الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > سير ومتابعات > المهدي بن بركة: حدود خط النضال الوطني البرجوازي2-2
لم يكن دعم بن بركة للملكية دون مقابل، بل مقايضة/ صفقة سياسية، تليق برأسمالي حقيقي، كما عبر هو ذاته: "لكننا فعلنا كل ذلك على شرط كان واضحا في أذهان الجميع هو أن ننشئ لأنفسنا ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزا لاستمرارية المؤسسات وتمارس فيها السلطة حكومة مسؤولة" .
1- حلم قديم مجهض
الملكية الدستورية حلم قديم للحركة الوطنية يعود إلى أيام توقيع "عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944"، حين توقع قادة حزب الاستقلال من السلطان أن يكون عاهلا دستوريا ذا امتيازات محدودة.
أثناء عرض مشروع وثيقة المطالبة بالاستقلال على محمد بن يوسف صرح بأنه من مؤيدي دمقرطة النظام الملكي، إلا أنه كان يرى ضرورة الحذر في استخدام كلمة "الملكية الدستورية" في أي نص علني، لأنها تحمل مفهوما ثوريا من الصعب أن تقبل به بعض شخصيات المخزن. وانطلاقا من هذا الوعد بمساندة سرية من السلطان، أعلن قادة الحزب الوطني في 11 يناير سنة 1944 تأسيس حزب الاستقلال. وقدموا وثيقة تطالب باستقلال المغرب في حدوده الترابية، وتحت رعاية السلطان محمد بن يوسف، وتلبية لرغبته لم يتحدث البيان عن الملكية الدستورية.
إنها ثقة عمياء في سلطان يعد بدعم سري لمطالب الحركة الوطنية في دمقرطة النظام الملكي، لكنه يطلب ألا يكون ذلك علنا. وهل يمكن لملك معزول ومحروم من أي سلطة أن يقوم بغير ذلك، أي طمأنة الحركة الوطنية في انتظار ميزان قوى أفضل؟
2- تكريس السلطة التشريعية في يد محمد الخامس: حكومة بدون اختصاصات
ركز "الاستقلال" السلطة كاملة في يد الملكية دون سواها. أقر بذلك عبد الواحد الراضي: "جاء الإعلان عن الاستقلال في 2 مارس 1956مشخصا في نقل جميع السلط من نظام الحماية إلى السلطان محمد بن يوسف بما فيها السلطة التشريعية، وذلك بمباركة جميع الأطراف الوطنية، وبالخصوص ارتياح حزب الاستقلال ذاته لأن محمد بن يوسف كان الوحيد الذي يتمتع بثقة الجميع" .
أثناء اعتماد حزب الاستقلال على محمد الخامس لمواجهة أذناب الاستعمار وحلفائه وطد سلطة الملك الشخصية، بقبوله المشاركة في حكومة منافية لمطالبه السابقة: حكومة منسجمة بقيادته.
قررت لجنة الحزب التنفيذية المجتمعة بمدريد منتصف نوفمبر 1955 المشاركة في أول حكومة ائتلاف برئاسة مبارك البكاي شرط "وضع جميع السلطات في يد محمد الخامس لقطع الطريق أمام استعمال الفرنسيين لأصدقائهم في الحكومة الائتلافية" . هذا بدل السعي إلى حكومة منتخبة ديمقراطيا.
عند انعقاد مؤتمر حزب الاستقلال الاستثنائي، الذي جرى تحضيره تحت شعار "حكومة منسجمة بقيادة الحزب". استعمل بن بركة وبوعبيد كل بلاغتهما قصد إقناع أعضاء الحزب بالمشاركة في حكومة البكاي الأولى. صرح بوعبيد: "قبلنا برئاسة البكاي للحكومة لموقفه النبيل في غشت 1953، وأضاف و"ما أكثر مسيري الحزب وأعضائه الذين لا يقبلون ذلك إلا على مضض" .
لم ينل قرار المشاركة رضى قياديين كبار في الحزب: "كان هناك داخل اللجنة التنفيذية ذاتها من لم يكن راضيا، أو على الأقل لم يكن متحمسا لما سيعرض على المؤتمر. فعلال الفاسي فضل البقاء في تطوان، ومحمد اليزيدي.. غضبان في طنجة منذ أن أخبر أنهم قبلوا المشاركة في حكومة لا يرأسها أحد قادة الحزب" .
إنها مفارقة تاريخية أن يدافع عن المشاركة في حكومة بلافريج سنة 1958 نفس من سيعارضون المشاركة في حكومة البكاي الأولى سنة 1955 بمبرر افتقادها للصلاحيات. بينما الذين سيعارضون حكومة بلافريج هم من عمل على إقناع الحزب بالمشاركة في حكومة بدون سلطات حقيقية.
3- لا مجلس تأسيسي.. بل دستور ممنوح
وعد محمد الخامس بعد عودته من المنفى بتشكيل مجلس تأسيسي يضع دستورا ينشئ ملكية دستورية، لكنه فضل طريقة أخرى: تشكيل المجلس الاستشاري الوطني معينا على رأسه المهدي بن بركة ذاته. وظل السؤال مطروحا: هل سينبثق النظام الجديد من ميثاق يمنحه الملك، أم من مجلس تأسيسي كما تمنى وسعى إليه بن بركة؟
بدلا من مجلس تأسيسي عين محمد الخامس مجلس الدستور مشكل من أعضاء الأحزاب والشخصيات الاقتصادية والثقافية بالبلد، قصد إعداد دستور مقرر في يونيو 1962، مشترطا أن يحظى بمصادقة الملك قبل أن يعرض على الاستفتاء الشعبي.
اقتنع الملك بما ينطوي عليه إنشاء مثل هذا المجلس من خطر، فهو سينتخب من قبل الشعب، وستحركه من الداخل قوى اليسار، الأمر الذي قد يعرض النظام نفسه لما لا تحمد عقباه.
اعترض الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ووجه انتقادات لهذه المنهجية المتبعة في وضع دستور وصفه بالممنوح. ورفض قادته المشاركة في هذه الهيئة، ومع ذلك، افتتح الملك رسميا أعمال المجلس الدستوري في 7 نوفمبر، وعقد اجتماعا في 18 يناير. ستنهي وفاة محمد الخامس بضعة أسابيع بعد ذلك، حياة هذه المؤسسة التي لن يستدعيها الحسن الثاني أبدا.
6- سوابق أرعبت الملكية
عزز انتخاب الجمعية التأسيسية في تونس وإقالة الباي وتأسيس جمهورية في يوليو 1957، تخوفات الملكية من أي طريقة يقر بها الدستور خارج منهجية المنح، رغم وعد الحركة الوطنية بما فيها بن بركة برزانة الجمعية التأسيسية المغربية، أي أنها ستحافظ على النظام الملكي.
تخوف القصر من هذه السابقة رغم استبعاد بن بركة احتمال حدوثها بالمغرب، ففي "يناير 1958 خاطب رئيس المجلس الاستشاري المغربي [بن بركة] المجلس التأسيسي التونسي بقوله: "إن المؤسسات تستمد قيمتها من الأشخاص الساهرين عليها" في إشارة إلى أن لا فرق بين مؤسسة الجمهورية التي اختارها التونسيون كشأن داخلي ومؤسسة الملكية التي يتعلق بها المغاربة.." .
خلق "خلع الباي بتونس سنة 1957... هزة بالمغرب أكثر من تونس، واعتبره محمد الخامس قفزة في مغامرة مجهولة، واستدعى سفيره من تونس" .
حرص محمد الخامس على رفض التنازل عن أي سلطة أو صلاحية مخافة إعادة السناريو التونسي؛ حيث لم يعد الباي بعد منح تونس استقلالها الداخلي يقوم بأي دور ذي شأن، مما سهل مأمورية بورقيبة الذي اكتفى بحث نواب البرلمان على إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وانتخابه رئيسا.
ظل محمد الخامس والحسن الثاني متوجسين من أي منهجية صياغة دستور قائمة على انتخاب مجلس تأسيسي. لم يرد الحسن الثاني أي تسوية، حتى الجمعية التأسيسية الرزينة، التي وعد بن بركة بتعقلها، رأى فيها مغالاة. سيكون الدستور منحة ملكية أو لا يكون.
5- قمع المطالبين بوعد محمد الخامس
رغم أن "الملكية الدستورية" كانت وعدا من محمد الخامس ذاته، لحق القمع من كان ينادي بها أو يتجرأ على التلميح إليها. عندما ذكرت جريدة حزب الاستقلال الصادرة بالفرنسية نصا لجمال الدين الأفغاني يقول فيه: "يمكن للشعب أن يعيش من دون ملك، لكن الملك لا يمكنه أن يعيش من دون شعب"، حكم على إدريس الفلاح رئيس تحرير الجريدة، بعشرة أشهر سجنا، وصدر الأمر بتوقيف الجريدة لمدة ستة أشهر.
لقي عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري المصير نفسه في شتاء 1959- 1960، بعد نشر مقالات في جريدة التحرير عن ضيق مسؤوليات الحكومة وعجزها أمام الأجهزة الإدارية.
جدير بالذكر أن اعتقال اليوسفي والبصري ومنع جريدة التحرير جرى واليسار في "الحكومة" (عبد الله إبراهيم)، حكومة من المفترض أنها حكومة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. علق جيل بيرو: "فرض عليها [أي حكومة عبد الله إيراهيم] عار توقيف أصدقائها السياسيين" .
يعري هذا ادعاء بن بركة المشاركة الشعبية في الحكم، وهو ما سيفطن له بعد فوات الأوان، قائلا: "لم تكن قد مرت سوى ثلاثة أشهر على تأسيس حزبنا، ومع ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه رفاقنا على رأس أكثر من نصف الوزارات، تحركت الآلة القمعية الاستعمارية الجديدة ضدنا لحرمان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من قادته وإبعاد قادة مهمين مركزيا وجهويا عن الساحة السياسية، إما بمتابعات قضائية بتهمة ارتكاب جرائم وهمية تخل بالاحترام الواجب للملك، أو باختلاق مؤامرات مزعومة..." .
انقضى جزء من حياة بن بركة السياسية بعد الاستقلال في الركض وراء وهم الحصول على ملكية دستورية بالتوافق مع الملك محمد الخامس، وجاء إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم ليزيل غشاوة "المشاركة الشعبية" في الحكم.
6- حركة وطنية ويسار مخدوعان
خـُدع العديد- منهم بن بركة- بسلوك محمد الخامس، وتوهموا أنه كان يسعى للتوافق مع الحركة الوطنية، لولا معارضة الأمير الحسن. يعد هذا تفسيرا مثاليا لفترة مهمة من تاريخ المغرب، حيث تعزى التطورات التي أرست ملكية الحسن الثاني التنفيذية إلى اختلاف شخصيتي محمد الخامس المصالحة والحسن الثاني الساعي إلى الانفراد بالحكم. ولم يفلت من هذا حتى مراقب نبيه لتاريخ المغرب مثل موريس بوتان الذي كتب: "لم يكن محمد الخامس بعيدا إذن عن القبول بالحل الذي ينادي به المهدي بن بركة ورفاقه، بيد أن مولاي الحسن كان له رأي آخر، فالملك بالنسبة إليه يحكم البلاد على هواه، وهنا أصل المواجهة التي ستحتدم فيما بعد بين الرجلين" .
استمر بن بركة وورثته يؤمنون بأن محمد الخامس كان ضحية ضغوط ابنه وحلفائه الذين الساعين إلى فصل الحركة الوطنية عنه. هذا ما جدد التذكير به عبد الرحيم برادة بقول: "كان بن بركة يعتبر الأمير الحسن العقبة الرئيسية أمام التفاهم مع محمد الخامس. بنظره كان الملك، على نحو ما، سجين ابنه" .
لكن هل كان لمحمد الخامس، الذي تسلم السلطة من فرنسا دون أن يملك بعد أجهزة دولة يستطيع الاعتماد عليها في مواجهة حزب وطني جماهيري، إلا أن يقدم تنازلات كلامية ووعودا معسولة في انتظار امتلاك وسائل القوة المادية؟ فعلى مدى سنوات حكم محمد الخامس كما كتب جيل بيرو: "لم يفرض العرش أي أمر، ولم يخلق علانية أي أزمة. لم يسع الملك مطلقا إلى اختبار القوة: بل إنه يهرب من مثل هذا الاختبار. إنه يستخدم فعالية الخصم لزعزعته" .
7- احتكار أجهزة السلطة الفعلية
قال فرديناند لاسال؛ "ليس الملك في حاجة لكتابة دستور جديد، والملكية عملية لأقصى حد حتى تبدد وقتا في ذلك. في يد الملك أداة القوة الفعلية، الجيش الدائم الذى يشكل الدستور الحقيقي للمجتمع" .
أنشأ القصر القوات المسلحة الملكية في 15 ماي 1956، وحرص محمد الخامس على احتكار الإشراف عليها. أسند قيادتها إلى ابنه الذي اختار أقرب مساعديه من الضباط المغاربة الذين اشتغلوا في الجيش الاستعماري ولا يملكون أي ماض وطني. أبعد محمد الخامس ضباط جيش التحرير، رغم أن هذا الأخير كان يشكل ثلث القوات المسلحة الملكية.
حرص محمد الخامس على احتكار أجهزة القوة، ولم يسمح أبدا لمبدأ التوافق العزيز على حزب الاستقلال ويساره أن يمتد إلى هذا الحقل. ويعود أحد الأسباب الجوهرية لإقالة حكومة عبد الله إبراهيم إلى تجرئها على جهاز البوليس، فما أن اتخذت قرار الاستغناء عن البوليس الفرنسي الذي كان ما يزال يعمل داخل الأمن الوطني المغربي كمساعدة فنية، قامت معارضة شديدة لهذا القرار انتهت بإقالة الحكومة.
علقت جريدة "الرأي العام" (لسان الاتحاد الوطني بعد منع "التحرير") في عددها 19 ماي 1960 بمقال عن هذه الأزمة؛ "من سيجلو.. هل البوليس الفرنسي والقوات الفرنسية.. أم حكومة عبد الله إبراهيم؟"... وفي عدد الغد صدرت تحمل العنوان التالي: "جلالة الملك يقرر إنهاء حكومة الرئيس عبد الله إبراهيم" .
5- وثوقية رغم الخداع
رغم كل هذه المناورات كان بن بركة يولي محمد الخامس ثقته، ويرى أنه سيفي بوعده القاضي بإنشاء المجلس التأسيسي. قال بن بركة: "إن المجلس التأسيسي الذي أعلن جلالة الملك عن إنشائه سيمكن من إشراكه [أي الشعب] في المستوى الوطني (...) ولحسن حظ المغرب أنه يتوفر على امتياز مهم يضمن له الاستمرارية والاستقرار يتمثل في شخص جلالة الملك محمد الخامس".
رغم هذه الثقة، أو بسببها بالضبط، سيمنع بن بركة في شهر يوليوز 1959 من دخول مكتبه بالمجلس الاستشاري، "بل إن مكتبه خضع لتفتيش دقيق على يد أفراد الشرطة الذين منعوه من الدخول، وسيطلب منه أيضا تسليم مفاتيح المكتب، في تصرف يعد إهانة شخصية لبن بركة... هكذا أقبر المجلس الاستشاري الذي سيصدر محمد الخامس قرارا رسميا بحله" .
كان بن بركة مقتنعا بمشاركة الحكم مع ملكية تعد أن تجعل نفسها دستورية. لكن فاجأه إعفاء محمد الخامس حكومة عبد الله إبراهيم بعد أن وضعها في مأزق حكومة لا تملك وسائل الحكم، إذ كان محمد الخامس يرفض التوقيع على مشاريع الإصلاح التي يقترحها عبد الرحيم بوعبيد. اعتبر بن بركة هذا الإعفاء انقلابا حقيقيا انتقلت فيه السلطة إلى يد القوات المعادية للشعب.
اعتقد بن بركة أن تنازلات محمد الخامس، البلاغية ليس إلا، كانت تطورا في اتجاه إشراك حزبه في الحكم. وقد كتب واصفا الوضع السياسي قبل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم: "التطور الدستوري كان إيجابيا إلى أن أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960، وابتداء من تلك اللحظة، أدت العودة إلى الحكم الفردي إلى إضعاف الروابط القائمة بين الشعب والعرش، لكي نصل في عهد الحسن الثاني إلى دستور ممنوح لا يولي أي اعتبار لحقوق الشعب صاحب السيادة" .
يفوز بالسلطة من يسعى لاحتكارها لا تقاسمها، وقد ظفر بها الحسن الثاني لأنه كان عازما على عدم تشاركها. في الوقت الذي خسرها بنبركة لأنه رضي بأقل من الاستئثار بها، وهذا بشهادته هو ذاته: "كان علينا نحن سنة 1956 أن نأخذ إدارة السلطة وقد رضينا بألا نأخذ هذه السلطة. وها نحن الآن نؤدي ثمن ذلك التأخر الذي أصيب به بلدنا" .
بعد وفاة محمد الخامس وتولي الحسن الثاني الحكم لم يتخلص بن بركة من هذه الثقة في الملكية وإن مع بعض التوجس من الملك الجديد. ومن علامات تلك الثقة ما سجله جيل بيرو عن تلك الفترة بقول: "من باريس وجه بن بركة إلى الحسن الثاني برقية "ود عميق وإخلاص صادق" كتب فيها: "واجبنا متابعة العمل الذي بدأه ملكنا في تشييد صرح مغرب حر، ديمقراطي مزدهر، وفقا لمثل جلالته الأعلى وللطموحات الشعبية" .
ستشكل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم ووفاة محمد الخامس بداية مرحلة أخرى من حياة بن بركة السياسية، مرحلة الضغط على الملكية لتطويعها وإجبارها على تقاسم الحكم، بعد أن فشلت سياسة الإقناع والتنازلات التي أدت الحركة الوطنية ويسارها ثمنها غاليا.
