الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > سير ومتابعات > المهدي بن بركة: حدود خط النضال الوطني البرجوازي 1-2
المهدي بن بركة: حدود خط النضال الوطني البرجوازي
تحل ذكرى اغتيال بن بركة، ومنفذو الجريمة لا يزالون طلقاء في اقتراف المزيد من جرائمهم السياسية. يظهر القمع العنيف لانتفاضة كادحي الريف سنة 2016-2017 (شهيدين ومئات المعتقلين وعشرات المعطوبين) أن جهاز القمع الذي نفذ جريمة الاختطاف لم تنل منه خدعة "الإنصاف والمصالحة".
تحل ذكرى الجريمة، وجثة بن بركة لا تزال بلا قبر، والمطالب والمهام التي سعى لتحقيقها تظل مطروحة على جدول أعمال النضال بالمغرب. ليس فقط جثة المعارض هي المغيبة، بل أيضا تقييم صحيح لمعارضته، وعما كانت تعبر سياسيا وطبقيا.
يضخم بؤس الحياة السياسية الراهنة حجم شخصية بن بركة. وتلقي طريقة اختطافه بحياته السياسية وتفاصيلها إلى الوراء، مخلية المكان لتقديس الشخصية ورفعها إلى مقام البطولة النادرة، كما قال فتح الله ولعلو: "المهدي بن بركة عاش لحد الآن عمرين. والعمر الثاني أبرز أكثر من العمر الأول وأحاطه بهالة.. لما اكتنف عملية اختطافه من غموض.." .
إن هذه الازدواجية تفرض النبش في حياة بن بركة لاستجلاء حقيقة حياته السياسية ومكمن هزيمته، ليس الشخصية ولكن هزيمة المشروع السياسي الشعبوي ليسار حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي ساهم في تأسيسه.
كرست طريقة موته فكرة البطل الفرد الشهيد، التي تجد جذورا في المخيال الشعبي، وترسخت صورته بطلا في الحكايات الشعبية. سرى اعتقاد أنه لولا اغتياله لكانت أحوال المغرب أفضل. عبر عبد اللطيف جبرو عن هذا الرأي في مقال بعنوان "لو بقي المهدي على قيد الحياة؟" وتساءل: "أي مسار سياسي وأية مكانة وطنية ودولية كانت تنتظرنا لو أن بن بركة ظل على قيد الحياة؟" .
لا يعود هذا الاعتقاد إلى قوة هذا البطل الفرد، بل إلى واقع تنظيمات الجماهير منزوعة السلاح وغياب تقاليد سياسية كفاحية. لا يخص هذا الواقع البلدان المتخلفة وحدها، بل أيضا البلدان المتقدمة، حيث تجري دائما تربية وإعادة تربية الجماهير سياسيا على فكرة انتظار البطل الفرد، في أوقات الشدة والأزمات، حاملا معه الفرج والإنقاذ، وفي أوقات السلم على الاختيار بين مرشحين إلى المؤسسات.
تمد هذه الفكرة جذورها في الأيديولوجية البرجوازية التي تريد جماهير منقادة غير واعية سياسيا بمصالحها النوعية المتمايزة عن مصالح البرجوازية. ولا زالت فكرة البطل الفرد- التي تعبر عن المستوى الابتدائي لنضال الجماهير وتضعضع تنظيماتها- تفعل فعلها في المغرب، كما في الانتفاضة الريفية الأخيرة حيث تضخيم صورة الأبطال والصناديد مع إغفال دور الجماهير المبدع والمكافح.
لا يدعي هذا النص إتيان جديد يخص تشخيص مواقف بن بركة وسلوكه السياسي، هذه موجودة في ممارسته السياسية قبل تصريحاته وكتابته، ومتوافرة أيضا في الكتابات التي تناولته حصرا أو عرضا في سياق التأريخ لمغرب ما بعد الاستقلال الشكلي.
يروم هذا المقال تقييم هذا السلوك السياسي بوضعه في سياق إجمالي يربط صراع بن بركة (والحركة الوطنية خاصة جناحها اليساري) مع الملكية من أجل "تقاسم السلطة" بخلفيته الطبقية، أي الطبقة التي كان ناطقا بمصالحها التاريخية؛ البرجوازية.
انتمى بن بركة إلى جيل الحركة الوطنية الشاب، التي مثل "حزب الاستقلال" حزبها الرئيس، الحزب البرجوازي الذي سعى جاهدا للاستئثار بالقيادة السياسية لنضال الشعب المغربي ضد الاستعمار الفرنسي، بعد هزيمة المقاومة المسلحة في الأرياف والجبال. حرص الحزب على حصر هذا النضال في حدود مصلحة البرجوازية الطبقية: استقلال سياسي يحافظ على جهاز الدولة كما بناه نظام الحماية، مع تحديثه بطريقة تمنح البرجوازية قدرا أكبر من السلطة، والحفاظ على موقع محدد للملكية داخل هذا الجهاز، واقتصاد رأسمالي عصري مستقل يضمن لها حصتها في قسمة عمل دولية محددة إمبرياليا.
1- سياق استئثار الحركة الوطنية البرجوازية بقيادة النضال ضد الحماية
كان ممكنا لهذا الجيل الشاب- الميال إلى التجذر- أن ينتمي إلى الحزب الشيوعي، لكن موقف هذا الأخير من مطلب الاستقلال نفره: "بعض الوطنيين الشباب الذين كانت لهم معرفة بالماركسية، لم يظلوا مع ذلك غير متأثرين بالمواقف الاجتماعية والوطنية التي عبر عنها الحزب الشيوعي الفتي سنة 1943. كان الأمر كذلك عند المهدي بنبركة... وعند عبد الرحيم بوعبيد... وقبل انضمامهما أرادا معرفة موقف الحزب الشيوعي من قضية استقلال المغرب. فسألا جاك غريزا (Gacques Grésa) وهنري لوزراي (Henri Lozeray). إلا أن الرفض الذي قد يكونا ووجها به في أخذ مطلب الاستقلال مباشرة بعين الاعتبار صدمهما. ورجعا إلى حزبهما الأصلي، الحزب الوطني، الذي سيصبح بعد شهر من ذلك حزب الاستقلال. وسنجدهما في يناير من ضمن الموقعين 58 على وثيقة الاستقلال" .
تخلص الحزب الشيوعي من هذا الموقف المتناغم مع موقف الشيوعيين الفرنسيين المنقاد لأوامر بيروقراطية موسكو المتحالفة مع "الديمقراطيات الغربية" لمواجهة الفاشية. وتبنى مطلب الاستقلال، بعد أن فرضته عليه الأحداث. لكن الحزب الشيوعي ربط هذا النضال- شأنه شأن حزب الاستقلال- بالتحالف مع القصر الذي استقبل وفدا من الحزب الشيوعي سنة 1946، ما كان يعني، كما أقر أحد أعضاء الوفد ذاته: "قبول الحزب للنظام الملكي بجميع تجلياته في فترة متقدمة، وهو حزب شيوعي آنذاك، وقد يصعب هذا الأمر في تلك الفترة، لما تمثله الأيديولوجية الشيوعية في العالم آنذاك من اختيارات ثورية إلى غير ذلك" .
ربط الحزب الشيوعي المغربي النضال من أجل إلغاء معاهدة الحماية بخلق جبهة وطنية تضم حزب الاستقلال وباقي أحزاب الحركة الوطنية البرجوازية. ورفض ربط مسألة التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي، ما عمق عزلته عن الجماهير. لا غرابة في هذا بالنظر للرؤية المراحلية المميزة للستالينية، التي تفرض التحالف مع البرجوازية الوطنية لتحقيق مهام التحرر الوطني.
غدا بن بركة، في سياق استئثار الحركة الوطنية البرجوازية بقيادة النضال ضد الاستعمار، رمزا من رموز حزب ونضال "وطنيين" لا يعبران عن مصالح "الشعب" عامة في الاستقلال، بل عن مصالح طبقة برجوازية ناشئة يخنقها الاحتكار والقمع الاستعماريين. هذه القاعدة الطبقية هي التي حكمت نضال بن بركة قبل الاستقلال، وبعده أثناء "صراعه" مع الملكية، لا بل ضيقت أفقه السياسي.
2- استقلال أم نضال تحرري مجهض؟
كان هذا وراء الاستقلال الجهيض الذي ناله المغرب. يمكن القول إجمالا إن الاستقلال لم يكن نتاج انتصار الحركة التحررية المغربية، بل نتاج إجهاضها من طرف فرنسا والملكية بتواطؤ حزب الاستقلال، وفي مقدمته بن بركة، الذي قبل اشتراطات فرنسا في مشاورات إيكس ليبان. هذا ما سينتقده في "الاختيار الثوري" وقبله بكثير، إذ قال في خطاب بمناسبة تولية بلافريج رئاسة الحكومة، ألقاه بالدار البيضاء 22 أكتوبر 1958: "كان كل ما يخشاه الفرنسيون هو أن يتراجعوا في موقفهم أمام رأيهم العام مع أولئك الذين كانوا يتهمونهم بالشيوعية والتعصب والبغضاء والتطرف في الوطنية. فكان تنازلا منا- لربح المعركة السياسية- أن ينقد الجانب الآخر ما يعتقد فيه شرفه وهيبته أمام رأيه العام.. هذا هو الذي جعل الحزب يأخذ بيد أولئك الذين يتآمرون ضده وضد مصلحة البلاد" .
تواطأت الحركة الوطنية مع فرنسا تفاديا انفجار الوضع بالمغرب، إذ كان مقررا تزامن انطلاق عمليات جيش التحرير الوطني مع عمليات جيش التحرير الجزائري، وهذا ما شهد عليه إدغار فور رئيس حكومة فرنسا آنذاك بقوله: "زارني... عبد الرحيم بوعبيد وهو محام يعد من الزعماء الوطنيين الأكثر نباهة... كان مصرا على أن يعرض علي أمرا وشيك الوقوع بالمغرب غاية في الخطورة... أثار انتباهي إلى مزايدات المتطرفين من القادة الوطنيين، وإلى أن قادة جيش التحرير مصرون على القيام بتمرد عسكري منسق يشمل مجموع البلاد المغربية/ الجزائرية، وأن الوطنيين المؤيدين لفرنسا والأوفياء لمحمد الخامس وحدهم من يستطيع إيقاف تلك الدسائس الآن. وإذا تأخر الأمر بضعة أشهر دون تحرك فسيكون الوقت قد فات. وسيشتعل المغرب العربي حربا باستثناء تونس، ولو أننا غير متأكدين من أي شيء، إذ قد يجرف الانفجار بورقيبة نفسه" .
أثارت مشاورات إيكس ليبان امتعاض ومعارضة المقاومة والنقابة (الاتحاد المغربي للشغل)، ما هدد الوضع داخل حزب الاستقلال، وكان لبن بركة بالذات دور في تفادي الخطر، كما شهد محمد عابد الجابري: "لولا أن الشهيد المهدي عرف كيف يقيم الجسور بين المقاومة والنقابة من جهة والوفد الحزبي المفاوض في إيكس ليبان.. من جهة أخرى" .
