهم وبربريتهم.»
"ويسرني أن أذيع من حيث أذاع الأبرار الصالحون وخطر لي أن أسأل: ترى لو نهضوا اليوم ليخاطبوا الأمم على أجنحة الأثير، ماذا كانوا قائلين؟ ماذا كانوا يرون فيما يشغل الأمم ويحرّك الجيوش؟ وأيّ جانب من الجوانب يجنحون إليه؟ وأيها يعرضون عنه وينحون عليه؟
ولست نبياً ولا أنا من زمرة الأولياء.
ولكن المرء لا يحتاج إلى النبوءة، ليعلم مقاصد الأنبياء. وحسبه أن يؤمن ليعلم أنهم يدعون إلى تقديس الله، ولا يدعون إلى تقديس الإنسان، وأنهم يبشرون بالرحمة، ولا يبشرون بالغلظة والطغيان، وأنهم يدينون بالتكليف، ويجعلون كل إنسان مسؤولاً عن عمله، ولا يدينون بطاعة كطاعة الماشية التي سقط عنها التكليف".
ثم ينتقل إلى القول:
"وسأتحدث إلى حضراتكم، من بيت المقدس، عن مسألة العالم اليوم ولعلها مسألته إلى مئات السنين، وأعني بها الحرب الحاضرة، وخلاصة المواقف المختلفة فيها إلى اليوم، أو الحرب الحاضرة، وما تدلّ عليه الدلائل حتى الآن، في العالم كلّه، وفي العالم العربي على التخصيص".
"وعلى هذا أردد ما اعتقدته، وآمنت به، وتمنيته من اليوم الأول، وهو أن النصر للحرية لا محالة، وأن شريعة الغاب لماضٍ لا رجعة له، ولا غلبة له، وأن التاريخ يكون عبثاً من أسخف العبث، لو بطل اليوم كل معنى من معاني الأخلاق والآداب، ولم يبق إلا معنى القوة الغاشمة والسطوة البهيمية، وإن حلّ محلها المدفع والدبابة، محل المخلب والناب.
نفتح كتاب الحرب من صفحتها الأولى ونسأل: من الرابح؟ وإلى أي شوط وصل الفريقان؟
إن للحكم على ذلك طريقتين: إحداهما طريقة الحكم على الأشياء والحوادث، بمقدار ما لها من الفرقعة والضجيج، وهذه طريقة الذين يحكمون بالآذان والأعين، ولا يحكمون بالعقول، والثانية طريقة الحكم على الأشياء والحوادث بمقدار ما لها من النتائج والدلالات. وهي طريقة الذين يحكّمون العقل، ولا يفوتهم ما تراه الأعين وتسمعه الآذان.
وفي أعمال النازيين مجال كبير لإعجاب أنصار القرقعة والضجيج، فيها فتوحٌ كثيرة، ووقائع كبيرة، ومواكب كثيرة، فيها فتح بولونيا، وفتح الدنمرك، وفتح النروج، وفتح هولندة والبلجيك واللكسمبرغ، بل فيها فتح فرنسا العظيم".
ثم يأخذ الأستاذ العقاد رحمه الله في تبيان خسائر الحلفاء وخسائر هتلر إلى أن يقول في نهاية حديثه:
"فكيف إذا انتهى القتال؟ وكيف إذا تمادت أيامه، وكل يوم ينقص من قوته (أي هتلر) ويزيد في قوة خصومه.
لو تساوت الكفتان لكان هتلر هو الخاسر بلا مراء فكيف والكفتان غير سواء؟"
ويحلل المحدث خطاباً لهتلرذكر فيه أن قصده لم يكن إشهار الحرب بل بناء دولة على أساسٍ اجتماعي جديد، ومثالٍ من الثقافة جميل.
وهذا الذي قاله تلميحاً ، صرّح به زميله مولوتوف، فقال لمجلسه الأعلى بعد حملة الصلح الهتلرية: "إن ألمانيا في حربها مع الحلفاء، قد أصابت نجاحاً عظيماً ولكنها لم تبلغ بعد غرضها الأصيل، وهو انتهاء الحرب على الوجه الذي ترومه. وقد خاطب المستشار الألماني انجلترا مرة أخرى، عارضاً عليها أن تفاوضه في الصلح، فرفضت الحكومة البريطانية اقتراحه كما علمنا".
