الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > المقاومة والاعلام > تاريخ الإذاعة الفلسطينية "هنا القدس" 1936 1948
الحلقة الأولى
تأليف: نصري الجوزي "المقدسي"
العودة إلى الذكريات، تصبح أحياناً،
ضرورة ملحة،
تاريخاً وسياسة ونضالاً،
وحفظاً للتراث
خصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
نصري الجوزي،
تابع ذكرياته حول المسرح الفلسطيني
وفي هذا الكتاب يتابع هذه الذكريات
حول تأسيس إذاعة فلسطين "هنا القدس"
شؤونها وشجونها، والظروف النضالية الصعبة،
التي خاضها صفوة من كتاب وشعراء مرحلة الثلاثينات
والأربعينات في فلسطين.
قبل أن أتناول البحث عن تاريخ الإذاعة الفلسطينية هنا القدس وأتحدث عن الرواد الذين أسهموا إسهاماً فعالاً في رفع مستوى الأحاديث والأغاني وبرامج الأطفال والمسرحية الإذاعية، أحب أن أعرج قليلاً على أهم الأسباب التي حدت بالحكومة البريطانية، المنتدبة آنذاك على فلسطين، إلى تأسيس هذه المحطة الإذاعية الحكومية التي كان لها قصب السبق على جميع الإذاعات الحكومية في الشرق الأوسط.
تهويد فلسطين 1934
نشر الدكتور حاييم وايزمان، زعيم الحركة اليهودية مذكراته بعنوان "الخطأ والتجربة" ذكر فيها أن الانكليز والصهاينة كانوا قد اتفقوا على تهويد فلسطين عام 1934.
ولما لم يتمكن الفريقان المتآمران من تنفيذ خطتهما بسبب المقاومة العنيفة التي كان يقوم بها الفلسطينيون العرب إضافة إلى الثورات والاضطرابات التي أشعل نيرانها أبناء فلسطين والعاملون المخلصون في الحقل الوطني، فقد لجأت الحكومة البريطانية ممثلة برئيس النيابات العامة البريطاني (اليهودي) نورمان بنتويتش، إلى سن قوانين قاسية صارمة عرفت "بأنظمة الطوارئ"، وغايتها من وراء ذلك:
أ ضرب كل مقاومة وطنية.
ب منع العرب من التسلح والقضاء على فكرة القومية العربية والتلاحم الشعبي.
ج فرض الضرائب والرسوم الباهظة على الأراضي والأملاك بغية إرغام الفلاح على بيع ما يملك من الأراضي.
د تشجيع الهجرة اليهودية.
ه مضاعفة جهود الإنكليز في تسليح المنظمات العسكرية الصهيونية وغض النظر عن عصاباتهم السرية الإرهابية.
عندما تسلم أدولف هتلر السلطة في ألمانيا عام 1934 شعر أن اليهود في ألمانيا يسيطرون على مقدرات البلاد المالية والتجارية كما أنهم لا يخلصون لألمانيا التي يعيشون فيها ولا يعملون إلا لمصالحهم الخاصة، كما في كافة دول العالم، فإزاء هذا التكتل راح يضطهدهم ويلقي بهم في السجون والمعتقلات. وأخذ اليهود يطلبون ويزمرون ويهولون الأحداث التي كانت قائمة في ألمانيا.
وفي الوقت نفسه ازدادوا ضغطاً على الإدارة البريطانية لإلغاء قيود الهجرة إلى فلسطين عنهم وأخذوا يستصرخون ضمير العالم الغربي الذي وقع في شراكهم ولم يفهم أحابيلهم.
وفي أوائل آب (أغسطس) 1935 انعقد مؤتمر صهيوني في لوزان ولخص موقف المنظمة الصهيونية في ما يأتي:
"إن المؤتمر الصهيوني وهو يثمّن جيداً الدور الذي تقوم به الدولة المنتدبة بريطانية" ويؤكد مجدداً استعداد المنظمة الصهيونية للتعاون معها، يناشد الحكومة القيام بمسؤوليتها بتنفيذ سياسة فعالة ومنتظمة لتنمية الوطن القومي اليهودي على نطاق ووتيرة يفرضهما وضع اليهود في العالم، الأمر الممكن بمساعدة الحكومة الفعالة".
جاء ذلك في تقرير لجنة التحقيق الملكية للعام 1937.
ونتيجة للمساعي المبذولة من قبل المنظمات الصهيونية، دخل البلاد 60.000 مهاجر صهيوني عام 1935.
ونظراً لازدياد عدد اليهود الذي وصل عام 1935 إلى ما يزيد عن 350 ألفاً فقد بات من المرجح أن يرتفع عدد الدونمات التي في حوزتهم من 544 ألف درهم في العام 1925 إلى 1.332.000 دونم في العام 1936.
وعندما تبين للحكومة البريطانية أن الإجراءات التي اتبعها المندوب السامي السير ارثر واكهوب لم تحقق الأهداف التي تريدها وأن القمع والإرهاب والأنظمة المجحفة لم تؤت أؤكلها، لجأت إلى وسائل أخرى لضرب المقاومة الفلسطينية وتمزيق الصف العربي، فأعلن المندوب السامي في العشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1935 رغبة الحكومة في تعديل الوضع الدستوري في فلسطين.
وفي الحادي والعشرين من كانون الأول (ديسمبر) سنة 1935 دعا المندوب السامي رؤساء الأحزاب العربية الفلسطينية الستة، وعرض عليهم مشروع إنشاء مجلس تشريعي لفلسطين وطلب إليهم دراسته.
وفي اليوم التالي عرض هذا المشروع على الوكالة اليهودية.
وقد نص المشروع على تشكيل المجلس التشريعي من 28 عضواً على النحو التالي:
/12/ عضواً ينتخبهم الشعب.
/16/ عضواً يعينهم المندوب السامي.
أعضاء المجلس بالانتخاب:
/8/ أعضاء مسلمين.
/1/ عضو مسيحي.
/3/ أعضاء يهود.
أعضاء المجلس بالتعيين:
ثلاثة أعضاء مسلمون.
عضوان مسيحيان.
أربعة أعضاء يهود.
خمسة أعضاء من موظفي الحكومة.
- عضوان من المصالح التجارية الأجنبية.
تدارست الأحزاب الفلسطينية السياسية الستة المشروع الذي عرضه المندوب السامي فقبل المشروع مبدئياً بعض الأحزاب وطلبت أحزاب أخرى بعض التعديل كما أعلنت أحزاب ثالثة عن موافقتها .
ونظراً للموقف المتصلب الذي اتخذه الحزب العربي من المشروع، ورفض حزب الاستقلال تغيير موقفه بإدخال إصلاحات، ونتيجة للدراسات السرية التي قامت بها الحكومة تبين أن الرأي العام الفلسطيني يعارض المشروع في صيغته التي قدم بها.
أما اليهود فقد أعلنوا رفضهم المشروع وأكد زعماؤهم أنهم لن يقبلوا بإنشاء المجلس التشريعي قبل أن يصبحوا أكثرية السكان في البلاد.
وفي العشرين من آذار (مارس) 1936 اجتمع رؤساء الأحزاب بالمندوب السامي الذي أبلغهم أن الوزارة البريطانية تؤكد استعدادها لاستقبال وفد فلسطيني للتباحث معه.
وفي الوقت الذي كان فيه المندوب السامي يبذل جهوداًً لإقناع الزعماء الفلسطينيين بالذهاب إلى لندن، فإن بعض أعضاء مجلس العموم البريطاني طلب إجراء مناقشة عامة حول قضية فلسطين ومشروع إنشاء المجلس التشريعي.
ونظراً للضغوط اليهودية قرر هذا المجلس بعد مداولات طويلة رفض مشروع إنشاء مجلس تشريعي، مما زاد النار اشتعالاً في الرأي العام الفلسطيني والعربي.
على طريق الثورة:
وفي عام 1934 اشتد ساعد جبهة "الجهاد المقدس" تحت قيادة الشهيد عبد القادر الحسيني وكان من أهدافها: تدريب الشبان وتسليحهم، مهاجمة المزارع والمستعمرات الصهيونية، التعرض لدوريات الشرطة والجيش، نصب الكمائن وتعطيل الطرقات ونسف الجسور.
وازداد نشاط "الجهاد المقدس" ازدياداً ملحوظاً عام 1935.
وفي حيفا قامت أخطر منظمة سرية وأعظم حركة فدائية هي "حركة القساميين"، ومؤسس هذه الحركة هو الشيخ عز الدين القسام، عربي سوري من مدينة اللاذقية، كان مدرساً وخطيباً لجامع الاستقلال في حيفا وكان يعقد اجتماعات سرية بين أنصاره في الجامع يحضرها أعداد عمالية من الطبقة المغمورة.
وفي الثاني عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1935 غادر الشيخ عز الدين القسام مدينة حيفا يرافقه عدد من أنصاره المسلحين قاصدين ضواحي جنين لدعوة الفلاحين والشرفاء في تلك المنطقة إلى حمل السلاح في وجه البريطانيين والصهاينة، فاصطدم مع القوات البريطانية والبوليس في أحراج يعبد قرب مدينة جنين ووقف وقفته التاريخية المعروفة وأبى الاستسلام أمام القوات البريطانية والبوليس وقال لرفاقه: "موتوا شهداء".
وفي الواحد والعشرين من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1935 اشتركت الألوف المؤلفة في حيفا، ممثلة بالوفود من جميع الأحزاب والهيئات، في جنازة الشهيد القسام وصحبه وكانت الجثث مرفوعة على الأكف تصرخ "الله أكبر، الله أكبر" كما كانت النساء يزغردن من على الأسطحة وشرفات البيوت والجماهير المشيعة تردد بأصوات كالرعد: "الانتقام الانتقام".
وقد رشق الجمهور الثائر دائرة البوليس بالحجارة وحطم السيارات الواقفة أمامها.
وقد تابعت الجماهير مسيرتها إلى مقبرة بلد الشيخ التي تبعد ما يقرب من 5 كيلومترات وهم يحملون النعوش ويهللون ويكبرون وينددون بالسياسة الخرقاء التي كانت تتبعها الحكومة البريطانية.
كان تجمع الغيوم في خريف عام 1935 وبداية عام 1936 نذيراً بالعاصفة. فالعمال العرب العاطلون في ازدياد مستمر، والأزمة الاقتصادية في البلاد على أشدها، ودخول 60.000 مهاجر صهيوني، إضافة إلى القوانين الجائرة التي كانت تسنها السلطات الحاكمة ضد مصالح العرب الفلسطينيين، ومحاولة خلق بلبلة بين الأحزاب الستة، كل ذلك سبّب قلقاً واضطراباً رافقه تحفز ملموس للتمرد والعصيان كما اتسعت الاصطدامات بين الجماعات العربية وقوات الحكومة وازدادت الهجمات على المستعمرات الصهيونية ومخيمات الجنود البريطانيين، كما اشتدت عمليات تأديب الخوارج والجواسيس وباعة الأراضي.
في هذه الأجواء الوطنية الصادقة، وفي خضم هذه الانتفاضات والثورات وقيام نشاط بعض الأحزاب، وبلوغ التذمر مداه في جميع مدن فلسطين وقراها، أنشأت الحكومة البريطانية محطة الإذاعة الفلسطينية في شهر نيسان (ابريل) سنة 1936 رغبة منها في تهدئة الخواطر وتحويل الجماهير المناضلة الثائرة عن أهدافها الرئيسية وهي:
1 إيقاف بيع الأراضي.
2 منع الهجرة اليهودية.
3 الحفاظ على عروبة فلسطين.
ولعل من أهم أهداف الانكليز في تأسيس الإذاعة الفلسطينية هو شعور بريطانيا بكره العرب الفلسطينيين لهم وميلهم لبطل الساعة آنئذ الهر أدولف هتلر.
كانت محطة الإذاعة الفلسطينية عند تأسيسها 1936 تشغل غرفتين من غرف "فندق بالاس" الواقع في شارع مأمن الله في القدس.
وفي أوائل الحرب العالمية الثانية أي سنة 1939 انتقلت إلى دار كبيرة مكونة من تسع غرف للإذاعة وخمس غرف للأعمال الهندسية.
كانت مدة البرنامج اليومي عشر ساعات ونصف الساعة مقسمة كما يأتي:
أربع ساعات ونصف باللغة العربية.
ثلاث ساعات ونصف باللغة العبرية.
ساعتان ونصف باللغة الانكليزية.
وعند افتتاح محطة الإذاعة الفلسطينية كان عدد أجهزة الراديو في البلاد ما يقرب من الواحد والعشرين ألفاً.وكانت قوة المحطة 20 كيلو واط وتبث على 449.1 متراً بما يساوي 668 كيلو سيكل.
تسلم إدارة القسم العربي في محطة الإذاعة الفلسطينية ثلاث شخصيات معروفة هم السادة:
إبراهيم عبد الفتاح طوقان: أحد رواد الشعر العربي في فلسطين.
عجاج نويهض: صاحب القلم السيّال، محرر مجلة "العرب" التي كانت تصدر في القدس.
عزمي النشاشيبي: أول من حصل على دبلوم الصحافة من إنكلترا وساهم في تحرير جريدة "فلسطين" باللغة الانكليزية.