قيم جيل بيرو حصيلة سعي الحركة الوطنية لتقاسم السلطة مع الملكية، وانتهى بجرد انتصارات هذه الأخيرة: "القوات المسلحة الملكية، كما يشير إليها اسمها تابعة للملك وتديره. وقد جعل أوفقير... من مديرية الأمن العام شرطة سياسية قادرة على تحطيم كل معارضة حقيقية؛ وأنهى الدستور الممنوح من الملك إرتاج الجهاز. وهكذا أمكن للحسن الثاني أن يحكم المغرب كما لم يسلق لأي سلطان قبله" .
طرح الحسن الثاني سنة 1962 دستوره للاستفتاء قاطعه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. نال الدستور مصادقة أغلبية مصطنعة بأساليب التزوير والقمع، مكرسا هكذا الحكم الفردي قاضيا على آمال الحركة الوطنية ويسارها، ومنهيا مرحلة من التماسهما "ضمانات دستورية تحمي المؤسسات الجديدة من مزاجية القصر" . لتبدأ مرحلة أخرى في صراع بن بركة وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مرحلة لن تشكل قطيعة، إذ سيتسمر بن بركة في مطاردة وهم تطويع الحسن الثاني من أجل التوافق وتقاسم الحكم.
رابعا- بن بركة: ضد الانفراد بالحكم، لا ضد الملكية
لم يكن صراع بن بركة مع الحسن الثاني حول مشروعية الملكية، فهذه بالنسبة له ضرورية بشكل مطلق، لكن حول طبيعة هذه المشروعية والأساس الذي تقوم عليه وحدود دورالملكية في تحديث البلد.
اشتكى بن بركة من أن الانفراد بالحكم سيؤدي إلى تراجع شرعية الملكية التاريخية، وبالتالي تراخي الروابط بين العرش والشعب، وسعى لإقناع الملكية الاكتفاء بدور الحَكَم ضمانا لمصلحتها وبقائها.
1- تنافس لا صراع
بدأ توتر علاقة بن بركة مع الملكية مباشرة بعد الاستقلال، وإن كان هذا التوتر لم يصل بعد حد القطيعة. سبب هذا التوتر ظهور الملكية غير قابلة للاستعمال كما سعى إلى ذلك مناضلو الحركة الوطنية الشباب.
بدأ التوتر منذ فجر الاستقلال على شكل تنافس بين الملكية وبن بركة، حول من يملك صلاحية تحديث البلد وحدوده. توجست الملكية من مشاريع المهدي وحزب القوات الشعبية (عملية الحرث، مشاريع "تعبئة السكان" مثل طريق الوحدة)، وعملت على عرقلتها. انتهى ذلك بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم في مايو 1960.
إنه صراع حول احتكار رمزية تحديث البلد بين الملكية وحزب الاستقلال ثم يساره فيما بعد. شهد بذلك موريس بوتان، أثناء الحديث لطريق الوحدة، الذي كتب: "أبدى العاهل بعض التحفظ على هذا المشروع... لأنه سيعزز مكانة رئيس المجلس الوطني الاستشاري في أوساط الشباب المغارب ويرفع من قيمته" ، وهو ما اعتبرته الملكية خطرا على شعبيتها المستعادة بفضل الحركة الوطنية ذاتها، لذلك انخرط الأمير الحسن في أشغال طريق الوحدة، لغاية يشرح بوتان بقول: "لا نحتاج إلى ذكاء كبير كي ندرك أن هذا التطوع ليس بريئا، فمولاي الحسن لا يمكنه أن يسمح للمهدي بن بركة في الانخراط في عمل عظيم لا يكون هو حاضرا فيه، وذلك خدمة "للمصلحة العليا"... لطموحاته! ولكي يتفادى كل تجاوزات أيديولوجية، استدعى الأمير ضباطا من القوات المسلحة للمشاركة في محاضرات الثقافة العامة التي يستفيد منها 11 ألف متطوع، بالموازاة مع المدرسين الذين اختارهم المهدي بن بركة" .
تنبهت الملكية إلى ما ينطوي عليه طريق الوحدة من احتمالات قد تضر بها، فتوجه محمد الخامس إلى فاس "إذ تم تنبيهه إلى التوجه الذي هاته. فجاء إلى عين المكان ووزع بسخاء شهادات الاستحقاق. لقد كانت طريقة لبقة لتسريح الجميع [وإيقاف التنمية]: التنمية نعم، ولكن ليس لخدمة الشعب" .
أورد موريس بوتان موقف عمر السغروشني الصادر في عدد "لوجورنال" 1 نوفمبر 2003، موقف يلخص كنه الخلاف بين بن بركة والملكية آنذاك: "تحقق الاستقلال سنة 1956، وأصبحت الحاجة ماسة لبناء أدوات السيادة من جيش وشرطة وإذاعة وتلفزة مغربية وبنك المغرب (...) وطرح السؤال: من يشيد ماذا؟ ومن هو المهندس الصانع؟" أرادت الملكية أن تنصب نفسها المهندس الوحيد، وأكدت ذلك، وفرضته واستدعت الحركة الوطنية كي تقوم بدور البناء ليس إلا. قبل جزء من هذه الحركة بذلك، والبعض الآخر رفضه وطالب بحقه الوطني أن يشارك من موقع المهندس هو أيضا، مما أدى سنة 1959 إلى نشأة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (..) وسنوات من القمع المسلح، ففي منطق النظام، فـ "الرعية" تقوم بدور "البناء" ولا يمكن أن تكون في موقع المهندس". [مقال بعنوان "إنها نهاية حقبة، فهل يكرر التاريخ نفسه؟" .
2- الملكية تبادر بالقطيعة
لاحظ بن بركة إصرار الملكية على التخلص ممن يريد تحديد صلاحياتها، كما عاين اعتمادها على خبرة المستعمر القديم وهو ما كان يمقته. فقد أصبح الكولونيل محمد أوفقير على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني في يوليوز 1960، وجرى الاتفاق بين المغرب وفرنسا في أول شتنبر من نفس العام على بقاء الجيش الفرنسي في التراب المغربي حتى نهاية سنة 1963، الأمر الذي جعل المهدي يأخذ موقفا حادا من النظام ويفضحه على نطاق واسع.
بدأت الملكية المواجهة سنة 1960 باعتقالات في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على نطاق واسع. كان اسم بن بركة في قائمة الذين يجب اصطيادهم. لم يمر إلا بعض الوقت حتى أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم في 21 ماي 1960، وفي فبراير 1961 توفي الملك محمد الخامس.
منذ تلك اللحظة، وبن بركة منفي، سيخوض صراعه الأخير والمميت، ضد انفراد الحسن الثاني بالحكم، وسيسعى لتطويعه من أجل تقاسم السلطة في إطار حلمه القديم بـ"ملكية دستورية".
3- لماذا رفضت الملكية التوافق رغم اعتدال بن بركة؟
برغم اعتدال مطالب بن بركة، وربط التحرر الاقتصادي بتعاون مع الملكية، رفضت هذه الأخيرة كل توافق مع الحركة الوطنية.
يعزى هذا إلى وعي الملكية أن المسارات التي تفتحها منظورات بن بركة ويسار الحركة الوطنية لا يمكن التحكم فيها ما أن تنطلق، وقد تكون الملكية ضحيتها (إما بتقليص سلطاتها، أو إسقاطها). لا تخضع الدينامية الداخلية لما طالب به بن بركة لنوايا الأشخاص، بل تندرج ضمن سياق عالمي مطبوع بصعود حركات التحرر الوطني وخطاب اليسار وإسقاط ملكيات (مصر، العراق).
الحسن الثاني مثل الفقيه البصري الذي "رأى سقوط الملكية المصرية المتعفنة وتأسيس عبد الناصر لجمهورية اشتراكية، وشهد الانقلابات المتتابعة في الشرق الأوسط، وتابع انتصار بن بلا في مدينة الجزائر؛ فكيف لا يؤمن أن عرش المغرب يهتز" .
عبر عن هذا أحسن تعبير صديق الحسن الثاني آنذاك، وذراعه اليمنى رضى كديرة، في مقال نشره منتصف الثمانينيات، يظهر حذر الملكية الغريزي إزاء أي إصلاح سياسي واقتصادي غير متحكم فيه من الأعلى. جاء في المقال: "لم يتأخر ظهور الخطر الذي سرعان ما أدركه الأمير مولاي الحسن ولي العهد: كان عالم الخمسينات والستينات يخضع بقوة، لتيار اليسار. لم يكن هناك ما يدعو إلى اللامبالاة إزاء هذا الأمر إذ أن أغلب الشعوب كانت تجد نفسها منساقة وراء تيار ليس من السهل على أحد أن يقاوم قوة جاذبيته لأن ميلاده صادف حقيقة تصفية الاستعمار أي خروج العدد من الأمم إلى الوجود، بعدما ظلت تلك الأمم إلى ذلك الحين تعاني من التسلط الإمبريالي. والتيار اليساري بالذات لم يكن سوى شكلا من أشكال رد الفعل ضد الإمبريالية التي كان المستعمر السابق يجسدها في أعين الشعب من جراء التباس تم تطعيمه بدراية وتسييره بذكاء" .
الامر عينه الذي لاحظه ريمي لوفو إذ كتب: "أن تحقيق النجاح في تحقيق العصرنة كان سيؤدي بتلك الجهات إلى الحد من دور النظام الملكي بحيث لا تصبح الملكية إلا بمثابة رمز للشرعية وللوحدة، إنما كان الحسن الثاني غير ذي استعداد على الرضوخ لهذا الأمر" .
نفس الاستنتاج بلغه بن بركة في "الاختيار الثوري"، لما كتب أن برنامج التحديث الاقتصادي المقترح "سيقوم بدور الأداة الفاعلة التي ستغير أسس هذا الحكم، لأنه لا يعقل أن يسير معنا النظام في خط هذا البرنامج دون أن ينقلب رأسا على عقب".. لكن غريزة البقاء لدى الملكية دفعتها إلى قمع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
4- سعي حتى الرمق الأخير إلى التوافق مع الملكية
رغم القطيعة، وتأكد بن بركة من استحالة ملكية دستورية وهو يراقبها تتحول ملكية مطلقة بين أيدي الحسن الثاني، لم يتخل في سنوات منفاه الأخيرة عن إيمانه بهذه الإمكانية، وبقي ملكيا دستوريا حتى الرمق الأخير من حياته. ففي حوار قبيل اختطافه خصه لمحمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام المصرية، صرح بن بركة أن "الجيش المغربي هو العقبة الرئيسية التي تسد طريق التطور الديمقراطي.." وأكد: "إننا قررنا… أن نمد يدنا للملك الحسن الثاني الذي مد يده إلينا وطلب تعاوننا بعد قطيعة سنوات… حتى لو كانت يد الملك التي امتدت إلينا مجرد تكتيك مؤقت فإننا نقبل أن نمد له يدنا" (كذا!!). وأضاف بن بركة: "إن الملك، إلى هذه اللحظة، أمل المغرب في تجنب حرب أهلية" .
"في 29 أكتوبر 1965، وفي باريس، أسر المهدي بن بركة، متفائلا رغم كل شيء، للطالب الأزموري: "توجد عروض من الملك إيجابية جدا. من الممكن أن نشترك في حكومة تضم قوى سياسية أخرى، واعتقد أن في هذا خيرا للبلاد، لأن المعارضة المطلقة ليست، في الأساس أمرا جيدا جدا. يجب، من وقت لآخر، معرفة كيف نكون إيجابيين ومتعاونين. واعتقد أن البلاد، في الأوضع الحالية، بحاجة إلينا، لأجل هذا أن أفكر بالعودة إلى المغرب".
في سياق انفتاح الحسن الثاني على المعارضة لتجاوز تداعيات انتفاضة مارس 1965، قدم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 20 أبريل بتنسيق مع بن بركة جوابا على "المذكرة الملكية" يتضمن "خطة لإنقاذ البلد من الأزمة المستفحلة". وفي هذا السياق قبل بن بركة اللقاء بمبعوث الحسن الثاني (صهره علي) لنقاش عودته إلى المغرب.
عرض بن بركة شروط عودته وهي ذات شروط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للمشاركة في الحكومة، أهمها:
توقيع عقد مع الملك لفترة سنتين تحدد بمقتضاه المسؤوليات داخل الحكومة تحديدا دقيقا.
تشكيل الاتحاد الوطني بعد ذلك حكومة منسجمة تضم شخصيات مستقلة تحظى بثقة الملك.
لا يعبر مطلب توقيع العقد إلا على حلم الحركة الوطنية القديم بالتوافق حول ملكية دستورية، كما أوضح موريس بوتان: "لا بد إذن أن المهدي بن بركة داعبه أمل تكرار هذه التجربة والتوصل إلى "توافق تاريخي"، وهو أمل عانقه منذ وقت طويل، ولكن ليس بأي ثمن!" .
كان الحسن الثاني مستعدا لتقديم الثمن، ثمن التخلص من معارض يريد "توافقا تاريخيا" بشروطه هو، وليس بشروط القصر. وعلى حد تعبير موريس بوتان: "إن التوافق كان مستحيلا بين الرجلين، فمن المعلوم أن "عرشا واحدا لا يسع ملكين" . في هذا السياق جرى ترتيب اختطاف بن بركة في باريس ونهاية المأساة لا زالت مجهولة.
1- ديمقراطية بن بركة: ديمقراطية برجوازية
لم يسع بن بركة لبناء سلطة شعبية حقيقية، بل أقصى طموحه بناء ديمقراطية برجوازية تقوم، كما قال في "الاختيار الثوري"، على: "مؤسسات سياسية، تمكن الجماهير الشعبية من رقابة ديمقراطية على أجهزة الدولة، وعلى توزيع ثرواتها وإنتاجها الوطني".
وهو موقف قديم لدى بن بركة وليس وليد وثيقة الاختيار الثوري وأساسه التوافق مع الملكية، كما كتب منذ سنة 1958: "مشاركة الشعب بواسطة المؤسسات الديمقراطية: إن هذه المشاركة ستكون بواسطة المجالس القروية والبلدية ومجلس وطني منتخب يراقب بنود الدستور ويراقب سير الحكومة ويحاسبها على أخطائها إذا ما ارتكبت أخطاء ويحقق التوازن المنشود بين الحاكمين والمحكومين" .
تمر الرقابة الديمقراطية في مألوف النظريات البرجوازية عبر ممثلي الشعب في برلمان وسلطة تشريعية مستقلة عن السلطة التنفيذية. إنها في آخر المطاف ديمقراطية طبقة الرأسماليين، تعود فيها السلطة لرأس المال وتحد من أي رقابة ديمقراطية، ما دام الرأسمال خارج هذه الرقابة. إنها ديمقراطية تستدعي طبقة برجوازية قوية تستطيع الحكم دون الحاجة إلى ملكية، وهو ما كان غائبا في المغرب، باعتراف بن بركة ذاته وهو يصف برجوازية المغرب في وثيقة الاختيار الثوري.
حتى هذه الديمقراطية البرجوازية لم يسع بن بركة لانتزاعها بطرق ثورية، أي بالنضال الجماهيري ضد سلطة الملك الفردية، بل عبر توافق معها.
لم يتحرر بن بركة من سطوة فكر علال الفاسي الذي كتب حول هذا الموضوع: "نحن نعتقد أن المسؤولية الوزارية خير حل للمشاكل التي تعرض لأنظمة الحكم.. إن الحكم يجب أن يكون مبنيا على أساس الاشتراك المقبول بين الأمة ورؤسائها" و"حق الأمة في أن تحكم نفسها بنفسها يتفق تماما مع حقها في أن تختار من تنيبه في تسيير شؤونها.. ضرورة المراقبة الشعبية لأعمال القائمين بالحكم وهذه المراقبة حق لكل مواطن" .
2- الدولة عند بن بركة
نصل هنا إلى موقف بن بركة من إحدى المسائل المحك في أي نضال ثوري؛ الموقف من الدولة. لا نجد في كتاباته رؤية متبلورة بالكامل لإشكالية الدولة والموقف منها. كانت خلفيته في هذا الصدد استبطانا للأيديولوجية الوطنية، أغناه بانطباعات عن تجارب الدول الناشئة عن حركات التحرر الوطني.
أسقط هذا القصور النظري بن بركة في وهم سلطة دولة متعددة الطبقات عند حديثه عن دولة "الاستقلال" بقول: "فيما يتعلق بالمغرب فإن السلطة التي كانت في قبضة الحماية الفرنسية والإسبانية والدولية (طنجة) تم نقلها تحت ضغط حركة التحرير- لا إلى الملك وحده بالرغم من أنه نظريا هو صاحب السيادة- وإنما إلى كتلة تضم القوات الشعبية. وكان لا بد أن تنقضي ستة أعوام قبل أن يستطيع الورثة الذين ترضى عنهم مصالح الاستعمار أن يستأثروا بالسلطة وأن يتمموا عمليتهم هذه في ديسمبر سنة 1962 بدستور شكلي" .
ما أبعده والحالة هذه عن الفهم الماركسي للدولة بما هي جهاز قمع مادي واحتواء أيديولوجي في يد الطبقة المسيطرة لإخضاع الطبقات المسيطر عليها.
أضاف بن بركة إلى جوهر موقفه البرجوازي من الدولة تنويعات من تشويهات الستالينية للنظرية الماركسية حول الدولة، منها أن الثورة في البلدان التابعة هي مجرد ثورة وطنية دورها الرئيسي "الاستيلاء على أجهزة الدولة الاستعمارية لوضعها في خدمة الشعب" .
لا حديث عن تدمير جهاز الدولة الاستعماري، ولا عن جهاز دولة بديل عن الدولة البرجوازية، لجنة تسيير الشؤون اليومية للبرجوازية.
إن الموقف من الدولة هو الفاصل بين الثوري والإصلاحي، ويظهر أن بن بركة لا يتعدى حدود بناء دولة برجوازية ذات درجة من الاستقلال عن الإمبريالية.