ويختم العقاد: "هذا هو فصل الخطاب، منتصرٌ يعتذر، ويشعر هو كما يشعر أصدقاؤه، إنه بعيدٌ جدّ البعد مما يروم، وترينا الدلائل الماثلة أمامنا، إنه يبتعد يوماً بعد يوم منه، ولا يقترب ولا يتأتى له الاقتراب".
"الدولة الأموية"
"أذيع هذا الحديث من محطة الإذاعة الفلسطينية في القدس، في اليوم الثامن عشر من شهر تشرين الأول (اكتوبر) 1940 وقد أذاعه نجل الأستاذ البشري بالنيابة عن والده الكريم".
"سيداتي سادتي: لقد تفضلت محطتكم للإذاعة اللاسلكية، فعهدت إليّ في الحديث إليكم عن الدولة الأموية. وإن من حسن الإصابة، في الوقت الذي يتنادى فيه بالعروبة من كلّ مكان، أن يتحدث المتحدثون عن الدولة التي عاشت عربيةً خالصةً، وقضت عربيةً خالصةً".
وإذا كان اسم بني أميّة، مما يثير في نفوس جمهرة المسلمين، بعض الذكريات الموجعة حقاً، فإن هذه الذكريات، كيفما كان خطبها، إنما هي وليدة آثار فردية، لعل من الإسراف أن تلصق بدولة من الدول، أو تدمغ أمة من الأمم. فأصبح حقاً علينا، بعد ذلك، أن نزن هذه الدولة، ونقدرها قدر ما صنعت للعروبة والإسلام.
فأول ما يسترعي النظر في شأن هذه الدولة، التي لم تعمّر من يوم مولدها، إلى أن لقيت حتفها، أكثر من اثنين وسبعين عاماً، فإنها كانت بعيدة الأثر جداً في حياة الإسلام وفي حياة العروبة جميعاً، أنها أقرت الملك واستمكنت من الثغور، وذللت مناكب الأقطار والولايات، وحسمت الفتن والثورات، اللهم إنها فوق ذلك كله، وما ذلك كله بالهين اليسير، قد امتدت بالفتح إلى أوروبا، بعدما وسّعت في رقعة الفتح في أفريقيا، ولقد دوخت ما دوخت من بلاد المغرب، إلى بحر الظلمات، حتى دان لحكمها، وخضع لأمر من أقامت فيه من ولاتها وعمالها. ولم يكفها ذلك، حتى فتحت بعون من جندها من البربرللعرب، بلاد الأندلس، عن طريق الصخرة التي سميت، بعد ، باسم القائد طارق بن زياد، مولى عاملهم على بلاد المغرب موسى بن نصير".
"ولقد زعمت أن الدولة الأموية، عاشت عربية خالصة وقضت عربية خالصة. فقد كان جميع حكامها، وولاتها، وقادة جيوشها، وسائر عمالها، عرباً خُلّصاً، لا تشوب أحداً منهم هُجْنَةٌ، ولا ينبض فيه عرق غير عربي، اللهم إلا مَن اصطنعوا من الموالي، وهؤلاء جدّ قليل".
"ولقد ساروا في أسباب عيشهم، سيرة عربية، هذبها حكم الإسلام. فإذا كان شيء من الترف قد تطرق إليهم، بحكم من خالطوا من الأمم التي دانت لسلطانهم، فإن ذلك لم يجْرِ على عروبتهم، ولم يطغ على ما ورثوا من العادات والتقاليد".
"ومما يذكر لبني أمية، أن لغة دواوين الخلافة، كانت من عهد عمر رضي الله عنه، وهو كما تعرفون أول من دوّن الدواوين، إما فارسية أو رومية أو قبطية إلى أن كانت دولة بني أمية، فنقلت دواوين الخراج في العراق من الفارسية إلى العربية في ولاية الحجّاج، ونقلت في الشام من الرومية إلى العربية في خلافة عبد الملك بن مروان، ثم نقلت في مصر من القبطية إلى العربية في عهد الوليد،وبذلك أضحت لغة الدواوين كلها عربية خالصة.
