الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > الكفاح المسلح طريق النصر لنضال المؤتمر الوطني الأفريقي
امتد كفاح الممالك الأفريقية ضد "البوير" الهولنديين، وضد المستوطنين البريطانيين البيض على مدار أكثر من 230 عاما؛ حيث دارت حروب متواصلة على الأرض والمواشي، بين السكان الأصليين الأفارقة وبين المستعمرين الهولنديين والبريطانيين. وفي الستينيات من القرن التاسع عشر (1860 وما تلاها)، جلب البريطانيون جيوشا كبيرة مزودة بالخيول والأسلحة الحديثة بهدف فرض سيطرتهم على جنوب أفريقيا؛ وقد أدى ذلك إلى إضعاف قوة الممالك تدريجيا وصولا إلى انكسارها في عام 1900م. ثم تم تشكيل ما عرف باتحاد جنوب أفريقيا في عام 1910، وقام البريطانيون بإسناد السلطة للبوير الهولنديين والمستوطنين البيض البريطانيين؛ ولكن هذا الاتحاد الناشئ لم يعترف سوى بحقوق المستعمرين البيض.
وهكذا؛ كان على الأفارقة السود أن يبحثوا عن سبل للكفاح من أجل الدفاع عن أرضهم وحريتهم؛ ففي عام 1911 وجه "بيكسلي كا إيساكا سيم" (Pixley ka Isaka Seme) نداء إلى جميع الأفارقة دعاهم فيه إلى تناسي خلافات الماضي والى الاتحاد معا في منظمة وطنية واحدة، وقال "نحن شعب واحد، هذه الانقسامات، وهذا التنافس غير المشروع هي سبب كل المصائب التي نعيشها اليوم".
وفي 8 كانون الثاني / يناير 1912؛ اجتمع رؤساء وممثلين عن "الشعب" والمجتمعات الإفريقية، وممثلين عن منظمات كنسية وغيرهم من الشخصيات البارزة في "بلومفونتين" (Bloemfontein)، حيث تم تأسيس المؤتمر الوطني الأفريقي (African National Congress). وتم الإعلان عن أهداف المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) المتمثلة بتوحيد الأفارقة جميعا ليكونوا شعبا واحدا، وبضرورة الدفاع عن حقوقهم وحرياتهم.
وبين عام 1912 وعام 1948؛ فضل المؤتمر الوطني الأفريقي في تعامله مع السلطة العنصرية منهج الحوار، حيث آمنت قيادة المؤتمر بإنسانية البيض في جنوب أفريقيا، وأنه يمكن الوصول إلى تسوية عادلة عن طريق الإقناع؛ ولكن هذه القناعات تم دحضها من قبل النظام العنصري الذي واصل سياسة الاقتلاع ضد الأفارقة السود ونزع ملكياتهم. ومع ذلك، لم تتخل قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي عن السعي لإيجاد حلول من خلال الحوار. ولكن مع إضافة واستكمال استراتيجيات أخرى؛ هدفها الضغط على النظام العنصري من أجل الجلوس إلى طاولة المفاوضات؛ وهكذا شكل منهج الحوار الركيزة الأولى في مسيرة الكفاح التحرري للمؤتمر الوطني الأفريقي.
مع زيادة الهجمات على حقوق السود، وبعد الإعلان عن الفصل العنصري كسياسة رسمية للدولة؛ بدأت رابطة شباب المؤتمر الوطني الأفريقي، التي كان من بين قادتها نلسون مانديلا، والتر سيسلو واوليفر تامبو، تطالب من داخل المؤتمر بتغييرات في الإستراتيجية، وارتأوا أن هناك حاجة للمزيد من المقاومة المسلحة من جانب المؤتمر الوطني الأفريقي. وقامت رابطة الشباب بوضع برنامج للعمل يدعو للإضراب والمقاطعة وتحدي السلطات العنصرية. وتم تبنى هذا البرنامج من قبل المؤتمر عام 1949، وكان ذلك في العام الذي تلا استلام الحكم من قبل الحزب الوطني.
كانت "حملة التحدي" إولى الحملات الرئيسية التي تم تنظيمها لمقاومة نظام الأبارتهايد. وخلال حملة التحدي هذه، ظهرت حركة مقاومة جماهيرية ضد نظام الأبارتهايد.
ولما كان نظام الفصل العنصري يهدف إلى تكريس الفصل التام بين المجموعات العرقية المختلفة من خلال القوانين، بما فيها فرض قوانين وقيود صارمة على الحركة والتنقل، وكذلك الترحيل الإجباري؛ فقد عمدت تلك الحملة إلى كسر قوانين وأنظمة الفصل العنصري؛ حيت سار "غير الأوروبيين" عبر المداخل المخصصة لـ"الأوروبيين فقط" وطلبوا الخدمات في مكاتب البريد المخصصة لـ"البيض فقط". وكسر الأفارقة قوانين التنقل العنصرية، كما قام الهنود و"الملونون" والـ"متطوعون" البيض بدخول البلدات الأفريقية بدون الحصول على تصاريح. وقد شجع نجاح حملة التحدي هذه على المزيد من الحملات ضد قوانين الفصل العنصري.