ناهيك عن أن أدباء معروفين في العالم العربي قد أسهموا إسهاماً فعالاً في تقدم القسم العربي وتطوره أمثال الأساتذة:
محمد أديب العامري، عصام حماد، سعيد العيسى، موسى الدجاني، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، عبد الحميد ياسين وراجي صهيون.
إن المناهج التي اختطها المدراء ومساعدوهم، والأهداف التي عملوا من أجلها كان أهمها:
1 تعزيز اللغة العربية الفصحى، ومقاومة الأفكار الاستعمارية التي كانت تسعى إلى إدخال اللغة الدارجة بدلاًمن اللغة الفصحى. وحجة القائمين الإنكليز على تسيير دفة الأمور في محطة الإذاعة، أن الشعب بجميع طبقاته يفضل اللغة الدارجة التي يفهمها وينفر من لغة امرئ القيس والنابغة الذبياني، ولكن العرب الفلسطينيين المسؤولين عن القسم العربي تصدوا لهذه الهجمات المسعورة وردوا المستعمرين إلى نحورهم.
2 مقاومة السياسة البريطانية الخرقاء، ومخالفة القوانين الصارمة التي أحدثتها لتكبيل أيدي القائمين على إدارة القسم العربي .وقد لعبت الصحافة الفلسطينية دوراً بارزاً في هذا المضمار.
3 توعية الشعب العربي الفلسطيني إلى الأخطار المحدقة به والدسائس التي كانت تحاك له في الخفاء وتذكيره بتاريخه المجيد وأبطاله الذين خاضوا المعارك والحروب ورفعوا اسم العرب عالياً.
كل ذلك عن طريق الأحاديث، والقصص، وبرامج الأطفال، والمسرحيات، والأغاني.
أما أهداف الإذاعة لدى المستعمر فهي:
إعاقة الجهود العربية للدفاع عن فلسطين، إظهار اليهود بأنهم شعب متحضر، لاقى ما لاقى من الظلم والاضطهاد في جميع أرجاء العالم، وتطبيق نظرية المستعمر المعروفة ب "فرق تسد".
ولكن الإذاعة الفلسطينية كانت خيراً على العرب، وتوعية لجماهيرهم، وتفنيداً للأفكار المضللة التي كانت ترمي إليها السياسة البريطانية المخادعة.
ولنا عودة إلى هذا الموضوع.
مدير القسم العربي
يذكر المرحوم خليل السكاكيني في كتابه "كذا أنا يا دنيا" ورسائله المرسلة إلى ولده سري بتاريخ الثلاثاء 26 / 11 / 1935 أنه بعد العشاء زاره جورج بك انطونيوس مؤلف كتاب "يقظة العرب" وقال له:
"جاءني اليوم مدير محطة الإذاعة (البريطاني) في القدس وقال: "نحن في حاجة إلى مدير للقسم العربي، وقد أعلنت حاجتي هذه فجاءتني رسائل كثيرة موعد النظر فيها يوم الاثنين ولكنني أحببت أن أستعين بك لأنك تعرف أبناء البلاد، فهل هناك شخص يصلح لهذا العمل تدلني عليه؟" فقلت له: أعرف شخصاً تعرفه فلسطين بأسرها، كبارها وصغارها، نساؤها وبناتها، صفته كذا وكذا ولست أظن أنك واجد مثله في فلسطين ولو فتشتها بمصباح ديوجينوس، ولكنه الآن موظف في إدارة المعارف وقد يكون على وشك التقاعد، ولست أدري رأيه فهل تعرّفني شروطك لأعرضها عليه ثم أرد عليك الجواب في يوم أو يومين؟
وقلت لجورج: أترك الأمر لك ولكن أخشى أن تكون قد بالغت في الثناء علي أولاً، ولا شك أن الحكومة ستنصحه أن يفتش عن غيري، ثانياً، لأنها لا تصدق أن يحين وقت التقاعد لتتخلص مني، لقد جنّت مرة واحدة في انتدابي للتفتيش ولست أظن أنها على استعداد أن تجن مرة ثانية.
قال: لقد وصفتك على حقيقتك، لقد قلت له: إنه متطرف في آرائه وفي وطنيته، صعب القياد لا يطيق أن يتحكم به أحد، أو يفتش عمله أحد، فيقول أعمل كذا ولا تعمل كذا الخ.. ولكنه غير مجنون أولاً وهو ذو مقام رفيع في بلادنا ثانياً.
فقال مدير الإذاعة: "هذا هو الشخص الذي نريده" فقلت له: "هناك شيء ثالث، وهو أني أفضل أن يكون في هذا المنصب مسلم".
الخلاصة لم يسعني إلا أن أنزل على رأي جورج بك وأترك الأمر له فيما يتفق عليه مع الجماعة أقبل به".
وفي يوم الخميس الثامن والعشرين من تشرين الثاني (نوفمبر) 1935 يذكر السكاكيني أنه وجد عند جورج بك انطونيوس مدير محطة الإذاعة الانكليزي ومدير المطبوعات.
وكان لمدير الإذاعة النصيب الأكبر من الحديث ويقول السكاكيني:
"ولكن لا أزال أعتقد أن تعيين مدير القسم العربي سيكون برأي الحكومة والذي يوصي به المستر فلان والمستر فلان من رجال الحكومة".
وفي مذكرة يوم السبت الواقع في 4 / 1 / 1936 يقول المرحوم خليل:
"بينما أنا اليوم في مكتبي في إدارة المعارف إذ دعاني المستر بومن إليه (مدير المعارف الانجليزي) وقال: سئلت عن مدير القسم العربي في محطة الإذاعة فرشحتك.
فقلت له: لقد راجعوني قبل اليوم فنصحتهم أن يفتشوا عن مسلم، ولعل أحسن مسلم لمتل هذا العمل هو الأستاذ عادل جبر.
فقال: لا استغرب ذلك فقد عرفتك من أشد الناس إباءً وأشرفهم أخلاقاً، وإذا رشحتك لهذا العمل فلا تظن أنني أفضل أن تتركنا فإننا لا نستغني عنك، ولكن هذا العمل الجديد ذو صلة قوية بالثقافة ولعلك تفيد فيه كما تفيد في ميدان التربية والتعليم". فوعدته أن أقابل الجماعة.
السبت في 11 / 1 / 1936
يذكر الأستاذ السكاكيني أن لجنة الإذاعة دعت الأستاذ عادل جبر والأستاذ رفيق التميمي للمقابلة في الموعد الذي ضربته لي.
ويقول السكاكيني معلقاً: "أي أنها تريد أن تقابلنا نحن الثلاثة فتقلبنا وتقيسنا وتفحصنا فحصاً دقيقاً لتختار واحداً منا كأننا أغنام أو أفراس أو آلات سلع. أجلّ نفسي أن أزاحم أحداً على مورد عيش ولو سدت كل الأبواب في وجهي، بل إنني أفضل أن أموت جوعاً من أن أنتزع لقمة من فم أحد".
ويقول في مكان آخر:" ذهبت فوجدت الأستاذ عادل جبر والأستاذ رفيق التميمي، فطلبوهما الواحد بعد الآخر وسألوهما أسئلة مختلفة ولما جاء دوري، دخلت فحييت وقلت لهم: اسمحوا لي أن أقول لكم أنني لا أحب الامتحان وقد طلبت من المستر بومن أن يسحب اسمي فأبى علي إلا أن أتشرف بمقابلتكم وأطلب منكم أن تسحبوا اسمي، والآن بخاطركم".
في الثلاثين من شهر آذار (مارس) سنة 1936 نقل الأثير حفلة افتتاح محطة الإذاعة الفلسطينية "هنا القدس".
ويقول المرحوم السكاكيني في رسالة إلى ولده سري، مؤرخة في 31 / 3 / 1936.
"كان أمس موعد افتتاح الراديو في فلسطين والظن كل الظن أنكم لم تسمعوا شيئاً لاختلاف الوقت بيننا وبينكم.
ومن حسن حظكم أنكم لم تسمعوا شيئاً.
أما الموسيقى فتافهة، وأما الغناء فمن الدرجة المئة فنازلاً، ومع ذلك قلنا لا بأس، كل شيء في أوله لابد أن يكون ضعيفاً.
ولكن الذي أثار الغضب، غضب الناس، ما كان يتكرر في الترجمة العبرية من تسمية فلسطين بأرض إسرائيل.
إذا كانت فلسطين أرض إسرائيل فنحن العرب دخلاء ثقلاء وليس لنا إلا الرحيل.إنها لقحة عظيمة لا تستسيغها النفوس.
واليوم صباحاً أخذت التلفون وطلبت مدير القسم العربي في الإذاعة وقلت له: "لقد قررت بعد أن سمعت كلمة "أرض إسرائيل" أن أقاطع الإذاعة الفلسطينية فاشطب اسمي".
وفي مذكرة المرحوم السكاكيني إلى ولده سري المؤرخة في يوم السبت الرابع من شهر نيسان (ابريل) سنة 1936 يقول:
"لقد كان لإنسحابي من الخطابة في الإذاعة الفلسطينية استنكاراً لقول اليهود أن فلسطين أرض إسرائيل، ضجة في طول البلاد وعرضها. وقد استغرب إقدامي على الانسحاب وأنا من عمال الحكومة الكبار كما يقولون، فإن عملي هذا قد يغضب الحكومة ويصورني لها بصورة الثائر المتمرد، أو على الأقل بصورة المشاكس المشاغب، على حين كان الناس وكانت الحكومة معهم يعتقدون أن هذه الخدمة الطويلة قد روضت طباعي وألانت قيادي ودمثت أخلاقي وجعلتني هيناً ليناً تأمرني فأطيع وتكلفني ما شاءت من الأعمال فلا أتأخر ولا أتردد إيثاراً لرضى الحكومة على كل شيء.
وقد استغربوه لأنني الوحيد الذي انسحب من العمل في الإذاعة وقد كان غيري من أصحاب الأعمال الحرة، ممن لا تربطهم بالحكومة رابطة، أولى بذلك، ولكن أحداً منهم لم يفعل هذا.
إذن، ليحيى السكاكيني ولتحنَ له الهام إجلالاً.
وقد استغربت الحكومة عملي كل الاستغراب وخافت منه كل الخوف، خافت أن أكون قدوة سيئة لغيري، وأن يمتنع غيري كما امتنعت ففزع مدير الإذاعة الانكليزي إلى مدير المعارف مستعيناً به على إرجاعي إلى الطاعة، فاجتمعنا في إدارة المعارف فقال مدير الإذاعة:
اتفقت معنا أن تخطب، وقد قدمت كلمتك الأولى وكلمتك الثانية كتابياً، وقد أعلنا موعد إلقائك كلمتك الأولى في برنامج الإذاعة، فكيف انسحبت في الدقيقة الأخيرة؟
قلت له: ليس بيني وبينكم اتفاق مكتوب أولاً وقد أبلغتكم انسحابي قبل الموعد بيومين أو ثلاثة، ففي استطاعتكم أن تدبروا غيري ثانياً.
قال: "ولكنك من عمال الحكومة، وهذا يغني عن أن يكون بيننا وبينك اتفاق مكتوب".
فقلت: "مهما كان الأمر فلا استطيع أن أتكلم في إذاعة تعلن أن فلسطين أرض إسرائيل".
قال: "إن انسحابك يعطل علينا عملنا ويضطرنا أن نأخذ المتكلمين من الطبقة الثانية أو الثالثة".
فقلت له: "أشكرك كثيراً على اعتباري من الطبقة الأولى بين المتكلمين ولكنني آسف إذ أنني لا أستطيع أن أرضى عن تسمية فلسطين "أرض إسرائيل" فأنا عربي قبل كل شيء والمسألة مسألة عاطفة وعقيدة ولا يستطيع أحد أن يتحكم بعاطفتي وعقيدتي، ثم خرجت".
يقول المرحوم السكاكيني في يوميات يوم السبت الواقع في 4 / 4 / 1936 ما يلي:
"وقد اضطرت الحكومة على إثر انسحابي أن تعلن أنها منعت اليهود من أن يسموا فلسطين أرض إسرائيل".
ويبدو أن الأستاذين الفاضلين عادل جبر ورفيق التميمي لم يوافقا على شروط لجنة الإذاعة لتعيين احدهما مديراً للقسم العربي للإذاعة الفلسطينية فوقع الاختيار على الشاعر المرحوم إبراهيم عبد الفتاح طوقان وكانت لجنة الإذاعة قد قابلته في أواخر عام 1935.
وسكت القائمون على مصلحة الإذاعة نحو شهرين ثم عادوا إلى إبراهيم.
وفي رسالة بعث بها إلى صديقه عمر فروخ يقول فيها: "بعد أن قابلت الجماعة المسؤولين وحصل القبول استولى عليهم نوم عميق كنت أنا خلاله ساهراً. وبعدما يقرب من الشهرين عادوا وطلبوني للمقابلة وسألوني هنا السؤال البارد: هل أنت مستعد لقبول هذا المركز؟ فأنصفني يا أخي من هؤلاء السخفاء.