كان منح المغرب استقلالا مشروطا يبقي الروابط مع فرنسا ضربة للكفاح التحرري المغاربي، وطعنة لجيش تحرير رفض وضع السلاح حتى تحرير الأقطار المغاربية. استعملت الملكية ما سيمثل مستقبلا يسار حزب الاستقلال لفرض مطالبها الترابية على جيش تحرير جزائري يصارع آلة الحرب الاستعمارية الفرنسية، كما أوضح محمد حربي، مؤرخ الثورة الجزائرية: "غير أن القوات المسلحة الملكية تأتي لترابط في ممر فجيج وتعترض كل عبور... وقد تمت اجتماعات لإيجاد حل في 8 أبريل 1958 في الرباط، بين المحمدي وبن بركة والبصري، ومن الجانب الجزائري معاشو وحسين قادري والشيخ خير الدين... لكن كل الاجتماعات وكل المساعي باءت بالفشل، إذ كانت السلطات المغربية تريد دفع جيش التحرير الوطني إلى الاعتراف بسيادتها على أقاليم توات وكوراره وتيدكلت" .
3- نشاط دولي ضد الاستعمار
اعترف بن بركة لاحقا بهذه "الأخطاء" لما عاين إعادة الاعتبار لضباط الجهاز الاستعماري والقواد المتواطئين، واعتماد الملكية عليهم في محاربة حزب الاستقلال ويساره. فجعل من الاستعمار والاستعمار الجديد العدو الأول لتقدم المغرب وتطوره.
شارك بن بركة بفعالية في المنظمات المعادية للاستعمار والاستعمار الجديد. يظهر هذا في مواقفه إزاء احتلال إسرائيل لفلسطين وتنبيهه إلى التغلغل الصهيوني بإفريقيا. كما أثار سخط الإمبريالية الأمريكية بموقفه من امتلاك السلاح النووي، وكذلك مساهمته الحيوية في بناء مؤتمر القارات الثلاث المنعقد بعد اختطافه في هافانا بكوبا يناير 1966.
جعل بن بركة مؤتمر القارات الثلاث أهم عمل في حياته حد إعطائه الأولوية على حساب عودته إلى المغرب من منفاه الاضطراري. لخص الأهمية التاريخية لهذا المؤتمر بقوله إنه "تتمثل فيه الحركة المنبثقة من ثورة أكتوبر وحركة الثورة الوطنية التحررية". وحسب تقييم كاترين ساماري: "كانت الثورة الكوبية صلة الوصل بين هاتين الحركتين. وكان ذلك المؤتمر أعظم أهمية وأكثر جذرية سياسيا من مؤتمر باندونغ الذي تثمنه أكثر، عن خطأ، دراسات ما بعد الاستعمار" .
أثارت مواقف بن بركة هذه عداء الدول الإمبريالية، وتورط مخابراتها في الاختطاف والاغتيال.
استحضر بن بركة البعد المغاربي وجعله إطارا لا غنى عنه لتنمية- تنمية رأسمالية طبعا- هذه البلدان وضمان تحررها من السيطرة الاستعمارية. عارض حرب الرمال التي اشتبك فيها الجيش المغربي والجزائري سنة 1963 إثر نزاع حول الحدود الشرقية، واضعا رفضه لهذه الحرب في إطار الدفاع عن التعاون المغاربي بعيدا عن مصالح الأنظمة الحاكمة الضيقة.
استحضار البعد المغاربي
أبرز بن بركة أهمية البعد المغاربي القصوى لتنمية هذه البلدان رأسماليا وضمان تحررها النهائي من السيطرة الاستعمارية. لذلك صرح غاضبا عندما انتقد تلكؤ المسؤولين الرسميين للدول المغاربية عن تطبيق مقررات مؤتمر طنجة الذي عقدته أحزاب الأقطار الثلاثة للمغرب العربي يوم 27 أبريل 1958؛ "من المؤسف أن نعترف بأن قضية الجلاء بقيت موقوفة في كل من تونس والمغرب إن كانت القوات الفرنسية في كلا القطرين قد انسحبت من ثكناتها المنبتة في مختلف أنحاء البلاد وتجمعت في قواعد خاصة، تمهيدا للمطلب الذي تقدم به المسؤولون الفرنسيون وهو التفاوض لا على أساس الجلاء ولكن على أساس القواعد المحتفظ بها في كل قطر. وهذا مبدأ مرفوض من أصله لأنه يتناقض مع المبدأ الذي أوصى به مؤتمر طنجة حكومات المغرب العربي أي ألا تربط الحكومات منفردة مصير شمال إفريقيا في ميدان العلاقات الخارجية والدفاع إلى أن تتم إقامة مؤسسات المغرب العربي المتحد" .
وقف بن بركة ضد حرب الرمال التي اشتبك فيها الجيش المغربي والجزائري سنة 1963 إثر نزاع حول الحدود الشرقية. لم ينسق مع جو العداء الذي خلقه النظام، وحين "تبادلت إذاعاتا المغرب والجزائر سيلا من الشتائم، سمع صوت بن بركة في هذا التناغم الهوميري، في تصريح قرئ من القاهرة أدان بشدة الملكية الشريفية "التي تشن، بدافع من الإمبريالية، حربا عدوانية ضد الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية. تحدث عن خيانة حقيقية"، وأكد أن الشعب المغربي لا يقبل أبدا أن يقاتل أخاه الشعب الجزائري" .
4- واقعية أم براغماتية مضحية بالمبادئ؟
لم يخل نشاطه الدولي من براغماتية أو ما يطلق عليه البعض- خاصة ورثة حزبه- "واقعية سياسية". يتجلى ذلك في علاقاته مع الجنرال دوغول رأس الإمبريالية الفرنسية. صور بن بركة معارضة دوغول للهيمنة الأمريكية على أنها مناهضة للإمبريالية، وهذا ما شهد به محام عائلة بن بركة موريس بوتان بقول: "نوه بالسياسة الفرنسية المستقلة التي اعتمدها ديغول تلك السنة، قصد تخليص بلاده من "الحماية التي تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى فرضها على أوربا تحت غطاء الدفاع عنها" .
يظهر هذا أيضا في رفض إدانة انقلاب بومدين على بن بلة وهو ما سماه فتح الله ولعلو "نوعا من الواقعية في التعامل مع القضايا الكبرى.. ظهر ذلك في تعامله مع الانقلاب الذي أطاح بالرئيس أحمد بن بلة في 19 يونيو 1965، حيث تنبه بسرعة إلى ضرورة قبول الأمر الواقع.." .
يبين موريس بوتان طريقة تعامل بن بركة مع إسقاط أحد رفاقه السياسيين بانقلاب عسكري بقوله: "ما هو الموقف الذي اتخذه بن بركة من الانقلاب؟ يعني سقوط بن بلة انهيار نظام سياسي ثوري بكامله، لهذا كان من الطبيعي أن يحس بن بركة بالقلق، خاصة وأنه كان على علاقة وطيدة بالرئيس الجزائري الذي حظي، إضافة إلى ذلك، بدعم زعيم عربي يكن له بن بركة إعجابا شديدا، وهو جمال عبد الناصر. كان من المفروض إذن أن يدين كلا من الانقلاب ومدبره بومدين. ولكن لا شيء حصل من ذلك! فمن جديد سيتغلب على المهدي برغماتيته وواقعيته، كما سيتبين من هذه الواقعة الطريفة التي حكاها لي فتح الله ولعلو. "اتصل بنا المهدي بن بركة يوم 19 يونيو حوالي الساعة الحادية عشرة صباحا وكنت مع أحمد الجوهري بزنقت سربانت. أخبرنا بسقوط بن بلة، ولم نكن بعد قد علمنا بالخبر... قمنا بصياغة وإصدار بيان شديد اللهجة ضد بومدين، وقررنا أيضا تشكيل لجنة لدعم بن بلة... تلقينا مكالمة هاتفية ثانية من المهدي بن بركة. كان غاضبا جدا وهو يعبر عن رفضه للبيان: "بن بلة انتهى! غدا سألتقي بومدين!". أجابه الجوهري: "أمر غير معقول! هذا انقلاب عسكري، وبومدين شخص فاشي!". عندها رد المهدي بك بساطة: "الفاشي هو أنت!" .
يجد هذا تفسيره في منظور بن بركة لمعاداة الاستعمار وبناء الوحدة المغاربية، حيث كان يعول على الأنظمة والأحزاب والزعماء التقدميين، وليس على تنظيم الشعوب وحفز نضالها الجماهيري. يمد هذا بدوره جذوره في الحذر الغريزي للسياسي البرجوازي- مهما بلغت راديكاليته- من نضال الجماهير المستقل، وهو ما سنفصله أدناه.
كما يفسر هذا السلوك بالبراغماتية الغالبة على سلوك بنبركة السياسي، أي تفضيله مكاسب سياسية آنية ولو استدعى ذلك التفريط في المبادئ. أسقط بن بركة شرط نقد الحليف بسعيه إلى تجميع أكبر تكتل ضد الاستعمار الجديد، ما لم ينكره ذاته، إذ صرح بأن التدخل في الأمور الداخلية لأعضاء حركة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية أمر "لا نسمح به إطلاقا" .
"إن تقنيات الإنتاج والبنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المغربي، ما زال "تطورها" ضعيفا"، هكذا وصف ألبير عياش حصيلة السيطرة الفرنسية على المغرب.
صنف عزيز بلال المغرب ضمن "البلدان التي يوجد اقتصادها في وضعية شبه ركود أو على الأصح في وضعية تأخر في الإنتاج بالنسبة لكل فرد من السكان اعتبارا للنمو الديموغرافي السنوي" .
تعد التبعية للخارج أهم معوقات التنمية بالمغرب إذ "كانت كل الفروع الأساسية من الاقتصاد المغربي تحت مراقبة الجماعات الاحتكارية الأجنبية كالطاقة الكهربائية، والابناك، والقروض، ومعهد إصدار النقود، والجزء الأكبر من النقل والصناعة والتجارة الخارجية، ونصف الإنتـــاج المعدني. (أمّا النصف الآخر الذي يتكون من الفوسفاط فكان في ملك الدولة منذ الحماية)" .
1- ضد التخلف الاقتصادي
شخص بن بركة منذ بدايات الاستقلال تخلف اقتصاد المغرب، مشيرا إلى اعتماده على: "العمل الفلاحي الذي يشغل ثلاثة أرباع سكان بلادنا ولا ينتجون ربع الدخل الوطني العام. والسبب في هذا يرجع إلى أن الأساليب والوسائل التي يستعملها المغاربة في الفلاحة بسيطة جدا، وإن المعمرين الأجانب يستعملون طرقا علمية عصرية تؤدي إلى وفرة الإنتاج. ومن كل هذا ندرك بأن محاربة الفقر تفرض علينا تطوير الفلاحة باستعمال الوسائل العصرية للحصول على إنتاج أكبر وثروة أكثر، ليرتفع مستوى المعيشة ويتجاوز المواطن مرحلة كسبه لضروريات قوت يومه إلى مرحلة ما يحتاجه المواطن المعاصر من حاجيات تتناسب مع الكرامة الإنسانية ومع الحياة التي يحياها المواطنون في البلاد المتقدمة" .
أراد بن بركة تجاوز إرث تاريخ المغرب المزدوج، ولم يعتبر الحصول على "الاستقلال" نهاية طريق بل بداية معركة قاسية ضد مخلفات الماضي: "لقد أدركنا... بأن الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، وإنما وسيلة للعمل الجدي من أجل بناء مجتمع جديد على أنقاض مجتمع ما قبل الاستعمار ومجتمع عهد الاستعمار" .