حاولت حكومة الفصل العنصري وقف حملة التحدي من خلال العمل على إدانة قادة الحملة، وعبر تمرير قوانين جديدة تهدف إلى تخويف الجمهور ومنعه من العصيان. لكن الحملة حققت بالفعل مكاسب ضخمة؛ فقد وثقت صلات التعاون بين المؤتمر الوطني الأفريقي والمؤتمر الأفريقي الهندي، وزادت عضويتهما مما أدى إلى قيام وتشكيل مؤسسات جديدة. حيث عملت هذه المؤسسات والمنظمات معا من أجل تنظيم مؤتمر لكل الناس في جنوب أفريقيا؛ والذي عبر عن مطالب الشعب، وحدد المؤتمرون أي نوع من الدولة يريدون لجنوب أفريقيا أن تكون. وفي مؤتمر الشعب الذي انعقد في "كيب تاون" في 26/حزيران/1955؛ تم تبنى ميثاق الحرية الذي حدد مطالب وأهداف الشعب.
في عام 1960 تم إطلاق حملات ضد قانون التنقل المعروف بقانون المرور، (pass law)؛ ففي 21 آذار طلب من الناس ترك تصاريحهم في البيوت والتجمع في مراكز الشرطة حتى لو ادى الامر الى اعتقالهم،. بادرت الشرطة بفتح النار على الحشود السلمية وغير المسلحة في "شاريفيل"، فقتلت 69 شخصا وجرحت 186 آخرين. هذا الحدث وضع نهاية لطريقة الاحتجاج السلمي التي استمرت لعدة عقود من الزمن؛ حيث تم حظر المؤتمر الوطني الأفريقي وحزب المؤتمر الأفريقي (PAC)، كما تم اعتقال الآلاف من النشطاء.
في عام 1960، تم الإعلان عن تأسس الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي (أوفخنتو ويسيزوي)، وكان هدفه الرئيس مهاجمة رموز الاضطهاد، وليس مهاجمة الناس المدنيين. ومنذ عام 1960؛ أي بعد حوالي 50 عاما على تأسيس المؤتمر الوطني الأفريقي، وحتى اندماج الجناح المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي في قوات الدفاع الوطني لجنوب أفريقيا عام 1994؛ كانت المقاومة المسلحة الركيزة الثانية للكفاح التحرري للمؤتمر الوطني الأفريقي.
ساهمت كلتا الركيزتين: الحوار والمقاومة المسلحة، في محاصرة نظام الفصل العنصري؛ ولكن الركيزة الأكثر أهمية كانت حركة الجماهير الواسعة في داخل البلاد، حيث كانت حركة الجماهير الركيزة الثالثة التي عبرت عن نفسها في الحملات الشعبية التي قادها المؤتمر الوطني الأفريقي؛ مثل: "حملة التحدي" ضد القوانين غير العادلة للخمسينيات. وقد افادت هذه الحملات من التحليل الذي يؤكد أن جماهير المضطهدين أنفسهم ستحدد مسيرة ثورتهم. وكانت ذروة الحركة الجماهيرية هي تشكيل الحركة الجماهيرية الديمقراطية (MDM .( وقد جاء تأسيس الحركة الجماهيرية الديمقراطية ليملأ الفراغ الناشئ عن حظر النشاطات والتشكيلات السياسية، بما فيها حظر نشاطات المؤتمر الوطني الأفريقي. وكان أهم ما حققته الحركة هو تجميع وتوحيد جميع التشكيلات المناهضة للأبارتهايد؛ بما فيها نقابات عمالية واتحادات تجارية، منظمات طلابية، منظمات نسوية، منظمات غير حكومية، مكونات مجتمع مدني، تشكيلات أكاديمية، وتشكيلات متعاطفة من قطاع الأعمال...الخ. وقد عملت جميع هذه التشكيلات تحت مظلة الجبهة الديمقراطية الموحدة (UDF). ثم تواصلت الحملات المنظمة ضد نظام الأبارتهايد، وكان من بينها "حملة المليون توقيع" التي تدين الفصل العنصري في عام 1984؛ وبعد عامين من تلك الحملة جرت أكبر الخطوات في تاريخ جنوب أفريقيا، خطوات وأنشطة أخرى تم اتخاذها مثل: مقاطعة الإيجار في"سويتو"، والإضراب عن الطعام لمدة يومين احتجاجا على استثناء المواطنين السود من المشاركة في الانتخابات البرلمانية.
مع تواصل النداءات لحملات الدعم والمساندة الأممية من بقية العالم، ومع توسعها، وزيادة زخمها، تشكلت الركيزة الرابعة للكفاح، وأصبحت حقيقة واقعة؛ وكان قد تم بالفعل في العام 1959 أن الرئيس البيرت لوثلي، ومن ثم رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، قد وجه نداء إلى الشعب البريطاني طالبه بمقاطعة النظام في جنوب أفريقيا؛ حيث قال فيه:
"... لقد كان رد السكان غير البيض في جنوب أفريقيا على الهجمات ضدهم بان قدموا العرائض وأرسلوا الوفود للسلطات؛ وعندما لم تنجح تلك الطريقة تحولوا إلى المقاومة السلبية والمقاطعة".[5]
ومنذ تلك اللحظة فصاعدا؛ أرسل المؤتمر الوطني الأفريقي الوفود لإطلاع المجتمع الدولي على الحاجة الضرورية لعزل نظام الفصل العنصري. وفي عام 1962 تم توجيه نداء للعمل في الولايات المتحدة من قبل الرئيس لوثلي ومارتن لوثر كنج؛ وقد أصبح النداء من اجل ضغط دولي عبر المقاطعة، وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات ركيزة رابعة وهامة في كفاح المؤتمر الوطني الأفريقي من أجل الديمقراطية.
لقد تم تفعيل الضغط الدولي تدريجيا ومن خلال عدم تفويت الفرص؛ ففي عام 1969 قامت إدارة القروض الائتمانية لبنوك أمريكية بإلغاء قروض بقيمة 40 مليون دولار أمريكي، بعد قيام مؤسسات وأفراد بسحب حوالي 23 مليون دولار من ودائعهم في تلك البنوك. وفي عام 1973 تم إلغاء قروض بقيمة حوالي 70 مليون دولار من اتحاد /مجموعة من البنوك الأمريكية والأوروبية. وقد استمر هذا الاتجاه حتى أعلنت جنوب أفريقيا دولة مجمدة الديون في عام 1985 بسبب هروب رؤوس الأموال.
إن نجاح الدعوات من اجل تحقيق العزلة الدولية كان يعود جزئيا إلى الدور الذي لعبه الأفارقة في المنفى؛ ومن خلال العمل الدءوب من أجل رفع مستوى الوعي لدى المجتمع الدولي بالأعمال الوحشية الذي يرتكبها نظام الفصل العنصري.
لقد حددت الرؤية في ميثاق الحرية الذي عبر بوضوح عن رؤيته لمستقبل شعب جنوب أفريقيا؛ حيث عرف الميثاق هذه الرؤية كما يلي:
نحن شعب جنوب أفريقيا، نعلن للجميع في بلادنا، ونريد للعالم بأسره أن يعلم؛ أن جنوب أفريقيا هي ملك لكل من يعيش فيها، السود والبيض، وأية حكومة لن تستطيع ادعاء ممارسة السلطة دون الاستناد إلى إرادة الشعب كله؛ ولما كان أبناء شعبنا قد حرموا من حقهم الطبيعي في الأرض، وحرموا من الحرية والسلام من قبل حكومة وجدت على أساس الظلم والإجحاف؛ ولهذا لن تكون بلدنا مزدهرة وحرة حتى يعيش شعبنا بأخوة فيما بينهم، ويتمتعون بحقوق متساوية وفرص متكافئة ؛ وهذا لن يكون إلا في دولة ديمقراطية مبنية على إرادة الشعب بكامله؛ دولة تستطيع تأمين الحقوق الطبيعية للناس بدون تمييز بسبب العرق أو اللون، الجنس أو المعتقد. ولهذا؛ نحن شعب جنوب أفريقيا، البيض والسود، وعلى قدم المساواة مع كل إخوتنا في الوطن، نعلن تبني ميثاق الحرية هذا، ونحن نتعهد بالكفاح موحدين معا؛ ولن تعوزنا الشجاعة ولا القوة حتى ننتصر وتتحقق التغييرات الديمقراطية على أرض الواقع.
وفي عام 1958 خطب البرت لوثلي، رئيس المؤتمر الوطني الأفريقي، وكان عنوان خطابه: "رؤيتنا هي مجتمع ديمقراطي". حيث قال:
التساؤل هو: هل هذه الرؤية لمجتمع ديمقراطي في جنوب أفريقيا هي رؤية قابلة للتحقيق أم أنها مجرد سراب؟ أقول، إنها قابلة للتحقيق، فمن طبيعة الإنسان أن يتوق ويكافح من أجل الحرية، "جرثومة" الحرية موجودة في داخل كل فرد، في داخل كل شخص ينتمي إلى الإنسانية. والواقع؛ أن تاريخ البشرية هو تاريخ العمل والنضال من أجل الحرية، وأن ذروة إنجازات البشرية كانت الحرية وليس العبودية، وكل إنسان يناضل من أجل الوصول لتلك الذروة".[6] وقد كان على حق.
6 من الزوار الآن
917329 مشتركو المجلة شكرا