ولابد من القول أنني كنت أتحسس الأخبار فأجد أنهم على اتصال مع أناس آخرين يفاوضونهم في المشروع ذاته ويقابلونهم ويقارنون بيننا، وكان قدتقدمت إليهم طلبات عديدة. وأخيراً على ما ظهر قر قرارهم على أخذي وحولوا أوراقي للمندوب السامي ليوافق عليها".
وفي شهر آذار (مارس) سنة 1936 تسلم إبراهيم إدارة البرامج العربية في محطة الإذاعة الفلسطينية بعد كل مناورات لجنة الإذاعة ومداوراتها وهي المعروفة باللف والدوران عملاً بقول سادتها في لندن وحباً في خلق البلبلة ورغبة في تنفيذ سياسة مخطط لها.
إبراهيم عبد الفتاح طوقان
أول مدير للقسم العربي في الإذاعة الفلسطينية
ولد إبراهيم سنة 1905 في مدينة نابلس المحافظة وتلقى دروسه الابتدائية في المدرسة الرشادية الغربية طوال سني الحرب العالمية الأولى (1914 1918). وبعد الاحتلال البريطاني لفلسطين انتقل إبراهيم إلى القدس الشريف، إلى بيئة عربية أكثر تحرراً من بلدته ودخل مدرسة المطران (وتعرف بمدرسة سان جورج) تلميذاً داخلياً وكان أخوه أحمد في ذلك الوقت يتلقى علومه في الكلية الإنكليزية في القدس وبقي إبراهيم في مدرسة سان جورج حتى السنة الدراسية 1922 1923.
عرفت إبراهيم في مدرسة المطران وكان من لداتي، صبياً نحيل الجسم، ضامر العود، قصير القامة، حنطي اللون، عصبي المزاج، يقبل على اللغة العربية إقبالاً كبيراً ويستفيد من أستاذ اللغة العربية المرحوم خليل بيدس، الكاتب القصصي المعروف والمؤلف الذي بلغت كتبه المؤلفة والمترجمة الثلاثة والأربعين كتاباً بينها كتب قراءة مدرسية ممتازة.
وبدأ إبراهيم يقرض الشعر ويقوله في المناسبات التي تعرض له والأحوال التي تمر.
وتقول فدوى شقيقته في مقال لها بعنوان: "أخي إبراهيم" نشرته في العدد السادس من (سلسلة الثقافة العامة) التي كانت تصدر أعدادها عن المكتبة العصرية في يافا سنة 1946. تقول:
"وفي مجموعة أشعاره التي نظمها خلال عاميه الأخيرين في مدرسة المطران (أي بين 1921 و 1922 و 1923) نحس بالشاعرية الكامنة التي كانت تأخذ عدتها لتشتعلن بعد حين قصير في شعره القوي، كما نلمس تلك الروح الوطنية المشتعلة التي تشرّبها منذ الصغر والتي أذابها فيما بعد في شعره الوطني".
وقد تأثر إبراهيم بالمرحوم نخلة زريق وكان مدرساً للغة العربية في (الكلية الانكليزية) في القدس، وأستاذاً لشقيقه أحمد الذي كان طالباً فيها، والذي كان ينقل بدوره إلى إبراهيم عيون الشعر العربي القديم والحديث الذي كان ينقله المرحوم نخلة زريق إلى طلابه فيستظهرها إبراهيم. وعندما كان يزور بيت الأستاذ صحبة أخيه أحمد، كان يستمع إليه يخوض في الشعر والأدب مما كان له شأن في حياة إبراهيم المستقبلية ونزعاته الوطنية والقومية.
وفي عام 1923 انتقل إبراهيم إلى الجامعة الأميركية في بيروت وكانت تعرف وقتئذ بالكلية، وقضى فيها ست سنوات 1923 - 1929على أيدي أساتذة مرموقين منهم الأديب المعروف أنيس المقدسي واللغوي جبر ضومط.
وفي الجامعة الأميركية جمعت المودة بينه وبين العديد من الطلاب أخص بالذكر منهم عمر فروخ، ووجيه البارودي وسعيد تقي الدين. الأول أصبح دكتوراً في الفلسفة وباحثاً وله ما يزيد على عشرين كتاباً في الأبحاث العربية والإسلامية، والثاني وجيه البارودي الذي غدا شاعراً مرموقاً وهو من حماة، وله جولات وجولات في الشعر الغزلي والوطني، أما سعيد تقي الدين فيعتبر من أوائل القصاصين والروائيين.
كان إبراهيم يحمل في جسمه الهزيل ثلاثة أمراض كانت دائما حائلاً كبيراً دون تحقيق كامل أحلامه، والأمراض هي: صمم في أذنه، وقرحة في معدته، واستعداد في أمعائه لأنواع الالتهاب.
وفي أواخر عام 1924 دخل إبراهيم مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت ليعالج من القرحة في معدته ومن وحي إقامته تلك جاءت قصيدة "ملائكة الرحمة":
بيض الحمائم حسبهنه اني أردد سجعهنه
رمز السلامة والوداعة منذ بدء الخلق هنّه
ويملن والأغصان ما خطر النسيم بروضهنه
إلى أن يقول:
ما الكهرباء وطبّها بأجل من نظراتهنه
يشفي العليل عناؤهن وعطفهن ولطفهنه
مرّ الدواء بفيك حلو من عذوبة نطقهنه
وفي سنة 1926، تعلق قلبه بفتاة فلسطينية طالبة هناك فنظم فيها قصيدته المعروفة:
"في المكتبة" والآنسة م.ص. من كفركنا قضاء الناصرة وهي بلدة مشهورة بالرمان، ويبدأ قصيدته بما يلي:
وغريرة في المكتبة بجمالها متنقبه
أبصرتها عند الصباح الغض تشبه كوكبه
جلست لتقرأ أو لتكتب ما المعلم رتّبه
فدنوت أسترق الخطى حتى جلست بمقربه
وحبست، حتى لا أُري أنفاسي المتلهبه
ونهيت قلبي عن خفوقٍ فاضحٍ فتجنبه
إلى أن يقول:
راقبتها فشهدت أن الله أجزل في الهبه
حمل الثرى منها على نور اليدين وقلّبه
وسقاه في الفردوس مختوم الرحيق وركّبه
فإذا بها ملك تنزّل للقلوب المتعبه
وفي الآنسة م.ص. نظم قصائد كثيرة وكان بعد لم يتورط في الغرام حتى ذلك التاريخ.
وتخرج إبراهيم من الجامعة عام 1929 وحصل على شهادة البكالوريا وراح يخوض معركة الحياة وينظم قصائده الوطنية التي أخذت في الانتشار.
وفي عام 1929 قامت ثورة في فلسطين قتل فيها عدد كبير من اليهود وحكم على ثلاثة من العرب بالإعدام وهم فؤاد حجازي من صفد، ومحمد جمجوم وعطا الزير من الخليل، ونفذ فيهم حكم الإعدام يوم الثلاثاء، السابع عشر من حزيران (يونيو) 1930. وخاض إبراهيم معركة الشعر ونظم قصيدته المعروفة، (الثلاثاء الحمراء) بدأها بقوله:
لما تعرّض نجمك المنحوس
وترنحت بعرى الحبال رؤوس
ناح الأذان وأعول الناقوس
فالليل أكدر والنهار عبوس
طفقت تثور عواصف وعواطف
والموت حينا طائف أو خاطف
والمعول الأبدي يمعن في الثرى
ليردهم في قلبها المتحجر
وقد انتشرت القصيدة انتشار البرق وراح عشاق الأدب يقرأونها في شتى الجرائد والمجلات.
ومن مواقفه المأثورة ردّه على شاعر اليهود رؤوبين، وكان قد نشر في جريدة (دوارهايوم) اليهودية قصيدة بعنوان "أنشودة النصر" أشاد فيها ببطولة اليهود أثناء اضطرابات 1929 عرّض فيها بأصل العرب واستهزأ بالتراث العربي وادعى أن هاجر كانت جارية عند سارة زوجة إبراهيم أم الإسرائيليين.
وفي هذا المجال يقول إبراهيم:
"وقد نظمت هذه القصيدة رداً على "أنشودة النصر" غير معترض على الحوادث بقدر اعتراضي على تاريخ اليهود وتوراتهم وما عرفوا به من قبل وما هم عليه اليوم من الادعاء الباطل والغدر ونكران الجميل مما يناقض كل ما ادعاه الشاعر رؤوبين وما وصف به قومه من المزايا والأخلاق".
والقصيدة تقع في اثنين وأربعين بيتاً نقتطف منها الأبيات التالية:
هاجر أمّنا ولود رؤوم لا حسود ولا عجوز عقيم
هاجر أمنا ومنها أبو العر ب ومنها ذاك النبي الكريم
نسب لم يضع ولا مزقته بابل أيها اللقيط اللئيم
ودم في عروقنا لم يُرقه سوط فرعون والعذاب الأليم
يعلم الدهر أي أهرام مصرٍ ذلّكم في صخوره مرقوم
هرم خالد يغشّيه ظل من عبودية لكم لا تريم
أي رؤوبين غطِّ وجهك حتى لا يرى الأنف أنه مهشوم
إلى أن يقول:
أي رؤوبين هل قرأت شكسبير؟ بلى أنت شاعر مشؤوم
وشكسبير خالد القول فيكم أمر (شيلوخ) في الورى معلوم(1)
غير ان الذين منهم شكسبير تناسوا ما قال ذاك العظيم
يا يهودي هل سمعت بشعب ضلّ حتى في كل قطر يهيم
شعبكم كالذباب في كل أرض منه شيء على القذور يحوم
وعجيب من العجائب أن يطلب حكما ودهره محكوم
وغريب من الغرائب أن يجمع شملاً شتاته محتوم
غضب الله ما يزال عليكم وعد بلفور دونه مهزوم
وقد ذكرت هذه الحادثة إذ أن اليهود قاموا بحملات واسعة ضده عند تسنمه وظيفته في الإذاعة الفلسطينية غير ناسين مهاجمته لهم وتوعيته لأبناء بلاده في أشعاره الوطنية والاجتماعية.
وفي سنة 1930 عرضت الجامعة الأميركية في بيروت على إبراهيم التعليم في قسم الأدب العربي، فرحب بالعرض لأنه يحب بيروت ويحن إليها.
أول عهدي بفنون الهوى بيروت، أنعم بالهوى الأول
وفي نهاية العام الثاني لتدريسه في الجامعة، قدّم إبراهيم استقالته وعاد إلى فلسطين حيث زاول مهنة التدريس في المدرسة "الرشيدية" في القدس الشريف.
وقد ضاق ذرعا بمهنة التعليم، وبضجيج الطلاب وحيويتهم مما أوحى إليه نظم قصيدته المعروفة "الشاعر المعلم" والمؤرخة في 31 / 3 / 1933.
شوقي يقول وما درى بمصيبتي قم للمعلم وفّه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلا من كان للنشء الصغار خليلا
ويكاد (يفلقني) الأمير بقوله كاد المعلم أن يكون رسولا
وفي أواخر 1932 عاوده المرض فانقطع عن التدريس ودخل المستشفى وأجريت له عملية جراحية في معدته وكانت جد خطرة يئس الأطباء من شفائه منها، ولكنه تماثل للشفاء وعاد إلى نابلس بعد أن قدم استقالته إلى المدرسة الرشيدية في القدس.
وفي بلدته خدم في دائرة البلدية وانصرف إلى نظم مقطوعاته الوطنية وقصائده الاجتماعية.
ويذكر صديقه العزيز عمر فروخ الذي عاش وإياه ست سنوات في بيروت وسنة في نابلس وسنة في بغداد مع مواصلة المراسلة من عام 1933 إلى الشهر الذي سبق وفاته نيسان (ابريل) 1941(2) أن إبراهيم ألف التدخين وشرب القهوة وشرب الراح. وفي هذا المجال يقول وكان قد دعي إلى وليمة عند صديق في دمشق:
فأقبل الساقي يزف الخمر في الأقداح
يا مرحبا بالراح تجلو كؤوس الراح(3)
ومع الأيام كثر شربه للخمر، حتى أصبح في عام 1934 إدماناً.
وظل يتعاطى الشرب إلى آخر أيام حياته.
يا من رآنا ليلة الخميس نطارد الهموم بالكؤوس
حتى إذا استولت على الرؤوس وحلّقت تنهض بالنفوس
لم يبق للهموم من مجاال
مُدامة عجيبة المعاني لم تتصل بالحسن بن هاني(4)
جاءتك سكسونية الأوطان موسومة الزجاج بالحصان(5)
تصان بالبذل عن ابتذال
وقد أتينا على ذكر هذه النبذة من حياته رغبة في إطلاع القارئ الكريم على أن تعاطيه الخمر أدى به إلى نظم العديد من القصائد الإباحية التي لم تنشر، والى قصائد أخرى أوحت إليه بكثير من المعاني والأوصاف في المرأة والمجون والعبث.
إبراهيم في الإذاعة الفلسطينية
تسلم إبراهيم إدارة القسم العربي في آذار (مارس) 1936 وقد سرّ بعمله كل السرور إذ أنّ مثل هذا العمل يوافق ذوقه وميوله.