وبعد، فلقد قامت الدولة الأموية، والأميّة غالبة غامرة، حتى كان أئمة الدين من مفسري كتاب الله العزيز، ورواة الحديث الشريف، إنما كانت صدورهم هي خزائن علومهم، فلا يطلقون أيديهم بتدوين ولا تسطير، حتى رأى الخليفة عمر بن عبد العزيز، ضرورة جمع الأحاديث المعروفة، في كتاب يُبعث بنُسخه إلى الأمصار، خشية ضياعها، أو دخول غير الصحيح فيها، بموت الرواة، وتصرّم الزمان، وقد روي عن بعضهم، أنه وضع رسائل في تفسير سُور القرآن أو في غريبه أو متشابهه، كما أثرت عن واصل بن عطاء، رسائل تدور حول مذهبه في العقائد"
إلى أن يستطرد: "والواقع، أن أبلغ ما ظهر في صدر العصر العباسي، من الكتب القيمة، والمدونات الثمينة في علوم الدين وعلوم اللغة وآدابها، إنما بَسَقَ زرعه، وزكا فرعه، في عهد بني أمية، وإن آتى ثمره يانعاَ في عهد العباسيين .فأبو عمرو بن العلاء، أحد القرّاء السبعة، والراوية العظيم، لا يَصِحُّ أن تضاف كل آثاره إلى العصر العباسي، لمجرد أنه مات في عصر بني العباس. وكذلك القول في الإمامين الجليلين أبي حنيفة ومالك بن أنس، صاحبي المذهبين الفقهيين المعروفين، وكذلك الخليل بن أحمد، مجلّي النحو وواضع العروض، وأستاذ سيبويه إمام النحويين، والأصمعي الرواية الجليل، وكذلك محمد بن اسحاق، أقدم مؤرخ إسلامي، وغيرهم وغيرهم مما يضيق نطاق هذا الوقت عن سرد أسمائهم، وتقصي آثارهم اللهم إنه ليس من الحق ولا من الإنصاف، أن يخلص كل الفضل في آثار هؤلاء، للعصر الذي امتدت أعمارهم إليه، ويُنسى العصر الذي بذر الحبّ وأزكى الزرع، وما برح يتعهد ما لم يثمر بعد منه، حتى أشرف على الإزهار والإثمار".
رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق
"هل تمدنا"
أذيع في أوائل رمضان المبارك سنة 1360 هجرية وبعد أن قدم مقدمة فلسفية عن التمدن يستطرد العلامة بقوله:
"لا يقوم تمدن ولا رفاهية، بلا معرفة طبائع الأشياء، ولا تكون الحياة بغير هذا إلا وحشية، وفي أقسى وحشيتها. فالواجب صَرْفُ العناية إلى الخير لا إلى الشر، وبعبارة أوضح، إن العلم شرطٌ ضروريٌ للسعادة البشرية، ويتوقف على أمور أخرى.. إن فهم قليل من الأمور في العالم، ضروريٌ لسعادة الناس العظمى أو لشقائهم. وكل ارتقاء في العلم هو ارتقاءٌ4 في المدينة، ويعاون على سعادة البشر".
إلى أن يقول:
"قضى العلم الحديث على كثير من خرافات كان الناس في العصر السالف يعدونها حقائق ثابتة، لا تقبل الرّدّ والنقض.. كان الناس يعتقدون أن القمر يخسف بفعل حوت يهُّم بأكله، وإنهم إذا ضربوا له بما يهيجه، يفلت من أنياب الحوت.. وإن الأرض واقفة على قرن ثور، وأنها ثابتة لا تدور.. وأن الطواعين والأوبئة من فعل الجن. ولا يعتقدون بالعدوى، ولا يعترفون بوجود الجراثيم، وكانوا يتطيرون بالأيام والأناسي والحيوان والطير، ويتطببون بالأدعية والتعاويذ، ويحبون الطلاسم والرق، ويؤمنون بالمغيّبات والكرامات، ويأنسون بالخرافات والخزعبلات".
وينتقل حضرته إلى القول:
"وإذا جئنا نوازن بين حالنا اليوم، وحالنا في أواخر القرن الماضي، من حيث الاجتماع والتنظيم، والبعد ما أمكن من التخريف والاعتقاد بالمجهولات، نشهد مغتبطين أننا خطونا خطوات واسعة في خمسين سنة، ما خطتها أكبر الأمم الحديثة تمدناً، في مثل هذه الحقبة. وإنّا لنرى ابن الثامنة عشرة اليوم، الذي درس الدروس الثانوية، أرقى بعقله ومعرفته، من معظم من يروي التاريخ إخبارهم، ويشير إلى أنهم من العظماء والفضلاء".
وينتقل بالحديث إلى القول:
"من علائم المدنية ما نشهده من مراعاة الجمهور للنساء في الطرق والسكك الحديدية والترام والمقاهي والمطاعم.. وأنهن كنّ منذ نحو مئة سنة، موضع سخرية وامتهان، وهذا ولا شك، من آثار استمتاع النساء بحقوقهن في هذا العصر وتبدل عظيم في نظر القوم إليهن"...