3- بن بركة: الدين والعلمانية
رغم انتقاد بن بركة لسيطرة الخرافة والشعوذة على عقول المغاربة، وإدراج ذلك ضمن إرث ما قبل الاستعمار، فإن ديمقراطيته لم تدفعه للدفاع عن مطلب العلمانية، في وجه سلطة ملكية سعت جاهدة لاستعمال الدين ركيزة ترسيخ هيمنتها السياسية. لا بل زايد بن بركة وحزبه على الملكية في هذا الجانب. تناول واتربوري هذا الاستعمال بقول: "خصصت صحافة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في وقت الاستفتاء حول الدستور مكانة هامة لتصريحات شيخ الإسلام مولاي العربي العلوي، الذي قام بإدانة الدستور الجديد، لأن البنود المتعلقة بقانون وراثة الملك والمجلس التشريعي ليست مطابقة حسب رأيه للشرع الإسلامي. ويرى الشيخ أن العلماء وحدهم في بلد إسلامي لهم حق تقدير صلاحية السلاطين لتولي الحكم، وأنه لا حاجة لتأسيس جهاز تشريعي، لأن الشرع أسمى تعبير للقانون الإسلامي. ولم يكن بطبيعة الحال معظم قادة الاتحاد الوطني يشاطرونه هذه الآراء، لكن للشيخ سمعة عظيمة في جميع أنحاء البلاد، وبما أن أهدافه لا تتناقض مع موقف الحزب، لم يتردد هذا الأخير في استغلال نفوذ الشيخ الديني في أثناء الحملة الانتخابية" .
كان لبن بركة علاقات جيدة مع الشيخ العربي العلوي الذي ترأس جلسة افتتاح المؤتمر الوطني لحزب الاتحاد الوطني سنة 1962. يروي عبد الواحد الراضي في سيرته عن هذه العلاقة: "قيل لي إن المهدي بن بركة كان يداعبه بالقول إنه هو من "صان الإيمان الديني للاشتراكيين في المغرب، فبفضله حافظوا على إسلامهم واشتراكيتهم!" .
نوه بن بركة بالسلفية الإصلاحية للحركة الوطنية التي ساهمت في تبديل نظرته للدين، وقال: "بأنه لولا وجود هذه الحركة المباركة لتنكر كل شبابنا- الذي تابع دراسته في إسبانيا وفرنسا- إلى الدين". كما صرح أن ظهور الحركة السلفية ساهم في تبديل "نظرتنا إلى الدين وحفظت شبابنا من الإلحاد وجعلتنا نفهم الإسلام على حقيقته كما تجلى في دعوة جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده" .
يـُعزى موقف بن بركة من الدين وإسقاط مطلب العلمانية، على غرار معظم أقرانه الوطنيين، إلى كون الطبقات البرجوازية في كل البلدان الإسلامية- ما عدا تركيا- لم تجد "أي مصلحة تقريبا في محاربة دينها الخاص. فالإسلام لم ينظر إليه في القرن العشرين، في هذه المجتمعات، بوصفه اللحمة الأيديولوجية لبنية طبقية بائدة، إقطاعية أو شبه إقطاعية، بل بالأحرى كعنصر أساسي في الهوية القومية الممتهنة من جانب المضطهد الأجنبي المسيحي (بله الملحد)". ولم يتورع قومي برجوازي راديكالي في حجم جمال عبد الناصر عن "رفع راية الإسلام في نضاله الرئيسي ضد الامبريالية، لاسيما أنه كان يجد في ذلك، في الوقت ذاته، وسيلة سهلة لحماية نفسه من اليسار ومن اليمين سواء" .
1- هل كان بن بركة اشتراكيا؟
يقول بن بركة في "الاختيار الثوري": "إننا لا نستطيع أن نتحرر تحررا كاملا عن طريق إصلاحات جزئية وفي نطاق النظام الرأسمالي. وإننا لن نكون في مستوى مهامنا التاريخية إلا بانتهاج سياسة مقاومة للاستعمار تكون شاملة لمجالات العمل في الداخل والخارج". فهل كان بن بركة يقصد بذلك تدمير المجتمع الرأسمالي وبناء الاشتراكية؟
يجيب بن بركة في وثيقة الاختيار الثوري: "إن مضمون الاشتراكية عندنا يقتضي:
ـ أسسا اقتصادية لا تترك أي مظهر من مظاهر سيطرة الاستعمار ولا لسيطرة حليفيه الإقطاع والبرجوازية الكبرى الطفيلية.
تنظيما سياسيا واجتماعيا للسهر على تأطير الجماهير الشعبية وتربيتها، من أجل التعبئة الشاملة لسائر الموارد الوطنية الضرورية لتراكم وسائل الاستثمار".
إنها مطالب قريبة من تلك الواردة في وثيقة "التعادلية" التي أصدرها حزب الاستقلال في 11يناير 1963:
تحقيق الاستقلال الاقتصادي بتحرير الاقتصاد من السيطرة الأجنبية ومن مخلفات الاستعمار ومن جميع أشكال الاستعمار الجديد.
ضرورة توسيع وتنمية نظام التعاونيات.. وتنظيم الأمة داخل وحدات اقتصادية واجتماعية .
لا تختلف اشتراكية بن بركة عن تعادلية علال الفاسي، إلا في مسألة تكتيكية. آمن علال الفاسي بإمكان تحقيق مهام التحرر الاقتصادي في إطار دستور 1962، بينما كان بن بركة يشترط ملكية دستورية يقرها مجلس تأسيسي. أعلن الفاسي أيضا التحرر الاقتصادي لاكتمال التحرر السياسي، وقال بعد قراءة "التقرير المذهبي" المقدم إلى المؤتمر السابع للحزب سنة 1965: "أما الآن فقد أصبح من البين أنه لا يمكن وجود ديمقراطية سياسية وحدها، وأن الشعب لا بد أن يكافح في سبيل المشروعية، ولكن مع علمه أن هذه المشروعية لا تتم إلا حين يتم التحرر الاقتصادي.." .
إن اشتراكية بن بركة لا تتعدى تصفية مظاهر الاستعمار والقضاء على الإقطاع و"البرجوازية الطفيلية" والعمل على تراكم وسائل الاستثمار الرأسمالي. إنه تدخل القطاع العام، أي الدولة، للإشراف على تراكم الرأسمال وبناء قاعدة اقتصادية وطنية عجزت البرجوازية آنذاك الاضطلاع بها.
كان هذا المنظور للاشتراكية هو منظور الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. اشتراكية لا تدمر أسس المجتمع الرأسمالي بقدر ما تسعى لتقويته بتخليصه من التخلف الموروث عن الماضي الاستعماري وما قبل الاستعماري، كما أوضح إبراهيم أوشلح: "الاتحاد الوطني بمجمل فصائله كان يدعو إلى الاشتراكية بمفهومها السائد في العالم الثالث آنذاك بمعنى التحرر من الهيمنة الاقتصادية للاستعمار الجديد، إنشاء دولة تأسس وتسيطر على المرافق الحيوية للاقتصاد، وإنجاز إصلاح زراعي. حيث كان الخصم يحدد في الإمبريالية والبرجوازية الكومبرادورية والإقطاعية" .
إنه موقف راسخ لدى بن بركة قبل قطيعة الملكية معه: "إن التوزيع العادل لا يعني القضاء على الملكية الفردية وإنما يعني أن تراقب الدولة هذا التوزيع وتحميه من سيطرة الإقطاعية والاحتكارات الخاصة" .
يقول ماركس عن هذا النوع من الاشتراكية أنها: "وهم بورجوازي أن يتخيل المرء تبادلا فرديا دون تناقضات طبقية، أو أن نفترض في المجتمع البورجوازي إمكانية نشوء حالة من العدالة الأبدية والانسجام لا تمكن أحدا من الأثرياء على حساب الأخرين".
ينتمي بن بركة إلى تنويعات الاشتراكية ذات النزعة العالمثالثية التي انتشرت على خلفية حركات التحرر الوطني ونزع الاستعمار، وهي بعيدة عن الاشتراكية العلمية المبنية على صراع الطبقة العاملة من أجل تحررها الذاتي بمصادرة سلطة رأسمال وبناء الاشتراكية.
إنه استعمال براغماتي لمفهوم الاشتراكية لما لها من مصداقية في تلك الفترة من أجل كسب ود الجماهير. لأن منظري البرجوازية على وعي أن الشعارات الليبرالية عاجزة عن جذب الجماهير بسبب وزن المسألة الاجتماعية، فإنهم ينمقون أسماء أحزابهم وبرامجها بمصطلح الاشتراكية.
2- بن بركة والطبقة العاملة
شكل الاتحاد المغربي للشغل إحدى الدعامات الرئيسية لبناء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. لكن لا يوجد في إرث المهدي بن بركة ما يشير إلى الدور المركزي للطبقة العاملة في النضال من أجل الديمقرطية وتحديث البلد.
لم يجد أبراهام السرفاتي في مقال بعنوان "المهدي بن بركة والعمل النقابي" ما يشير إلى هذا الدور. خلص السرفاتي إلى أن بن بركة كان: "يفكر في الطبقات الشعبية القروية. كان المحور الرئيسي للتقرير [الاختيار الثوري 1962] على المستوى الداخلي رؤيته للثورة الزراعية، كعمود رئيسي للنضال الثوري" .
خصص بن بركة للطبقة العاملة دور المساهمة في البناء فقط، وبالتالي الحفاظ على مكانتها ضمن المجتمع الرأسمالي، أي طبقة مستثمرة يجب تأطيرها من فوق، منوها بدور النقابة في ربط العمال بالمقاولات التي عززت حسب بن بركة: "روح الامتثال والجد في العمل التي يتصف بها عمالنا المنظمون بواسطة نقاباتهم في المؤسسات الأجنبية التي يشتغلون بها، والتي ما فتئ وزير اقتصادنا الوطني يعتبرها مؤسسات وطنية" .
يندرج هذا ضمن ما يسميه بن بركة "تجنيد الناس وتنظيمهم للعمل، لأن هذا التنظيم هو الذي يجعلنا نستطيع تشغيل رأس مالنا البشري وصرف الطاقة التي تزخر بها قواه الحية في بناء المغرب وتشييد دعائمه" .
يتمثل أحد تفسيرات قصور بن بركة السياسي في رغبته تسخير نضال الطبقات الشعبية- ومنها الطبقة العاملة- لتحقيق مشروع سياسي طبقي برجوازي، لذا سعى لتوجيه نضالها نحو قنوات التوافق مع الملكية من أجل تنمية البلد رأسماليا.
توجس بن بركة من الاستقلال السياسي للطبقة العاملة وعمل على دمجها ضمن حزب يضم طبقات أخرى وضمنها الطبقات المالكة لوسائل الإنتاج، وعمل على حصر نضالها في المجال الاقتصادي، حسب قوله في "الاختيار الثوري": "الدور الجسيم الذي ينتظر الطبقة العاملة لتحمل مسؤولية المعركة الاقتصادية"، وأكد "أن الحزب وحده يحق له أن يحمل بوصلة النضال السياسي".
يظهر التكوين الطبقي لحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحجز الطبقة العاملة ضمن تشكيلة طبقية لها مصالح متناقضة طبقيا، سعي المهدي وحزبه إلى الهيمنة سياسيا على الطبقة العاملة ومنعها من تحقيق استقلالها التنظيمي والسياسي عن البرجوازية. هذا ما أوضح عبد الواحد الراضي حيث قال أن: "المهدي بن بركة آمن- منذ المنطلق- أن بناء حزب جديد لن يكون إلا تجمعا وتحالفا بين القوات الشعبية، أي بين الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية ذات المصلحة في التغيير وفي مقدمتها الطبقة العاملة. ومعنى ذلك أن العمال سيكونون ضمن تشكيلة اجتماعية متنوعة، لهم إطارهم النقابي الذي يحمي مصالحهم المادية، لكن الحزب هو الذي ينظم ويؤطر إرادتهم السياسية، ويعمق وعيهم السياسي والاجتماعي والتنظيمي، ويستثمر طاقاتهم ضمن مشروع التغيير" .
مثل بن بركة تنويعا مغربيا لشعبوية العالم الثالث السائدة آنذاك، التي جعلت الطبقة العاملة جزء من كل اسمه الجماهير الشعبية. شرح رونيه كاليسو، الضليع في شؤون حركات التحرر المغاربية، هذه الشعبوية قائلا: "إن هذه الشعبوية متشبعة بالماركسية، نتيجة للتوازي الذي تضعه بين الشعب والجماهير. إن لفظ الجماهير الشعبية كان في الغالب المرجعية الأكثر تكرارا في خطاب بن بركة. وقد كانت الجماهير... تشمل ثلاث أو أربع طبقات مشكلة من البرجوازية الوطنية، أو بالأحرى الجزء الممثل للوطنيين داخل البرجوازية، زد على ذلك، البرجوازية الصغيرة، المعرضة لأسباب الضعف، إن لم يكن لما هو أدهى. وهناك أيضا، على الأرجح المثقفون الثوريون، وأيضا، بكل تأكيد، العمال وأهل البادية" .
الشعبوية أيديولوجيا، لا تستند على صراع الطبقات، وتتحدث عن الشعب بمعنى بطريقة تخلط الطبقة العاملة بالفقراء عموما دون هوية مميزة أو مصالح نوعية. وهي نوع من الأيديولوجيا يعبئ به الساسة البرجوازيون طاقة الطبقات الشعبية لأغراض ينشدونها. ولم يكن ذلك محض خداع، لكنه كان يتضمن، بشكل ما، الاعتراف بقضايا الطبقة الدنيا وهمومها وهو الأمر الذي يساعد على تفسير فاعليتها وانخداع الجماهير بشعاراتها.
فصل بن بركة منظوره للنضال النقابي أمام مؤتمر الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1962، وأصر على إدراجه ضمن المشروع السياسي للحزب الذي يعبر حسبه عن "مصالح الأمة"، وهذه الأخيرة ليست إلا قناعا لمصالح البرجوازية التاريخية. يميز بن بركة بين نشاط النقابة والحزب إذ يقول: "أما نشاطات الحزب كمنظمة سياسية في وسط العمال وفي المؤسسات، فإنها بالغة الأهمية، لأنها الضمان لامتزاج النضال السياسي بالنضال النقابي.. وأن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بوصفه الأداة الثورية، هو وحده الذي يستطيع أن يقوم بالدور القيادي في نضال سائر فئات المجتمع الثورية... وتلك نتيجة منطقية لتحديد معنى الاختيار الثوري الذي قلنا عنه أنه يجب أن يكون ملبيا لحاجيات الأمة بأسرها. ومعنى هذا أن الحزب وحده يحق له أن يحمل بوصلة النضال السياسي، وأن يدرس ويحدد خطة العمل لمجموع الحركة الثورية في البلاد. وأن دور "كوادرنا ومناضلينا داخل المنظمات الجماهيرية التي لها أهدافها ومهامها الخاصة، بها يجب أن يكون في صهر معاركهم الخاصة في الأفق الشامل الذي سطره الحزب باعتباره تنظيما سياسيا بامتياز" .
ليس هذا المنظور للنضال العمالي فريدا أملته ظروف مغربية خاصة، فهو ما حاربه الماركسيون الثوريون مذ عملوا على تنظيم الحركة العمالية، كما فصله لينين في كتاب "ما العمل؟": "العمال ينصرفون إلى "نضالهم الاقتصادي ضد أصحاب الأعمال والحكومة"، أما "البرجوازية فتنصرف إلى النضال السياسي".
مرة أخرى بقي بن بركة وفيا لعلال الفاسي الذي فصل موقفه حول علاقة الحزب والنقابة، قائلا: "يجب أن تكون النقابة في الميدان الاجتماعي كالحزب في الميدان السياسي.. فالمثل القومي الأعلى يجب أن يكون في حفظ التوازن بينهما، وفي حرص كل من الهيئتين عليه، إلى جانب حرصهما معا على مصلحة الأمة جمعاء، ومصلحة كل واحد من افرادها. وهكذا يمكن أن تعمل النقابة لفائدة الكفاح القومي دون أن تعتبر متحيزة لنظرية سياسية، كما يمكن للحزب القومي أن يعمل لصالح النقابة دون أن يعتبر متحيزا لطبقة دون أخرى من الشعب، إن التحرير الوطني يربط بين الجميع" .
واجه بن بركة محاولات النظام تشجيع التيارات الإصلاحية اللاسياسية في الأوساط النقابية العمالية وعزل النضال السياسي عن النضال المحصور في المجال الاقتصادي الضيق. آمن بممارسة العمال للسياسة، لكن كما قال لينين في "ما العمل"؛ "هناك سياسة وسياسة"، هناك سياسة عمالية ثورية وهناك سياسة برجوازية. حرص بن بركة على جعل سياسة الطبقة العاملة بالمغرب هي سياسة البرجوازية ذاتها.
استعمال لنضالية الطبقة العاملة قصد إقناع الملكية ثم إجبارها على قبول مشروع التحرر الاقتصادي والإصلاح السياسي، ومنع الطبقة العاملة من امتلاك وعيها الطبقي الخاص بربط العمل النقابي بالمشروع الإجمالي لحزب الاتحاد الوطني الذي لا يخرج عن نطاق المجتمع البرجوازي، كان هذا هو منظور بن بركة لنضال الطبقة العاملة.
حافظ الاتحاد الاشتراكي تحت قيادة رفيق بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، على نفس المنظور للعمل النقابي، بجعله عربة يجب إحكام ربطها بقاطرة البرجوازية. يقول بوعبيد عن الموضوع: "الخصوصية النوعية لدور النقابات... إنها قبل كل شيء أدوات للدفاع عن المأجورين، كل المأجورين، سواء كانوا منتمين سياسيا أو غير منتمين. والحزب السياسي... يجب أن يبقى جهازا ينظر إلى الأمور من زاوية طابعها العام. ذلك لأنه يعبر ويريد أن يعبر عن أحاسيس الفئات الاجتماعية الأخرى التي تعاني من الاستغلال والقمع كما أنه يطمح أحيانا كثيرة إلى التعبير عن المصالح العليا للوطن كله، أي المصالح الوطنية لمجموع المواطنين" .