وشمّر إبراهيم عن ساعديه وآلى على نفسه أن يخدم أمته عن طريق الإذاعة وينبه أخوانه إلى الأخطار المحيطة بهم، وكم وكم لقي من المصاعب والمناوءات أثناء عمله، إذ ما كاد يعمل لتقوية برنامجه العربي حتى قامت ثورة 20 نيسان (ابريل) 1936 التي أضرب فيها الفلسطينيون ستة شهور كاملة تناولت جميع مظاهر الأعمال التجارية والصناعية وتعطلت حركة السير وأغلقت المدارس أبوابها وأضرب المحامون عن المرافعة في غير القضايا الوطنية.
الظرف دقيق جداً. الثورة الفلسطينية قائمة تضحي بأبنائها في سبيل رفعة الوطن ومستقبله مدة 3 سنوات وفي السنة الرابعة قامت الحرب العالمية الثانية سنة 1939. ولكنّ إبراهيم ما فتئ يجاهد ويحسّن في البرنامج.وأخذ أنصار البرامج العربية بعد إضرابات الشهور الستة يشاركون في جهاده ويتغلبون على المصاعب القائمة فقدمت فرقة "الجوزي" التمثيليات الوطنية الاجتماعية وألقى المحاضرون المحاضرات التاريخية الهادفة، واشترك العديد من الكتّاب والأدباء في تقديم القصص القصيرة وبرامج الأطفال، وتحسّنت أنواع الأغاني البلدية والاجتماعية وتميزت الألحان عما سبقها وساهم ملحنون ممتازون في تقديم الألحان الجديدة، كما أسهم إبراهيم نفسه في تقديم أحاديث الأطفال، والموضوعات التاريخية وكان دائماً يستشهد بالقرآن الكريم والأحاديث والبطولات العربية والأمثال التي تهدف إلى إظهار أخلاق العرب النبيلة.
ومن المواقف المشرفة البطولية التي كلفته جهداً كبيراً، ومقاومة عنيفة ضد السلطات الحاكمة والدعاية الصهيونية، هي حرصه ومحافظته على اللغة العربية الفصحى، لغة الآباء والأجداد.
فقد اهتمت الجهات القائمة على الحكم أن يتخذ القسم العربي ويستعمل اللغة العربية الدارجة بدلاً من اللغة العربية الفصحى وحجتها في ذلك أن اللغة الدارجة ترضي أذواق الجماهير وتقرّب لهم فهم الأحاديث، والروايات المسرحية، وبرامج الأطفال وحتى الأغاني.
واستمر هذا النزاع قائماً بين إبراهيم والسلطات الحاكمة وأذناب السلطات الحاكمة، والصهاينة الذين كانوا يحبون الدسّ والوقيعة بين الحكومة البريطانية الحاكمة وإبراهيم مدير قسم البرامج العربية.ووقف إبراهيم وقفة جبارة وبيّن للفئات المناوئة الحاقدة على العرب واللغة العربية أن القسم العربي لن ينوي نقل لغة امرئ القيس، والنابغة الذبياني إلى المستمعين بل نقل اللغة العربية السهلة الممتنعة التي تفهمها أغلبية متعلمة قطعت شوطاً في المطالعة وقراءة الكتب الأدبية والعلمية الصادرة عن دور النشر في كل من فلسطين ومصر وسورية ولبنان.
وكان في مرات أخرى يقول عند مهاجمة آرائه في الجرائد المأجورة واليهودية، يقول: إن الفلاح الفلسطيني على وعي تام بما يدور حوله وهو يسمع الأخبار بالفصحى ويتفهمها جيداً ويعلق عليها تعليقات ذكية ويعرف الأغراض البعيدة التي ترمي إليها افتتاحيات الصحف والأخبار المحلية. وكان أنصار اللغة العربية وأصدقاء إبراهيم يخوضون معه هذه المعارك ويردون على الأكاذيب والأضاليل وينبهون أن اللغة العربية هي الجامعة بين شتى الأقطار العربية والهادفة إلى حفظ التراث والداعية إلى وحدة العرب وحريتهم.
وتألفت فرقة الجوزي حين تأسيس الإذاعة الفلسطينية "هنا القدس" ولم تشترك في البرامج العربية إلا بعد انتهاء إضراب الشهور الستة وعودة الحالة الطبيعية نسبياً إلى البلاد معتمدين على ملوك العرب الذي أذاعوا نداء إلى عرب فلسطين لوقف أعمال الثورة استناداً إلى وعود من بريطانيا كاذبة.
وكنت وإبراهيم نتبادل الرأي ونتداول الأمور في الطرق التي ندحض فيها آراء الأذناب الذين يهاجمون استعمال اللغة الفصحى في البرامج العربية. وكان يقول لي: "أرجو أن تهتم بلغة الممثلات والممثلين وتبين لهم كل شاردة وواردة، وتدربهم تدريباً حسناً وتشكل لكل منهم دوره حتى نتمكن من الحفاظ على لغتنا".
بالإضافة إلى الحملات التي قام بها الصهاينة وإعلامهم المركّز حول اللغة العربية الفصحى فقد قاموا بحملات أخرى واحتجوا بأساليبهم المعروفة على الموضوعات التي كانت تلقى، احتجوا على الموضوعات التاريخية، والدينية، والأمثال العربية وحجتهم في ذلك أن الموضوعات على اختلاف اتجاهاتها، والتمثيليات على تباين أهدافها، إنما غايتها أن تحفز العرب على الثورة ضد الكيان الصهيوني وضد الحكومة البريطانية، كما كانوا يهاجمون برامج الأطفال ويدّعون أن مثل تلك البرامج إنما تهدف أول ما تهدف للدعوة إلى القوة، والى تنشئة جيل عربي يعرف واجباته نحو أرضه، ويستعد أن يسفك دماءه في سبيلها. وكانت تفسر الأحاديث والقصص والأمثال ومسرحيات الأطفال والكبار تفسيراً سياسياً عنصرياً.
وعندما قدمت "فرقة الجوزي" رواية صلاح الدين الأيوبي في 1 / 11 / 1936 تأليف نجيب حداد وتلخيص جميل الجوزي، وعلى لسان الراوية (وكنا في بدء إذاعاتنا نبدأ المسرحية على لسان الرواية توضيحاً وتسهيلاً لفهم المستمعين) وكان نص البداية:
"رواية صلاح الدين الأيوبي من الروايات القوية التي تظهر البطولة العربية في أجلى مظاهرها وتبيّن الشهامة التي قام بها البطل الخالد صلاح الدين الأيوبي بحروبه مع الصليبيين. والعبرة في تقديم هذه الرواية هي أن نقتدي بأولئك الأبطال الذين دافعوا عن بلادهم وأراقوا دماءهم في سبيل تمجيد البقعة التي نشأوا فيها وترعرعوا".
ولكن ما كادت الفرقة تنتهي من إذاعة المسرحية الإذاعية حتى انهالت التلفونات على القسم العربي من الهيئات الصهيونية احتجاجاً على المقدمة التي ذكرتها الراوية كما صدرت جرائدهم في اليوم التالي منددة بالرواية التي تمجد بطولة العرب وتسامحهم ووقفاتهم الإنسانية التي وقفها صلاح الدين أمام خصمه ريكاردوس قلب الأسد، وأوّلو المسرحية بأنها حملة على الغرب وتمجيد فاضح للعرب. ولنا عودة إلى موضوع الرقابة في الحديث عن "المسرحيات في الإذاعة الفلسطينية".
وفي الثلاثين من شهر أيلول عام 1937 ألقى إبراهيم من الإذاعة الفلسطينية القسم العربي الذي كان يديره، حديثاً بعنوان "حقيقة وفاء السموأل" أحدث ضجة كبيرة في الأوساط الصهيونية اليهودية، كما شكا علماء اليهود إلى البريطانيين الحاكمين وأوغروا صدورهم عليه، ناهيك عن تحريض الصحافة اليهودية والدسّ على إبراهيم بصفته موظفاً في مصلحة حكومية ولا يحق له أن يتطرق إلى مثل هذه المواضيع الحساسة، وخلاصة الحديث أن امرأ القيس عندما استودع عند السموأل دروعاً قبل سفره إلى قيصر ليطلب المعونة والمدد وليُتمّ انتقامه من قتلة أبيه حجر، فيأتي الحارث بن ظالم ويطالب بهذه الدروع، فيأبى السموأل ويتحصن في حصنه. يظفر الحارث بابن السموأل الذي كان راجعاً من الصيد، فيخيّره بين تسليم الدرع وبين قتل ولده، فيأبى السموأل تسليم الدروع ويضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فيقطعه قطعتين.
ومن المعروف أنه يضرب المثل بوفاء السموأل أو (صموئيل) ويحاول إبراهيم أن يثبت بالأدلة والبراهين أن القصيدة منحولة (أي قصيدة السموأل) وليست من نظم السموأل. كما أراد إبراهيم أن يثبت أن السموأل عظيم الثروة متشعب التجارة واسع النقود، وكان حصن السموأل سوقاً لتجارته.
فإذا اتصل له امرؤ القيس ولجأ إليه على غير معرفة سابقة، فهل من المعقول أن يمد السموأل التاجر يده عن طيب نيته وكرم عنصره لمساعدة امرئ القيس؟ والأقرب إلى العقل والصدق كما يقول إبراهيم أن يقدم السموأل إلى امرئ القيس ديناً بضمان يؤمنه عليه، فيكون الضمان تلك الدروع التي ورثها امرؤ القيس عن أبيه، يضعها عند السموأل رهائن على المال. ويقول إبراهيم معقباً: "ولو كانت القضية قضية وفاء لبانت حقيقتها، ولكن هيهات! لقد كانت قضية مال، بل هي غريزة حب المال تغلبت على حب ولده، فضحى به على مذابح حرصه وطمعه".
"هذه هي في رأيي حقيقة وفاء السموأل، لا كما قدمها لنا حفيده دارم بن عقال، ولا يستبعد أن يكون دارم هذا، وقد عرفنا تهريجه، لا يستبعد أن يكون هو ناظم قصيدة السموأل المشهورة:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل
والقصيدة من أولها إلى آخرها، ليس فيها ما يدل على جاهليتها، لا لغة ولا تفكيراً، وانظر إلى الصياغة في قوله:
تسيل على حدّ الظباة نفوسنا وليست على غير الظباة تسيل
يقرّب حب الموت آجالنا لنا وتكرهه آجالهم فتطول
وما أغرب أن يكون هذا القول من السموأل، وما أبعد أن يكون للجاهليين المعاصرين لامرئ القيس مثل هذا الأسلوب".
وهاجت الصحافة اليهودية وماجت وراحت تمعن عليه دساً، وتطالب المسؤولين الجلوس معه على طاولة مستديرة.
بعد قيام الحرب العالمية الثانية، قدم إبراهيم قصة تحت عنوان "عقد اللؤلؤ" كان قد اقتبسها من كتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ وهي تدور حول الأمانة وقد أوّل المشرفون على البرنامج أن "الأمين" بطل القصة إنما يرمز إلى سماحة المفتي الحاج أمين الحسيني. ونظراً لأن الحاج أمين مناوئ كبير للحكومة البريطانية وعدو لدود لها، فإن المسؤولين اعتبروا عمله هذا خروجاً على "العرف المسلكي".
والقصة في حدّ ذاتها لا تمت إلى السياسة بصلة ولا دخل لها بالحاج أمين الحسيني مفتي الديار الفلسطينية وإنما خرّجها اليهود وأوّلوها كما يحلو لهم ويروق ودسوا لأسيادهم الانكليز وأقنعوهم أن القصة ترمز إلى مناوأة الانكليز وحضّ الشعب العربي الفلسطيني على الالتفاف حول الحاج أمين الذي هو العدو الألد للانكليز وللصهيونية.
وخلاصة القصة أن القاضي أبا بكر محمد المعروف بالمارستان بينما كان يطوف بالبيت الحرام حاجاً، وجد عقداً من اللؤلؤ، وبعد ساعة جاء صاحب الحاجة يطلبه وجعل لمن يرده عشرين ديناراً.
وبعد التأكد من العلامات التي قدمها الرجل سلمه القاضي العقد: فقال الرجل: تجيء معي لأدفع لك الجعل. فأخبره القاضي أنه ليس بحاجة إلى الدنانير العشرين وأنه من الله بخير كثير. أما الرجل فيلتفت إلى القاضي ويقول: "استقبل بنا الكعبة وأمّن على دعائي ولمّا فعلنا قال الرجل: اللهم أغفر له وارزقني لأكافئه".
ووقع القاضي أسيراً عند سفره من مكة إلى مصر بحراً، ومرت به أوقات عصيبة، إلى أن خرج من بلد الروم إلى بعض بلاد المغرب وأخذ يتردد على دكان خباز، له علاقة ببعض ملاكي تلك المدينة.