"ولك أن تعدّ في الممدنين كل من لا يؤذي جاره ولا مؤاكله ولا رفيقه ولا المارّة، مهما كانت درجاتهم في المجتمع، ولا يعبث بقانون المجتمعات، وكل من يعرف أين تنتهي حريته الشخصية وتبدأ حرية غيره. فمن يلزم التؤدة والوقار في الجوامع والبيع ودور التمثيل والموسيقى والأندية والمنتزهات، ويظهر بمظهر المعتدل في شعوره وحركاته وسمته، ونظافة ثيابه وأطرافه، ويتحرّج من إيذاء الغير بحركة أو قذارة، يعد من الممدنين، وكذلك كل من لا يحدوه حب الفضول على البحث في خصوصيات جاره ومُواطنه ومُساكنه، إلا إذا كان من وراء ذلك فائدة للمجتمع.
وقد رد الغربيون عوامل التمدن إلى ثمانية أبواب كما ردّها العلامة "وايل دوران" المؤرخ الأمريكي.
فالأولى من هذه العوامل: العمل، من زراعة وصناعة وتجارة. والثاني: تأسيس حكومة منظمة تضمن حياة الأسرة والجماعة وسن القوانين وحماية الحياة. والثالث: الأخلاق والفضائل. والرابع: الدين من حيث هو عامل في المدنية يستخدم الاعتقاد بما وراء الطبيعة لتسكين الألم وتربية الخُلق وحفظ النظام ومداواة الأوهام الاجتماعية. والخامس: العلم، ويراد به النظر الصحيح إلى الأشياء وصحة الملاحظة والعمل على جمع المعلومات التي تتكون منها على طول الزمن، معارف تؤثر في مصير المرء وتنفع في حدّ سلطانه على العالم. والسادس: عامل الفلسفة، التي هي من وضع الإنسان للوقوف على بعض أمور من هذا النظر الإجمالي إلى العالم، والوصول إلى حقائق الأشياء، ومعرفة الحق والجمال والفضيلة والعدل المنبعثة من كبار الرجال والحكومات الصالحة. والسابع: الآداب، وبها تنشر اللغة، وتربى الناشئة ويرتقي الشعر والتمثيل، وينقذ تراث الأجداد من العفاء.
والثامن: وهو الأخير، الفن، والمراد به تزيين الحياة بالألوان والألحان والأشغال".
" نظرة في مستقبل العرب"
أذيع الحديث في شهر رمضان المبارك سنة 1360 ه وبعد مقدمة وجيزة لا تتعدى الأسطر يقول المحدث متسائلاً:
"وماذا عساي أن أقول في مستقبل العرب، وفيما هم صائرون إليه وها نحن نعيش في زمن تنهار فيه الدول والعروش، وتتفكك أجهزة الحكم والسيادة تفكك الآلات التي تطرح في معارض الأخذ والعطاء، فيصبح مصير المدنية والأمم والشعوب، في ميزان القضاء والقدر، عرضة لشتى المفاجآت. ..وإذا أردنا مع هذا كله، أن نتبيّن الطرق المؤدية بالبلاد العربية إلى مستقبل جدير بذكريات الأمس وأماني اليوم، وأن نتلمس الاتجاهات المستقيمة والوسائل الراجحة، فلابد من نظرة إجمالية إلى الهيكل العربي، ومن عرض موجز لمواضع الضعف فيه، ومواضع القوة".
" وإذا أجلنا النظر في حالة العرب الاجتماعية ونزعاتهم السياسية، وما يتصل بها من أهداف ووسائل، ننتهي إلى بعض الحقائق. نجد أن لروح الفرد أثراً في حياته الفردية والحياة الأهلية، كما في الحياة الاجتماعية والسياسية، تختلف أشكاله ومفاعيله، باختلاف طبائع الشعوب ودرجات رقيها وتمدنها. فقد ينحصر روح التفرّد هذا بالاستقلال الشخصي في التفكير وفي العمل، وقد يؤدي فيما سوى ذلك، إلى تضاعف الأنانية، وقلة احترام السلطات والنظم القائمة، وعدم التقيد بشريعة التضامن الاجتماعي".
ويتطرق بعد ذلك إلى أن الشعب العربي يضرب المثل الأعلى في التضامن والتضحية شريطة أن تتولى أمره قيادة أمينة مخلصة ثم يعرج على القول:
"إن الفكرة العربية التي اتخذت شكلاً ثابتاً في مستهل القرن العشرين، لا تساندها الآن قوة عسكرية، ولا حركة اقتصادية.. فلا بد لها إذاً من الاعتماد على العلم والإخلاص مقترنين، لأن العلم بلا إخلاص، أداة تفرقة وإفساد، والإخلاص بلا علم، تنحصر نتائجه في نطاق ضيق لا يحقق الآمال الواسعة.. ولا بد إذاً من الاعتماد على شعب مؤمن، واثق بمن يقوده... ومن قيادة موحدة.. ومن فئةٍ مهيأةٍ بالعلم والتجربة للاستفادة من كل انقلاب أو ظرف ملائم".
وبعد أن يتحدث عن الاستفادة من الانقلابات يقول:
"إن الفكرة العربية، هي فكرة حق وعدل وإخاء وسلام، لا تستمد قوتها ومناعتها، إلا من موارد فكرية، ومصادر قومية، وينابيع روحية من لغتها الجزلة الساحرة، ومن ثقافتها التي سَلمتْ على مرّ الدهور، ومن تقاليدها، القاصية والدانية، وأماني أبنائها المتماثلة في الماضيين القريب والبعيد.. تستمد قوتها من شرائعها ودساتيرها الروحية والاجتماعية، ومن حيوية هذا الشعب الكريم، الذي يحافظ على كل ذلك، ويحمل كل ذلك، وديعة مقدسة في عنقه، في كل بلد تجلّله رايات العروبة".
وفي ختام حديثه القيّم يقول:
"إن قضية العرب هي قضية الحق والعدل، وهي وإن كانت عزلاء من كل سلاح ماديّ، غير أنها على الرغم من ذلك، لا بدّ لها أن تنتصر بانتصار الحق والعدل".
"إن الشرائع التي تؤدي بالمجتمع إلى الانحطاط والانهيار، أو إلى الرقي والتكامل، لا تختلف أساساً في القرن العشرين، عما كانت عليه في القرون الوسطى وما تقدّمها. فالعصبية الكلية، لا تزال مبدأ الإنشاء والتنظيم في حياة الأمة، كما أن العصبية الجزئية، لا تزال سبباً من أسباب الفوضى. فبالأولى الاتحاد والتضامن،وبالأخرى الانفراد والأنانية. . وهذا داء الشرق من أقدم عهوده، وهو ما يجعل من أبناء الأمة الواحدة أوزاعاً متفرقة، يكيد بعضها لبعض... والله المسؤول أن يحفظ هذا الشرق من داء الانقسام هذا ويجعل هدفه، الاتحاد والتضامن في سبيل الفكرة العربية المقدسة".
"ليل الانحطاط وفجر النهضة"
أذيع في شهر رمضان المبارك 1360 هجرية
"هي صفحة مؤلمة أفتحها الآن، رافق فيها حظ الأدب العربي، حظّ بني العباس، إذ ما كادت شمس العباسيين تميل نحو الغروب، حتى بدأ الانحطاط يدبّ إلى الأدب. فلما كان منتصف القرن السابع للهجرة تدفقت على الممالك الإسلامية عصابات المغول، سلالة جنكيز خان، واحتلّت بغداد جيوش هولاكو، وتوالت المصائب والنكبات على العراق والشام، وأوغل الفاتحون في البلاد قتلاً وإحراقاً وتخريباً، ونشروا الذعر والخوف في النفوس. فما هو أن تقلص ظل هولاكو حتى زحف تيمورلنك على حلب وحمص ودمشق وبعلبك فاجتاحها، دائساً في طريقه كل شيء، وقد أحرق الجوامع، وسبى النساء، وداس الأولاد بسنابك خيله وأعمل النار في المكاتب والمدارس وخزائن الأدب والعلم، وألقى الرعب والهول في جميع القلوب، ولا سيما في نفوس الأدباء والعلماء، فخمدت القرائح، وتحطمت الأقلام، وتوارى الكتّاب والفلاسفة والشعراء".