كان بن بركة طيلة النضال من أجل الاستقلال، بصفته مسؤول تنظيم الحزب، هو من اضطلع عمليا بالشؤون النقابية داخل حزب الاستقلال. كانت غاية الاستقلاليين انتزاع قيادة الحركة النقابية المغربية من يد الحزب الشيوعي المغربي، وقد ساعدهم هذا الأخير في ذلك حيث أسقط مطلب الاستقلال مركزا على المطالب الاقتصادية والنضال النقابي المحض.
في هذا الإطار أورد ألبير عياش هذه الحادثة التي مثل فيها شباب حزب الاستقلال الدور الرئيسي: "فاتح ماي 1950: عقد اجتمع بملعب فيليب بالدار البيضاء… استدعي مندوبو الأحزاب الصديقة لإلقاء كلمتهم. في المقدمة، أتى ممثل الحزب الشيوعي المغربي، المناضل النقابي الشاب محمد قاوقجي، الذي التحق بكتابة الحزب. وما أن نطق بأولى كلماته، حتى بدأت مجموعة من الشبان المغاربة، ملتفة حول عبد الرحيم بوعبيد، تصيح مغطية بذلك صوته... ثم جاء من بعده عبد الرحيم بوعبيد، وهم محام شاب عاد من فرنسا، الذي استقبل بالهتاف وقدم تحية حزب الاستقلال، وعمل على أن يهتف الحاضرون باسم السلطان" .
جرى مؤتمر تأسيس الاتحاد المغربي للشغل بحضور نقابيي حزب الاستقلال حصرا. إن القرار كما جرى تنفيذه بسرية نوع من الاستفراد والترامي على الملتمس الذي صادق عليه الاتحاد العام سنة 1950 باتفاق بين الشيوعيين وحزب الاستقلال والقاضي بتأسيس مركزية مغربية .
ولد الاتحاد المغربي للشغل بتدخل سافر من حزب الاستقلال لا سيما يساره الذي سعى للتحكم بالنقابة عبر ذبح الديمقراطية. هكذا أسهم بن بركة ورفاقه في ترسيخ بيروقراطية المحجوب بن الصديق. يشهد ألبير عياش عن ذلك قائلا: "هكذا، منذ نشأتها، دخلت المركزية الفتية في أزمة، وقد حصل المحجوب بن الصديق على دعم جزء من وفد حزب الاستقلال بباريس، وعلى دعم عبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة في المغرب. اعتمادا على مقتضيات سياسية داخلية، اعتبر هؤلاء أن المحجوب بن الصديق قد يكون حليفا ذو فاعلية كبيرة. إلا أن اللجنة الإدارية للاتحاد المغربي للشغل رفضت ذلك. إنها تعرف جيدا الطيب بن بوعزة، بينما لا تعرف إلا القليل عن المحجوب بن الصديق. وطرح الحسم في المسألة على اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال، التي اجتمعت بالرباط، دون أن تتخذ موقفا. وبعد ذلك بقليل، جاء دور مجلس المقاومة الذي، رغم المعارضة الشديدة لإبراهيم الروداني، صوت لفائدة بن الصديق بدعم من محمد [الفقيه] البصري" .
سيؤدي بن بركة وحزب الاتحاد الوطني ثمنا غاليا مقابل ترسيخ بيروقراطية بن الصديق، هذا الأخير الذي سيفضل الملكية وامتيازاتها على ركوب مغامرة الصراع معه ضمن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
يعترض البعض على أن مقولة "الطبقة" ليس صالحة لتحليل السلوك السياسي للأحزاب المغربية، بمبرر أن المجتمع المغربي غداة الاستقلال لم يعرف بعد ذاك التطور الاقتصادي "لكي يصبح المغرب قابلا للتحليل الطبقي". عبر عن هذا الرأي جون واتربوري في كتابه "أمير المؤمنين". وهو خطأ يخلط بين التمثيل السياسي لطبقة معينة وهذه الطبقة ذاتها. نفس الرأي ورد في تقديم كتاب ألبير عياش "المغرب والاستعمار. لام إدريس بنسعيد وعبد الأحد السبتي، ألبير عياش "لأنه أفرط في التركيز على العامل الاقتصادي واتخذ منحى المركزية الأوروبية"، واستنتجا أن هذا أدى به إلى "الاعتقاد بحتمية العلاقة بين الحركات الوطنية والطموحات البرجوازية" .
يؤدي هذا إلى إضفاء عبثية على الصراعات العنيفة التي عرفتها مرحلة ما بعد الاستقلال، إذ تنزع عن الصراعات الحزبية والسياسية أساسها الاجتماعي.
لا غنى عن أدوات التحليل الطبقي لفهم الصراع بين الحركة الوطنية والملكية من أجل تقاسم السلطة.
1- حدود معارضة بن بركة للحسن الثاني
بعد تحييد حزب الاستقلال الذي قبل الاخير دستور 1962، تفرغ الحسن الثاني للقضاء على القوة السياسية الوحيدة التي عارضت الاستفتاء، وتواصل سعي بلوغ ملكية دستورية، وهذه القوة هي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وزعيمه بن بركة.
اشتدت معارضة بن بركة للحسن الثاني، لأن هذا دمر آمال بناء اقتصاد وطني مستقل ونظام "ديمقراطي"، بتوافق بين الحركة الوطنية وبالضبط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبين الملكية.
هل دفع هذا بن بركة لتغيير موقفه من الملكية؟ هل أدت به تجريبيته السياسية إلى قطيعة مع أوهام التوافق مع الملكية، وبالتالي التجذر ثوريا؟ الجواب طبعا هو: لا!
شن نظام الحسن الثاني عملية القمع ضد حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد ادعائه أن هذا الحزب يتآمر ضد حكمه، أو ما عرف بمؤامرة يوليوز 1963. اعتقل وعذب الكادر التنظيمي لحزب الاتحاد الوطني بما فيه برلمانيوه،. امتدت حملة القمع وطنيا فشملت أكثر من خمسة آلاف شخص مما شل كل نشاط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
وصف بن سعيد آيت إيدر وضع الحزب آنذاك، وكان من قادته، كالآتي: "بعد مؤامرة يوليوز 1963، تلقى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ضربة قوية، كان لها تداعيات كبيرة على المسؤولين السياسيين في الحزب وعلى من ساند أو دعم الاختيار المسلح...ويمكن القول، أن الاتحاد فقد الكثير من قوته بعد ذلك، بالمقارنة مع انطلاقة الجامعات المتحدة التي تشكلت داخل حزب الاستقلال.." .
فرض الحسن الثاني دستوره الممنوح، ورد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية مستعيرا عبارات بن بركة: "لا سبيل لإصلاح النظام الإقطاعي الرجعي القائم وعلاجه وتركيزه، لا مجال للتهادن، فأحرى الانسياق معه، بل لا دواء له غير زواله". لكن هذا لا يعني إزالته ثوريا الثورية أي إسقاطه، بل "خوض المعارك في نفس الميدان الذي اختارته قوى الرجعية لهزيمتنا" أي البرلمان .
قررت قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في سبتمبر 1963 الدخول إلى البرلمان الناتج عن انتخابات 1963 والغرق في روتينية أعماله. وحسب الراضي أحد برلمانيي الحزب آنذاك: "يقال إن محاولات عدة من جانب الدولة لإقناع الحزب بألا يقاطع برلمانيوه المنتخبون البرلمان قد تكون جرت" .
سهل الحسن الثاني هذه المأمورية بإطلاق سراح النواب البرلمانيين المهدي العلوي والحبيب الفرقاني وعباس القباج وبوشعيب الحريري، وصدر حكم موقوف التنفيذ في حق عبد الرحمن اليوسفي والتحقوا بالفريق البرلماني للاتحاد الوطني في البرلمان.
توجهت الممارسة البرلمانية لفريق للاتحاد الوطني للقوات الشعبية نحو معارضة "حكومة جلالة الملك"، بدل معارضة الملك. أكد هذا عبد الرحيم بوعبيد في لقاء صحفي مع صحيفة لوموند، في 22 نونبر 1963 بعد افتتاح مجلس النواب والمستشارين: "لسنا عازمين على انتهاج معارضة منهجية من أجل المعارضة (...) ولكننا نسعى إلى لفت الانتباه إلى ثلاث سنوات من الحكم المطلق (...) وبيد السلطة الملكية أن تبرز عن طريق الأفعال إرادتها في التحول من النظام الإقطاعي إلى نظام ديمقراطي نسبيا" . إنه نفس الحلم القديم؛ حلم إقناع الملكية تحويل نفسها ديمقراطيا!
يظهر ملتمس رقابة قدمه الحزب ضد حكومة باحنيني والنقاشات التي استثار، روح هذه المعارضة، كما يتبدى جليا في بيان الحزب عقب انتهاء النقاشات: "إننا في هذا اليوم التاريخي نتوجه بنداء إلى الشعب المغربي وإلى جلالة الملك الحسن الثاني ونقول، لنبدأ من استرجاع حماسة الجماهير بتوفير الظروف التي ستمكن منه ومن انضمام الشعب بأجمعه إلى العمل... فلنعلن العفو العام الشامل على جميع المحكومين من أجل القضايا السياسية منذ إعلان الاستقلال حتى يمكننا أن نقول غدا لأبنائنا بكل اعتزاز ونحن ملتفون حول ملك الانبعاث: هو ذا المغرب الذي نسلمكم إياه" .
هل يتعارض سلوك الحزب مع مواقف بن بركة وتوجهاته السياسية، خاصة نص "الاختيار الثوري" ؟ هذا ما ذهب إليه ابراهام السرفاتي وعبد الله الحريف حين أكدا هذا التناقض بين بن بركة و"القيادة الوطنية لحزبه، هذه الأخيرة التي كان يهيمن عليها هذه الفئة من المثقفين المشبعة بالأيديولوجيا التقنوقراطية، والمرتبطة أساسا بالبرجوازية الوطنية... ونعلم أن رئيسهم بل ورمزهم هو عبد الرحيم بوعبيد" .
لكن في الحقيقة لا وجود لهكذا تناقض. أورد بوتان في كتابه حول المهدي بن بركة وديغول والحسن الثاني أن المهدي بن بركة كان يحاط بالمحادثات بين القصر وحزبه وهو خارج المغرب. هذا ما أكده بوتان في مكان آخر: "خلافا لما يتم ادعاؤه، في الصحافة الفرنسية وفي صحافات أخرى، لم يكن هناك أبدا تناقض بين ما كان يجري في جنيف، في فكر المهدي بن بركة، وبين ما كان يقوم به أصدقاؤه السياسيون بالرباط. إذ كانت هناك دائما اتصالات بين قادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بالمغرب والمهدي بن بركة الذي اضطر إلى الاغتراب. وكانت مواقفهم السياسية واضحة تماما: "نشارك في الحكومة، شريطة التوفر على السلطات التي تمكننا من تطبيق برنامجنا السياسي" .
في حوار مع مجلة جون أفريك يعود إلى سنة 1963 أجرته مع بن بركة وبوعبيد يلخصان فحوى اختلافهما مع الحسن الثاني في كون هذا الأخير "يرفض الاضطلاع بالمهمة التي هي مهمته الطبيعية أي مهمة الحَكَم حيث يتعين على الحكم أن يضع نفسه فوق الأحزاب ولكن الذي نشاهده الآن هو أن الحكم تحول إلى رئيس كتلة من المصالح ونعني بذلك الملك" وجوابا على سؤال إمكان وجود حل وسط كان جوابهما؛ "لا يمكن في الظروف الراهنة أن نشارك في الحكم، إلا على أساس تعاقد واضح تحدد بموجبه سلطات كل من الطرفين، ويحدد برنامج العمل. فإذا كانت هناك موافقة على هذه النقاط، تصبح المشاركة في الحكم ممكنة" .
رغم الإحالة على ثورية "اختيار" بن بركة ، إلا أن البرنامج العملي لهذا الاختيار، ليس ثوريا بأي وجه من الوجوه. هكذا لم يجد أحد أفراد الأسرة الحاكمة المدعي معارضة الملكية من أجل مصلحتها من التصريح: "رغم لقبي السلالي، أنا مستعد اليوم أن أوقع دون تحفظ على وثيقة "الاختيار الثوري" التي طرحها سنة 1962 المهدي بن بركة، وهي وثيقة معتدلة، تنادي بإقامة ملكية دستورية حيث الملك هو رمز استمرارية المؤسسات، والحكومة تنبثق من الشعب الذي يمارس السلطة".
يطرح بن بركة في وثيقة "الاختيار الثوري" سؤال ما هو: "الحل الذي نراه صالحا في الظروف الراهنة؟". لا يختلف الجواب عن صيغة التوافق القديمة: "سوف يجد القارئ في تقريري 1962 الشروط التي كنا نعتبرها ضرورية إذ ذاك لتسوية ممكنة مع القصر، على أساس تحقيق ديمقراطية سليمة، وتطبيق إصلاح زراعي جذري... وأن هذه الشروط- التي هي بمثابة التزامات يجب أن يراقب احترامها كل يوم- ما تزال قائمة في الوقت الراهن.. إن مثل هذا البرنامج صالح لكي يكون إطار عمل مشترك مع الهيئات السياسية الأخرى، بل ومع الحكم نفسه".
رغم انتقاد المهدي للأخطاء الثلاثة في وثيقة الاختيار الثوري ومن بينها الخطأ الثاني المتعلق بالإطار المغلق "الذي مرت فيه بعض معاركنا، بمعزل عن مشاركة الجماهير الشعبية"، إلا أنه لم يقطع هو وحزبه مع هذا الأسلوب، سواء في دخول الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مشاورات مع الحسن الثاني بعد انتفاضة 1965، أو في استقبال بنبركة ذاته لوسطاء الحسن الثاني للتفاوض حول إقناع الحزب بعدم مقاطعة الاستفتاء (1962) أو لمناقشة مسألة عودته إلى المغرب (1965).
2- هل كان بن بركة ثوريا؟
هل سعى بن بركة يوما للاستيلاء على الحكم بطرق ثورية؟ إن موقف بن بركة المبدئي واضح جدا، فقد اختار العمل في الشرعية دائما. يظهر موقفه هذا في حوار مع أحد الطلبة المغاربة بعد المحاضرة التي ألقاها في القاهرة بعد زيارة قام بها إلى الهند بداية الستينات. صرح الطالب بأن مشاكل المغرب لا يمكن حلها بالسياسة بل لا بد من عمل مماثل لما قام به محمد بن عبد الكريم الخطابي في جبال الريف، فكان جواب المهدي:
"هناك اليوم تقنيات عديدة تجعل من السهل الاستيلاء بالقوة على السلطة في البلدان المتخلفة ولكن بقدر ما يكون الوصول إلى السلطة عملية سهلة، تظهر صعوبات عديدة ومتعددة وخطيرة بعد الاستيلاء على الحكم... وعلى العكس من ذلك فإن الوصول إلى السلطة بطرق ديمقراطية يساعد على تحمل المسؤولية في شروط مريحة.. ففي ظل النظم الديمقراطية، تكون المهام أسهل من المهام الصعبة التي يواجهها كل من استولى على السلطة بالقوة" .
كانت لدى بن بركة نظرة سطحية للنضال الثوري، مختزلا إياه في محض تقنيات العمل المسلح، وعارضه بالتالي مع "الطرائق الديمقراطية". بينما يكمن الاستيلاء الثوري على السلطة في الفعل الجماهيري الثوري للطبقة العاملة التي تقود كادحي القرى ومفقري المدن. ولا تعني الثورة بالضرورة استعمالا للعنف، بل تقتضي تنظيم الطبقة العاملة لخفض كلفتها الدموية، في حين تبادر الطبقات المالكة لاستعماله حفاظا على سلطتها أو محاولة استعادتها كما برهنت التجربة التاريخية لثورات القرنين 19 و20.
هل يتعارض موقف بن بركة هذا مع علاقته بالجناح المسلح للاتحاد الوطني للقوات الشعبية؟ قد يبدو الأمر كذلك للوهلة الأولى. لكن الصراع المحتدم بين نظام الحسن الثاني والاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان يفتح الأبواب لكل الاحتمالات. لم يكن بن بركة ليهمل احتمال المواجهة المسلحة خاصة أن هذا الموقف كان نافذا داخل الحزب ولم يستطع القادة السياسيون رفضه ومجابهته، كما توضح شهادة إبراهيم أوشلح؛ "من المؤكد أيضا أن هذه الاختيارات لم يكن يتقاسمها الجميع ولم يكن أحد يتجرأ على معارضتها أو إدانتها" .
لم تكن علاقة بن بركة مع الجناح المسلح تعبيرا عن اقتناعه الأكيد بوجاهة هذا الأسلوب، فحسب جيل بيرو: "لا يؤمن [الفقيه البصري]، عكس صديقه بن بركة، بإمكانية تطوير العرش بعد أن تربع الحسن الثاني عليه. وخيار القوة وحده يحسم بين العاهل والشعب، وهو مستعد لأن يعد له الوسائل وليتحمل مسؤولية المجازفة... وفي صيف 1962 عقد لقاء بين الأمين العام التنفيذي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بن بركة وشيخ العرب، "لكنه لم يسفر عن نتيجة. المواقف متباعدة كثيرا بينهما. الأول مستمر في حلمه أو وهمه، بقدرته على تحويل الملك إلى الاتجاه السليم، والآخر يركز كل آماله على الصيغة الوحيدة التي يعرفها: الثورة المسلحة" .
قد تبدو عبارات مثل "لا حل إلا في زوال هذا النظام" الواردة في الاختيار الثوري، بلاغة كلامية راديكالية لها وظيفة الضغط عند القيام بأي عملية تفاوض سياسي. لكن هناك دائما إمكان انفلاتها، كما المهدي بن بنونة: "كان بمقدورها في أي لحظة أن تنقلب إلى ما لا رجعة فيه. وعند هذه اللحظة، يختلط الهدف بالوسيلة فيصبحان شيئا واحدا" . وقد تكلفت الخلايا المسلحة داخل الاتحاد الوطني بهذا المسار.