وذات يوم استصحبه إلى منزل أحد التجار، فلقي الحظوة عنده وطلبه من الخباز وأحسن معاملته وسلمه جباية وحساب أملاكه. ثم نصحه التاجر بأن يقدم على الزواج فقال القاضي: "أنا لا أطيق نفقة نفسي فكيف أطيق النفقة على زوجة". فوعده التاجر بأن يقوم بالمهر والمسكن والكسوة وعرض عليه الزواج بابنته ولم يترك شيئاً من العيب في الخلقة من رأسها إلى قدمها إلا ذكره، مع ذلك رضي القاضي وعقد العقد. وتبين بعد ذلك أن الزوجة ابنة التاجر هي آية في الحسن.
وبعد زواجه منها أخذ يتأمل ما عليها من الحلي والجواهر فوجد العقد الذي لقيه في الحرم وتعارف بعد ذلك القاضي والتاجر. وتنتهي القصة بأن يقول التاجر: أبشر إن الله قد غفر لي ولك فإني دعوت الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم أن يغفر لي ولك وأن يرزقني مكافأتك. وقد سلمت إليك حالي وولدي وأظن أجلي قد قرب. ثم أوصى له ومات بعد مدة قريبة.
ويرى القارئ الكريم أن لا علاقة للقصة لا بالسياسة ولا بالوطنية إنما هي قصة تدور حول الأمانة والوفاء عند العرب. إلا أن اليهود استغلوا وجود اسم الأمين أو أمين في القصة.. فأوّلوها إلى سماحة المفتي أمين الحسيني ودسوا ما طاب لهم الدسّ.
ويعزو كثير ممن كتبوا عن المرحوم إبراهيم عبد الفتاح طوقان أن قصة "عقد اللؤلؤ" كانت السبب المباشر لإقالة إبراهيم من الإذاعة الفلسطينية. في أول تشرين الثاني (أكتوبر) سنة 1940. إلا أن صديقه وعشيره وزميله في الحل والترحال ورفيق الهوى والشباب في الجامعة الأميركية ونابلس وبغداد عمر فروخ يذكر أن السبب الأساسي لإقالة إبراهيم كانت قصيدة نظمها إبراهيم في ذلك الحين مطلعها (6):
ورد وصحن وغيد في البجامات يا شهر أيار يا شهر الكرامات
ويقول:
"هذه القصيدة في المجون، وهي عجيبة من العجائب في حسن التصوير والسبك في الشاعرية.
وقد لاقت هذه القصيدة رواجاً كبيراً وانتشرت بالرواية والاستنساخ أكثر من شعره الذي نشر في الصحف والمجلات.
غير أن في هذه القصيدة تعريضاً شديداً بأحوال دينية معينة وبأشخاص كانت تحتضنهم السلطة الانكليزية ذكرهم إبراهيم بأسمائهم".
"وحرص إبراهيم على ألا تحمل هذه القصيدة قرائن مادية تكشف عن شخصيته فنسخها على الآلة الكاتبة ولكنه ترك نسخة منها في درج مكتبه، بدائرة الإذاعة، ويبدو أن بعض خصومه في الإذاعة عرف بأمر القصيدة وعرف بأمر النسخة التي في الجرار (الدرج) فدل عليها رؤساءه".
"وقامت الحجة على إبراهيم في ذلك، ومن مأمنه يؤتى الحذر".
وهكذا أقيل إبراهيم من منصبه بدار الإذاعة في أول تشرين الأول عام 1940.
وسافر إبراهيم إلى العراق ليدرّس في دار المعلمين الرسمية ولكن لم يكد يمضي شهران على إقامته في العراق حتى وقع فريسة العلة والمرض فعاد إلى نابلس قبل انتهاء الفصل الدراسي الثاني(7).
ونقل إبراهيم إلى المستشفى الافرنسي في مدينة القدس، ومكث هناك أياماً معدودة، وقد فارق الروح في الثاني من شهر أيار (مايو) 1941 وهو يسند رأسه إلى صدر أمه.
وتقول فدوى في ختام حديثها عن أخيها إبراهيم:
"كان لإبراهيم رحمه الله مصحف صغير، لا يخلو منه جيبه، تبركاً به من جهة وليكون في متناول يده كل حين من جهة أخرى، فلما توفاه بارئه، كان ذلك المصحف تحت وسادته، ولا تزال إلى اليوم ثنية ثناها في إحدى صفحات سورة "التوبة" وكانت هذه الآيات الشريفة آخر ما تلاه إبراهيم من كتاب الله أثناء مرضه، ولقد آثرت أن أختم بها الحديث عن حياة إبراهيم إرضاء لروحه:
((الذين آمنوا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجةً عند الله * وأولئك هم الفائزون * يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوانٍ وجناتٍ لهم فيها نعيمٌ مقيم * خالدين فيها أبدا * إن الله عنده أجر عظيم))".
عجاج نويهض ثاني مدراء الإذاعة الفلسطينية
عندما شغرت وظيفة مدير القسم العربي في الإذاعة الفلسطبنبة بعد أن أقيل إبراهيم، راحت الحكومة الانكليزية تفتش عن بديل يتولى إدارة هذا القسم فوقع اختيارها على الأستاذ عجاج نويهض فأبى أن يقوم بهذه المهمة والظروف حرجة والحرب العالمية الثانية تشغل بال الناس، والمعتقلات ملأى بالمناضلين الذين دافعوا عن أرضهم ووطنهم.
ويقول المرحوم عجاج في رسالة كتبها إليّ في الرابع من شهر آذار (مارس) 1979 ما يلي:
"ومن جهتي لمّا بقي الانكليز يفاوضونني في أمر تولي الإذاعة، وضعت شروطاً فما قبلوها، ثم مضت على الحرب السنة الأولى حتى دخلتها اليابان فراجعني الانكليز فقلت لهم لا أغيّر من الشروط حرفاً ولا أكتب معكم عقداً، ولكن اتفق معكم اتفاقاً جنتلمانياً. فأنا سأفي بما أراه واجباً وأما أنتم فمتى شعرت بتغيير نياتكم فسأذهب إلى بيتي فوراً، ومن بيتي أبعث لكم تلفوناً أني استقلت".
ويكمل رسالته إلي:
"تعلمون أنني بقيت أتولى القسم العربي نحو 4 سنين وما حاول الانكليز معي أن يلعبوا بالدواليب، في كيفية سيري بالعمل سيراً عربياً محضاً، ويعلم الأخ أبو ندي على ما أعتقد كل هذه الأمور(8)". ويقول في مكان آخر ما يلي:
"أما تجربتي بتولي مسؤولية القسم العربي مستقلاً عن الإدارة الانكليزية فمعروف (القسم العبري بقي تحت إدارة المدير الانكليزي كل الوقت)".
الشروط التي قدمها عجاج للسلطات البريطانية لقبول استلام وظيفة مدير القسم العربي هي:
1 أن يكون القسم العربي مستقلاً إدارياً تمام الاستقلال بموازنته وتعيين موظفيه.
2 ألا يتدخل أي عامل من جهة الحكومة في تسيير دفة العمل غير ما يتعلق بالأمور الفنية.
3 ألا يقبل يهودي مهما كان مركزه من دخول مكاتب القسم العربي إلا الموسيقار المغني العراقي المشهور (عازوري) (9)
وهكذا رضخ الانكليز لهذه الشروط التي هي واقع الحال، تمس بكرامة دولة عظمى كبريطانيا، التي لم تكن تغيب الشمس عن مستعمراتها.
وهكذا تولى عجاج إدارة القسم العربي في محطة الإذاعة العربية قرابة 4 سنوات.
الحديث عن الأعمال الجلية والمآثر المستمرة التي حققها المرحوم الأستاذ عجاج نويهض والانجازات التي قام بها في حقول الأدب والتاريخ والسياسة والوطنية لأكثر من أن تحصى وتعد. فسيرته حافلة بنبيل الأعمال، وجهاده لا يزال مضرب المثل في الاستقامة والتنظيم والحث على التمسك بمبادئ الدين والمثل العليا.
ولد عجاج في بلدة رأس المتن بلبنان سنة 1897 وتلقى علومه الابتدائية في مدرسة رأس المتن ومنها التحق بمدرسة الفرندز في برمانا بلبنان. ونال شهادته الثانوية من مدرسة سوق الغرب عام 1916.
وعندما أقام الأمير فيصل بن الحسين (الملك فيصل فيما بعد) الدولة العربية السورية وكانت دمشق عاصمتها، هرع عجاج إلى دمشق مع من هرع من الشبان المثقفين ليؤدوا الواجب الوطني.
وبعد معركة ميسلون وانهيار الحكم الفيصلي، زار بيت المقدس وتسلم وظيفة سكرتير المجلس الإسلامي الأعلى من سنة 1923 إلى 1932م.
ورغبة منه في أداء رسالته على وجه أكمل التحق بمعهد الحقوق بالقدس، ونال شهادة الليسانس عام 1932 وأسس مكتباً للمحاماة في القدس الشريف سنة 1936 وظل يتعاطى مهنة المحاماة حتى عام النكبة 1948.
وفي سنة 1932 أنشأ عجاج مجلة عربية سياسية أسبوعية أسماها "العرب" كما أسس في الوقت نفسه مطبعة "العرب".
كان رحمه الله عضواً فعالاً في "حزب الاستقلال الفلسطيني" الذي قام بتأسيسه اثنا عشر رجلاً من الشباب المتحمس للقضايا العربية عامة والقضية الفلسطينية خصوصاً أذكر منهم السادة: عوني عبد الهادي، أكرم زعيتر، عزة دروزة، أحمد الشقيري، الدكتور سليم سلامة، إبراهيم الشنطي، معين الماضي، فهمي العبوشي، هاشم السبع، رشيد الحاج إبراهيم وعجاج نويهض.
وعندما حلت النكبة بأبناء فلسطين وتفرقوا في مشارق الأرض ومغاربها، أمّ عجاج مدينة عمان مخلفاً وراءه مكتبة حافلة بنفائس الكتب وهناك أسندت إليه المناصب التالية:
1 مساعد رئيس الديوان الهاشمي: من 1949 1950.
2 مدير دار الإذاعة الأردنية: من 1950 1951.
3 مدير عام المطبوعات والنشر: من 1951 1952.
وفي عام 1959 عاد عجاج إلى بلده، إلى رأس المتن ليواصل مسيرته وأخذ يكتب في جريدة "الأنوار" سلسلة مقالات بعنوان "حملة مشاعل الأدب والعلم والفكر في فلسطين".
وقد أخبرتني كريمته الكاتبة المعروفة نورا نويهض حلواني أن والدها كان يعاني من أمراض الشيخوخة وأنه لم يعد قادراً على مواصلة جهاده في سبيل العرب وفلسطين، وأن شقيقتها الدكتورة بيان الحوت، زوجة الكاتب المعروف شفيق الحوت، كانت تقوم بنقل مذكرات والدها، وتبويبها وترتيبها.
من آثاره القلمية:
1 حاضر العالم الإسلامي، عن الانكليزية ط 1، 1924، ط 2، 1933، المطبعة السلفية بمصر في 4 أجزاء.
2 العراق أو الدولة الجديدة: عن الانكليزية، طبع 1932.
3 النظام السياسي، عن الانكليزية، طبع 1933.
4 الأمير جمال الدين عبد الله التنوخي: ط 1: القدس، 1935، ط 2: بيروت 1963.
5 حديث الإذاعة، هو الجزء الأول من مشروع سلسلة حديث الإذاعة الذي صدر 1942، ولم تصدر أجزاء أخرى.
6 أبو جعفر المنصور وعروبة لبنان، 1962.
7 بروتوكولات حكماء صهيون (جزءان) بيروت 1967.
8 رجال من فلسطين: بيروت منشورات فلسطين 1981.
وهو الكتاب الذي ساعدت في إخراجه ابنته الدكتورة بيان الحوت وهو من منشورات فلسطين المحتلة عدد صفحاته 400، يتحدث فيه عن العديد من الشخصيات الفلسطينية التي تعرف إليها أثناء إقامته في فلسطين (1920 1948) وقد أفرد الفصل العاشر وعدد صفحاته تزيد على الثمانين للتحدث عن الحاج محمد أمين الحسيني، مفتي الديار الفلسطينية ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى.
برنامجه
أعد الأستاذ عجاج برنامجاً مدروساً نقله إلى صديق الطرفين المرحوم يعقوب العودات (البدوي الملثم)(10).
والى القارئ الكريم أهداف هذا البرنامج:
1 الارتفاع بمستوى اللغة العربية الإذاعية.
2 فتح الباب على مصراعيه لأدباء العرب في فلسطين والأردن ومصر والعراق وسورية ولبنان لكي يساهموا في إغناء البرنامج الإذاعي.
3 العناية بالمواسم والأعياد الإسلامية والمسيحية.
4 جعل فناني الفرق الموسيقية العربية يتعلمون (النوطة) الموسيقية على حساب المصلحة. وكانوا من قبل لا يستطيعون قراءتها وكل محصولهم هو الحفظ.
5 العناية التامة بالأغنية الجديدة والنشيد العربي وطنياً قومياً وإسلامياً دينياً والعزوف عن الأغاني المائعة.
6 تنشيط الرواية الإذاعية إلى أبعد حد.
7 تشجيع أرباب المواهب العربية الفلسطينية في الغناء وتشجيع المباريات الشعرية مع جوائز.
8 العناية ب (العربي الصغير) أو برنامج أحداث العرب.