وبعد هذه المقدمة يقول المحدث:
"والواقع أيها السادة، إن هذه العصور المظلمة من تاريخنا، هي أشد الأزمان هولاً، وأكثرها ذلاً وإيلاماً في النفوس، ولقد طالت مدى خمسة قرون، حتى خيل إلى الناس، أن هذا الأدب (العربي) أصبح جثة بلا روح، وإنه لن يبعث من جديد . ولكن شاء ربك أن يبعث هذا الأدب من رقدته ليعود اللحن العربي مرتفعاَ في جوقة الألحان العالمية فهيأ له قوماَ، استمدوا من الماضي كل نا فيه من قوة وحياة، وذخر وأمجاد ونظروا إلى الحاضر فوجّهوه بعزائم قدّت من الصخر، وأخذوا من مدنيات الغرب، بعض ما أخذه منا باللأمس، فكانت النهضة، وكان البعث. ".
ثم يتحدث الأستاذ عن فضل نابوليون الذي إذا دخل بلداً استصحب في حاشيته، رجال العلم والأدب والتاريخ وعلماء الآثار. وكان له الفضل في إنشاء أول مطبعة في مصر، ثم أخذ يتحدث عن محمد علي الذي أخذ يبعث البعوث إلى أوروبا وينشئ المدارس، ويشجع العلماء والأدباء، على نحو لم تعرفه الآداب العربية، منذ زمن طويل.
ثم يقول: "ما كاد يتناصف القرن التاسع عشر، حتى أوفد الغرب إلينا رسلاً جدداً، أخذوا بأيدي أبناء الأقطار العربية، وذلك حين أنشئت في بيروت، الجامعتان الكبيرتان، الأميركية واليسوعية. وكان أعجب ما في أمرهما، أنهما كانتا تكملان بعضهما بعضاً، فالجامعة الأميركية كانت تحمل إلى البلدان العربية الثقافية الانكلوسكسونية، والجامعة اليسوعية كانت رسول الثقافة اللاتينية، وكانتا على تزاحمهما تبعثان حركة في الأوساط الفكرية".
ثم يتطرق إلى الحديث عن النثر فيذكر أن أحمد فارس الشدياق، الذي حلّ النثر من وثاقه، وحطم أغلاله كلها، وأطلق القلم من عقاله، وجدّد في الكتابة كل التجديد، وأهمل المحسنات اللفظية التي أغرقت الكتابة في الصناعة وجعلت الكاتب عبداً للألفاظ.
وأما في مصر فيتحدث عن النهضة التي قام بها كل من الإمامين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني فتزحزحت الخواتم عن العقول.
وأما الشعر فيقول:
"وظل الشعر في مصر، بل في العالم العربي كله، جامداً حتى ظهر محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي.
فإذا شعر البارودي شديد الأسر، قوي الديباجة، عامر القوافي، فكان أول شاعر أعاد إلى الشعر روعته ونهض به من كبوته.. وأما أحمد شوقي الشاعر العربي الذي جلى على الأولين والآخرين، والذي قد تمضي أحقاب و أحقاب ، قبل أن يطلع مثله على الأمة العربية، فقد كان ذا شخصية عجيبة، ربما كانت نسيجَ وحْدِها في الأدب العربي.. بدا شوقي، فكان شاعراً يتكيء على القديم ويحتذي البارزين من شعرائه. .كان في بلاط خديوي مصر، كما كان المتنبي في بلاط سيف الدولة، وأبو تمّام في بلاط المتوكل، والأخطل في بلاط عبد الملك بن مروان.. وأعجبه هذا الشبه. فراح يرسل في مولاه قصائد في مدحه، من بحر قصائد المتنبي ورويّها في مدح سيف الدولة، ليثبت للأمة العربية، أن مشعال الشعر، قد تناوله شوقي رأساً من يد المتنبي، ماراً فوق تسعة قرون، ولينسى العرب أن بين هاتين القمتين أي المتنبي وشوقي- وادياً سحيقاً هو وادي عصور الانحطاط.. ولكن شوقي لم ينته حيث انتهى البارودي وجميع شعراء النهضة.. لم يكتف شوقي بأن يكون الجسر الذي يعبر عليه الأدب من ضفة إلى ضفة.. بل عبر هو نفسه إلى شاطئ التجديد.. إذ أنه ما كاد يتحرر من قيود الوظيفة، ويحطم الأغلال الذهبية، التي كان ملوك مصر قد طوقوا بها عنقه، حتى أصبح شاعر الثورة المصرية أولاً، فشاعر العرب ثانياً، فشاعر الشرق أخيراً"، وقد صدق وربّي في قوله:
كان شعري الغناءَ في فرح الشّر ق وكان العزاء في أحزانه
وكانت فلسطين موئلا للثقافة والعلم
9 من الزوار الآن
916820 مشتركو المجلة شكرا