أشارت شهادة إبراهيم أوشلح إلى هذا المنحى من اعتبار العمل المسلح وسيلة للضغط أكثر منها وسيلة لإسقاط النظام: "إن ما يسمى بالتنظيم السري للحزب، المستعمل بيننا آنذاك كان حقا الذراع العسكري للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ويتكون من أطر ومناضلين مارسوا النضال السياسي في إطار هذا الحزب. وعم إذا كانت قيادة الحزب تريد التغيير الفعلي للنظام أم فقط هي محاولات للضغط عليه تبعا للمقولة الشائعة آنذاك "شي إيبخ وشي إكوي"، لا يمكنني الإجابة" .
ورث بن بركة منظور علاقة العمل المسلح والعمل السياسي هذا، من حزب الاستقلال زمن النضال ضد نظام الحماية. كان الحزب يعتبر عمليات المقاومة المسلحة مجرد ضغط يستعمله السياسيون لغايات يعرفونها؛ أي استعمالها فزاعة أثناء التفاوض مع سلطات الحماية، مع الحرص على عدم انفلاته.
وهو ما وقع فعلا إذ نظم ما يطلق عليه اسم "التنظيم" في حوليات الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، عمليات مسلحة انطلاقا من سنة 1963 انتهاء بفشلها سنة 1973. عمليات جاهد "الجناح السياسي" للتبرؤ منها، فقد تبرأ بوعبيد حسب ما حكاه عبد الواحد الراضي من الشبكات "التي تعمل على تحويل قيادة حزبنا إلى أداة ثورية في إطار البحث عن أساليب أخرى للنضال، أساليب يندفع إليها البعض بكل سذاجة.." .
استمر هذا المنحى سنة 1973، حيث انطلقت آخر عمليات الجناح الثوري المسلحة. يروي إبراهيم أوشلح أنه قصد إبعاد الشبهة عن الاتحاد الوطني جرى إصدار بيان "يحمل اسم "الجبهة الوطنية لتحرير المغرب، صدر من مكناس يوم "3 أبريل 1973". حرر هذا البيان بإيعاز من قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وقد ساهم في تحريره المناضل محمد بن يحيى، وكان هدفه فك الحصار على الحزب ومحاولة وضع فاصل بين العمل المشروع والعمل المسلح، وذلك بإعلان خلق هيكل تنظيمي اسمه "الجبهة الوطنية لتحرير المغرب" منفصلة عن الحزب" .
لكي نفهم موقف بن بركة يجب وضع عمل الجناح المسلح في إطار منظور بن بركة الاستراتيجي ذو الخلفية الطبقية البرجوازية: ضمان الاستقرار السياسي وتفادي ضربات الرجعية (الاستعمارية والعسكرية) والفوضى الشعبية (الثورات والانتفاضات) من أجل تأمين مناخ جيد للاستثمار الرأسمالي وتصنيع البلد وتحديثه.
يجب ألا أن ننسى أن ظهور الجناح المسلح ذاته داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية لم يكن إلا رد فعل على رفض الملكية التوافق وتنفيذ وعد دسترة نفسها، وليس خطا نضاليا متبلورا منذ البداية. كان الفقيه البصري ذاته يشرف على تنظيم احتفالات "ثورة الملك والشعب" التي تقام داخل القصر الملكي. وحسب تصريحات البصري كان بدوره مراهنا "على استعداد القصر لإقامة مؤسسات ديمقراطية ودستورية، وإمكان سلوك الطريق الديمقراطي"، وهو ما سينتقده لاحقا: "مع أن كل تجاربنا السابقة دلت على استحالة هذا الطريق، وتركت لنا طريقا واحدا، هو استمرار الكفاح وتصعيده" .
ليس جديدا في التاريخ أن تفضل المعارضة البرجوازية، لعجزها المطلق أمام قوة الاستبداد، قيام عمليات مثل هذه لتخويف النظام وابتزاز إصلاحات منه. تحدث لينين عن هذه السابقة في روسيا في كتاب "ما العمل" قائلا: "ليس من قبيل المصادفات أن نرى الكثيرين من الليبراليين الروس- الليبراليين البينين أو المقنعين بالماركسية- يحبذون الإرهاب بكل جوارحهم ويسعون لدعم نهوض الميول الإرهابية في الظرف الحاضر".
لم يعدم المغرب نماذج هؤلاء الليبراليين. كتب المهدي بنونة أن عبد الرحيم بوعبيد ذاته كان ينظر بعين الرضى إلى قيام انتفاضة مسلحة يلوح بها في وجه الملكية "من أجل تليين موقف القصر ودفعه إلى القبول باتفاق سياسي" .
تسعى أقسام من البرجوازية المقصية من الحكم دائما إلى استغلال تضحيات الطبقات الكادحة، وقد تغض الطرف في ظروف معينة، عن أشكال نضالها المتطرف أو تستحسنها، لأنها تعرف بأن ثمرة السلطة ستسقط في يدها ما أن يفقدها القسم الحاكم تحت ضربات الكادحين. هذا ما أدركه أحد قيادي الجناح المسلح للاتحاد الوطني للقوات الشعبية محمد بنونة الملقب بـ"محمود" وضمنه في رسالة نقد عنيفة إلى الفقيه البصري بتاريخ 7 غشت 1972: "أما ما نقوم به اليوم نظرا لواقعنا وأساليبنا فليس من الممكن أن نعتبره بداية العمل الثوري ولا حرب التحرير الشعبية.. وإلا فلن يون سوى شعل نار الفتنة وتمكين إحدى الطبقات المستغلة من السيطرة على السلطة" .
اعتبر بن بركة النظام الملكي ضمانة استقرار المغرب، أمر أدركه الحسن الثاني واستغله لابتزاز بن بركة وحزبه سياسيا في مشاورات، ولم تكن غايته منها الوصول لاتفاق. قال الحسن الثاني عن بن بركة في كتاب "ذاكرة ملك": "لقد كان يرى أن النظام الملكي ضروري للحفاظ على نوع من الوحدة لذلك كان يحبذ لو أنه تولى جزء من سلطات واختصاصات هذا النظام مع الإبقاء عليه".
نستحضر هنا شهادة محامي عائلته حول موقفه من النظام الملكي وهي شهادة مثقفة حول هذا الموضوع: "أكان بن بركة من دعاة إقامة جمهورية بالمغرب؟.. قد تكون فكرة إقامة جمهورية بالمغرب غداة الاستقلال خطرت بباله سنة 1951 أو 1952، ولكنه حتما لم يفكر فيها بعد 20 غشت 1953، بعد نفي السلطان، والإجماع الشعبي على ضرورة عودته إلى عرشه. وفي المقابل، سمعته مرارا وتكرارا يثير مسألة الملكية البرلمانية أملا في تحققها. وبما أنه اختار شخصيا طريق القانون والشرعية وليس الكفاح المسلح، فإنه وضع ثقته في السلطان كي يقود البلاد نحو تلك الملكية المنشودة.." .
إن خطاب بن بركة الشعبوي واستخدام مفردات ماركسية لا تفسر لوحدها هذا الانطباع المكون حوله كإنسان ثوري، لكن يفسره أيضا السياق الاجتماعي والسياسي آنذاك. كان بن بركة حسب شهادة موريس بوتان: "يظهر ثوريا بالنسبة إلى البرجوازيين المغاربة والمعمرين وأعضاء الجالية الفرنسية الآخرين المقيمين بالمغرب".. " من هنا تهمة "الماركسي" أو "الشيوعي" التي ألصقها به خصومه" .
كما أن ممارسة الحزب الشيوعي المغربي الغارق في إصلاحية انتخابية، دفعت المناضلين المتمردين إلى جانب أفراد المقاومة المسلحة على البقاء في ظل بن بركة واعتباره ملهمهم الأيديولوجي. تعد تجربة محمد بن عمر الحرش نموذجية في هذا الجانب: "كان رجلا متفردا ومساره بدوره متفرد لا نظير له.. وهو عضو في الحزب الشيوعي المغربي ولهذا أرسله الحزب إلى الفييتنام سنة 1954 بطلب من هوشي منه... عاد.. إلى المغرب في الستينات. ولكن رجل العمل والفعل هذا سرعان ما أحس بالضيق في حزب شيوعي مغربي يتعثر داخل إصلاحوية لا منفذ لها. لم يبذل الفقيه البصري مجهودا كبيرا لإقناعه بالانخراط في مشروعه الثوري.." .
وقع بن بركة في خطأ مميت، نبه إليه كلاوزفيتز، خطأ تقليص الجهد الحربي بمبرر محدودية الأهداف، فيما المطلوب دفع ذلك الجهد إلى حده الأقصى. شرح هذا الخطأ أحد مقدمي كتاب "عن الحرب" قائلا: "إن الغايات المحدودة [لا] تبرر تقليص الجهد، فحتى لو لم نطالب بأكثر من إكراه الخصم على قبول شروطنا يرى كلاوزفيتز أن لا بد من تحطيم قوته وإرادته على المقاومة. لأسباب سياسية واجتماعية، كما لأسباب عسكرية كذلك فإن الطريقة الأفضل لتحقيق النصر هي الطريقة الأقصر، والأكثر مأساوية، ويعني ذلك استخدام كل القوات الممكنة" .
طيلة المجابهة بين الحسن الثاني وبن بركة، كان الأول يظهر ميلا للتوافق في حين كان يسعى لدفع المجابهة حتى نهايتها القصوى، بينما كان بن بركة يظهر تطرفا كلاميا وتصلبا ظاهريا فيما كان هدفه بلوغ "توافق تاريخي" آخر مع الملكية.
انتصر في الصراع الطرف الذي كان حازما وعازما على النصر والفوز بالسلطة كاملة، فهذه الأخيرة لا يمكن تقاسمها. يقول جيل بيرو عن هذا التناظر بني بن بركة والحسن الثاني: "اعتقد بن بركة، حتى لحظة موته، بإمكانية التسوية. أما الحسن الثاني.. فقد فضل.. لعبة السلطة على لعبة المغامرة بكل شيء، بدلا من تقاسمها... الحسن الثاني يكره بن بركة ولا يتمكن من تطويعه؛ وبن بركة يكره الحسن لأنه لا يتوصل إلى إقناعه" .
3- الحدود الطبقية لمعارضة بن بركة
لماذا لم يستطع بن بركة الذهاب بمعارضته للملكية إلى حدود النضال من أجل إسقاطها ثوريا، ما الذي جعل اختياره الثوري مفتقدا لكل أساس ثوري؟ لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون استحضار ما كان يمثله بن بركة ليس سياسيا فحسب، بل طبقيا.
لم تتجسد حدود بن بركة وهزيمته أمام الملكية، في قوة هذه الأخيرة واستقوائها بالاستعمار الخارجي، ولا في مستوى الوعي الشعبي. كان مشكل المهدي بن بركة في الطبقة التي كان يمثل مصالحها التاريخية، أي الطبقة البرجوازية التي كانت عاجزة عن تحقيق مهام التحديث الرأسمالي بطرق ثورية.
فهم بن بركة شروط قدرة البرجوازية على حكم البلد، لكن لم تكن وراءه برجوازية ثورية، بل برجوازية جبانة وخانعة. مهما بلغت جذرية وتقدمية بن بركة لا يمكن له أن يتجاوز الأفق التاريخي، أو الأحرى العجز التاريخي، للطبقة البرجوازية التي كان يمثلها.
كان أطول قامة من كل الساسة البرجوازيين، ولكنه حمل الجينات السياسية لهذا الجنس الطبقي، ولم يستطع التخلص من تشوهاتها الخلقية. وظل يسعى وراء سراب التوافق مع الملكية حتى تخلصت منه هذه الأخيرة، مبرهنة على أن الملوك يفضلون تسليم رؤوسهم لمقصلة الإعدام على تقاسم السلطة، إذا حورنا تعبير الثوري الفرنسي سان جوست، لكن في مفارقة تاريخية جرى "إعدام" المرشح لاحتلال منصب سان جوست المغربي.
وعى بن بركة حدود الطبقة البرجوازية وعجزها، وقد أشار في وثيقة "الاختيار الثوري" لـ"استسلامها المطلق للإقطاع والاستعمار الجديد. ونحن نرى نتيجة لذلك الموقف المتخاذل للمتكلمين باسمها في المسألة الدستورية، مع أن مصلحتها الطبقية كانت تفرض عليها الوقوف في وجه سيطرة القوى الحاكمة، وبذلك حكمت على نفسها بالعبودية والتبعية بدون قيد ولا شرط".
"فمن الخطأ أن ننتظر من هذه الطبقة أن تكون وفية، ولو حتى لمطلبها في تحقيق الديمقراطية، فأحرى أن تتولى مهمة تحقيق التحرر الاقتصادي. ومن هنا يتجلى الدور الجسيم الذي ينتظر الطبقة العاملة لتحمل مسؤولية المعركة الاقتصادية". لذلك سعى بن بركة للاعتماد على القوات الشعبية".
إنه التناقض بين ما يجب أن يكون- وهو ما يعد به بن بركة البرجوازية الناشئة الضعيفة- وما هو كائن- وهو ما كان يقدمه الحسن الثاني لهذه البرجوازية-. كان بن بركة يمثل الطبقة البرجوازية لذاتها، بينما مثل الحسن الثاني هذه الطبقة في ذاتها.
طيلة صراعه مع القصر كان بن بركة أسير مفهومه الخاص حول طبيعة الملكية وأشكال الصراع من أجل تحقيقها، لكن مفاهيمه السياسية هذه كانت بدورها أسيرة الطبقة التي كان يسعى للدفاع عن مصالحها حتى دون رغبتها.
4- برجوازية ضعيفة
بعد أن دعم البرجوازي المغربي حزب الاستقلال لأنه شكل القوة السياسية الجماهيرية القائدة للنضال ضد الحماية، تبدل موقفه بعد الاستقلال وتشكل موازين قوى جديدة تفتح له آفاقا سدها بوجهه نظام الحماية. يشرح واتربوري هذا التبدل قائلا: "لقد أصبحت المواقف أكثر اعتدالا بعد الاستقلال، لأن الرأسمالي المغربي مثله مثل الكثير من الوطنيين يرغب في أن تبقى الأبواب مفتوحة في وجهه أكثر ما يمكن، ولذلك يسعى ليكون على اتصال بجميع التشكيلات السياسية والاقتصادية التي ظهرت منذ سنة 1956. لقد فقد حزب الاستقلال كثيرا من جاذبيته، لأن مهمته انتهت بنهاية الحماية، ولأن الأوروبيين قاموا تدريجيا بتصفية مصالحهم... ظلت شكاوي علال الفاسي مستمرة حول وضعية الحزب المالية، إلا أن الأوساط التجارية بدأت تبتعد عن المنظمات السياسية من غير أن يصل ذلك إلى حد القطيعة" .
وصل رجال الأعمال إلى اقتناع سياسي مفاده أن الاصطفاف في الصراع إلى جانب قوة سياسية ما في وجه الملكية ستكون له عواقب اقتصادية، لذلك استنكفوا سياسيا مقابل الحصول على مكاسب اقتصادية. هذا ما وضحه مصير الاتحاد المغربي للتجارة والصناعة التقليدية الذي تأسس سنة 1956، وكان وثيق الارتباط بحزب الاستقلال، لكن بعد سنة 1962 توقفت المنظمة عن كل نشاط وتلاشت. ولا بأس أن نذكر هنا أن القصر استعمل جميع الوسائل لإشعار رجال الأعمال بأنه يفضل ابتعادهم عن أي نشاط سياسي.
ولم يدخر التعذيب لإرغام رجال الأعمال على الابتعاد عن السياسة، كما في حالة "محمد منصور... رئيس غرفة تجارة الدار البيضاء سابقا، ونائب تلك المدينة، أوقف في مقر الاتحاد الوطني [إبان "مؤامرة" يوليو 1963]، ونقل إل ىالرباط، حيث تعرض للتعذيب... مورس عليه التظاهر بتنفيذ حكم الإعدام. وعلق بين جلستي استجواب بكلاب حديد، وجلد بشدة" .
استعمل القصر كل أساليب الترغيب والتهديد لضمان حياد هذه البرجوازية السياسي، فزاد تحفظها إزاء النشاط السياسي خشية فقد مناصبها الإدارية الهامة إن هي أثارت غضب القصر.
لم ينتصر القصر على الحركة الوطنية بالقمع فقط بل، كما وضح جيل بيرو: "بفضل القمع والفساد المعمم تمكن الحسن الثاني من أن يفرض نفسه كحاكم مطلق" .
يتعدى الأمر المناصب الإدارية، فازدهار هذه الطبقة الاقتصادي مرتبط أيضا بنشاطها الاقتصادي الذي ترعاه الدولة، التي تضاعفت مشاركتها في المشاريع الاقتصادية، وأصبحت مشرفة على كثير من المنشآت، مثل المصارف ومؤسسات القرض ومراقبة الصرف الخ... ولا يمكن إنجاز أي مشروع هام دون مساعدة النظام أو موافقته، لهذا يحرص رجال الأعمال على تأمين حياد الإدارة لضمان نجاح الأعمال.
فتح القصر أفاق الاغتناء السريع أمام البرجوازية التي استبدلت الآمال الغامضة التي يقدمها بن بركة وحزبه، بتقاسم تركة الاستعمار مع غض الطرف عن "تجاوزات" القصر السياسية والاقتصادية. وصف واتربوري مسلك البرجوازية هذا بقول: "اندفعت لكسب الثروة بحماس الأطفال، عندما يوجدون أمام لعبة جديدة... لقد أصبح فقر المرحلة الوطنية، من ذكريات الماضي، بعدما منحت الإدارة إمكانيات واسعة للربح، وبيعت الشركات الفرنسية والضيعات العصرية بأثمان بخسة، وورث المغرب "تجهيزات أساسية"، وبنية تحتية اقتصادية أنشأتها الحماية. لقد بدأت تتشكل برجوازية تجارية وصناعية جديدة، كما بدأت تنمو برجوازية فلاحية متفتحة على أساليب عصرية" .