9 الإفساح في المجال للأدب العربي في جميع أبوابه.
10 إقامة مواسم الأدب سنوياً بمناسبة شهر رمضان المبارك.
وقد عمل الأستاذ جاهداً في سبيل تحقيق هذا البرنامج الضخم الذي آلى على نفسه أن يقوم به.
أما بخصوص البندين الأول والثاني فقد اهتم اهتماماً كبيراً بلغة الإذاعة السهلة الممتنعة في جميع برامجها، برامج الأحداث، والأحاديث على شتى أنواعها، والتمثيليات الإذاعية، والقصائد.
ومن طريف ما أقدم عليه باقتراح من أبي ندي (السيد صليبا الجوزي) أنه طلب من الخوري نقولا الخوري وقد كان مدرساً قبل أن يدخل السلك الكهنوتي، وهو ضليع باللغة العربية ومناضل من مناضلي الأمة العربية، طلب إليه أن يحيّي الحجيج في عرفات. ولهذه التحية من كاهن لها دلالتها ومكانتها وإن هي دلت على شيء فإنها دلت على اتحاد المسلمين والمسيحيين ضد الاستعمار البريطاني وضد الصهيونية، وعلى دحض السياسة البريطانية التي كان من أهدافها الدسّ والنميمة والفسا د والتفرقة. وكلنا يعرف السياسة الرئيسية التي يتخذها الاستعمار شعاراً له وهي سياسة "فرق تسد".
ويقول المرحوم عجاج في رسالة أرسلها إليّ بتاريخ 15 / 1 / 1971 بخصوص قصة الخوري نقولا الخوري ما يلي:
"ولولا أن يكون المرء قليلاً بنفسه كثيراً بأخوانه كما تقول العرب، فسيكون لي من السهام سهم واحد وللأخوان نعم الأسهم. ولما كان هناك حد لخجلي، والأخ نصري في طليعة الرهط الذي قاد القافلة وكان من حداتها. والأخ الحبيب الأستاذ أبو ندي، ما طلبت طُلبة منه إلا لبّاها بسرعة الطير. وقصة الخوري نقولا يوم دعوناه للاشتراك في البرنامج الخاص يوم المولد النبوي الشريف أو يوم الهجرة وأظن يوم الهجرة شيء لا أنساه ولا يُنسى فتكلم الخوري قدّمه ورشحه الأخ أبو ندي(11) في موضوع محمد والنصارى(12) وقال في هذا المضمار قولاً لم يسبقه أحد قبله فيه. لم يكن التلفزيون وقتئذٍ، فأذكر أن جاءني من أحد المهندسين من أخواننا عرب مصر، بعد أسبوع من إلقاء التحية، كتاب لطيف يسأل فيه صاحبه وهو مدير شركة هندسية- أحقا وواقعا كان ذلك المتكلم هو الخوري نفسه، أم أذعتم هذا من قبيل التآخي الوطني. فانظر وتأمل".
" والرسالات الوطنية القومية تشرّف من يخدمها. وفي جميع ما لديّ من ذكريات لا أزال أختزنها في فكري مما يتعلق بدور القسم العربي في الإذاعة نحو الثقافة العربية، لا أراني إلا حريصاً على كل هذا، وعساني أستطيع أن أنشر كل ما عندي عن فلسطين".
ومن نشاطات المرحوم عجاج نويهض في دار الإذاعة الفلسطينية صدور كتاب "حديث الإذاعة" 272 صفحة من الحجم المتوسط وقد جاء في الصفحة الأولى ما يلي:
"القسم العربي في دار الإذاعة الفلسطينية"
"حديث الإذاعة"
كتاب يحتوي على المختار من الأحاديث المذاعة من دار الإذاعة الفلسطينية لعدد من العلماء والأدباء في البلاد العربية.
الجزء الأول، القدس 1361ه 1942م، المطبعة التجارية القدس.
ولنا عودة إلى هذا الكتاب عندما نتحدث عن الأحاديث الإذاعية التي أسهم في إذاعتها نخبة من الأدباء والعلماء، وما كان لها من آثار بعيدة المدى في توعية الشعب وتعريفة بتاريخه المجيد وبالأبطال العرب الذين خاضوا المعارك الطاحنة المشرّفة في سبيل رفع اسم العرب والمسلمين عالياً.
وفي المقدمة يقول الأستاذ عجاج:
"حديث المذياع بمعناه الثقافي، لا تجزل فائدته إذا اقتصر فيه على الإذاعة ثم طوي في خزانته بحيث لم تدم حياته إلا خمس عشرة دقيقة أثيرية، طلقةً في الهواء، بل يجب أن (يجلس) هذا الحديث مع الكتاب في المكتبة إلى ما شاء الله.
وإذا كان من غاية الكتاب البقاء، فينبغي أن يكون للحديث سبيل إلى البقاء كذلك، إذ غايتهما واحدة، وما الفرق بينهما إلا في عدد الصفحات. فحديث الإذاعة إنما تغدو فائدته أشمل ونفعه أعمّ، إذا وضع في متناولٍ أوسع، فيقدم إلى القارئ، كما قدّم إلى المستمع، وقد يكون قارئه ممن استمعه من قبل. وتحقيقاً لهذا الغرض الذي نعتقده واجباً علينا في سبيل خدمة الثقافة العربية العامة، رؤي أن تجمع هذه الأحاديث المختارة، وتطبع وتوضع في أيدي الناس، كل طائفة منها في كتاب على حدة، على أن تصدر هذه الكتب من حين إلى آخر فتتألف منها كلها سلسلة تطّرد في الصدور ما أمكن السبيل إلى أطرادها".
"وهذا هو الكتاب الأول من نوعه، نقدمه إلى القارئ العربي الكريم والقارئة العربية الكريمة ذاكرين قوله تعالى:
(ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) وأما ترتيب أحاديثه فقد روعي في ذلك على الغالب تاريخ الإذاعة. وأما ألوان البحث وصنوف الكلام فإنها وإن احتشدت في بعض أقسام الكتاب دون بعض، فقد كان الداعي إلى ذلك ضرورة استيفاء البحث من جميع أطرافه، حتى تكون صورته أتمّ وأكمل. وأما الأجزاء التي تتلو فسيراعي فيها من تنويع الأبحاث ما لم يتسع له المجال في هذا الكتاب الأول، وحقّ القارئ الكريم أن يلاحظ هذا. وعلى كل، فإن حديث الإذاعة، وصاحبه يتوخى غاية ثقافية، لا ينحصر في موضوع، ولا يقيده لون، لأن الثقافة تكاد لا تحصى عناصرها وهي بحر لا ساحل له.وإنما يجد المطالع في هذه الأحاديث صوراً معاصرة لطرائق البحث والتفكير والتحليل".
هذا هو المرحوم عجاج نويهض، الذي كان يحب النظام والعمل المتقن الخلاق. عجاج الذي عرفناه صا رماً قوياً في الحق، وكل من عرفه وكل من أسهم في برامج إذاعة فلسطين هنا القدس، عرف فيه الرجل الذي كان يناضل ويكافح في سبيل رفعة العرب وأمة العرب ولغة العرب.
ثالث مدراء القسم العربي
عزمي النشاشيبي
من مواليد القدس.
أول من نال شهادة الصحافة من لندن (دبلوم).
يذكر كتاب الصحافة العربية في فلسطين الذي أعده الدكتور يوسف. ق. خوري، والصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية والاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين بيروت (1976 1948) يذكر أنه صدرت في يافا سنة 1929 جريدة فلسطين باللغة الانكليزية كان يحررها (روستن اختر) وهو من الجنسية الهندية، تم تسلم زمام تحريرها عزمي النشاشيبي الحائز على شهادة الصحافة من لندن والجريدة لصاحبها عيسى العيسى صاحب جريدة "فلسطين" العربية.
وأثناء إدارته القسم العربي للإذاعة الفلسطينية بين السنوات 1944 1948، كان عزمي يذيع حديثاً أسبوعياً عنوانه "بيني وبين المستمعين" كان من أنجح البرامج وقتئذ وأصرحها، عدا أنه كان يعالج مواضيع الساعة، ويرد على أسئلة القراء وشكاويهم، ويوجههم إلى ما يريد توجيهه.
وجواباً على سؤال طرحته على الصديق العزيزالأستاذ عصام حمّاد وطلبت إليه أن يحدثني عن ذكرياته وملاحظاته بخصوص الإذاعة الفلسطينية أثناء مدة عمله بين شهر كانون الأول (ديسمبر) 1944 و 15 أيار (مايو) 1948 أجاب حفظه الله وأبقاه.
"ليس لدي الآن ما أقوله بهذا الشأن، سوى أن الأوضاع التي كانت سائدة في الإذاعة الفلسطينية خلال الفترة التي رأسها المرحوم عزمي النشاشيبي، وهي الفترة التي عاصرته فيها من بدايتها تقريباً وحتى نهايتها، كانت هي الأوضاع الملائمة جداً لأن تبرز الإذاعة الفلسطينية وجه الحياة الثقافية في فلسطين على أروع ما يكون، لا سيما وأن الإذاعة في ذلك الوقت كادت أن تكون المرآة العريضة الوحيدة للحياة الثقافية العامة في البلاد"..
وقد عرف أفراد فرقة الجوزي الأستاذ عزمي سياسياً مرموقاً، وأديباً ذواقة، وإدارياً ينفذ ما يريد تنفيذه كياسة ولباقة، كما كان يثق بمساعديه ويطلق لهم حرية القول والعمل. وكم وكم كان يجتمع بهم ويستشيرهم في سبل تطور البرامج الإذاعية.
وفي المقدمة التي كتبها السيد جميل الجوزي لمجموعته التمثيلية "السبحة وتمثيليات أخرى" الصادرة في 10 / 8 / 1953 يقول:
تتكون البرامج الكاملة للإذاعات العامة من ثلاثة أقسام رئيسية هي:
1 الموسيقى والغناء.
2 الأحاديث.
3 التمثيليات.
وأقرب هذه الأقسام إلى قلوب الطبقة المثقفة من المستمعين وأبعدها أثراً في نفوسهم هي التمثيليات بلا ريب.
وتختلف الصناعة الفنية في إعداد التمثيليات الإذاعية اختلافاً جوهرياً عن أختها في التمثيليات المسرحية.
ففي المسرحية يتوفر لدى المؤلف المسرح نفسه وما ينصب عليه عامة من التابلوهات واللوحات التي تبرز المناظر المرغوبة، كما يتصرف المخرج بالإنارة فينشئ منها وما حولها من التابلوهات والأجواء والمناظر التي تتطلبها حوادث الرواية، ويظهر الممثل على المسرح بعد ذلك، فيعبر بجماله أو قبحه، بشكله أو جسمه، بعضلات وجهه، وبعينيه، وحاجبيه، وبحركات رأسه ويديه ورجليه عن معان وانفعالات مختلفة كثيرة، من مرح أو ألم، ومن خوف أو إقدام، ومن إعجاب أو قرف بينما التمثيليات الإذاعية محرومة من هذه التسهيلات الفنية كلها، وعليه أن يوصلها إلى نفس المستمع وحواسه عن طريق غير المرئيات. ومن هنا كان إعداد التمثيليات الإذاعية أدق من كتابة المسرحيات وأشق كثيرا.
ثم يتحدث عن فرقة الجوزي التمثيلية الإذاعية، وعن جميل الجوزي مؤلف "السبحة وتمثيليات أخرى" التي استمع إليها عزمي من محطة القدس عندما كان مديراً للقسم العربي في الإذاعة الفلسطينية.
ومن الموضوعات الناجحة التي قدمها عزمي:
1 "زاوية بيني وبين المستمعين" وقد تحدثنا عنها.
2 "زاوية العلوم والآداب"، وهي زاوية كانت محببة إلى المستمعين تقدم للمستمع تطور العلوم والآداب العالمية بلغة مبسطة وشرح قريب إلى الأذهان.
3 والزاوية الثالثة التي أفرغ فيها جهده هي: زاوية إحياء الموسيقى القديمة (التراث).
ومع أن هذه الزاوية عولجت بين السنوات 1936 1944 على نطاق ضيق أو متوسط، فإن عزمي اهتم اهتماماً كلياً لإحياء الغناء العربي القديم، وكان من جملة الأغاني التي نقلها الأثير إلى عشاق الفن والطرب هي الموشحات الأندلسية التي لاقت قبولاً حسناً عند المستمعين خصوصاً عندما كان يغنيها الفنان المعروف المرحوم يحيى السعودي بصوته الجهوري.
البث المباشر
كانت بادرة محببة تلك التي قام بها المرحوم عزمي وذلك بإدخال "الإذاعات المنقولة" أي البث المباشر من الحرم الشريف، والمسجد الأقصى، وكنيسة القيامة، وكنيسة المهد وأماكن العبادة للعديد من الطوائف الإسلامية والمسيحية.
وكان المرحوم قد تعاقد مع المرتلين المعروفين كالشيخ محمد رفعت، والشيخ منصور الدمنهوري إضافة إلى المرتلين الفلسطينيين الذين كانوا يبعثون التقى والورع بين المستمعين.