كانت إصلاحية بن بركة أكثر حدة من إصلاحية علال الفاسي، رغم أن الأول لم يحاول صياغتها في قالب نظري كما فعل علال الفاسي، بل اعتمد تجريبية مذهلة وحسا عمليا أفزع أعداءه، ومقدرة على توطين نماذج مما شاهد في زياراته خارج المغرب، مثل انطباعه بالتسيير الذاتي في يوغوسلافيا وتجربة الإصلاح الزراعي في الصين.. الخ.
عندما أتيح ليسار الحركة الوطنية الوصول إلى "الحكومة"، برئاسة عبد الله إبراهيم، تصدت هذه لقضايا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. قام برنامجها على تحرير البلد اقتصاديا، واتخذت تحقيقا لهذا الهدف مجموعة من الإجراءات: خلق العملة الوطنية (الدرهم)، وإنشاء بنك المغرب والبنك الوطني للتنمية وبنك التجارة الخارجية، الخ... وتركز اهتمامها على تحديث القطاع الفلاحي باعتباره القطب الأساس في الاقتصاد الوطني.
أراد بن بركة تحويل جهاز الدولة الموروث عن الاستعمار إلى "جهاز وطني ديمقراطي وشعبي" حتى يسهل تحويل الاقتصاد الاستعماري إلى اقتصاد وطني متحرر، ومن هنا تمسكه الشديد بالملكية كونها ضامنة بقاء الدولة.
2- تنمية اقتصادية استنادا على دولة رأسمالية
اقتنع بن بركة- ومعه بوعبيد- بعجز البرجوازية المغربية عن بناء اقتصاد رأسمالي عصري متحرر، لذلك تشبثا بدور الدولة في هذا المضمار. أوضح بوعبيد منظوره هذا- الذي يتقاسمه مع بن بركة- بتصريحه أمام المجلس الأعلى للتصميم بأنه خلال سنوات التصميم الخماسي الأولى (1960- 1964) سيعرف المغرب ظهور صناعة أساسية ضرورية لتوطيد الاستقلال وأكد أن الدولة ستبدل المجهودات اللازمة لإحداث هذه الصناعة التي لا يمكن أن تنمو وتترعرع في أي بلد متخلف إلا عن طريق السلطات العمومية .
3- منظور إصلاحي
كان الفارق بين منظور الملكية وبن بركة لتحديث البلاد يتجلى في تأثير هذا التحديث على البلاد. خشت الملكية حدوث تحولات اجتماعية هيكلية تنسف أساسها الطبقي، بينما كان مسعى بن بركة يسعى إلى تغيير ذلك الأساس.
ذلك كان مغزى منظوره للإصلاح الزراعي أي القضاء على "الفئات الإقطاعية" التي يعتبرها دعامة الاستعمار الجديد. لكن غلطته الكبرى كانت حلمه بإصلاح زراعي يحافظ على سلطة الملكية، وهي معادلة لا يمكن حلها مهما برع في رياضيات المجتمع. ومهما كانت قوة إغراء الطرائق الإصلاحية، فإنها تصطدم لا محالة برفض الطبقات الحاكمة.
يقول بن بركة في ندوة حول الإصلاح الزراعي مطلع سنة 1962: "إن الإصلاح الزراعي لن يبتدئ في اليوم الذي تصل فيه قوة سياسية ما إلى الحكم حتى، تسن قانون الإصلاح الزراعي. بل إن هذا الإصلاح هو عمل ينجز في جميع الأيام عن طريق الوعي الذي نبثه في صفوف الفلاحين وعن طريق الكفاح الذي يشنه هؤلاء في جميع الأيام" .
أمل بن بركة أن يؤدي الإصلاح الزراعي إلى تقويض علاقات الاستغلال الإقطاعية ونصف الإقطاعية في الريف، بينما كان الشرط الرئيسي لأي إصلاح زراعي من هذا القبيل، هو تدمير القوة الاقتصادية للملاك العقاريين [نزع أراضيهم] ولكن أيضا القوة السياسية التي تحميهم وتستند عليهم، وهي القوة التي سعى بن بركة طيلة حياته السياسية للتوافق معها، أي الملكية.
حاول بن بركة أن يبرر هذا المنظور، وأكد ضرورته لأي بلد استقل حديثا، حيث كتب في "الاختيار الثوري": "لقد أثبت التجربة أنه لا بد من مرور فترة طويلة أو قصيرة بين نهاية معركة التحرر السياسي وبين النقطة التي يمكن أن تنطلق منها حركة ثورية حقيقية... تنطبق هذه الملاحظات على المغرب حيث تبين لنا من تحليل الأوضاع الداخلية والخارجية، أن ظروف الاستقلال السياسي لم تكن تسمح بانتهاج خطة ثورية قبل المرور بمرحلة تحرر إصلاحية حتمية" .
يكمن خطر التجريبية البالغ هذا في إغفال التجربة التاريخية التي فندت المنظور الإصلاحي، وتكرار مآسي التعويل على المراكمة التدريجية للإصلاحات التي لا تؤدي إلا إلى الإجهاز على مكاسب النضال السابقة.
4- إخفاق مشاريع الإصلاح والتحديث
أدى السعي للتوافق مع الملكية والحرص على عدم التصادم معها إلى إخفاق مشاريع الإصلاح الزراعي، بما فيها المستهدفة أملاك المتعاونين مع الاستعمار فقط. حسب السرفاتي والحريف: "لم يسبق للممتلكات الواسعة للفيوداليين المغاربة الكبار، والتي كانت تملك منها كل واحدة من العائلات المهمة عشرات آلاف الهكتارات، أن كانت موضوع أي "إصلاح زراعي"، بعض أبناء هؤلاء الفيوداليين، كونهم ضباط في الجيش الفرنسي، كان بإمكانهم.. أن يعيدوا في السنوات اللاحقة وبأشكال مختلفة، لعلاقات الهيمنة السلفية على طبقة الفلاحين في منطقتهم، قوتها وبأسها مرة عندما ينطفئ أمام الفلاحين ذلك الأمل العابر "للاستقلال" .
كان أعيان القرى وكبار ملاك الأراضي- ضمنهم الملكية وهي أكبرهم- متأكدين من أن انطلاق إصلاح زراعي، مهما كان محدودا، لن يتوقف في حدود نزع ملكية المتعاونين مع الاستعمار. وكانوا يخشون مستتبعاته السياسية والاجتماعية، كما أوضح المعطي منجب بقول: "رغم أن القادة الاستقلاليين المحافظين يؤكدون أن أي إصلاح زراعي لن يمس سوى ممتلكات "الخونة" والمتعاونين المشهورين (مع الاستعمار)، فإن الأعيان القرويين يعلمون أن أي بداية إصلاح للبنية العقارية بالقرى، مهما كانت محدودة في بدايتها، لا يمكن أن تتجنبهم على المدى الطويل... لأنه سيمس حتما "المؤسسة القروية" إذ يحول عمالا بسطاء إلى ملاكي أرض كانوا يفلحونها لصالح "أسيادهم"، ولأنه من جهة أخرى قد يضعف الوزن السياسي العام لمجموعة الأعيان القرويين. وأخيرا لأن هذا الإصلاح الزراعي سيفتح بابا سيعجز من بعد على إغلاقه إذ يمس طابو الملكية الخاصة للأرض ويحفز شهية صغار الفلاحين المحرومين والجوعى إلى الأرض. إن كل إصلاح مهما كان خجولا سيكون من نتائجه إثارة اهتمام جماهير الفلاحين بالسياسة، ما قد لا يكون إلا لصالح حزب الاستقلال الذي يبذل ما بوسعه للانغراس في القرى. والحال أن هؤلاء الأعيان يخشون، خشيتهم الجذام، عدوى السياسة وسط الفلاحين" .
آمن بن بركة إيمانا راسخا بشعار محمد الخامس حول الانتقال "من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر"، أي من النضال ضد الاستعمار إلى النضال ضد التخلف ومن أجل تنمية البلد وتحديثه. صرح بن بركة في خطاب ألقاه أمام الجماهير عشية 18 نونبر 1956: "إنه عهد جديد نريد أن ندشنه تحت قيادة عاهلنا المفدى المحرر الأول محمد بن يوسف نصره الله" .
أراد بن بركة الحفاظ على جو الحماس الذي خلفه النضال ضد الاستعمار، قصد تجنيد الجماهير الملتفة حول العرش والحركة الوطنية. لكن ذلك أدى إلى فتور همة الجماهير وحماسها وهي ترى الاستقلال ينتهي إلى صراع أقطاب داخل نفس الطبقة حول تقاسم السلطة وامتيازات الاستقلال ونعمه. كانت سلبية هذه الجماهير، وأغلبها قروية، نقطة قوة الملكية الرئيسة. أرادت الملكية مجتمع "رعايا"، لا مجتمع "المواطن- المناضل" حلم بن بركة.
ليست مشكلة بن بركة الكبرى سعيه إلى تحديث البلد وتصنيعه ومحاربة الأمية والجهل وإحداث انقلاب في بنياته الاجتماعية، بل في الطريقة التي أمل بها تحقيق ذلك، أي التعاون مع الملكية، ولو استدعى الأمر توطيد سلطتها.
حرص حزب الاستقلال، منذ تأسيسه، على الاحتفاظ بمكانة الحزب الوطني الوحيد، أي البقاء القوة السياسية الجماهيرية المالكة شرعية نضال وطني، والساعية لتقاسم السلطة مع القصر الحائز شرعية تاريخية ودينية، يعتبرها حزب الاستقلال ضمانة وحدة البلاد ضد شرور التدخلات الاستعمارية.
1- الصراع ضد الأحزاب
حدا هذا حزب الاستقلال على محاربة كل التيارات المنافسة والتي تنظر إليها الملكية بعين الشك أو الحذر؛ الحزب الشيوعي وحزب الشورى والاستقلال الذي كان يضم تنويعات من الجمهوريين إلى الملكيين الدستوريين.
عمل حزب الاستقلال الذي كان بن بركة أنشط عناصره في هذه الفترة ومكلفا بالأمور التنظيمية، على استئصال كل ما قد يهدد سلطة الملكية والوزن السياسي لحزب الاستقلال الساعي للاستئثار بالحياة السياسية. أوجز جيل بيرو ذلك بقول: "صمم بن بركة، وهو الأمين العام التنفيذي لحزب الاستقلال، أن يجعل منه الحزب الوحيد في المغرب، حزبا لا ينافس، يدعمه الاتحاد المغربي للشغل، النقابة القوية التي تضم نصف مليون عضو، مما يمكنه أن يقود القصر في طريق الاشتراكية.. ويجب إخراس معارضيه، أما العصاة والأعداء الألداء يجب إزاحتهم. وقد باشر الأمين العام التنفيذي بالتطهير الحازم دون تأجيل أو تراجع" .
عن ذات الأمر، تحدث موريس بوتان: "لم يبد المهدي بن بركة الذي كان يتحكم في مقاليد الحزب أي اعتراض على هذا القمع المريب الذي لا يقوم على أي أساس ضد بعض مواطنيه المغاربة الذين يتراءى للقصر أنهم مجموعة من الثوار الذين يشكلون خطرا على الوطن" .
2- حل الحزب الشيوعي المغربي
تحملت حكومة عبد الله إبراهيم "اليسارية"، المسؤولية السياسية لحل الحزب الشيوعي. كان ذلك بأمر من الملكية ولصالحها، وحرصا على عدم تفجير التوافق مع محمد الخامس. في لقاء موريس بوتان مع عبد الرحيم بوعبيد نائب رئيس الحكومة لمناقشة هذا القرار أكد بوعبيد: "أن الحكومة تصرفت على هذا النحو بطلب من محمد الخامس، وأنها لم تجد من خيار آخر سوى الإذعان للأمر الواقع" .
لم يكن عداء الحركة الوطنية للشيوعيين جديدا، إذ سبق لحزب الاستقلال أن عبر عن عدم اعترافه بمغربية الحزب الشيوعي، وتضمن ميثاق طنجة المؤسس للجبهة الوطنية المغربية في أبريل 1951 بندا ينص على رفض أي تكتل مع الحزب الشيوعي المغربي، رغم استمرار هذا الأخير في مطاردة سراب التحالف.
3- تصفية المقاومة
تحدث موريس بوتان عن "التواطؤ بين القصر وحزب الاستقلال، فمحمد الخامس لم يكن ينظر بعين الرضا لتململ بعض عناصر المقاومة الداخلية، ويخشى أن يراها تستمر في حمل السلاح سعيا لإقامة الاشتراكية والجمهورية بالمغرب. هكذا قرر بمساعدة وزير الداخلية إدريس المحمدي من حزب الاستقلال، ومدير الأمن الوطني محمد الغزاوي، ومدير الأمن الإقليمي بالدار البيضاء إدريس السلاوي، وبعض قادة حزب الاستقلال، التصفية الجسدية لمقاومين من الدار البيضاء من تنظيم "الهلال الأسود" ذي التوجه الشيوعي الغالب، ومجموعات أخرى أصبحت "إنشقاقية" .
لا يقتصر هذا على كتاب أجانب لم يخفوا تعاطفهم مع بن بركة، بل ورد أيضا عند كتاب يساريين جذريين فسروا التصفيات التي حدثت فجر الاستقلال بـ"التعصب والطائفية اللذان طبعا ولا زالا، مناضلي اليسار الجذري المغربي لوقت طويل، يفسران الأخطاء الكبرى لخيرة قيادي هذا اليسار الجذري المنحدر من هؤلاء المثقفين، الشيء الذي ساهم في قمع محاولات بعض خلايا المقاومة التي كانت تحاول السير ضد هذا التيار المهيمن، وذلك من أجل الدعوة إلى اليقظة ومواصلة الصراع" .
4- تفكيك جيش التحرير الوطني
رفض جيش التحرير الوطني منطقة الجنوب وضع السلاح، واستمر في توجيه عمليات ضد التواجد الإسباني بالصحراء، والفرنسي بالجزائر بسبب احتمال التحام جيشي التحرير المغربي والجزائري. وحدت فرنسا وإسبانيا قوتهما مطلع سنة 1958 لسحق جيش التحير الوطني- منطقة الجنوب، عرفت عملية السحق بـ"عملية المسلح والتنحية".
يعلق المهدي بنونو على نتائج هذه العملية بقول: "عززت هذه العملية صفوف القوات المسلحة الملكية وجهاز أمن النظام. وواصل وصات الاستعمار السابقون مهمتهم كـ"حماة" للعرش. ولأن العرش أصبح قوياب فعل هذه الضمانة، فإنه وافق على عملية الهدنة هذه وساندها... وجزاء للأمير مولاي الحسن على تعاوه، تنازل فرانكو عن طرفاية، فدخلها الأمير مولاي الحسن في العاشر من أبريل من سنة 1958 على رأس فرقة من القوات المسلحة الملكية يقودها أوفقير" .
لم يقف يسار حزب الاستقلال ضد العملية، رغم أن جيش التحرير الوطني- منطقة الجنوب يعتبر نفسه حليفا لهذا اليسار. يشير المهدي بنونة إلى موقف بن بركة ورفاقه، قائلا:: "لكن القصر عمل على طمأنة المهدي بن بركة ومن يحيط به بواسطة عربون على حسن النية. وكأن القصر كان يريد أن يخفف من آثار عملية المسح والتنحية. فدعا المهدي بن بركة وأنصاره إلى تشكيل حكومة. فكانت حكومة عبد الله إبراهيم. وأما الذين لم يكونوا يشكلون في ذلك الحين سوى يسار حزب الاستقلال، فسوف يحاولون أن يستفيدوا من العملية. ولكن كان الثمن هو تواطؤ سوف يقود إلى الهلاك لا محالة" .
بعد تصفية جيش التحرير عسكريا تولت حكومة عبد الله إبراهيم تصفيته ماليا بتوقيفها "الميزانية المخصصة لجيش التحرير" .
حدث هذا رغم تصريحات بن بركة المنوهة بدور جيش التحرير الوطني- منطقة الجنوب، وتوجيه اللوم لعدم مساندته في مواجهة الاحتلال الإسباني بقول: "بينما الحركة التحريرية في الصحراء المغربية ما تزال تواجه المواقف الاستعمارية بصلابة وثبات تعتمد على الإرادة الشعبية في التحرر والوحدة ولكن بعض المسؤولين كانوا في السنة الماضية يفضلون الاشتغال بما يسمونه خطر هذه الحركة التحريرية على مراكزهم في الداخل بدلا من تعزيزها ومساندتها" .
جرت تصفية جيش التحرير الوطني، الذي لم يبد قادته قط عداء للملكية بل كانوا، مثل الفقيه البصري واليوسفي، يشرفون على تنظيم احتفالات "ثورة الملك والشعب". لكن دافع التصفية كان حسب المهدي بنونة "لأنه لم يكن خاضعا لمراقبة القصر الملكي، ولا يقبل من الأوامر إلا تلك التي تصدر عن أعضاء مجلس المقاومة حلفاء المهدي بن بركة... وقد كان هذا الجيش يفوق، وحتى سنة 1957، القوات المسلحة الملكية عددا وعتادا. ومن ثمة فإن هذا الجيش كان يعتبر تهديدا محتملا لاستقرار العرش وبقائه" . وفي 9 غشت 1956، ألقى محمد الخامس خطابا دعا فيه إلى حل جيش التحرير المغربي، بيد أن نداءه ظل صيحة في واد.. إذ رفضوا التخلي عن السلاح. علاوة على أنهم كانوا يربطون كفاحهم بنضال إخوانهم الجزائريين" .
كان جيش التحرير الوطني، حتى سنة 1957، يفوق القوات المسلحة الملكية عددا وعتادا، وكان يعتبر تهديدا محتملا لاستقلال العرش وبقائه . رغم ذلك لم يسع يسار الحركة الوطنية- ومنه بن بركة- لاستعمال هذه القوة المسلحة سلطةً مضادة للاستيلاء على الحكم، بل ظل يلاحق سراب التوافق مع محمد الخامس من أجل تأسيس ملكية دستورية، مبددا رصيده التاريخي ومسهلا عملية نزع سلاح جيش التحرير الوطني.
ليس هذا إلا تعبيرا عن نفس السلوك الذي يلجأ إليه الساسة البرجوازيون، حتى الجذريون منهم، بعد انتهاء أي نضال وطني أو ثورة تشترك فيها الجماهير، حيث يكون أول إجراء سياسي هو نزع سلاح الجماهير تمهيدا لإعادتها إلى حظيرة الاستغلال.
اعتمدت الحركة الوطنية البرجوازية، لنزع سلاح الجماهير، على سيف الملكية وشحذته جيدا. ولكن كان لا بد لهذا السيف بعد استعادة النظام من أن يثقل على هذه البرجوازية باستبداده وبعاداته الخاصة، وهذا أساس ظهور معارضة ليبرالية.
5- قمع اللاجئين السياسيين
لم يقتصر الأمر على الأحزاب المغربية، بل لحق القمع أيضا معارضي فرانكو ديكتاتور إسبانيا المستقرين بالمغرب؛ حيث سجل "تواطؤ حكومة عبد الله إبراهيم في تفكيك المؤسسات "المدنية الثقافية" التي ينشط فيها الجمهوريون الإسبان بالدار البيضاء. فكون حكومة تقدمية، مثل حكومة عبد الله إبراهيم تسهل القمع السياسي للمنفيين الإسبان، جعلني أشعر باستياء كبير" .
لم يتردد الجنرال فرانكو في رد الجميل لنظام الحسن الثاني على حساب رفاق المهدي بن بركة بالذات. سلمت شرطة فرانكو مناضلي الجناح المسلح للاتحاد الوطني للقوات الشعبية أجار بونعيلات وأحمد بن جلون إلى الشرطة المغربية أواخر يناير 1970. أراد فرانكو إرضاء الملكية المغربية من أجل إبرام اتفاق معها حول استغلال الفوسفاط بوادي الذهب.
6- قمع انتفاضة الريف
في ظل "حكومة" يسار بقيادة عبد الله إبراهيم، جرى القمع العسكري لانتفاضة الريف 1959، التي أثارها الإدماج القسري لمنطقة كانت خاضعة لإسبانيا في اقتصاد وجهاز إداري أكثر حداثة من مثيلهما في منطقة الحماية الفرنسية. و"بعد هذه "العملية" ببضعة أسابيع، توجه عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد إلى تطوان من أجل "دراسة إعادة بناء اقتصاد الشمال"!" .
اقتصر موقف بن بركة من قمع انتفاضة الريفيين على اعتباره مجرد أخطاء في التقدير بقوله في محاضرة بطنجة 5 يوليو 1959: "كانت ثورة الريف ناشئة عن أخطاء الحكومات المغترة بالاستقلال، نعم هناك أيادي أجنبية تآمرت في الخفاء ضد بلادنا، ولكن يجب أن نعترف بأننا أخطأنا التقدير قبل أن... يخطأ غيرنا" .
لا إشارة إلى التدخل العسكري ولا تنديد بالقمع الذي قاده الأمير الحسن وإلى جانبه سليل العسكرية الفرنسية الجنرال أوفقير. ولم يملك أحد تلاميذ بن بركة أمام هذا الموقف إلا أن يعلق يائسا: "هذا باختصار ما استطاع المهدي بن بركة قوله عن مشاكل الريف في صيف 1959" .
7- إيمان قديم بدور الملكية
يعود تمسك الحركة الوطنية البرجوازية بالملكية إلى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين حين انطلقت هذه الحركة في مناهضة الحماية.
قامت الحركة الوطنية بدور جسيم في إضفاء شرعية على ملكية فاقدة المصداقية بسبب غياب أي دور لها في النضال ضد الاستعمار، بل تواطأت في إخماد المقاومة المسلحة. يقول بن بركة: "يجب ألا تنسوا أننا نحن الذين أعدنا في الواقع للملكية سمعتها في هذه البلاد. وتذكروا بأنه منذ معاهدة الحماية، أي منذ 30 مارس 1912، فقدت الملكية كل اعتبار في أعين الشعب" .
توهم أن هذا سيجعل الملكية متمسكة بحزب الاستقلال إذ يقول: "لنا في تاريخ الكفاح المشترك من حول جلالة الملك ما يجعل جلالته يعلم صدقنا وإخلاصنا لأنه لم يتعود منا غير ذلك" .
لم يكن إيمان بن بركة بدور الملكية، في الحفاظ على وحدة الشعب والتارب، رهين النضال ضد الاستعمار، لكنه إيمان متأصل حافظ عليه بعد الاستقلال: "من حسن طالع المغرب أن له في شخص جلالة محمد الخامس ضمانا لما هو في حاجة إليه من استقرار واستمرار" .
حافظ على هذا الاقتناع في عز صراعه مع الحسن الثاني، وسعى لإرغامه على التوافق حول ما لم يستطع نيله بالتنازلات من محمد الخامس.
8- التوافق أولا، ثم الديمقراطية أخيرا
يعد حق الأحزاب السياسية في العمل بحرية أحد ألفبائيات الديمقراطية. لا يمكن لأي ديمقراطي، جدير بهذه الصفة، التضحية بهذا الحق أيا كانت الاعتبارات.
نجد لدى بن بركة سهولة التضحية بمقتضيات الديمقراطية عند تعارضها مع هدف التوافق مع الملكية. حدث مع حل الحزب الشيوعي المغربي. قال بن بركة لعبد الله العياشي، أحد القادة التاريخيين للحزب الشيوعي المغربي: "طـُلب منا القيام بإجراءات منع حزبكم.. وإذا وُضعنا أمام الاختيار بين البقاء في الحكومة أو منعكم فاختيارنا تعرفونه"، واقترح عليهم "حل الحزب حتى لا تسجل على حزب تقدمي أنه كان وراء منع حزب حليف".
لا يخص هذا الموقف بن بركة، بل كان في صلب علاقة الحركة الوطنية بالملكية غداة الاستقلال. رفضت قيادة حزب الاستقلال إجراء أي انتخابات أو منح أي صلاحيات لحكومة امبارك البكاي باستثناء صلاحية التفاوض مع فرنسا. بل دافع بوعبيد في تقرير أمام حزب الاستقلال الاستثنائي 2 ديسمبر 1995 عن صلاحيات الملكية المطلقة، بقوله: "كلا، إن هذه الفترة الانتقالية، لا يمكن أثناءها تفويض أي سلطة تشريعية للحكومة وسيكون من الخطأ الفادح في فهم الديمقراطية، وأن نفكر في توزيع السلطة التشريعية بين جلالة الملك والحكومة المغربية التي تنحصر مهمتها الأساسية في تنفيذ القوانين. وعلى هذا فسيظل جلالة الملك هو المؤتمن الوحيد على السلطة التشريعية ولا يمكن أن يسلمها إلا لمجلس وطني منتخب متمتع بكامل السيادة" .
كان اقتناع حزب الاستقلال الراسخ بعدم قدرته على ضمان إجماع وطني، دافعا لرفض أوليات الديمقراطية في فجر الاستقلال. اختار الحزب الاصطفاف وراء الملكية، قصد القضاء بواسطة شرعيتها على أذناب الاستعمار اقتداء بالتوافق معها لبلوغ "الاستقلال". لذا جمد الحزب أي مطلب دستوري. وبعد أن تبين أن الملكية استفادت من الوضع، أخذ- خاصة يساره- ينادي بتنفيذ وعد الملكية بانتخاب جمعية تأسيسية.
تقاسمت الملكية وبن بركة اقتناعا أن اليسار سيكون المستفيد من انتخاب مجلس تأسيسي. وعبر بن بركة عن هذه الوثوقية بقول: "سيظهر الحق بعد الانتخابات التي نريد أن ينبثق عنها تمثيل للشعب صحيح" . لذلك قامت الملكية بصرف حكومة عبد الله إبراهيم التي كانت أسندت لها مهمة تنظيم انتخابات متم 1959، ولم تجر هذه الأخيرة إلا في عهد الحسن الثاني.
على هذا النحو، أسهم بن بركة والحركة الوطنية في توطيد سلطة الملكية رغبة في استعمال رمزيتها وهيبتها لتعبئة الشعور الشعبي من أجل مواصلة "الجهاد الأكبر" كما توهموا استعمالها في "الجهاد الأصغر".
بلغ وهم السعي وراء التوافق حد تقوية الملكية الاستبدادية بدل إضفاء صبغة دستورية أو برلمانية عليها، لا بل حد تزكية مظاهر الاستبداد الفردي: "عين الملك في يناير 1957 الأمير الحسن "ولي عهد المملكة"... بل إن بن بركة نفسه لم يجد غضاضة، وهو على رأس المجلس الوطني الاستشاري، أن يجعل هذه المؤسسة تصوت في ذلك الاتجاه" . هذا ما سينتقده الفقيه البصري بحدة عشر سنوات بعد اختطاف بن بركة في حوار مع جريدة البلاغ البيروتية: "باعتقادي أنه إذا قام مجلس نيابي في المغرب، فهو مجلس مبايعة ثانية للملك من خلال مبايعة ولي عهده، كما حصل بالنسبة للمجلس الاستشاري عام 1957، الذي اقتصر دوره على تنصيب الحسن الثاني وليا للعهد" .
إن هذا السلوك مسجل في جينات البرجوازية التي تسعى لانتزاع أكبر قدر من السلطة من الرجعية وتفادي سقوطها في يد أعدائها الطبقيين، ولا يمكن أن يكون الممثلون السياسيون للبرجوازية المغربية استثناء.
سجلت حوليات الثورة الفرنسية محاولات ممثلي أكثر أجنحة البرجوازية اعتدالا تقوية سلطة ملكية لويس السادس عشر قصد إقناعه بالملكية الدستورية؛ "حاول الاثنان [ميرابو ولافاييت] في ماي 1790 زيادة سلطات الملك بأن حملا الجمعية [الوطنية] على الاعتراف له بحق إقرار السلام وإعلان الحرب" .
لكن.. كما قال جيل بيرو "إن اتفاق الآراء ذو حياة قصيرة.. فما أن انقشعت أدخنة الوهم الغنائي، حتى قام الصراع بين القوى الثلاثة التي ترى في نفسها القدرة على استلامها وتصبو إليها: العرش، وحزب الاستقلال، ومجاهدو المقاومة" .
9- هل من تفسير لتعاون الحركة الوطنية والملكية؟
السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا هذا التمسك بالملكية ومساعدتها على توطيد سلطتها؟ ألم يكن يسار الحركة الوطنية البرجوازية واعيا بأنه ينسج بيديه شباك فخه؟ ألا يعني هذا غباء سياسيا مطلقا؟ هذا ما يستشف من تقييم إحدى تنظيمات اليسار الجذري بالمغرب، منظمة 23 مارس، التي ردت ذلك إلى "قصور الحركة الوطنية" وافتقارها لـ"مرجعية نظرية ملائمة للعصر، كنا نراها هجينا وشيعا من التوجهات دون بوصلة جامعة" .
لكن لا علاقة للجواب بالذكاء أو بقصور المرجعية النظرية، بل بالطبيعة الطبقية للحركة الوطنية وليسارها أيضا.
تشكلت الحركة الوطنية البرجوازية من علماء تقليديين ومثقفين برجوازيين صغار خريجي تعليم تقليدي أو فرنسي عصري. فكونوا هكذا "نخبة سياسية صغيرة"، معزولة عن الطبقات الرئيسية للمجتمع، رغم سعيها التعبير عن طموحات برجوازية ناشئة متضررة من الاحتكار الاستعماري ومستاءة من وزن الأعيان التقليديين و"الإقطاعيين" بالقرى. هذا ما عبر عنه واتربوري: "إنها لا تتحدر من طبقة ترتكز سلطتها السياسية على نفوذها الاقتصادي، باستثناء بعض الأفراد، حيث يرى أن معظم أفراد الطبقة القيادية يتحدرون من نخبة اجتماعية واسعة، ترتكز وضعيتها على النفوذ الديني والثقافي، أو على دورهم السياسي على المستوى الوطني أو المحلي.." .
نفس التوصيف قدمه جيل بيرو للحركة الوطنية: "استلم السياسيون المبادرة [مقاومة الاستعمار]، وهم لا ينتمون إلى عامة الشعب، ولا إلى البرجوازية الكبيرة صاحبة المشاريع المرتبطة جزئيا بالرأسمالية الأجنبية.." .
ظلت الحركة الوطنية منذ انطلاقها حبيسة العالم الحضري، وكان العالم القروي مسدودا في وجهها من طرف الأعيان القرويين، وبفعل الإجراءات الاستعمارية.
استنكفت البرجوازية عن دعم الحركة الوطنية في فترة نشوئها، رغم أنها كانت تدافع عن مصالحها التاريخية. ولم تلتحق البرجوازية بالحركة إلا في فترة الحرب العالمية الثانية، بعد تبني القصر المطالب الوطنية وإبداء الولايات المتحدة الأمريكية "تفهمها" لهذه المطالب أثناء إنزال الدار البيضاء سنة 1943.
أشار ألبير عياش إلى دوافع تأخر التزام برجوازية المغرب بدعم الحركة الوطنية: "هناك ظواهر أخرى ميزت سنة 1943، فالبرجوازية الكبرى التي اغتنت من بيع المخزونات الهامة التي ادخرتها قبل 1939 تضايقت من الإجراءات التمييزية التي أصبحت عرضة لها، وكانت تحد من توسعها وازدهارها، ومن جهة أخرى، فإن سبل السلطة والإدارة، بقيت دائما موصدة في وجهها، ولذلك بدأت تنحاز وتلتزم داخل الحركة الوطنية" .
كانت الحركة العمالية الناشئة- إلى جانب تناقض مصالحها مع مصالح البرجوازية- تحت هيمنة الشيوعيين، لذلك لم يكن ممكنا في هذه الفترة أن تكون سندا للحركة الوطنية.
دفع الضعف والعزلة الحركة الوطنية إلى اعتبار القصر مصدر مشروعية تاريخية يمكن استغلالها لتعبئة الشعب ضد نظام الحماية. عبر عن ذلك بجلاء المقاوم بنسعيد آيت إيدر بقول: "إن الحركة الوطنية كانت تنظر إلى السلطان ليس فقط كرمز للسيادة الشرعية المهددة. ولكنه ظل في نظرها ذا شخصية وطنية تؤهله لضمان مشاركة شعبية واسعة ووازنة في المعركة في ظرف لم تكن الكتلة قادرة على تعبئة الشعب وحدها" .
رأى العلماء الشباب بالمدن التقليدية في محمد بن يوسف الذي كان في عمرهم حليفا محتملا لميولاتهم الاستقلالية والإصلاحية، كان السلطان بالنسبة لهم رمزا لماض مجيد يجب إعادة بنائه.
حاولت الحركة الوطنية البرجوازية الضعيفة، والمفتقدة لسند شعبي خصوصا في القرى، حيث يقطن أكثر من %80 من سكان المغرب، أن تبحث عن سند فوقها، إذ لم يكن لديها أي نقطة ارتكاز في الشعب، أو في ذاتها.
استمر عجز الحركة الوطنية في مشاورات إيكس ليبان حيث فرض على الوطنيين المشاركة إلى جانب المتواطئين مع الاستعمار. وبعد ذلك أثناء تشكيل الحكومات بعد الاستقلال، حيث تشكلت أول حكومة دون أن ينال حزب الاستقلال مطمحه في حكومة منسجمة يشكلها لوحده.
حكمت طريقة نيل "الاستقلال" على حزب الاستقلال بالتواري خلف رمزية الملكية. لخص عبد الواحد الراضي، أحد تلامذة بن بركة، هذا الواقع بقول: "لقد كانت طبيعة انتصار المغرب على الاستعماريين دبلوماسية أكثر منها عسكرية، مما أتاح لسلطات الحماية، أثناء المحادثات حول استقلال المغرب، منع حزب الاستقلال من لعب الدور الحاسم، ومن ثم لم يحظ لا برئاسة الحكومة ولا بالأغلبية في تشكيلها ولا بالحصول على الوزارات المهمة... سيفرض ذلك على حزب الاستقلال، في غالب الأحيان، أن يكون في وضعية الدفاع عن نفسه أو أن يعبر عن تظلمه من تحجيمه وعدم إيلائه المكانة التي يستحقها في الوضع الجديد" .
واصل بن بركة اعتبار الملكية قادرة على ضمان الاستقرار. وشاطره الحسن الثاني هذا الاعتقاد وإن استغله في اتجاه معاكس، كما أوضح المهدي بنونة: "المهدي بن بركة، إلى جانب الحسن الثاني، هو الوحيد بكل احتمال الذي عرف معرفة واضحة الدوافع الاجتماعية والأيديولوجية لهذا الاندفاع الشعبي [أي تقديس النظام الملكي] وفهمها. ولئن اجتهد الحسن الثاني في جعل هذه الدوافع أداة سخرها ليؤسس عليها استمرار الملكية العلوية. فإن المهدي بن بركة، من جانبه، قد عمل على إصلاح تلك الدوافع ليمتلك المغرب مشروع تنمية" .
سعى بن بركة عن اقتناع إلى التعاون مع الملكية لانتشال البلد من التخلف بكل ما يحمله التحديث الرأسمالي من معنى، وما يقتضيه من استقرار وسلم اجتماعي واستمرار الشرعية: تصنيع البلد، ضمان حدود دنيا من الاستقلال عن المستعمر (القديم أو الجديد)، ديمقراطية برجوازية (مؤسسات لديها ما يكفي من السلطة) في وقت تحتل فيها الملكية دور الحكم (ملكية دستورية).
هذا سبب شهر عسل المهدي بن بركة والملكية في شخص محمد الخامس، انقضى بسرعة مع استكمال الملكية بناء جهاز سلطتها وتصفية جيش التحرير والقضاء على الانتفاضات المحلية، وستكون القطيعة مع ما أسماه بن بركة "انقلاب الحسن الثاني".
لم يكن دعم بن بركة للملكية دون مقابل، بل مقايضة/ صفقة سياسية، تليق برأسمالي حقيقي، كما عبر هو ذاته: "لكننا فعلنا كل ذلك على شرط كان واضحا في أذهان الجميع هو أن ننشئ لأنفسنا ملكية دستورية يكون فيها الملك رمزا لاستمرارية المؤسسات وتمارس فيها السلطة حكومة مسؤولة" .
1- حلم قديم مجهض
الملكية الدستورية حلم قديم للحركة الوطنية يعود إلى أيام توقيع "عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944"، حين توقع قادة حزب الاستقلال من السلطان أن يكون عاهلا دستوريا ذا امتيازات محدودة.
أثناء عرض مشروع وثيقة المطالبة بالاستقلال على محمد بن يوسف صرح بأنه من مؤيدي دمقرطة النظام الملكي، إلا أنه كان يرى ضرورة الحذر في استخدام كلمة "الملكية الدستورية" في أي نص علني، لأنها تحمل مفهوما ثوريا من الصعب أن تقبل به بعض شخصيات المخزن. وانطلاقا من هذا الوعد بمساندة سرية من السلطان، أعلن قادة الحزب الوطني في 11 يناير سنة 1944 تأسيس حزب الاستقلال. وقدموا وثيقة تطالب باستقلال المغرب في حدوده الترابية، وتحت رعاية السلطان محمد بن يوسف، وتلبية لرغبته لم يتحدث البيان عن الملكية الدستورية.
إنها ثقة عمياء في سلطان يعد بدعم سري لمطالب الحركة الوطنية في دمقرطة النظام الملكي، لكنه يطلب ألا يكون ذلك علنا. وهل يمكن لملك معزول ومحروم من أي سلطة أن يقوم بغير ذلك، أي طمأنة الحركة الوطنية في انتظار ميزان قوى أفضل؟
2- تكريس السلطة التشريعية في يد محمد الخامس: حكومة بدون اختصاصات
ركز "الاستقلال" السلطة كاملة في يد الملكية دون سواها. أقر بذلك عبد الواحد الراضي: "جاء الإعلان عن الاستقلال في 2 مارس 1956مشخصا في نقل جميع السلط من نظام الحماية إلى السلطان محمد بن يوسف بما فيها السلطة التشريعية، وذلك بمباركة جميع الأطراف الوطنية، وبالخصوص ارتياح حزب الاستقلال ذاته لأن محمد بن يوسف كان الوحيد الذي يتمتع بثقة الجميع" .
أثناء اعتماد حزب الاستقلال على محمد الخامس لمواجهة أذناب الاستعمار وحلفائه وطد سلطة الملك الشخصية، بقبوله المشاركة في حكومة منافية لمطالبه السابقة: حكومة منسجمة بقيادته.
قررت لجنة الحزب التنفيذية المجتمعة بمدريد منتصف نوفمبر 1955 المشاركة في أول حكومة ائتلاف برئاسة مبارك البكاي شرط "وضع جميع السلطات في يد محمد الخامس لقطع الطريق أمام استعمال الفرنسيين لأصدقائهم في الحكومة الائتلافية" . هذا بدل السعي إلى حكومة منتخبة ديمقراطيا.
عند انعقاد مؤتمر حزب الاستقلال الاستثنائي، الذي جرى تحضيره تحت شعار "حكومة منسجمة بقيادة الحزب". استعمل بن بركة وبوعبيد كل بلاغتهما قصد إقناع أعضاء الحزب بالمشاركة في حكومة البكاي الأولى. صرح بوعبيد: "قبلنا برئاسة البكاي للحكومة لموقفه النبيل في غشت 1953، وأضاف و"ما أكثر مسيري الحزب وأعضائه الذين لا يقبلون ذلك إلا على مضض" .
لم ينل قرار المشاركة رضى قياديين كبار في الحزب: "كان هناك داخل اللجنة التنفيذية ذاتها من لم يكن راضيا، أو على الأقل لم يكن متحمسا لما سيعرض على المؤتمر. فعلال الفاسي فضل البقاء في تطوان، ومحمد اليزيدي.. غضبان في طنجة منذ أن أخبر أنهم قبلوا المشاركة في حكومة لا يرأسها أحد قادة الحزب" .
إنها مفارقة تاريخية أن يدافع عن المشاركة في حكومة بلافريج سنة 1958 نفس من سيعارضون المشاركة في حكومة البكاي الأولى سنة 1955 بمبرر افتقادها للصلاحيات. بينما الذين سيعارضون حكومة بلافريج هم من عمل على إقناع الحزب بالمشاركة في حكومة بدون سلطات حقيقية.
3- لا مجلس تأسيسي.. بل دستور ممنوح
وعد محمد الخامس بعد عودته من المنفى بتشكيل مجلس تأسيسي يضع دستورا ينشئ ملكية دستورية، لكنه فضل طريقة أخرى: تشكيل المجلس الاستشاري الوطني معينا على رأسه المهدي بن بركة ذاته. وظل السؤال مطروحا: هل سينبثق النظام الجديد من ميثاق يمنحه الملك، أم من مجلس تأسيسي كما تمنى وسعى إليه بن بركة؟
بدلا من مجلس تأسيسي عين محمد الخامس مجلس الدستور مشكل من أعضاء الأحزاب والشخصيات الاقتصادية والثقافية بالبلد، قصد إعداد دستور مقرر في يونيو 1962، مشترطا أن يحظى بمصادقة الملك قبل أن يعرض على الاستفتاء الشعبي.
اقتنع الملك بما ينطوي عليه إنشاء مثل هذا المجلس من خطر، فهو سينتخب من قبل الشعب، وستحركه من الداخل قوى اليسار، الأمر الذي قد يعرض النظام نفسه لما لا تحمد عقباه.
اعترض الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ووجه انتقادات لهذه المنهجية المتبعة في وضع دستور وصفه بالممنوح. ورفض قادته المشاركة في هذه الهيئة، ومع ذلك، افتتح الملك رسميا أعمال المجلس الدستوري في 7 نوفمبر، وعقد اجتماعا في 18 يناير. ستنهي وفاة محمد الخامس بضعة أسابيع بعد ذلك، حياة هذه المؤسسة التي لن يستدعيها الحسن الثاني أبدا.
6- سوابق أرعبت الملكية
عزز انتخاب الجمعية التأسيسية في تونس وإقالة الباي وتأسيس جمهورية في يوليو 1957، تخوفات الملكية من أي طريقة يقر بها الدستور خارج منهجية المنح، رغم وعد الحركة الوطنية بما فيها بن بركة برزانة الجمعية التأسيسية المغربية، أي أنها ستحافظ على النظام الملكي.
تخوف القصر من هذه السابقة رغم استبعاد بن بركة احتمال حدوثها بالمغرب، ففي "يناير 1958 خاطب رئيس المجلس الاستشاري المغربي [بن بركة] المجلس التأسيسي التونسي بقوله: "إن المؤسسات تستمد قيمتها من الأشخاص الساهرين عليها" في إشارة إلى أن لا فرق بين مؤسسة الجمهورية التي اختارها التونسيون كشأن داخلي ومؤسسة الملكية التي يتعلق بها المغاربة.." .
خلق "خلع الباي بتونس سنة 1957... هزة بالمغرب أكثر من تونس، واعتبره محمد الخامس قفزة في مغامرة مجهولة، واستدعى سفيره من تونس" .
حرص محمد الخامس على رفض التنازل عن أي سلطة أو صلاحية مخافة إعادة السناريو التونسي؛ حيث لم يعد الباي بعد منح تونس استقلالها الداخلي يقوم بأي دور ذي شأن، مما سهل مأمورية بورقيبة الذي اكتفى بحث نواب البرلمان على إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية وانتخابه رئيسا.
ظل محمد الخامس والحسن الثاني متوجسين من أي منهجية صياغة دستور قائمة على انتخاب مجلس تأسيسي. لم يرد الحسن الثاني أي تسوية، حتى الجمعية التأسيسية الرزينة، التي وعد بن بركة بتعقلها، رأى فيها مغالاة. سيكون الدستور منحة ملكية أو لا يكون.
5- قمع المطالبين بوعد محمد الخامس
رغم أن "الملكية الدستورية" كانت وعدا من محمد الخامس ذاته، لحق القمع من كان ينادي بها أو يتجرأ على التلميح إليها. عندما ذكرت جريدة حزب الاستقلال الصادرة بالفرنسية نصا لجمال الدين الأفغاني يقول فيه: "يمكن للشعب أن يعيش من دون ملك، لكن الملك لا يمكنه أن يعيش من دون شعب"، حكم على إدريس الفلاح رئيس تحرير الجريدة، بعشرة أشهر سجنا، وصدر الأمر بتوقيف الجريدة لمدة ستة أشهر.
لقي عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري المصير نفسه في شتاء 1959- 1960، بعد نشر مقالات في جريدة التحرير عن ضيق مسؤوليات الحكومة وعجزها أمام الأجهزة الإدارية.
جدير بالذكر أن اعتقال اليوسفي والبصري ومنع جريدة التحرير جرى واليسار في "الحكومة" (عبد الله إبراهيم)، حكومة من المفترض أنها حكومة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. علق جيل بيرو: "فرض عليها [أي حكومة عبد الله إيراهيم] عار توقيف أصدقائها السياسيين" .
يعري هذا ادعاء بن بركة المشاركة الشعبية في الحكم، وهو ما سيفطن له بعد فوات الأوان، قائلا: "لم تكن قد مرت سوى ثلاثة أشهر على تأسيس حزبنا، ومع ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه رفاقنا على رأس أكثر من نصف الوزارات، تحركت الآلة القمعية الاستعمارية الجديدة ضدنا لحرمان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من قادته وإبعاد قادة مهمين مركزيا وجهويا عن الساحة السياسية، إما بمتابعات قضائية بتهمة ارتكاب جرائم وهمية تخل بالاحترام الواجب للملك، أو باختلاق مؤامرات مزعومة..." .
انقضى جزء من حياة بن بركة السياسية بعد الاستقلال في الركض وراء وهم الحصول على ملكية دستورية بالتوافق مع الملك محمد الخامس، وجاء إعفاء حكومة عبد الله إبراهيم ليزيل غشاوة "المشاركة الشعبية" في الحكم.
6- حركة وطنية ويسار مخدوعان
خـُدع العديد- منهم بن بركة- بسلوك محمد الخامس، وتوهموا أنه كان يسعى للتوافق مع الحركة الوطنية، لولا معارضة الأمير الحسن. يعد هذا تفسيرا مثاليا لفترة مهمة من تاريخ المغرب، حيث تعزى التطورات التي أرست ملكية الحسن الثاني التنفيذية إلى اختلاف شخصيتي محمد الخامس المصالحة والحسن الثاني الساعي إلى الانفراد بالحكم. ولم يفلت من هذا حتى مراقب نبيه لتاريخ المغرب مثل موريس بوتان الذي كتب: "لم يكن محمد الخامس بعيدا إذن عن القبول بالحل الذي ينادي به المهدي بن بركة ورفاقه، بيد أن مولاي الحسن كان له رأي آخر، فالملك بالنسبة إليه يحكم البلاد على هواه، وهنا أصل المواجهة التي ستحتدم فيما بعد بين الرجلين" .
استمر بن بركة وورثته يؤمنون بأن محمد الخامس كان ضحية ضغوط ابنه وحلفائه الذين الساعين إلى فصل الحركة الوطنية عنه. هذا ما جدد التذكير به عبد الرحيم برادة بقول: "كان بن بركة يعتبر الأمير الحسن العقبة الرئيسية أمام التفاهم مع محمد الخامس. بنظره كان الملك، على نحو ما، سجين ابنه" .
لكن هل كان لمحمد الخامس، الذي تسلم السلطة من فرنسا دون أن يملك بعد أجهزة دولة يستطيع الاعتماد عليها في مواجهة حزب وطني جماهيري، إلا أن يقدم تنازلات كلامية ووعودا معسولة في انتظار امتلاك وسائل القوة المادية؟ فعلى مدى سنوات حكم محمد الخامس كما كتب جيل بيرو: "لم يفرض العرش أي أمر، ولم يخلق علانية أي أزمة. لم يسع الملك مطلقا إلى اختبار القوة: بل إنه يهرب من مثل هذا الاختبار. إنه يستخدم فعالية الخصم لزعزعته" .
7- احتكار أجهزة السلطة الفعلية
قال فرديناند لاسال؛ "ليس الملك في حاجة لكتابة دستور جديد، والملكية عملية لأقصى حد حتى تبدد وقتا في ذلك. في يد الملك أداة القوة الفعلية، الجيش الدائم الذى يشكل الدستور الحقيقي للمجتمع" .
أنشأ القصر القوات المسلحة الملكية في 15 ماي 1956، وحرص محمد الخامس على احتكار الإشراف عليها. أسند قيادتها إلى ابنه الذي اختار أقرب مساعديه من الضباط المغاربة الذين اشتغلوا في الجيش الاستعماري ولا يملكون أي ماض وطني. أبعد محمد الخامس ضباط جيش التحرير، رغم أن هذا الأخير كان يشكل ثلث القوات المسلحة الملكية.
حرص محمد الخامس على احتكار أجهزة القوة، ولم يسمح أبدا لمبدأ التوافق العزيز على حزب الاستقلال ويساره أن يمتد إلى هذا الحقل. ويعود أحد الأسباب الجوهرية لإقالة حكومة عبد الله إبراهيم إلى تجرئها على جهاز البوليس، فما أن اتخذت قرار الاستغناء عن البوليس الفرنسي الذي كان ما يزال يعمل داخل الأمن الوطني المغربي كمساعدة فنية، قامت معارضة شديدة لهذا القرار انتهت بإقالة الحكومة.
علقت جريدة "الرأي العام" (لسان الاتحاد الوطني بعد منع "التحرير") في عددها 19 ماي 1960 بمقال عن هذه الأزمة؛ "من سيجلو.. هل البوليس الفرنسي والقوات الفرنسية.. أم حكومة عبد الله إبراهيم؟"... وفي عدد الغد صدرت تحمل العنوان التالي: "جلالة الملك يقرر إنهاء حكومة الرئيس عبد الله إبراهيم" .
5- وثوقية رغم الخداع
رغم كل هذه المناورات كان بن بركة يولي محمد الخامس ثقته، ويرى أنه سيفي بوعده القاضي بإنشاء المجلس التأسيسي. قال بن بركة: "إن المجلس التأسيسي الذي أعلن جلالة الملك عن إنشائه سيمكن من إشراكه [أي الشعب] في المستوى الوطني (...) ولحسن حظ المغرب أنه يتوفر على امتياز مهم يضمن له الاستمرارية والاستقرار يتمثل في شخص جلالة الملك محمد الخامس".
رغم هذه الثقة، أو بسببها بالضبط، سيمنع بن بركة في شهر يوليوز 1959 من دخول مكتبه بالمجلس الاستشاري، "بل إن مكتبه خضع لتفتيش دقيق على يد أفراد الشرطة الذين منعوه من الدخول، وسيطلب منه أيضا تسليم مفاتيح المكتب، في تصرف يعد إهانة شخصية لبن بركة... هكذا أقبر المجلس الاستشاري الذي سيصدر محمد الخامس قرارا رسميا بحله" .
كان بن بركة مقتنعا بمشاركة الحكم مع ملكية تعد أن تجعل نفسها دستورية. لكن فاجأه إعفاء محمد الخامس حكومة عبد الله إبراهيم بعد أن وضعها في مأزق حكومة لا تملك وسائل الحكم، إذ كان محمد الخامس يرفض التوقيع على مشاريع الإصلاح التي يقترحها عبد الرحيم بوعبيد. اعتبر بن بركة هذا الإعفاء انقلابا حقيقيا انتقلت فيه السلطة إلى يد القوات المعادية للشعب.
اعتقد بن بركة أن تنازلات محمد الخامس، البلاغية ليس إلا، كانت تطورا في اتجاه إشراك حزبه في الحكم. وقد كتب واصفا الوضع السياسي قبل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم: "التطور الدستوري كان إيجابيا إلى أن أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960، وابتداء من تلك اللحظة، أدت العودة إلى الحكم الفردي إلى إضعاف الروابط القائمة بين الشعب والعرش، لكي نصل في عهد الحسن الثاني إلى دستور ممنوح لا يولي أي اعتبار لحقوق الشعب صاحب السيادة" .
يفوز بالسلطة من يسعى لاحتكارها لا تقاسمها، وقد ظفر بها الحسن الثاني لأنه كان عازما على عدم تشاركها. في الوقت الذي خسرها بنبركة لأنه رضي بأقل من الاستئثار بها، وهذا بشهادته هو ذاته: "كان علينا نحن سنة 1956 أن نأخذ إدارة السلطة وقد رضينا بألا نأخذ هذه السلطة. وها نحن الآن نؤدي ثمن ذلك التأخر الذي أصيب به بلدنا" .
بعد وفاة محمد الخامس وتولي الحسن الثاني الحكم لم يتخلص بن بركة من هذه الثقة في الملكية وإن مع بعض التوجس من الملك الجديد. ومن علامات تلك الثقة ما سجله جيل بيرو عن تلك الفترة بقول: "من باريس وجه بن بركة إلى الحسن الثاني برقية "ود عميق وإخلاص صادق" كتب فيها: "واجبنا متابعة العمل الذي بدأه ملكنا في تشييد صرح مغرب حر، ديمقراطي مزدهر، وفقا لمثل جلالته الأعلى وللطموحات الشعبية" .
ستشكل إقالة حكومة عبد الله إبراهيم ووفاة محمد الخامس بداية مرحلة أخرى من حياة بن بركة السياسية، مرحلة الضغط على الملكية لتطويعها وإجبارها على تقاسم الحكم، بعد أن فشلت سياسة الإقناع والتنازلات التي أدت الحركة الوطنية ويسارها ثمنها غاليا.
قيم جيل بيرو حصيلة سعي الحركة الوطنية لتقاسم السلطة مع الملكية، وانتهى بجرد انتصارات هذه الأخيرة: "القوات المسلحة الملكية، كما يشير إليها اسمها تابعة للملك وتديره. وقد جعل أوفقير... من مديرية الأمن العام شرطة سياسية قادرة على تحطيم كل معارضة حقيقية؛ وأنهى الدستور الممنوح من الملك إرتاج الجهاز. وهكذا أمكن للحسن الثاني أن يحكم المغرب كما لم يسلق لأي سلطان قبله" .
طرح الحسن الثاني سنة 1962 دستوره للاستفتاء قاطعه الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. نال الدستور مصادقة أغلبية مصطنعة بأساليب التزوير والقمع، مكرسا هكذا الحكم الفردي قاضيا على آمال الحركة الوطنية ويسارها، ومنهيا مرحلة من التماسهما "ضمانات دستورية تحمي المؤسسات الجديدة من مزاجية القصر" . لتبدأ مرحلة أخرى في صراع بن بركة وحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، مرحلة لن تشكل قطيعة، إذ سيتسمر بن بركة في مطاردة وهم تطويع الحسن الثاني من أجل التوافق وتقاسم الحكم.
لم يكن صراع بن بركة مع الحسن الثاني حول مشروعية الملكية، فهذه بالنسبة له ضرورية بشكل مطلق، لكن حول طبيعة هذه المشروعية والأساس الذي تقوم عليه وحدود دورالملكية في تحديث البلد.
اشتكى بن بركة من أن الانفراد بالحكم سيؤدي إلى تراجع شرعية الملكية التاريخية، وبالتالي تراخي الروابط بين العرش والشعب، وسعى لإقناع الملكية الاكتفاء بدور الحَكَم ضمانا لمصلحتها وبقائها.
1- تنافس لا صراع
بدأ توتر علاقة بن بركة مع الملكية مباشرة بعد الاستقلال، وإن كان هذا التوتر لم يصل بعد حد القطيعة. سبب هذا التوتر ظهور الملكية غير قابلة للاستعمال كما سعى إلى ذلك مناضلو الحركة الوطنية الشباب.
بدأ التوتر منذ فجر الاستقلال على شكل تنافس بين الملكية وبن بركة، حول من يملك صلاحية تحديث البلد وحدوده. توجست الملكية من مشاريع المهدي وحزب القوات الشعبية (عملية الحرث، مشاريع "تعبئة السكان" مثل طريق الوحدة)، وعملت على عرقلتها. انتهى ذلك بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم في مايو 1960.
إنه صراع حول احتكار رمزية تحديث البلد بين الملكية وحزب الاستقلال ثم يساره فيما بعد. شهد بذلك موريس بوتان، أثناء الحديث لطريق الوحدة، الذي كتب: "أبدى العاهل بعض التحفظ على هذا المشروع... لأنه سيعزز مكانة رئيس المجلس الوطني الاستشاري في أوساط الشباب المغارب ويرفع من قيمته" ، وهو ما اعتبرته الملكية خطرا على شعبيتها المستعادة بفضل الحركة الوطنية ذاتها، لذلك انخرط الأمير الحسن في أشغال طريق الوحدة، لغاية يشرح بوتان بقول: "لا نحتاج إلى ذكاء كبير كي ندرك أن هذا التطوع ليس بريئا، فمولاي الحسن لا يمكنه أن يسمح للمهدي بن بركة في الانخراط في عمل عظيم لا يكون هو حاضرا فيه، وذلك خدمة "للمصلحة العليا"... لطموحاته! ولكي يتفادى كل تجاوزات أيديولوجية، استدعى الأمير ضباطا من القوات المسلحة للمشاركة في محاضرات الثقافة العامة التي يستفيد منها 11 ألف متطوع، بالموازاة مع المدرسين الذين اختارهم المهدي بن بركة" .
تنبهت الملكية إلى ما ينطوي عليه طريق الوحدة من احتمالات قد تضر بها، فتوجه محمد الخامس إلى فاس "إذ تم تنبيهه إلى التوجه الذي هاته. فجاء إلى عين المكان ووزع بسخاء شهادات الاستحقاق. لقد كانت طريقة لبقة لتسريح الجميع [وإيقاف التنمية]: التنمية نعم، ولكن ليس لخدمة الشعب" .
أورد موريس بوتان موقف عمر السغروشني الصادر في عدد "لوجورنال" 1 نوفمبر 2003، موقف يلخص كنه الخلاف بين بن بركة والملكية آنذاك: "تحقق الاستقلال سنة 1956، وأصبحت الحاجة ماسة لبناء أدوات السيادة من جيش وشرطة وإذاعة وتلفزة مغربية وبنك المغرب (...) وطرح السؤال: من يشيد ماذا؟ ومن هو المهندس الصانع؟" أرادت الملكية أن تنصب نفسها المهندس الوحيد، وأكدت ذلك، وفرضته واستدعت الحركة الوطنية كي تقوم بدور البناء ليس إلا. قبل جزء من هذه الحركة بذلك، والبعض الآخر رفضه وطالب بحقه الوطني أن يشارك من موقع المهندس هو أيضا، مما أدى سنة 1959 إلى نشأة حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (..) وسنوات من القمع المسلح، ففي منطق النظام، فـ "الرعية" تقوم بدور "البناء" ولا يمكن أن تكون في موقع المهندس". [مقال بعنوان "إنها نهاية حقبة، فهل يكرر التاريخ نفسه؟" .
2- الملكية تبادر بالقطيعة
لاحظ بن بركة إصرار الملكية على التخلص ممن يريد تحديد صلاحياتها، كما عاين اعتمادها على خبرة المستعمر القديم وهو ما كان يمقته. فقد أصبح الكولونيل محمد أوفقير على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني في يوليوز 1960، وجرى الاتفاق بين المغرب وفرنسا في أول شتنبر من نفس العام على بقاء الجيش الفرنسي في التراب المغربي حتى نهاية سنة 1963، الأمر الذي جعل المهدي يأخذ موقفا حادا من النظام ويفضحه على نطاق واسع.
بدأت الملكية المواجهة سنة 1960 باعتقالات في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على نطاق واسع. كان اسم بن بركة في قائمة الذين يجب اصطيادهم. لم يمر إلا بعض الوقت حتى أقيلت حكومة عبد الله إبراهيم في 21 ماي 1960، وفي فبراير 1961 توفي الملك محمد الخامس.
منذ تلك اللحظة، وبن بركة منفي، سيخوض صراعه الأخير والمميت، ضد انفراد الحسن الثاني بالحكم، وسيسعى لتطويعه من أجل تقاسم السلطة في إطار حلمه القديم بـ"ملكية دستورية".
3- لماذا رفضت الملكية التوافق رغم اعتدال بن بركة؟
برغم اعتدال مطالب بن بركة، وربط التحرر الاقتصادي بتعاون مع الملكية، رفضت هذه الأخيرة كل توافق مع الحركة الوطنية.
يعزى هذا إلى وعي الملكية أن المسارات التي تفتحها منظورات بن بركة ويسار الحركة الوطنية لا يمكن التحكم فيها ما أن تنطلق، وقد تكون الملكية ضحيتها (إما بتقليص سلطاتها، أو إسقاطها). لا تخضع الدينامية الداخلية لما طالب به بن بركة لنوايا الأشخاص، بل تندرج ضمن سياق عالمي مطبوع بصعود حركات التحرر الوطني وخطاب اليسار وإسقاط ملكيات (مصر، العراق).
الحسن الثاني مثل الفقيه البصري الذي "رأى سقوط الملكية المصرية المتعفنة وتأسيس عبد الناصر لجمهورية اشتراكية، وشهد الانقلابات المتتابعة في الشرق الأوسط، وتابع انتصار بن بلا في مدينة الجزائر؛ فكيف لا يؤمن أن عرش المغرب يهتز" .
عبر عن هذا أحسن تعبير صديق الحسن الثاني آنذاك، وذراعه اليمنى رضى كديرة، في مقال نشره منتصف الثمانينيات، يظهر حذر الملكية الغريزي إزاء أي إصلاح سياسي واقتصادي غير متحكم فيه من الأعلى. جاء في المقال: "لم يتأخر ظهور الخطر الذي سرعان ما أدركه الأمير مولاي الحسن ولي العهد: كان عالم الخمسينات والستينات يخضع بقوة، لتيار اليسار. لم يكن هناك ما يدعو إلى اللامبالاة إزاء هذا الأمر إذ أن أغلب الشعوب كانت تجد نفسها منساقة وراء تيار ليس من السهل على أحد أن يقاوم قوة جاذبيته لأن ميلاده صادف حقيقة تصفية الاستعمار أي خروج العدد من الأمم إلى الوجود، بعدما ظلت تلك الأمم إلى ذلك الحين تعاني من التسلط الإمبريالي. والتيار اليساري بالذات لم يكن سوى شكلا من أشكال رد الفعل ضد الإمبريالية التي كان المستعمر السابق يجسدها في أعين الشعب من جراء التباس تم تطعيمه بدراية وتسييره بذكاء" .
الامر عينه الذي لاحظه ريمي لوفو إذ كتب: "أن تحقيق النجاح في تحقيق العصرنة كان سيؤدي بتلك الجهات إلى الحد من دور النظام الملكي بحيث لا تصبح الملكية إلا بمثابة رمز للشرعية وللوحدة، إنما كان الحسن الثاني غير ذي استعداد على الرضوخ لهذا الأمر" .
نفس الاستنتاج بلغه بن بركة في "الاختيار الثوري"، لما كتب أن برنامج التحديث الاقتصادي المقترح "سيقوم بدور الأداة الفاعلة التي ستغير أسس هذا الحكم، لأنه لا يعقل أن يسير معنا النظام في خط هذا البرنامج دون أن ينقلب رأسا على عقب".. لكن غريزة البقاء لدى الملكية دفعتها إلى قمع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
4- سعي حتى الرمق الأخير إلى التوافق مع الملكية
رغم القطيعة، وتأكد بن بركة من استحالة ملكية دستورية وهو يراقبها تتحول ملكية مطلقة بين أيدي الحسن الثاني، لم يتخل في سنوات منفاه الأخيرة عن إيمانه بهذه الإمكانية، وبقي ملكيا دستوريا حتى الرمق الأخير من حياته. ففي حوار قبيل اختطافه خصه لمحمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام المصرية، صرح بن بركة أن "الجيش المغربي هو العقبة الرئيسية التي تسد طريق التطور الديمقراطي.." وأكد: "إننا قررنا… أن نمد يدنا للملك الحسن الثاني الذي مد يده إلينا وطلب تعاوننا بعد قطيعة سنوات… حتى لو كانت يد الملك التي امتدت إلينا مجرد تكتيك مؤقت فإننا نقبل أن نمد له يدنا" (كذا!!). وأضاف بن بركة: "إن الملك، إلى هذه اللحظة، أمل المغرب في تجنب حرب أهلية" .
"في 29 أكتوبر 1965، وفي باريس، أسر المهدي بن بركة، متفائلا رغم كل شيء، للطالب الأزموري: "توجد عروض من الملك إيجابية جدا. من الممكن أن نشترك في حكومة تضم قوى سياسية أخرى، واعتقد أن في هذا خيرا للبلاد، لأن المعارضة المطلقة ليست، في الأساس أمرا جيدا جدا. يجب، من وقت لآخر، معرفة كيف نكون إيجابيين ومتعاونين. واعتقد أن البلاد، في الأوضع الحالية، بحاجة إلينا، لأجل هذا أن أفكر بالعودة إلى المغرب".
في سياق انفتاح الحسن الثاني على المعارضة لتجاوز تداعيات انتفاضة مارس 1965، قدم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 20 أبريل بتنسيق مع بن بركة جوابا على "المذكرة الملكية" يتضمن "خطة لإنقاذ البلد من الأزمة المستفحلة". وفي هذا السياق قبل بن بركة اللقاء بمبعوث الحسن الثاني (صهره علي) لنقاش عودته إلى المغرب.
عرض بن بركة شروط عودته وهي ذات شروط الاتحاد الوطني للقوات الشعبية للمشاركة في الحكومة، أهمها:
توقيع عقد مع الملك لفترة سنتين تحدد بمقتضاه المسؤوليات داخل الحكومة تحديدا دقيقا.
تشكيل الاتحاد الوطني بعد ذلك حكومة منسجمة تضم شخصيات مستقلة تحظى بثقة الملك.
لا يعبر مطلب توقيع العقد إلا على حلم الحركة الوطنية القديم بالتوافق حول ملكية دستورية، كما أوضح موريس بوتان: "لا بد إذن أن المهدي بن بركة داعبه أمل تكرار هذه التجربة والتوصل إلى "توافق تاريخي"، وهو أمل عانقه منذ وقت طويل، ولكن ليس بأي ثمن!" .
كان الحسن الثاني مستعدا لتقديم الثمن، ثمن التخلص من معارض يريد "توافقا تاريخيا" بشروطه هو، وليس بشروط القصر. وعلى حد تعبير موريس بوتان: "إن التوافق كان مستحيلا بين الرجلين، فمن المعلوم أن "عرشا واحدا لا يسع ملكين" . في هذا السياق جرى ترتيب اختطاف بن بركة في باريس ونهاية المأساة لا زالت مجهولة.
8 من الزوار الآن
916820 مشتركو المجلة شكرا