يـُفَسَّر هذا بطبيعة البرجوازية، أي نوع رأسمالها، وهو ما أدركه بن بركة: "أغلبية المتمولين عندنا لا يملكون إلا بعض الأراضي والبيوت يؤجرونها أو تراهم ينهمكون في التجارة غير المنتجة ولا يهتمون مطلقا بالتصنيع مما يدعو الدولة المغربية إلى تبني مشاريع التصنيع الأولى في البلاد والقيام بها في نطاق واسع" .
رفضت البرجوازية المغربية كل محاولات الدولة دفعها للاستثمار في قطاعات بعيدة المدى، لذلك حاول بن بركة اعتماد مجهود الدولة الاقتصادي لتطوير برجوازية قوية مستقلة، بينما سعى الحسن الثاني- مرحليا حتى حسم مسألة السلطة- لإبقاء وضعها كما هو عليه-، كما أوضح واتربوري: و"من البدهي ألا يفكر الحسن الثاني أبدا بأن يسمح لعلاقات التبعية للبرجوازية أن تعرف ارتخاء، وإلا فما هو الدور المتبقي للملك إذا ظهرت في المغرب طبقة شبيهة بالمالكين الكبار بمصر، أو شبيهة بالبرجوازية الهندية في بداية هذا القرن؟" .
كان هذا هو الأساس الاقتصادي للمسلكيات التي انتقدها بن بركة عند مناضلي الحركة الوطنية بعد الاستقلال. صرح بن بركة بهذا لكاتبه محمد عواد قائلا: "لما تمض بضعة شعور على الاستقلال، صار الحزب ضعيفا بأعضائه المليون، وجلهم هجروا مبادئهم وخانوا مثلهم انتهازا للفرص وسعيا إلى الوجاهة والغنى" .
لم يصطدم بن بركة بجمود الرأسماليين الأفراد ونزعتهم المحافظة، بل أيضا بحذر قسم من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. يحكي موريس بوتان أن الاختيار الثوري الذي كان بمثابة تقرير مقدم للمؤتمر الأول للحزب: "قدم.. أولا إلى السكرتارية العامة للحزب، ولكنه لم يقدم في المؤتمر، رغم أن بن بركة استقبل بحفاوة كبرى عند صعوده إلى المنصة. وأعطيت الأولوية لتقرير عبد الله إبراهيم الذي يحظى بدعم القادة النقابيين. ولم ينشر بن بركة هذا النص إلا بعد ثلاث سنوات بعنوان "الاختيار الثوري بالمغرب"، ليصبح وصيته السياسية".. ويتبين منطق التوافق مع القصر في التقرير الذي قدمه [عبد الله] إبراهيم، فهو في تعرضه للقضايا الاقتصادية والاجتماعية.. ينحو منحى "ثوريا" في نبرته وشكله.. ولكن في خلاصاته يوظف لغة أكثر اعتدالا في تطرقه إلى المشاريع السياسية... هكذا التحق في اليوم الموالي للمؤتمر باللجنة المركزية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية شخصيات معروفة بارتباطها بالقصر، مما كان بردا وسلاما على الحسن الثاني، خاصة وأن بن بركة لم يفلح في تسلم منصب السكرتير العام للحزب حيث آل إلى عبد الله إبراهيم ورفاقه" .
4- الخوف من الجماهير
يفسر سلوك بن بركة وحزبه هذا، أي مصارعة الملكية دون سعي لإسقاطها، بالخوف الغريزي المتأصل في أي برجوازي مهما بلغت راديكاليته، من حركة الجماهير القادمة من أسفل. لذا عمل بن بركة على تأطير الطبقة العاملة داخل حزب متعدد الطبقات مرسخا على هذا النحو هيمنة أيدولوجية برجوازية على الطبقة العاملة لا زالت مستمرة.
إنه حذر وخوف موروثان عن الحركة الوطنية منذ نضالها ضد الحماية، حيث كانت تسعى دائما إلى الحد من المبادرات الشعبية القادمة من أسفل، فقد خاف قادة حزب الاستقلال من الحركة التي استثارتها عريضة المطالبة بالاستقلال. يروي ألبير عياش أن قادة الحزب سارعوا إلى طمأنة سلطات الحماية وصرحوا: "لم يكن هدفنا إثارة وإطلاق حركة عصيان داخل البلاد، يمكن أن يكون من نتائجها عرقلة جهود الحلفاء في الحرب التي يجب أن يقوم بها كل واحد" .
ارتعب حزب الاستقلال من صعود النضال العمالي في عهد الحماية لذلك سعى إلى تأطيره سياسيا لخدمة مصالح البرجوازية. أوضح الحزب منظوره للطبقة التي ستقوم بالتغيير كالآتي: "التغيير لا يمكن أن يكون إلا ثمرة "الخاصة".. إذا كان ثمرة "العامة" سيشكل خطرا على عقلية البلد وثقافته وتقاليده وأفضل تراثه… التغيير سيأتي لا محالة من الأعلى أو من الأسفل، أي من "العامة"، وإذا أتى من الأسفل سيكون كارثة ستقضي على كل كنوز البلاد، ولن تترك إلا الأشياء القبيحة" .
تجلى هذا الخوف في الموقف من انتفاضة 23 مارس 1965 الشعبية في الدار البيضاء. وصف موريس بوتان مشاعر الأحزاب والنظام أمام عنف الانتفاضة الشعبية: "وفي الواقع، يمكنني أن أؤكد، من موقع المراقب عن كثب لتطور الأحداث، ومما سمعته من معارفي، أن الجميع أحس بالخوف الشديد في تلك الفترة، انطلاقا من أدنى قيادي حزبي، صعودا إلى أعلى سلطة في البلد. أهي الثورة الشعبية قد شقت طريقها؟" .
وهو نفس ما وصف به واتربوري موقف الأحزاب من هذه الانتفاضة: "لقد باغتت الأحداث مجموع الطبقة القيادية، ولا شك أنه للمرة الأولى منذ الاستقلال، لمست النخب نتائج عدد من الظواهر التي كانت تتصورها من قبل بطريقة مجردة" . وتحدث جيل بيرو عن استنكار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للانتفاضة بعد إلقاء الملك مسؤوليتها على الأحزاب: "أثارت مهاجمة الملك الأخيرة استغراب الأحزاب والنقابات التي فوجئت بالأحداث مثلما فوجئ بها القصر. فأسرع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية باستنكار الفتنة" .
صرح عبد الرحيم بوعبيد أن أحداث 23 مارس خلفت "أثرا عميقا"، وأعاد تكرار مطلب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كرسالة طمأنة إلى الملكية التي رفع المنتفضون في وجهها شعار "ليسقط السفاح": "إننا نتمنى أن نخدم بلادنا في إطار الملكية التقليدية التي للملك فيها دور عظيم، ولكن بحكومة مسؤولة" .
لندع أحد مثقفي البرجوازية وتلميذ بن بركة، محمد عابد الجابري محرر في جريدة الاتحاد الوطني آنذاك "التحرير"، يصف تجربته المريرة مع منتفضي مارس 1965: "أثناء المظاهرات التي استمرت أياما تفقدت المدرسة بصحبة زوجتي. وعندما كنا في شارع الناظور بحي بولو استوقفنا حاجز من الحجارة ونحن على السيارة. فإذا بجماعة من الأطفال لا تتجاوز أعمارهم العاشرة تتقدم إلينا فصاح فينا أحدهم: "لن تمروا حتى تقولوا: يسقط..."! فإذا لم تقولوها حطمنا السيارة بالحجارة وأنتما عليها! خضعنا لأمر التلاميذ الصغار. فمررنا والتحقنا بمنزلنا بسلام" .
ارتعب السياسي البرجوازي من "أطفال لا تتجاوز أعمارهم العاشرة"، أكثر من خوفه من ملكية بكامل أسلحتها، بكل بساطة لأن الملكية تحميه وتحمي طبقته من هؤلاء أطفال الحجارة هؤلاء.
إنه الرعب من الحركات القادمة من أسفل التي لا تؤمن بشيء اسمه التوافق مع الحاكم، بل كل ما تريد هو "ليسقط..!". يخاف الساسة البرجوازيون أن يصبحوا أدوات في يد هذه الحركات، لذلك فضل هذا "الشاهد" أن يجاري الشعور الشعبي لينجو بجلده، وينتظر ما ستسفر عنه المساومات داخل القصر مع الحكم الفردي.
أمام عنف الانتفاضة الشعبية راود بال أكثر البرجوازيين تقدمية آنذاك ما صرخ به أحد الليبراليين الروس، صرخة نقلها ليون تروتسكي في كتابه القيم "تاريخ الثورة الروسية": "مهما كنا فنحن لا نستطيع أن نحلم باندماج الشعب فحسب، بل علينا أيضا أن نخشاه أكثر من كل عمليات الإعدام التي تقوم بها الحكومة، وأن نقدس هذه السلطة التي تحمينا لوحدها، بحرابها وسجونها، وتنقذنا من الجنون الشعبي".
ماذا كان موقف بن بركة من الانتفاضة؟ يقيم السرفاتي والحريف في كتابهما الصادر سنة 1987 بتوقيع مجدي مجيد تعارضا بين موقف بن بركة وباقي قيادة حزبه، بقول: "وحده المهدي بن بركة، الذي كان في المنفى... كان آنذاك القائد الوطني القادر على مهمة بهذا الحجم" ، أي مهمة فرض تراجع النظام أمام المد الشعبي. والحقيقة لا وجود لتعارض من هذا القبيل.
يورد بوتان موقف بن بركة من الأحداث قائلا: "كيف قيم المهدي بن بركة الوضعية [بعد انتفاضة 23 مارس 1956]؟ وما موقفه من الخطاب الملكي في 29 مارس؟ لنستمع إليه يقول في هذا الصدد: "تجاوز الملك كل الحدود المعقولة..". ورغم الانتقادات الشديدة التي يوجهها المهدي بن بركة للنظام.. فإنه ظل مقتنعا، كما كان سنة 1962، أن "الشروط التي كانت حينها ضرورية للوصول إلى تراض [مع الملكية].. ما زالت صالحة اليوم" .
صرح بن بركة، في حوار لجريدة الأهرام المصرية بعد الانتفاضة، قائلا: ""إن الملك، إلى هذه اللحظة، أمل المغرب في تجنب حرب أهلية" .
على غرار بوعبيد الذي التقى بالحسن الثاني، التقى المهدي بن بركة يوم 25 أبريل 1965 ابن عم الملك وصهره، وسفير المغرب في باريس. دخل بن بركة في مساومات، حدث عنها جيل بيرو: "نقل مولاي علي رسالة الحين الثاني إلى أستاذه السابق معلم الرياضيات: "لدي معادلة رياضية تتطلب الحل في المغرب". فطرح بن بركة على الفور موضوع الجيش: هل سيرضى انفتاحا على اليسار؟ أكد مولاي علي أن الجيش ليس مشكلة. في أساس، أظهر بن بركة، كعادته دائما، استعداده لتحمل مسؤولياته. اقترح حكومة اتحاد وطني للقوات الشعبية، تضم شخصيات مستقلة يختارها الملك، وعقدا لمدة سنتين يتضمن إصلاحات جذرية، وخاصة إصلاحا زراعيا" .
الخوف من الجماهير، دفع بن بركة بدوره لقبول ما أسماه "عروض الملك الإيجابية جدا". نقل جيل بيرو ما قاله بن بركة يوم اختطافه بالذات: "في 29 أكتوبر 1965، وفي باريس أسر المهدي بن بركة، متفائلا رغم كل شيء، للطالب تهامي الأزموي: "توجد عروض من الملك إيجابية. من الممكن أن نشترك في حكومة تضم قوى سياسية أخرى، واعتقد أن في هذا خير للبلاد، لأن المعارضة المطلقة ليست في الأساس، أمرا جيدا جدا. يجب، من وقت لآخر، معرفة كيف نكون إيجابيين ومتعاونين. واعتقد أن البلاد، في الأوضاع الحالية، بحاجة إلينا، لأجل هذا أنا أفكر بالعودة إلى المغرب"" .
استغل الحسن الثاني هذا الرعب الذي اعترى البرجوازية وممثليها السياسيين بما فيهم أكثرهم صلابة، فحاول من جانبه البحث عن مخرج سياسي بالانفتاح على الأحزاب.
اتجه أولا نحو الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أكثر الأحزاب "معارضة" لسياسته، هكذا استقبل لأول مرة منذ 1 ماي 1960، عبد الرحيم بوعبيد وعبد الرحمان اليوسفي، وكان المهدي يحاطُ بتفاصيل المحادثات.
انبعث رعب البرجوازية من نضال الجماهير وكل حركات التغيير القادمة من أسفل إبان السيرورات الثورية التي عرفتها المنطقة انطلاقا من سنة 2011، حيث سارعت أحزابها لتأكيد دور الملكية في استقرار البلد، والقبول بتنازلات الملكية السياسية والاقتصادية مقابل تجنيبها مصير الأنظمة الأخرى بالمنطقة.
كما تبدى رعب البرجوازية إزاء الانتفاضة الريفية 2017، فهب ممثلوها السياسيون ومثقفوها إلى استنكار صعود قوة جماهيرية مستقلة، وطالب بعضهم بفش الاحتقان بالمعهود من وسائل الخداع، بينما حث الآخرون الملكية على عدم التسامح مع المنتفضين وضربهم بيد من حديد.
يطرح العديد من المهتمين تساؤلا حول موقف بن بركة لو كان محل عبد الرحمن اليوسفي حينما دعاه الحسن الثاني لتشكيل حكومة التناوب. ويجيبون بأن بن بركة كان سيرفض. طبعا ليس التنبؤ بأفعال الأموات مهمتنا. لكن هناك خيط ناظم بين سياسة بن بركة وسياسة ورثته، وهو السعي للتوافق مع الملكية حفاظا على الاستقرار. وهو ما دفع بن بركة إلى قبول دعوة الحسن الثاني العودة إلى المغرب، وسيبرر اليوسفي قبوله دعوة الحسن الثاني تشكيل الحكومة بهذه السابقة.
1- انتهازية بن بركة وانتهازية ورثته
هل كان بن بركة محض انتهازي على شاكلة ورثته الاتحاديين؟ يصعب الجواب على السؤال بنعم أو بلا. فبن بركة كان يدافع باقتناع راسخ وأكيد عما يراه صالحا وضروريا لنمو الطبقة البرجوازية. كان يدرك جيدا تطلعات هذه الأخيرة ولكن يدرك أيضا جبنها وعجزها عن دعمه في صراعه ضد الملكية، ومن ثمة سعيه إلى التوافق.
حاول بن بركة بلوغ توافق مع الملكية دون تنازل مهين: "لا نطلب الرحمة، كما يريد الحسن الثاني" . إنه الجانب الذي يكرهه الحسن الثاني من شخصية بنبركة.
سعى بن بركة إلى المشاركة في الحكم ندا للحسن الثاني، يروي عبد الواحد الراضي أن بن بركة قاله له، أثناء الإعداد لانتخابات 1963 التشريعية: "لقد اتصل بنا الملك، وعبر عن رغبته في أن نلتف حوله. وأضاف بأن جوابنا كان هو "أننا ينبغي أن نحكم معه لا أن نلتف حوله. لا نريد أن نكون في المحيط بل في المركز" .
لقد كانت انتهازية بن بركة انتهازية طبقية، تضع نصب عينيها توفير الشروط الاقتصادية والسياسية اعتمادا على جهاز الدولة بتعاون مع الملكية، قصد إنماء طبقة برجوازية ستصبح بعد حين - حسب اعتقاده- قادرة على حكم بلد حديث ومستقل، ولا علاقة لها بالانتهازية الفردية الوصولية لورثة حزبه الحاليين.
أعرض بن بركة عن المصالح الشخصية وصارع للدفاع عن منظوراته لتطوير البلد، وقد أشار هو ذاته إلى إعراضه عن هذه المسلكيات: "أما أنا، ولله الحمد، فقد أعرضت عن النعم التي عرضت علي لأكرس نفسي "حارسا للدار". فلئن كان لي أن أفخر بصفة حميدة لافتخرت بالقناعة. لقد صار الإثراء اليوم أمرا ميسورا في المغرب: يكفي أن تحني الرأس وتمد اليد. أما أنا فمتشبع بحكمتنا الشعبية التي تقول أن الفم الممتلئ طعاما لا يستطيع الكلام. أنا حريص على التعبير عما أنوي التعبير عنه دون قيود وعلى السير مرفوع الرأس" .
لكن يجب ألا ننسى أنها انتهازية أخطر لانخداع الجماهير المندفعة للنضال بها. فهي تتلون بألوان المبدئية الشخصية ولكنها مستعدة للتضحية بالمبادئ مقابل مكاسب سياسية آنية، كما هو شأن كل ما ذكرناه أعلاه.
يجب ألا ننسى أن ورثته المقبلين على "حكومة التناوب" برروا استسلامهم التام للملكية بسلوكه السياسي ذاته حينما قبل مد اليد للملك قبل اختطافه. فقد صرح عبد الرحمن اليوسفي قائلا: "كان بركة ثوريا حقيقيا، لكنه رجل سياسي واقعي أيضا، فقد كان مستعدا لتأليف حكومة مع رجال الملك. وكنت أعرف أن الملك كان سيرسل إليه ابن عمه مولاي على إلى فرانكفورت لجس نبضه" .
2- اختفاء دون احتجاج
لم يثر اختطاف المهدي بن بركة أي احتجاج في مستوى حجم الرجل السياسي، وهو ما أثار امتعاض أحد تلاميذه، عبد الواحد الراضي الذي قال: "لعل الألم الأعمق الذي بقيت مرارته في فمي، لفترة طويلة، أن اختطاف واغتيال المهدي لم يجعل الشارع يبدي رد فعل حقيقي في مستوى الحدث المفجع، وبما كان المهدي جديرا به" .