من آثاره القلمية
1 من القدس إلى لندن، القدس 1947.
2 من القدس الشريف إلى النجف الأشرف، القدس 1950.
ملاحظة
اتصلنا بأقرب المقربين للمرحوم في عمان الأردن فلم يفيدونا عن:
1 مكان وزمان الولادة.
2 المدارس الابتدائية والثانوية التي تلقى تعليمه فيها.
3 الجامعات التي تخرج منها والسنوات التي قضاها في لندن عندما حاز منها دبلوم الصحافة.
نرجو ممن كان له معرفة بهذه الأمور، أن يكتب لنفي المرحوم حقه من الجهاد في سبيل العلم والمعرفة والجهاد الوطني لاحقاً.
تحدثت سابقاً عن ثلاثة أعلام هم: الشاعر إبراهيم عبد الفتاح طوقان، والسياسي المعروف عجاج نويهض، والأديب السياسي عزمي النشاشيبي، وذكرت فيما ذكرت أن كلا منهم قد أدى رسالته على طريقته الخاصة وبذل جهداً كبيراً في توعية الشعب العربي الفلسطيني، وتحمل ما تحمل من جور قوانين المراقبة الحكومية، ودسائس الصهاينة لدى السلطات الحاكمة.
ولكن والحق يقال، علينا ألا نغمط حقوق مساعدي البرامج، والمذيعين، وواضعي برامج الأطفال والشباب، الذين أسهموا إسهاماً فعالاً في تسيير دفة الأمور،وتحسين البرامج وإبداء الآراء الصائبة والاختصاص ببرامجهم التي غذوا بها رغبات الشعب العربي الفلسطيني.
وإلى القارئ الكريم لمحات وجيزة عن حياة أولئك المجهولين في هذا الباب، والذين يحتل كل منهم مكانته الأدبية والشعرية والعلمية في فلسطين وفي البلاد العربية كافة.
1908 1975
من مواليد اللد في فلسطين عام 1908 تلقى علومه الثانوية في "دار المعلمين" بالقدس، عمل في حقل التدريس والتحق بالجامعة الأميركية في القاهرة وتخرج يحمل شهادة بكالوريوس في الأدب والعلوم الاجتماعية عام 1933.
وفي عام 1936 عين مساعداً لمدير البرامج العربية في محطة الإذاعة الفلسطينية.
عرفناه وقتئذ مساعداً نشيطاً للمرحوم إبراهيم عبد الفتاح طوقان، كان هادئاً متزناً، لا تفارق البسمة وجهه، ينظر إلى المواد المقدمة إلى القسم العربي نظرة الفاحص المدقق، ومع أنه كان موظف حكومة، فقد كان يهاجم الحاكم الظالم، تارة بقلمه، وتارة بأحاديث وأقاصيص بثها من محطة الإذاعة.
والحديث عن عبد الحميد ذلك الإنسان الدمث المهذب يطول ويطول، ولكن ما يهمني هي الفترة التي قضاها في الإذاعة ينظم الأمور، ويساعد على رفع مستوى الأحاديث ومنها أحاديث الأطفال التي كان يعيرها جلّ اهتمامه.
وقد نقل عبد الحميد سنة 1937 إلى مكتب الترجمة، أحد فروع السكرتارية العامة بالقدس.
وشغل عبد الحميد وظائف متعددة كان في جميعها المحلق المبرز.
ومن أقواله المأثورة:
لا يصح إلا الصحيح
إن الغني غنى النفس
ليس للإنسان إلا ما سعى
كن جميلاً تر الوجود جميلاً
لكم دينكم ولي ديني
من آثاره القلمية
1 10 أقاصيص، طبعت بيافا 1946.
2 العقل المنطلق، (مترجم) بيروت 1960.
انتقل إلى رحمته تعالى بعمان في 26 / 1 / 1975.
1907- 1978
عرفته عندما تسلم عمله كمساعد لمدير القسم العربي في محطة الإذاعة الفلسطينية، هادئ الطباع، يزن الأمور بميزان العقل والمنطق، ينظر إلى المواد التي تقدم له لمراقبتها بعين الفيلسوف ويسعى دائماً إلى أن تكون المواد هادفة مصاغة بلغة عربية سليمة.
ولد محمد أديب العامري في مدينة يافا سنة 1907 وتعلم أول الأمر في مدرسة كتاب ثم في المدرسة الابتدائية الأميرية وقد أكمل علومه في مدرسة يافا الثانوية ثم شخص منها إلى الجامعة الأميركية في بيروت سنة 1924.
وفي يافا أسس مع إخوان له "نادي الطلبة" الذي نشأ فرعاً لمؤتمر الطلبة العربي العام المنعقد في بيروت سنة 1925.
وكان من أهداف هذا النادي توعية أبناء بلاده توعية أدبية، علمية، سياسية، والعمل على إنقاذ فلسطين من مخالب الاستعمار وتبيان مخاطر الصهيونية، وذلك بإلقاء الخطب والمحاضرات والقيام بمظاهرات صاخبة ضد مصاصي الدماء وسالبي الحقوق.
وعند قيام ثورة 1929، انعقد في يافا مؤتمر الطلبة الفلسطيني لتتدارك وفوده العديدة الأخطار الناجمة عن الهجرة الصهيونية وبيع الأراضي لليهود، وقد صدر أمر وقتئذ باعتقال العامري فلجأ إلى الأردن.
تخصص العامري بدراسته الجامعية في علم الأحياء والكيمياء ونال شهادته الجامعية في عام 1929، وهربا من الأجواء الخانقة التي كانت تسود فلسطين في عهد الاستعمار البريطاني، عمل في معارف الأردن، فعين أستاذاً في العلوم الطبيعية في ثانوية السلط، فمديراً لها، ثم نقل مفتشاً للعلوم في وزارة المعارف.
وبعد أن أدى رسالته الثقافية على أحسن وجه، استقال من الجهاز الحكومي الأردني وعين مساعداً لدار الإذاعة الفلسطينية في القدس الشريف.
درس الحقوق في معهد الحقوق الفلسطيني ونال منه دبلوم الحقوق إرضاء لرغبة في نفسه وحبا في زيادة معلوماته.
وأثناء عمله في الإذاعة الفلسطينية، ساد النظام في شتى الأقسام وتوزعت الأعمال بين المساعدين الأدباء والشعراء، وأخذ يعالج الموضوعات المقدمة لتذاع بعين بصيرة، كان حسن الإصغاء كما كان يحسن الكلام ويدعمه بالمنطق والحجة أذكر من جملة ما أذكر أنه رحمه الله، بعد دراسة وافية لأوضاع الفرق المسرحية التي بلغ تعدادها أكثر من العشرين أدرك أن هناك عدداً كبيراً من المتطفلين على الأدب والمسرح والفن، ألفوا فرقاً لهم، كانت تسطو على أفكار غيرها وتبدل وتغير في العناوين، فلاحظ كل هذه المساوئ وأوقفها عند حدها، وراح يرفض معظم ما كان يقدم للإذاعة والبث .
كان رحمه الله حازماً جريئاً حسن الإدارة، يعمل بجد ونشاط في جميع الوظائف التي أسندت إليه.
ولا يزال كل من عرفه في جميع الأعمال التي قام بها، يذكر هدوءه، وحديثه الناعم المتزن، وضحكته التي تتجلى من خلال نظارتيه، والمحافظة على مواعيده مع الأشخاص والأساتذة.
وبعد عام النكبة عيّن في وظائف رفيعة، مديراً للإذاعة الأردنية، وممثلاً للأردن في لجنة الهدنة الدولية.
وفي عام 1950 نقل سكرتيراً عاماً لوزارة الخارجية الأردنية ثم مديراً عاماً لدائرة الاستيراد والتصدير سنة 1951، وفي سنة 1952 نقل وكيلاً لوزارة المعارف، وعندما أنشيء ديوان الموظفين سنة 1955 اختير رئيساً له برتبة وزير دولة وفي سنة 1965 عين رئيساً لديوان المحاسبة بالرتبة نفسها.
وفي عام 1967 وبعد النكسة، دعي للعمل الوزاري فأصبح وزيراً للخارجية ورئيس وفد الأردن إلى دورة الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، ثم عين سفيراً للأردن في الجمهورية العربية المتحدة 1968.
وقد شغل أيضاً وزارة التربية والتعليم فوزارة الثقافة والإعلام إلى أن استقال من العمل الوزاري سنة 1969 وانقطع للكتابة والتأليف.
وأديب رحمه الله كان كاتباً مطبوعاً فقد نشر في عديد من الجرائد والمجلات، ويميل في كتاباته إلى الطابع العلمي كما كان له جولات في الكتابة باللغة الانكليزية، من آثاره القلمية:
1 حفظ الصحة (جزءان) طبع عام 1935.
2 مبادئ العلوم العامة طبع عام 1956.
3 عائلات النبات الشهيرة طبع عام 1960.
4 شعاع النور وقصص أخرى (ترجمة وتحرير) طبع عام 1953.
5 الحياة والشباب (ترجمة وتحرير) طبع عام 1967.
6 القدس العربية طبع عام1971.
7 عروبة فلسطين في التاريخ طبع عام 1972.
انتقل إلى رحمته تعالى في السبعينات.
1920-
من مواليد حيفا فلسطين سنة 1920، درس دراسته الثانوية في كلية تيرّا سانتا (الأرض المقدسة) بالقدس وتخرج منها في عام 1937، ثم تقدم لامتحان شهادة المترك ونالها بتفوق.
وبين السنوات 1937 1941 عمل في حقل التربية والتعليم. وفي عام 1941 انضم إلى الأسرة الإذاعية، وهو الحقل الذي يحبه ويبتغيه، كان في بادئ الأمر مذيعاً ومترجماً ثم أخذ يتدرج في المناصب حتى أصبح مساعداً لمدير البرامج العربية عام 1946، وكان له صولات وجولات أدبية في موضوعات مختلفة تطرق إليها. وإن أنس لن أنسى ذلك الصوت الجهوري المعبر خصوصاً عام 1948 عندما احتدم القتال بين الشعب العربي الفلسطيني وبين الصهاينة المعتدين.
وبعد النكبة التي ألمت بالشعب الفلسطيني نزح راجي مع من نزح إلى الأردن وأكمل مشواره الإذاعي بأن شغل وظيفة مساعد لمدير دار الإذاعة الأردنية حتى 1952.
تنقل في عدة وظائف، مديراً للشؤون الذاتية في شركة طيران الشرق الأوسط، فضابط علاقات عامة في وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
وتحقيقاً لرغباته وطموحاته، التحق راجي بالجامعة الأميركية في بيروت لإتمام دراسته الجامعية عام 1954، وبعد سنتين أي في عام 1956 حصل على شهادة (ب.ع) وظل مثابراً على تلقي العلم حتى حصل على الماجستير بموضوع الإدارة والعلوم السياسية.
له أنشطة في الإعلام والصحافة، أنشأ أثناء عمله في شركة طيران الشرق الأوسط، مجلة مختصة بالطيران أسماها "أجنحة الأرز" وذلك باللغتين العربية والانكليزية. كما أنشأ سنة 1960 مجلة "الرائد العربي" التي نقلها إلى الكويت في مطلع 1963.
وكانت لراجي جهود مشكورة أثناء عمله في منظمة التحرير الفلسطينية، مديراً عاماً للإعلام والتوجيه القومي.
يسرنا أن نذكر أنّ راجي قد أسهم إسهاماً فعالاً في كتابة الفصول الإذاعية، أثناء عمله في محطة الإذاعة الفلسطينية "هنا القدس" كما قام مع إخوان له يعملون في الإذاعة، بتمثيل العديد من المسرحيات التاريخية والاجتماعية.
شخصية قريبة إلى القلوب، يقابلك والابتسامة تعلو وجهه، دؤوب على العمل والدرس.
من آثاره القلمية:
1 مدخل إلى الصحافة مترجم 1964 عن كتاب Journalism An Introduction to
2 له مقالات وبيانات وبرامج وروايات في دور الإذاعات والصحف العربية.
1915-1991
من مواليد يافا سنة 1914، تلقى علومه الابتدائية في مدارسها ثم أتمّ دراسته الثانوية في مدرسة "الفرندز" في مدينة رام الله، التحق بالجامعة الأميركية في بيروت وحاز على شهادة الليسانس في الأدب العربي عام 1937.
وفي عام 1943 التحق سعيد بالقسم العربي للإذاعة الفلسطينية مسؤولاً عن القسم الأدبي، وكان يقدم أسبوعياً أحاديث أدبية وعلمية ضمن برنامج "مدرسة الإذاعة".
وبعد النكبة الأولى سنة 1948، التحق سعيد بمحطة الشرق الأنى للإذاعة العربية ومركزها في قبرص، محرراً للأخبار ومعلقاً سياسياً، وقد سببت تعليقاته سخط السلطات الصهيونية فقدمت احتجاجاً شديد اللهجة إلى الحكومة البريطانية، صاحبة المحطة المنتشرة تحت اسم محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية. ولكن قبل أن يصل الرد للصهاينة كانت المحطة قد تحولت إلى محطة بريطانية علناً إثر العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956.
وعندما كشرت المحطة عن أنيابها وحادت عن السياسة المبطنة السابقة، حرّض سعيد زملاءه المذيعين والموظفين على الانكليز أصحاب المحطة، وطلب إليهم أن يستقيلوا، فلبى الموظفون العرب الفلسطينيون النداء وأخرسوا صوت محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية (الانكليزية).
وفي سنة 1957 تقلد سعيد مديرية الإذاعة الأردنية في عمان ثم انضم إلى محطة الإذاعة البريطانية القسم العربي وظل يعمل بجد حتى تقاعد سنة 1980.
ومع أنه متقاعد إلا أنه ما زال يقدم أحاديث صباحية عن إعلام الفكر في العالم العربي ويجيب على أسئلة القراء فيما يتعلق بالأدب العربي أو الشخصيات العربية.
عرفته أثناء عمله في محطة الإذاعة الفلسطينية، شاعراً مطبوعاً وأديباً مفكراً وإنساناً متزناً يحق كل ذي حق حقه، ويقوم بواجباته خير قيام.
وفي أحد الأعياد قال فلسطيني لأحبابه:
"ليس هذا بعيد"
فأنشأ سعيد يقول.
صدقت أخا الوفاء... فليس عيد
وموطننا يدنسه العبيد
لتلك على المدى في القلب نار
تلظى... والحنين لها وقود
إلى أن يرجع الفردوس حراً
ويغسل أرضه الدم والحديد
وينتفض الحمى أسداً غضاباً
ويدرك ثأره البلد الشهيد
وأثناء عمله في الإذاعة الفلسطينية نظم سعيد "نشيد المولد الشريف" وقد لحنه وغناه بصوته الجهوري القوي المرحوم يحيى السعودي.
إليكم النشيد الذي أذيع يوم الخميس في 14 شباط (فبراير) 1946:
مولد الهدى فيه قد بدا نور أحمد
يملأ الكون حبورا يُفعم الدنيا سرورا
فانشقوا منه العبيرا فاح في الأكوان
يا رسول الخير فينا إبعث المجد الدفينا
وأثر فينا الحنينا لهوى الأوطان
عفَّر العيد الجباها للأمين الحرّ طه
باليتيم الكون تاها في حمى الرحمن
انت عيد الذكريات لبني العرب الأباة
كل يوم فيك آت غرة الأزمان
مولد الهدى فيه قد بدا نور أحمد
وجرى نقل النشيد عبر الأثير على زمن مدير القسم العربي المرحوم عزمي النشاشيبي.
1923-
ولد عقيل في بيت المقدس سنة 1923 وأتم دراسته الابتدائية في المدرسة الرشيدية بالقدس سنة 1937 ودراسته الثانوية في الكلية الرشيدية بالقدس سنة 1941.
وفي سنة 1943 انضم عقيل إلى الإذاعة الفلسطينية وعين مذيعاً، وكل من تسنى له أن يتسمع إلى عقيل، كان يطرب لذلك الصوت الإذاعي الحبيب إلى القلب.
اشترك مع مساعدي البرامج والمذيعين في تقديم البرامج العلمية والأدبية، كما اشترك أيضاً في برنامج المذيعين ومثل في العديد من التمثيليات العربية.
وظل يعمل في الإذاعة الفلسطينية حتى النكبة 1948.
وفي سنة 1953 عيّن مراقباً للبرامج الإذاعية في الإذاعة الأردنية، وأثناء عمله هذا كان يقدم أعمالاً إذاعية مختلفة إضافة إلى البرامج الخاصة التي كان يعدها.
تعرّف بحكم وظيفته في الإذاعة إلى عدد كبير من الصحافيين ورجال الإذاعة والتلفزيون وكان يغتنم الفرص ليحدثهم عن فلسطين ورجال فلسطين كما يفيض في شرح المؤامرة الكبرى التي نفذها الاستعمار البريطاني والصهاينة.
انضم إلى أسرة تحرير مجلة "الغد" التي كانت تصدرها (رابطة الطلبة العرب) في القدس في النصف الثاني من سنة 1953 كما انضم إلى القسم العربي في إذاعة هولندا الخارجية التي كانت تذيع بعدة لغات.
وفي زمان هجرته إلى هولندا، ظل على صلة بعدة إذاعات عربية وغربية، كما كان يمدّ هذه الإذاعات بالأحاديث والتمثيليات.
له صولات وجولات في الصحافة العربية فقد كتب في المجلات التالية:
الكاتب العربي، الصياد، المحرر، الأهرام ، صباح الخير، صوت فلسطين، والمقاومة.
له كتابان هامان انتشرا انتشاراً سريعاً هما:
1 إسرائيل في أوروبا الغربية، بالاشتراك مع (سعيد العظم) وقد قام مركز الأبحاث بنشر هذا الكتاب القيم سنة 1967.
2 تخطيط الإعلام العربي، وقد قام مركز الأبحاث ينشر هذا الكتاب سنة 1968.
ولا ندري في أية أرض إذاعية قد استقر هاشم في هذه الأيام، نتمنى له النجاح والتوفيق في جميع أعماله.
1925-2006
ولد في مدينة جرش الأردنية من أب فلسطيني وأم شركسية، تلقى علومه الابتدائية في "كلية النجاح الوطنية" في نابلس، والثانوية في الكلية الرشيدية في القدس. اجتاز امتحان التعليم العالي الفلسطيني 1942 والتحق بدار الإذاعة الفلسطينية في كانون الأول (ديسمبر) 1944.
ويقول الأستاذ عصام في رسالة بعث بها إلي بتاريخ 15 / 2 / 1984 ما يلي:
"انضممت إلى أسرة الإذاعة الفلسطينية كمذيع ومنتج في الأول من كانون الأول (ديسمبر) سنة 1944، وبقيت كذلك حتى 15 / 7 / 1948 حيث كنت قد أسهمت مع بعض زملائي في مواصلة إذاعة ندائها "هنا القدس" من رام الله بعد زوال الانتداب البريطاني ثم أتيح لي بعد ذلك أن أكون مديراً لبرامجها لعدة سنوات، بعد أن كان قد تغير اسمها إلى (دار الإذاعة الأردنية في القدس)".
ويقول في مكان آخر من رسالته:
"لا أستطيع هنا تعداد عشرات بل مئات البرامج المتفرقة التي أعددتها أو أخرجتها أو قدمتها خلال سنوات عملي في الإذاعة الفلسطينية، بيد أن من الممكن القول أن معظم البرامج الخاصة، ذات الطابع الثقافي في العام، التي كانت تقدم أسبوعياً من الإذاعة بين الأعوام 1945 1948 هي إما من إعدادي أو بإشرافي أو بمشاركتي، لا سيما وأنني كنت في البداية معاوناً للمرحوم محمد أديب العامري والأخ العزيز سعيد العيسى في الإشراف على القسم الأدبي ثم مشرفاً رئيسياً على ذلك القسم بعد ذلك".
ويذكر الأخ عصام في رسالته بعضاً من عناوين هذه البرامج:
"ابن زيدون، عمر الخيام، مدام كوري، جبران خليل جبران، على سفوح القوقاز، مواكب المجد.....".
كانت القراءات الشعرية من اختصاصه على وجه العموم، كذلك كانت برامج المناسبات الوطنية والتاريخية، وعصام شاعر مطبوع وأديب لامع وله صولات في فنون الأدب والشعر.
وجواباً على سؤال طلبت إليه أن يحدثني عن ذكرياته بخصوص الإذاعة الفلسطينية أثناء عمله بين كانون الأول (ديسمبر) 1944 و 15 أيار (مايو) 1948 أجاب:
"ليس لدي الآن ما أقوله بهذا الشأن سوى أن الأوضاع التي كانت سائدة في الإذاعة خلال الفترة التي رأسها المرحوم عزمي النشاشيبي، وهي الفترة التي عاصرته فيها من بدايتها تقريباً وحتى نهايتها كانت هي الأوضاع الملائمة جداً لأن تبرز الإذاعة الفلسطينية وجه الحياة الثقافية في فلسطين على أروع ما يكون، لا سيما وان الإذاعة في ذلك الوقت كانت هي المرآة العريضة الوحيدة للحياة الثقافية العامة في البلاد؟".
من آثاره القلمية
1 الإذاعة للجميع.
2 رسالة إلى ولدي، مطولة شعرية طبعت 1957.
3 في الفن العربي الألماني المقارن، طبع 1962.
4 متفرقات منشورة من الشعر والأبحاث والقصص.
يقول المرحوم العودات في ختام حديثه عن عصام "إنسان من طراز رفيع يعتز بإنسانيته، وبالمثل العليا التي طالما بشر بها الأنبياء والمصلحون وقادة الفكر الإنساني منذ فجر التاريخ".
1923-
من مواليد القدس الشريف، 1923، ومن عائلة الدجاني المعروفة، متزوج وله أربعة أبناء.
تلقى علومه الابتدائية والثانوية في مدرسة "صهيون" يحمل ليسانس في الحقوق ودبلوم في الإعلام المسموع والمرئي (لندن).
من الموظفين الدائمين لمحطات الإذاعات العربية، عمل في محطة الشرق الأدنى للإذاعة العربية ومركزها يافا من سنة 1942 1945، انتقل إلى القدس ليعمل في محطة الإذاعة الفلسطينية.
يقول في أحد رسائله المرسلة إلي:
"بدأت عملي مع الإذاعة الفلسطينية في تشرين الأول (اكتوبر) 1945 وكان المرحوم الأستاذ عزمي النشاشيبي يتولى منصب المراقب العام للقسم العربي يعاونه كمساعد مراقب المرحوم محمد أديب العامري، أغلب البرامج التي تخصصت في تقديمها كانت دينية وثقافية وكذلك الإخبارية منها، وقد توليت في فترة ما رئاسة هيئة الإنتاج بالإذاعة الفلسطينية التي بقيت أعمل فيها حتى 5 أيار (مايو) 1948".
"وسأبقى أذكر دائماً نخبة طيبة من أهل الفكر والأدب سعدت بمعرفتهم، وكان لي شرف تقديمهم إلى المستمعين في أكثر من برنامج. منهم الأساتذة: وصفي العنبتاوي، خليل السكاكيني، الشيخ حسام جار الله، الشيخ ضياء الدين الخطيب، الأستاذ محمد كرد علي، الأستاذ شفيق جبري، إبراهيم عبد القادر المازني، عباس محمود العقاد، أمين نخلة، فؤاد صروف وغيرهم كثير. أما في البرامج الفنية فقد سعدت بزمالة نخبة طيبة يعود إليها الفضل في تقديم التمثيلية الإذاعية لأول مرة في الإذاعات العربية آنذاك وفي طليعة رواد هذا الفن أذكر من آل الجوزي الأساتذة نصري وجميل وفريد وأميل الذين أثروا مكتبة الإذاعة بكثير من أعمالهم الفنية. فهم أول من قدم التمثيلية إذاعياً بعد أن كانت محصورة في نطاق المسرح".
ويقول في رسالة ثانية توضيحية:
"حصلت على المركز الأول كقارئ أخبار في استفتاء أجرته الجامعة الأميركية في بيروت، وشارك في إعداد المسابقة كل من المرحوم الدكتور محمود عزمي، عميد كلية الصحافة في جامعة القاهرة، ومندوب مصر في الأمم المتحدة، وكان ذلك خلال فترة الحرب العالمية عام 1945".
"حصلت على المركز الأول في مسابقة إذاعية نظمتها الإذاعية اليابانية NHK عام 1975، وفزت بجائزة زيارة اليابان بدعوة من هيئة الإذاعة اليابانية".
"بالإضافة إلى عملي الحالي أقوم بمراسلة أكثر من إذاعة عالمية من خلال تقارير إخبارية عن أهم الأحداث في منطقة الخليج".
"توليت تدريب العديد من المذيعين الذين يعملون الآن في الإذاعات العربية، والعالمية، ولي محاضرات في هذا الشأن ستنشر في كتاب عن الإذاعة العربية، آمل أن يطبع عام 1985 بعد اكتماله".
"حظيت بكثير من التقدير من المسؤولين في البلاد العربية، فقد أنعم على جلالة العاهل الأردني الحسين بوسام الاستقلال عام 1957، كما أحمل وسامين من المغرب ومن تونس، ولدي شهادات تقدير من كثير من المسؤولين في الإذاعات التي عملت فيها".
وأثناء عمله في محطة الإذاعة الفلسطينية، كتب وأخرج التمثيليات الآتية تحت عنوان "برنامج المذيعين":
1 قالت شهرزاد للملك شهريار.
وهي تمثيلية غنائية اقتباس وإخراج موسى الدجاني قدمت مساء الثلاثاء في 2 / 4 / 1946 الساعة الثامنة والنصف مساء.
2 "هذا النبي المنتظر".
أذيعت المسرحية من محطة "هنا القدس" في 14 شباط (فبراير) 1946.
3 سيد ربيعة.
أذيعت من محطة "هنا القدس" في 27 / 8 / 1846.
4 الزباء.
قدمت المسرحية في 23 / 3 / 1947. وقد اشترك موسى في التمثيل.
9 من الزوار الآن
916818 مشتركو المجلة شكرا