لم يخلف الاختطاف أي ردود أفعال يعتد بها، عكس اغتيال فرحات حشاد سنة 1952 الذي فجر مظاهرات بالدار البيضاء ومدن أخرى بالمغرب. هذا ما أقر به موريس بوتان، وفسره بقول: "إن القمع العنيف في صيف 1963، والاغتيالات التي وقعت في أعقاب أحداث الدار البيضاء، خلفت أثرا لا يمحى... دع أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تتوزعه ثلاثة تيارات: اليسار المتطرف مع الفقيه البصري وعمر بن جلون؛ والمعتدلون وعلى رأسهم بوعبيد وعبد اللطيف بنجلون...؛ و"النقابيون" يتقدمهم عبد الله إبراهيم ومحجوب بن الصديق... وفي ظل هذه الشروط، لم يكن الحزب عازما على القيام بأي تحركات ذات شأن، ما عدا إصدار بيانات الإدانة.." .
ارتد صنيع بن بركة على اختطافه، فلا الجماهير التي سخرت لعودة الملك وتقديسه، ولا النقابة التي زكى بيروقراطيتها ولا حتى حزبه الذي اختار طريق البحث عن توافق تاريخي مستحيل، هبوا للاحتجاج ضد اختطافه.
3- ورثة بن بركة وتبرئة الجلاد
بعد نصف قرن من اختطافه وطمس حقيقة مصيره، يصر ورثته المستسلمون للملكية على تبرئتها مرددين حجة الحسن الثاني أن "القضية هي قضية فرنسية محضة". صرح بهذا عبد الواحد الراضي بقول: "صحيح، هناك مغاربة متورطون وفاعلون. ولكن الملف يبقى فرنسيا بامتياز" .
يستمر عبد الواحد الراضي في خدمة النظام الملكي بتأكيد أقوال الحسن الثاني الذي خاطبه: "صدقني، لا يد لي في ذلك"، ويضيف الراضي أن "المهدي بن بركة، اختطف وعذب وقتل بسبب هذه الفاشية [الأوفقيرية]" .
لم يقم الراضي إلا بتكرار ما قام به زعيم الليبراليين المغاربة قبله عبد الرحيم بوعبيد حسب شهادة محمد عابد الجابري: "ذكر لنا المرحوم عبد الرحيم بوعبيد أنه أثناء استقبال جلالة المرحوم الحسن الثاني له، في مناسبة من المناسبات، تعمد جلالته أن يجر الحديث نحو قضية المهدي وأنه قال له: "لقد كنا نتوقع أن يصلنا المهدي حيا، غير أن الأقدار شاءت أن يسلم لنا ميتا(!!)".. فهمت حينذاك السبب الذي جعل المرحوم عبد الرحيم بوعبيد "يتراخى" (أعني يتساهل وينسى) فيما كان قد صرح به من قبل: "بيني وبين الحكم جثة المهدي" .
كيف لا نتذكر هنا التوصيف الرائع الذي كتبه لينين عن الليبرالي: "حين يُشتم الليبرالي يهتف: حمداً لله، لم يضربوني. وحين يتعرض للضرب يشكر العناية الإلهية لأنه لم يُقتل. وحين يُقتل يشكر السماء لأنها حررت روحه من جسد زائل" .
لم يكلف عبد الرحمان اليوسفي نفسه إلا هذا التصريح في 4 غشت 2001 وهو على رأس "حكومة التناوب": "قضية بن بركة تجعل الشكوك تحوم حول ضلوع العديد من الدول، ولا يمكن أن يلحقها التقادم. ويبقى من الضروري أن تتحدد مسؤوليات كل الأطراف، بما فيها مسؤولية الدولة المغربية". يعلق موريس بوتان على هذا التصريح: "ولكنه لم يذهب أبعد من ذلك" .
لم تتجاوز هيأة الإنصاف والمصالحة التي أخرجها النظام لتسوية ماضي جرائمه توصية يتيمة، في تقريرها الختامي، لم تشر إلى مسؤولية الملكية في الجريمة بل اقتصرت على اتهام "أجهزتها الأمنية": "استنادا على المعطيات التي قامت الهيأة بتحليلها ودراستها، فإنها ترى أن الدولة المغربية تقع عليها مسؤولية المساهمة في الكشف عن الحقيقة في ملف المهدي بن بركة باعتبارها طرفا معنيا بالقضية، بحكم تورط أحد أجهزتها الأمنية في الأمر. كما أنه ينبغي عليها طبقا لالتزاماتها في إطار التعاون القضائي أن تعمل على تسهيل كل الجهود المبذولة في مجال الإنابات القضائية في أفق الكشف عن حقيقة ما جرى. وتوصي الهيأة باستكمال البحث للمساهمة في الكشف عن مصير الفقيد" .
لن يستطيع كشف الحقيقة ونفض الغبار عن ملف المهدي بن بركة إلا ثورة شعبية، ثورة تكنس النظام الاقتصادي الذي يخاف ورثة بن بركة على استقراره.
ما مغزى حياة بن بركة السياسية؟ انخرط في حركة وطنية سعت للاعتماد على رمزية السلطان من أجل تعبئة الشعب ضد الحماية. وبعد الحصول على "الاستقلال" حاول الحفاظ على هذا التوافق قصد تحديث البلاد وتحييد مناورات الاستعمار الجديد وحلفائه في الداخل. قدم بن بركة تنازلات مبدئية وسياسية كبيرة توقا إلى هذا التوافق على ملكية دستورية وعد بها محمد الخامس.
تبددت هذه الأوهام مجبرة بن بركة على تغيير التكتيك ضمن نفس الاستراتيجية، أي الضغط من أجل تطويع الملكية وإجبارها على قبول ما لم ترد منحه طوعا: التوافق حول ملكية دستورية. وقد أدى ثمن سعيه الواهم وراء هذا التوافق حياته وتفكيك حزبه.
إن ما يهم ثوريي المغرب، في حياة بن بركة السياسية، هو استخلاص الدروس. بعد اغتياله، أسس رفيقه بوعبيد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بعد أن خلصه النظام من جناحي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ النقابي (بإفساده بالامتيازات) والثوري (باجتثاثه بالقمع). وتحول التوافق مع الملكية بشروط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إلى توافق مع الملكية بشروطها.
لا زالت مسائل النضال التي حاول بن بركة الإجابة عليها، عالقة تستدعي إجابات مغايرة كليا لما سار عليه بن بركة: الموقف من الدولة، استعمال الانتخابات ومؤسسة البرلمان، العمل النقابي، طبيعة الحزب المطلوب بناءه، الاشتراكية... الخ.
لم تعد المهام هي نفسها في تفاصيلها كما كانت في مطلع الاستقلال، أي انتشال المغرب من وضعية بلد قروي (80% من سكان المغرب) معتمد على فلاحة متخلفة وقطاع فلاحي وصناعي عصريين في يد الرأسمال الاستعماري... الخ. لكن الجذور الهيكلية لتخلف الاقتصاد المغربي لا تزال قائمة وهي موروثة عن الانتقال من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الجديد.
تبعية اقتصادية واتفاقيات استعمار جديد (اتفاقيات شراكة وتبادل حر)، ورهن اقتصاد البلد للرأسمال الأجنبي، واستنزاف الديون الخارجية لموارد البلد المالية...الخ، كلها عوائق النمو الاقتصادي المستقل. وهي قيود ترعى الملكية إحكامها بتعاون مع أحزاب البرجوازية وضمنها ورثة بن بركة وبيروقراطيات نقابية متربعة على عروش الفساد ونهب أموال العمال.
راهن بن بركة على دولة تعد القاعدة المادية لاقتصاد رأسمالي عصري اعتمادا على موارد البلد الطبيعية وقواه البشرية، لضمان استقلال القرار الاقتصادي عن الدوائر الاستعمارية. لكن الملكية فضلت طريقا آخر: اقتصاد تابع قائم على القطاع الفلاحي وممول بالديون الخارجية.
سعى بن بركة لتحميل كلفة تحديث البلد "للإقطاعية" والمصالح الاستعمارية، لكن الملكية غلَّبت تحميلها للشعب، لأن استمرارها في وجه حزب وطني معتد بنفسه رهين بتحالفها مع "الإقطاعيين" والاستعمار.
انتصرت الملكية بسبب ضعف الحركة الوطنية وارتعابها من النضال الجماهيري، إضافة إلى قمع معارضيها بشراسة. لكن وهي تقمع الممثلين السياسيين للبرجوازية وتنفيهم وتغتالهم، قامت بإعداد الأرضية المادية لتقوية البرجوازية اقتصاديا، من خلال بناء قطاع عام ستجري خوصصته فيما بعد.
لا تنسى الملكية- وهي حارسة الدار- أن تقتطع لنفسها النصيب الأكبر من حلوى الاقتصاد. هذا هو الأساس الاقتصادي لظهور معارضة برجوازية ليبرالية تعبر عن استياء أقسام من الطبقة البرجوازية من دور الملكية الاقتصادي.
يمثل مشروع اليسار الليبرالي (أحزاب فيدرالية اليسار اليوم) تعبيرا سياسيا عن هذه الأقسام، يسار يلاحق التوافق مع الملكية. يحاول هذا اليسار بلوغ التوافق في شروط أقل مواتاة نظيرها لدى بن بركة.
يغري هذا المنظور من يستيقظ لتوه من الخمول السياسي، ويسعى لنيل المطالب عن طريق أوهام الإصلاح والتوافق. ودور اليسار الثوري هو محاربة هذه الأوهام حربا لا هوادة فيها، وإلا سيعيد المناضلون سيرة بن بركة، على شكل مسخرة لا مأساة.
كانت قسم من البرجوازية المغربية، مطلع الاستقلال، امتدادا للبرجوازية التجارية لما قبل الاستعمار، وقسم آخر نتاج زرع الرأسمالية من طرف نظام الحماية. خلفت البرجوازية المغربية هذه الصفات ورائها، فالملكية وأعيان القرى تبرجزوا وأصبحوا قسما من هذه الطبقة ذاتها التي اغتنت بنهب موارد الدولة وخوصصة القطاع العام والاستيلاء على الأراضي المستعادة من الاستعمار.
لكن البرجوازية لا زالت مرتاحة تحت مظلة الاستبداد السياسي ولا تسعى لاستبدالها. يعود هذا جزئيا إلى احتفاظ البرجوازية المغربية، رغم تطورها المشار إليه، بالسمات الهيكلية لبرجوازية تابعة. سمات تمنعها من تحقيق مهمة تصنيع البلد، ما تشهد عليه مؤسسة استعمارية كالبنك الدولي: "تعزى تحديات التصنيع في المغرب جزئيا إلى أن رجال العمال المغاربة يعتقدون، في إطار نظام التحفيزات الحالي، أن قطاع الصناعة ليس بمربح بما فيه الكفاية. تظل مشاركة الرأسمال المحلي محدودة، حتى في القطاعات الأكثر حيوية مثل صناعة السيارات والطيران، ويعول النمو على فاعلين أجانب... فبدلا من تطوير القيمة الصناعية والابتكار، يفضل العديد من المستثمرين المغاربة تكريس طاقاتهم بعقلانية للبحث عن فرص لتحقيق أرباح سريعة مرتبطة بحالات الريع" .
يرجع هذا العجز أيضا إلى افتقاد البرجوازية، رغم معارضتها بعض أوجه الانفراد بالحكم، للقوة القادرة على مجابهته. تدرك برجوازية المغرب عجزها عن فرض مطالبها على الملكية إلا اعتماد على طاقة النضال الشعبي، لكنها لن تلعب بنار هذا النضال لوعيها أنه لن يقف في حدود انتزاع تنازلات دستورية واقتصادية من الملكية. لذلك تفضل المساومات وانتظار الفرص لابتزازها.
يعترف البنك الدولي ذاته عن صعوبة رفع يد الملكية عن الاقتصاد، لذلك يطالب، وهو يشير إلى صعوبة "تغيير قواعد اللعبة"، بـ"إخبار الفاعلين (المقاولات والأسر المعيشية والمواطنين، الخ) عن أسباب وتداعيات السياسات العمومية المتبعة.. ومناقشة قواعد اللعبة القائمة"، مؤكدا أن هذا "يمكن أن يساعد في تغيير التوازن بين مختلف مكونات المجتمع" .
وعلى غرار أحزاب المعارضة التاريخية التي أعلنت استسلامها التام أمام الملكية، يطالب البنك الدولي بـ"التنفيذ السريع والكامل لروح ومبادئ دستور عام 2011". ويعول على أن "التنفيذ العاجل والكامل لاتفاقية التبادل الحر المعمق والشامل الطموحة مع الاتحاد الأوروبي" من شأنه "تغيير قواعد اللعبة".
إن أي إجراء تقدمي يطور قوى الإنتاج الرأسمالي يطابق مصلحة برجوازية البلدان التابعة. لكن أي نضال من أجل هكذا إجراء، يستدعي الاعتماد على النضال الشعبي لا سيما العمالي. وتطرح المعضلة على شكل سؤال: "هل يمكن لبرجوازية مالكة لوسائل الإنتاج وطبقة عاملة محرومة منها أن يتفقا مرحليا على إنجاز تلك المهام؟". أجابت التجربة العملية والتاريخية سلبا أو إيجابا على هذا السؤال بناء على درجة استقلالية الطبقة العاملة ومبادرة تنظيماتها.
نهوض الطبقة العاملة وبناء حزبها المستقل واستئثارها بقيادة نضال كادحي المغرب، هي الشروط التي لا غنى عنها لانتصار النضال ضد الاستبداد، وذلك بإدراجه في برنامج نضال معاد للرأسمالية.
تعترض صعوبات عديدة هذا المنظور، منها إرث بن بركة ذاته. بعد اختفائه استحال إرثه السياسي اتجاهات متنافرة، تغذى منها أغلب الجسم المنتسب إلى اليسار بالمغرب، الجذري منه والليبرالي. لا زالت أفكاره تهيمن على النضال من أجل الديمقراطية والتنمية الاقتصادية، سواء في استحضار استشهاده، أو المطالب التي رفعها، أو أساليب النضال من أجلها.
لم يسجل تاريخ المغرب السياسي حزبا أو حركة بنت برنامجها السياسي على منظور معاد للرأسمالية. كل الأحزاب ابتداء بالحزب الشيوعي المغرب والاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحتى تنظيمات اليسار الماركسي اللينيني في السبعينات، كانت تحد أفقها بما عرف بـ"الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية". ثورة لا تروم الاشتراكية، بل إنماء قوى الإنتاج بما يسمح للرأسمالية بالتطور. هذا منظور مستوحى من تشويه ستاليني للماركسية يفرض على البلدان المتخلفة ترسيمة نظرية لا علاقة لها بالواقع الحي بعلاقات القوى الطبقية قوميا وعالميا.
لا زال تقييم بن بركة للبرجوازية في وثيقة "الاختيار الثوري" محتفظا براهنيته: "فمن الخطأ أن ننتظر من هذه الطبقة أن تكون وفية، حتى لمطلبها في تحقيق الديمقراطية، فأحرى أن تتولى مهمة تحقيق التحرر الاقتصادي. ومن هنا يتجلى الدور الجسيم الذي ينتظر الطبقة العاملة لتحمل مسؤولية المعركة الاقتصادية".
لن يقوم بمهمة تصنيع البلد وانعتاقه من قيود التبعية الإمبريالية إلا الطبقة الثورية حتى النهاية في المجتمع، أي الطبقة العاملة. فالثورة الاشتراكية، ليس في المغرب فقط، ستصطدم في طريقها بمهام لم تستطع البرجوازية حلها (الحرية السياسية، تصنيع البلد وتحديثه، المسألة الفلاحية، المسألة القومية والنسوية... الخ)، وستتراكب المهام الديمقراطية مع مهام استيلاء الطبقة العاملة على السلطة السياسية في سيرورة دائمة تنتهي ببناء المجتمع الاشتراكي، ليس على أرضية قومية بل عالمية.
قد يعترض الانطباعيون- وأغلبهم ليبراليون وحطام يسار- على هذا المنظور، ولكن فليعترضوا ما شاؤوا، فالتاريخ لم يمنح البشرية في عهد الرأسمالية إلا الطبقة العاملة لتقوم بهذه المهام. ولا يجب على الأجيال الملتحقة بالنضال أن تنخدع بوضعها الحالي بعد انهيار بيروقراطية الشرق وأزمة اليسار العالمي. بل يجب أن تعتبر ذلك تحديات يجب على طريق إيقاظ هذه الطبقة إلى النضال.
تكمن أولى المهام في تفادي مزالق بن بركة السياسية، وعلى رأس هذه المهام فك الارتباط السياسي بين الطبقة العاملة وتنظيماتها مع كل التعبيرات السياسية البرجوازية (يمينها ويسارها)، وبناء حزبها السياسي الثوري ونقاباتها المكافحة.
استمرت أطياف اليسار المغربي تنظر إلى بن بركة كما لم يكن ولم يدعه يوما، سواء بأقواله أو أفعاله. وهذا ما يستدعي مراجعة حاولنا أن نقوم بها في هذا النص. يحدونا أمل كبير أن نكون منصفين في ما لم يستطع غيرنا.
"المهدي بن بركة، مرجع الحداثة"، فتح الله ولعلو، مساهمة ضمن كتاب "المهدي بن بركة" أعده عبد اللطيف جبرو، الطبعة الثانية، 2007، مطبعة الأحداث المغربية الدار البيضاء.
- جبرو، نفسه.. ص 5.
- "الحركة النقابية المغربية، مغربة الحركة 1943/ 1948"، ألبير عياش، الجزء الثاني، دار الخطابي، ص 67- 68].
- تصريح عبد الرحيم الماضي عضو الوفد، أورده محمد جنبوبي، في "من التاريخ السياسية للمغرب المعاصر، تاريخ حزب أم حزب من التاريخ"، الطبعة الأولى، مطبعة دار القرويين- الدار البيضاء، ص 39.
- أورده عبد اللطيف جبرو في "عبد الرحيم بوعبيد، سيادة الوطن وكرامة المواطن"، الجزء الأول (1941- 1961)، عبد اللطيف جبرو، الطبعة الأولى 1993، ص 146].
- "الخبايا السرية لإكس ليبان"، مذكرات إدغار فور، ترجمة محمد العفراني، دفاتر وجهة نظر 2، مطبعة النجاح الجديدة، 63- 64.
- "مواقف، إضاءات وشهادات"، محمد عابد الجابري، العدد 3، الطبعة الأولى مايو 2002، ص 29.
- "الجزائر 1954- 1962، جبهة التحرير الوطني، الأسطورة والواقع"، محمد حربي، ترجمة كميل قيصر داغر، الطبعة العربية الأولى، دار الكلمة للنشر، ص 178.
- "أكتوبر 1917-2017. الشيوعية في حالة حركة"، كاترين سماري، موقع جريدة المناضل-ة، 3 أبريل 2017.
- مقال "تحقيق وحدة المغرب العربي، يستلزم وعيا شعبيا منظما" فاتح ماي 1959، ضمن كتاب ع. اللطيف جبرو، 2007، ص165.
- صديقنا الملك، مرجع مذكور، ص 77
- "الحسن الثاني.. ديغول.. بن بركة.. ما أعرفه عنهم"؛ موريس بوتان، دفاتر وجهة نظر ع 29، الطبعة الأولى 2014، ص 178.
- ع. اللطيف جبرو، 2007، مرجع مذكور، ص 62.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 175.
- تقرير قدمه بن بركة في مؤتمر منظمة التضامن الإفريقي الأسيوي بطانزانيا يناير 1963، أورده الجابري في " مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 7، الطبعة الأولى شتنبر 2002، ص 73.
- "1964: الأزمة التركيبية للاقتصاد المغربي ومقتضيات تطور اقتصادي سريع"، عزيز، نشر بموقع جريدة المناضل-ة، 10 يناير 2015.
- نفسه،
- "بناء مجتمع جديد"، ندوة بتطوان 31 يوليو 1958.
- نفسه.
- ع. اللطيف جبرو، 1993، مرجع مذكور، ص 226.
- ع. اللطيف جبرو، 2007، مرجع مذكور، ص 193.
المهدي بن بركة، "الاختيار الثوري".
- "الصراعات الطبقية في المغرب منذ الاستقلال"، ابراهام السرفاتي وعبد الله الحريف، منشورات الأفق الديمقراطي، الطبعة الأولى دجنبر 2014، ص 24.
- "الملكية المغربية والصراع من أجل السلطة، الحسن الثاني في مواجهة المعارضة الوطنية من الاستقلال إلى حالة الاستثناء"، المعطي منجب، منشورات لارمتان 1992، باريس، ص 58.
- أورده ع. اللطيف جبرو، مصدر مذكور، 1993 ص 94].
- "صديقنا الملك"، جيل بيرو، الطبعة الأولى 2002، ورد للطباعة والنشر والتوزيع، سورية- دمشق، ص 53.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 49.
- نفسه، ص 84.
- نفسه.. ص 49
- ابراهام سرفاتي وعبد الله الحريف، مرجع مذكور، ص 12.
- "أبطال بلا مجد، فشل ثورة 1963- 1973"، المهدي بنونة، منشورات طارق، يونيو 2005، ص 21
- "أبطال بلا مجد، مرجع مذكور، ص22.
- محمد عابد الجابري، "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 3، الطبعة الأولى مايو 2002، ص 55.
- ["تحقيق وحدة المغرب العربي، يستلزم وعيا شعبيا منظما"، فاتح ماي 1959، صدر بجريدة التحرير، ورد في كتاب جبرو.. ص 165].
- أبطال بلا مجد، مرجع مذكور، ص 20.
- موريس بوتان، مرجع مذكور ص 51.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص 20
- "بن بركة والمغرب من خلال النضال ضد الديكتاتورية في إسبانيا"، برنابي لوبيز غارسيا، مجلة أمل، العدد 47- 2016، "المهدي بن بركة: جدلية الفكر والممارسة 65ـ 66.
- ابراهام السرفاتي وعبد الله الحريف، مرجع مذكور، ص 17.
- أورده ع. اللطيف جبرو، 1993، مرجع مذكور، ص 208.
- نفسه، 208.
- "المواجهة والاستشراف: حوار أجرته جون أفريك مع بن بركة وبوعبيد أبريل 1963"، "هكذا تكلم المهدي بن بركة، حوارات في سيرورة بناء المجتمع المغربي الجديد، تنسيق وتحرير: شعيب حليفي ومحمد عطيف، ص 84.
- ع. اللطيف جبرو، 1993، مرجع مذكور، ص 148.
- "هكذا تكلم المهدي بن بركة"، مرجع مذكور.. ص 35.
- عبد الله العياشي، مذكرات منشورة بجريدة الاتحاد الاشتراكي، العدد 5979، 24 دجنبر 1999.
- أورده ع. اللطيف جبرو، 1993، مرجع مذكور.. ص 101- 102.
- بن بركة، "مجلس غير مأسوف عليه"، افتتاحية جريدة التحرير عدد 6 أبريل 1959، أورده الجابري في "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 4، الطبعة الأولى، يونيو 2002، ص 30
- موريس بوتان، مرجع مذكور ص 65.
- العدد 1 من جريدة 23 مارس، من 1 إلى 15 فبراير 1975.
- "تاريخ الثورة الفرنسية"، ألبير سوبول، ترجمة جورج كوسي، منشورات بحر الأبيض المتوسط ومنشورات عويدات، بيروت- باريس، الطبعة الرابعة 1989، ص 140.
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص 29.
- تقديم محمد المريني للجزء الأول من مجلد أعداد جريدة 23 مارس، ص 15.
- ج واتربوري، مرجع مذكور، ص 223.
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص21.
- المغرب والاستعمار، حصيلة السيطرة الفرنسية، ترجمة عبد القادر الشاوي، نور الدين السعودي، مراجعة وتقديم: إدريس بن سعيد، عبد الأحد السبتي، ألبير عياش، دار الخطابي للطباعة والنشر، الطبعة الأولى أبريل 1956، المغرب، ص 399.
- "في الحركة الوطنية والفرص المهدورة"، بن سعيد آيت إيدر، الاختفاء القسري، مساهمة من أجل الذاكرة والتاريخ، جذور العنف بين السلطة والمعارضة"، ندوة الرباط- المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، 9 نوفمبر 2014، مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، ص 61.
- "المغرب الذي عشته، سيرة حياة"، عبد الواحد الراضي، المركز الثقافي للكتاب، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2017، ص 115.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص11.
- "هكذا تكلم المهدي بن بركة"، مرجع مذكور، ص 85.
- ع. الواحد الراضي، مرجع مذكور، ص 116.
- "مواقف، إضاءات وشهادات"، محمد عابد الجابري، العدد 3، الطبعة الأولى مايو 2002، ص 32.
- نفسه، ص 32- 33.
- نفسه، ص 32.
- أورده ع. اللطيف جبرو، 2007، مرجع مذكور.. ص 146.
- المعطي منجب، مرجع مذكور، ص 73.
- صديقنا الملك، مصدر مذكور، ص 58
- بن بركة، "الاختيار الثوري".
- موريس بوتان، مرجع مذكور.. ص 44.
- حوار مع عبد الرحيم برادة، مجلة زمان (الفرنسية) عدد 80، يوليوز 2017.
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص 56.
- "جوهر الدساتير"، فرديناند لاسال، خطاب القى فى برلين ، 16 ابريل ، 1862 ، من مجلة الاممية الرابعة، المجلد 3 العدد 1 ، يناير 1942 ، ص ص 25 – 31، ترجمة: سعيد العليي.
- مواقف، إضاءات وشهادات، العدد 3، الطبعة الأولى مايو 2002، ص 107].
- موريس بوتان، مرجع مذكور ص 82.
- مقال بعنوان "دلالة المقاطعة: إرادة الشعب ترفض الانصياع لإرادة الإقطاعية والاستعمار"، أورده موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 113- 114.
- "مداخلة في ندوة حول الإصلاح الزراعي بداية سنة 1962"، عبد اللطيف جبرو، مرجع سابق.. ص 196.
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص 59.
- نفسه، ص 68
- موريس بوتان، مرجع مذكور.. ص 49.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 67.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 67.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص 28.
- أورده موريس بوتان، مرجع مذكور.. ص 83ـ 84.
- صديقنا الملك، مرجع مذكور، ص 67
- أورده عبد اللطيف جبرو، مرجع مذكور، ص 12- 13.
- "الفلاح المغربي المدافع عن العرش"، ريمي لوفو، ترجمة محمد بن الشيخ، مراجعة عبد اللطيف حسني، منشورات وجهة نظر (29)، الطبعة الأولى 2011، ص 9.
- جريدة "الأهرام" المصرية، 12 نونبر 1965، هكذا تكلم المهدي بن بركة… ص 93ـ 94.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 181.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 182.
- محاضرة بتطوان في مؤتمر أوطم 1958، مجلة أمل، العدد 45، 2015، ص 166.
- علال الفاسي، "النقد الذاتي"، الطبعة الأولى 1952، المطبعة العالمية، القاهرة، ص 139.
- "تقرير بن بركة أمام مؤتمر منظمة التضامن الإفريقي الأسيوي بطنانزانيا يناير 1963"، أورده الجابري في "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 7، الطبعة الأولى شتنبر 2002، ص 74.
- المرجع نفسه، ص 74.
- "أمير المؤمنين"، مرجع مذكور، ص 143.
- ع. الواحد الراضي، المغرب الذي عشته، ص 378.
- "بناء مجتمع جديد"، المهدي بن بركة، مرجع مذكور.. ص 176- 177.
- "11 أطروحة حول الانبعاث الراهن للسلفية الإسلامية"، 1981، جلبير الأشقر، "الشرق الملتهب، الشرق الأوسط في المنظور الماركسي"، ترجمة سعيد العظم، دار الساقي، الطبعة الأولى 2004، ص 70.
- أورده عبد القادر الشاوي، "حزب الاستقلال (1944- 1982)، الطبعة الأولى 1990، مطبعة النجاح الجديدة ، ص 149.
- نفسه، ص 147.
- إبراهيم أوشلح، مرجع مذكور.. ص 24.
- محاضرة ألقاها بتطوان في مؤتمر أوطم 1958، مجلة أمل، العدد 45، 2015، ص 160.
- مجلة أمل، العدد 45، 2015، ص 66.
- "المغرب العربي أرض سلام وتعاون"، محاظرة ألقاها في فلورنسا 5 أكتوبر 1958، أورده عبد اللطيف جبرو، مرجع مذكور.. ص 198.
- "مسؤولياتنا" محاضرة ألقاها بن بركة بالدار البيضاء 19 مايو 1957.
- ع. الواحد الراضي،"المغرب الذي عشته"، ص 170.
- روني كاليسو، "بين الذاكرة والتاريخ، عودة إلى زمن الحركات الثورية"، مجلة أمل، العدد 45، 2015، ص77.
- أورده ج. واتربوري في "أمير المؤمنين"، مرجع مذكور، ص 299- 300].
- "النقد الذاتي"، علال الفاسي، الطبعة الأولى 1952، المطبعة العالمية، القاهرة، ص 402.
- تقرير بوعبيد في المؤتمر الوطني الثالث للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية 8 ديسمبر 1978، أورده الجابري في "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 9، الطبعة الأولى نونبر 2002، ص 58.
- ص 131.
- "الحركة النقابية بالمغرب وسبل بناء يسار نقاب يديمقراطي كفاحي"، منشورات المناضلة، ماي 2012، ص 57.
- ألبير عياش، مرجع مذكور، ص 240.
- المغرب والاستعمار، مرجع مذكور، ص 10.
- الاختفاء القسري، مساهمة من أجل الذاكرة والتاريخ، جذور العنف بين السلطة والمعارضة، ندوة الرباط- المكتبة الوطنية للمملكة المغربية، 9 نوفمبر 2014، مركز محمد بنسعيد آيت إيدر للأبحاث والدراسات، ص 44- 45.
- بيان الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي أعلنت فيه يوم 2 ماي عن المشاركة في الانتخابات النيابية التي تقرر إجراؤها يوم 17 يونيو من نفس السنة (1963)، أورده الجابري في "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 5، الطبعة الأولى يوليوز 2002، ص 78- 79.
- عبد الواحد الراضي، "المغرب الذي عشته"، مرجع مذكور، ص 246.
- أورده موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 137.
- الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الفريق النيابي، ملتمس الرقابة ضد السياسة الحكومية في الميدان الاقتصادي والمالي والاجتماعي، 22- 25 يونيو 1964.
- السرفاتي والحريف، مرجع مذكور.. ص 34.
- دفاتر وجهة نظر (17)، المهدي بن بركة، الموروث المشترك من منظمة القارات الثلاث إلى حركة العولمة البديلة، ص 39.
- حوار أورده ع. اللطيف جبرو، مرجع مذكور.. ص 247- 252.
- "سيرة أمير مبعد، المغرب لناظره قريب"، مولاي هشام العلوي، دار الجديد، الطبعة الأولى 2015، ص 416.
- أورده عبد اللطبف جبرو في كتابه عن بن ببركة، ص 210.
- شهادة إبراهيم أوشلح، مرجع مذكور، ص 29.
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص 66- 68.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص 43.
- شهادة إبراهيم أوشلح، مرجع مذكور، ص 28.
- ع. الواحد الراضي،"المغرب الذي عشته"، ص 263.
- شهادة إبراهيم أوشلح، مرجع مذكور،ص 26
- حوار مع جريدة البلاغ البيروتية، أوردته جريدة 23 مارس، العدد 1، من 1 إلى 15 فبراير 1975.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص 150.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص 122.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 22.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 85.
- "أبطال بلا مجد"، مرجع مذكور، ص 56.
- بيترباريت، تقديم كتاب "عن الحرب"، الجنرال فون كلاوزفيتز، ترجمة سليم شاكر الإمامي، الطبعة الأولى 1970، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ص 37.
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص 103.
- ج. واتربوري، "أمير المؤمنين"، مرجع مذكور، ص 156.
- صديقنا الملك، مرجع مذكور، ص 75.
- تقديم جيل بيرو، لكتاب المعطي منجب، مرجع مذكور، ص 7.
- ج. واتربوري، "أمير المؤمنين"، مرجع مذكور، ص 185.
- محاضرة "نحو بناء مجتمع جديد"، 31 يوليوز 1958.
- ج. واتربوري، "أمير المؤمنين"، مرجع مذكور، ص 434.
- "المهدي بن بركة، أو ضمير الوطن"، محمد عواد، دفاتر وجهة نظر (17)، مرجع مذكور... ص 118.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 103- 106.
- ألبير عياش، "المغرب والاستعمار"، مرجع مذكور، ص 400.
- افتتاحية العلم، 11 سبتمبر 1948، أورده "تاريخ الحركة النقابية بالمغرب"، ألبير عياش، الجزء "، ص 31.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 167.
- ج. واتربوري، "أمير المؤمنين"، مرجع مذكور، ص 421
- "صديقنا الملك"، مرجع مذكور، ص 100.
- جريدة 23 مارس، العدد الرابع، 16- 31 مارس 1975، مجلد أعداد الجريدة، الجزء الأول.
- "مواقف، إضاءات وشهادات، محمد عابد الجابري، العدد 8، الطبعة الأولى نونبر 2002، ص 94.
- ابراهام السرفاتي وعبد الله الحريف، مرجع مذكور، ص 34.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 166.
- جريدة "الأهرام" المصرية، 12 نونبر 1965، هكذا تكلم المهدي بن بركة… ص 93ـ 94.
- صديقنا الملك، مرجع مذكور، ص 104.
- نفسه، ص 107.
- عرف لينين الانتهازية كما يلي: " غالبا ما يقع عندنا اعتبار هذه الكلمة "شتيمة بكل بساطة" دون التفكير في دلالتها. ليس الانتهازي من يخون حزبه ويتخلى عنه. بل هو يستمر في خدمته بصدق وحماس، غير أن ما يميزه هو استسلامه للاندفاعات اللحظية وعجزه عن مقاومة الموضة. إن ما يميزه في السياسة هو قصر نظره ورخاوته. تكمن الانتهازية في التضحية بالمصالح الجوهرية والدائمة للحزب لحساب مصالحه الآنية والعابرة والثانوية." الأعمال الكاملة بالفرنسية الجزء 11 بالصفحة 243
- موريس بوتان.، مرجع مذكور، ص 136
- ع. الواحد الراضي، المغرب الذي عشته، مرجع مذكور، ص 197.
- "بن بركة، أو ضمير الوطن"، محمد عواد، دفاتر وجهة نظر (17) مرجع مذكور.. ص 117- 118.
- أورده موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 197.
- ع. الواحد الراضي، "المغرب الذي عشته"، ص 295.
- موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 224.
- ع. الواحد الراضي، "المغرب الذي عشته"، ص 298.
- نفسه، ص 295.
- "مواقف، إضاءات وشهادات"، العدد 7، الطبعة الأولى شتنبر 2002، ص 127.
- "لينين بناء الحزب"، طوني كليف، ترجمة أشرف عمر، موقع الاشتراكيين الثوريين على الانترنت.
- أورده موريس بوتان، مرجع مذكور، ص 389.
- "كذلك كان"، مذكرات من تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة، الطبعة الثانية، فبراير 2017، دار النشر المغربية- عين السبع الدار البيضاء، امبارك بودرقة وأحمد شوقي بنيوب، ص 220.
- "المغرب في أفق 2040، الاستثمار في الرأسمال اللا مادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي"، جان بيير شوفور، موجز عام، مجموعة البنك الدولي، ص 27.
- نفسه، ص 15.
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا