Categories

الصفحة الأساسية > 1.0 اصدارات > من القمة..إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء للزعيم أحمد الشقيري

15 كانون الأول (ديسمبر) 2017

من القمة..إلى الهزيمة مع الملوك والرؤساء للزعيم أحمد الشقيري

- الملوك والرؤساء لو أنهم يقرأون - أحمد الشقيري............. 7
- طردت من الأمم المتحدة ودخلت الجامعة العربية ............... 17
- من فندق هيلتون إلى بيت عبد الناصر ......................... 39
- الملك حسين كتب والشقيري خطب ............................. 73
- المعسكر أولاً والكيان ثانياً ..................................... 91
- الكيان الفلسطيني عند ثلاثة : الشعب والملوك وغروميكو....... 113
- حوار مع الأمير فيصل في الإسكندرية .......................... 137
- من الإسكندرية إلى دمشق – بغداد – الكويت .................. 179
- أنا لا أقرأ الفاتحة لأني لست رجعياً !! ......................... 209
- صداقتي وعداوتي مع بورقيبة ............................... 239
- أيام مع زعيم ملهم ورئيس مقدام وشعب عملاق ............... 261
- المصائب والمصاعب في العواصم العربية ...................... 319

الملوك والرؤساء...

لو أنهم يقرأون!

هذا هو الكتاب الذي أضعه بين يدي الأمة العربية بجماهيرها المعاصرة والوافدة، ليقرأه المواطن العربي الذي شهد الكوارث الثلاث : قيام إسرائيل في عام 1948 ، والعدوان الثلاثي في عام 1956، وحرب حزيران في عام 1967، وليقرأه المواطن العربي من جيل الثورة والتحرير سواء من يدبُّ اليوم على الأرض العربية رضيعاً، أو من تختزنه الأصلاب، وتحمله البطون .. الآن وفي كل زمان ..
يتناول هذا الكتاب، ولست أعدو الحقيقة فيما أزعم، أخطر مرحلة مرّت في تاريخ الأمة العربية على الإطلاق، منذ أن أصبح لها تاريخ يقرؤه الناس بين الآثار والاحجار والأسفار ..
وإني أقولها (أخطر مرحلة على الإطلاق) واعياً مدركاً لما أقول، وأنا أستذكر الدراسات المستفيضة التي استنفدت كثيراً من وقتي وجهدي أيام غرقت بين المراجع العربية والأجنبية التي أسهبت الكلام في تفصيل الغزوات الصليبية والمغولية التي اجتاحت الوطن العربي في فترات متقاربة في القرون وأنزلت فيه الدمار، وأفشت فيه التقتيل والترويع والنار، وأزالت كثيراً من معالم حضارته وعمرانه، وكادت أن تقضي على وجوده بالاندثار ..
ولست أريد أن أخوض في المقارنة بين تلك الغزوات السابقة والغزوة الإسرائيلية التي تدعمها الصهيونية والإمبريالية العالمية، فذلك موضوع دراسة مستقلة بذاتها، ولكني أريد أن أؤكد على التوكيد بما لا يقبل مزيداً من التوكيد، ولست أعتذر عن هذا التشديد، أن خطر الغزوة الإسرائيلية ، إذا ما بقي الحكم العربي الحاضر على حاله الحاضر، سيهدد الأمة العربية في صميم وجودها وبقائها .. ولكن ..
ولكن الأمة العربية، كما أثبت تاريخها الحافل بآيات الصمود، الغنيُّ بإرادة الحياة وعزيمة البقاء، لا يمكن أن تأذن بزوال شخصيتها القومية، وانقراض كيانها، وفناء وجودها.
ومن هنا، فإني أعود إلى توكيد التوكيد بأن الغزوة الإسرائيلية التي تهدد وجودنا، سيزول وجودها بالذات، طال الزمن أو قصر .. فلا مندوحة أن تنفجر في الأمة العربية الثورة العرببة الكبرى في إطار الثورة الأم. لتجتاح الوطن العربي بأسره من المحيط إلى الخليج، وتقتلع من طريقها كل أسباب الهزيمة وكل عوامل الوهن، وفي مقدمة ذلك كل حكم عربي خائر، جمهورياً كان أو ملكياً..
ويومئذ لا (قبلئذ) تعود إلى فلسطين عروبتها، وتعود فلسطين إلى العروبة، ويتيسر للأمة العربية أن تبني حياتها القومية على خير ما تتمنى، وتؤدي دورها مع الأسرة الدولية في بناء عالم يسوده العدل والإخاء والسلام..
وهذا الكتاب يقع في ثلاثة أجزاء متكاملة، ويسرد المسيرة العربية على مدى أربعة أعوام (1963-1967) في عهد الملوك والرؤساء، من مات منهم، ومن خُلع، ومن بقي على قيد الحياة..
ويتناول الجزء الأول مؤتمري القمة في القاهرة والإسكندرية (1963-1964) وما تخللهما من مناورات ومداورات وقرارات، وما يتصل بإنشاء القيادة العربية الموحدة والكيان الفلسطيني ، وهيأة تحويل الروافد العربية ..
والجزء الثاني يسرد تفاصيل اجتماعات رؤساء الحكومات العربية، ومؤتمر القمة الثالث في الدار البيضاء ( أيلول 1965) وما سبقه من اجتماعات الوزراء والسفراء وكبار العسكريين، من كان منهم في الثكنات أو في سدة الحكم !!
و يتضمن الجزء الثالث الأحداث العربية والدولية التي أفضت إلى حرب حزيران والكارثة الكبرى التي حلت بالأمة العربية، وتفاصيل مؤتمر الخرطوم والأسباب التي أدت إلى انسحابي من ذلك المؤتمر، والظروف العربية والدولية التي أدت بعد ذلك إلى استقالتي من رياسة منظمة التحرير الفلسطيني.
وليس هذا الكتاب ( تاريخا) لمؤتمرات القمة، في القاهرة، والإسكندرية والدار البيضاء والخرطوم ولكنه سجل يتضمن ذكرياتي عن تلك الحقبة، بقدر ما رأيت وسمعت وساهمت، منذ أن شاء الحظ العاثر أن أكون رفيقاً للملوك والرؤساء في تلك المسيرة الخطيرة التي أنزلت بالأمة العار والشنار.
وها قد مرت عدة سنوات على تلك الحقبة، ونحن اليوم في صيف 1971 ندخل العام الرابع من النكسة، وأنا أحاول جهدي أن أحبس كل جوارح الحزن والغضب التي تعتمل في نفسي، وتعتصر فؤادي، شأني في ذلك شأن الأمة العربية جمعاء..
ومن حق كل عربي، بل من واجبه، أن يحزن ويغضب، وأن تذهب نفسه حسرات، فإن الأمة العربية ترزح اليوم تحت كارثتين: احتلال إسرائيلي لا حدَّ لطغيانه وعدوانه، وحكم عربي لم يستطع أن يوحد الصفوف، ويعبأ القدرات، ويحشد الطاقات .. ولعل الكارثة الثانية أدهى من الأولى
وأمرّ ..
وأنّى للحكم العربي المعاصر، وأعني بالتحديد الحكم العربي الذي قام في الوطن العربي منذ نشوء إسرائيل إلى يومنا هذا، أن يقوم بهذه المسؤوليات الوطنية الكبرى، وهو مشغول بنفسه، همُّه في ليله ونهاره أن يثبت وجوده ويدعم بقاءه، بمختلف الأسباب، وفي مقدمتها مصادرة الحريات الأساسية وسلب الشعب حقوقه المدنية، وإهدار كرامة المواطن الفرد..
وفي صيف هذا العام بالذات، والأمة العربية غارقة في الحزن على وطنها المحتل، راحت تبكي على حرياتها السليبة، وهي تسمع وكالات الأنباء تذيع عن ألدَّ أعدائنا كيف تمارس الديمقراطية، وكيف تُصان الحريات العامة.. وأعني بألد الأعداء بريطانيا وأمريكا اللتين كانتا – وما تزالان – خلال الخمسين عاماً الماضية السبب المباشر فيما حلَّ بنا من كوارث وويلات..
ففي بريطانيا نشب حوار عنيف في مجلس العموم البريطاني حول ميزانية (صاحبة الجلالة الملكة) التي تبلغ نصف مليون جنيه بالسنة !! وخاضت الصحف البريطانية في تفاصيل النفقات دون ما حرج، ومن غير خوف من (حصانة الملكة) .. وقد استمعت الأمة العربية إلى هذا الحوار العنيف وهي تتساءل : كيف يصرف الأربعة عشر ملكاً ورئيساً الملايين والملايين من الجنيهات من غير قيود ولا حساب.
ثم جاءت بعد ذلك أزمة السوق الأوروبية المشتركة وكيف انضمت بريطانيا إلى عضويتها، وكيف حملت المعارضة على الحكومة حملة صارخة، متهمة إياها بالتفريط في حقوق الوطن، وتضليل الشعب، وتزييف الحقائق .. وقد استمعت الأمة العربية إلى هذا كله ومن الإذاعة البريطانية بالذات .. وراحت تتساءل أين المعارضة في الوطن العربي في ملكياته وجمهورياته؛ بل أين الإذاعة العربية التي تستطيع أن تخرج من (الأثير المغلق) لتذيع على الشعب آراء (معارضة) للحكومة، منددة بسياستها كاشفة عن أخطائها..
أما بالنسبة إلى الولايات المتحدة، العدو الألدّ، فقد جاء الدرس أقسى وأشد .. فكان أروع مثل تتلقاه أمتنا من العدو لدود نود .. ذلك المثل يتمثل في القدام الصحف الأميركية على نشر أخطر أسرار؛ حول أخطر قضية .. تلك هي قضية فيتنام ..
وكما روت إذاعة صوت أمريكا، لقد أصيب البيت الأبيض بالذهول المروع وهو يرى الصحف الأميركية تنشر وثائق سرية خطيرة تسربت إليها من وزارة الدفاع الأميركية بصدد التدخل العسكري الأميركي في فيتنام .. وأعلن الرئيس الأميركي ( نيكسون) أن نشر هذه الوثائق ( يعرض المصلحة العليا والأمن القومي لأفدح الأخطار، و يسئ إلى علاقات الولايات المتحدة بالدول الحليفة والصديقة) .. وهذا أخطر ما يتسلح به أي رئيس توكيداً لرأيه..
ولكن الرئيس نيكسون لم يصادر الصحف الأميركية ولم يأمر بوقفها ولا باعتقال أصحابها ومحرريها .. لأنه لا يستطيع ذلك، وهو لا يستطيع ذلك لأن حرية الصحافة مصونة بالدستور .. ولا يستطيع انتهاك الدستور .. لأن الدستور ليس عبارات تكتب، ولا كلمات تخطب، ولكنه حقوق أساسية مقدسة تمارس وتطبق ..
ولم يكن أمام الرئيس الأميركي إلا أن يقاضي الصحافة الأميركية أمام المحكمة الاتحادية العليا .. وهكذا فعل .. واستمرت المحاكمة قرابة أسبوعين ترافع فيها ممثلو الحكومة ومحامو الصحافة .. وصدر القرار بالنهاية ليعلن (أن الحكومة قد عجزت عن إثبات دعواها وأن المصلحة العليا والأمن القومي يفرضان أن يطلع الشعب على الحقيقة .. وأن حرية الصحافة مصونة بالدستور..).
واستمرت الصحافة الأمريكية في نشر الوثائق السرية عن أخطر قضية في عالمنا المعاصر، والتزام الرئيس الأميركي بقرار المحكمة، دون أن يلجأ إلى أية إجراءات أخرى يعرفها المواطن العربي عن تجربة واختبار !!
أجل إن الرئيس نيكسون لم يصدر أمراً بتأليف (محكمة أمن الدولة) لتحكم له بما يريد إنه لم يصدر أمراً بإلحاق الصحافة إلى وزارة الإعلام لتنشر ما يريد البيت الأبيض وتحجب ما لا يريد ..
إنه لم يعطل أحكام الدستور، ويصدر الدستور المؤقت ( حفاظاً على مصلحة البلاد العليا والأمن الوطني، ودرءاً لأهداف العدو الإجرامية ..).
أنه لم يعزل قضاة المحكمة العليا، أو يصدر أمراً بإحالتهم على التقاعد، ليرهب سائر القضاة، ويجعلهم رهن مشيئته ليصدروا الحكم بما يهوى ..
إنه لم يفعل ذلك وغير ذلك لسبب بسيط جداً، كبير جداً .. ذلك السبب هو قدسية الدستور، وحرية الصحافة؛ واستقلال القضاء .. كل ذلك يُطبق في نزاهة وشجاعة..
هذه هي المثل الرائعة التي هزت الأمة العربية ، ثم راحت بعدها تنتحب، تنتحب على وطنها السليب الذي اغتصبه العدو الغادر .. وتنتحب على حريتها التي صادرها الحكم العربي المعاصر.. والكارثة الثانية كانت السبب في الكارثة الأولى ..
وقد دأب الإعلام العربي بأجهزته المختلفة، منذ وقعت حرب حزيران يعدد ويعيد في أسباب الهزيمة، متنقلاً من الأسباب التكنولوجية إلى الأسباب الحضارية، إلى الأسباب العسكرية .. ويا شقاء الجندي العربي من الحكم العربي. ولكنه تجنب أن يذكر رأس الأسباب ..
إن رأس الأسباب هو الحكم العربي في أسلوبه .. والحاكم العربي في أخلاقه ..
ولقد أفجعني الحظ، ولا أقول أسعدني .. أني عرفت الحكم والحاكم .. عرفتهما في مؤتمرات القمة حتى يوم الهزيمة .. وفي هذا الكتاب صور نابضة عن الحكم والحاكم.
ولا بد للقارئ العربي المعاصر والوافد، أن ينتابه الذهول المرير وهو يقرأ هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، فإن الحقبة التي يسجلها قد تغيرت معالمها ومعانيها .. تغيرت كثيراً ..
أجل لقد تغيرت المعالم .. وأنا أكثر رجال (القمة) فجيعة وتوجعاً، فقد كان الملوك والرؤساء يعيشون أيامهم ولياليهم في قصورهم، بعيدين عن تلك المعالم .. ولكني كنت في ساحتها ومع ناسها، أعيش آلم الشعب وأحزانه.
في تلك الحقبة كنت أتردد على الضفة الغربية أجوس خلال مدنها وقراها التقي مع العمال والفلاحين واللاجئين والطلاب والشباب والنساء، نتبادل الشكوى والنجوى، وعلى مرمى البصر منا نرى وطننا السليب في حيفا ويافا وعكا وصفد وبيسان وطبريا واللد والرملة والناصرة، وما يربط بين هذه المدائن الكريمة من جبال شامخة، ووهاد هانئة، وزروع سندسية، وخمائل فاتنة .. وها أنا أكتب اليوم هذه المقدمة الحزينة الغاضبة، والضفة الغربية التي كنا نرجوها منطلقاً للتحرير قد سقطت تحت الاحتلال الإسرائيلي، لا تستطيع حراكاً ولا مقاومة، فإن نظام الحكم الذي كان يحتويها قد سلبه كل مقومات الكفاح، الروحية والمادية على السواء ...
ولست أنسى أيامي في بيت المقدس، حين كنت أطل بقلبي عبر أسوارها على ربوعنا المحتلة، المنحدرة حتى ساحلنا الخصيب .. وها أنا أكتب هذه الكلمات الراجفات وبيت المقدس يضج تحت أقدام إسرائيل ويئن معه المسجد الأقصى، والحفائر تتسلل إلى قواعده بعد أن أحرقت بعض جدرانه ، وفشت في ساحاته الكريمة ألوان الفجور والمجون ..
أجل، أكتب هذه الكلمات الراجفات عن القبلة الأولى، وثالث الحرمين، ومسرى الرسول ومعراجه، وملوك العرب والمسلمين لاتتحرك، فهم ألسنة متلعثمة، والبترول العربي الإسلامي يعبر من الخليج إلى الخليج من الخليج العربي إلى خليج العقبة – إلى ميناء ايلات، إلى جوف الطائرات الإسرائيلية، لتقصف أغوار الأردن، وأجواء دمشق وصعيد مصر .. ويصيح الزمان بملء فيه : قليلاً من الحياء والوفاء، يا ملوك العرب والمسلمين .. ومع الضفة الغربية، كم وكم ترددت على قطاع غزة وعشت مع شعبنا البطل في أحلامه وآلامه، وبنينا معاً جيش التحرير وقوات المقاومة الشعبية في غزة وخان يونس ورفح، وقضيت أحلى أيام عمري وأنا أغدو وأروح بين مدن القطاع وقراه، أتنفس حين يتنفس الفجر، نسمات الشمال تحمل إلينا أريج أرضنا المحتلة وشذاها، وما أحلى ذلك الشذى وذياك الأريج ... وأنا اليوم أتابع مع الجماهير العربية أخبار النضال الباسل الذي يخوضه شعبنا الصامد الصابر في قطاع غزة، والحكم العربي الرسمي يغمره بالكثير من الإعجاب والتقدير، والقليل من المال والسلاح والعتاد!!
وفوق هذا وذاك فإن العدو المحتل آخذ في الهدم والبناء .. أنه يهدم القرى العربية بالعشرات يقيم على أنقاضها المستعمرات، ولو اتسع وقت الملوك والرؤساء لقراءة التاريخ العربي لتعلموا أن هذه القرى الزكية تضم رفات الصحابة والمجاهدين .. ولتعلموا كذلك أن حطين التي سجل فيها صلاح الدين واحدة من المعارك العالمية الفاصلة تتململ تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي .. ويا ويح حطين مما دهاها في عهد حكام العرب المعاصرين..
تلك هي بعض المعالم التي تتغير كل يوم، بل وفي كل ساعة .. ولكن المعاني التي تغيرت، فيا للهول، كيف تغيرت ..
لقد أصبح الحكم العربي الرسمي، بين صامت وناطق، ينادي بتحرير الأرض العربية بديلاً عن تحرير فلسطين. تماماً كمن يساوم عن ولد بولد .. ولا يدري أنه سيخسر الاثنين معاً..
وأصبح الحكم العربي الرسمي يدعو إلى حل (سلمي شريف) .. وأين الشرف في حل يقوم على الاعتراف بإسرائيل، وإقامة حدود آمنة لها. وإباحة المرور لها في خليج العقبة وقناة السويس، وإنهاء حالة الحرب معها .. وكفى الله المؤمنين القتال !!.
وأصبح الحكم العربي الرسمي يتحدث على المنابر العربية عن معركة المصير والحرب الحتمية .. في حين يتحدث على المنابر الدولية عن الصلح مع إسرائيل والحفاظ على سيادة إسرائيل، وهو هازل في الأولى، وجاد في الثانية..
وأصبح الحكم العربي الرسمي يداور ويناور في مواجهة المجزرة العربية في عمان يوم تقاتل الجيش والشعب والمقاومة في معركة خسرها الجميع وربحتها إسرائيل .. ولو أنا قاتلنا في بيت المقدس كما تقاتلنا في شوارع عمان، ما كان لإسرائيل أن تعلن بيت المقدس عاصمتها الخالدة .. بل ما كان لامرأة اسمها جولدا ماير، أن تتحدى أربعة عشر رجلاً، اسمهم الملوك والرؤساء ..ولو أن عربياً من الذين ماتوا قبل حرب حزيران، قد بعث من مرقده إلى الحياة، وسمع ما يقوله الحكم العربي في هذه الأيام، لآثر العودة إلى التراب مرة ثانية فلا يرى ما نرى ، ولا يسمع ما نسمع..
ولكن الرجاء الأعظم والعزاء الأكبر، أن الأمة العربية في واد، والحكم العربي في واد .. وحين أتحدث عن الحكم العربي المعاصر فإني لا أعني جميع الجميع، إن الأمة العربية ترفض الهزيمة وتأبى أن تستسلم لها. وما إسرائيل والحكم العربي المعاصر إلا أعراض لمرض عابر، ولا بد أن تتعافى الأمة العربية منهما معاً، وهذا هو اليقين .. (ولتعملنَ نبأه بعد حين).
وبعد فهذا هو الجزء الأول من مذكراتي (من القمة إلى الهزيمة) سيقرؤه المواطن العربي، جهاراً في بعض البلاد العربية ، وسراً في البعض الآخر*..
ولكن، فليعلم الحكام الذين يمنعونه عن شعوبهم، أن من يقرؤه سراً سيكون أكثر استمتاعاً وانتفاعاً .. بل، أن من يقرؤه سراً، سيكون أكبر خطراً ..فهل أنتم متعظون..
تموز سنة 1971 أحمد الشقيري

طردت من الأمم المتحدة
ودخلت الجامعة العربية

أجل .. طردت من الأمم المتحدة بعد أن قضيت فيها زهرة شبابي .. وسلخت فيها من عمري خمسة عشر عاماًُ، نصفها رئيساً للوفد السوري، ونصفها الآخر رئيساً للوفد السعودي .. وها قد جاء أوان تصفية الحساب.
كان ذلك في أغسطس من عام 1963، حينما دخل عليَّ أحد مراسلي السفارة السعودية في بيروت، يحمل مظروفاً مختوماً بالشمع الأحمر .. وكان المراسل بادي القلق، وراح يتفرّس في وجهي، وأنا أفضّ خاتم الشمع وأفتح المظروف الكبير لأقرأ ما فيه .. وكان كل ما فيه ورقة صغيرة، وصغيرة جداً، فيها البرقية الآتية:
السيد أحمد الشقيري
بأمر من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل تقرر إنهاء عملكم.
(الخارجية )
وأعدت الورقة الصغيرة، والصغيرة جداً، إلى المظروف الكبير، والمراسل ما يزال يتفرس في وجهي وهو يقول لي :
يا سيدي لا تزعل، إن جزاءك عند الله، الله يوفقك.
قلت : إن كلماتك يا أخي، أعظم عندي من هذه البرقية.
قال: وهل يمكن أن تذهب إلى الأمم المتحدة بعد هذه البرقية .. نحن نريدك أن تذهب إلى أمريكا، لتدافع عن قضية فلسطين، إنها قضيتنا جميعاً ...
قلت لقد قضيت في الأمم المتحدة خمسة عشر عاماً من عمري، وليس لي فيها رجاء .. ويقيني أن الله قد اختار لي الخير، وإنها لكارثة أن أقضي بقية عمري في المحافل الدولية .. لعل الله يريد لى أمراً .. ومن يدري ..
وانصرف المراسل، وأنا أكبِِِْر فيه أريحية الأمة العربية، ومن أراد أن يستبين الأصالة العربية الشعبية، فليقعد بين يدي هذا المواطن الصغير الكبير، الغني الفقير.
ووضعت البرقية في الملف الخاص برسائل الأمير( فيصل) الملك فيصل، وضممتها إلى الرسائل الكثيرة التي تبادلتها مع الأمير فيصل لمدة خمسة وعشرين عاماً، أثناء عملي في الجامعة العربية وبعدها.
ومن هذه الرسائل، واحدة للشكر على دفاعي عن قضية البريمي في الأمم المتحدة، .. وواحدة يطلب مني تقريراً عن اجتماعي بالجنرال فرانكو والبابا عام 1952، وواحدة يثني فيها على تقرير كنت بعثته إلى الحكومات العربية بشأن تردّي الأوضاع في العراق في عهد عبد الكريم قاسم، ومنها .. ومنها .. ومعظم هذه الرسائل كانت بيني وبين الأمير فيصل، حين كنت أميناً مساعداً في الجامعة العربية ، أو رئيس الوفد السوري في الأمم المتحدة – قبل أن أصبح وزير الدولة السعودي لشؤون الأمم المتحدة.
والواقع أن صداقتي بالأمير فيصل قد سبقت معرفتي بالملك سعود بزمن طويل .. حتى أنني يوم قررت الموافقة على تكليف الملك سعود لي بالعمل في المملكة العربية السعودية وزيراً لشؤون الأمم المتحدة (1)، ورأيت في صلتي القديمة بالأمير فيصل مدعاة للاطمئنان وحافزاً على القبول، فقد أُعجبت بالأمير فيصل عبر السنين لما كنت أرى فيه مما وهبه الله من معطيات الجزيرة العربية متمثلاً في ذكائه وصمته، ورباطة جأشه وهدوئه، وشاء القدر أن يكون التحاقي بالعمل عن طريق الملك سعود الذي لا أعرفه.. وأن يكون فصلي من العمل عن طريق الأمير فيصل الذي أعرفه، وما أكثر ما أعرفه !!
وأحسب أن الأمير فيصل كان على حق في إنهاء عملي، من وجهة نظره، كما كنت على حق في سيرتي ومسيرتي مع المملكة العربية السعودية. من وجهة نظري ..
وتبدأ الحكاية في صيف 1962 حينما نشبت أزمة اليمن بين المملكة العربية السعودية والجمهورية العربية المتحدة بسبب قيام الثورة في اليمن، وإلغاء النظام الملكي، وإعلان الجمهورية اليمنية..
وأخذ الصراع بين الرياض والقاهرة يشق طريقه إلى الأمم المتحدة.. فقد بدأت تصلني برقيات من الخارجية السعودية عن ( اعتداءات ) القوات المصرية واليمنية على حدود المملكة العربية السعودية، لإبلاغها إلى مجلس الأمن كوثائق رسمية، فأبرقت إلى الخارجية السعودية بعدم جدوى الشكوى إلى الأمم المتحدة، وأنه من الخير أن تعرض الخلافات العربية على الجامعة العربية، وأن تبحث في نطاق الأسرة الواحدة .. فلم تلتفت وزارة الخارجية السعودية إلى رأيي، واستمرّت ترسل إليَّ برقيات الشكوى ، وتطالبني بتعميمها على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة .. وعدت من جانبي أؤكد رأيي ..
وجاءتني على أثر ذلك برقية موقعة من الأمير فيصل بنفسه، توكيداً للأهمية، بأن ( وظيفتي أن أنفذ التعليمات، لا أن أفسرها).. ولكني بقيت عند رأيي، وأبرقت إلى الأمير فيصل قائلاً : ( لو كنت ممثلاً للرئيس عبد الناصر في الأمم المتحدة، وطلب إليَّ أن أقدم الشكوى على الأمير فيصل لما فعلت) .. ولجأت الخارجية السعودية إلى وسيلة أخرى، فقد أخذت ترسل الشكاوي إلى القنصلية السعودية في نيويورك، وهذه راحت تتولى توزيعها بالبريد العادي على وفود الأمم المتحدة.
وشاع أمر الخلاف بيني وبين الأمير فيصل في أروقة الأمم المتحدة، ورأت(النيويورك تايمز) و( الهرالد تريبيون)، وهما أكبر صحيفتين في أمريكا، الفرصة للشماتة بي، فراحتا تنشران أنباء هذا الخلاف، وتشيران بأن الأمير فيصل ( سيطرد الوزير السعودي أحمد الشقري، المعروف بولائه للشيوعية، ولصداقته مع الرئيس المصري عبد الناصر).
وكانت دورة الأمم المتحدة تقترب من نهايتها، وعدت إلى الوطن، فاعتصم الأمير فيصل بسكينته ورباطته ولم يتخذ إجراء؛ وتولى مكتب الوفد السعودي الدائم في غيابي إبلاغ بيانات الخارجية السعودية بصدد اليمن بكل انتظام .. حتى إذا جاء الصيف التالي، وصلتني البرقية إياها بإنهاء عملي من المملكة العربية السعودية، وهكذا ( بيَّت) الأمير فيصل الموضوع معي عاماً كاملاً.
وكان هذا الإجراء أمراً طبيعياً من ناحية الأمير فيصل كما كان موفقي أمراً طبيعياً من جانبي، فقد كان الأمير فيصل يفكر في مصير المملكة العربية وإلى جانبها تقوم جمهورية اليمن بكل ما تنطوي عليها من معان، وكنت من جانبي أفكر في المسيرة العربية في تطلعها نحو حياة جديدة .. وهكذا كان الأمير فيصل يفكر في (الحكم السعودي- وأنا أفكر في الأمة العربية – ومن هنا كان الخلاف بيننا!!
وكائنة ما كانت الأسباب، فقد حرصت أن لا أثير ضجة حول الموضوع، في وقت كانت فيه معارك الخلاف على أشدها بين القاهرة والرياض .. وانهال علي مراسلو الصحف الأجنبية يلحون بأن أتحدث إليهم، ولكني لزمت الصمت وفاء لذكرياتي في المملكة ورجالها، بعد أعوام طويلة من الخدمة، وتعففاً عن مهاجمة الحكومة السعودية لأنها فصلتني من الوظيفة.
وتقاطرت عليّ الوفود الفلسطينية في بيتي في لبنان، والجميع يطلبون أن أتولى قيادة الحركة الفلسطينية على الصعيد الشعبي، بعد أن أنهت صلتي بالعمل الرسمي. وبدأت أعرف ما لم أكن أعرفه في الماضي بسبب أسفاري الكثيرة وعملي في الأمم المتحدة، عن المنظمات الفلسطينية المتعددة.
وكان ممن زارني في تلك الفترة، السيد ياسر عرفات، فقد تحدث إلي عن منظمة فلسطينية تعد نفسها للنضال، وطلب مني أن أتولى قيادتها السياسية .. فاعتذرت وشكرت .. فقد كان كل همي أن أعمل مع الشعب بكل جماهيره، لا مع إحدى منظماته ..
وكنت أستمع إلى الوفود الفلسطينية باهتمام وعناية، دون أن أعد بشيء .. فقد كنت أعرف مصاعب القضية الفلسطينية؛ كما عرفت أثناء عملي على الصعيد الرسمي، جوانب الضعف في الحكم العربي في مجموعه.
وفي الأسبوع الأول من شهر أيلول من عام 1963، اتصلت بي السفارة العراقية في بيروت وأبلغتني برقية من السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية، يرجو فيها أن أسافر فوراً إلى القاهرة .. وفي مساء اليوم نفسه زارني سفير الجمهورية العربية السيد عبد الحميد غالب، ونقل إلي برقية الجامعة العربية، وأضاف إليها رسالة شفوية من الرئيس جمال عبد الناصر، بأنه نظراً لخلو منصب ممثل فلسطين لدى الجامعة العربية بوفاة أحمد حلمي باشا رئيس حكومة عموم فلسطين، فإن المصلحة العربية تقضي بترشيحي لهذا المنصب، وأنه يأمل أن لا أتردد في قبول هذه المهمة من أجل قضية فلسطين ، وأنه مستعد لبذل كل دعم وتأييد.
لقد كان هذا التكليف مفاجأة لي، فقد كنت أعلم أن الجامعة العربية في واد، والقضية الفلسطينية في واد، وإن كانت قضية فلسطين هي التي كانت في رأس الأسباب التي ساهمت في إنشاء الجامعة العربية .. وقلت للسفير العربي :-
- أرجو أن تبرق للرئيس عبد الناصر شاكراً له رغبته وثقته ، وإني معتذر عن قبول هذا المنصب ..
قال: يا أخي، لم أكن أتوقع منك الاعتذار، لقد قضيت حياتك في خدمة القضية الفلسطينية وهل تتخلف الآن ..؟
قلت : إني لا أتخلف عن خدمة بلادي ولكني أعرف الدول العربية جيداً وأعرف الجامعة العربية جيداً، لقد واكبت العمل العربي الرسمي خمسة عشر عاماً، وإن خبرتي الماضية لا تشجعني على قبول هذه المهمة.
قال: إنني أعرف ما تعني، ولكن الظروف تغيرت كثيراً .. صحيح أن المهمة صعبة وشاقة، ولكنك ستجد التأييد الكامل من الدول العربية، وإن الجمهورية العربية المتحدة ستضع كل إمكاناتها لتيسر عملك .. والدول العربية الأخرى لن تتردد كذلك .. وخاصة أن علاقتك حسنة مع جميع الدول العربية .. فقد توليت الدفاع عن القضايا العربية بأسرها في الأمم المتحدة، وفي مقدمتها قضايا ليبيا ، وتونس، والمغرب، والجزائر.
قلت : صحيح أن علاقتي حسنة مع الجميع بحمد الله. ولكني أخشى على علاقتي الحسنة من قضية فلسطين، إذا كنت أميناً ومخلصاً لها .. ولا أستبعد أن تصبح العلاقة الحسنة خشنة !!
قال : ليس هنا مكان البحث في هذه الأمور .. أرجو أن تذهب إلى القاهرة .. إن مجلس الجامعة مجتمع، تستطيع أن تضع شروطك :: جرب ولو لعام واحد. تستطيع أن تستقيل إذا لم يستجب لمطالبك ..إن مهمتي عندك مختصرة : أنا مكلف من قبل الرئيس عبد الناصر أن أطلب إليك السفر إلى القاهرة .. ولن أخرج من بيتك قبل أن أسمع منك كلمة القبول.
كان السفير العربي يتحدث؛ وكنت أفكر. وأفكر .. وقد ترجح عندي القبول لأني أردت أن أجرب الدول العربية للمرة الأخيرة في حياتي، وأضمرت في نفسي العزم على الاستقالة، إذا وجد الأمر مظهراً لا جوهراً .. قلت للسفير غالب.
على بركة الله .. أرجو أن تبرق للجامعة بموافقتي .. وأن تشكر الرئيس عبد الناصر .. وإني أسأل الله العون، ولا أسأل سواه .. ولكن ..
قال : ولكن .. ماذا ..
قلت: جواز سفري السعودي أرسلته إلى الخارجية السعودية لأجدده, ليس عندي وثيقة سفر..
قال : وهل هذه صعوبة .. ستجد رجال الخارجية العربية والجامعة العربية بانتظارك في المطار !!
أنصرف السفير غالب من منزلي، وبدأت أحاسب نفسي، لماذا قبلت؟.. ومضيت أستعرض، كما لو كنت أمام فيلم سينمائي، الأحداث العربية الهزيلة بشأن قضية فلسطين منذ أن أنشئت الجامعة العربية ؛ وقضيت ليلتي وأنا أتقلب على فراشي لا أدري ماذا أصنع ..
ونهضت في الصباح على أجراس التلفون من الأخوان الفلسطينيين من القدس وعمان وبيروت يناشدوني القبول، وأنا أجيبهم بالشكر والتحية، وقد سمعوا من الإذاعات أن الجامعة العربية ترشحني ممثلاً لفلسطين في مجلس الجامعة .. ولكني عزمت في دخيلة نفسي أن أبرق إلى القاهرة معتذراً وشاكراً .. وحدث في ذلك اليوم أن جاءني وفد من اللاجئين من خيم ( شاتيلا) في بيروت، ليعربوا عن سرورهم بتعييني لهذه (الوظيفة) ولم أكتم عن الوفد ترددي وحيرتي، فإذا برئيس الوفد، وهو شيخ كبير أخذ يشهق بالبكاء، وهو يصيح في وجهي :
-  يا حاج أحمد. أحلفك بالنبي الذي زرته أن لا ترفض .. نحن نريد منك أن تبني الكيان الفلسطيني.
لقد كان كلام هذا "الشيخ " هو الذي ثبتني على القبول .. وقد أقنعتني دموعه أكثر مما أقنعني وعد الرئيس عبد الناصر، ومعه الحكومات العربية مجتمعة ..
واستخرت الله وحددت موعد سفري. وأخبرت السفارتين العراقية والمصرية ... وخرجت من مطار بيروت من غير جواز سفر، ومدير المطار يقول لي باللهجة اللبنانية المرحة:
أنت ممثل فلسطين في الجامعة العربية .. لقد أذاعت النبأ محطة بيروت .. وهل أنت تحتاج لجواز سفر؟!
امتطيت الطائرة وأنا أرى في عاطفة الأخ مدير مطار بيروت، عواطف الجماهير العربية في كل دنيا العرب.. وليست لي شكوى على الأمة العربية فإن قضية فلسطين هي في سويداء قلبها .. ولكن شكواي هي من الحكم العربي كما خبرته إلى ذلك العهد.
ورحت في الطائرة، وأنا أقرب إلى الله،أدعوه أن يكون الحكم العري الذي عرفته قد تغير أو أنه سيتغير .. وعجبت للقدر، كيف أني طردت من الأمم المتحدة، كما عبر عن ذلك راديو لندن يوم انتهت خدمتي من المملكة العربية السعودية لأدخل الجامعة العربية .!
ووصلت مطار القاهرة.. فلم أجد أحداً من رجال الخارجية المصرية، ولا من الجامعة العربية .., كما ذكر السفير غالب .. وحفظتها في نفسي وأنا أقول هذا هو أول الطريق وهذه أول الصغيرات .. وقدمت نفسي إلى مدير المطار وذكرت له سبب مجيئي إلى القاهرة .. وانتظرت بعض الوقت .. ثم جاء وسلمَّني ورقة تثبت دخولي المطار .. وانصرفت بحقائبي إلى منزلي، ومنه اتصلت بالجامعة العربية وأبلغتهم بوصولي.
وفي صبيحة اليوم التالي، زرت السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية في مكتبه، وجرى الحديث طويلاً بيننا ، وهو يؤكد لي أن الدول العربية،باستثناء المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية ولأسباب (شكلية)، ترى أن تسند إلي منصب : ممثل فلسطين في الجامعة العربية، وأنها فرصة لخدمة القضية الفلسطينية في الظروف الراهنة؛ وأنه أخذ وعداً من وفدي الأردن والسعودية بالموافقة فيما بعد.
وكدت أن أعتذر بعد أن علمت بموقف الدولتين المخالفتين، وقلت في نفسي هذه صعوبة في أول الطريق. ولكن ترجح عندي القبول في النهاية.
وانعقد مجلس الجامعة العربية في 19 سبتمبر لبحث موضوع
(تمثيل فلسطين في مجلس الجامعة) فتكلم رؤساء الوفود بشأن ترشيحي لهذا المنصب، باستثناء وفدي الأردن والسعودية فقد سجلا عدم موافقة حكومتيهما عل الترشيح، وطلبا إثبات ذلك في محضر الجلسة .. ولم يكن هذا الموقف من الوفدين مفاجأة لي، فقد كان طبيعياً للأمير فيصل أن لا يوافق ،وهو الذي أنهى خدمتي بالأمس من المملكة العربية السعودية، ولعله رأى فيها تحدياً له في ذاك الجو المغبر الذي يسود العلاقات العربية .. وكان طبيعياً كذلك للملك حسين أن يتخذ موقف الرفض وكنت قبل ثلاثة أعوام قد ألغيت موعدي معه في نيويورك، بسبب خطابه في الأمم المتحدة، على نحو ما ذكرت(1).
كل ذلك كان مفهوماً عندي، ولكن موقفاً لم أفهمه يومئذ، وهو موقف الوفد العراقي برئاسة الدكتور ناصر الحاني، فقد تحدث طويلاً عن ( قيام ظروف دمقراطية تمكن الشعب الفلسطيني من اختيار ممثله في مجلس الجامعة، فلا يختاره مجلس الجامعة وانفضت الجلسة للاستراحة، وخرجنا إلى الصالة وقلت للسيد حسونة: أرجو أن نعتبر أنفسنا في جلسة رسمية في هذه الصالة، أريد أن أعلن أمامكم أنني لم أطلب هذا المنصب، وأني أعتبره مهمة وطنية، ولا أريد عليها راتباً، وإني أصر أن يذكر في القرار أنه نافذ إلى أن يتيسر للشعب الفلسطيني أن يختار ممثله لدى مجلس الجامعة؛ فإني أريد أن يكون هذا هو حق الشعب الفلسطيني؛ ولكني أريد أن أوجه ملاحظة إلى الدكتور ناصر الحاني رئيس وفد العراق .. إن الحياة الدمقراطية لم تكن في العراق في زمن العهد البائد، في أيام نوري السعيد وانتخابات نوري السعيد، وأتساءل الآن هل يتمتع شعب العراق بحكم دمقراطي بعد مصرع نوري السعيد، وهو مستقر في وطنه، وعلى رأسه حكومة وطنية، وليس شعباً لاجئاً كالشعب الفلسطيني.*
قلت هذا وقد اكفهر جو الاجتماع، وانتحى بي السيد حسونة جانباً يهدئ من روعي، وانتحى رئيس وفد الجمهورية العربية المتحدة بالدكتور الحاني يناشده أن لا يثير شيئاً حول ملاحظاتي.
وهكذا كان فقد عدنا إلى الصالة الكبرى في الجامعة العربية، وفتحت الأبواب للصحفيين والمصورين ، وتلا الأمين العام للجامعة القرار باختيار
(السيد أحمد الشقيري مندوباً لفلسطين لدى مجلس جامعة الدول العربية، وذلك طبقاً لملحق ميثاق الجامعة الخاص بفلسطين، وإلى أن يتمكن الشعب الفلسطيني من اختيار ممثليه).
وكان هذا الشطر الأخير، عن حق الشعب الفلسطيني في اختيار ممثليه، بناء على إصراري، وقد اعتبرته نصراً لشخصية الشعب الفلسطيني، وعدم تبعيته للجامعة، ووصايتها على شئونه .. وتطلعت إلى ذلك اليوم الذي يستطيع فيه الشعب الفلسطيني أن ينتخب قيادته الوطنية، رغماً عن تشرده وتشتته؛ على حين أني عشت كل عمري أبحث في الوطن العربي عن النظم الدمقراطية الصحيحة وأين مكانها في الحكم العربي، منذ أن انتقلنا من الاحتلال الأجنبي إلى الاستقلال الوطني.
واغتنمت فرصة اجتماع مجلس الجامعة في جلسة علنية، وعلى مسمع من الصحفيين ومشهد من المصورين طلبت الكلمة، وكان الظن عند الجميع، أنها ستكون كلمة شكر وتحية، ولكني أردتها غير ذلك.

أردتها أن تكون كلمة صريحة مسهبة، تنزل في محاضر مجلس الجامعة، أحدد فيها سياستي وموقفي من الدول العربية، ولأصارح الشعب الفلسطيني والأمة العربية، بكل آمالي وآرائي، وليحكم التاريخ بعد ذلك، عليَّ أو على الدول العربية..
وأعربت في صدر حديثي عن تمنياتي فقلت ( كم كنت أتمنى من كل جوارحي أن يتم اختياري بصورة إجماعية، لا بالنسبة لشخصي، ولكن بالنسبة للقضية المقدسة التي هي قضية العرب جميعاً. غير أنني سأبذل قصارى جهدي بعد انفضاض المجلس لانتزع الثقة التي حجبت عني أثناء انعقاد المجلس، وسأنتهز أول فرصة لا تصل بالرياض وعمان لتحقيق هذه الغاية).
وأردت أن أؤكد طبيعة مهمتي ومنصبي أمام مجلس الجامعة في عبارات صريحة، فقلت : ( يهمني قبل كل شيء أن أؤكد لمجلسكم الموقر أنني لا أرى في منصبي هذا عملاً روتينياً يقتصر على المشاركة في أعمال المجلس مرتين كل عام، فإن القضية الفلسطينية تتمثل فيها نكبة مروعة أصابت شعباً برمته في أقدس ما يملك، وهي لذلك تأبى بطبيعتها وجوهرها أن تحتمل الروتين من قريب أو من بعيد .. ولست أرى كذلك في منصبي عملاً دبلوماسياً، ففلسطين ليست دولة مستقلة تأخذ بالأعراف الدبلوماسية، هذا فضلاً عن أن الدول المستقلة نفسها قد عزفت أخيراً عن كثير من الأساليب التقليدية وأخذت بأساليب التفكير الثوري. وإنني أقبل منصبي هذا من غير راتب، وكل ما يستحق لي من مكافآت فإنني أحيله من الآن إلى صندوق فلسطين من أجل تحرير فلسطين. وعلى هذا فإني أعتبر منصبي الذي عهد إلي بأنه منصب نضالي، تملكه أمة تريد أن تناضل من أجل تحرير الوطن).
وكان كلامي هذا يتجاوب في الصالة الكبرى للجامعة العربية، ولم يكن لفلسطين في الجامعة العربية إلى ذلك العهد صوت يسمع، فمنذ أن وقعت الكارثة قي 1948 أصبح تمثيل فلسطين رمزياً أو شكلياً، وقد مرت الأعوام تلو الأعوام ولم يكن لحكومة ( عموم فلسطين ) وهي التي كانت تمثل فلسطين، أي وجود..
ولكن مجلس الجامعة، قد أحس بصدمة المفاجأة، وهو يسمع لأول مرة صوت فلسطين في تحديد واضح لمعالم القضية الفلسطينية، فقد مضيت أقول للمجلس بكل صراحة ووضوح: ( ولقد أحسست ، ولم أتولَّ العمل بعد أن الصعوبات قد بدأت تتراكم أمامي، ولم يكن هذا مفاجأة لي فقد عشنا هذه الصعوبات وتمرسنا بها منذ أن نزلت بنا هذه النكبة..وليست أولى هذه الصعوبات تحالف الاستعمار والصهيونية، فإن أصعب الصعوبات، هو حال القضية الفلسطينية على الصعيد العربي. إن قضية فلسطين محاطة الآن بجو ثقيل مشحون بالأحداث العربية المؤلمة .. وإن على الجامعة العربية أن تجعل من قضية فلسطين عامل وحدة تحل محل الخلاف والفرقة. وإنني ما دمت في منصبي هذا لن أكون طرفاً في أي نزاع عربي، ولن أكون مع دولة عربية ضد دولة عربية أخرى؛ إن ولائي من أعماق ضميري سيكون لقضية فلسطين،..
وتابعت حديثي قائلاً : أما الصعوبة الثانية التي أجدها في طريقي الآن، فهي ما ثار من شكوك ومخاوف بصدد الكيان الفلسطيني، فلقد قيل إن الكيان الفلسطيني يهدف إلى غرضين أولهما سلخ الضفة الغربية و إقامة حكومة فلسطينية، وثانيهما أن تتخلى الدول العربية عن قضية فلسطين وكلا الأمرين باطل من أساسه .. إن أهل فلسطين قد أصبحوا قوة غير عاملة في الحقل العربي منذ 15 عاماً، والكيان الفلسطيني يهدف إلى أن يصبح أهل فلسطين قوة وطنية عاملة تسهم في تحرير فلسطين.. إن الكيان الفلسطيني يريد أن يمكن للقادرين على حمل السلاح من أبناء فلسطين، أن يحملوا السلاح لتحرير فلسطين .. إن للجندي الفلسطيني تفوقاً على غيره في ميدان البطولة والبسالة بسبب معرفته بوطنه .. وبسبب العاطفة الجارفة التي تعيش في صدره.
ولقد كان هذا الكلام جديداً على مجلس الجامعة، فإن الحديث عن تحرير فلسطين ،وتجنيد الشعب الفلسطيني حديث التمنيات البعيدة المنال .. ولكن مجلس الجامعة أصابه الوجوم والذهول وأنا أوجه إليه ما يشبه الإدانة القاسية، حين قلت : ( أما الصعوبة الثالثة، فإنها تكمن في الظروف التي تحيط بقضية فلسطين في جامعة الدول العربية، وأنا هنا أتكلم عن معرفة بشؤون الجامعة.. إن مهمتي ليست حضور هذه المناقشات أو الاشتراك في القرارات .. إن واجبي أن أحمل قراراتكم إلى وزارات الخارجية لالح على تنفيذها .. لست هنا في منصب دبلوماسي .. إن قضيتنا نضالية .. وإن أبواب وزارات الخارجية في كل بلد عربي يجب أن تكون مفتوحة لخدمة هذه القضية .. لقد بلغت قرارات الجامعة العربية منذ إنشائها، عن قضية فلسطين، 589 قراراً .. وهذا العدد الكبير ليس دليل الصحة والعافية ولكنه يدل على خلل كبير لقد جرحت الجامعة العربية جرحاً عميقاً بسبب قضية فلسطين ..
ثم أشرت بعد ذلك إلى القرار الذي أصدره المجلس بتكليفي بتأليف وفد فلسطين للسفر إلى الأمم المتحدة لعرض القضية الفلسطينية، وصارحت المجلس بقولي ( .. إن الأمم المتحدة ليست خاتمة المطاف في قضية فلسطين أقول هذا عن خبرة متواضعة في شؤون الأمم المتحدة .. إنه لا حل لهذه القضية في الأمم المتحدة .. إن الحل يجب أن نلتمسه في الوطن العربي وفي الوحدة العربية )(1).
ثم ختمت حديثي بقولي : ( وسأبذل كل جهدي لنقل القضية من الجمود الذي تعانيه إلى النشاط الذي نريده ونصبو إليه .. وسأسير في هذا الطريق إلى نهايته بكل صبر وبكل عزيمة، فإذا أفلحت فذلك ما أرجوه وإلا فسأعيد هذه الأمانة إليكم .. وسأظل من جانبي أعمل لفلسطين، ما حييت منتهجاً كل طريق أجده أمامي مفتوحا..).
وعلى الجملة فقد اغتنمت تلك الفرصة وأفرغت فيها آلامي الماضية من الحكم العربي، وأنا أتطلع إلى حاضر أكرم ومستقبل أعظم .. وأقبل علي رؤساء الوفود بكلمات التهنئة، وكل واحد منهم يقول : هذه نبرة جديدة .. هذا هو الكلام الصحيح .. يجب على الجامعة العربية أن تسير في طريق الجد والعزيمة. وكنت بدوري أرد على كلمات التحية والتهنئة وأنا أقول : (أنتم الذين تملكون طريق الجد والعزيمة .. فأنتم الجامعة وليست غيركم. ولا تتمنوا شيئاً على سواكم."
وانهال علي الصحفيون العرب والأجانب، وخاصة المصريون منهم، يطلبون النص الكامل لذلك الخطاب( الجديد ) في ذلك العهد (الجديد).. وقد اهتمت به الصحافة، خارج القاهرة، اهتماماً بالغاً .. وأهملته صحف القاهرة إهمالاً ظاهراً.
وزارني في اليوم الثاني، وفود عربية وفلسطينية كلهم يشيدون بخطابي في الجامعة، وكلهم يعللون إهمال صحف القاهرة له، بآراء وآراء..

كان هنالك رأي يقول بأن القاهرة ما أرادت أن تبدو متحمسة للكيان الفلسطيني ولا للشقيري، حتى لا تتهم بأن لها غرضاً معيناً وراء ذلك.
وقال رأي آخر، إن القاهرة لا تريد أن تستعجل الأمور أكثر مما ينبغي، وقد تجاوز خطاب الشقيري الحد اللازم.
وقال رأي ثالث : بل إن القاهرة لم تجد في الخطاب مادة تصلح أن تكون وقوداً للحرب التي كانت دائرة بين المعسكر الثوري، والمعسكر
(الرجعي) في العالم العربي.
كنت أستمع إلى هذه الآراء وأنا صامت لا أعلق بقليل أو كثير، مكتفياً بالقول بأنني – أيها الأخوة الفلسطينيون- سأمضي في طريقي .. وليكن موقف القاهرة ما يكون،فإن الزمن سيكشف كل شيء، وسيفصل فيما شجر بينكم.
وكان أول الواجبات أمامي، ونحن على أبواب دورة الأمم المتحدة، تأليف الوفد الفلسطيني، وكان ذلك أول صعوباتي.
وجوهر هذه الصعوبة مرده أن الشخصية الفلسطينية قد احتجبت في الأمم المتحدة، لمدة خمسة عشر عاماً، فقد كانت الهيئة العربية تمثل فلسطين في المحافل الدولية إلى أن وقعت الهزيمة في حرب فلسطين عام 1948، وتهاوت القضية الفلسطينية في الأمم المتحدة وأصبحت مشكلة لاجئين.. ونشط خلال ذلك الدكتور عزة طنوس (القدس) فافتتح مكتباً في نيويورك للدفاع عن قضية فلسطين،بمعاونة الحكومة العراقية، وراح يشرح قضية اللاجئين أمام اللجنة السامية الخاصة التابعة للأمم المتحدة .. ولكن الحاجة كانت ماسة إلى وفد فلسطيني يمثل الشعب الفلسطيني، يطرح قضية فلسطين كقضية قومية تحريرية .. وهذا بطبيعة الحال بتطلب أن يكون للشعب الفلسطيني قيادة وطنية في إطار تنظيم وطني، أو كيان فلسطين كما اصطلح عليه في السنين الأخيرة.
وحين توليت عملي، في أيلول 1963، ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية ، لم يكن للشعب الفلسطيني كيان وطني ولا قيادة وطنية .. ولهذا كان على أن أؤلف وفداً فلسطينياً يمثل شعب فلسطين ، قبل الكيان الفلسطيني .. وقبل القيادة الفلسطينية .. وهنا تكمن الصعوبة النظرية والواقعية .. ولكن كيف ؟؟.
كانت الصعوبة الواقعية الأولى أن الشعب الفلسطيني لم يعد متجمعاً كما كان قبل نكبة 1948؛ إنه يعيش في تجمعات كبرى : في المملكة الأردنية الهاشمية، في قطاع غزة ، في سوريا، وفي لبنان؛ وقد فرض هذا التمزق على تفكيري أن أؤلف الوفد الفلسطيني من هذه التجمعات، وأن أحاول ما أمكن أن أحافظ على النسبة العددية بين هذه التجمعات، وأن أضم إلى الوفد عدداً من الشخصيات الفلسطينية؛ المعروفة بمكانتها لدى الشعب الفلسطيني، بالإضافة إلى الكفاءات الفلسطينية ؛ ذلك أن تمثيل الشعب الفلسطيني يفرض مثل هذه الشخصيات المرموقة .. فليست بيدي سلطة أفرض فيها وفداً معيناً. وليس للشعب الفلسطيني كيان يمكن من خلاله اختيار الوفد، ولم نكن في غمرة ثورة شعبية تستطيع أن تفرض كلمتها ..
وانطلاقاً من هذا التفكير ( الصحيح) بالنسبة لواقع الشعب الفلسطيني وظروفه، والتفكير ( العليل) بالنسبة لما يجب أن يكون، بدأت زيارة سريعة إلى الأردن وسوريا ولبنان وقطاع غزة ، لأقوم باتصالات مع الحكومات العربية والتجمعات الفلسطينية.
وإني اعترف الآن بأني (استرضيت) الحكومات العربية في اختيار أشخاص هذا الوفد، واسترضيت ما استطعت التجمعات الفلسطينية، وكان استرضاء الحكومات العربية أمراً لا مفر منه في تلك المرحلة، فإن الوفود العربية في الأمم المتحدة هي التي ستعتمد الوفد الفلسطيني في الأمم المتحدة، والحكومات العربية هي التي تتولى تسهيل أسباب السفر من الجوازات إلى تصاريح السفر، إلى نفقات السفر، فقد كان سفر الفلسطيني من بلد إلى بلد، وما يزال ، مشكلة وأي مشكلة!!
وإني أذكر النفقات بكل أسف ومرارة، فلم يكن عندي صندوق فلسطيني أنفق منه، ولم تضع الجامعة العربية تحت تصرفي أي مبلغ من المال وقد عينتُ ممثلاً لفلسطين لأصنع المعجزات من براثن المستحيلات !!
وكانت أول زياراتي الرسمية للملك حسين في عمان، وتحدثت إليه طويلاً عن تأليف الوفد الفلسطيني ومزايا إبراز الشخصية الفلسطينية في الأمم المتحدة ، وضرورة إعادة بناء الكيان الفلسطيني حرصاً على بقاء الشخصية الفلسطينية حية على الصعيدين العربية والدولي.
ولكن الملك حسين كان متجهماً وعابساً لا يستريح إلى الكيان الفلسطيني ولا إلى الشخصية الفلسطينية .. وكل منطقه : نحن فلسطين ونحن القضية الفلسطينية .. وأن الأردن دولة وجيشاً وشعباً يتكفل بالقضية الفلسطينية ولا يحتاج الأمر لأكثر من ذلك !!
وقضيت بضعة أيام في الحوار مع الملك حسين من غير جدوى .. وكنت أقضي الليالي في فندق ( الأردن) أفكر في هذه المصيبة الكبرى التي أسمها ( قضية فلسطين )، وكيف رضيت أن أحملها من الحكومات العربية وأنا خالي الوفاض من كل شيء.. إلا من ورقة صغيرة فيها قرار تعييني ممثلاً لفلسطين في الجامعة، كما كان سلفي أحمد باشا، لا حول ولا طول.
وكان رجال المباحث الأردنية يملأون ردهات الفندق يسألون عمن يزورني، كما كانت سيارتهم العسكرية محيطة بالفندق وعلى أهبة الاستعداد .. فأصبحت سجين الفندق، ولم يجرؤ على زيارتي إلا الشجعان من أصدقائي ومعارفي، ذلك أن الكيان الفلسطيني، ولم يكن قد ولد بعد، جريمة كبرى في نظر الأردن .. وكل من يقترب مني فإنما هو موافق على هذه الجناية الكبرى أو الخيانة العظمى.
ولجأت، حين أوشكت على اليأس، إلى المناورة والتهديد؛ فقد تحدثت (سراً) إلى من أعرف صلتهم بالملك حسين .. حدثتهم بأني سأغادر عمان قريباً، وسأعلن تأليف الوفد الفلسطيني ممن أخترهم، وسيسافر الوفد إلى نيويورك كأمر واقع .. وانطلى هذا ( المكر) على الملك حسين، أعانني على ذلك خشيته أن أكشف إلى الرأي العام الموقف السلبي للأردن، فأصدر أمره
(السامي) إلى وزارة الخارجية للاتفاق معي على اختيار الأردنيين من الوفد من أبناء فلسطين ..
وبدأت المفاوضات والمساومات بيني وبين الخارجية الأردنية، فتم اختيار عدد من الفلسطينيين ( الأردنيين ) في الوفد الفلسطيني، وتعهدت الحكومة الأردنية بنفقاتهم وجميع التسهيلات اللازمة. وخرجت من عمان إلى دمشق بعد أول أزمة مع الملك حسين، انتصرت فيها الشخصية الفلسطينية، وهي أول ما تحبو على وجه الأرض.
وقضيت ليلتين في دمشق، وأنا في حوار مع قادة البعث، لأحملهم على اختيار اثنين من الفلسطينيين في سوريا؛ وامتد الحوار وامتد؛ ولم استطع أن أصل إلى نتيجة، ولا إلى معرفة السبب، يومئذ؛ وخرجت من دمشق التي عشت فيها أعز أيامي في الكفاح السياسي، فاشلاً خائباً لأسباب سأشرحها في سياق مذكراتي.
من دمشق امتطيت الطائرة إلى القاهرة ومنها إلى قطاع غزة ، وقضيت ثلاث ليال في أخذ ورد مع مجموعات الشعب الفلسطيني، والحاكم الإداري للقطاع الفريق يوسف العجرودي .. وتنفس الفجر في اليوم الرابع فتنفست الصعداء، فقد وفقت إلى اختيار مندوبي قطاع غزة في الوفد، وأن تتحمل الإدارة نفقات الوفد.
وكان الحاج أمين الحسيني صعوبة أخرى في تأليف الوفد، فقد كان يصر أن يكون له عشرة أعضاء في الوفد، فقد اجتمعت به غير مرة في بيروت وأمطرني بعدد من رسله، يؤكدون حق ( سماحته) في أكبر عدد من أعضاء الوفد، وبعد جدال وافقت أن أضم إلى الوفد الفلسطيني خمسة من مرشحيه تمثيلاً للهيأة العربية العليا التي لم يبق منها إلا سماحته، رئيساً على غير مرؤوسين ..وقد رضيت بهذا الترقيع، لأن الشعب الفلسطيني كان ممزقاً، وما كنت أريد أن يفاجئني سماحته في الأمم المتحدة بوفد يمثل الهيأة العربية التي لا تمثل من الشعب الفلسطيني أحداً(1) ..
ولم تكن هذه الخشية في غير محلها فقد أرسل الحاج أمين الحسيني في دورة لاحقة وفداً خاصاً يمثل الهيأة العربية لينافس وفد منظمة التحرير الفلسطينية..
كان ذلك في خريف عام 1965 حينما فوجئت الأمم المتحدة وهي تستمع إلى بيانات وفد منظمة التحرير، بطلب تقدم به وفد يمثل سماحته لالقاء خطاب باسم الشعب الفلسطيني، باعتبار أن الهيئة العربية العليا هي
(الممثل الوحيد) للشعب الفلسطيني..
وهكذا تم تأليف الوفد الفلسطيني في عام 1963، من ثمانية عشر شخصاً، بينهم سيدتان هما السيدة وديعة الخرطبيل رئيسة الاتحاد النسائي الفلسطيني في بيروت، والآنسة يسرى البربري من غزة .. ولم أكد أعلن أسماء الوفد ، حتى بدأ القيل والقال، والجدال والسؤال..
-  لماذا يكون الوفد مؤلفاً من ثمانية عشر . هذه نفقات لا لزوم لها؟
-  لماذا لم تمثل التجمعات الفلسطينية الأخرى .. أليسوا فلسطينيين؟
-  لماذا الوجهاء .. وهل الأمم المتحدة في حاجة إلى وجهاء ..؟
-  لماذا لا يكون في الوفد عدد أكبر من السيدات؟
-  لماذا السيدات .. وهل الوفود العربية سيدات؟
هذه الأسئلة وعشرات مثلها كانت تدور في الألسنة .. لا عند جماهير الشعب، فهذه لا تهوى الجدال، ولكن في حلقات بعض المثقفين، وبعض كبار الموظفين وبعض كبار التجار ممن يريدون تحرير فلسطين وهم ناعمون في بيوتهم؛ والقضية عندهم سمر وسهر.. في ليالي القمر ..
ولقد صبرت على الجدل والمجادلين، وكان عزائي أن الشعب الفلسطيني في واد، وهؤلاء في واد. وسافرنا إلى الأمم المتحدة، وفداً متجمع الكلمة، حسن التصرف؛ وأدى كل واحد واجبه نحو وطنه ..
وعرضت القضية الفلسطينية عرضاً شاملاً في ثلاث خطب رئيسية نشرتها منظمة التحرير الفلسطينية فيما بعد في كتاب مستقل : ( فلسطين على منبر الأمم المتحدة) رددت فيها على حجج إسرائيل منذ قامت إسرائيل .. وسيظل هذا الكتاب، بكل تواضع، مرجعاً لكل عربي يريد أن يتصدى لإسرائيل في المحافل الدولية(1).
وعدت من الأمم المتحدة في أواخر 1963 مجهداً مكدوداً يشد من عزمي أن الشخصية الفلسطينية قد أكدت وجودها في الأمم المتحدة لأول مرة بعد عام 1948.
كان ذلك أول انتصار سياسي لقضية فلسطين على الصعيدين العربي والدولي .. على الصعيد العربي لأن الشخصية الفلسطينية قد فرضت وجودها، وعلى الصعيد الدولي لأن الشخصية الفلسطينية قد رفعت صوتها ، صوت الوطن، وقالت كلمتها، كلمة الشعب؛ وأعلنت مطلبها، مطلب التحرير.
وأمام هذا الانتصار ، تهاوت على الأرض مجادلات المجادلين وسخريات الساخرين؛ وحمدت الله أنهم أقل من قليل، في شعبنا البطل ، وأمتنا المجيدة.
وعدت إلى الوطن وقد اجتزت صعوباتي في الجامعة العربية، لأواجه صعوبات أضخم في مؤتمر القمة الأول .. مؤتمر الملوك والرؤساء ..
وما أشقى الفلسطيني اللاجئي مثلي حينما يصبح رفيقاً للملوك والرؤساء ..
أجل إنها رفاقة يضلَّ فيها المرء ويشقى ..
ولكن ..
( فمن اتبع هداي فلا يضلُّ ولا يشقى)
صدق الله العظيم
مؤتمر القمة الأول
من فندق هيلتون..
إلى بيت عبد الناصر

لم أكد أعود إلى القاهرة من دورة الأمم المتحدة في نيويورك في أواخر عام 1963، حتى وجدتني أمام رحلة جديدة.. وهذه المرة إلى شمال إفريقيا.
وكانت المناسبة جلاء القوات الفرنسية عن بنزرت في تونس، فقد تلقيت الدعوة من الرئيس الحبيب بورقيبة بوصفي ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية، وكانت الدعوات قد صدرت إلى ملوك العرب ورؤسائهم .. ورأيت فيها فرصة لتجسيد الشخصية الفلسطينية، ومشاركة الشعب الفلسطيني فيما تشارك فيه الشعوب الأخرى.
وبادرت إلى قبول الدعوة يحفزني إليها أنها مناسبة عربية كبرى للاتصال والحديث عن قضية فلسطين .. وتفضلت الحكومة التونسية بتحمل نفقات السفر والإقامة، فلم يكن لفلسطين صندوق ننفق منه، لا قليلاً ولا كثيراً!! ووصلت تونس مع عدد من الوفود العربية، لنجد الشعب التونسي وقد ملأ الشوارع والميادين العامة وهو يعرب عن فرحته الكبرى بجلاء القوات الفرنسية عن أرض الوطن، وتقاطرت الوفود الصديقة من كل أرجاء العالم لتحتفل مع الشعب التونسي في هذا اليوم المجيد، وكان الرئيس عبد الناصر والرئيس بن بيلا في طليعة الوفود العربية .
وكان البرنامج حافلاً بالنشاط والحركة، من مصنع إلى مصنع،ومن مزرعة إلى مزرعة، ومن مشروع إلى مشروع، والرئيس بورقيبة يزهو بما حقق لشعبه من البناء والإنشاء في مرحلة الاستقلال؛ وهو على حق في زهوه وخيلائه فيما حقق لتونس، لا في موقفه بالنسبة لفلسطين ..
وأقيم احتفال شعبي كبير خطب فيه الرئيس بورقيبة عن إنجازات تونس حكومة وشعباً، كما خطب عدد من الوفود العربية والصديقة.. وكانت حماسة الجماهير دافقة ملتهبة ، وكلها تهتف لفلسطين وتحرير فلسطين ، حتى بدا الاجتماع وكأنما تنادى له شعب تونس من أجل تحرير فلسطين لا ابتهاجاً بتحرير بنزرت .. وتلك هي عاطفة الأمة العربية في كل دنيا العرب..وفي جميع أيامها القومية .
واستقبلني الرئيس بورقيبة في القصر الجمهوري، وتحدثنا ساعة من الزمن، أشاد فيها بلقائنا في فلسطين قبل ثلاثين عاماً، وبمناصرتي للقضية التونسية في الأمم المتحدة(1) .. وشرحت له الظروف التي تمر بها القضية الفلسطينية، والمصاعب التي يلقاها أبناء فلسطين في الوطن العربي، مما يحد من نشاطهم القومي في سبيل قيام كيان فلسطيني يجمع شتاتهم ويوحد كلمتهم ويكون منطلقاً لنضالهم الوطني .. ثم أشار إلى (الأخطاء) العربية في عدم التزام الواقعية في قضية فلسطين، ورفض التسويات المتعددة التي عرضت في الماضي مما أفضى إلى كارثة فلسطين .. وأخذت أشرح له الفروق الكبيرة بين قضية فلسطين والقضايا العربية الأخرى وخاصة قضية تونس، وأن سياسة المراحل على الصعيد الدولي، لا تصلح للقضية الفلسطينية ، لأن الشعب كان يواجه غزوة استعمارية استيطانية تستهدف إقامة وطن على أنقاض وطن، وإحلال شعب على جذور شعب .. وطال الحديث دون أن أستطيع الوصول مع الرئيس بورقيبة إلى نتيجة ، وهو يقول لي : سندعوك إلى تونس لندوة في الحزب لنبحث في الموضوع مليا؛ وقلت حباً وكرامة. ويسعدني أن ألبَّي هذه الدعوة .. وجاءت الأيام على غير ما نشتهي .. فليم تصلني الدعوة، وتطورت أفكار الرئيس بورقيبة على نحو آخر، مما حملني على المطالبة بفصل الحكومة التونسية من الجامعة العربية ، كما سأعرضه فيما بعد.
واجتمعت بالرفاق القدامى، الوزراء التونسيين : السادة الباهي الأدغم، والحبيب بورقيبة الابن، والمنجي سليم، وكانت بيننا صلات وذكريات لمناسبة دفاعي عن القضية التونسية في مؤتمر باندونغ وفي الأمم المتحدة؛ وطمعت أن يبادلوني حماستي لقضية تونس، بحماسة لقضية فلسطين .. ولكني وجدت فتوراً وتحفظاً .. ولم أدر السبب في ذلك .. أهو الحكم ومسؤولياته وظروفه، أم التفكير البورقيبي في قضية فلسطين .. وما أبعد الشقة بين ما سمعت في الشارع من الجماهير التونسية ، وما سمعت من المسؤولين التونسيين في مكاتب الوزارات!!
وتهيأت لي فرصة للتجوال في المدن التونسية، خارج العاصمة، ولقيت أبناء فلسطين، يعملون في المدارس التونسية، وكانت لي معهم ندوات واجتماعات، وكلهم في حماسة بالغة يتطلعون إلى قيام تنظيم فلسطيني يعبر عن إرادتهم ويقودهم إلى النضال.. وزرت المعاهد والمدارس التونسية .. وتحدثت إلى الطلاب التونسيين حيثما ذهبت .. وشرحت لهم القضية الفلسطينية في مختلف أدوارها .. وأحسست بالعزيمة الصادقة والوعي السليم في الجيل العربي الذي يتبوأ مكانه في مقاعد الدراسة، وينتظر دوره الكبير في حاضر الأمة العربية ومستقبلها، فانزاح عن صدري كابوس الحكم العربي المعاصر، وكان جاثماً على صدري منذ عهد الاستقلال إلى يومنا هذا؛ ولكم تمنيت أن أضع له كتاباً مستقلاً لأكشف الحكم العربي وأفضحه أمام الأمة العربية ..
وفي ختام زيارتي لتونس عقدت مؤتمراً صحفياً حضره عدد كبير من مراسلي الصحف ووكالات الأنباء العالمية الذين توافدوا على تونس لهذه المناسبة القومية الكبيرة، فأسهبت في شرح القضية الفلسطينية مشيراً إلى تحفز الشعب الفلسطيني للقيام بدوره في تنظيم صفوفه والعمل لتحرير وطنه..
ومن تونس امتطيت الطائرة إلى الجزائر، ولم أكن قد عرفت هذا القطر المجاهد إلا من خلال كفاحه الطويل، وحين وصلت المطار كدت أهوي على أرضه ساجداً أقبل الثرى الطاهر وقد رواه دم الشهداء عبر السنين والأجيال، لولا أني رأيت نفسي أمام استقبال رسمي فيه كل مظاهر الحفاوة والتكريم؛ وكان بين المستقبلين عدد من الوزراء الجزائريين فيهم السيد عبد العزيز بوتفليقة وزير الخارجية، والسيد توفيق المدني وزير الأوقاف، والسفراء العرب وجمع من أبناء فلسطين .. ولم تترك حماسة الفلسطينيين مكاناً للبروتوكول والمراسيم فقد اقتحموا كل التقاليد ليروا ممثل فلسطين ويهتفوا لفلسطين، وانطلقت بنا السيارات وأمامنا الدراجات النارية تخترق الشوارع التي شهدت أعنف معارك الكفاح، وأبصرت على الأرصفة بقايا الجالية الفرنسية يمدون أبصارهم بغير استعلاء وطغيان إلى هذا الفلسطيني الوافد، الذي هتك بالأمس القريب سيرة فرنسا على منبر الأمم المتحدة(1) !!
وأقبل الليل وذهبت إلى قصر الشعب لوليمة عشاء أقامها الرئيس أحمد بن بللا ولم يدع إليها إلا الوزراء، وقال الرئيس في تعليل ذلك إنها وليمة جزائرية خاصة للحفاوة بالجزائري الأخ الشقيري ممثل فلسطين .. فشكرت له هذه الإشارة اللطيفة، وكانت قضية فلسطين هي حديثنا على المائدة.. ولم أكن في حاجة أن أسهب في الحديث، فقد قطع الرئيس الجزائري ووزراؤه الطريق علي وقالوا : نحن نضع كل إمكاناتنا تحت تصرف فلسطين.. ونحن نعتبر استقلالنا ناقصاً حتى يتم تحرير فلسطين .. وصحبني الرئيس بن بللا إلى دار الضيافة في سيارته.. ومال إلي ونحن في الطريق، يهمس في أذني ( نحن نعرف مصاعب الكفاح .. لقد مرت بنا أيام قاسية .. سأرسل إليك عن طريق سفارتنا في القاهرة شيكاً بعشرة آلاف جنيه إسترليني، نفقات خاصة لك .. وسندفع ما يترتب علينا لقضية فلسطين عن طريق الجامعة). قلت : ( أشكر للأخ الرئيس هذه العاطفة الكريمة،وحينما ننشئ الصندوق القومي الفلسطيني سأطلب من الجزائر كل ما نحتاج إليه) . . ووصلنا دار الضيافة وأنا أناشده أن لا يرسل لي شيئاً خاصاً.
وفي اليوم الثاني زرت جامعة الجزائر، وإذا بالطلاب الفلسطينيين قد ملأوا القاعة من الجدار إلى الجدار، وأصبحنا وكأننا على أرض فلسطين، حديثاً وسؤالاً وجواباً، ونشيداً وهتافاً .. وكلهم لهفة على الكيان الفلسطيني يتطلعون إلى بزوغ فجره، وقد طال عليه الليل .. وانصرفت وأنا أشق طريقي بين صفوفهم المتراصة ، وتكاد نفسي أن تذهب حسرات على هذه الطاقات التي بقيت مهدورة خمسة عشر عاماً طوالاً ..
ولم استطع البقاء طويلاً في الجزائر فلم أحتمل ذلك التقدير الذي اسبغه علي الشعب والحكومة فيما أديت من واجب قومي إزاء القضية الجزائرية، أيام توليت الدفاع عنها في الأمم المتحدة(1).
وسارعت إلى المغرب الشقيق لأجد العواطف نفسها .. وكانت لقاءاتي الرسمية والشعبية، والفلسطينية غاية في التجاوب والتقدير.
وصادف يوم وصولي إلى المغرب، أن خطب الرئيس عبد الناصر خطابه الشهير في بور سعيد (23 ديسمبر 1963) ودعا فيه إلى مؤتمر القمة العربي الأول، لبحث موضوع تحويل إسرائيل لمجرى نهر الأردن، وصادف وقت وصولي إلى الفندق، أن كان نزلاؤه متجمعين حول الراديو، يستمعون إلى الرئيس عبد الناصر، وهو يتحدث إلى الشعب المصري وإلى الأمة العربية من مدينة بور سعيد الباسلة .. وراح الرئيس عبد الناصر يخطب بأسلوبه العامي المثير عن الشؤون الداخلية والعربية والدولية، وجلست إلى جوار الراديو أستمع مع المستمعين ، ومشاعر السرور الصامت والتقدير المكبوت تلمع بها عيون المستمعين، فقد كان الخلاف على أشده بين المغرب والجزائر بسبب النزاع على الحدود، وكانت مصر تؤيد موقف الجزائر بالسلاح وبالرجال .. وحمل الرئيس عبد الناصر على ( الرجعية السعودية التي لم ترض لشعب اليمن أن يحيا، وتصدت لثورة اليمن، وأن التحالف قائم بين الملك سعود وبريطانيا ضد مصر وضد اليمن).. ثم انتقل الرئيس عبد الناصر إلى مهاجمة البعث في دمشق فقال إن ( حزب البعث يعاني سكرات الموت .. حزب البعث الانتهازي لم يحسن استخدام الصفحة الجديدة التي فتحت له للتعاون مع العناصر القومية).
ولم تكن هذه المعاني جديدة عليَ أو على الجماهير العربية فقد سبق للرئيس عبد الناصر إن (جرد) حملات كبرى على السعودية والبعث في آن واحد.
ولكن الجديد في ذلك المساء التاريخي كانت معالجته لقضية تحويل مياه الأردن التي كتب لها فيما بعد أن تحول مجرى التاريخ العربي .. فقد تحدث الرئيس عبد الناصر عن مشروعات إسرائيل لتحويل مجرى نهر الأردن واستعرض ( الجهود) العربية التي قامت بها الجامعة العربية، فأعلن أن اجتماع رؤساء الأركان العرب لا يجدي، وأن اجتماع مجلس الدفاع العربي لا يجدي وأنه لا بد أن يتم اجتماع للملوك والرؤساء العرب في أسرع وقت .. وبصرف النظر عن الخناق والخصام والمتخاصمين معاهم، احنا مستعدين نقعد معاهم .. عشان فلسطين .. أحنا مستعدين نقعد معاهم .. نقعد نتكلم في الاجتماع كلام جد .. وبعدين مش عيب نطلع ونقول، والله احنا النهارده منقدرش نستخدم القوة .. ولكن مش حانقول كلام في الاوده ونطلع نقول لكم كلام تاني .. أنا عن نفسي الكلام اللي حيتقال في الاوده حاطلع أقوله كله بره .. نحن مستعدين نتناسى كل البلاوي والقرف اللي شفناه في الكام سنة اللي فاتت).
وما كاد الرئيس عبد الناصر ينتهي من خطابه، حتى جاءني الوزير المغربي السيد أحمد رضا قديرة، مرحباً بقدومي؛ والسؤال الكبير ينطلق من لسانه:
-  هي سمعت خطاب الرئيس عبد الناصر..
قلت : نعم .. لقد سمعته هنا في المغرب .. في الفندق.
قال : إنه مفاجأة كبرى .. أليس كذلك .. وهل يلبي الملوك والرؤساء ؟؟
قلت : بلا شك .. ومن الذي يجرؤ على التخلف .. لقد وضع الرئيس عبد الناصر الملوك والرؤساء وجهاً لوجه أمام الأمة العربية .. وفوق ذلك أنه يهدد بالتشهير.
وانصرف الوزير المغربي وهو بادي الذهول لا يدري ما يقول .. وبعد أن سار بضعة خطوات عاد إلي مسرعاً وهو يقول .. لقد نسيت أن أخبرك .. أن جلالة مولانا يستقبلك غداً صباحاً.
واستقبلني الملك الحسن الثاني في مكتبه في الموعد المحدد. ولبثت معه ساعتين، وأنا أحدثه عن الشؤون العربية وقضية فلسطين وضرورة تكاتف الجهود العربية لانقذ1 القضية الفلسطينية من وهدة الجمود التي تهاوت إليها .. وقد لاحظت أن ملك المغرب، متردد بعض الشيء في حضوره شخصياً إلى مؤتمر القمة .. فأخذت أناشده الحضور، وأنها فرصة عربية كبرى لإزالة الخلافات ودعم التضامن العربي.. وكان وزراؤه ينظرون إلي مستزيدين من هذا الحديث .. وقلت له في نهاية حديثي :
-  سأفعل مع جلالتكم ما يفعله العرب في المشرق العربي.
قال : وماذا يفعلون ؟؟
قلت : أحلف لا أذوق طعامكم ولا أشرب ماءكم حتى تقبل رجائي، وتحضر مؤتمر القاهرة بشخصك.
قال: أعدك أني سأبذل كل جهدي .. ألم تسمع خطاب الرئيس عبد الناصر وهو يعلن : ( يوم ماجت الرسالة من بن بللا، طالب قوات عشان تساعده في إيقاف العدوان عليه،بعد 24 ساعة ردينا عليه ..) والإشارة هنا إلى معاونة عبد الناصر للجزائر في نزاعها مع المغرب..
قلت : هذا إستعراض للماضي، والرئيس عبد الناصر يقصد أنه يريد أن يفتح صفحة جديدة.
قال: إن شاء الله تكون صفحة جديدة، حقيقية..
وغادرت المغرب وأنا أتابع أخبار هذه الدعوة المثيرة التي وجهها الرئيس عبد الناصر إلى الملوك والرؤساء ليجتمعوا في أول مؤتمر على مستوى القمة ، بعد المؤتمر الذي انعقد في زهراء انشاص في عهد فاروق قبل سبعة عشر عاماً ..
وفي طريق عودتي إلى القاهرة، نزلت في طرابلس (ليبيا) استكمالاً لرحلتي في الشمال الأفريقي كله .. وكانت ليبيا تحتفل بذكرى استقلالها .. فكانت لي فرصة أخرى لقيت فيها الوفود العربية والصديقة للبحث في قضية فلسطين وتنظيم الشعب الفلسطيني.
وطفت مع السيد رئيس الوزراء بعض المدن الليبية، ودعاني أن أخطب في الجماهير .. فحدثتهم عن تاريخ القضية الفلسطينية، وكان حماس الجماهير بالغاً حتى لم يبق عليهم إلا أن يزحفوا إلى فلسطين مشياً على الأقدام .. وأشهد أنهم لصادقون .. وكنت كلما شهدت هذه المشاهد ازداد إيماني بالأمة العربية، وازددت تبرماً بالحكم العربي الرسمي.
وما هو إلا يوم وبعض يوم حتى عدت إلى القاهرة مسرعاً، لأرى الدنيا العربية مشدودة الأبصار إلى المؤتمر العتيد، والشعب الفلسطيني يرنو بأبصاره ليرى مكانه في هذا المؤتمر، ومصير قضيته في مناقشاته ومداولاته.
ولم يكن تحديد موعد المؤتمر أمراً سهلاً، والأمة العربية على رأسها ثلاثة عشر ملكاً ورئيساً، فلا بد من ( التنقيب ) في الروزنامة على موعد يلائم الجميع، وأخيراً تم الاتفاق على اليوم الثالث عشر من شهر كانون الثاني من عام 1964، وقد وقع الاختيار على هذا الموعد، ليلائم الملك حسين الذي كان مشغولاً في استقبال قداسة البابا بولس السادس، وليوافق الرئيس الحبيب بو رقيبة، وكان مشغولاً بدوره في الترحيب بضيفه رئيس وزراء الصين الشعبية السيد شوآين لاي. وهكذا وضح من البداية مدى ارتباط قضية فلسطين، بين نصرانية الدول الغربية (وإلحادية) الدول الاشتراكية ولو في تحديد موعد مؤتمر القمة على الأقل !!
ولكن الصعوبة الكبرى لم تكن في تحديد موعد المؤتمر، وإنما تكمن في الخلافات الحادة التي كانت تمزق الدول العربية ،حتى باتت في حاجة إلى وسيط دولي بالمساعي الحميدة بينها .. فقد كانت الحرب دائرة بين الجزائر والمغرب بشأن الحدود، ومصر طرف فيها تؤيد الجزائر، وفي حوزة هذه الدول الثلاث أسرى حرب من مواطنيهم .. وكانت حرب اليمن تستنزف أموال السعودية، وأرواح المصريين ودماء اليمنيين .. وكانت الصراعات الإذاعية بالغة ذروتها بين دمشق والقاهرة، وبغداد مع الجمهورية العربية المتحدة، وكان الخلاف مشتداً بين المغرب وتونس لأن الثانية اعترفت باستقلال موريتانيا، والمغرب يؤكد أنها جزء من التراب المغربي !!
ولم تكن القاهرة كما غادرتها قبل بضعة أسابيع، فالاستعدادات لمؤتمر القمة بالغة ذروتها، والجامعة العربية تجتاحها موجة من النشاط لم تشهدها منذ أنشئت .. الدعوات حررت إلى الملوك والرؤساء في 25 ديسمبر، وفي 27 ديسمبر كانت عشر دول عربية قد بعثت بإجاباتها الرسمية، وكان العراق قد وافق قبل أن تصله الدعوة، ووافق الملك حسين بالإذاعة على موجات الأثير في الليلة التي خطب فيها الرئيس عبد الناصر مقترحاً الدعوة إلى المؤتمر. وكانت السعودية آخر من استجاب، في 5 يناير من عام 1964.
وكانت الحرب في اليمن في ذروتها، بين القاهرة وصنعاء والرياض، وكان الشجار بين دمشق والقاهرة على أشده، وكانت عمان في خلاف معهما، وكان النزاع بالغاً بين المغرب والجزائر، والقاهرة طرف فيه.
وكان الحافز لعقد المؤتمر موضوعاً ثانوياً على أهمية تحويل إسرائيل لمجرى الأردن، ولكن الاستجابة لمؤتمر القمة كانت سريعة متلاحقة، لسب واحد هو أن القومية العربية كانت داوية الكلمة ناشطة الحركة، وكان الرئيس جمال عبد الناصر، إذا خطب، يهز الجماهير العربية ، ويهز معها العروش والتيجان ومن الذي يستطيع أن يرفض دعوته.
كان ذلك قبل نكبة حزيران، أما بعدها فقد بح صوت الرئيس عبد الناصر، وهو يدعو إلى مؤتمر قمة فلا سميع ولا مجيب .. ولم ينعقد مؤتمر الرباط إلا في عام 1969، وقد انفرط غداة انعقد .. وانعقدت بعده وقبله مؤتمرات قمة صغيرة تحت اسم مؤتمر دول المواجهة، ولم يكن لها من
(المواجهة) حظ قليل أو كثير .. ذلك أن نكسة يونيو كانت نكسة للقومية العربية نفسها.
وغداة وصولي إلى القاهرة، وجدت خبراء الفقه الدستوري والعارفين بالمراسم الدولية مشغولين بأمري .. هل يحضر ممثل فلسطين مؤتمر الملوك والرؤساء وهو ليس من الملوك والرؤساء ؟؟ وخضت مع الخائضين في هذه الأبحاث القانونية، ولما لم أجد سنداً في (القانون) لجأت إلى الإنذار :
قلت: ( إن هذا المؤتمر سيجتمع من أجل قضية فلسطين، وأنا ممثل فلسطين ، وإذا لم يشترك ممثل فلسطين في هذا الاجتماع ، فليس أمامي إلا أن أستقيل من هذا المنصب وأعلن ذلك على الشعب الفلسطيني..).
ولقد أفلح هذا الإنذار حيث لم يفلح القانون، وصدرت صحف القاهرة تعلن في اليوم التالي: أن ممل فلسطين سيشترك في مؤتمر الملوك والرؤساء.
وجاءت بعد ذلك مشكلة جلوسي:أين أجلس؟ وأفتى خبراء البروتوكول بأن أجلس في طرف المائدة البيضاوية الشكل في الصالة الكبرى في الجامعة حيث سينعقد المؤتمر .. وأن أجلس على كرسي عادي، لا مزدوج كالمقاعد المخصصة للملوك والرؤساء، وأن يكون هذا الكرسي بعيداً بمقدار خطوتين إلى الوراء عن مقاعد الملوك والرؤساء فقبلت الفتوى وبيّت في نفسي أمراً.
ولم تكد تذيع الصحف العربية العالمية نبأ اشتراكي في المؤتمر في المؤتمر حتى انهالت عليَّ الاقتراحات والرسائل من كافة تجمعات الشعب الفلسطيني، ولم يكونوا يعلمون أن اشتراكي وجلوسي في المؤتمر كان
( كفاحاً) بنفسه وكان من بين هذه الاقتراحات.
-  إنشاء جمهورية فلسطينية.
-  تجنيد الشعب الفلسطيني لخوض معركة التحرير.
-  المبادرة إلى إنشاء الكيان الفلسطيني.
-  إجراءات انتخابات للشعب الفلسطيني لاختيار قيادته الوطنية.
-  استقلال العمل الفلسطيني عن الجامعة العربية
وغير هذه الاقتراحات كثير كثير .. ولم أبال بذلك كله لأني رأيت في تلك المرحلة أن أوجه اهتمامي لأمرين : الأول أن يكون مؤتمر القمة لقضية فلسطين برمتها ولا يقتصر على تحويل الروافد، والثاني أن
(أنتزع) من المؤتمر قراراً بإنشاء الكيان الفلسطيني، مهما كانت صيغته .. وتحقيقاً لهاتين الغايتين انصرفت بكل جهودي واتصالاتي، مبتدئاً من مطار القاهرة الدولي، إلى فندق هيلتون حيث يلتقي الملوك والرؤساء ليلاً، إلى قاعات الجامعة العربية حيث يجتمعون نهاراً وقد أعانني في هذه المرحلة إنني أعرف الملوك والرؤساء معرفة شخصية ولي معهم صداقات وذكريات، لمناسبة دفاعي عن القضايا العربية على الصعيدين العربي والدولي .. وكان مقدراً لهذه الصداقة وتلك الذكريات أن تتهاوى تحت وطأة القضية الفلسطينية ومتطلباتها الجسيمة..
وبدأت بالمطار .. فرحت أستقبل الملوك والرؤساء، أجامل وأتودد، وحرصت على مجاملة الملك حسين بصورة خاصة، فاحتضنتنه وقبلته. فلا بدَّ للكيان الفلسطيني في بدايته من موافقة عمان؛ ورفعت قامتي وقبلت جبهة سعود وأنفه – على الطريقة السعودية، فقد امتنعت السعودية عن تأييد ترشيحي ممثلاً لفلسطين في الجامعة .. وفعلت مع القادة الآخرين ضروباً من التودد، كأنني أريد أن أخطب واحدة من بناتهم إلى واحد من أولادي(1).
غير أن كفاآتي في التودد لم تستطع أن تنتزع ابتسامة من اللواء أمين الحافظ رئيس مجلس الثورة السوري، فقد نزل من سلم الطائرة، عابساً مقطباً، كشفت رياح المطار عن مسدسه تحت ( جاكته)، ومشى إلى منصة العرض مع الرئيس عبد الناصر، وكلاهما يدير كتفه إلى الآخر، فقد كانت الحملات الإذاعية بين دمشق والقاهرة قد بلغت القمة، والرئيسان يسيران فوق عتبات مؤتمر القمة!!
ولكن جو التجهم الذي أسبغه الرئيس السوري على جنبات المطار قد تبدل بصورة مفاجئة حين وصل الرئيس الجزائري أحمد بن بللا ونزل من طائرته وهو يحمل بجلبابه الجزائري الذي كان يلبسه أمجاد الثورة الجزائرية وأريحياتها، وجاء من بعده الرئيس الحبيب بو رقيبة صاحب الذكريات في حي سيدنا الحسين في القاهرة ، أيام كان لاجئاً في عهد النضال التونسي؛ فركب سيارة جيب ودخل القاهرة ، دخول الفاتحين وهو يلوح للجماهير بيديه. وجاء من بعدهما ملك المغرب الحسن الثاني، وأقبل على الرئيس عبد الناصر وهو يقول : لنبدأ صفحة جديدة. ثم التفت إليّ ليعلن باللهجة المغربية ( ياسي أحمد: لقد جئنا إلى مؤتمر القمة) .. ثم مال إلى الرئيس عبد الناصر وقال له: ( بعد بضعة دقائق ستصل طائرة مغربية تحمل الإخوان الضباط الخمسة المصريين ) (الأسرى الذين وقعوا في يد السلطات المغربية أثناء المناوشات العسكرية التي وقعت بين القوات المغربية والجزائرية بشأن الخلاف على الحدود).
واستمرت مواكب الملوك والرؤساء إلى فندق هيلتون طيلة النهار وبعض الليل. وفي فندق هيلتون، أقبلت على الملك حسين بكل جوارحي لأفتح قلبه للكيان الفلسطيني، وقد أعانني في هذه المهمة السيد بهجت التلهوني رئيس الوزراء، ورحت في صباح اليوم التالي أزوره في حجرته وأسأل المرافقين : هل استيقظ ( سيدنا)..؟
وتحدثت طويلاً إلى (سيدنا) أبين له مزايا الكيان الفلسطيني ، وأنه سند للكيان الأردني .. وكان موضوع الكيان الفلسطيني مثار اهتمام الرأي العام الفلسطيني والعربي لأربع سنوات مضت. كما كانت هنالك فكرة تروج في أوساط الجامعة بإحياء حكومة عموم فلسطين .. كل ذلك أعانني على انتزاع موافقة الملك حسين على الكيان الفلسطيني، وخاصة إني لمحت له أن جميع الملوك والرؤساء سيوافقون على الاقتراح. وهذه هي محاسن الكذب الأبيض.
وواصلت اجتماعاتي بالملوك والرؤساء، أشرح لهم موضوع الكيان الفلسطيني، وأبلغتهم أن الملك حسين قد وافق على الكيان الفلسطيني، فإن أحداً من الملوك لا يريد أن يتصدى للملك حسين في أمر يعتبرونه مسألة
(داخلية) بالنسبة للملكة الأردنية.
ولم أكد أنتهي من الاتصالات التمهيدية حتى بلغت الساعة الخامسة من ظهر اليوم الثالث عشر من شهر يناير 1964، فغادرت فندق هيلتون مع موكب الملوك والرؤساء إلى قاعة الجامعة العربية.. وتحت موجات من مصابيح المصورين الوافدين من كل أرجاء العالم سرت في خطى ثابتة إلى المائدة البيضاوية الشكل، ودفعت بيدي الكرسي الصغير الذي كان قد أعد لي خطوتين إلى الأمام حتى أصبحت كتفاً إلى كتف مع الملك الحسن الثاني على ميمنتي .. ورجال البروتوكول يحملقون بي لهذه المخالفة الصارخة .. ولم يجرؤ أحد أن يعيدني إلى الوراء على مشهد من الصحافة العربية والعالمية . وهكذا تقدمت قضية فلسطين خطوة أخرى في زحفها المقدس على طريق بناء شخصيتها وكيانها، واثبات وجودها، في مؤتمر الملوك والرؤساء، حتى قبل أن تصبح دولة، وقبل أن يصبح لها رئيس.
وترأس المؤتمر الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف، وانتهت جلسة الافتتاح العلنية بالخطب المعتادة، ثم أخرج الصحفيون والمصورون .. وأغلقت الأبواب وابتدأ أخطر اجتماع عربي في العصر الحديث، ضم ملوك العرب ورؤساءهم معهم ممثل فلسطين .
وجلس المشير عبد السلام عارف الرئيس العراقي في منصة الرئاسة وإلى جانبه الأمين العام للجامعة العربية السيد عبد الخالق حسونة، وجلس حولهما الملك حسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية، والرئيس الجزائري أحمد بن بللا والرئيس السواد ني الفريق إبراهيم عبود، والرئيس السوري أمين الحافظ، وأمير دولة الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح ، وولي عهد ليبيا الأمير حسن الرضا، والرئيس التونسي الحبيب بو رقيبة، وملك المملكة العربية السعودية سعود آل سعود، والملك الحين الثاني ملك المغرب، والرئيس اليمني المشير عبد الله السلال ، والسيد رشيد كرامي رئيس وزراء لبنان نيابة عن الرئيس فؤاد شهاب ، الذي اعتذر عن الحضور لمرضه
(الرسمي)!
وكان وراء الملوك والرؤساء، رؤساء حكوماتهم ، ووزراء الدفاع، ووزراء الخارجية وطائفة من الخبراء والمستشارين، بلغ مجموعهم مائتين وخمسين نسمة فكان ذلك أبرز دليل على انعدام الوحدة العربية فهذه الكثرة مظهر من مظاهر التجزئة والانفصال وإنها لكثرة تكمن فيها كل عوامل الضعف والخذلان.
وشرح عبد الناصر السبب في الدعوة إلى الاجتماع مبيناً الأخطار الناجمة عن مشروع إسرائيل لتحويل مجرى الأردن، وتبعه في الكلام الملوك الرؤساء في عبارات موجزة مؤكدين ضرورة القيام بعمل عربي موحد للوقوف في وجه المشروع الإسرائيلي.
واستأذنت في الكلام، فقال الرئيس عبد السلام عارف مازحاً، وكانت بيننا صداقة : نحن لسنا في الأمم المتحدة، نحن لسنا في الأمم المتحدة، أرجو الأخ أحمد أن يكون خطابه موجزاً، قلت للرئيس العراقي: ( هذا مؤتمر من أجل فلسطين، وإذا لم تتكلم فلسطين بإسهاب فمن الذي يتكلم) .. وقلت : (لقد بدأ هذا المؤتمر بداية رائعة في جو عظيم من التفاؤل والبشائر.. ولكن المهم أن ينتهي نهاية رائعة وبقرارات إيجابية .. وإنني لأرجو أن لا يكون مصيره كمصير مؤتمر بلودان وانشاص الذي عقده الملوك والرؤساء في عام 1946، وأصدر بياناً ممتازاً، تعجز عن صياغة مثله أبرع دواوين الإنشاء.(1)
ودخلت بعد هذه المقدمة إلى صلب الموضوع وقلت: ( إن الشعب الفلسطيني يحيي الرئيس عبد الناصر لأنه دعا إلى هذا المؤتمر، ونحييكم جميعاً لأنكم استجبتم .. وإننا نحيي نهر الأردن الذي تناديتم من أجله. والتقيتم أخيراً .. ولكن تحويل الروافد لا يمكن أن ينفصل عن القضية الأم وهي قضية فلسطين يجب أن يكون هذا المؤتمر لقضية فلسطين وأن يسمى مؤتمر فلسطين .. لقد قدم إليكم الأمين العام تقريراً عن مشروع عربي لتحويل روافد الأردن .. ولكن الأهم أن تضعوا مشروعاً لتحويل روافد الفكر العربي بالنسبة لقضية فلسطين .. إن قضية فلسطين قد انحدرت على الصعيدين العربي والدولي وأصبحت قضية لاجئين .. وقد آن الأوان بعد خمسة عشر عاماً أن تعود لهذه القضية قداستها .. ولهذا فإني أقترح عليكم أن تولوا اهتمامكم إلى الأصل أولاً ، ثم إلى الفرع ثانياً ..ليس عند الشعب الفلسطيني وفرة مالية ولا خبرة فنية ليشترك معكم في موضوع تحويل الروافد.. ولكن عندنا ما هو أعظم .. إن شبابنا الأبطال مستعدون أن يدمروا المنشآت الإسرائيلية التي تعمل في تحويل مجرى الأردن .. وكل ما يحتاجه الأمر أن تردوا غارات إسرائيل الانتقامية وتصمدوا لها).
قلت هذا الكلام، وكأنما صاعقة نزلت على قاعة الاجتماع، فقد كان البعض يحسب أن شباب فلسطين لا يقدرون على ذلك، وأن حديثي هو حديث حماسة غير مسئولة ..وكان البعض الآخر يرى في هذه المغامرة إقحاماً للدول العربية في معركة لا قبل لهم بها .. وأشار إلي الرئيس العراقي بحاجبيه وبيديه بأنني تجاوزت الحد .. ولزمت الصمت في جو رهيب من الصمت ..
وتحدث بعدي الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة ، وألقى خطاباً ممتازاً عن مقومات الكفاح وإعداد الشعب الفلسطيني للمعركة . وقلت في نفسي، بعد أن وقع في تلك السقطة الكبرى في 1962، التي سأعرضها في سياق مذكراتي لو أن الرئيس بورقيبة قد مات بعد ذلك الخطاب المجيد .. لمات شهيداً وفقيداً حميداً.
وتعاقب بعد ذلك الملوك والرؤساء يتحدثون عن الوقوف صفاً واحداً في وجه إسرائيل ، وضرورة التصدي لمشروع إسرائيل بمشروع عربي مقابل، ثم دعى المهندس محمد احمد سليم الخبير المصري، فعلق خرائطه على جدار القاعة وحمل عصاه الطويلة يشرح فيها ( جغرافية ) المشروع الإسرائيلي، وزود المؤتمر بأرقام وإحصاءات وافرة ، ووضع الخطوط العريضة لمشروع عربي يحرم إسرائيل من مقدار وافر من مياه النهر .
وقد أسهب الخبير المصري في تفصيل المشروع الذي يقترحه بمرحلتيه: الأولى تقتصر على تحويل مجرى النهر، والثانية تتضمن مشروعات للتخزين، وإقامة السدود وبناء الأحواض ومحطات الكهرباء، كل ذلك في مدة تتراوح بين 8 إلى 12 عاماً، وبكلفة قدرها بصورة مبدئية بمبلغ 70 مليون جنيه إسترليني!!
سكت الجميع، وتجهم الأغنياء من الملوك والرؤساء ، حينما كان المهندس المصري العملاق يلفظ بشفتيه الغليظتين .. سبعين مليون جنيه إسترليني!!
ووجه الرئيس الجزائري أحمد بن بللا كلامه إليَّ متسائلاً : أنت خبيرنا في قضية فلسطين ، فما رأيك في هذا المشروع؟؟
قلت : إن الكلام حول السبعين مليون جنية إسترليني لا يخصني ، وإني أترك فيه الكلام لغيري.. ولكني أتساءل هل ستبقى القضية الفلسطينية محصورة في تحويل الروافد اثنى عشر عاماً.؟ إني لست عسكرياً ولا أفهم في هذه المواضيع .. ولكني أعلم أن تدمير المشروع العربي لا يحتاج لأكثر من قنبلة إسرائيلية واحدة. و..
وهنا قاطعني المشير عبد السلام عارف وقال : سوف يأتي بحث الجوانب العسكرية فيما بعد. وانفضت الجلسة الأولى ، وأعلن الرئيس العراقي أن جلسة الصباح الثانية ستكون قاصرة على الملوك والرؤساء.
ولكن العمل لم ينته بعد انفضاض الجلسة ، فقد ابتدأت الجلسات الثنائية، كل ملك في بلواه ، وكل رئيس في شكواه ، بصدد الخلافات التي مزقت الحكومات العربية إلى معسكرات .. الخلاف العقائدي بين دمشق والقاهرة .. وحرب اليمن يتساقط على جبالها الألوف من شباب العرب .. والأزمة بين المغرب والجزائر من أجل الحدود .. وشكوى الكثيرين من الحملات الإذاعية، ونشاط اللاجئين السياسيين ، في هذه العاصمة أو تلك ..
وكانت قضية اليمن، من غير شك، أشد القضايا العربية تأزماً،وأكثرها أثراً وخطراً على القضية العربية ؛ وفي واحد من الاجتماعات الجانبية ضم معظم الملوك والرؤساء، تحدث الرئيس اليمني المشير عبد الله السلال حديثاً مؤثراً عن الحرب اليمنية، ووجه كلامه إلى الملك سعود، قائلاً : (يا طويل العمر إن إخوانك في اليمن كانوا يعيشون في جحيم في عهد الإمام أحمد .. لقد تأخرنا طويلاً في الثورة .. فهل نلام لأننا قمنا بالثورة .. نحن نناشدك الله أن تكف عن معاونة الملكيين بالمال والسلاح .. وأنا مستعد أن أزوركم في الرياض وأن أجعلك حكماً بيننا وبين اليمنيين المخالفين ..) ولكن الملك سعود لم يعقب على هذا الحديث، وبقي ساهما واجما .. لا يحرك إلا عقاله يشده على رأسه ..ونهض من الجلسة يتوكأ على عصاه، وكأن الأمر لا يعينيه.
وأخذ من بقي من الملوك والرؤساء يتداولون في أمر هذه الأزمة الخطيرة، واقترح الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف أن يتولى الرئيس الجزائري أحمد بن بللا الاتصال بالأمير فيصل ليرجوه الحضور إلى القاهرة لبحث الموضوع.. وانصرف الرئيس الجزائري إلى جناحه في الفندق، وانفتحت له الخطوط التلفونية مع جدة، وتبادل التحية مع الأمير فيصل .. ثم انقطع الاتصال التلفوني .. وعاد الرئيس الجزائري غاضباً محنقاً، وانتهى الاجتماع الجانبي إلى غير نتيجة .. ومشيت مع الرئيس الجزائري بضعة خطوات، وأنا أقول له : رب ضارة نافعة ..
قال: وماذا تعني..
قلت : لعل الملوك والرؤساء يهتمون بالمواصلات السلكية واللاسلكية بين الدول العربية. إذ كيف سيخوضون معركة تحرير فلسطين ، وهذا هو حال المواصلات فيما بينهم .. إن المواصلات هي عصب الحرب في هذه الأيام .. وإذا كان رئيس مجلس الثورة الجزائري لا يستطيع الاتصال تلفونياً بجدة ، فما معنى العمل العربي الموحد؟...
وبقيت الخطوط التلفونية معطلة مع جدة طيلة انعقاد المؤتمر. وهكذا وقعت المشكلة اليمنية تحت رحمة التلفون، بأسلاك ومن غير أسلاك، ولم يكن أحد يدري إذا كانت الخطوط التلفونية قد تعطلت لأسباب جوية أم جوانبية!!
ولقد راح الملوك والرؤساء، كل منهم يسعى تلك الليلة في شأن من شئونه ، إلا اللواء أمين الحافظ فقد كان لا يزور ولا يزار، وكان الوفد السوري في تلك الليالي في فندق هيلتون أمة وحده، ورحت أنا أسعى في شأني ولا شأن لي سواه .. قضية فلسطين وموضع الكيان الفلسطيني . ولقيت الرئيس عبد الناصر وبن بللا في معبر الطابق السابع في طريقهما إلى جناح الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف، فقال لي الرئيس عبد الناصر : عندك إجازة غداً .
قلت : لماذا ؟؟
قال : الاجتماع قاصر على الملوك والرؤساء .. وأنت تكلمت البوم ما فيه الكفاية . ثم أن الموضوعات التي تبحث غداً ستكون قاصرة على الخلافات العربية .
قلت : إن السودان ليس فريقاً في هذه الخلافات ولا داعي إذن لحضور الوفد السوداني !! إن الموضوع يتصل بالمبدأ . هل شعب فلسطين عضو أصيل معكم أم لا .. وعلى كل حال إذا كانت هذه رغبة المؤتمر، فإني مسافر غداً إلى الجزائر لأكون لاجئاً عند الأخ الرئيس بن بللا.
قال الرئيس عبد الناصر: إن مشكلتك ليست معي.. إذا لم يعارض الملك حسين فنحن موافقون جميعاً على اشتراكك في جميع جلسات المؤتمر، سواء بحثت فيها قضية فلسطين أو لم تبحث ..
وذهبت من توي إلى جناح الملك حسين، وكانت الساعة قد قاربت الثانية بعد منتصف الليل ولم يكن عنده إلا شقيقه الأمير الحسن.. قلت بعد المقدمة : (لقد طفت على الملوك والرؤساء جميعاً، وهم موافقون على حضوري الجلسة السرية غداً صباحاً ، ولم يبق إلا سيدنا).
تلعثم (سيدنا) وأكفهر الأمير الحسن . . وقال الملك سنبحث الأمر.. والصباح رباح . وقفت وقلت في لهجة حازمة : (إذا لم أحضر اجتماع الغد، فسأنسحب من المؤتمر وسأستقل أول طائرة إلى القدس – إلى المسجد الأقصى لأبلغ الشعب الفلسطيني أنه ليس له مكان في المؤتمر .. وهممت بالخروج من جناح الملك حسين، وحملق بي كمن يريد أن يساوم للمرة الأخيرة ،وقال : إذا كان الأخوان الآخرون موافقين .. ومعهم الملك سعود، فأنا موافق وقد أشار الملك حسين إلى الملك سعود في هذا الصدد لأن المملكتين الأردنية والسعودية كانتا في (معسكر) واحد بشأن موضوع الكيان الفلسطيني كما بدا واضحاً في اجتماع الجامعة العربية..
وخرجت من الفندق إلى منزلي، لأقضي ما بقي من لليل في فراشي وأنا أفكر ما أنا فاعل غداً.
وسارعت في الصباح إلى الجامعة العربية وتكامل المؤتمرون، وسار الملوك والرؤساء إلى الصالة الصغيرة المعدة للاجتماع وسرت وراءهم، وجلسوا جميعهم في الأماكن المعدة لهم وأمام كل منهم (لافتة) باسم بلده، ووجدت كرسياً فارغاً بجوار الرئيس الجزائري أحمد بن بللا، فجلست بجواره ولم يكن على المائدة (لافتة) باسم فلسطين، قلت للرئيس الجزائي : إني متفائل خيراً أن أجلس وأمامي لافتة الجزائر، وعلى كل حال فإن عدم وجود لافتة لفلسطين إنما يمثل الحقيقة القائمة ، فإن فلسطين ما تزال شخصيتها محجبة وقضيتها مجمدة .. ولكني أرجو أن لا يثور جدال حول حضوري في هذا الاجتماع، الاجتماع القاصر على الملوك والرؤساء وحدهم ..
قال الرئيس الجزائري: لا يشغلك هذا الموضوع، فسأنسحب معك إذا انسحبت .
وابتدأت جلسة العمل بعد جلسة التصوير، ولم يعترض أحد على حضوري وكانت لبنة أخرى في بناء الكيان الفلسطيني قبل أن يولد.
ونظر الملوك والرؤساء بعضهم إلى بعض، وكأنهم يتساءلون، ماذا يبحثون ..؟ ذلك أن القضايا التي كانت محور النزاع بين الدول العربية، كانت تبحث في فندق هيلتون في اجتماعات ثنائية، لا في الجامعة العربية في اجتماعات عامة.. وإزاء ذلك لم يجد الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف بدا من أن يقول : (إذن نبحث قضية فلسطين ، ولنستمع إلى ممثل فلسطين ، ويستطيع الأخ أحمد أن يتحدث بإسهاب)، ولقد رحب الرئيس العراقي (بالإسهاب) هذه المرة، لأنه لم يكن عند الملوك والرؤساء ما يبحثونه في تلك الجلسة، فلم تكن قد نضجت الأبحاث الثنائية بعد!!.
تحدثت عن قضية فلسطين بإسهاب ما بعده إسهاب، كما أراد الرئيس العراقي وزيادة، مستعرضاً القضية الفلسطينية في مختلف مراحلها منذ حرب 1948 حتى عدون إسرائيل على مياه نهر الأردن. وتعرضت للقضية في المحافل الدولية ، في الأمم المتحدة ، مؤتمر باندونغ، لجنة التوفيق الدولية ، ومواقف الدول العظمى وانتهيت إلى القول بأن قضية فلسطين قد فقدت وجودها كقضية تحريرية، وإن شعب فلسطين قد فقد وجوده كشعب يتطلع إلى تحرير وطنه .. وأن الواجب القومي يفرض قيام كيان فلسطيني، يوحد الشعب الفلسطيني وينظم صفوفه ويعبئ طاقته العسكرية والسياسية للقيام بدوره في تحرير وطنه.
واستطردت بعد ذلك إلى القول بأن العمل من أجل قضية فلسطين يجب أن يكون ( أصيلاً بذاته، عملاً متصلاً ضمن خطة دائمة لا كرد فعل للأحداث والوقائع التي تصدر عن إسرائيل .. لقد كنت قريباً من مؤتمر زهراء انشاص الذي عقده الملوك والرؤساء في 28 أيار 1946، وحضره الملك فاروق ملك مصر، وشكري القوتلي رئيس سوريا، والشيخ بشارة الخوري رئيس لبنان، والأمير عبد الله أمير شرق الأردن، والأمير عبد الإله الوصي على عرش العراق، والأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، والأمير عبد الله سيف الإسلام ولي عهد الإمام يحي ملك اليمن، لقد عقد ذلك المؤتمر العتيد، رداً على تقرير اللجنة الإنجلو أمريكية (1) وها إن مؤتمر القمة الحاضر ينعقد رداً على مشروعات إسرائيل لتحول روافد الأردن، نريد أن تكون المؤتمرات العربية فعلاً .. لا رد فع..).
وما أن فرغت من هذا الإسهاب حتى ساد الجلسة صمت طويل، وكان الكل ينظرون إلى الملك حسين يتفرسون في وجهه ليروا انطباعاته بشأن الكيان الفلسطيني، فقال الملك حسين : ( أرجو من الأخ الشقيري أن يشرح لنا مفهوم الكيان الفلسطيني) .. وعدت إلى الإسهاب مرة ثانية أتحدث عن الكيان الفلسطيني وكيف تصدع بعد حرب 1948ـ و تشريد الشعب الفلسطيني ولم يعد له دور في قضية وطنه، وكيف أن الوفود الصديقة في المحافل الدولية تتساءل أين هو الشعب الفلسطيني، وأين قيادته، وما هي سياسته وخططه، ثم أنهيت بياني قائلاً، ( أريد أن يكون واضحاً " لسيدنا" أن الكيان الفلسطيني ليس حكومة، ولا يمارس سيادة، ولا يهدف إلى سلخ الضفة الغربية عن الكيان الأردني .. وإنما هو تنظيم للشعب الفلسطيني يتعاون مع جميع الدول العربية، ويهدف إلى تعبئة طاقات الشعب الفلسطيني عسكرياً وسياسياً وإعلامياً في معركة فلسطين.
قلت هذا الكلام، فأومأ الملك حسين برأسه بالقبول ، وعاد إلى السؤال، وقال : وحكومة عموم فلسطين ؟ قلت" يا سيدنا" نحن لسنا طلاب حكم، نحن طلاب تحرير .. وقد زالت الظروف التي أدت إلى قيام حكومة عموم فلسطين ، وإنني لا أفكر في إحيائها.
ثم قال الملك حسين :وما هي الأسس لقيام الكيان الفلسطيني.
قلت : سنتفاهم على ذلك بعد مؤتمر القمة، مع جلالتكم، ومع الدول العربية الأخرى، ومع تجمعات الشعب الفلسطيني.
وهنا استراح الملك حسين وقال : حسناً نحن ننتظركم في عمان للتفاهم .. وساد الاجتماع جو من الرضا إن موضوع الكيان الفلسطيني قد اجتاز أكبر العقبات، إلا أن الحوار قد فتح من جديد .. فقد بدأه الرئيس السوري اللواء الحافظ وقال:
-  " وما فائدة الكيان بدون أرض .. يجب إعطاء الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الكيان الفلسطيني " . واكفهر وجه الملك حسين، ونظر إليّ كمن يريد أن أنجده ..
قلت : " نحن لا نريد ، ولا نقدر، أن نمارس سيادة على الضفة الغربية وقطاع غزة" .. ومضيت أشرح الأسباب العسكرية والمالية التي تحول دون ذلك .
ولم أكد انتهي من هذا الإيضاح حتى قال الملك سعود.
-  نحن نريد من الأخ أحمد أن ينشئ حكومة فلسطين.
واكفهر وجه الملك حسين ونظر إلي كمن يريد أن أنجده .. مرة ثانية . قلت للملك سعود : يا طويل العمر .. إن تجربة حكومة عموم فلسطين التي اعترفت بها الدول العربية ومعها أفغانستان قد فشلت .. ولم يبق منها في إلا رئيسها أحمد حلمي باشا .. وقد توفي إلى رحمة الله ..ولا جدوى أن نحيي العظام وهي رميم.
وسكت الملك سعود .. وقد أسرَّ لي في مساء ذلك اليوم ، أن هذه هي رغبة الأمير فيصل استجابة لرغبة الحاج أمين الحسيني .. وكان الملك سعود قد فقد جميع سلطاته وأصبحت مقاليد الأمور في يد الأمير فيصل.
وبلغت الساعة الثانية ظهراً، وقضية فلسطين والكيان الفلسطيني قد استغرقت الجلسة كلها، فأعلن الرئيس العراقي تخصيص الجلسات الباقية للنواحي العسكرية، وللأمور الفنية المتصلة بالمشروع العربي لتحويل مياه الأردن .. وقد تعاقبت الجلسات نهاراً في الجامعة لمعالجة الأمور المدرجة في السطور، وليلاً لمعالجة الأمور المتغلغلة بين السطور، والدفينة في الصدور!!
ولست أنسى ليلة السابع عشر من شهر يناير، وقد سهرناها حتى الفجر، في حوار حول الموقف العربي بالنسبة لإسرائيل والدول المشايعة لها.. فقد كان الرئيس السوري اللواء الحافظ قاسياً وعنيفاً في حديثه، ودخل مع الرئيس عبد الناصر في جدل خشيت معه أن ينفرط عقد المؤتمر.
وفي أعصاب بادرة كبرودة الفولاذ وجه الرئيس عبد الناصر حديثه إلي الرئيس السوري قائلاً : والله يا أخ أمين إني أخاف على دمشق من إسرائيل إذا بقي البعث يحكم سوريا بروح المزايدة .. وما كان من الرئيس السوري إلا إن أجاب بقوله : نحن نخاف على العواصم العربية كلها إذا استمر الوضع العربي على حاله الحاضر. أما بالنسبة إلى دمشق فإذا اقتربت إسرائيل فسيكون حائط المبكى الإسرائيلي لا بضعة أمتار كما هو الآن بل سيمتد من دمشق إلى بيت المقدس!!
وهنا تدخل المشير عبد السلام عارف ليلطف الموقف فقال:
" يا أبو عبده" وهي كنية اللواء أمين الحافظ – نحن لسنا هنا للمزايدات ولا للمناقصات، ولنسمع رأي الأخ الشقيري في حكاية حائط المبكى..
فقلت وأنا أجيل بصري إلى الملوك والرؤساء : إذا كان حائط المبكى سيمتد في زمانكم من دمشق إلى بيت المقدس فمعنى هذا أن إسرائيل استطاعت ان تحقق حلمها الكبير، من النيل إلى الفرات..
وعاد الرئيس السوري يركز على التشدد في معاداة الغرب واستعجال الدخول في معركة مع إسرائيل، مستخفاً بموضوع تحويل مجرى الأردن .. وكانت في حديثه إشارات لاذعة للرئيس عبد الناصر بلغت حد التهكم والسخرية. ولم يجب الرئيس عبد الناصر بشيء ، واكتفى بالقول : ما كان لي أن أسكت لو كنا مجتمعين في غير القاهرة " .. وأشهد أن الرئيس عبد الناصر قد أظهر سيطرة هائلة على أعصابه في تلك الليلة المتشنجة.
وبعد أن فرغ الملوك والرؤساء من بحث الأمور العسكرية والفنية، التقى وزراء الخارجية في جلسة عمل لوضع صيغة القرارات النهائية للمؤتمر، وبقينا إلى الصباح ونحن نكتب نشطب، ثم نشطب ونكتب، إلى أن تم الاتفاق على البيان الذي يذاع، وعلى القرارات التي لا تذاع.
واجتمع مؤتمر القمة في هيأته الكاملة، فأقر البيان والقرارات، ولكن القرارات التي كان مقرراً لها ألاّ تنشر قد نشرت، قبل البيان الذي كان مقرراً أن ينشر .. وهذه هي مصيبة العمل العربي على مستوى الملوك والرؤساء، وعلى مستوى الوزراء والسفراء .. منذ كان العمل العربي إلى يومنا هذا، وما بقي الحكم العربي على هذا المستوى، دون المستوى.
وكان من نتائج الاجتماعات الجانبية أن عادت العلاقات الدبلوماسية بين عدد من العواصم العربية، واختفت تحت السطح الخلافات بين الحكومات العربية، إلا قضية اليمن فقد كان صاحبها الأمير فيصل يراقب أعمال المؤتمر من الرياض. والملك سعود ليس له من الأمر شيء .. ذلك أن الملك سعود قد كان في تلك الفترة يملك ولا يحكم، ولم يكن الملك فيصل قد فوضه في البحث في قضية اليمن ، وكان السيد عمر السقاف وكيل الخارجية السعودية يجلس وراء الملك سعود أثناء اجتماعات المؤتمر، ليهمس في أذنه ما يقول وما لا يقول.
وفي تضاعيف الاجتماعات الجانبية أمكن الوصول إلى تسوية في المشاكل الصغرى .. فقد أطلق الحس الثاني سراح خمسة من الطيارين المصريين كانوا قد أسروا في المغرب خلال الحرب المغربية الجزائرية، وكذلك فقد أعاد أعاد الرئيس عبد الناصر إلى الملك حسين طائرة أردني كان قد فر قائدها بها لاجئاً إلى مصر أثناء الخلاف الحاد بين القاهرة وعمان.
وقد " خجل " ميثاق التضامن العربي الذي وقعه الملوك والرؤساء في ختام المؤتمر أن يشير إلى هذه الإنجازات الرائعة.
أما الاجتماعات الرسمية فقد أقرت أن " الاستعداد العسكري العربي الجماعي، بعد استكماله، هو الوسيلة الأخيرة العملية للقضاء على إسرائيل نهائياً وأن قيام إسرائيل هو الخطر الأساسي الذي اجتمعت الأمة العربية بأسرها على دفعه".
أما من الناحية التنظيمية .. فقد أقر المؤتمر إنشاء قيادة عربية موحدة يرأسها الفريق علي علي عامر، وهيئة استغلال مياه نهر الأردن.
ومن الناحية المالية فقد أقر اعتماد مبلغ ستة ملايين وربع مليون جنيه إسترليني لتمويل المشروعات العربية، واعتماد مبلغ 176 مليون جنيه إسترليني للتعزيزات العسكرية والإدامة المتكررة ، يقسط معظمها لعشر سنوات .
أما بشأن الكيان الفلسطيني فقد قرر المؤتمر " أن يستمر السيد أحمد الشقيري ممثل فلسطين لدى جامعة الدول العربية في اتصالاته بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني بنية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره."
ولم يكن يدري الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته أن الوصول إلى هذه الصيغة كان كفاحاً بذاته .. فقد أصر الملك حسين أن لا تذكر في القرارات كلمة " الكيان الفلسطيني" وأن تأتي فقرة ( تقرير مصيره) بعد فقرة " تحرير وطنه " لأنه أصر أن تقرير المصير يأتي بعد مرحلة التحرير، وأوضح أنه يخشى منح الشعب الفلسطيني حق تقرير المصير في الوقت الحاضر .. فإن النتيجة معروفة .. ولكنه يتركها إلى ما بعد التحرير .. ويوم التحرير يخلق ما لا تعلمون . وليس سراً أن الشعب الفلسطيني كان يريد دواماً أن يقرر مصيره في معزل عن الملك حسين !!
ولقد رضيت في النهاية بهذه الصيغة " الهزيلة" لأني كنت أريد أن أضع قدمي على أول الطريق .. وأن يبرز الكيان الفلسطيني كأمر واقع، ثم ينمو ويكبر بصورة ذاتية. ولكن الذي أقنعني في سريرة نفسي أني كنت أخشى أن أخرج من المؤتمر ممثلاً لفلسطين فقط من غير ذكر للكيان الفلسطيني والاقتصار على قرار يوصي الدول العربية " ببذل العون مادياً ومعنوياً" وهذا قرار ليس له معنى ولا مضمون بما أعرفه من خبرتي بالدول العربية وقراراتها .. على مدى أعوام وأعوام ..
وانتهى مؤتمر القمة الأول .. وأجهزة الأعلام العربية تهدر بالتهليل والتكبير للمؤتمر وقراراته .. فاشتعلت آمال الأمة العربية، ومعها آمال الشعب الفلسطيني.
وعدت إلى المطار أودع الملوك والرؤساء، مجاملاً منحنياً، فالكيان الفلسطيني في حاجة إليهم .. في حاجة أن أزورهم، وأن أجتمع بأبناء فلسطين في بلادهم، واحتضنت الملك حسين وقبلته، وكلانا يتكلم لغتين مختلفتين عن الكيان الفلسطيني، وصعد إلى الطائرة وهو يقول نحن ننتظر الأخ أحمد في عمان.
وفي المطار، وآخر مراسم الوداع لآخر حاكم عري قد انتهت، سرت مع الرئيس عبد الناصر بعض خطوات فقال لي :
-  ما رأيك في النتائج؟
قلت : هذه تحتاج إلى جلسة طويلة .
قال : نذهب إلى البيت، ونبدأ الجلسة الطويلة.
وتبعت الرئيس عبد الناصر في سيارتي إلى منزله في منشية البكري.. وامتد الحديث بيننا قرابة ساعة وقلت ما ملخصه. إنني لا أعتبر المؤتمر فاشلاً ، ولكنه حقق بعض إنجازات أرجو أن تكون مقدمة لما هو أكبر .. إن إنشاء القيادة العربية الموحدة هو نجاح كبير لم نستطع أن نفعل مثله خلال الخمسة عشر عاماً الماضية. وأرجو أن تلتزم الدول العربية بمطالب الفريق علي عامر ..وكذلك فإن القرار الخاص بتنظيم الشعب الفلسطيني هو نجاح كبير لم نستطع أن نفعله في الماضي ، وأرجو أن تيسر الدول العربية طريقي في هذه المهمة الصعبة .. أما في غير ذلك فأرى أن المؤتمر قد فشل .. كنت أتمنى أن يكرس مؤتمر القمة كل جهوده لإقامة الوحدة بين الدول العربية ، وحدة فدرالية، أو كونفدرالية على الأقل .. فلو قامت هذه الوحدة لاستطاعت حكومة الوحدة أن تعالج قضية تحويل الروافد ومعها قضية فلسطين، وبين يديها كل الطاقات العربية.
وتابعت حديثي قائلاً للرئيس: لا بد أن سيادتك قرأت تصريح الرئيس بورقيبة الذي نشر هذا الصباح تعقيباً على نتائج مؤتمر القمة، حين أعلن أن المؤتمر قد حقق وحدة كونفدرالية عربية .. ليت هذا كان صحيحاً .. إن المؤتمر لم يبحث هذا الأمر إطلاقاً .. لم ينجح المؤتمر في جميع الأمور التي بحثها فعلاً .. فكيف بالأمور التي لم يبحثها أصلاً.
قال الرئيس عبد الناصر : كيف ذلك، وبماذا
قلت أنا لا أؤمن بمشروع تحويل الروافد. من ناحية فنية أنه لا يعطل المشروع الإسرائيلي .. من الناحية العسكرية تستطيع إسرائيل أن تدمر مشروعنا دون أن نستطيع حمايته،.. نحن قادرون على تدمير المشروع الإسرائيلي .. وأنا أفضل مشروعاً آخر وهو أن ندرب الفلسطينيين للقيام بعملية التدمير .. وأن تدافع الدول العربية عن حدودها. أما الجانب المالي فهو فشل ذريع. الدول العربية ليست فقيرة . المبالغ المخصصة للتعزيزات العسكرية مقسطة على عشر سنوات .. وهل ستظل إسرائيل على حالها خلال هذه العشر سنوات .. وهل سيظل الوضع الدولي على حاله ومعه قضية فيتنام عشر سنوات أخرى.. وهل؟؟ وهل؟؟
ورحت أتحدث وأتحدث، وكان الرئيس عبد الناصر في تلك الليلة يحب أن يستمع أكثر مما يحب أن يتكلم. لقد كان حريصاً أن يسمع إلى انتقاد لنتائج المؤتمر وسط الهالة الرائعة التي أحاطت بأخباره وقراراته.
وعقب الرئيس عبد الناصر شارحاً " التناقضات" القائمة بالوطن العربي والتي تحول دون العمل العربي الواحد، وقال : " ليس في الإمكان أبدع مما كان" .
قلت : لا .. بل بالإمكان أبدع مما كان.
قال : وكيف؟
قلت : لماذا تقسط أموال التعزيزات العسكرية لعشر سنوات ؟ يكفي عام واحد أو عامان .. لو أننا عشنا عيشة التقشف عاماً أو عامين في الوطن العربي، كما كان يعيش آباؤنا، لاسترحنا من إسرائيل.. إن بقاء إسرائيل سيكلف الأمة العربية عشرة أضعاف المبالغ المقررة حالياً.
وأحسست أن الرئيس عبد الناصر قد بدت عليه علامات الجهد والإرهاق.. ورأيت أن أُسري عنه فقلت له : أظن أن السيد عبد الخالق حسونة وقد خبر الحكومات العربية جيداً قد مازحهم مزاحاً مراً ..
قال : وكيف ذلك. إن حسونة لا يعرف كيف يمزح.
قلت : ولا كيف يجدُّ ‍‍
قال : ولكن كيف مزح معهم.
قلت : لقد أقام مأدبة على شرف الملوك والرؤساء، وقد ابتدع قائمة الطعام على صورة طريفة تناسب الموضوع.
قال : وماذا تعني .. إنني لم أنتبه لقائمة الطعام .
قلت : كانت قائمة الطعام مذهبة ومزركشة، وعلى رأسها شارة الجامعة العربية وكتبت فيها ألوان الطعام كما يلي:
رحيق نهر الأردن
عرائس طبرية
غزلان بيسان
لآليء القدس
فلذات الغور
رقائق نابلس
جواهر أريحا
زهرة اليرموك.
وهذه الإشعارات تعبير عن ألوان اللحوم والأسماك والفطائر والخضار والفواكه ..‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ قال : : ( مقهقهاً) أصحيح ما تقول ..
قلت : لقد أكلنا أسماك الأردن، ولكن إسرائيل شربت النهر‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍
ونهضت لأنصرف .. وسرنا إلى الباب والرئيس عبد الناصر يقول : وشر البلية ما يضحك.
وعدت إلى منزلي وأنا أفكر في الأمانة الثقيلة التي ألقيت على كتفي، وأسمها تنظيم الشعب الفلسطيني .. لقد عاد الملوك والرؤساء إلى عواصمهم، يطلقون التصريحات الكبيرة، يتفاخرون بإنجازات المؤتمر.. وبقيت أنا وحدي أفكر بالكيان الفلسطيني، كيف أبدؤه .. من نقطة الصفر .. ومن العدم.. من الفراغ الرهيب. وكيف أبنيه مع حكومات عربية متفرقة .. ومع الشعب الفلسطيني الشريد الطريد .. ولم يمنحني مؤتمر القمة إلا قراراً من سطرين . بأن " أتصل بالدول العربية والشعب الفلسطيني بغية الوصول إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني".
ذلك هو القرار الذي أصدره مؤتمر القمة، وخرجت من المؤتمر وليس في جيبي إلا هذا القرار.
ولم يكن في جيبي حتى نفقات سفري .. ولكن كان في قلبي كل عزمات الشعب الفلسطيني وكل لهفاته لإنشاء الكيان الفلسطيني .. وبهذه العزمات بدأت الطريق .. وبهذه اللهفات بدأت أبني.
وما أصعب الطريق، وما أصعب البناء.
بل ما أصعب البناء على البنائين .. وما أسهله على المتفرجين.
وهل يستوي البناؤون والمتفرجون.
" قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث"
صدق الله العظيم

الملك حسين كتب..
والشقيري خطب

قضيت ثلاثة أسابيع في القاهرة بعد انتهاء مؤتمر القمة العربي الأول، وأنا أفكر واقدر .. أفكر كيف أبني كياناً فلسطينياً من سطرين كتبهما الملوك والرؤساء بصدد التنظيم الفلسطيني ، ثم عادوا إلى عواصمهم لينظروا في شئونهم ، ولسان كل واحد منهم يقول : إذهب أنت وشعبك .. إنّا هنا متفرجون.
وكان لا بد لي وأنا أعزم أن أبني للحاضر، أن استرجع الماضي وأستذكر حال الكيان الفلسطيني منذ كان .. وحضرت الصورة في ذهني كاملة فقد عشتها صبياً وشاباً ورجلاً .. وإني أذكر في أوائل العشرينات كيف تأسست الجمعيات " الإسلامية المسيحية " في مدن فلسطين لتكون بمثابة قيادات محلية لتتصدى للحركة الصهيونية، فكانت النواة الأولى لقيام الكيان السياسي لشعب فلسطين في نضاله القومي لتحرير وطنه.
ثم انعقد المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول عام 1920 من مندوبي هذه الجمعيات الإسلامية المسيحية وانبثقت عنه لجنة تنفيذية لقيادة الحركة الوطنية وبهذا أخذ الكان الفلسطيني طابعه القومي .. وتوالت بعد ذلك المؤتمرات الوطنية السبع حتى عام 1928.
وجاء بعد ذلك قيام الأحزاب الفلسطينية الخمسة في أوائل الثلاثينات، في محاولة لتنظيم الحركة الوطنية على أسلوب شعبي؛ ووقعت الثورة الفلسطينية في عام 1936 فتجمعت الأحزاب الخمسة وأنشأت " الهيأة العربية العليا" برئاسة الحاج أمين الحسيني وقادت الحركة الوطنية ، إلى نهاية الانتداب في 1948.(1)
وفي أواخر عام 1948، أجتمع في مدينة غزة مجلس وطني مؤلف من رجالات فلسطين المعروفين، وقرر إقامة حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي باشا، اعترفت بها الحكومات العربية ، باستثناء الأردن؛ ولم تستطع هذه الحكومة أن تؤدي نشاطاً قومياً بسبب تقاعس الدول العربية عن مساندتها معنوياً ومادياً؛ فاستقال أعضاؤها، وبقي رئيسها لا يمارس أي عمل إلى أن وافته المنية في عام 1963 .. وعاش الأعوام الأخيرة من رياسته يصرف الدواء للمرضى، ويوزع الكساء على المحتاجين ..
ذلك كان حال الكيان الفلسطيني عبر خمسين عاماً منذ أن أصبحت فلسطين تحت الحكم البريطاني وانسلخت عن الدولة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى ولقد استذكرت كذلك حال الكيان الفلسطيني، على صعيد الجامعة العربية فقد نص ميثاق الجامعة العربية في الملحق الخاص بفلسطين بان " يتولى مجلس الجامعة أمر اختيار مندوب عربي من فلسطين للاشتراك في أعماله .. إلى أن يتمتع هذا القطر باستقلاله" واستناداً إلى هذا النص فقد وافق مجلس الجامعة في دورات متعاقبة على اختيار كل من السادة موسى العلمي مندوباً عن الأحزاب الفلسطينية، الحاج أمين الحسيني رئيس الهيئة العربية، واحمد حلمي باشا رئيس حكومة عموم فلسطين .
وفي أواخر الخمسينات بدأ الرأي العام العربي والفلسطيني يتململ من التردي الذي أصاب قضية فلسطين على الصعيدين العربي والدولي، فقد أصبحت حكومة عموم فلسطين جهازاً رمزياً، وبات الشعب الفلسطيني معزولاً عن قضيته لا يبدي بشأنها حراكا، وعلى صعيد الأمم المتحدة تحولت قضية فلسطين إلى قضية روتينية تعالجها الوفود العربية من خلال تقرير وكالة غوث اللاجئين .. وكان الله يحب المحسنين، وقد أصبحت الأمم المتحدة من المحسنين ‍‍..
وحين كنت أميناً مساعداً للجامعة العربية حاولت كل جهدي أن أبعث الحياة في حكومة عموم فلسطين، ولكن جهدي ذهبت إدراج الرياح، فقد كان أحمد حلمي باشا وطنياً مخلصاً ولكن اعتلال صحته واعتلال الحياة العربية الرسمية، قد تعاونا على ابقاء القضية الفلسطينية في بؤرة الركود.
واستجابة للصيحات العربية والفلسطينية، نظر مجلس الجامعة العربية في هذا الموضوع في دورة مارس 1959، بناء على مبادرة من وفد الجمهورية العربية المتحدة، وأصدر توصيتين هامتين :
الأولى: أن يعقد اجتماع على مستوى عال .. لرسم سياسة عربية موحدة تلتزم بتنفيذها جميع الدول الأعضاء وتتناول وضع الحلول العملية لاسترجاع فلسطين .
الثانية: إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً .. يسمع العالم صوته في المجال القومي وعلى الصعيد الدولي بواسطة ممثلين يختارهم الشعب الفلسطيني .
وأنعقد مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية في الدار البيضاء في سبتمبر 1959، ليبحث القضية الفلسطينية وتنظيم الشعب الفلسطيني ولكن المجلس لم يستطع أن يبحث الأمر بصورة جدية فقد عارض الوفد الأردني برياسة السيد هزاع المجالي رئيس الوزراء موضوع التنظيم الفلسطيني، وكان في الوفد الأردني بعض الفلسطينيين الذين جاؤوا إلى الدار البيضاء ليعارضوا كيان فلسطين خضوعاً لإرادة الملك حسين، وبقيت دورة المجلس مفتوحة .. لعل الأردن يوافق على تنظيم الشعب الفلسطيني.
وأستأنف المجلس اجتماعه في شهر فبراير عام 1960 وانعقدت اللجنة السياسية برئاسة الحاج حسين العويني وزير الخارجية اللبنانية، ومثل الجمهورية المتحدة الدكتور فريد زين الدين نائب وزير الخارجية ، ومثل السعودية الأمير فهد بن عبد العزيز، ومثل الدول العربية الأخرى سفراؤها في القاهرة. ومثل الأردن وزير خارجيته السيد موسى ناصر( القدس) وكنت في الوفد السعودي، يومذاك ..
وقضيت أسبوعين في فندق هيلتون حيث كانت تجتمع اللجنة السياسية في جناح رئيسها الحاج حسين العويني؛ ونحن نحاول أن نقنع الوزير الأردني الفلسطيني بموضوع تنظيم الشعب الفلسطيني، ولكن الوزير كان لا يخرج عن كلمة واحدة .. " إن جلالة الملك يعارض في التنظيم الفلسطيني. هذه تعليماتي ولا أوافق على غير ذلك " .. وقد حاولت كل الوفود العربية أن تجد للوزير الأردني مخرجاً، فلم تفلح .. وبناء على تكليف الوفود العربية ، وضعتُ مشروع قرار يتضمن خمسة مبادئ لتكون أساساً للسياسة العربية في معالجة قضية فلسطين .. وقضينا ثلاث ليال، ونحن في حوار مع الوزير الفلسطيني الأردني حول كل عبارة .. بل كل كلمة يمكن أن تشتم منها رائحة الكيان الفلسطيني؛ وكانت عبارة " تقرير المصير للشعب الفلسطيني " حواراً رهيباً ليلة بكاملها..
واقترح الوزير اللبناني الحاج حسين العويني سترا لوجه الجامعة العربية أن يعهد إلى الأمين العام بتأليف لجنة من الخبراء بقضية فلسطين " لتضع المخططات لسير العمل العربي بشان قضية فلسطين"، وقد وافق مجلس الجامعة على الاقتراح.
واجتمع مجلس الجامعة في شتورة لبنان في أغسطس 1960، وعاد إلى بحث القضية الفلسطيني فقرر:
أولاً : إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً .
ثانياً : إنشاء جيش فلسطيني في الدول العربية المضيفة ..
وكان هذا القرار انعكاساً لتصاعد نقمة الرأي العام العربي والفلسطيني لتقاعس الجامعة العربية بشان قضية فلسطين، ولكن موقف الأردن الرسمي بقي سلبياً من الموضع، يزداد مع الزمن عناداً وإصراراً.
ومضى عام بكامله دون أن تستطيع الجامعة العربية إقناع الأردن بالرضوخ لقرارات المجلس وكان أن اختار الأمين العام لجنة الخبراء مؤلفة من السيد محمود رياض مدير مكتب رئيس الجمهورية العربية، والدكتور فؤاد عمون الأمين العام لوزارة الخارجية اللبنانية، وقد مثل الأردن على التعاقب، الوزراء الأردنيون الفلسطينيون موسى ناصر، الدكتور حازم نسيبة، والسيد رفيق الحسيني، والسيد عبد المنعم الرفاعي؛ وكننت ممثلاً للملكة العربية السعودية.
واجتمعت لجنة الخبراء في مقر الجامعة في يونيو 1961؛ ورأت ، بدلاً من أن تنشئ كياناً فلسطينياً جديداً، أن توصي بدعم ( حكومة عموم فلسطين مادياً وسياسياً .. وبقي الأردن سلبياً ..).
وواصلت لجنة الخبراء اجتماعاتها في صوفر وبحمدون وشتورة – في محاولات مستمرة لإقناع الوفد الأردني بقبول الكيان الفلسطيني من حيث المبدأ، ولكن تلك الجهود كانت تصطدم بمعارضة قوية من الأردن، وكان الملك حسين يؤلف الوفد الأردني إلى الجامعة العربية برياسة أحد " الأردنيين " إلا حينما يكون الموضوع متعلقاً بالكيان الفلسطيني فقد كان الوفد الأردني مؤلفاً في مجموعة من الفلسطينيين ..وإن موقفي من هذه التعابير السخيفة السقيمة"، أردني وفلسطيني" سيبدو على حقيقته في سياق مذكراتي .. ولكن هكذا كان تفكير الملك حسين وأسلوبه في معالجة الكيان الفلسطيني ..
وفي شهر يوليو 1962 عرضت على لجنة الخبراء مشروعاً للكيان الفلسطيني يقوم على أساس الدعوة لمجلس وطني يمثل التجمعات الفلسطينية، تنبثق عنه جبهة وطنية لقيادة الشعب الفلسطيني، تكون لها اختصاصات عسكرية وسياسية وتنظيمية وإعلامية ومالية، وتحدد صلتها بالجامعة العربية.
وقد وافقت لجنة الخبراء على هذا المشروع بعد تعديلات طفيفة، إلا الوفد الأردني فقد بقي مصراً على رفضه للكيان الفلسطيني جملة وتفصيلاً .. والواقع أن الوفد الأردني كان موافقاً معنا ولكن "الفيتو" كان بيد الملك حسين. ‍‍
وبقي موضوع الكيان الفلسطيني يترنح حتى انعقد مجلس الجامعة في سبتمبر 1963، وهي الدورة التي انتخبت فيها ممثلاً لفلسطين في الجامعة العربية، فعاد إلي موضوع درس الكيان الفلسطيني، واتخذ قراراً روتينياً بإحالة جميع المقترحات التي قدمت بشأن الكيان الفلسطيني من 1959 إلى الحكومات العربية" لاستيفاء درسها بشمول" .. ولكن وفد الأردن قد رفض هذا القرار الشكلي، وسجل في المحضر تحفظاً يقول فيه إنه " بعد أن يتم تحرير أرض فلسطين من إسرائيل يقرر أهل فلسطين مستقبلهم السياسي وفق إرادتهم ومشيئتهم" .. تلك هي صورة الكيان الفلسطيني كما استرجعتها وأنا في منزلي في شهر فبراير 1964، بعد أن انفرط مؤتمر القمة العربي الأول .. بل تلك هي التركة الثقيلة التي أخذت على نفسي حملها وأنا في أول الطريق لإنشاء الكيان الفلسطيني .." وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولاً.
وبدأت أول ما بدأت بأن أخذت أضع الكيان الفلسطيني على الورق .. تماماً كما يفعل المهندس . يضع خارطة البناء، بأسسه وتفاصيله ومقاييسه .. وكتبت وعدلت وحذفت، وقدمت وأخرت، إلى أن وضعت " الميثاق القومي" و " النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية " وقد وضعت فيما كتبت كل خبراتي في القضية الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي، مضافاً إلى ذلك ظروف الشعب الفلسطيني .. وكنت أبيت غير مرة على كلمة أو عبارة ليلتين أو ثلاثاً، فأنا أمام أجيال فلسطينية تقرأ ما بين السطور أكثر مما تقرأ في السطور.
وأبرزت صورة الكيان الفلسطيني، في مجلس وطني يمثل التجمعات الفلسطينية، تنبثق منه لجنة تنفيذية تقود النضال الفلسطيني . وصندوق قومي لتمويل الحركة الفلسطينية ، ومكاتب في العواصم العربية ، وجهاز إعلامي للدعوة للقضية الفلسطينية .. ذلك هو الهيكل العام للكيان الفلسطيني كما رسمته في الميثاق والنظام الأساسي.
وقد استعنت بأجهزة الجامعة العربية فطبعت من الميثاق عشرين نسخة، وأخذت أعد نفسي " للاتصال بالحكومات العربية والشعب الفلسطيني " كما نص قرار الملوك والرؤساء في مؤتمر القمة القاهرة .
ولكن قرار الملوك لم يخولني إنشاء الكيان الفلسطيني إطلاقاً .. كل ما خولني إياه " أن أتصل. وأن أدرس بغية الوصول إلى إقامة القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني" فقد كانت مهمتي في الواقع الاتصال والدرس، ومن ثم تقديم تقرير إلى مؤتمر القمة الثاني المزمع عقده في الإسكندرية في شهر أغسطس 1964.
ولكني خشيت أن انفذ هذا القرار كما نص القرار .. فلقد كانت آراء الدول العربية متباينة بشأن كيفية تشكيل الكيان الفلسطيني واختصاصاته.. وكانت آراء التجمعات الفلسطينية متباينة كذلك، كيف ينشأ الكيان الفلسطيني..وكان المفروض أن أبرز هذه التناقضات في تقرير أقدمه إلى الملوك والرؤساء في اجتماعهم بالإسكندرية. وأنا أعلم أن مصير هذا التقرير هو إحالة الموضوع إلى الحكومات العربية مرة أخرى لمزيد من الدرس، كما كان الحال لسنين عديدة مضت، وبهذا تمر أعوام أخرى من غير كيان للشعب الفلسطيني.
وكانت كل هذه المحاذير والمخاوف تنتابني وأتساءل .. كيف أقحمت نفسي بين أحجار الرحى، ستكون النهاية نهايتي، من غير أن أكون قادراً على إنشاء الكيان الفلسطيني.
وعزمت أخيراً أن ألجأ إلى " الدكتاتورية" أفرضها على الملوك والرؤساء وعلى الشعب الفلسطيني، وقد أغراني بنجاح " الدكتاتورية" وقبولها، أنها أولاً هي الوسيلة الوحيدة أمامي، وثانياً أنها ستكون مقبولة لدى الجماهير العربية والفلسطينية على السواء.
ولهذا فقد عزمت أن أضع الحكومات العربية والشعب الفلسطيني أمام الأمر الواقع فأدعو إلى مجلس وطني ينعقد في مدينة القدس، لينظر في الميثاق والنظام الأساسي ويعلن قيام منظمة التحرير الفلسطينية وينتخب لجنة تنفيذية.. وتشترك بعد ذلك في مؤتمر الملوك والرؤساء في الإسكندرية باسم " منظمة التحرير الفلسطينية" لا تحت اسم " ممثل فلسطين في الجامعة العربية "
وكانت أول اتصالاتي تحقيقاً لهذا الغرض بالرئيس جمال عبد الناصر، فقد قدمت إليه نسخة من مشروع الميثاق والنظام الأساسي ولخصت له طريقة إنشاء " الكيان الفلسطيني"، وذكرت له إنني بسبيل الإعداد لمؤتمر فلسطيني يعقد في القدس " لإخراج " منظمة التحرير الفلسطيني، ووافق الرئيس عبد الناصر على الخطة، وأغلب ظني أنه لم يسأل نفسه عما إذا كنت مخولاً بإنشاء الكيان، أو بدرس موضوع إنشاء الكيان وهكذا بدأت الخطوة العملية الأولى.
ولكن صعوبتي لم تكن في القاهرة، فقد كانت الجمهورية العربية المتحدة راغبة في إنشاء الكيان اليوم قبل الغد .. لقد كانت صعوبتي الكبرى في عمان .. وعلى هذا فقد شددت الرحال إلى عمان( فبراير 1964) وفي حقيبتي ملف واحد كتب عليه : الكيان الفلسطيني .. منظمة التحرير الفلسطينية ..
وصلت إلى مطار عمان، ووجدت جمعاً من أبناء فلسطين في انتظاري، ومعهم عدد من الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء الأجنبية، وكان حديث وكان سؤال .. وليس في الوطن العربي إلا حديث الكيان الفلسطيني .. فقلت " إنني أحمل في حقيبتي مشروعاً كاملاً عن الكيان الفلسطيني، سأنشره على الشعب الفلسطيني في حينه ولكني أريد أن أعلن من الآن أن المشروع يتضمن نصاً صريحاً بأن " الكيان الفلسطيني لا يهدف إلى سلخ الضفة الغربية عن الأردن ولا أن يمارس سيادة إقليمية " وقد أردت بهذا التصريح أن أطمئن الملك حسين قبل أن التقي بالملك حسين، لأشق أمامي طريق الكيان .. وما كان أكثر مصاعب الطريق.
ولم أكد أصلح من شأني في الجناح الذي خصص لي في فندق الأردن، حتى اتصل بي الديوان الملكي ليخبرني أن " سيدنا " يريد أن يراني في الساعة الثانية ظهراً .. فازدرت لقيمات عاجلة وانطلقت بي السيارة إلى رابية القصرين بسمان ورغدان وكان عنده رئيس الوزراء السيد بهجت التلهوني ورئيس الديوان الملكي الشريف حسين بن ناصر، وبعد حديث قصير، مضيت أشرح موضوع الكيان الفلسطيني كما أعددته .. والسيد التلهوني يستزيدني للملك حسين، والشريف حسين يستزيدني، بحثاً عن المساوئ وتخويفاً للملك حسين...
وقال الملك حسين في ختام الجلسة، " نستأنف اجتماعنا غداً ، وسيدعى إلى الاجتماع رؤساء الوزراء السابقون، وكبار رجال الدولة " ثم أستدعى أحد رجال القصر وطلب إليه أن تطبع مطبعة الجيش خمسين نسخة من مشروع الكيان الفلسطيني، تكون جاهزة في اليوم التالي، وانصرفت من القصر الملكي، والملك حسين موزع، فيما أعتقد، بين موافقة السيد التلهوني ومعارضة الشريف حسين.
ووصلت الفندق والوفود من أبناء فلسطين من الضفة الغربية محتشدة في المعابر والردهات، وكلهم يريدون أن يقرأوا الأخبار في وجهي، وكلهم يوجهون إليَّ الدعوة لزيارة مدنهم وقراهم ومخيماتهم لأشرح الكيان الفلسطيني، قلت لهم : لن أغادر الأردن قبل أن أزوركم جميعاً، وأتحدث إليكم جميعاً .. ذلك ما كلفني به مؤتمر الملوك والرؤساء ومعهم جلالة الملك حسين. ودوت القاعة بالتصفيق ودموع السرور تملأ العيون .. فلم يكن يحلم الشعب الفلسطيني في الأردن أن يكون الكلام عن الكيان الفلسطيني مباحاً .. وانصرف الجميع، وكلهم يأخذون العهد بأن أزورهم، فإن الجموع من ورائهم ينتظرون ..
وذهبت في اليوم الثاني إلى رابية القصرين بسمان و رغدان .. وأنا مستبشر أن يعيش الكيان الفلسطيني بسمان ورغدان خارج بسمان ورغدان .. ودخلت مكتب الملك حسين وكان فيه رجال الدولة ، وبأيديهم مشروع الكيان الفلسطيني يقرأونه .. ودخل الملك حسين .. وافتتح الاجتماع بتلخيص عن مؤتمر القمة وقراراته، وأن الأردن يعتبر نفسه مسئولاً عن قضية فلسطين ؛ ثم طلب مني أن أقرأ المشروع مادة مادة وأن أشرح ما ينبغي شرحه، فبدأت أقرأ وأشرح، إلى أن انتهيت من الميثاق ومن " النظام الأساسي " وكنت أجيب على أسئلة الحاضرين .. وكان الكثير من الأسئلة يقصد منها الإحراج لا الإيضاح..
ولست أنسى سخريات رئيس الديوان الشريف حسين حين قرأ المادة التي تنص على " علم ونشيد " لفلسطين،فسأل هازئاً : لماذا لم تذكر شيئا ً عن إصدار النقد والطوابع باسم فلسطين !!
فقابلت هزؤه بهزؤ أشد، وقلت : إنني موافق على اقتراحكم أرجو أن توافقونا على إصدار أوراق نقدية وطوابع بريدية ّّ فضحك الجميع وتخلل الجلسة جو من المرح..
ودارت مناقشة حامية حول مادة " الكتائب الفلسطينية " وتساءل السيد حابس المجالي قائد الجيش الأردني وزملاؤه، كيف يكون في الأردن جيشان .
جيش أردني و " كتائب فلسطينية واشتد الحوار وانضم إلى رجال الجيش عدد من الحاضرين ، وخشيت أن يرفض المشروع على هذه المسألة .. فاقترحت أن نضيف على تلك المادة عبارة " وذلك في أراضي الدولة التي توافق على ذلك " فوافق الجميع ، وكان هو التعديل الوحيد الذي دخل على المشروع.
وقلت للملك، أن الأمر لا يحتاج إلى السرعة، وإني أستأذنكم الاتصال بأبناء فلسطين لمدة بضعة أيام، وخلال ذلك تكونون قد تعمقتم في دراسة المشروع، فوافق على ذلك، فقد أراد أمراً .. وأردت أمراً .. أراد فرصة أطول للدرس والتفكير. وأردت فرصة لأتصل بالشعب الفلسطيني مباشرة، حتى يسمع صيحة الشعب .. وقد سمع صيحة الشعب فعلاً فكانت أهدر من الهدير ..
وكان لقائي الأول مع أبناء فلسطين في معسكر الحسين – في أحد جبال عمان – فتحدثت إلى الجموع الحاشدة رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً، وكانت هتافاتهم تتجاوب أصداؤها بين جبال عمان حتى وصلت إلى رابية القصرين بسمان ورغدان .. ووصلت تقارير المخابرات الأردنية إلى الملك حسين عن ذلك اللقاء مع أبناء فلسطين وهم يودون لو استطاعوا، أن يبنوا الكيان الفلسطيني بحبات قلوبهم ..
وفي اليوم الثاني غادرت عمان إلى أريحا، واحتشدت الجموع في الساحات والميادين للقاء هذا الإنسان الفلسطيني الذي يحمل إليهم بشرى " الكيان الفلسطيني " وتداوت صيحات المخيمات من الألوف، والأفواه هاتفة بحياة الملوك والرؤساء وحياة الكيان الفلسطيني .. ومن أريحا تصاعد بنا موكب السيارات إلى مدينة القدس – إلى مدرسة الرشيدية حيث كانت الجموع تملأ رحاب الساحات والميادين .. وخطبت في الجماهير شارحاً موضوع الكيان الفلسطيني، وهتافات الشعب تتعالى وتتعالى وراء خطوط الهدنة يسمعها الإسرائيليون في القدس الجديدة، حيث أحياؤنا الفاتنة وأرضنا الطهور..
ووصلت إلى فندق امبادسادور في القدس وسط طوق كثيف من رجال الشرطة بين الجموع الزاخرة .. وفي الليل عقدت ندوة ضمت قادة الفكر في المدينة، وكان حواراً بناء حول الكيان الفلسطيني، كيف نبدؤه .. وكن الجو عامراً بالحماسة والإيمان إلا ما خلا من بعض المتزمتين الذين أطلقوا ألسنتهم في الجدل العقائدي.
وإني لأذكر أن واحداً منهم صاح في وجهي وهو يقول : نحن نريد كياناً ثورياً .. ولا نريد كياناً تحت إشراف الجامعة العربية .. قلت له " نبني الكيان أولاً، ثم نبني الكيان الثوري ثانياً .. أو ليس يكفي أيها الثوري أنك أصبحت حراً تتحدث عن الكيان الفلسطيني، وكنت قبل ذلك لا تجرؤ أن تنطق بلفظة الكيان الفلسطيني" فثار الحاضرون وأسكتوا هذا الأخ الثوري" !!
ونهضت في صباح اليوم الثاني إلى الجنوب .. إلى بيت لحم وبيت جالا والخليل، فالتقيت بجموع الشعب، المقيمين واللاجئين، وخطبت في كل مدينة وفي كل قرية، وفي كل مخيم .. وودت لو أني أخطب في كل بيت، فقد تفتحت قلوب الشعب الفلسطيني على أماله، وبات كل واحد مستعداً أن يحمل على أكتافه الأحجار والتراب، ليبني كيانه ..
وقضيت ليلتي الثانية في القدس في ندوة أخرى مع شباب القدس وطلابها ولم يكن، بحمد الله، بينهم من يتكلم " باللسان "" الثوري. فقد كانوا قبل زيارتي للبلاد، لا يستطيعون الحديث عن الكيان الفلسطيني إلا همساً أو غمزاً .. خشية أن تتحدث آذان الجدران إلى بسمان ورغدان .
وخرجت في الصباح في موكب ضخم إلى الشمال فلقيت أهالي رام الله والبيرة والقرى والمخيمات المجاورة قد ملأوا دار السينما الوطنية وأسطحتها وساحاته، وكان الحديث عن الكيان الفلسطيني والهتافات، والنداءات للمبادرة إلى تشكيله تشق أجواز الفضاء ،وخرجت من الباب الخلفي للسينما في صعوبة بالغة.
وواصلت سيري إلى نابلس فكانت تعج بالخلائق وقد تعالت الحناجر بالهتاف للكيان الفلسطيني، وكان الشباب والطلاب في حلقاتهم يصيحون " يا شقيري هات سلاح وخذ أرواح " وخطبت في الجماهير مستعرضاً قرارات مؤتمر القمة داعياً إلى وحدة الصفوف لإنشاء الكيان الفلسطيني فتعالت الهتافات " نبني الكيان بالأرواح، بالسلاح" ..
وأقبل المساء وأحسست أني في حاجة أن أنام أياماً بلياليها، ولكن أنّى يكون النوم وقد تدفقت الجماهيرعليّ في الليل، وكل واحد عنده سؤال،ولكل سؤال جواب .. ولا بد أن يعقب الجواب سؤال وسؤال ..
وانطلقنا في صباح اليوم التالي، وقد تعاظم الموكب الذي يرافقني، ودخلنا مدينة جنين عند الضحى ولم أستطع الوصول إلى مكان الاجتماع إلا على ظهر سيارة شحن كبيرة، وتحدثت في جنين كما تحدثت في غيرها .. ولم يكن للشعب من حديث إلا الكيان، والكيان فقط، وراعني مشهد الطالبات وهن يجهشن بالبكاء فرحاً وسروراً، وإحداهن تهتف وعلم فلسطين بيدها " أبنوا الكيان وارفعوا العلم"، والطالبات رددن وراءها بالمئات ..
وأفلت من الجماهير من الطرق الفرعية إلى طولكرم. فاجتزت شوارعها، وعدت بالذاكرة خمسين عاماً إلى الوراء حينما كنت طفلاً أدب على ساحاتها(1)، وها أنا أعود إليها الآن رجلاً واحد لأنني مع الشعب كيان الشعب وخطبت في الجماهير فإذا بها تصيح صيحة رجل واحد " نريد الكيان يا حسين " .
ومن طولكرم ذهبت إلى قلقيلية لأرى الأبطال الصامدين على خط الهدنة يصنعون " أرضاً من الصخور ليزرعوا الخضار ويغرسوا الأشجار؛ وفي ساحة المدينة تجمع أهلها وأهل القرى المجاورة وحدثتهم عن الكيان الفلسطيني، وكان القطار الإسرائيلي يمر على مقربة منا .. فقلت صائحاً .. " لقد تأخرنا في بناء الكيان ولكن ما فاتنا القطار " وتداوت صيحات الشعب لفلسطين بالكيان، تتجاوب في أذان المستعمرات الإسرائيلية، وهي على مرمى الحجر منا.
وعدت إلى القدس بعد يومين حافلين ازددت فيهما إيماناً بأصالة شعبنا ووعيه وشجاعته، ووجدت الرسائل والبرقيات من أبناء فلسطين في الضفة الشرقية وهم يعاتبون:" ألسنا أبناء فلسطين، لماذا لا تزورنا "، وعالجتهم في اليوم الثاني بزيارة مفاجئة إلى أربد فزحفت جموعهم من المخيمات المجاورة، وكان الكيان محور الحديث، وصيحة الهتاف.
ومن أربد عدت إلى الزرقاء حيث تجمعت الجماهير في فناء المدرسة، وتعلق الشباب بالأسطحة والشرفات، وركبوا جذوع الشجر، وراحوا يستزيدونني في الكلام فكلما هممت بالانصراف وهم يصيحون " الكيان، الكيان لا يعارض إلا الخوان، وخشيت أن تنطلق هتافات عدائية تنسف الجسور التي بنيتها مع الملك حسين، فسارعت في العودة إلى عمان.
وأحسست وأنا أدخل عمان أنني أدخلها دخول الفاتحين، ولكن من غير غرور ولا خيلاء .. فقد أفلحت الخطة كما أردتها تماماً .. كانت المخابرات الأردنية تواصل الملك حسين ساعة بساعة بإنباء هذه الاجتماعات بما لم تشهد البلاد لها مثيلاً. وبهذا وضح للملك حسين أين عواطف الجماهير وما هي إرادتها .. ولم يعد بوسعه أن يقف موقفاً سلبياً أمام الكيان كما فعل لخمس سنين خلت .
وزرت الملك حسين يوم وصولي إلى عمان، وقلت : " لقد أنهيت مهمتي في الأردن كما حددها لي مؤتمر القمة في القاهرة ، فقد اتصلت بجلالتكم وحكومتكم والشعب، وإني لأرجو أن يصدر بلاغ رسمي بموافقة جلالتكم على إنشاء الكيان الفلسطيني .. ".
سكت الملك لحظة وقال : " نحن مستعدون لعرض الأمر على مجلس الوزراء وأخذ موافقته .. ولكن".
قلت : " ولكن، ماذا يا سيدنا ؟"
قال : لقد حصل تشويش كبير في عمان بالنسبة إلى موضوع الكيان الأردني، ونحن لا نريد أن نخلق حساسية بين فلسطيني وأردني ..
قلت : يا سيدنا، أنا أبعد الناس عن العصبية الإقليمية وإني اعتبر أن فلسطين هي الأردن، والأردن هي فلسطين، ولولا ظروف معينة لاقترحت أن يدخل الأردنيون " في قيادة الكيان الفلسطيني فوراً . وإني أرجو أن يتم هذا في المستقبل.
قال : أظن أن الأمر يحتاج إلى إيضاح .. وخصوصاً أنك في خطبك لم تشر إلى أن الكيان الفلسطيني ليس معناه سلخ الضفة الغربية عن الشرقية.
قلت : أنا مستعد أن ألقي بياناً في الإذاعة الأردنية أؤكد فيه هذا المعنى .. وإني أترك لجلالتكم أن تصوغوا البيان، وعليَّ إلقاؤه .. وأنا لم أفعل مثل هذا في حياتي ..
ورفع الملك سماعة التلفون، وطلب إلى الوزير السيد صلاح أبو زيد أن يضع صيغة البيان.. فجاء به ومعه جهاز التسجيل، فسجلت البيان بصوتي، واجتمع مجلس الوزراء بعد الظهر برئاسة الملك حسين وأصدر بلاغاً بموافقة " المملكة الأردنية الهاشمية على مشروع الكيان الفلسطيني كما وضعه أحمد الشقيري ممثل فلسطين في الجامعة، وفق الميثاق القومي والنظام الأساسي المقترحين".
وتدافقت الجماهير على الفندق حيث كنت أنزل ،يهنئ بعضهم بعضا ًبهذا النصر العظيم الذي تعلنه الإذاعة الأردنية بنفسها، وقد كان الكيان الفلسطيني، إلى عهد قريب يدفع بقائله إلى عذاب السجون، أو الاعتقال في جوف الصحراء ..
وحمدت الله أن تحقق هذا النصر في خمسة أيام، بعد أن فشلت في الماضي جهود خمسة أعوام .. ثم حمدت الله أنني في سبيل هذا النصر لم أفرط بالقضية، ولا بالكيان لا قليلاً ولا كثيراً .. كل الذي فعلته أنني توددت إلى الملك حسين وجاملته، وأنني ذكرت أسمه بالثناء حين كانت الجماهير تهتف للرئيس جمال عبد الناصر، ولم يكن يضايق الملك حسين أكثر من هذا الهتاف.
ومن ناحية موضوعية فقد أكدت شيئاً أؤمن به، هو أنني لا أريد فصل الضفة الغربية عن الضفة الشرقية، كما كنت لا أريد أن نمارس سيادة على الضفة الغربية ونحن لا وجود، ولا كيان، ولا مال، ولا جيش، ونحن يصح فينا قول الشاعر:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعف النطق إن لم يسعف الحال

ومن أجل ذلك رضيت بما لم أرض بمثله في حياتي،. رضيت أن يقال : الملك حسين كتب والشقيري خطب .. رضيت بهذا، لأن الكيان الفلسطيني لا يقوم بغير الشعب الفلسطيني، والشعب معظمه في الأردن ، عند الملك حسين.
رضيت بهذا، لأني أردت أن ألزم الملك حسين بالكيان الفلسطيني، ووطن الكيان تحت سيادة الملك حسين .. ولو لم أفعل هذا ما كان قد بنى الكيان الفلسطيني، ولا كبر وترعرع، حتى أصبح الآن ، كما هو سيكون في الغد الإطار الذي يجمع الشعب الفلسطيني في نضاله لتحرير وطنه.
وخرجت من عمان، وقد حمدت الله إني أرسيت قواعد الكيان في وطن الكيان .. وعزمت على السفر إلى بقية الوطن العربي لألتقي بالحكومات العربية والتجمعات الفلسطينية.
ومن عمان قصدت إلى دمشق، حيث قادة حزب " البعث" وأنا أردد قوله تعالى : " فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون" .
" صدق الله العظيم "

المعسكر أولاً..
والكيان ثانياً..

وصلت إلى دمشق من عمان استكمالاً لرحلتي في سبيل إنشاء الكيان الفلسطيني، واستقبلتني السلطات السورية على الحدود بكل مظاهر الحفاوة، ودعوت الله أن يكون ذلك حفاوة بالمشروع الذي أحمله عن كيان الشعب الفلسطيني وفي سوريا 150 ألفاً من أبناء فلسطين .
وكنت أتطلع إلى كل التأييد الذي أطمع فيه .. ففلسطين هي سوريا الجنوبية، فقد كان هذا هتافنا أيام كنا صغاراً ندب على أرض فلسطين(1).
ولي في سوريا صداقات كثيرة وذكريات أكثر، وقد مثلتها في الأمم المتحدة سبع سنوات. وفي حزب البعث لي معرفة وطيدة بقادته: السادة صلاح الدين البيطار وميشيل عفلق ونور الدين الاتاسي، والفريق أمين الحافط، ومنصور الأطرش، وحسان مريود، وإبراهيم ماخوس وغيرهم.
ولكني فوجئت بما لم أكن أتوقع .. لقد اجتمعت برجال الدولة والحزب والجيش، وشرحت مهمتي ومشروعي، فوجدت فتوراً، ثم تبرماً وتململاً.. وتعمقت في الشرح والإيضاح، واستعرضت دور سوريا في الحركة العربية، وإيمانها العريق بقضية فلسطين، وتضحياتها الغالية في حرب 1948،ثم انتقلت إلى رسالة " البعث " وواجبه في معركة التحرير .. وأن لا تحرير لفلسطين من غير شعب فلسطين، ولا شعب من غير تنظيم وكيان .. ولكن بقي الفتور هو الفتور ..
وعدت في اليوم الثاني إلى الحديث إياه، وقلت : أيها الأخوان إذا لم تكن لكم بي ثقة، فقولوها صريحة، أنا مستعد أن أستقيل ولكم أن تختاروا غيري لهذه المهمة فكان جوابهم لا .. نحن نقدر جهودك وليس لنا اعتراض على شخصك .. ولكن الموضوع هو موضوع مبدأ وخطة..
قلت : ما هو المبدأ، وما هي الخطة؟
قالوا : الكيان الفلسطيني لا يصلح من غير أرض .. يجب على الملك حسين أن يسلم بالضفة الغربية ،وعلى الرئيس عبد الناصر أن يسلم بقطاع غزة .
قلت : هذا كلام رائع جداً، ولكن دون ذلك أهوال ..
قالوا : وما هي الأهوال ؟
قلت : ومن يحمي الضفة الغربية وقطاع عزة من إسرائيل .. ؟
قالوا : أبنوا جيشاً لفلسطين..
قلت : ومن أين المال؟ أنتم تعرفون تكاليف بناء الجيش...
قالوا : يجب على الدول العربية أن تدفع.
قلت : وإذا لم يدفعوا؟
قالوا : نجبرهم ..
قلت : وبماذا تجبرونهم. وإذا لم يرضخوا هل نبقى من غير كيان إلى يوم البعث !! وأنتم حرب البعث !!
قالوا : يجب على الملك حسين أن يتخلى عن الضفة الغربية ، ويجب على الرئيس عبد الناصر أن يتخلى عن قطاع غزة.
قلت : .. أقنعوا الملك حسين وعبد الناصر، وأنا موافق .. ثم أقنعوا الدول العربية بأن يتحملوا نفقات جيش فلسطين وأنا موافق.
وانصرفت من القصر الجمهوري لنلتقي في اليوم الثاني.
وفي الموعد المحدد، اجتمعنا بالقصر الجمهوري، أنا وحدي من جانب والبعث في الجانب الآخر.. دولة وحزباً وجيشاً . ودخلنا في الحوار إياه.. فلم أجد عندهم اقتراحاً عملياً، سوى أن المهمة مهمتي، وعليَّ أن أسعى وهم يؤيدونني..
قلت : أنا لا أستطيع، وإذا استطعتم أنتم، فأنا موافق..
وانتقل الحديث بعد ذلك إلى تفاصيل المشروع فوجدت نفسي في دوامة أخرى ..
قالوا : نحن لا نوافق على المشروع الذي أعددته. لقد درسناه في الحزب، ونحن لا نوافق عليه .
قلت : وما هي اعتراضاتكم على المشروع.
قالوا : الكيان الفلسطيني يجب أن يقوم عن طريق الانتخاب..
قلت: إن الشعب الفلسطيني مشتت في الوطن العربي ، والانتخابات في حاجة إلى سلطة وقانون وسجلات ومحكمة طعون وأجهزة كثيرة ولا يملك الشعب الفلسطيني شيئاً منها في الوقت الحاضر؛ ثم إني أوردت في النظام الأساسي نصاً يشير إلى الانتخابات في أول فرصة تتيسر أسبابها؛ ويكفي في المرحلة الحاضرة أن نختار لجنة في كل قطر لتختار ممثل ذلك القطر للاشتراك في المجلس الوطني، الذي سنعقده في بيت المقدس.
قالوا : هذه طريق قديمة بالية .. وهي لا تختلف عن أسلوب الحاج أمين الحسيني في تشكيل الهيأة العربية العليا.
قلت : الفرق شاسع بين المجلس الوطني المزمع تشكيله بموجب النظام الأساسي، وبين الهيأة العربية العليا؛ أما الحاج أمين الحسيني فها أنتم تتعاونون معه، وقد وافقتم أن يفتح مكتباً في دمشق باسم الهيأة العربية العليا، مع أن هذه الهيأة لم يبق منها إلا الحاج أمين الحسيني بشخصه، وخاتم الهيأة العربية العليا في جيبه!!
وأخذ الحوار دوراً حاراً بعد هذه التفاصيل، وساد الجلسة جو من التحدي والتوتر.
فقلت : أريد أن أسألكم بكل أخوة وصراحة: هل الحكم الحاضر في دمشق قائم على أساس الانتخابات، والشعب السوري في وطنه ليس لاجئاً، وأنتم تملكون كل أسباب الانتخابات، فلماذا تريدون أن تفرضوا على إخوانكم اللاجئين ما لا تفرضونه على أنفسكم.
قالوا : الحكم في سوريا هو بيد الحزب، والحزب له قواعد، والقواعد هي التي تنتخب القيادة.
قلت : ولماذا لا تسمحون لأبناء فلسطين في سوريا أن يبنوا قواعدهم لينتخبوا قيادتهم ؟!
ومضى الحوار على هذا النهج طويلاً من غير جدوى، فاستأذنت وخرجت من القصر الجمهوري، وأنا أعود في ذاكرتي عبر السنين، كم مرة جئت إليه في عهد الرؤساء شكري القوتلي وهاشم الأتاسي وأديب الشيشكلي، ولم أطلب شيئاً لفلسطين وإلا ولقيت الاستجابة الكاملة.
ذلك على الصعيد السوري الرسمي، أما على الصعيد الفلسطيني فلقد لقيت تأييداً كاملاً لدى جماهير الشعب الفلسطيني، فقد ازدحم الفندق بوفودهم، جاؤوني من كل أنحاء سوريا وهم يعربون عن تأييدهم لإنشاء الكيان الفلسطيني، وكنت تواقاً أن ألتقي بالفلسطينيين في مخيماتهم وأتحدث إليهم كما فعلت في الأردن؛ ولكن حال دون ذلك الموقف السلبي الذي وقفته حكومة دمشق .. وبهذا حرم عليَّ في دمشق ما رأيته حلالاً في عمان، ويا سخرية الأقدار !!
ولم يقتصر أمر حكومة دمشق على الموقف السلبي، بل تجاوز ذلك إلى الغمز واللمز، فقد أهملت الصحف والإذاعة مهمتي ومشروعي، ولم تخل من تلميح، بأن الكيان الفلسطيني هزيل ورجعي، وراح الفلسطينيون الموالون للسلطة وهم أقل من القلة، يتحدثون في مجالسهم أن الكيان الفلسطيني لا يمكن أن يبنيه عملاء عبد الناصر، وأجراء المخابرات المصرية !! والشقيري واحد من هؤلاء العملاء..
وعزمت في اليوم الثاني على السفر، فتصابرت وحملت نفسي إلى ديوان الرئاسة لأودع السيد صلاح البيطار، وكان أقربهم إلى الاستماع وأهونهم في الحوار،فقلت له :
- إني عازم على السير في إنشاء الكيان الفلسطيني، وسأوعود المجلس الوطني في القدس في شهر مايو من هذا العام (1964)، وآمل أن تغيروا موقفكم مني ومن الكيان، وأنني أؤكد لكم أن الشعب الفلسطيني قد أرتضى هذه المسيرة .. وأنت تعرف جيداً أنني لست عميلاً لعبد الناصر ولا لغيره، أنا زميل المناضلين ورفيق المكافحين حيثما كانوا في دنيا العرب..ورويت له ما يتحدث به بعض البعثيين ..
ولكن السيد صلاح البيطار عبس وقطب، وأقسم أن الحزب يكن لي كل احترام وتقدير، ولا يعدو الأمر خلافاً على الأسلوب فقط .. وعدت إلى الفندق فحزمت حقائبي وغادرت دمشق حزيناً كاسف البال...
وجرى لي وداع رسمي على الحدود السورية اللبنانية، واجتزت المخفر اللبناني، وكان راديو السيارة مفتوحاً على إذاعة دمشق، وإذا بالتعليق يهاجمني ويهاجم الكيان والذين وراء الكيان، إلى آخر التعابير الحزبية العمياء، فأخذ السائق السوري يهون عليَّ وهو يقول:
-  إن عيبك عند البعثيين أنك لست بعثياً !
قلت : الأمر هيّن .. هذه من مصاعب الطريق .. وهل إذا " انفجرت " عجلة السيارة معك في الطريق تتوقف عن السير، .. أم تصلحها وتسير .. وهذا هو حالي ..
ووصلت بيروت، وواصلت سيري إلى المطار فقد كنت أعددت العدة للسفر إلى العراق استمراراً لمهمتي؛ وما هي إلا ساعتان حتى كنت في مطار بغداد، وفي استقبالي وزير خارجية العراق وزملاؤه، وأبناء فلسطين وقد ملأوا ساحة المطار.. وقد كانت مهمتي في العراق في غاية اليسر، فقد كان المشير عبد السلام عارف ووزراؤه على استعداد كامل للموافقة على إنشاء الكيان الفلسطيني وتأييده، دون أن يدخلوا في التفاصيل؛ وشرحت للرئيس العراقي الخطوط الرئيسية لمشروع الكيان الفلسطيني فلم يناقش ولم يجادل وسألني عن موقف الملك حسين فذكرت له أنه وافق .. وبقرار رسمي من مجلس الوزراء .. ثم سألني عن موقف دمشق فأوجزت له أن الموقف سلبي .. فنظر إلى الوزراء الحاضرين وقال :
هؤلاء في دمشق، كيت وكيت .. وانهال بالشتائم العراقية.. فقلت : لعل الله يهديهم . فقال : ومن أين يأتيهم الهدى ، ومن يضلل الله فماله من هاد .. وقضيت يومين آخرين في زيارة للوزراء .. و أصدرت وزارة الخارجية العراقية بلاغاً رسمياً أعلنت فيه موافقتها على إنشاء الكيان الفلسطيني ... من غير " تعليقات"، كما يقول إخواننا العراقيون.
ثم جاء دور الشعب الفلسطيني، فعقدنا اجتماعاً في قاعة الخلد في بغداد، تزاحم فيه أبناء فلسطين في العراق، ونصبت مكبرات الصوت خارج القاعة لتسمع الجماهير في الخارج، وكان الحشد في الخارج أكثر منه في الداخل؛ وتحدثت عن الكيان ومراميه وطريقة إنشائه، وشرحت الميثاق والنظام الأساسي، وكان الحماس بالغاً، حتى أصبحت قاعة الخلد في بغداد،كأنها ساحة من ساحات بيت المقدس ..
وما رأيته في بغداد أنساني ما رأيته في دمشق، لولا أنني لقيت " مسخرة" أخرى، ولو من نوع تافه صغير، ولكنه ينبئ عن " التيه" الذي ضل فيه بعض أبناء فلسطين ..
وإيجاز ذلك إنني نهضت من قيلولة صغيرة في الفندق على قرع شديد يدق باب غرفتي، ففتحت الباب، وإذا بخمسة من الشباب دخلوا الصالة قبل أن أقول لهم أهلاً وسهلاً..
ومن غير مقدمة ولا ديباجة، ناولني واحد منهم منشوراً مطبوعاً على الآلة الكاتبة بتوقيع " جماعة التحرير الإسلامي" خلاصته أن إنشاء الكيان الفلسطيني كفر وإلحاد، قلت :
- الكيان الفلسطيني يهدف إلى إعدادكم للجهاد في سبيل الله، والإسلام يدعو إلى الجهاد.. ألا تريدون أن تجاهدوا اليهود الذين أخرجوكم من دياركم؟؟
قالوا : إن الجهاد لا يعلنه إلا الإمام – خليفة المسلمين -، ولا بد ، تقوم الدولة الإسلامية أولاً .. ثم نشرع في الجهاد؛ هذا هو حكم الإسلام..
قلت : وإذا لم تقم الدولة الإسلامية ، ولم يظهر الإمام، هل نترك فلسطين لليهود، يستبيحون ديارنا ومساجدنا.. أهذا هو حكم الإسلام؟
وهنا دخل عليَّ وفود من أبناء فلسطين، فاشتد الحوار مع " جماعة التحرير الإسلامي"، وبقيت أستمع إلى هذا الإلحاد، الذي يتهم الكيان الفلسطيني بالإلحاد ..وعبثاً حاولنا أن نقنع هؤلاء الشباب. وخرجوا وهم يرغون غضباً ويزبدون حنقاً.. وأسفت أني منذ شرعت في بناء الكيان الفلسطيني. إلى أن اعتزلت منظمة التحرير، لم يكن عندي سلطة لأسجن بموجبها هؤلاء المفتونين وأمثالهم، فإن الله يزرع بالسلطان ما لا يزرع بالقرآن..
وبكرت في صباح اليوم الثاني إلى المطار لأسافر إلى الكويت، وفيها ما يقرب من مائة ألف فلسطيني، ولم تكن لي صعوبة مع الكويت، أميراً وحكومة وشعباً .. فأعلنوا أنهم يوافقون على ما يوافق عليه أهل فلسطين، وأعربوا عن استعدادهم للعون والتأييد .. وتحول قصر الضيافة إلى دار ندوة للشعب الفلسطيني، فتعاقبت الاجتماعات مع الفلسطينيين ليلاً ونهارً، وأنا أجيب وهم يسألون وفي الكويت صفوة الشعب الفلسطيني علماً وثقافة، وقد ساهموا في بناء الكويت، كما يطيب لرجال الدولة في الكويت أن يعلنوا على الدوام ...
وكان السؤال الحائر بين الفلسطينيين في الكويت، كيف يتم اختيار ممثليهم إلى المجلس الوطني. وتلك مهمة شاقة صعبة ..وأردت أن أستريح منهم والقيها على أكتافهم .. فقلت :
- إذا كنتم تريدون الانتخابات فأنا موافق .. وإن كنتم تريدون الاختيار فيما بينكم بالأسلوب الذي ترتضونه، فأنا موافق .. أبلغوني حتى شهر مايو أسماء وفدكم، وأنا مستعد لأن أرسل إليهم الدعوات لحضور المجلس الوطني.
وتداعى أبناء فلسطين إلى اجتماع شعبي ضخم في ثانوية الشويخ في الكويت، حضره عد كبير من رجال الدولة، وممثلو الصحافة والتلفزيون، ودخلت إلى ساحة الاجتماع، وكان النظام على أروع ما يثبت كفاءة الشعب الفلسطيني، والحماسة على أعظم ما ينبئ عن أصالته وعراقته، ورحت في تلك العشية أتحدث عن أيامنا في فلسطين وذكرياتنا في الكفاح، وغمرتنا نفحة صوفية أحسسنا معها أننا في فلسطين، أو منها قاب قوسين أو أدنى، وانهمرت العيون شوقاً إلى الوطن، وحنيناً إلى الديار، وتعلقاً بالكيان، حتى أصبح كل واحد من الخمسين ألف الذي شهدوا الاجتماع، كأنه هو الكيان وحده..
وأثنيت في نهاية خطابي على أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح وحكومته، لما يلقى أهل فلسطين من الرعاية، مؤكداً أن أبناء فلسطين في الكويت يعملون في وطنهم، وأن حالهم هو حال المهاجرين في المدينة المنورة مع إخوانهم الأنصار. وأن أمير الكويت هو أمير المهاجرين والأنصار على السواء .. وقال لي أحد وزراء الكويت؛ هذه العبارة قد فتحت الكويت أمام الكيان الفلسطيني، من القلوب إلى الجيوب.
وعدت إلى قصر الضيافة بعد ذلك الاجتماع الحاشد لأجد وفداً من قطر، وآخر من البحرين، من أبناء فلسطين، يحلفون أن لا أغادر الكويت قبل أن أزورهم .. قلت .. ومتى ؟؟
قالوا : الطائرة غداً في الصباح الباكر .. قلت : على بركة الله.
وفي الصباح الباكر أقلتني طائرة إلى البحرين وأبناء فلسطين لا يتجاوزون مائتين .. وقلت في نفسي: لا بد من الذهاب إليهم .. أليسوا رقعة من فلسطين، وبضعة من شعب فلسطين.
ولقيت الحفاوة العربية في مطار البحرين.. واستقبلني الشيخ حمد عيسى آل خليفة حاكم البحرين عشية ذلك اليوم، وكانت الصالة مملوءة برجال الدولة وأعيان البلاد ، فحدثتهم عن مؤتمر الملوك والرؤساء وقراراته، وعن قضية فلسطين.
ودعاني حاكم البحرين إلى مكتبه وقال بلهجة الاعتذار : هذا شيك بعشرة آلاف جنيه تقدمة شخصية لك، لا بد أن عليك نفقات كثيرة في هذه الأيام .. وحينما تؤسسون منظمة التحرير سنقوم بواجبنا، فشكرته وقلت : سأضع هذا المبلغ في البنك العربي في بيروت باسم " صندوق فلسطين" وهو ثاني مبلغ استلمه من غير طلب.. فإن المبلغ الأول دفعه لي واحد من أبناء فلسطين هو السد حامد أبو ستة بقيمة خمسين ألف دولار .. وخرجت من قصر الحاكم إلى الفندق حيث التقيت بأبناء فلسطين، وقضينا شطراً من الليل في حديث عن المولود الجديد .. " الكيان الفلسطيني" الذي طال انتظاره، وأكبرت فيهم وطنيتهم، وانصرفوا لأنام ساعة أو بعض ساعة استعداداً للسفر إلى قطر.
ووصلت مطار قطر وكأنني، رغماً عن تقادم العهد، في مطار اللد في فلسطين ، قبل الاحتلال الإسرائيلي، فقد كان المطار مزداناً بإعلام فلسطين، وكانت الساحات مكتظة بأبناء فلسطين، انتظموا حلقات حلقات يهزجون ويهتفون، ومعهم شباب قطر وقد رصعوا أنفسهم في صفوف أخواتهم الفلسطينيين وراحت " الكوفيات" تتطاير في الهواء، ولم تعد تعرف، اقطري أم فلسطيني صاحبها ..
وخرجنا من المطار في مظاهرة كبرى إلى قصر الضيافة .. وحمل أبناء فلسطين حقائبي إلى غرفة النوم، وأخذوا يقدمون الشراب والقهوة إلى الضيوف ويستقبلون الوافدين، وينظمون المقاعد والكراسي، حتى أصبح أهل قطر يرحبون بأبناء قطر.
وزرت حاكم قطر الشيخ أحمد علي آل ثاني في مكتبه، وتحدثت إليه عن قضية فلسطين وكيان فلسطين، واستوضح كثيراً من الأمور عن مؤتمر الملوك والرؤساء، وحين هممت بالانصراف قال " هذا شيك بثلاثين آلف جنيه إسترليني تقدمة خاصة لك، وحينما تبدأون العمل سنقوم بما يجب علينا"، فشكرت له هذه الأريحية وقلت " سأضع هذا في حساب صندوق فلسطين في البنك العربي في بيروت، فإن القضية محتاجة أكثر مني".
وخرجت إلى قصر الضيافة وأنا أحمد الله أن نفقات تأسيس الكيان الفلسطيني التي لم " يفكر " فيها الملوك والرؤساء في مؤتمرهم الأول في القاهرة قد تيسرت لي على أيدي حاكمي البحرين وقطر.
وفي المساء شهدت اجتماعاً شعبياً كبيراً في الملعب الرياضي في العاصمة – الدوحة- اشترك فيه الآلاف من أبناء فلسطين وقطر، وكان حديثي إليهم عن الكيان الفلسطيني وما نعلق عليه من أمال كبار في النضال لتحرير الوطن وفي نهاية الحفل جاءني وفد من شباب قطر يلحون علي أن أعقد لهم ندوة خاصة عن فلسطين .. فوافقت على ذلك وتواعدنا في الليل وفي قصر الضيافة .. وتوافدوا في الوقت المحدد واخذوا يوجهون الأسئلة عن كل شاردة وواردة بشأن القضية الفلسطينية، ولم أجد ما أثني عليه خيراً من أن أقول لهم في ختام الندوة أنتم لم تسألوني عن حدود فلسطين .. فلسطين يحدها شرقاً الخليج وما قطر إلا منطقتها الشرقية.. والواقع أنني لولا ما كنت بسبيله في إنشاء الكيان الفلسطيني لمكثت مع شباب قطر أياماً أخرى..
وأقلتني الطائرة في اليوم التالي إلى بيروت، وبلغتها في الضحى، والروعة ما رأيت، لقد امتلأت ساحة المطار وشرفاته بأبناء فلسطين، ويزيدون في لبنان عن مائتي ألف. وحاول رجال الشرطة أن يشقوا طريقي بين الجماهير فلم يفلحوا، ومن وراء مكبرات المطار ناشد رجال الأمن " يا أخوان، افتحوا الطريق" ولكن هذه المحاولات ذهبت أدراج الرياح ..
وخرجت بسيارة الشرطة من باب بعيد. وإذا بالطريق من المطار إلى المدينة مرصوص بصفوف أبناء فلسطين ، خرجوا من مخيماتهم في ذلك اليوم، وكأنما هم في الطريق إلى فلسطين، مستبشرين فرحين. وتوجهت إلى فندق سان جورج، وإذا بوفود فلسطين قد سبقوني.. جاؤوا من صيدا وطرابلس وبعلبك حيث مخيماتهم.
واجتمعت بالرئيس اللواء فؤاد شهاب، فأبدى ارتياحه لإنشاء الكيان الفلسطيني، وكان لبنان يمر في مرحلة انتخابية،والجو متوتر، ولكن الحاج حسين العويني وزير الدفاع يسر لي تجوالي على مخيمات اللاجئين .
فزرت مخيم نهر البارد- طرابلس- ولقيت أبناء فلسطين في الملعب البلدي ولم أكد أبدأ حديثي عن الكيان الفلسطيني حتى انطلقت الحناجر تطالب بالإسراع في إنشائه، وتدريب الشباب على حمل السلاح .. وفي اليوم التالي زرت مخيم عين الحلوه – صيدا – واندمج أبناء لبنان بأبناء فلسطين ،وكان حفلاً شعبياً التهب بالحماس، وأنا اختم خطابي قائلاً: من هنا الطريق إلى فلسطين.
وقضيت يومين آخرين في بيروت، التقي بأبناء فلسطين في خلية الملك سعود، ليلاً ونهاراً، أشرح ما كان وما يكون .. وقد حدث في أحد تلك الاجتماعات أن أرسل الحاج أمين الحسيني صاحب الهيئة العربية العليا ورئيسها عدداً من أعوانه إلى قاعة الاجتماع، فراحوا يشاغبون ويشوشون، فانهال عليهم الجمهور ضربا ولكما، وتدخلت لأنقذهم من غضبة الجمهور، وولوا الأدبار هاربين..
والواقع المؤسف، أن الحاج أمين الحسيني، رغماً عن وطنيته وإخلاصه، إلا أنه كان لا يرى القضية الفلسطينية إلا من خلال " سماحته"، فمنذ أن اختارني مجلس الجامعة العربية ممثلاً لفلسطين أخذ يهاجمني في مجلته ومجالسه، قبل أن أخطو خطوة واحدة، أو أفوه بكلمة واحدة. وحينما أصدر الملوك والرؤساء قرارهم بشأن التنظيم الفلسطيني قام الحاج أمين بنشاط ضخم في تعطيل هذه السميرة والقاء الأشواك في الطريق، فأبرق إلى الملوك والرؤساء يشجب قرارهم .. وأن الهيئة العربية العليا هي المثل الوحيد لشعب فلسطين ولا حاجة لكيان فلسطين. وغداة بدأت جولتي في الدول العربية تضاعف نشاطه في مقاومة الكيان الفلسطيني ، وقد أطلعني الملك حسين على رسالة من الحاج أمين الحسيني يعرب فيها عن مخاوفه على الكيان الأردني من الكيان الفلسطيني !! وأطلعني الأمير عبد الله السالم الصباح على برقية مطولة من الحاج أمين يعارض فيها قيام الكيان الفلسطيني. وكل مضمونها باختصار، أنه هو الكيان الفلسطيني.
أما على الصعيد الفلسطيني، فقد كان موقف الحاج أمين الحسيني بالغ السوء.. فقد كانت أموال القضية الفلسطينية بين يديه، وكانت آخر دفعة وصلت ليديه، مليون دينار عراقي من الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم، وراح ينفق من غير حساب، على مقاومة الكيان الفلسطيني، فقد استكتب في سوريا ولبنان والأردن بعض الفلسطينيين عرائض إلى الجامعة العربية يعارضون فيها إنشاء الكيان الفلسطيني، وقد جاءني عدد من أولئك الموقعين معتذرين لما فعلوا، وهم يقولون: لا تؤاخذنا .. حالتنا ضيقة، بدنا نعيش ..
ورغماً عن ذلك، فقد حرصت، أثناء مقامي في بيروت، أن استرضي الحاج أمين الحسيني توحيداً للصف الفلسطيني، وإن كان الشعب الفلسطيني قد تخلى عنه منذ زمن بعيد .. وقلت لأصدقائه: " أني مستعد أن أزور الحاج أمين في بيته. وأن أسعى لترشيحه رئيساً للمجلس الوطني. وإني أعدكم أن أستشيره في جميع الأمور التي نحن بصددها .. وليس لي إلا شرط واحد، هو أن يكف عن مقاومة الكيان الفلسطيني ويعلن موافقته على الفكرة.. وعاد إليَّ أصدقاؤه يقولون " امضِ على بركة الله. أنت تعرف الحاج أمين. قلت : نعم أنا أعرف الحاج أمين. أن الحاج أمين لن يوافق على الكيان الفلسطيني إلا إذا كانت القيادة في منزله والأموال في جيبه".
ولم يكن الحاج أمين هو الصعوبة الوحيدة في موضوع الكيان الفلسطيني فقد كانت هنالك مصاعب أخرى صغيرة، أسمها الأحزاب والمنظمات الفلسطينية.
جاءني ممثلو الأحزاب والمنظمات الفلسطينية ليجتمعوا بي في بيروت " سراً " وأرادوا أن يفتحوا معي حواراً .. وأعترف أن في نفسي عقدة قديمة منذ الأحزاب والحزبيين من كنا في فلسطين . ولكني أردت أن أفتح قلبي لهذا الحوار فإن الواجب القومي يدعوني أن أستمع إلى هذه الأحزاب والمنظمات، وأن أعمل على توحيدها في إطار الكيان الفلسطيني، وعلى وجه التحديد داخل منظمة التحرير الفسطينية.
وقضيت الليالي الطويلة في هذا الحوار معهم جميعاً : البعثيون، القوميون العرب، الشيوعيون، الأخوان المسلمون، " وجبهات" (تحرير فلسطين) ومنظمات أخرى كان كل وجودها ممثلاً في حيازته آلة كاتبة لطباعة المنشورات ومهاجمة الكيان الفلسطيني.
وكان موقف هذه المنظمات يتراوح من المعارضة العنيدة، إلى " راقب وانتظر"، فقد كان البعثيون يرون الكيان الفلسطيني ألعوبة بيد عبد الناصر، وعبثاً حاولت أن أقنعهم أنني لن أسمح لنفسي أو للكيان أن نكون ألعوبة بيد أي ملك أو رئيس، وكان موقف جماعة " فتح " موقف المراقبة؛ وكان الشيوعيون لا يهضمون " تحرير فلسطين يخاطبونني وألسنتهم ثابتة في حلق موسكو، منطقاً وجدلا وفلسفة؛ وكان الأخوان المسلمون لا يؤمنون بأية حركة يساهم فيها الرئيس عبد الناصر من قريب أو بعيد؛ وكان القوميون العرب يتحدثون من خلال القومية العربية ولا يؤمنون بتجسيد الشخصية الفلسطينية؛ وكانت الجبهات والمنظمات الأخرى تسخر من كل عمل يتصل بالجامعة العربية بصورة أو بأخرى.
لقد خلوت بهؤلاء جميعاً في جلسات خاصة " سرية" وناشدت فيهم " فلسطينيتهم " وأن هذه فرصة العمر، ودعوتهم أن يساهموا معي في البناء، لا أن يقفوا في الخارج والمعاول بأيديهم.. ودعوتهم للاشتراك في قيادة منظمة التحرير تحت شعار الوحدة الوطنية، وأن يعملوا في أجهزتها المختلفة، من كان يريد القتال يشترك في النشاط العسكري؛ ومن كان يريد العمل السياسي يشترك في النشاط التنظيمي الإعلامي .. وكنت كلما سددت عليهم باباً فتحوا لي عدة أبواب ،شأن الحزبيين عرفوا بمهارات الحوار والجدال.. ولكن قدسية القضية، كانت بالنهاية، فوق المهارات والمهاترات.
ولقد كان هؤلاء جميعاً وطنيين مخلصين، وقواعدهم أكثر منهم إخلاصاً ووطنية؛ ولكن كلا من أولئك القادة كان حريصاً على كيانه الخاص ويخاف عليه من الكيان العام. ولم أستطع أن أقنعهم، وراحوا في أعقاب اجتماعات يبهم، يطبعون المنشورات، يهاجمون الكيان الفلسطيني : بأنه كيان غير ثوري، وأنه صنيعة الجامعة العربية، وإن الكيان لا يبني من فوق وإنما يبني من تحت .. وإن الكيان الفلسطيني لا يفرض من قبل الملوك والرؤساء، وإنما يجب أن ينبع من إرادة الشعب.
كنت أقرأ هذه الشعارات في هذه المنشورات، فأشفق على هذه الوطنية الصغيرة .. وقبل انصرافي من بيروت التقيت بهم وقلت : نحن لا زلنا في أول الطريق .. ولم نضع حجراً واحداً بعد .. تعالوا نبني معاً، تعالوا نضع الميثاق معاً، ونقيم الكيان معاً..
ومضوا في عنادهم وإصرارهم، وكتب واحد منهم في إحدى الصحف بأن الذي يريد أن يبني الكيان الفلسطيني يجب أن يقيم في مخيمات اللاجئين، لا في فندق سان جورج، في بيروت!!
ورغماً عن أن هذا الكلام هو مهارة رخيصة فقد قلت لهم : سأدعوكم للاشتراك في المجلس الوطني في القدس، وأن قيادة المنظمة مفتوحة أمامكم، متاحة لكم.. ويكفيني الشعب إذا تخلفتم، فإن الشعب مع الكيان، والكيان عنوان كفاحه ورمز نضاله.
وغادرت مطار بيروت إلى القاهرة، وقد تركت ورائي حي رأس بيروت عامراً بالجدل .. ولكن الكيان كان في طريقه إلى البناء.
لم أمكث طويلاً في القاهرة، فقد كان الشعب في قطاع غزة ينتظر أخبار الكيان؛ ووصلت بي الطائرة إلى مطار العريش لأجد ساحته مليئة بجماهير الفلسطينيين والمصريين، واجتزنا قطاع غزة من أدناه جنوباً إلى أقصاه شمالاً، في موكب طويل من السيارات؛ وأحسب أنه لم يبق رجل ولا امرأة ولا طفل في البيوت في ذلك اليوم، فقد خرجت الجموع إلى الشوارع والساحات والميادين هاتفة هازجة؛ وكان الطريق العام على جانبيه مرصوصاً بالناس كتفاً إلى كتف؛ الأعلام الدينية خفاقة بالهواء، والطبول تقرع، والصنوج تضرب، وأناشيد الطلاب والشباب تتجاوب بين أشجار الليمون والكروم .. وكان اجتياز خانيونس ورفح من بين الجماهير المتلاحمة رحمة من الله في ذلك اليوم.. وما أن دخلنا غزة حتى تدفقت الجماهير وأقامت سداً بشرياً ضخماً في وجه الموكب يريدون أن يستمعوا إلى من يحمل لهم بشرى الكيان الفلسطيني؛ وأعانني الشباب ورجال الشرطة فامتطيت ظهر سيارة كبيرة وتحدثت إلى الشعب، والشعب يصيح " ياشقيري بدنا سلاح" فأجبت " افتحوا الطريق وأنا أعدكم بالسلاح" .. وهكذا انفتح الطريق وواصلنا سيرنا إلى مقر الحاكم الإداري، الفريق يوسف العجرودي، فوجدناه غاصاً بالوفود، من كل أرجاء القطاع.
وزرت بعد الظهر المجلس التشريعي في غزة ، وشرحت الميثاق والنظام، ودعوت المجلس أن يتعاون مع باقي الهيئات في القطاع لاختيار ممثليه في المجلس الوطني.
وكان أهل القطاع قد ملوا التجارب الماضية في تنظيم الشعب، كما مل الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته أن لم يكن له أي تنظيم إطلاقاً؛ ثم إنني سمعت في كل مكان هتاف الجماهير وهي تطالب بالسلاح، كما أحسست في جولتي مع الشعب الفلسطيني في الوطن العربي أنهم يخشون أن يكون الكيان جهازاً سياسياً إعلامياً وكفى، مع أني أكدت الجانب العسكري في الميثاق والنظام، وفوق هذا وذاك ، فقد كانت جماهير الشعب الفلسطيني يخامرها شك غير قليل في جدية الحكومات العربية إزاء الكيان، وهل تسمح الدول العربية لأبناء فلسطين بحمل السلاح.
وكاشفت الفريق يوسف العجرودي بهذه الخواطر فقال:
-  ماذا تقترح، وإني أوافقك أن هذا شعور الجمهور..
قلت : أريد أن ننشئ معسكر للتدريب على أرض القطاع، وليكن مفتوحاً أمام شباب فلسطين من حيثما جاؤا.
قال : يمكن البحث بهذا الموضوع بعد إنشاء الكيان الفلسطيني، ونحن مستعدون للمعاونة.
قلت : أريد إنشاء معسكراً التدريب قبل إنشاء الكيان، حتى يوقن الشعب الفلسطيني أن الكفاح المسلح هو طريق الكيان.. وحتى ينعقد المجلس الوطني في القدس في جو الكفاح.
قال: ما أظن أننا نستطيع أن نفعل ذلك قبل اجتماع المجلس الوطني ولم يبق على انعقاده إلا بضعة أسابيع ( 28 مايو 1964).
قلت : الأمر بسيط .. الأرض في قطاع غزة موجودة .. والشباب موجودون .. والقاهرة لا تضن علينا بالضباط المدربين، ولا السلاح.
قال : والمال!
قلت : هيَّن .. إن عندي حساباً في البنك العربي في بيروت باسم صندوق فلسطين.
وخرجنا بالسيارة نبحث عن الموقع الملائم حتى وصلنا إلى " النصيرات" .. وهناك على هضبة مشرفة على سطح البحر وجدت ضالتي .. فقلت للفريق العجرودي : اقرأ الفاتحة، فقرأنا، وعدنا على بركة الله إلى غزة ، وكأنما الأرض والسماوات مطويات في يدي..
واستغفرت الله من هذا الغرور الشكور..
وما أن وصلت منزل الحاكم حتى تناولت دفتر الشيكات من حقيبتي، ووقعت للفريق العجرودي شيكاً بمبلغ خمسة آلاف جنيه إسترليني دفعة أولى للإنفاق على تأسيس معسكر النصيرات .. وكان هو المبلغ الأول والأخير الذي وقعته وحدي من أموال القضية الفلسطينية، فقد أصبح يوقع معي السيد عبد الحميد شومان الذي اختارته منظمة التحرير فيما بعد رئيساً لمجلس إدارة الصندوق القومي..
وتناولت الفريق العجرودي سماعة التلفون، فأصدر أمره إلى مختلف الدوائر بأن يسرعوا في خلال ثلاثة أيام إلى إعداد المعسكر، أرضاً وخياماً وسلاحاً وشباباً .. وسرى النبأ بين جموع الطلاب والشباب فسارعوا إلى التطوع، وسارعوا إلى المعسكر.
وفي اليوم المحدد(20 إبريل 1964) انطلقنا من منزل الحاكم إلى معسكر النصيرات، وغدا القطاع في أفراح وأعياد لا تزيد عنها في روعتها وبهجتها إلا أيام التحرير.. ودخلنا المعسكر، وكأنما قيل للمعسكر كن فيكون.. فهذه الخيام، وهذا السلاح، وهؤلاء الضباط المدربون، وأولئك الشباب المتطوعون، وهذا علم فلسطين خفاقاً ورفرافاً على ساريته، وأعضاء المجلس التشريعي وممثلو القطاع ومنظمات الشباب والطلاب، يحيون علم فلسطين، وينشدون نشيد فلسطين .
وخطبت في ذلك اليوم كما لم أخطب في حياتي، وأنا أقول" لقد أراد الله لنا أن نجلس في هذا المعسكر كما يجب أن نجلس .. نجلس الآن ونحن نولي وجوهنا شطر حيفا ويافا وتل أبيب .. قد يكون الطريق طويلاً .. ولكن معسكر النصيرات هو أول الطريق . وسأسير معكم وتسيرون معي، ونسير معاً ، فإن هلكت في الطريق فأحملوني أيها الرفاق إلى فلسطين الحبيبة حيث مثوى الأباء والأجداد ".
وانتهى الحفل، والشعب يهنئ بعضهم بعضاً، والفتيات من حولي يسألن متى دورنا . وقلت : دوركن قريب وكل آت قريب. وكانت رياح البحر تحمل الأناشيد والهتافات شرقا .. شرقا إلى المستعمرات اليهودية على مرمى البصر ومن معسكر النصيرات ذهبنا إلى المطار لاستقل الطائرة إلى القاهرة لأعلن إلى لجنة ممثلي الملوك والرؤساء .. إن اتصالاتي بالحكومات العربية والشعب الفلسطيني قد أنتهت، وأن الكيان الفلسطيني في طريقه إلى الوجود .. ولأعلن للشعب الفلسطيني النبأ الكبير.
وكان النبأ الكبير أننا أنشأنا معسكر النصيرات قبل إنشاء الكيان وإن الكفاح المسلح هو طريق التحرير..
" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوكم وعدو الله"
صدق الله العظيم

الكيان الفلسطيني عند ثلاثة..
الشعب والملوك وغروميكو

مع شهر الربيع من عام 1964( نيسان) أقبل ربيع آمالنا بعد انتظار طويل، فقد أصبح الكيان الفلسطيني في متناول أيدينا ورهن عزائمنا؛ لقد ترقب الشعب الفلسطيني إنشاء كيانه لأنه رأى فيه رمزاً لنضاله وعنواناً لكفاحه..
ومثلت أمام لجنة المتابعة المؤلفة بموجب قرار مؤتمر القمة الأول لمواصلة تنفيذ قراراته، وعرضت على اللجنة نتائج رحلتي في الوطن العربي واتصالاتي بالحكومات العربية وبتجمعات الشعب الفلسطيني .
واستوضح الأعضاء عن الإجراءات العملية التي اتخذتها بصدد إنشاء الكيان الفلسطيني، فأوجزت لهم أنه نتيجة لاتصالاتي ومشاوراتي مع أبناء فلسطين في مختلف تجمعاتهم قد تم إنشاء لجان تحضيرية لاختيار أعضاء المجلس الوطني المزمع عقده في 28 مايو سنة 1964 في مدينة القدس، وأني رجوت الملوك والرؤساء الذين قابلتهم بأن يوفدوا نيابة عنهم وفوداً على مستوى عال ليشهدوا حفلة افتتاح المؤتمر، فإنها مرحلة تاريخية يستأنف شعب فلسطين من خلالها كفاحه الوطني بعد أن شردته الكارثة تحت كل سماء وكوكب في الوطن العربي.. الكيان عند الشعب الفلسطيني معناه بالحرف الواحد: " السلاح والكفاح، وأن الكيان يصبح هزيلاً وضعيفاً غير جدير بثقة الشعب الفلسطيني والرأي العام العربي إذا لم تكن الناحية العسكرية الفلسطينية بارزة فيه بروزاً قوياً .. ولهذا أرجو أن يكون واضحاً بصورة قاطعة أن استمراري شخصياً في العمل بالكيان الفلسطيني مرهون بالإمكانات العسكرية التي تتيسر لهذا الكيان".
ولم أورد في تقريري أية إشارة إلى موقف المملكة العربية السعودية وبالتحديد موقف الأمير ( الملك) فيصل، وقد أصبحت مقاليد الأمور بيديه، ذلك أن الأمير فيصل لم يأذن لي بزيارته والتحدث إليه بشأن الكيان الفلسطيني، وكنت خلال جولتي في الوطن العربي، أزور السفارات السعودية، عاصمة عاصمة، لأبرق إليه مستأذناً بالسفر إلى المملكة العربية السعودية، للاتصال به وبأبناء فلسطين في السعودية، ويبلغون فيها نحواً من ثلاثين ألفاً، ولكني لم أتلق جواباً واحداً على برقياتي التي أرسلتها إليه.. ولم أدر لذلك سبباً، فأنا ما زلت في أول الطريق ولم تبدر مني أية بادرة تضايقه أو تضايق غيره من الملوك والرؤساء، فإن من يعمل في قضية فلسطين لا بد أن يكون عبئاً على الحاكمين مهما كان خفيفاً .. لا في ظله وروحه، ولكن في مطالبه وآرائه !!
ومع هذا فقد كتمت أمري مع الأمير فيصل عن لجنة المتابعة، كما كتمته عن الرأي العام العربي، فقد كنت حريصاً أن لا أجعل للأمير فيصل مما يشكو منه، فإن المملكة العربية السعودية تستطيع، إذا أرادت أن تلعب دوراً ضخماً في قضية فلسطين،ويكفي المؤتمر الإسلامي الكبير الذي ينعقد كل عام لمناسبة الحج، وثروتها البترولية، وأثرها على السياسة الغربية.
ومضت مناقشات لجنة المتابعة هادئة وطبيعية إلا فيما أثاره السيد منصور الأطرش ممثل الرئيس السوري، فقد أعرب عن عدم رضائه عن طريقة إنشاء الكيان الفلسطيني، وكرر رأي القيادة في دمشق في ضرورة القيام بانتخابات عامة بين الفلسطينيين حتى " تكون القيادة الفلسطينية معبرة عن إرادة جماهير الشعب الفلسطيني".
وشرحت للسيد منصور الأطرش المصاعب العملية التي تحول دون الانتخابات، وكنت قد فصلتها في لقاءاتي مع قادة حزب البعث ، وأنني عقدت ما يقرب ن ثلاثين مؤتمراً شعبياً فلسطينياً باستثناء الندوات والاجتماعات الأخرى، وأن " جماهير الشعب" التي يتحدث عنها السيد منصور الأطرش راضية عن هذه الطريقة.
وتكلم المندوب السوري مرة ثانية مبدياً اعتراضه وتحفظاته .. والواقع أني لم أطق صبرا على هذا الحوار بعد أن سلخت ليالي طويلة في متاهاته في دمشق .. فقلت للسيد منصور الأطرش " يا أخي .. إن والدك سلطان باشا حينما قاد الثورة السورية لم ينطلق من معركة انتخابية، ولكنه انتخب نفسه لأداء واجب النضال، ولم تكن لا حركة الوطنية في سوريا تحت وصاية أحد، وان الشعب الفلسطيني يرفض أن يكون تابعاً لأحد، أو تحت وصاية أحد؛ نحن نقبل المشورة الأخوية ،ولكن شعبنا هو الذي يقرر مصيره وهو الذي يبني كيانه. ونحن نعتبر موضوع الكيان الفلسطيني مسألة داخلية ليس لأحد أن يتدخل فيها ،تماماً كما لا نتدخل في الأمور الداخلية لأي بلد عربي ". !!
وسكت السيد منصور الأطرش، لا لأن لهجتي كانت حازمة، ولا لأنه اقتنع بهذا المنطق السديد، ولكن لأن أحداً من أعضاء لجنة المتابعة لم يؤيد موقف الحكم في سوريا آنذاك .. ورأى أن أعضاء اللجنة لا يريدون أن يستمعوا إلى " الأطرش" !!
وأعلنت في ختام حديثي إلى لجنة المتابعة أن المؤتمر الفلسطيني سينعقد في مدينة القدس في 28 مايو 1964، كائنة ما كانت الظروف والمصاعب، وليغب من يغيب، ويحضر من يحضر. !! وأعلن الأعضاء استعداد حكوماتهم لتلبية الدعوة، باستثناء الوفدين السعودي والسوري فقد التزما الصمت .. وقال السيد حسن صبري الخولي أنه سيمثل الرئيس عبد الناصر في حضور المؤتمر .. فنظر الأعضاء بعضهم إلى بعض في عجب واستغراب .. فقد كان الكيان الفلسطيني موضوع الساعة، وكان الرأي العام يتطلع إلى أن تمثل الحكومات العربية على أعلى مستوى.. قلت :إن الشعب الفلسطيني يقدر جميع إخوانه من العرب، ولكنه يتوقع أن يرى في مؤتمره الوطني الأول الذي ينعقد بعد خمسة عشر عاماً من الكارثة وفوداً على مستوى رفيع، وأضفت إلى ذلك أن الرئيس أحمد بن بللا قد أبلغني عن طريق سفارته في القاهرة أنه مستعد لحضور المؤتمر الفلسطيني بنفسه، إذا علم أن رئيساً آخر يعتزم الحضور..
وخرجت مع السيد حسن صبري الخولي ممثل الرئيس عبد الناصر بعد انفضاض الجلسة وأنا أعاتبه وأعاتب الجمهورية العربية المتحدة وقلت : أرجو أن تبلغ الرئيس أني أتطلع " أن ينوب عنه نائب رئيس الجمهورية في المؤتمر الفلسطيني.. "
وعدت إلى منزلي وأنا في حيرة من أمري من موقف القاهرة من الكيان الفلسطيني.. فلم تلاق جولتي الطويلة المضنية في الوطن العربي أي صدى في صحفها وإذاعتها، ولو حتى من ناحية إخبارية، مع أن الوطن العربي كله كان يعج بأخبار الكيان الفلسطيني؛ ثم ها هو اليوم يأتي السيد حسن صبري الخولي ليعلن أمام لجنة المتابعة أنه سيمثل الرئيس عبد الناصر في المؤتمر الفلسطيني .. والواقع أني لم أستطع أن أجد تعليلاً لموقف القاهرة في تلك الفترة من الكيان الفلسطيني، أهو حماية للكيان الفلسطيني من أن تقول عنه الدول العربية إن القاهرة متحمسة له، وإنها وراءه بكل طاقاتها؛ أو إن القاهرة تريد للكيان الفلسطيني في تلك المرحلة حجما معيناً لا يتعداه ..
وكائناً ما كان السبب، فقد أضفت هذا الموقف إلى مصاعبي الكثيرة، وحملت حقيبتي وسافرت إلى عمان لأكون في قلب الساحة حيث نريد أن نبني..
أجل .. أقول حيث نريد أن نبني، فإن إنشاء الكيان الفلسطيني كان عملية بناء بكل معنى الكلمة، سوى أن أبناء فلسطين .. هم الحجارة والحديد .. ويقيني أنهم أقوى وأمضى، وأشد وأصلب ..
غير أني وجدت عمان على غير ما تركتها، لقد كانت الإشاعات تملأ المقاهي والشوارع والبيوت.. وتردد الشائعات أن الملك حسين لا يريد أن يحضر المؤتمر الفلسطيني .. وأنه سافر إلى العقبة ليكون بعيداً أثناء إنعقاد المؤتمر، وسينيب عنه رئيس الوزراء السيد بهجت التلهوني.
وقد اتخذ الملك حسين هذا الموقف لأسباب متعددة، أولها أن السفارة الأمريكية في عمان قد حذرت من إنشاء الكيان الفلسطيني فإن في ذلك " تعطيلاً للجهود السلمية التي بذلتها الولايات المتحدة عبر السنين لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي بصورة نهائية، وإنه إذا كان ولا بد من إنشاء الكيان الفلسطيني فما معنى أن يتولى زعامته رجل مثل الشقيري باع نفسه للشيوعية أثناء عمله في الأمم المتحدة " ، تلك هي الترجمة الأمينة للمذكرة الشفوية التي قدمها السفير الأمريكي في عمان . كما أملاها عليَّ صديق لي في الديوان الملكي في عمان. وثانيها أن الكيان الفلسطيني، كما أرجف عدد من الوزراء والمستوزرين الفلسطينيين والأردنيين، سيقضي على الكيان الأردني وعلى الوحدة بين الضفتين .
ومكثت بين عمان والقدس بضعة أيام وأنا أتشاور مع الإخوان الفلسطينيين في الإجراءات التحضيرية لعقد المؤتمر الوطني، وفي أوائل شهر مايو (1964)، أقلتنا طائرة صغيرة من مطار عمان، رئيس الوزراء السيد بهجت التلهوني وأنا، إلى العقبة للاجتماع بالملك حسين للتحدث إليه بأمر المجلس الوطني .. وكان الملك حسين في استقبالنا في المطار، وركبنا سيارته إلى مكتبه في العقبة وسط الجماهير الحاشدة وهي تهتف للكيان الفلسطيني وللملوك والرؤساء، وكنت حريصاً أن لا أرد التحية على الكثيرين الذي كانوا يلوحون لي بأيديهم، فقد تركت للملك حسين أن ينعم بهذه الحفاوة وحده، وأردت أن أدخل الطمأنينة على نفسه، وأنه ليس له ما يخشاه من الكيان الفلسطيني أو مني، وأشهد أني كنت صادقاً مخلصاً في عزمي هذا .. فإن الأردن هو وطن القضية الفلسطينية، وشعبها هو شعب الأردن ، ذلك كان إيماني على الدوام ومن هذا الإيمان كنت انطلق في مجاراة الملك حسين ومجاملته، إلى أن فجرَّ الأزمة مع المنظمة ومعي في خطابه " الشهير " في عجلون في يونيو عام 1966.. كما سيأتي ذكره في مذكراتي ..
وقلت للملك حسين، بعد أن سألني عن " أخيه " الرئيس عبد الناصر : لماذا سيتخلف عن حضور المجلس الوطني في القدس؟
قال : إن الملوك والرؤساء سيرسلون وفوداً، على مستوى وزراء الخارجية، وسينوب عني رئيس وزرائي.
قلت: أن الأمر مختلف بالنسبة لجلالتكم .. إن المؤتمر ينعقد في بيت المقدس، في المملكة الأردنية، وأخشى أن يكون لغيابكم تفسيرات غير حسنة.
قال : على كل حال، أنت تعرف الحساسيات في البلد، ولا نريد أن نفرق الأسرة الأردنية إلى فلسطيني وأردني.
قلت : بالعكس أن حضور جلالتكم يقطع دابر هذا الكلام .. وإن غيابكم سيعطي الفرصة للمرجفين أن يرجفوا .. ومع هذا فإني سأتناول هذا الموضوع في خطابي بما يتفق مع المصلحة..
قال : ثم إن هناك أزمة في البلد .. فقد بلغني أن اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني الفلسطيني قد قررت أن لا توجه الدعوة إلى الوزراء والنواب الفلسطينيين.
قلت : هذا أمر بسيط فأنا مستعد أن أبحث هذا الأمر مع اللجنة التحضيرية وأن أرجوهم دعوة الوزراء والنواب.
قال : وفوق هذا ، فان ضباط الجيش مستاؤون من موضوع إنشاء كتائب فلسطينية.
قلت : هذا موضوع فرغنا منه في جلستنا في القصر الملكي، حيث كان كبار الضباط حاضرين. واتفقنا إن الكتائب الفلسطينية يتم إنشاؤها بموافقة الدول المعنية .. ومع هذا فإني مستعد أن أزور وحدات الجيش الأردني وأتحدث إليهم في الموضوع.
وقد كان الملك حسين يصغي إلى أجوبتي باهتمام إلا حين عرضت عليه أن أزور الجيش الأردني في وحداته .. وأدركت أنه يحاورني ولم يبق أمامي إلا أن ألقي قنبلتي الأخيرة فقلت : يبدو لي، وأرجو أن أكون مخطئاً في ظني، أن جلالتكم لا تريدون عقد المؤتمر الوطني في القدس .. ولهذا فسأعلن تأجيله إلى الشهر القادم لنعقده في القاهرة .. ولم أكد أكمل حديثي حتى قال : لا أبداً، ليست هذه رغبتي .. نحن نريد أن ينعقد المجلس الوطني في القدس... وقد أصدرت التعليمات إلى جميع الوزارات للسهر على راحة المؤتمرين، وتوفير كل الأسباب لنجاح المؤتمر- وهممت بالوقوف وأنا أقول: أستأذن جلالتكم بالسفر إلى القاهرة غداً، وسنرحب بوفد جلالتكم لحضور المجلس الوطني في القاهرة عند " أخيكم الرئيس عبد الناصر" .. وانتحى الملك حسين والرئيس التلهوني جانباً لبعض دقائق، قال بعدها الملك : " نحن نريد أن يكون الأخ أحمد راضياً، وسأحضر حفل الافتتاح بنفسي..".
قلت : سأكون في استقبالكم في بيت المقدس .. " وغادرنا مكتب الملك بسيارته إلى المطار، وسط صفوف متراصة من أبناء الشعب، وهم يهتفون : يعيش الحسين، يعيش الشقيري .. فمددت رأسي من النافذة وصحت بأعلى صوتي اهتفوا للحسين، واهتفوا لفلسطين .. وقد انطلقت أسارير الملك حسين لهذه البادرة ..
ووصلنا عمان وأنا أثني على موقف السيد بهجت التلهوني " الأردني " في تأييده للكيان الفلسطيني .. وقلت له مداعباً : أنت " فلسطيني من أبناء معان – وهي من منطقة الكرك – لقد زاركم الرحالة أبن جبير الأندلسي قبل سبعة قرون وأشار في كتابه عن الكرك بأنها أطيب أرض في فلسطين".
ومن المطار ذهب الرئيس التلهوني إلى رياسة الوزارة، وذهبت إلى القدس لأواجه المصاعب الصغيرة تكمن وراءها المعاني الكبيرة .
وكانت الصعوبة الأولى هي مكان انعقاد المؤتمر، فقد كنت راغباً أن ينعقد في المدينة القديمة من القدس لنضفي على المؤتمر جلال الماضي وقدسية الكفاح الذي خاضه البطل صلاح الدين لتحرير القدس .. ولكن السلطات الأردنية مانعت في ذلك ، فقد كان كثير من أجهزة الدولة معارضاً للكيان الفلسطيني، ويعملون على تعطيله أو الإقلال من أهميته .. وامتلأت الضفة الغربية يوم ذاك، وخاصة بيت المقدس، بالإشاعات بأن أعوان الحاج أمين الحسيني سيحدثون شغباً في البلاد يوم انعقاد المجلس الوطني، وأنهم سيضعون قنابل موقوتة في داخل الاجتماع، ليدمروا القاعة على من فيها .. وأنهم .. وأنهم.. واندس أعوان المخابرات الأمريكية في طول البلاد وعرضها ينشرون هذه الإشاعات في المقاهي والنوادي. ولم أكن أبالي بهذه التخرصات لأني أعلم أن الشعب الفلسطيني أعمق إدراكاً وأوسع وعياً من أن تؤثر هذه الحرب الباردة في عزيمته.
ولكن هذه البلبلة المصطنعة قد خدمت السلطات الأردنية، فقد اقترحت أن يعقد المؤتمر في عمان لا في القدس .. والغرض ظاهر من هذا الاقتراح .. ورفضت بكل إصرار. ثم جاء رجال المخابرات الأردنية يشيرون بعقده في فندق البحر الميت قريباً من أريحا .. ووضح كذلك أنهم يريدون للكيان الفلسطيني أن يولد ميتاً .. وتدخل السيد روحي الخطيب أمين بلدية القدس واقترح أن يعقد المؤتمر في فندق انتركونتنتال على جبل الزيتون في القدس فرضيت بهذا الاقتراح حلاً وسطاً، ويكفي أن هذا الجيل قد ساهم في حياة بيت المقدس في جميع حقب التاريخ، ويكفي كذلك أن المؤتمرين يستطيعون أن يشرفوا من هذا الجبل على مدينة القدس بشطريها القديم والجديد، بل إنه يكفي فوق هذا وذاك أن الوفود العربية تستطيع أن تتعلم من هذا الجبل قضية فلسطين من خلال خطوط الهدنة على مرمى البصر وهي تفصلنا عن ديارنا وأحيائنا ومزارعنا .. حتى البحر.
ثم جاءت صعوبة أخرى بصدد بطاقات الدعوة للمؤتمر.. فقد ألح رجال المخابرات الأردنية أن يذكر أسم المملكة الأردنية الهاشمية في بطاقة الدعوة إلى جانب كلمة " القدس " . وكدت أحمل حقائبي وأعود إلى بيتي قرفاً واشمئزازا من هذه البزنطية التافهة لولا أني كنت مصمماً على إنشاء الكيان بأي ثمن إلا التضحية بالكيان .. ولم تكن بيدي قوة " أقاتل " بها .. فالشعب غير منظم، وليست له قيادة، والإرهاب الأردني باسط ذراعيه، والسجون فاتحة أبوابها، " والثوريون" ينفثون حماسهم في وجهي وأبحث عنهم فلا أجدهم حينما أصطدم بالسلطة الأردنية .. وتدخل السيد روحي الخطيب مرة ثانية واقترح أن يكتب في ذيل البطاقة: القدس – الأردن، وهكذا كان .
ولم أكد أفرغ من عنعنات السلطات الأردنية حتى أطل الجدل الحزبي برأسه، بكل ثقله، وجاءني وفد منهم يحاور ويقول :
-  لماذا دعوت النواب، هؤلاء رجال الملك حسين ..
قلت : نحن في مرحلة صعبة ولا داعي للجدل في الأمور الثانوية .. ويجب أن لا يضيع الهدف وسط دوامة الجدل. إن هؤلاء النواب فلسطينيون قبل أن يكونوا من رجال الملك .. هذا إذا صحت عليهم هذه التهمة..
قالوا : ولكن هؤلاء النواب قد جاؤوا نتيجة لانتخابات مزورة .
قلت : لست مسؤولاً عن ذلك .. ولماذا كنم مختبئين في بيوتكم يوم عمل الملك على تزوير الانتخابات.
قالوا : إن الكيان الفلسطيني يجب أن يكون جهازاً ثورياً لا مكان فيه للرجعيين والبرجوازيين..
قلت : يهمني في هذه المرحلة إنشاء الكيان، ولست في صدد بناء المجتمع الفلسطيني برجوازيا كان أو اشتراكياً .. هذه مرحلة أخرى أتركها لكم .. إن أعظم عمل ثوري في الوقت الحاضر هو أن نتكاتف معاً ونبني الكيان معاً ، وأنا أدعوكم إلى العمل لا إلى الجدل..
قالوا: وهل ستدعى المنظمات الفلسطينية.
قلت : نعم، إن الدعوة موجهة إلى الجميع.
قالوا : وما هي النسب .. لا يجوز أن تمثل هذه المنظمات بالتساوي فهي تتفاوت قوة وعدداً ..
قلت : وهذا لا يهمني أيضاً، حينما يتم تحرير فلسطين وتقوم حكومة فلسطين، ابحثوا عن النسبة العددية في مقاعد البرلمان وفي المناصب الوزارية، أما الآن فنحن في مرحلة إنشاء الكيان، وليس عندي إلا الكيان.
قلت : نحن نرفض الحضور إذا كانت النسبة متساوية.
قلت وسابني الكيان بدونكم .. وأنتم أحرار في الحضور والغياب.
وانصرف هؤلاء الجدليون ليملأوا قاعات الفنادق جدلاً وحواراً ..وراح الشعب يعد الأيام من شهر أيار( مايو) وهو ينتظر الثامن والعشرين، يوماً بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة .. واتخذنا مكتباً لنا في فندق انتركونتنتال للتحضير للمؤتمر .. وتولى الدكتور عزة طنوس "القدس" ومعه نخبة من شباب وشابات القدس الأشراف على الأعمال التنظيمية، وبدأت تتوالى الرسائل والبرقيات والتلفونات حول شؤون المؤتمر، وعامل التلفون يتصل بي ليقول:
هالو بيروت على الخط – اللجنة التحضيرية تتكلم.
-  نعم ماذا تريدون؟
بيروت : نريد أن نوجه الدعوات إلى ممثلي المخيمات.
قلت : موافق .. ما ترونه حسناً فهو حسن.
ثم يتصل عامل التلفون ويقول : دمشق على الخط- اللجنة التحضيرية تتكلم..
دمشق : إن الحكومة تريد توجيه الدعوة إلى سبعة من الفلسطينيين البعثيين .
قلت : موافق .. نحن نرحب بالإخوان الفلسطينيين البعثيين، عسى أن ترضى قيادة البعث على الكيان الفلسطيني، وأن نؤمن بالمبادئ التي ولد من أجلها حزب البعث قبل أن يولد ..
ويتصل عامل التلفون مرة أخرى ليقول : القاهرة علىالخط – اللجنة التحضيرية تتكلم..
القاهرة : إن السفارة الأردنية رفضت إعطاء تاشيرة دخول لممثلي الطلاب لحضور المؤتمر.
قلت : سأتصل بوزارة الداخلية في عمان .
ويعود عامل التلفون ليتصل بي من مطار قلندية ( القدس) ليقول : بعض الصحفيين اللبنانيين على الخط .. إنهم لا يحملون تأشيرة دخول إلى الأردن .. وبعضهم ممنوع دخوله إلى الأردن.
قلت : سأكلم وزير الداخلية في عمان فوراً ..
وهكذا مرت الأيام بالمشاكل المتلاحقة إلى أن أقترب موعد انعقاد المؤتمر فبدأ الوفود يصلون إلى بيت المقدس من كافة أرجاء الوطن العربي، وبلغ عدد مندوبي الشعب الفلسطيني نحواً من 450 عضواً، اختارتهم اللجان التحضيرية ليمثلوا التجمعات الفلسطينية من المحيط إلى الخليج .. وليس تعبير " من المحيط إلى الخليج" .. مجازاً ولكنه حقيقة واقعة؛ فقد اشترك في المؤتمر الوطني الفلسطيني ممثلون عن الشعب الفلسطيني المشرد من المغرب حتى قطر.
واشترك في الاجتماع وزراء خارجية الدول العربية جميعاً، إلا المملكة العربية السعودية، فقد امتنعت عن الحضور، كما أنها لم تسمح لممثلي الفلسطينيين في المملكة بالاشتراك في المؤتمر .. وكان الوفد السوري في أعلى مستوى، فقد كان مؤلفاً من السيدين منصور الأطرش والدكتور حسان مريود وهما من أعضاء مجلس الرياسة، كما كان وفد الجمهورية العربية المتحدة على غير المستوى الذي كنت أطمح فيه، وعلى غير ما تأمل الأمة العربية في القاهرة ، فقد مثل الجمهورية وزير الثقافة الخارجية الدكتور حسين خلاف، ومعه الدكتور حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر في لجنة المتابعة؛ وقد كان ألمي من القاهرة بقدر أملي فيها .. وما أحببت ، فيما بعد، أن أفاتح الرئيس عبد الناصر في الموضوع.
وبدت المملكة الأردنية وخاصة الضفة الغربية، على غير عادتها، فقد شهدت لأول مرة في تاريخها هذا الحشد الفلسطيني الرائع يضم رجالات فلسطين ونساءها وطلابها وعمالها، ومعهم وزراء الدول العربية، يتجمعون في بيت المقدس.
وكان خلف هذا الحدث التاريخي قوتان تتصارعان تحت سطح الماء، تتمثل الأولى في الجماعات الوطنية على الصعيدين الفلسطيني والعربي وتعمل جاهدة لإنجاح المؤتمر، وتتمثل الثانية في المخابرات الأمريكية متحالفة مع بعض الأجهزة الأردنية الرسمية، وكلها تعمل على إحباط المؤتمر، وكان الملك حسين يمسك العصا من الوسط .. فإنه في قرارة نفسه لا يريد الكيان الفلسطيني، ولكنه في الوقت نفسه غير قادر أن يتصدى له علناً أمام الرأي العام .
وقد تجلى ذلك فيما يسمى " بتدابير الأمن العام " والأمن العام منها براء .. فقد أصبح مكان انعقاد المؤتمر في فندق " انتركونتينتال " أشبه بقلعة عسكرية .. ولولا الأعلام العربية التي كانت ترفرف على الفندق ، لكانت كل الظواهر من حوله تنبئ أن الفندق أصبح مقر قيادة" العدو" .
لقد عسكرت المصفحات والدبابات الأردنية حول الطرق المؤدية إلى الفندق .. وأقيمت شرطة عسكرية على المدخل الرئيسي للقندق لا تسمح إلا لحاملي البطاقات بالدخول، وقد انتظر عدد من وزراء الخارجية طويلاً حتى سمح لهم بالدخول .. وانتظر عدد من الوفود الفلسطينية مدة أطول لأنهم نسوا بطاقاتهم في فنادقهم .. وتساءل الكثيرون " لماذا جاء بنا الشقيري إلى الأردن .. ألم يكن من الأفضل أن يعقد المؤتمر في القاهرة أو دمشق أو أية عاصمة عربية أخرى ؟ " وكنت أجيب عن السؤال بسؤال : " وهل تريدون الكيان الفلسطيني أن يولد غريباً، بعيداً عن وطنه".
ولم تقتصر إجراءات الأمن العام على بيت المقدس، فقد احتلت الدبابات الأردنية " مواقع استراتيجية " حول القدس، لتحول دون توافد الجماهير من مختلف أنحاء الضفة الغربية، فقد وصل إلى علم المخابرات الأردنية أن جماهير الشعب ستزحف من كل أنحاء البلاد لتحية المؤتمر والوزراء العرب، وأن الشقيري سيتخذ من هذه المظاهرة الشعبية قوة يتحدى بها الملك حسين ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍..
وسكت الشعب أمام هذه " الخزعبلات " فقد رأى بوعيه الفطري السليم أن لا يعطي السلطات الأردنية أية فرصة لتشويه جلال هذه المناسبة الجليلة.
وأزف ذلك الصباح الجميل (28 أيار) وتكاملت الوفود الفلسطينية والعربية ، وانتشرت في ساحات الفندق جماعات جماعات، والكل يلقون بأبصارهم على مدينتنا الخالدة والسيارات اليهودية تسير في أحيائنا الجديدة من بيت المقدس، والمخافر الإسرائيلية على مرمى البصر.
وكانت تلك الوقفة، الوقفة الأولى في العمر للوفود العربية من غير استثناء، ولكثير من الأجيال الفلسطينية التي هاجرت من الوطن بعد عام 1948 .. وانطلقت الملاحظات الرهيبة والتساؤلات المذهلة، كيف تم كل ذلك؟ كيف احتل اليهود القدس الجديدة؟ كيف انتصرت القلة الإسرائيلية على الكثرة العربية ؟؟ وكنت أشرح لعدد من الوزراء العرب كثيراً من أسباب النكبة .. وكانت تلك الوقفة محاضرة على الطبيعة، عن النكبة وأسبابها..
ووصل الموكب الملكي، ووقفت على الباب الرئيسي، استقبل الملك حسين، وسرت معه إلى قاعة المؤتمر، وإلى المنصة حيث جلسنا جميعاً ومعنا الوزراء العرب والأمين العام للجامعة العربية السيد عبد الخالق حسونة..
وبدأت حفلة الافتتاح. وتكلم السيد روحي الخطيب مرحباً بالوفود باسم بيت المقدس، ثم ألقى الملك حسين إحدى تلك الخطب الإنشائية المعروفة التي يلقيها عادة الملوك والرؤساء في مناسبات القضية الفلسطيني، وجاء بعده السيد عبد الخالق حسونة الأمين العام للجامعة فألقى كلمة بأسم الوزراء العرب متمنياً للكيان الفلسطيني كل توفيق ونجاح .. ثم جاء دوري للكلام، وكان الشعب الفلسطيني يريد أن يسمع مني ماذا يريد هو بالكيان الفلسطيني، وكان الملك حسين يريد أن يسمع مني ما هو دورهم بالنسبة إلى الكيان الفلسطيني ، وكذلك فقد كان العالم الدولي يريد أن يفهم ما هو هذا الكيان الفلسطيني الذي ملأ الشقيري الدنيا دوياً بشأنه..
وكان أول كلامي موجهاً إلى الشعب الفلسطيني فهو الأول والآخر، وهو صاحب القضية فقلت : لقد شهدت هذه المدينة الباسلة منذ أن دخلها سيدنا عمر بن الخطاب وهو يسوق جمله وعليه مولاه، شهدت أياماً فاصلة جليلة اقتحمت على التاريخ العربي طريقه ، فغيرت مجراه، وصعدت به إلى ذروة الأمجاد الإنسانية، وما أيام صلاح الدين الأيوبي إلا واحدة منها؛ واليوم تشهد هذه المدينة حدثاً تاريخياً سيقتحم على الحياة العربية طريقها ليفجر مجراه فيعيد إلى الديار المقدسة عروبتها وحريتها وأمنها وقدسيتها .. ونحن إذ نعقد هذا المؤتمر الوطني تطالعنا هذه المعاني بارزة واضحة، وأكبر هذه المعاني أننا نتجمع لأول مرة بعد ستة عشر عاماً من عمر النكبة.. وهذه أكبر المعاني حقاً ، فقد تألبت على هذا الشعب الباسل قوى الصهيونية والاستعمار متجمعة متساندة، فأقامت إسرائيل على أرضنا، وتحالفت على إخراجنا من وطننا وتشريدنا تحت كل سماء وكوكب، ثم راحت ترهق اللاجئين عاماً بعد عام بالبؤس والحرمان، وهي تحسب أن هذا الشعب لن يتجمع أبداً .. ولكن مؤتمرنا هذا، جاء يعلن للدنيا بأسرها، أننا نحن أهل فلسطين أصحابها الشرعيين قد التقينا – قد اجتمعنا – على تحرير فلسطين.. ونحن هنا وفود فلسطين ، قد تنادينا إلى هذا المؤتمر العتيد على أرض فلسطين، على الخطوط الأمامية من فلسطين، نشهد أرضنا وديارنا، معابدنا ومرابعنا، مدننا وقرانا في الوطن السليب، ونحن هنا لا نمثل الفلسطينيين في سوريا ولبنان والعراق وقطاع غزة، ولكننا نحن هنا شعب واحد، ووطن واحد، وكفاح واحد .. بل إن معنا في هذا المؤتمر إخواناً لنا، نحن نمثلهم لأنهم لا يستطيعون الوصول إلينا، إخواناً لنا يصابرون جهد الطاقة الإنسانية في سبيل حماية عروبتهم وصون لغتهم، أولئك هم إخواننا الفلسطينيون في المنطقة المحتلة؛ إنهم معنا ونحن معهم، إنهم الآن يفتحون أجهزة الراديو، ويستمعون إلينا بقلوبهم وجوراحهم، ونحن معهم على عهد وموعد وكل آت قريب ..وإننا نشهد اليوم أول مؤتمر فلسطيني ينعقد على مقربة من خطوط الهدنة لنعلن على الملأ أن الشعب الفلسطيني مصمم تصميماً لا يلين، عازم عزماً لا ينثني، على تحرير وطنه مهما عظمت التضحيات ومهما طال الزمن .. وأني إذ أتحدث عن كيان فلسطين أجدني أمام حقيقة مفجعة.. إنه تعبير غريب على الحياة العربية والدولية .. ولم يعرف تاريخ الكفاح العربي شيئاً أسمه الكيان المصري أو السوري أو العراقي أو الجزائري، ولم تعرف آسيا الكيان الإندونيسي، ولا أفريقيا الكيان النيجيري، ولا عرفت أمريكا الكيان الكوبي؛ ولكن فلسطين فريدة الكارثة وحيدة الفاجعة .. وواضح أن السبب في ذلك أن كل الشعوب التي ابتليت بالاستعمار بقيت مستقرة في وطنها آمنة في ديارها، تكافح في أرضها، في جبالها ووهادها، ولكن شعب فلسطين قد اقتلع من وطنه وأخرج من دياره، وهدم كيانه فأصبح لا بد له من أن يبني لنفسه كياناً، لينهض بدوره الكامل في تحرير وطنه وتقرير مصيره .. لقد انتهى بنا الأمر بعد ستة عشر عاماً من الكارثة أننا أمام كارثة أخرى، نحن شعب من غير كيان وقضية من غير قيادة؛ وكان السؤال الرهيب أين شعب فلسطين، أين قيادته، أين تنظيماته أين حركته النضالية .. وإنني كواحد من هذا الشعب الباسل أعلن في مؤتمرنا هذا أنه يجب أن يجند القادرون منا على حمل السلاح رجالاً ونساء، وإذا خلا الكيان الفلسطيني من الناحية العسكرية كان كلاماً في كلام، وكياناً من غير كيان .. وعلى هذا أصبح واجباً لزاماً علينا إن يهيأ أبن فلسطين لتحرير فلسطين،أن يهيأ جندياً فدائياً، فحرام أن تظل طاقات الشعب الفلسطيني مهدورة، حرام أن يموت اللاجئون في الخيام بدلاً من أن يستشهدوا في ميدان الشرف .. ذلك كان بعض حديثي إلى الشعب الفلسطيني.
ووجهت إلى الملك حسين حديثاً مباشراً وغير مباشر فقلت، كانت لي اجتماعات كبرى في ضفتي الأردن، لقد شهدت الفلسطيني أردنياً، والأردني فلسطينياً، الكل سواء في الكفاح تجمعهم اخوة المصير والسلاح، واستقر في ضميري أن أهل الكرك وعمان والسلط وأربد عازمون على تحرير فلسطين مع أهل عكا وحيفا ويافا لا جنباً إلى جنب، ولكن قلباً إلى قلب. إن انبثاق الكيان الفلسطيني في مدينة القدس لا يهدف إلى سلخ الضفة الغربية عن المملكة الأردنية الهاشمية، ولكننا نهدف إلى تحرير وطننا المغتصب غرب الضفة الغربية ، ونحن لا نتعرض للكيان الأردني من قريب أو بعيد، فقد كانت هذه الديار على مر التاريخ وطناً واحداً وشعباً واحداً، وما وضعه الاستعمار من حواجز على مدى ثلاثين عاماً أعجز من أن يفصم روابط السنين والأجيال، وإننا لن ننسى أبداً أن القرون الوسطى قد شهدت معارك فلسطين لا على أسوار عكا والقدس فحسب ولكن على أسوار الكرك أيضاً ، ونحن في عهد الصواريخ أجدر أن نرفض التجزئة .. ومن أجل ذلك فإن أي عون عسكري أو سياسي أو اقتصادي للملكة الأردنية إنما هو عون عسكري لفلسطين، وإننا لندعو الأمة العربية بأسرها حكومات وشوباً أن تعتبر أن الأردن هو المنطلق الكبير لتحريي فلسطين، فهنا الهضاب المشرفة، وهنا الجبال المطلة، وفوق هذا وذاك هنا الشعب المتعطش للثأر، المتلهف إلى الجهاد والاستشهاد، وإننا إذ نجتمع اليوم لبناء الكيان الفلسطيني إنما نهدف إلى أن نضيف قوة جديدة في الساحة العربية عامة والأردنية خاصة".
وتحدثت إلى الوزراء العرب مخاطباً الملوك والرؤساء، فقلت " إن الكيان الفلسطيني يبنيه الشعب الفلسطيني وإن دور الدول العربية هو التيسير والتسهيل قبل قيامه، والمعاونة والتأييد بعد قيامه، وإن الكيان الفلسطيني له شخصية حرة مستقلة، يتعاون مع الدول العربية جميعها، داخل نطاق الجامعة العربية وخارجها.. إن الكيان الفلسطيني لا يبنيه الملوك والرؤساء ولا تبنيه الدول العربية ولا الجامعة العربية، إن كيان فلسطين يبنيه شعب فلسطين وهو قادر على بنائه .. إن الكيان الفلسطيني فلسطيني وعربي، أنه فلسطيني البناء، ولكنه عربي الوسائل والإمكانات تقدمها الدول العربية؛ فإذا كانت الوسائل هزيلة كان الكيان هزيلاً، وإذا كانت الوسائل قوية كان الكيان قوياً وثورياً، وإن مصير الكيان مرهون إلى حد بعيد بالدول العربية، فإن بذلت ويسرت ودعمت نهض الكيان بكل الأعباء .. وإنني أعلن بصراحة أننا نحن أهل فلسطين سنرفض السير في أي طريق إلا طريق الكفاح والسلاح، فقد سئم شعب فلسطين ومعه الأمة العربية القرارات التي لا تنفذ والتصريحات التي لا تطبق.. إن قضية فلسطين ليس لها حل سياسي أو دبلوماسي، وليس لها حل في الأمم المتحدة ولا في المحافل الدولية الأخرى، إن قضية فلسطين لا تحل إلا في فلسطين، ولا تحل في فلسطين إلا بالسلاح والكفاح ولا تحل في فلسطين إلا بالسلاح والكفاح، ولا تحل في فلسطين إلا بتعبئة الأمة العربية حكومات وشعوباً وفي مقدمتها شعب فلسطين".
وتحدثت إلى العالم الدولي وقلت" إنا نعلم أن قضية فلسطين باعتبارها قضية تحريرية لا تحل إلا كما حلت جميع القضايا التحريرية في العالم، ولذلك نعلن من هذا المؤتمر أننا نأبى أنصاف الحلول، نحن نرفض التقسيم، نحن نرفض التدويل ، نحن نرفض التوطين .. وإنني على يقين، ونحن اليوم على بداية الطريق أننا لن نقف وحدنا، فإن معنا أولاً الدول العربية ونحن معها، ومعنا ثانياً الدول المتحررة في أوروبا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة الدول الاشتراكية، ومعنا ثالثاً أحرار العقل والضمير في كل أرجاء العالم .. وإنكم لترون أنني لم أشر إلى الدول الغربية، فالسياسة الغربية هي التي أوجدت إسرائيل، وما تزال تمدها بالسلاح والمال، والسياسة الغربية هي التي ما فتئت تعلن أن إسرائيل وجدت لتبقى".
ولم أشأ أن أنهي خطابي في المؤتمر الفلسطيني، وأنا أقف أمام التاريخ وجهاً لوجه إلا أن أكشف بصورة هادئة وديعة الموقف السلبي الذي وقفه الأمير ( الملك فيصل) من موضوع الكيان الفلسطيني، فقلت في سياق حديثي عن زياراتي للدول العربية : " ولو أتيح لي أن أزور الجزيرة العربية لرأيت فيها المشاعر العربية نفسها التي شهدتها أثناء تجوالي في الوطن العربي، وأنا على يقين أنها تتطلع لتأييد فلسطين والكيان الفلسطيني".
وانتهى خطابي الذي وجهته إلى الجميع، وبه أنتهي حفل الافتتاح، وخرجنا نودع الملك حسين، وقد بدا على أساريره الارتياح لأننا لا نريد سلخ الضفة الغربية وأن المملكة الأردنية بخير.
وعاد المؤتمر إلى الاجتماع فقرر انتخابي رئيساً، وانتخب مكتب الرياسة فكان السيد حكمت المصري (نابلس) وحيدر عبد الشافي ( غزة ) نائبين للرئيس، وانتخب السيد نقولا الدر ( شفا عمرو) أميناً للمؤتمر.
وانصرفنا إلى جلسات العمل فانقسم المؤتمر إلى عدة لجان سياسية وعسكرية وإعلامية وتنظيمية ومالية، وتعاقبت الجلسات ليلاً ونهاراً وكان الأعضاء يعملون بحماس منقطع النظير، بروح مليئة بالعزم والتصميم؛ ولم تكن تخلو اللجان من بعض الجدليين المولعين بفلق الذرة، ولا من اللغويين المغرمين بما سمع عن العرب وما لا يسمع؛ ولكن روح البناء كانت غالبة، فقدمت اللجان تقارير قيمة في الموضوعات التي وكلت إليها؛ وفي الوقت الذي كانت فيه اللجان تعمل داخل المؤتمر كنت مشغولاً في حجرتي والتلفون إلى جانب سرير، أدرأ عن الكيان الفلسطيني المؤامرات والإشاعات وما كان أكثرها.
وبلغنا اليوم الأخير في الاجتماعات فانعقد المؤتمر بهيأته الكاملة، فأقر الميثاق والنظام كما قدمتهما إلى المؤتمر بعد إضافة ديباجة في مقدمته.. وكنت في خطاب الافتتاح قلت بصدد الميثاق " إني أعرضه ولا أفرضه .. وإذا رأى غيري طريقاً آخر لبناء الكيان فإني مستعد أن أسير وراءه". وقد أحسست بغبطة كبرى، بعد ما بذلت من جهد وقاسيت من عناء أن، المؤتمر لم يكتف بإقرار الميثاق فحسب، ولكنه قرر اعتماد خطابي الافتتاحي كبيان إيضاحي لمفهوم الكيان الفلسطيني..
وقد ناقش المؤتمر تقارير اللجان نقاشاً علمياً موضوعياً، فاعتمدها بعد أن أدخل عليها بعض التعديلات، وكانت جلسات المؤتمر ولجانه غاية في النظام والاحترام، إلا حينما صاح أعضاء المؤتمر يريدون مني أن أكشف حقيقة موقف السعودية من الكيان الفلسطيني، والسبب في عدم اشتراكها في حفل الافتتاح مع الحكومات العربية الأخرى؛ وكان جو المؤتمر غاضباً، فناشدت الأعضاء إيقاف البحث في الموضوع وأن يتركوا لي معالجة الأمر " بصورة أخوية" مع الحكومة السعودية، ونحن لا نريد " أن ندخل في خلاف مع أية حكومة عربية ".
وفي الجلسة الختامية أعلن المؤتمر الوطني قيام " منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني وقائدة لكفاحه من أجل تحرير وطنه، وانتخبني رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، مخولاً إياي بموجب النظام الأساسي، أن أختار أعضاء اللجنة التنفيذية.
وكان ذلك اليوم ميلاد الكيان الفلسطيني، مؤذناً بانبثاق الشخصية الفلسطينية يجسدها : قيادة فلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني، وأجهزة إعلامية وإدارية وتنظيمية، وجميع هذه المؤسسات القومية لم تكن موجودة خلال خمسة عشر عاماً، وهي الآن تولد من العدم وتبدأ من الصفر.. وكل إمكاناتها عزم الشعب الفلسطيني على تحرير وطنه وإيمان من الأمة العربية بقضيتها المقدسة.
ووقفت لأقول الكلمة الأخيرة في المؤتمر، وقد أُلقيت على أكتافي مسئولية كبرى وأمانة عظمى، في وجه مصاعب مضنية وتحديات عسيرة، فأخذتني العزة بشعبنا، وقلت : لقد جئتكم إلى هذا المؤتمر مختاراً من قبل الملوك والرؤساء، ولكنكم قلدتموني شرفاً أعظم، فأنا الآن مختار من قبل الشعب الفلسطيني، وأن أمامي مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية وأنه ليسعدني أن أحضره باسمكم وأن أتكلم بلسانكم، وأن أجلس إلى جانب الملوك والرؤساء أحك كتفي بأكتافهم.. وسأحمل أمانتكم إليهم وأفصح عنها بصيحتكم بل بغضبتكم .. ونحن على موعد مع النصر".
عدت إلى القاهرة وفي حقيبتي ملفات المؤتمر، وكأنما جبال هملايا على أكتافي، فإن الذي يعرف مصاعب القضية الفلسطينية في مستوياتها الفلسطينية والعربية والدولية، يفهم ما أعني، ويفهم ما أقول.
ومن الذين يفهمون ما أعني وما أقول وزير الخارجية السوفيتية السيد أندريه جروميكو فقد رافق القضية الفلسطينية منذ عام 1947.. وقد لقيته في مناسبات لاحقة بعد قيام منظمة التحرير فقال لي :
-  لست أدري هل أُهنيك أم أعزيك .. إنها " جرأة كبرى " أن تعمل لتحرير فلسطين .. وكان يعني أنها " حماقة كبرى ".
فلت : نعم إنها حماقة كبرى .. ولكنها يا صديقي قضية وطن، والحماقة الكبرى من أجل الوطن تصبح حكمة كبرى .. إن الحب والعقل لا يجتمعان ..
قال : وماذا تعني . أنتم عاطفيون بلا حدود .
قلت : حينما تعود إلى الاتحاد السوفيتي، أطلب إلى أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة موسكو أن يكتب لك ترجمة شعرية بالروسية لما قاله شاعر الحب الإلهي أبن الفارض حين قال :
والحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل
فما اختاره مضنى به وله عقل
ووعدني أن يفعل ..
ومضيت بدوري، ومن غير عقل، أستعذب كل عذاب في سبيل هذا الحب الإلهي، مضيت أبني منظمة التحرير الفلسطينية في الأربعة أشهر الباقية أمامي، لأعلن لمؤتمر الملوك والرؤساء في الإسكندرية في شهر سبتمبر من عام 1964 – هذا هو الكيان الفلسطينيين هذه هي منظمة التحرير .. وما جئنكم لأقول لكم " أذهب أنت وربك فقاتلا أن ههنا قاعدون" ..
ولكننا جئنا نقول " اذهب أنت وربك فقاتلا أنا معكم مقاتلون" ...
" وإن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا"
صدق الله العظيم

حوار مع الأمير فيصل..
في الإسكندرية

انتهى المجلس الوطني الفلسطيني في أوائل حزيران عام 1964، وابتدأت معه متاعبي، فكان عليَّ بادئ ذي بدء أن أختار قيادة المنظمة، ولم يكن هذا العمل سهلاً، فإن إنشاء حكومة لشعب مستقر في دياره، آمن في وطنه هو أمر بالغ الصعوبة، فكيف الحال باختيار قيادة لشعب مشرد ليس له سلطان على وطنه.
ثم إنه كان عليَّ أن أبدأ من العدم " فليس لدينا مؤسسات وطنية، وليس بيدي سلطان ولا قانون، وكل " السلطة" التي بيدي هو قداسة القضية الفلسطينية لدى الشعب الفلسطيني والأمة العربية، مضافاً إلى ذلك جهدي الطويل المتواضع في هذه القضية المقدسة.
وخلوت طويلاً إلى نفسي وأنا أفكر في الأشخاص، أشخاص القيادة الفلسطينية، فلا بد من اختيار أناس يرضى عنهم الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته وترضى عنهم الحكومات العربية، أو على الأقل أن لا يكونوا من الأشخاص " غير المرغوب فيهم"، ووجه الصعوبة في هاتين القاعدتين، أن الأشخاص غير المرغوب فيهم لدى الحكومات العربية هم الأشخاص الذين يرضى عنهم الشعب الفلسطيني، ومن هنا ينبع أول التناقضات " البسيطة " بين مشيئة الحكام العرب، ومشيئة الشعب الفلسطيني.
وقد تجسدت هذه الصعوبة أمامي بالنسبة لاختيار القادة الفلسطينيين من الأردن . . فالوطنيون المرموقون من أبناء الضفة الغربية لا يرضي الملك حسين عن اختيارهم قادة لمنظمة فلسطينية قد أكرهته الظروف على قبولها والاعتراف بها، هذا فضلاً أن الملك حسين كان حريصاً أن يكون قادة المنظمة من الفلسطينيين الذين يصدرون عن رغباته وينصاعون لمشيئته !!
ومثل هذه الصعوبة كانت واضحة، ولو بنسبة أقل، في قطاع غزة، فإن الإدارة المصرية في القطاع لم تكن كما يريدها عدد من الفلسطينيين في جميع الأحوال، ونتج عن ذلك أن نشأت فئة من المثقفين الفلسطينيين، من أبناء غزة، يعز عليهم أن ينحنوا أمام الحاكم الإداري للقطاع.
أما بالنسبة إلى دمشق فلم يكن لحكومتها آنذاك أي موقف بصدد اختيار القيادة الفلسطينية، لأنها نفضت يديها من البداية من منظمة التحرير الفلسطينية، فهذه أداة ناصرية، والشقيري من رجال عبد الناصر .. وقد وجدت لهم العذر في ذلك، لأنهم لا يعرفون مكاني في العمل السوري، في ميدان الأمم المتحدة، مستقلاً بعيداً عن الولاء إلا للقضية العربية التي عشت لها كل عمري، ولعل السبب أنني لم أكن حزبياً، وبالتالي لست وطنياً .
وإلى جانب هذه الصعوبات فقد قامت أمامي مشكلات فلسطينية صغيرة لم تكن جماهير الشعب الفلسطيني تأبه لها، وإنما كان يثيرها " الزعماء " الفلسطينيون الصغار، الطامعون بأن يكونوا في قيادة منظمة التحرير .. فقد خرجت أصوات من الضفة الغربية وأن أكثرية اللجنة التنفيذية يجب أن تكون من أبناء فلسطين في الأردن، حسب نسبتهم العددية، فتلك هي الديمقراطية .. وإلا فإن المنظمة لا تمثل الشعب الفلسطيني .. وخرجت أصوات أخرى من قطاع غزة تقول إن القطاع متحرر، ويجب أن يكون قاعدة النضال الفلسطيني، حيث لا يسيطر الملك حسين. وخرجت أصوات أخرى من بقية التجمعات الفلسطينية تنادي بأن القيادة الفلسطينية يجب أن تكون بحسب الكفاءة والثورية، من غير ما نظر إلى العوامل الإقليمية .. وقد كنت أعرف مقاييس الكفاءة، ولكني كنت في تيه من مقاييس الثورية !!
ووقعت بين براثن هذه المصاعب والمشاكل، وبرز الموضوع على صفحات الصحف وبعضها تنهش في عظمي، ومن ورائها منشورات المنظمات الحزبية، ولم تتردد كذلك صحف القاهرة عن خوض هذا المضمار، وكنت أدخرها لأن تساهم معي في البناء والإنشاء، لا في التشكيك والتنديد.
وفكرت أن أقوم بجولة أخرى على التجمعات الفلسطينية، للتشاور والتعاون، فلست أمام شعب في أرضه أستطيع أن اتصل به فوراً، ولكني أمام شعب متمزق في أرجاء الوطن العربي، وعليَّ أن أسافر إلى البحرين مثلاً لألتقي بمئتي فلسطيني يرون أنهم بكفاءتهم أحق من غيرهم بالقيادة والمشورة.
وكانت جولتي نهارية ليلية، نهارية بالطائرات، وليلية بالندوات والاجتماعات ووجدت العجب العجاب من التمزق بين " القادة" الفلسطينيين، لا أكاد أجد أثنين يتفقان على موقف واحد، وهؤلاء " القادة " يعدون بالألوف: وتلك ظاهرة في الشعوب التي تصاب بكارثة قبل أن تسترد نفسها ونضالها ..
وكنت أجد في كل وطن من أوطان العرب، منظمات فلسطينية، تجمع بعض الشباب تحت لوائها، وكل منها ومنهم يظن إن طريقة هو الطريق إلى فلسطين.
وعاودت الكرة إلى التنظيمات الفلسطينية، أطالبها بأن تقدم لي مرشحيها لأختارهم في القيادة الفلسطينية ولكن هذه التنظيمات كانت ترى في تجربة إنشاء منظمة التحرير محرقة، وليحترق الشقيري وحده، ولتبق هذه المنظمات بعيدة عن النار!!
وفي عمان أثار الملك حسين أعوانه وأنصاره يطلبون أن أختار " العقلاء والمعتدلين " وفي نظرهم أنهم هم العقلاء والمعتدلون.
وفي نهاية المطاف وقع اختياري على القيادة الفلسطينية، من أبناء الضفة الغربية ومن قطاع غزة، ومن الفلسطينيين في سوريا ولبنان، وأحسب أني لم أكن مخطئاً في اختيارهم فأنهم مواطنون مخلصون .. وقد استراح الشعب لهذا الاختيار لأنه كان على علم بمصاعبي مع الحكومات العربية، ومع هذا الذي يسمى، بالمنظمات الفلسطينية .. وأنا أعني جلهم لا كلهم ..
وقد تعاقب على عضوية اللجنة التنفيذية في دوراتها المتعددة السادة : عبد الرحمن السكسك (يافا) خالد الفاهوم ( الناصرة)، عبد الخالق يغمور
( الخليل )، بهجت أبو غربية ( القدس)، نمر المصري ( الرملة)، أحمد صدقي الدجاني ( يافا)، أحمد السعدي ( طولكرم) الدكتور أحمد سروري
( نابلس)، الدكتور أسامة النقيب (صفد)، الدكتور حيدر عبد الشافي (غزة)، شفيق الحوت ( يافا)، راجي صهيون ( حيفا)، اللواء وجيه المدني ( يافا)، يوسف عبد الرحيم (صفد ) الدكتور وليد قمحاوي ( نابلس) نقولا الدر
( حيفا)، مجدي أبو رمضان (غزة)، فلاح الماضي (حيفا)، الدكتور داود الحسيني ( القدس)، حامد أبو ستة، إبراهيم أبو ستة ( بئر السبع )، عبد المجيد شومان ( القدس)، يحي حمودة ( القدس)، جمال الصوراني (غزة)، الدكتور قاسم الريماوي ( رام الله)، قصي العبادلة (غزة)، الدكتور فائز صايغ (طبريا)، فاروق الحسيني (غزة) سعيد العزة الخليل).
ولا بد لي أن أعترف أنه لدى الشعب الفلسطيني وفرة من الكفاءات ولكن ماذا أصنع بهذه الكفاءات .. هذا لا يريد أن يترك منصبه الجامعي حيث الراتب الكبير، والوسط العلمي الوادع والترف الاجتماعي .. وهذا لا يريد أن يترك عمله في البنك أو الشركة وهو أحد المؤسسين ويخشون أن تنهار المؤسسة إذا تخلى عنها .. وهذا لا تسمح له قيادته بأن يترك حزبه ويدخل في منظمة أنشئت في إطار الجامعة العربية .. وأخيراً هذا العقائدي الذي لا يؤمن بقيام المنظمة قياماً " فوقياً " بل يريدها أن تنشأ نشوء " تحتياً " تعبر عن مشيئة الجماهير !! وهو يتجاهل أن منظمته قامت قياماً " فوقياً " لا تحتياً...
ودعوت القيادة الفلسطينية التي اخترتها إلى الاجتماع لأول مرة في بيت المقدس وكنا قد استأجرنا مبنى مؤلفاً من أربعة طوابق مجاوراً لفندق امباسادور .. فعقدنا اجتماعنا في إحدى الغرف، ولم يكن في المبنى شيء من الأثاث؛ فاستعرنا من الفندق بعض الكراسي. ونصبنا الألواح إلى جانب بعضها بعضاً وجعلنا منها طاولة، وعقدنا الجلسة الأولى للجنة التنفيذية التحرير الفلسطينية وكنا أشبه بواحة صغيرة في المملكة الأردنية الهاشمية .. تمر " الباصات " والسيارات إلى جوارنا بين القدس ونابلس، والمسافرون ينظرون إلى علم فلسطين مثبتاً على سارية المبنى، وهم مشفقون على هذه الحفنة من الشباب الذين جاءوا ليحاولوا رفع هذا " الحمل " الكبير الثقيل الذي سقط على الأرض، منذ عشرين عاماً، هذا الحمل الذي أسمه قضية فلسطين .
وقضينا أسبوعاً بكامله ونحن نتداول الرأي في شئون منظمة التحرير، اختصاصها، خططها، تمويلها، وسائر أمورها.. وكان أول إنجازاتنا في تلك الجلسة إنشاء الصندوق القومي الفلسطيني على الورق، فقد اخترنا أعضاء مجلس إدارة الصندوق من كبار أصحاب الأعمال والأموال الفلسطينيين يرأسهم السيد عبد المجيد شومان المدير العام للبنك العربي..
ولم نكد نفرغ من أعمال تلك الدورة، حتى تعالت صيحات " العقائديين " الفلسطينيين بأن منظمة التحرير الفلسطينية هيئة برجوازية حشرت الأغنياء والموسرين في مجلس إدارة الصندوق القومي !!
وانصرفت إلى بيتي في لبنان، غير مبال بهذه الصيحات، لأعد الخطة الشاملة المتكاملة لنشاطات منظمة التحرير على ضوء الخطوط العريضة التي اتفقنا عليها في اللجنة التنفيذية في اجتماعها الأول في مقرها الدائم في بيت المقدس، وأصبح بيتي في كيفون – لبنان – خليّة نحل .. الصحفيون العرب من كل أقطار العرب وكلهم يريدون حديثاً .. حتى إذا تحدثت قالت الصحف ذاتها إن الشقيري يحب الكلام .. وإن امتنعت عن الحديث قالوا، إن الشقيري لا يقوم بواجب الدعوة والإعلام للقضية الفلسطينية!!
وتزاحم مندوبو الوكالات الأجنبية من كل إنحاء العالم ، كلهم يريدون إن يتعرفوا على هذا المولود الجديد الذي اسمه منظمة التحرير، وما هي أهدافه ونشاطاته .. وهل يريد أن يحارب.. أو يريد أن يسالم .. ونحن يومئذ ليست لنا طاقات الحرب، وأنَّى لنا أن نتحدث عن السلام وشعبنا شريد ووطنا تحت الاحتلال .. وكيف يأتي التحرير عن طريق السلام ..
وانصرفت أؤدي واجبي في هذا المجال الإعلامي معظم النهار، وأعقد ندوات التخطيط معظم الليل. وكان هذا التخطيط حاجة قصوى في تلك الفترة من حياة المنظمة .. فلا يمكن أن يبدأ العمل من غير خطة. ثم إن مؤتمر الملوك والرؤساء يوشك أن يعقد في الإسكندرية، ويجب أن نضع خطة نتقدم على أساسها بمطالبنا المالية والسياسية.
وأخذت أستعين بالخبراء الفلسطينيين فيما يتعلق بالشؤون الإعلامية والمالية. وعرضت رأيي بالنسبة للجانب الإعلامي، وأننا في حاجة إلى إذاعة نتصل عن طريقها بالشعب الفلسطيني وبالأمة العربية، فقد طال العهد على قضية فلسطين وهي بعيدة عن شعب فلسطين وعن الأمة العربية، واقترحت أن تكون لنا إذاعة خاصة بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأن تنشئ جريدة تكون مكرسة لخدمة القضية الفلسطينية، هذا بالإضافة إلى إنشاء مكاتب للمنظمة في العواصم العربية ولدى الدول الصديقة، يكون من مهامها شرح القضية الفلسطينية؛ وهكذا أعددنا للناحية الإعلامية خطة كاملة .
وبالنسبة للجانب المالي فقد عقدت جلسات متعددة مع الخبراء المختصين، وطرحت عليهم فكرة إنشاء " المؤسسة المالية لتحرير فلسطين " لتنظيم الجباية الشعبية من الأمة العربية، عن طريق فرض ضريبة صغيرة على البترول والكحول والدخان وما إلى ذلكن تنفق حصيلتها على ثلاث جهات: القيادة العربية الموحدة، الأردن لإنقاذه من المعونة الأجنبية ، وأخيراً منظمة التحرير الفلسطينية لمساعدتها في تنفيذ برامجها العسكرية .. وقد خرجنا من هذه الدراسات بمشروع مفصل شامل، وبلغت تقديرات الجباية الشعبية مبلغ مئة مليون جنيه إسترليني .
أما الجانب العسكري فقد أوليته كل اهتمامي وكرست له معظم وقتي، وأخذت، كل ما لقيت أحد أصدقائي العسكريين من مصر وسوريا والعراق وغيرها، أدعوه إلى منزلي وأقضي معه الساعات الطوال بحثاً عن الخطة الملائمة لإنشاء قوات عسكرية فلسطينية وإنشاء معسكرات لتدريب أبناء فلسطين على حمل السلاح ..
وكان هذا الموضوع بالغ الصعوبة فالمنظمة لا تملك أرضاً ولا سيادة والشعب مشرد مشتت، وليس من السهل أن ترضى الدول العربية بأن تكون على أراضيها قوة فلسطينية مسلحة، إلا أن تكون أمورها في قبضة يدها.. ورحت أبحث عن فلسطيني له خبرة وثقافة عسكرية، وتبين لي أن الكثيرين من الضباط الفلسطينيين في دمشق قد تقلبوا على الانقلابات العسكرية السورية، أما الضباط الفلسطينيون في قطاع عزة فلم يكونوا قد بلغوا درجة عالية .. وخطر على بالي بأن أستعين بالزعيم شوكت شقير ( رئيس أركان الجيش السوري سابقاً) وكنت عرفته عسكرياً مثقفاً، مارس الشئون العسكرية، وقد عاد إلى لبنان بعد أن عصف به واحد من الانقلابات العقائدية، فدعوته إلى منزلي وتدارست معه الخطة العسكرية، وطلبت إليه أن يعد خطة في هذا الموضوع لأعرضها على مؤتمر الملوك والرؤساء .. وانقضى أسبوعان وجاءني الزعيم شوكت شقير بمذكرة وافية تتناول النواحي التنظيمية والإدارية والمالية لإنشاء كتائب فلسطينية، خفيفة الحركة، مسلحة سلاحاً خفيفاً ومتوسطا، تستطيع أن تقوم بمهمة حرب العصابات.
وبهذا تكاملت لديَّ خطة كاملة لعمل منظمة التحرير الفلسطينية تتناول النشاطات العسكرية والسياسية والإعلامية والمالية والتنظيمية، وضمت هذه الخطة إلي ملف المجلس الوطني الذي انبثقت عنه منظمة التحرير الفلسطينية، وبقيت انتظر انعقاد مؤتمر الملوك والرؤساء في الإسكندرية، وأنا أطمع في الوصول إلى هدفين : الأول الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني، والثاني الموافقة على الخطة الشاملة التي أعددتها، وتوفير الأموال اللازمة لها.
واقترب اليوم الخامس من شهر سبتمبر 1964 موعد انعقاد مؤتمر القمة في الإسكندرية، ونشطت خلال ذلك حركة التخريب على منظمة التحرير الفلسطينية، وتولى قيادة هذه الحركة بعناد وصلابة ومثابرة الحاج أمين الحسيني، فقد جرد من بقي له من أعوان في التجمعات الفلسطينية ومخيمات اللاجئين، يستكتبهم العرائض إلى الملوك والرؤساء ليعترضوا على قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وأنها لا تمثل أحداً من الشعب الفلسطيني، وأعد الحاج أمين ملفاً زنكوغرافياً بهذه العرائض أرسله إلى الجامعة العربية ووزع مثله على وزارات الخارجية العربية، وكانت هذه العرائض هزيلة بمضمونها وبتواقيعها .. ونشطت إلى جانب ذلك الإذاعة الإسرائيلية ووكالات الإنباء الخاضعة للنفوذ الصهيوني وراحت تشنع على قيام الكيان الفلسطيني، وأنه كيان الشقيري، ومن هنا انطلقت عبارة " منظمة الشقيري" وتداولتها بعد ذلك السنة المرجفين وأقلام المتخرصين.
ولم تقف الولايات المتحدة مكتوفة اليدين أمام الحدث الكبير، قيام منظمة التحرير الفلسطينية، فقد كانت توجس خيفة من انبثاق الكيان الفلسطيني، ذلك أنها كان ترى أن القضية الفلسطينية، بعد هذه الأعوام الطوال، آخذة طريقها نحو التصفية، وأن الأمر قد استتب لإسرائيل فما معنى قيام منظمة فلسطينية تعلن أن هدفها هو زوال إسرائيل وتحرير فلسطين.
وكان بديهياً، لذلك، أن تقوم الولايات المتحدة بحملة دبلوماسية في العواصم العربية تحذر من قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وترى فيها خطراً على الأمن في الشرق الأوسط، وعودة إلى القتال، بعد أن أيقنت أن الأمور في حسابها صائرة إلى التعايش مع إسرائيل وإقرار السلام مع الدول العربية، ولو بصورة غير معلنة ، كالدستور البريطاني موجود، ولكنه غير مكتوب.
وكان موقف أمريكا هذا من المنظمة واضحاً معروفاً، ولكني كنت أتطلع إلى الدليل المادي .... ذلك أن بعض العرب كانوا لا يؤمنون إلا إذا أنزلت عليهم كتاباً يقرأونه.. وحمداً لله فقد نزل الكتاب .. وتلخيص ذلك أن أخاً كويتياً يشغل منصباً كبيراً في الدولة الكويتية، امتلأ قلبه بالعروبة، جاءني إلى بيتي وأنا أتهيأ للسفر إلى مؤتمر الإسكندرية، ودفع إلي صورة فوتوغرافية عن مذكرة " Aide Memoir" موجهة من السفارة الأمريكية في الكويت إلى الحكومة الكويتية تحذر من قيام " الكيان الفلسطيني" و " صوت القدس " وإنشاء قوات فلسطينية، وأن " الولايات المتحدة تتطلع إلى نجاح الجهود الدولية عن طريق الأمم المتحدة وخارجها للوصول بالقضية الفلسطينية إلى تسوية سلمية ..".
وكانت هذه المذكرة الأمريكية، متطابقة في نصها وروحها، مع المذكرة الأمريكية التي قدمها السفير الأمريكي إلى الديوان الملكي في عمان.. كما أشرت سابقاً .. وضممت هذه المذكرة إلى ملف المنظمة ، وحملته مع آمالي ومخاوفي إلى الإسكندرية، إلى فندق فلسطين حيث يتوافد الملوك والرؤساء لعقد اجتماعهم التاريخي الثاني..
وسافرت إلى الإسكندرية ومعي أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ليكونوا على مقربة من اجتماع القمة، ودخلنا سراي المنتزه على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وصعد بي رجال البروتوكول إلى الجناح المخصص لي في الفندق، وكان العمال قد فرغوا منه قبل بضعة أيام، فقد كانوا يعملون ليلاً نهاراً ليهيأوه للملوك والرؤساء، وكأنما كانت معاولهم تصيح مع آمالهم: هيا إلى فلسطين من فندق فلسطين ..
وبادرت إلى زيارة الملوك والرؤساء أجامل وأتودد، وأشرح الخطوط العريضة لمخطط منظمة التحرير الفلسطينية، وكانوا يستمعون باهتمام وعناية وعلى وجوههم تساؤلات كثيرة : ماذا يستطيع الشعب الفلسطيني أن يصنع، كيف تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية أن تشق طريقها؟ وهل إنشاء قوات فلسطينية أمر معقول؟
وكانت لقاءاتي بالملوك والرؤساء تسودها روح المجاملة والانفتاح إلا مع أثنين : الأمير (الملك) فيصل، والرئيس السوري الفريق أمين الحافظ .. فقد زرت الأمير فيصل في جناحه ومعي أعضاء اللجنة التنفيذية، وشرحت وشرحت، ولكنه كان بذكائه ودهائه يدير الحديث إلى مواضيع أخرى فيتبسط عن الأمم المتحدة ودورها في قضية فلسطين ثم يستشهد حيناً بعد حين " بالأخ" أحمد .. كان مجاملاً متودداً، مؤيداً لقضية فلسطين، لكنه حرص أن لا تخرج من فمه كلمة التزام بالنسبة لمنظمة التحرير .. وخرج زملائي مسرورين منشرحين من هذه المقابلة وهم يسألونني رأيي : قلت لا بد أن تقضوا سنين طويلة مع الأمير فيصل حتى تعرفوه .. إن الأمير فيصل أبن الصحراء، وهو يعرف كيف يشرد ما تشرد غزلانها..
وانتقلنا بعد ذلك إلى جناح الوفد السوري، وتحدثت إلى الرئيس أمين الحافظ وزملائه عن إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وخططنا المقبلة، وخرجنا كما دخلنا، فإن الوفد السوري لم يتحدث ولم يجامل، ولو إني استنطقت الجدران في تلك الساعة لنطقت، ولكن الوفد السوري لم ينبس ببنت شفة، فإن المنظمة في نظرهم إلى ذلك العهد، جهاز من أجهزة الرئيس عبد الناصر، والشقيري واحد من رجال عبد الناصر، ومؤتمر القمة في مجموعه دون مستوى الأحداث، وخرجت من جناح الوفد السوري وأنا أندب حظي مع دمشق وقد كنت أدخرها لتأييد المنظمة، ولو من ناحية فكرية على الأقل .. ولم أدر إلا بعد حين أن القيادة القومية لحزب البعث آنذاك كانت قد قررت أن تقف من المنظمة موقفاً سلبياً لأسباب " موضوعية "، والواقع أن السبب الموضوعي كان أني لست بعثياً، وأن المنظمة لن تكون مؤسسة بعثية .. وأنها ربطت نفسها في عجلة الناصرية .. ذلك كان منطق قادة الشعب، وهو منطق يعوزه المنطق !
وعدت إلى جناحي لأجد رجال البروتوكول ومعهم رسالة من الرئيس اللبناني الأستاذ شارل الحلو .. إنه يريد أن يزورني، فاتصلت به تلفونياً لأعرب له عن رغبتي بأن أبدأه بالزيارة فأصر على أن يزور " دولة الأخ أحمد .. " وما هي إلا دقائق حتى جاء الرئيس الحلو ومعه أركان الوفد اللبناني فابتدأ الحديث معرباً عن ارتياحه لقيام منظمة التحرير الفلسطينية، فإنها " على الأقل تنسق مع السلطات اللبنانية الشئون المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين في لبنان " .
وعاد الرئيس الحلو، في حديث حلو، عن ذكرياتنا المشتركة في الأمم المتحدة في قصر شايوه في باريس 1951، دفاعاً عن القضية الفلسطينية، وأخذ يسرد الوقائع والأحداث كأننا نعيش لساعتنا .. والرئيس الحلو واحد من حكام العرب القلائل الذين يقرأون ويكتبون، ولست أعني " يفكون " الحرف .. ثم تطرق إلى مشروع تحويل الروافد وما يفرضه من التزامات مالية وعسكرية على لبنان، وختم حديثه يطلب النصيحة من" دولة الأخ أحمد، الذي يعرف مصاعب لبنان، وتذكرون أن الرئيس السابق الشيخ بشارة الخوري كان عرض عليكم الجنسية اللبنانية الفخرية لخدماتكم للبنان " قلت للرئيس حلو : أشكركم على هذه التحية .. ورحم الله الشيخ بشارة الخوري فقد اعتذرت إليه عن قبول الجنسية الفخرية، فأنا مواطن لبناني قانوناً ذلك لأني ولدت في قلعة تبنين ( لبنان حيث كان والدي رحمة الله معتقلاً في زمن الدولة العثمانية)(1).
قال الرئيس حلو : وإني أطلب نصيحتك كمواطن لبناني، هل أعرض الأمر على مجلس الملوك والرؤساء .. إن الموضوع خطير ..وأنت تعرف ملابساته في لبنان .. إن تحويل الروافد يتطلب حماية عسكرية ، والجيش اللبناني لا يستطيع النهوض بهذا الواجب .. ومن الصعب اقناع البرلمان اللبناني بالموافقة على دخول جيوش أخرى .
قلت : لست أكتم الرئيس الحلو إني غير مؤمن بموضوع تحويل الروافد .. وإن كان هذا الموضوع الذي اجتمع من أجله مؤتمر القمة العربي في القاهرة .. فإذا كانت الدول العربية قادرة على حماية مشروع تحويل الروافد عسكرياً، فالأجدر أن يحموا حدودهم، وأن يطلقوا الشعب الفلسطيني إلى المعركة لتحرير وطنه.
قال الرئيس حلو : وماذا تنصح بالنسبة إلى لبنان.
قلت : ليس عندي إلا نصيحة جحا.
قال : وما هي نصيحة جحا ..
قلت يقول جحا : " اللي طلع الحمار على المأذنة يقدر ينزله "
قال وماذا تعني ؟
قلت : عليك بالرئيس عبد الناصر، هو الذي فتح موضوع تحويل الروافد .. اشرح له مصاعب لبنان، وأعتقد أنه يستطيع أن يجد لك " الفتوى " إذا ما طرح الموضوع على بساط البحث.
فانصرف الرئيس الحلو، وهو مبتهج لنصيحة جحا .. فقد جاءت قرارات المؤتمر فيما بعد، وفيها صياغة ترضي لبنان.
وقضيت ليلتي وأنا أعد خطابي الذي سألقيه في المؤتمر، وعرضته على زملائي فقال بعضهم إنه متطرف، وقال آخرون إنه معتدل، قلت لهم حين تجمعون على رأي سأستمع إليكم!!
وحملت أوراقي إلى قاعة المؤتمر، وقادني رجال البروتوكول إلى صالة الانتظار حيث يجتمع الملوك والرؤساء، يتصافحون ويتهامسون .. ووقفت مع الرئيس عبد الناصر أهمس في أذنه خلاصة المذكرة الأمريكية الموجهة إلى الحكومة الكويتية بشأن منظمة التحرير، وأخرجت الصورة الفوتوغرافية من بين أوراقي وأعطيتها للرئيس عبد الناصر، فألقى عليها نظرة سريعة وطواها في جيبه، وقلت له : أعتقد أن الحكومة الأمريكية قد وجهت مثل هذه المذكرة إلى حكومات عربية أخرى، وهذه أولى المؤامرات على الطريق.
وعدنا، الرئيس عبد الناصر وأنا، كل إلى مقعده، والوفد السوري يحملق بي كأنما عثر على دليل الجريمة، فهذا الشقيري يهمس في أذن عبد الناصر ويسلمه ورقة .. وأي دليل أكبر من ذلك على عمالة الشقيري .. وما أحسب أني كنت مخطئاً في فراستي هذه فقد كانت إذاعة أمين الحافظ تهاجم " منظمة الشقيري" .. ووجه المأساة أن دمشق هي موئل الحركة العربية الحديثة ..
وعقد مؤتمر القمة جلسته الافتتاحية تحت ومضات متواثبات متتاليات من أجهزة المصورين، وقد سبقتهم إلى القاعة فيوض من آمال الأمة العربية، وهي تتطلع إلى ملوكها ورؤسائها،وما عساهم يفعلون.
وقد حضر المؤتمر الملوك والرؤساء الذين شهدوا مؤتمر القمة في القاهرة قبل بضعة شهور، إلا الرئيس بورقيبة فقد ناب عنه السيد الباهي الأدغم، والأمير عبد الله نائباً عن الحسن الثاني، والسيد شارل الحلو الرئيس اللبناني والملك إدريس السنوسي، وكان قد تخلف عن مؤتمر القاهرة بسبب مرضه، والأمير (الملك) فيصل بالأصالة عن نفسه ونائباً عن الملك سعود .. وفي مؤتمر القاهرة كان سعود الملك نائباً عن ولي عهده الأمير فيصل ..!!
وافتتح الأمير فيصل المؤتمر بكلمة موجزة تضمنت المعاني التقليدية، بعبارتها المألوفة، التي درج عليها قادة العرب منذ ألحت عليهم قضية فلسطين بالإدلاء والتصريحات وبإلقاء الخطب.. ثم أخليت القاعة من الصحفيين والمصورين، وعقدت جلسة سرية .. وأقول سرية انسياقاً مع التعبير الدارج، ففي العشرين عاماً التي واكبت فيها العمل العربي منذ أنشئت الجامعة العربية إلى عهد مؤتمرات القمة، كانت المداولات " السرية " تنشر في الصحف العربية والصحف الأجنبية على السواء .. والدول العربية كلها، من غير استثناء مسؤولة عن هذه اللامسؤولية .. فقد كانت هذه الدولة أو تلك توحي بنشر الأخبار إظهاراً لوطنيتها أو انتقاصاً لوطنية غيرها .. بل إن هذا الوحي بنشر الأخبار كان يقع بعض الأحيان قبل الوقوع .. تذاع الأقوال قبل أن تقال .. وتنشر المقترحات قبل أن تقترح .. حتى إذ أثير عتاب أو استنكار أو استيضاح عما نشر وكيف نشر، راح المسؤولون يحملون على الصحفيين، وكيف أنهم لا يقدرون المسؤولية القومية تجاه وطنهم..
وتعاقبت جلسات المؤتمر سرية في القاعة، علنية في الصحف، فجرى بحث تقرير القائد العام الفريق علي علي عامر .. وتقرير هيئة تحويل الروافد...
وعرض السيد عبد الخالق حسونة تقريره التقليدي الذي يكتبه عادة الدكتور سيد نوفل الأمين العام المساعد، من الألف إلى الياء، فأسهب في شرح العلاقات العربية فيما بين الدول العربية ذاتها مشدداً على ضرورة حل الأزمة اليمنية حتى تنصرف كل الطاقات العربية إلى مواجهة التحدي الإسرائيلي..
وعلى أثر ذلك استدرك الرئيس عبد الناصر معقباً على الموضوع .. فقال : " ليست لدى الجمهورية العربية المتحدة أية موضوعات تتعلق بسياستها الوطنية أو القومية أو الدولية ترغب في إقحامها عليكم". وأراد الرئيس عبد الناصر بهذه العبارة العابرة أن لا يطرح قضية اليمن على مؤتمر القمة .. وتهرب الملك فيصل وهو رئيس الجلسة، من الموضوع، بقوله :" إن المملكة العربية السعودية تعتبر نفسها سنداً لكل عربي، وفي خدمة كل عربي " .. والذين يعرفون تعابير الملك فيصل قد فهموا هذا الكلام على معناه، وهو أن الأمير فيصل سيظل سنداً للملكيين من اليمنيين،وفي خدمتهم على الدوام .. وانتهى موضوع اليمن الخطير، عند هذا الحوار المفهوم وغير المفهوم.
وكانت حصيلة مؤتمر القمة بالنسبة إلى موضوع اليمن، أن الأمير فيل قد صالح المشير عبد الله السلال بطريق المصادفة . . فقد دخل الأمير فيصل على أحد الاجتماعات الجانبية، وكان في الصالة الرؤساء عبد الناصر، والمشير عبد السلام عارف، والمشير السلال، فنهضوا جميعاً لتحيته، فسلم الأمير فيصل وصافحهم واحداً واحداً .. وكانت هذه هي المصادفة الوحيدة، في جميع اجتماعات مؤتمر القمة، بالنسبة إلى قضية اليمن !
ثم عرض الفريق عامر مطالبه العسكرية والمالية بصورة موضوعية دقيقة، وأوضح بصورة قاطعة أنه إذا لم تستجب هذه المطالب فإنه لا يستطيع أن يتولى حماية المشروع العربي في تحويل الروافد من العدوان الإسرائيلي.
وتتلخص هذه المطالب بزيادة القوات الجوية العربية وإنشاء المطارات الصالحة وطائفة من الأمور الفنية المتعلقة بتحرك القوات العربية.
وكان جلوسي إلى جوار الفريق علي عامر، وهكذا جلسنا معاً على الدوام في جميع مؤتمرات القمة، كأنما كانت مؤتمرات القمة تخبئ لنا أن نكون ضحاياها معاً .. وراح الفريق عامر يحذر الملوك والرؤساء من المبالغة في تقدير القوة الإسرائيلية من ناحية عسكرية .. المبالغة في تضخيمها، أو المبالغة في الاستهانة بها .. وأعلن إن إسرائيل ستختار الوقت الذي يلائمها لتدمير الأعمال العربية لتحويل الروافد .. وأن .. وإن .. ثم أكد في نهاية حديثه " إن القوات العربية قادرة على مواجهة التحدي الإسرائيلي إذا أمكن تحقيق الوحدة العسكرية العربية بين الدول العربية .."
وقف الفريق عامر عند هذه العبارة، واللواء " الفريق " عبد المنعم رياض من ورائه يتمتم في إذني : أي نعم، إذا أمكن تحقيق الوحدة العسكرية!!
قلت : وفي صوت مسموع، أن كلمة (إذا) تقرأ (إذا) طرداً وعكساً تظل على حالها إذا قرأت من البداية أو النهاية على السواء !!
فنظر اليَّ الملوك والرؤساء بين غاضب وعاتب وقرع الملك فيصل بمطرقته قرعاً خفيفاً ليقول : نظام .نظام.. ننتقل إلى بحث تقرير الهيئة الفنية لتحويل الروافد .
ثم انتقل المؤتمر إلى بحث تقرير هيئة الروافد، وكان في مجموعه تقريراً فنياً عن مشروع التحويل وما يقتضي له من أقنية وسدود وجسور، بالإضافة إلى المخصصات المالية التي يتطلبها إنجاز المشروع في مختلف مراحله.
والواقع أنني لم أكن متحمساً في الأصل لتحويل مشروع الروافد، أولاً، لأنه لا يقطع الماء بصورة كلية عن إسرائيل.
وثانياً لأنه لا يبعد كثيراً عن المشروع المعروف بمشروع جونسون الخبير الأميركي، وقد رفضته الدول العربية قبل سنوات، ثم جئنا اليوم في عام 1964 ننفذه بأموال عربية.
وثالثاً لأن النفقات الضخمة التي يكلفها المشروع العربي ستذهب حتماً إلى ضياع، لأنه كائنة ما كانت قوتنا العسكرية فإن إسرائيل قادرة على تدميره بأكثر من طريقة واحدة .. ومن الأجدر أن ننفق هذه الأموال في زيادة تسليح الجيوش العربية .
ولكن من الذي يجرؤ أن يناقش في مؤتمرات القمة، فالملوك والرؤساء يجامل بعضهم بعضاً، ويخشى بعضهم بعضاً، والويل لمن تنهال عليه أجهزة الأعلام بأنه مخالف لمشروع تحويل الروافد العربي !!
وعاد البحث إلى رد الفعل العسكري الإسرائيلي في سياق الكلام عن مشروع تحويل الروافد، فأعلن الرئيس الجزائري أحمد بن بللا أنه مستعد أن يضع الجيش الجزائري تحت تصرف القيادة العربية الموحدة لمواجهة أي تحرك إسرائيلي، وجاراه في هذا الإعلان السيد الباهي الأدغم بالنسبة لجيش تونس، والأمير عبد الله بالنسبة للجيش المغربي فالتفت إليَّ الفريق عامر ليقول ساخراً: ليه ما نفتحش مكاتب تطوع كمان!
قلت : عاطفة كريمة .. وفكرة عقيمة .. ألا تقول لهم .. إن حربنا اليوم ليست كالحروب الصليبية تمتد عشرات السنين وتتوالى خلالها النجدات، نحن في زمن الحرب الخاطفة .. إن جيوش الجزائر وتونس والمغرب يجب أن تكون في الميدان قبل المعركة بزمان، ولا فائدة منها أن تزحف عبر الشمال الإفريقي يوم المعركة ..و....و..".
قال علي علي عامر: أقول ماذا، هم الرؤساء مش فاهمين معنى الكلام ده؟.
وجاء أخيراً موضوع الكيان الفلسطيني وقد عالجته تقارير ثلاثة : الأول تقرير الأمين العام ولا يتعدى سردا موجزاً لاجتماع المجلس الوطني بالقدس دون ان يقترح شيئاً أو يوصي بشيء، فهذه تقاليد " الحياد " في الجامعة العربية، والثاني تقرير القيادة العربية الموجودة، وهو يترك تحديد النشاط العسكري الفلسطيني للدول العربية المعنية والقيادة العربية هيئة رسمية تستمد اختصاصها من الدول العربية وهي حريصة أن تبتعد عن عمل عسكري نابع من " الشعب " ويمتد نشاطه إلى أراضي الدول العربية .. والثالث تقرير منظمة التحرير الفلسطينية .. وهنا طلبت الكلمة .. وأصبح مؤتمر القمة من هذه اللحظة مؤتمراً للقضية الفلسطينية.
وتصدى الرئيس عبد الناصر إلى مقاطعتي في بداية حديثي، وهو يبدي رغبته في أن أكون موجزاً في حديثي، فسررت لهذه البادرة قلت : إنني سأتكلم بقدر ما تتطلبه القضية من وقت دون اعتبار للإيجاز ولا خشية من الإسهاب .. وكانت واحدة من المناسبات الكثيرة، التي سأعرض لها في مذكراتي، لأثبت فيها استقلال منظمة التحرير الفلسطينية وعدم تبعيتها للقاهرة أو لغير القاهرة، ولقد اعتبرت ملاحظة الرئيس عبد الناصر أنها واحدة من المحاولات الكثيرة التي كانت يريد أن يثبت من ورائها أن المنظمة شيء والقاهرة شيء آخر .. وألقى الأمير فيصل كوفيته خلف كتفه وهو على منصة الرئاسة وقال : الكلام الآن للأخ أحمد .. تفضل يا أخ أحمد ..
وأدركت في مثل وميض البرق أ الأمير فيصل لا يريد أن يدعوني " رئيس منظمة التحرير الفلسطينية " واستعاض عن ذلك بتعبير كريم " الأخ أحمد" فلم أدع هذه البادرة أن تمر دون أن أجعلها مطلع حديثي .. فقلت " إنه ليسعدني أن يدعوني سمو الأمير بالأخ أحمد، فالمؤمنون أخوة، ولكن هذا الأخ هو رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية الأخ، وأرجو أن يكون هذا التعبير الجميل الذي أطلقه سمو الأمير فاتحة كريمة تصبح منظمة التحرير الفلسطينية من خلالها أخاً لسموه".
ورحت أداعب الألفاظ وألاعب هذه المعاني حتى أضطر الأمير فيصل أن يبتسم، وتبتسم معه كل قسمات وجهه، وقلّ أن يفعل ذلك مختاراً...
ثم مضيت في حديثي معرباً عن سروري بأنني في هذا الاجتماع التاريخي بالإسكندرية " يسعدني أن يكون لي شرف المشاركة بوصفي رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، مختاراً من قبل الشعب الفلسطيني، بعد أن كنت في مطلع العام مشاركاً في مؤتمر القاهرة مختاراً من قبل الملوك والرؤساء".
وانتقلت، بعد أن شرحت المراحل التي مر فيها إنشاء الكيان الفلسطيني، أخاطب الملوك والرؤساء في " أن الحقيقة الأولى التي استلهمتها في تنفيذ المهمة التي عهدتم بها إليَّ، هي أن الكيان الفلسطيني كيان لفلسطين وكيان لشعب فلسطين، يبنيه بنفسه، بعقله وأرادته .. وأن دوركم أنتم بالنسبة للكيان، لا بناؤه، ولا إنشاؤه بل التيسير والتسهيل قبل قيامه، والتأييد والتعضيد بعد قيامه؛ وأن الحقيقة الثانية أنه يجب أن تكون للكيان الفلسطيني شخصية مستقلة، متعاونة غير منعزلة، تشترك مع الأمة العربية في آمالها وآلامها وفي إرادتها الهادفة المصممة على الوحدة العربية الشاملة".
ولقد أحسست وأنا أؤكد هاتين الحقيقتين أن الملوك والرؤساء يستمعون إلى صوت لا عهد لهم به، فالفلسطينيون مشردون ومشتتون، وقد انهدمت شخصيتهم الوطنية بعد نكبة 1948 .. ولعل بعضهم كان يتساءل في قرارة نفسه. ومن أين تكون للكيان الفلسطيني شخصية مستقلة وإرادة حرة، وهم يعيشون في مختلف تجمعاتهم تحت ظروف مختلفة تحد من تحركهم وإرادتهم .. وفي بعض الأحوال تأخذ بخناقهم.
وانتقلت بعد ذلك إلى تحديد هدفنا القومي في تحرير التراب الفلسطيني وإقامة دولة عربية في فلسطين، وأن هذا الهدف هو المبرر الوحيد لمشاركتنا في مؤتمر القمة، ونظر الملوك والرؤساء بعضهم إلى بعض وأنا أوجه إليهم حديثي بكل صراحة وصرامة، وأنا أقول " إن الغاية التي نحن معكم من أجلها، هي أن تتيسر لنا جميع الأسباب المادية والمعنوية التي تمكن شعب فلسطين من القيام بدوره التاريخي الكبير في تحرير وطنه.. وتحقيقاً لهذه الغاية المقدسة وضعت منظمة التحرير الفلسطينية خطة عامة مفصلة تتناول مختلف جوانب القضية الفلسطينية، العسكرية والسياسية والتنظيمية والمالية والإعلامية " وشخص الملوك والرؤساء أبصارهم وأنا أرفع صوتي قائلاً " فمن الناحية العسكرية فنحن نؤكد ضرورة المبادرة لإنشاء قوات فلسطينية مسلحة ومعسكرات تدريبية شعبية، وتعزيز الأوضاع العسكرية في القرى الأمامية من فلسطين".
وأزداد الملوك والرؤساء إحداقاً بهذا الفلسطيني الذي جاء يقول لهم بلهجة حازمة " ولقد ذكرنا الناحية العسكرية أولاً : لأن مقترحاتنا بشأنها تؤلف الحد الأدنى لمطالب الشعب الفلسطيني الذي يستمع إليكم، ذلك لأن منظمة التحرير الفلسطينية من غير إنجاز لهذه المطالب تصبح جسداً من غير روح، وبالتالي يصبح وجود منظمة التحرير واستمرارها أمراً لا مبرر له..".
لقد كان هذا الكلام إنذاراً .. وكنت قد عزمت في نفسي أن أنسحب من المؤتمر.. وأن أكاشف الشعب الفلسطيني بحقائق الموقف، إذا لم يستجب الملوك والرؤساء لمطالبنا العسكرية .. فقد كنت أؤمن، ومعي الشعب الفلسطيني بأسره، أن منظمة التحرير الفلسطينية من غير نشاط عسكري " جسد من غير روح ولا داعي لوجودها واستمرارها".
ولم أكتف بالحديث عن قضية فلسطين في إطارها الفلسطيني، بل تجاوزت ذلك إلى الإطار العربي في أوسع حدوده .. فقد أصبحت قضية فلسطين قضية قومية عربية وخاصة بعد كارثة 1948، ووجب أن تكون القضية " اليومية" لكل عربي من المئة مليون عربي الذين يعيشون في الوطن العربي، وفي هذا السياق وضعت أمام الملوك والرؤساء خمس بديهيات أساسية..
الأولى : إن شعب فلسطين ومعه الأمة العربية مصمم تصميماً قاطعاً لا ينثني على تحرير وطنه .. وهو يعلن بين يديكم استعداده لبذل كل طاقاته الروحية والمادية تحقيقياً لهذه الغاية المقدسة..
الثانية : إنها كائنة ما كانت احتمالات الخطة العربية لتحرير فلسطين، وقد استمعتم إلى احتمالات متعددة من فم القائد العربي الفريق علي عامر، فإنه لا غنى عن شعب فلسطين في تحرير فلسطين .. ولا بد من إعداد شعب فلسطين عسكرياً وروحياً ".
الثالثة : إن احتلال فلسطين على أيدي إسرائيل ومن ورائها الاستعمار، فضلاً عما فيه من أخطار مصيرية على الأمة العربية بأسرها، فهو أكبر عار لحق الأمة العربية كلها منذ بدأ الإنسان الأول يستشعر معنى العار، لذا فإن تحرير فلسطين تبعة قومية كبرى تقع على عاتق الأمة العربية بأسرها حكومات وشعوبا، ونحن مستعدون أن نكون طليعتها ".
الرابعة : " إن قضية فلسطين، من غير انتقاص للجهود السياسية والدعائية ليس لها في نظرنا حل سياسي أو دبلوماسي لا داخل الأمم المتحدة ولا خارجها .. وإنه لن يتم تحرير فلسطين إلا بالكفاح المسلح، وعلى أرض فلسطين..".
الخامسة : إن كارثة فلسطين يجب أن تكون عامل وحدة بين الدول العربية .. وحدة حقيقية عميقة الجذور .. وحدة وجدان وضمير .. لا وحدة شكل ومظهر.. وتفرض هذه الوحدة عليكم أنتم المجتمعون حول هذه المائدة أن تبادروا إلى تعبئة طاقات الأمة العربية ومواردها المادية والروحية في معركة التحرير .. وأن تخرجوا بقضية فلسطين بقرار إجماعي، فتسموا عن الاعتبارات الشكلية والشخصية، كائنة ما كانت .."(1).
وقد أستمع الملوك والرؤساء إلى هذه البديهيات الخمس، وأنا أحدثهم عنها، بلهجة النضال والكفاح، وكأنما أصبح " شخص " القضية الفلسطينية ملكاً فوق الملوك ورئيساً فوق الرؤساء؛ وتجاوزت " صلاحيتي " الفلسطينية ورحت أتحدث باسم الأمة بأسرها وقلت " إن هذه البديهيات الأساسية تعبر تعبيراً عميقاً عن إرادة الأمة العربية جمعاء . وأنا لا أتحدث عن إرادتها، عبثاً أو لهواً أو عفواً، وإنما أتحدث حديث العارف الواثق .. فقد مارست بنفسي الشعار الحبيب من المحيط إلى الخليج، ما مارسته بالنداء والهتاف، ولكن مارسته، بالتجوال والتطواف في الوطن العربي كله، خلال ثمانية أشهر قضيتها في الوطن العربي، وكان آخر مطافي الإسكندرية، ثغرنا العربي الكبير، وفي هذه اللحظة التاريخية تعيش معكم الأمة العربية، ويعيش معكم شعب فلسطين، وأجهزة الراديو في مضجعهم وتحت وسائدهم في الحواضر والبوادي والمخيمات وفي جحيم فلسطين المحتلة، وهم يستمعون إليكم بلهفة إلى حمل السلاح، وشوق الكفاح."
ثم أخذت بعد ذلك أشرح خطة منظمة التحرير وخاصة بالنسبة إلى الشئون العسكرية مشدداً على إنشاء " كتائب نظامية وفدائية" وإن الكيان الفلسطيني معناه عند الشعب الفلسطيني " السلاح والكفاح " وأن هذا الكيان " غير جدير بثقة الشعب الفلسطيني والرأي العام العربي إذا لم تكن الناحية العسكرية الفلسطينية بارزة فيه بروزاً قوياً .."
ولقد كنت أتمنى، وأنا أدلي بحديثي إلى الملوك والرؤساء أن يكون ورائي الجدليون الفلسطينيون ليروا أن أراءهم التي يتهامسون بها في مخادعهم، كنت أحمل ما هو أشد منها، وأضعها أمام الملوك والرؤساء وجهاً لوجه ..
وجال رئيس المؤتمر الأمير فيصل بعينيه في وجوه الملوك والرؤساء ليرى من يريد أن يتكلم .. من يريد أن يناقش، من يريد أن يستوضح .. وتوقف لحظة أمام وجوه الوفد السوري، اللواء أمين الحافظ ورفاقه ، كان يستدرجهم إلى الحديث .. فهو يعلم المواقف السلبية التي يقفها الوفد السوري من الكيان الفلسطيني.. ولكن الوفد السوري قد لزم الصمت وكأنما لسان حاله يصيح في الأمير فيصل: " ولماذا أنت لا تتكلم؟ فالرجعية أولى أن تبدأ الحديث في هذا المقام من " الثورية " .. وكان الوفد السوري على حق في " فراسته " هذه، فإن الأمير فيصل لم يرسل أحداً من وزرائه إلى بيت المقدس للاشتراك في المجلس الوطني، وقد رفض أن يستقبل " الشقيري " مرات ومرات .. وفي اجتماع وزراء الخارجية التحضيري الذي انعقد قبيل مؤتمر الملوك والرؤساء، " تحفظ " الوفد السعودي على قرار " بشكر السيد أحمد الشقيري على جهوده الموفقة بإنشاء الكيان الفلسطيني وقيام منظمة التحرير الفلسطينية ". فلم لا يتكلم الأمير فيصل، إذن ..
ولكن الأمير فيصل " عاد" إليه وجهه، بعد أن جال به طويلاً على وجوه الملوك والرؤساء ، ومد يده إلى ملف أمامه وفتحه وأخذ يقلب ما فيه من أوراق .. وكان جلوسي على طرف المائدة، قريباً من كرسي الرئاسة، فرأيت العرائض الزنكوغرافية التي كان الحاج أمين الحسيني قد أعدها للتنديد بالشقيري وبأسلوبه في إنشاء الكيان الفلسطيني.
وأخذ الأمير فيصل يقول " إن المملكة تريد إنشاء كيان فلسطيني سليم، قوي، يمثل الشعب الفلسطيني.. بطريقة دمقراطية .. بطريقة انتخابية .. وقد تلقيت عرائض كثيرة يحتج فيها " زعماء " فلسطين على قيام منظمة التحرير الفلسطينية، ويؤكدون أن المجلس الوطني الذي انعقد في مدينة القدس لا يمثل الشعب الفلسطيني .. وعلى كل حال فإن الأخ أحمد قد تجاوز صلاحيته التي فوضها به مؤتمر القمة في القاهرة .. فإنكم يا أصحاب الجلالة والفخامة والسمو قد عهدتم إلى السيد أحمد الشقيري بدرس الوسائل لإنشاء الكيان الفلسطيني ولم تعهدوا إليه أن ينشئ الكيان الفلسطيني ".
وراح الأمير فيصل يسهب في الحديث عن هذه الجوانب القانونية ، مع إني عرفت الأمير فيصل خلال خمس وعشرين سنة مضت موجزاً في حديثه إلى درجة الصمت ثم أنه باستثناء كلمة الافتتاح القصيرة التي ألقاها في بداية المؤتمر لم يشترك في الأبحاث التي دارت في المؤتمر، لا بشان تقرير القيادة العربية الموحدة، ولا بشأن تمويل الروافد، ولا بشأن ما هو أهم من كل شيء: تحرير فلسطين .. ولم يتكلم إلا حينما طرح موضوع إنشاء الكيان الفلسطيني، ومنظمة التحرير الفلسطينية، هذه المنظمة التي أنشأها أحمد الشقري بالذات..
ورفعت يدي أستأذن بالكلام لأرد على الأمير فيصل، والرئيس العراقي عبد السلام عارف يشير بيديه وحاجبيه أن يكون ردي هادئاً .. وبدأت جوابي بمقدمة ساخرة هادئة قلت فيها " كنت أتوقع من سمو الأمير فيصل وهو الذي رافق القضية الفلسطينية منذ أعوام طويلة سواء في مؤتمر لندن عام 1939 حينما كان رئيساً للوفد السعودي، أم في الأمم المتحدة في دورات متعددة، أن يكون حديثه غير ما سمعت، وخاصة أن سموّه من أكثر قادة العرب معرفة بظروف الشعب الفلسطيني..ولم أكن أظن أنه يعتمد على عرائض الحاج أمين التي ابتاع تواقيعها بأموال " عربية"، كان أولى أن تنفق على النضال بدلاً من أن تنفق على تمزيق الصفوف وتصديع الكيان الفلسطيني؛ وإذا كان لدى سموه ملف يحتوي توقيعات بعض الفلسطينيين .. فإن لديَّ ملفاً يحتوي توقيعات بعض السعوديين .. وأن أي ملك أو رئيس حول هذه المائدة له ناقدون وحاقدون في بلده .. بعضهم تحت الأرض وبعضهم فوق الأرض .. ولكن ذلك لا ينتقص من " صلاحية " أي وفد عربي للاشتراك في هذا المؤتمر".
كنت أقول هذا، وأنا أمد يدي إلى ملف أمامي وفيه برقية من آل الشواف " السعوديين صادرة من دمشق، يشجبون فيها نظام الحكم في المملكة العربية السعودية .. وبدأت أقول أن عندي كذلك برقيات من نوع العرائض التي أمام سمو الأمير فيصل .. والتفت إليَّ أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم الصباح ليقول " لا داعي لذلك وأرجو أن لا تخرج عن الموضوع".
قلت : أنت تذكر يا سمو الأمير ( الكويت ) أنني زرتكم في الكويت، وكذلك فقد زرت أصحاب الجلالة والفخامة، جميعاً في عواصمهم، باستثناء المملكة العربية السعودية، فإن الأمير فيصل قد رفض أن يأذن لي بزيارته .. وقد شرحت لكم جميعاً مشروع الميثاق القومي الفلسطيني والطريقة التي سأتبعها في إنشاء الكيان الفلسطيني، وصدرت عن وزرائكم بلاغات رسمية تعلن تأييدها، ثم اشتركت وفودكم بعد ذلك في المجلس الوطني الفلسطيني في القدس، وشاهدوا بأم أعينهم حماسة الشعب الفلسطيني لقيام منظمة التحرير الفلسطينية .. ولم أجد في جميع هذه المراحل من يقول لي منكم إنني تجاوزت صلاحيتي وإنني خالفت قراركم بإنشاء الكيان الفلسطيني".
وتوجهت بعد ذلك بحديثي إلى الأمير فيصل قائلاً " لقد كان المجلس الوطني الفلسطيني في القدس، يا سمو الأمير، أشبه بمؤتمر قمة لقضية فلسطين لم تشهد فلسطين له مثيلاً حتى الآن .. ولم يكن ينقصه إلا حضور أحد وزرائكم.. ولقد اشترك فيه ممثلو الشعب الفلسطيني من كل أرجاء الوطن العربي، باستثناء الفلسطينيين المقيمين بالمملكة العربية .. وإنني مع احترامي للمجالس البرلمانية أو الوطنية في الدول العربية فإن المجلس الوطني الفلسطيني لم يكن أبداً أقل مستوى من المجالس العربية، وتعالوا نفاضل بينهم، رجلاً برجل وامرأة بامرأة.."
وضحك الملوك والرؤساء، وضحك الأمير فيصل كارهاً .. وساد الجلسة جو من الهدوء والمرح، ورحت أواصل حديثي قائلاً " إني أعرف قراركم الذي أصدرتموه في القاهرة بشأن الكيان الفلسطيني، ولكني أعرف كذلك إنني لست موظفاً عند مؤتمرات القمة .. لقد أنشأت الكيان الفلسطيني، مع الشعب الفلسطيني، وفق الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني .. إن الكيان الفلسطيني هو لشعب فلسطين . وشعب فلسطين وحده هو الذي يبني كيانه .. تماماً كما بنت شعوبكم كياناتكم .. إن الكيان الفلسطيني لا يبنيه الملوك والرؤساء والاَّ أصبح كيان الملوك والرؤساء ..
واسترسلت طويلاً في هذه " المرافعة" القومية عن حق الشعب الفلسطيني، وتوجهت بعد ذلك بكل جوارحي إلى الأمير فيصل أحاوره " وما هذه الطريق الدمقراطية . . الطريقة الانتخابية .. التي يطلب من الشعب الفلسطيني أن يسير عليها لإنشاء كيانه .. أريد أن أؤكد لكم أن أعضاء المجلس الوطني الذين حضروا المؤتمر في القدس يمثلون الشعب أصدق تمثيل .. صحيح أن أصحاب التوقيعات المغمورة التي في ملفكم لم يحضروا المجلس الوطني.. ولكن الذين حضروه هم النواب والوزراء ورؤساء البلديات والمجالس المحلية والغرف التجارية ونقابات الأطباء والمحامين والمهندسين والعمال والطلاب والنساء، وكل هؤلاء منتخبون من قبل الشعب .. وأنني لأتساءل، لماذا تطلبون من منظمة التحرير، ما لا تطلبونه من عدد من الحكومات العربية، حيث لا انتخابات ولا مجالس ولا .. ولا ..".
وتكهرب جو الجلسة، وتطلع إليَّ الرئيس اللبناني شارل الحلو مناشداً الهدوء والسكينة .. وتساءلت، ألأننا شعب من اللاجئين تنكرون علينا حقنا في أن ننشئ كياننا كما نريد إنشاءه .. لقد أنشأتم كياناتكم كما أردتم ولم يتدخل أحد في شئونكم .. فلماذا هذا التدخل في شئوننا، لقد رفضنا الانتداب والوصاية منذ زمان طويل .. فهل تفرض علينا الوصاية الآن لأننا أصبحنا لاجئين مشردين في الوطن العربي.. إنني أحسب أن " للاجئ " حقوقاً ورعاية أكثر من المواطن الآمن في وطنه، وليس عاراً أن يكون المرء لاجئاً ولكن العار كل العار أن ينتقص من حقوقه وسيادته .. ألم يكن عبد العزيز آل سعود لاجئاً في الكويت عند آل الصباح، ثم نهض نهضته المعروفة وأصبح سيد الجزيرة ..
وأدرك المؤتمرون أن نقطة الانفجار قد أصبحت في ثنايا حديثي .. ولا بد من " مقاطعتي " حتى لا ينفرط عقد المؤتمر وهو محمل بأحمال من الخلافات العربية، وكل منها كاف لتصفية المؤتمر والتصفية على وجوده .. فتدخل الرئيس الجزائري أحمد بن بللا، وقال أرجو من سمو الأمير فيصل أن يقنع بها .. إن الشعب الفلسطيني يعيش في ظروف أصعب من الظروف التي عاشها الشعب الجزائري، وفي بداية الحركة الجزائرية لم نستطع أن نجمع كل الناس .. كان عندنا خصوم ومعارضون .. ولكن الحركة بدأت واستمرت .. ثم انتصرنا ..ولا يزال عندنا خصوم ومعارضون . المهم أن تكون منظمة التحرير قادرة على جمع أكبر عدد ممكن من الشعب الفلسطيني وهذا يكفي في البداية .. الأخ بوتفليقة وزير الخارجية حضر المجلس الوطني في القدس في مايو الفائت، وعاد إلينا بتقرير يقول فيه أن الاجتماع كان ناجحاً للغاية، وأن المؤتمر انتخب الشقيري بالإجماع، وأن منظمة التحرير تمثل الشعب الفلسطيني . وإني أسأل سمو الأمير فيصل .. ماذا نقول للشعب الفلسطيني وللأمة العربية إذا نحن لم نوافق على قيام منظمة التحرير الفلسطينية . وهل نحن الملوك والرؤساء نستطيع أن نقوم بانتخابات بين الشعب الفلسطيني .. وهل تبدأ الحركات الوطنية بطريقة الانتخاب .. "
والتفت الرئيس الجزائري إلى الأمير فيصل وهو يقول " أعتقد يا سمو الرئيس إننا موافقون على نقطة واحدة وهي أن منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة للشعب الفلسطيني، ولا داعي أن نقف طويلاً عند الأمور الإجرائية والشكلية. وإنني أقترح أن ننتقل إلى بحث مطالب منظمة التحرير واحداً واحداً ...
وسكت الأمير فيصل، وهو يرى موافقة الملوك والرؤساء، وفيهم الوفد السوري على اقتراح الرئيس الجزائري..
وواصلت حديثي، وأنا أحاول استرضاء الأمير فيصل وقلت " إني أشكر سمو الرئيس على موافقته، وإني مستعد أن أعود معه بالطائرة وأن أجلس بين ركبتيه كما كان يفعل في حضرة أخيه جلالة الملك سعود لأشرح له كل ما يتصل بالكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وضحك الحاضرون وقال الرئيس عبد الناصر : خلاص .. طلعنا بره " .. يعني بذلك، إني تصافيت مع الأمير فيصل .. قلت : على العكس إن القضية الفلسطينية تطالبكم جمعاً أن تكونوا " جوه".
وسكت الأمير فيصل في موافقة صامتة، لأنه لم ير أحد يشاركه في رأيه، ولم يشأ أن ينفرد بموقف ظاهر ضد منظمة التحرر الفلسطينية وقد تعلقت بها آمال الشعب الفلسطيني، وآثر أن يترك " للظرف " العربية في المستقبل أن تهيأ له فرصة أخرى؛ والعلاقات العربية " غنية " بالمفاجآت والملابسات .
وواصل الملوك والرؤساء بعد ذلك دراسة مطالب المنظمة العسكرية والمالية، فشرحت اقتراحنا بإنشاء قوات فلسطينية مسلحة، وكانت فرصة الوفد السوري فانبرى اللواء أمين الحافظ يؤكد ضرورة إنشاء " جيش " لا مجرد، قوات مسلحة " وأنه يجب أن " يعطى الفلسطينيون أرضهم، ويقيموا عليها الجيش الفلسطيني ويستعدوا لتحرير وطنهم .. وقد كان اللواء حافظ يتحدث بحماس وعصبية .. ولكنه كان في الواقع يتحدث عن إيمان وإخلاص ولم يرق هذا الحديث للملك حسين، فإنه لم يوافق على منظمة التحرير ليكون لها جيش وأن تكون لها " أرض " تمارس عليها ومنها النضال القومي .. واندفع الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف، منافساً حماسة الرئيس السوري، مؤيداً ضرورة إنشاء جيش فلسطين يساهم مع الجيوش العربية في تحرير فلسطين .. وتطلع الملك حسين إلى الرئيس عبد الناصر ليجد له مخرجاً من هذه " الورطة " التي هبطت على المؤتمر فقال الرئيس عبد الناصر : نحن موافقون على إنشاء جيش التحرير، ونضع سيناء وقطاع غزة تحت تصرف المنظمة لإنشاء الجيش .. وقال الرئيس السوري اللواء أمين الحافظ : ونحن نوافق على إنشاء الجيش الفلسطيني على الأراضي السورية ، ووثب الرئيس العراقي المشير عبد السلام عارف وصاح : ونحن نضع العراق تحت تصرف جيش التحرير .. وقلت هنا للرئيس، بل نحن نريد منطقة (H4) وهي منطقة قريبة من الأردن . . وقد أردت بهذا أن استدرج الملك حسين " ليتبرع " بأرض فلسطين لتكون تحت تصرف منظمة فلسطين وجيش فلسطين .. ولكن الملك حسين قال : أنتم تعرفون ما تثيره هذه المواضيع من حساسية في " الأسرة الأردنية وخاصة لدى الجيش الأردني" .. وهي العبارة المألوفة التي يعتصم الملك حسين في " خنادقها" كلما أراد أن يتخذ موقفاً سلبياً من القضية الفلسطينية .
وهمس الدكتور محمود فوزي واحدة من همساته – وزير الخارجية الجمهورية العربية المتحدة – في أذن الرئيس عبد الناصر، قال بعدها الرئيس: أظن أن الأخ أحمد يتفق معنا إن المنظمة يجب أن تقرر أولاًَ إنشاء جيش التحرير الفلسطيني ثم نعتمد هذا القرار .. وأدركت أن فوزي كعادته قد أراد أن يضفي على الموضوع " الكسوة " القانونية الدستورية .. والتفت إلى أحد أعضاء المنظمة خلفي وقلت له : إن القرار على طرف لساني وسأتلوه شفوياً وما عليك إلا أن تكتب .. وأعلنت على الفور : قررت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قياماً بواجبها الوطني المقدس في تحرير فلسطين إنشاء جيش التحرير الفلسطيني ليؤدي دوره الطليعي، إلى جانب الجيوش العربية في تحرير فلسطين واسترداد الوطن السليب .. فقال الرئيس العراقي .. نحن موافقون على هذا القرار ، ولكن كلمة " الطليعي " غير ملائمة فضحكت، وقلت أنا أفهم لماذا يكره الرئيس العراقي لفظة " الطليعي " ولا مانع من حذفها، فالمهم أن يكون لنا دور " طليعي " فضجت القاعة بالضحك .. ولم يكن الرئيس العراقي وحده هو الذي يكره هذا التعبير الذي ساد استعماله في الأدب الشيوعي سواء عند المقلدين أو العريقين .!!
ودار نقاش طويل بعد ذلك حول كيفية إنشاء جيش التحرير وعلاقته بالقيادة العامة ودوره في المعركة وتدريبه وتسليحه وتمويله وإداراته وكثير من التفاصيل الأخرى التي وجد الملك حسين من خلالها متهرباً له من إنشاء جيش التحرير على أرض الأردن وهي أرض فلسطين.
واشترك القائد العام علي عامر في المناقشة، وكان صادقاً أميناً مع اختصاصاته، حريصاً على علاقاته مع الدول العربية وهو مسئول أمامها مباشرة .. وكان من الطبيعي أن يتحدث في الموضوع من ناحية " رسمية " لا من ناحية شعبية ، فهو القائد العام للجيوش العربية، وليس قائد ثورة ولا قائد حرب شعبية .
فأعرب القائد العام أولاً، عن أن الأمر منوط بالدول العربية فهي التي تقرر هذا الموضوع سلباً أو إيجابياً، وأكد ثانياً أنه لا يمكن أن يكون مسئولاً عن جيش فلسطيني قد يندفع إلى تصرفات وتحركات لا تتفق مع مسئوليات الدول العربية أو خطط القيادة العامة..
واستراح الملك حسين لهذا الشرح الكلاسيكي الرسمي الذي طرحه القائد العام، وكان بداية لمنطق استراتيجي اعتمده الملك حسين طيلة الثلاث سنوات التالية، كلما اشتدت عليه مطالب الشعب الفلسطيني العسكرية . . فكان يفزع إلى الإذاعة الأردنية يتحدث إلى " الأسرة الأردنية " بأنه ملتزم بخطط القائد علي عامر ولا يلتزم بغيرها .. وستتحدث هذه المذكرات كيف أن الملك حسين تنكر لمطالب القائد العام وتوصياته .. وكيف راح يحاوره ويجادله بدلاً من أن يلتزم بآرائه ..
وقد ناقشت القائد العام رأيه في موضوع إنشاء الجيش الفلسطيني، ولكني لم أكن على أرض صلبة، بل إنني لم أكن على أية أرض .. لقد كنت معلقاً في الهواء .. فقد كان على هذا الجيش أن ينشأ على أرض عربية، تقع تحت سيادة الدول العربية ، وقطاع غزة وإن يكن أرضاً فلسطينية فهو تحت السيادة الفعلية للجمهورية العربية المتحدة . ومن الناحية المالية، فإن نفقات إنشاء الجيش وإدامته ستكون من ميزانيات الدول العربية .. وفوق هذا وذاك فإن العمل الفلسطيني كله، السياسي والعسكري على السواء، هو جزء من خطة عربية عامة .. ولا يمكن أن ينفرد عنها .. وهكذا كانت الأمور في ظلال مؤتمرات القمة ..
وكان طبيعياً، لذلك، أن يكون الجيش الفلسطيني واقعاً تحت السيادة العربية منذ اللحظة الأولى التي يخرج فيها إلى حيز الوجود .. وقد حاولت كل جهدي أن يكون جيش فلسطين تابعاً لشعب فلسطين، لمنظمة التحرير الفلسطينية، شأنه في ذلك شأن أي جيش عربي تابع لحكومته .
صحيح أني لم أكن أطمح أن يكون هذا الجيش مستقلاًُ عن الدول العربية استقلالاً ناجزاً فنحركه إلى المعركة كما نفكر ونخطط، ولكني كنت أحاول أن أجعل لجيش التحرير وجوداً ذاتياً منذ البداية..
ولم أفلح في تحقيق هذا الهدف بصورة كاملة في مؤتمر الإسكندرية، ولا في المؤتمرات التالية ولا في الممارسة الفعلية، لأسباب سأعرض لها، وكان في رأسها أنه لم يكن أمامي إلا خيار واحد من أثنين .. جيش تابع، أو لا جيش على الإطلاق .. وقد اخترت أن يكون جيش تابع، فمن يدري، لعلنا نستطيع أن نتحرر في يوم من الأيام .. وكان ذلك حسابي وتقديري . وقد جاءت هزيمة حزيران لعام 1967 فأثبتت ما كنت أحسب وأقدر، وما كنت أفكر وأدبر*.
وعلى هذا فقد وافق الملوك والرؤساء على إنشاء جيش التحرير الفلسطينيين بشرط أن " يخضع في العمليات الحربية للقيادة العربية لموحدة، أو القيادة المحلية حسبما ترى القيادة العامة ذلك".
وكل المكاسب المحددة التي استطعت تسجيلها على " الورق " بين قرارات الملوك والرؤساء بالنسبة لقوات جيش التحرير ما يلي:
1 : تختار المنظمة أفراد وضباط هذه القوات من أبناء فلسطين حيثما وجدوا ..
2 : يكون تشكيل هذه القوات وتسليحها وتدريبها وفق خطة تضعها القيادة العامة الموحدة بمشاركة منظمة التحرير الفلسطينية.
3 : يكون مقر هذه القوات على أرض تختارها المنطقة بموافقة الدولة المعنية .
وانتقلنا بعد ذلك إلى بحث نفقات إنشاء الجيش، ولم أستطع أن أتكلم في هذا الموضوع كثيراً أو قليلاً، فقد نشأت في نفسي عقدة بالنسبة للأمور المالية لقضية فلسطين منذ أن كان الحاج أمين الحسيني تتجمع بين يديه الأموال العامة، فلا يدري أحد بشأنها شيئاً.
وخيّم على المؤتمر جو من الصمت البارد، فالسباق على الكلام من شيمة المؤتمرات العربية، ولكن حين يُطلُّ " المال " برأسه، يكون السباق على الصمت لا على الكلام .. ومضت برهة حشيت معها أن يكون قرار إنشاء الجيش قراراً إنشائياً، من غير مال. ولكن الرئيس العراقي قد قطع عقدة الأزمة وعقدة الصمت .. فأعلن أنه يتبرع بمليون دينار .. وكأن قذيفة وقعت شظاياها في وجه الموسرين من الملوك .. فهبَّ أمير دولة الكويت وتبرع بمليون دينار .. وانطلق الأمير فيصل وراءهما ليعلن تبرعه بمبلغ مليون دينار .. ولحق الوفد الليبي بالقافلة فتبرع بنصف مليون دينار .. وهكذا وفي أقل من ثلاث دقائق ونصف تبرع أربعة من قادة العرب بمبلغ ثلاثة ملايين دينار ونصف .. وأفلحت قذيفة الرئيس العراقي مع المسرون .. أما المعسرين فلم يتبرعوا بشيء. إلا من تبرع منهم " بالأرض " لتكون مقراً لجيش التحرير .. وهما الجمهوريتان العربيتان في القاهرة ودمشق.
وقد أراد الرئيس العراقي أن يقوم بجولة ثانية، فألقى قنبلة ثانية، فأعلن تبرعه بمليون دينار، دفعة ثانية ، واندفع وراءه أمير الكويت بمليون دينار ووقف التبرع عند هذا الحد، ليصبح في مجموعه خمسة ملايين دينار ونصف .
ومنذ أن رافقت العمل الفلسطيني والعربي، لم تنتزع القضية الفلسطينية مثل هذا المبلغ " الكبير" .. فقد أصبح العرب في عام 1964 أغنى مما كانوا عليه في الماضي، وأصبحت القضية الفلسطينية أعمق أثراً لدى الأمة العربية. ولكن السبب المباشر .. وهو ظاهرة معينة في " الاريحية " العربية .. أن الرئيس العراقي قد وضع " الموسرين " من قادة العرب أمام " الكرم" العربي وجهاً لوجه .. ولست أدري ما كان يمكن أن يقرره الملوك والرؤساء من أموال الجيش التحرير الفلسطيني لو لم يفتتح الرئيس العراقي باب التبرع ..
وقرر المؤتمر بعد ذلك مبلغ مليون دينار للميزانية المدنية ، لمنظمة التحرير لتمكينها من القيام بنشاطها السياسي والإعلامي والتنظيمي، تدفعه الدول العربية بموجب أنصبتها في ميزانية الجامعة العربية ..
وفي هذا الجو المالي " الحار " طرحت المشروع الذي كنت أعددته بشأن إنشاء " المؤسسة المالية لتحرير فلسطين " وكنت متأثراً في هذا المشروع بدراستي لطرق الجباية الشعبية التي تتبعها الحركة الصهيونية في تمويل مشروعاتها المتعددة في إسرائيل ..
قلت للملوك والرؤساء إن أسلوب " التبرعات " لا يمكن أن يمول معركة التحرير، وخاصة أن " التبرعات " تؤلف بنداً صغيراً في ميزانية العدو .. وأنه آن الأوان أن نضع خطة " تمويلية " ثابتة تقوم على أساس الجباية الشعبية بحيث يشترك كل مواطن من المئة مليون عربي في المعركة بماله، بالإضافة إلى مشاركته العاطفية .. وأوضحت أن حصيلة الجباية الشعبية كما قدّرتها في المشروع المقترح تبلغ مائة مليون دينار سنوياً، يوضع نصفها تحت تصرف القيادة العربية لتغطي نفقات الخطة العربية العامة، ويقسم الباقي بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية
وبالنسبة للأردن، فقد نصبت نفسي محامياً عن الأردن، والملك حسين لا يدري ما يقول .. فقد قلت إن الأردن يجب أن يحرر من المعونة الأمريكية التي تبلغ نصف ميزانيته حتى يستطيع أن يحرر سياسته وجيشه .. فوق ما تحمله الأردن من أعباء ضخمة بسبب خطوطه الطويلة مع إسرائيل، وبسبب كثرة اللاجئين..
وبدلاً من أن يقف الملك حسين معي في هذا المطلب القومي الذي يجعل لعباراته المألوفة معنى حقيقياً في دعم ما كان يعلنه عن " خط الدفاع عن دنيا العرب " وتوفير أسباب " العزة والمنعة في معركة الحشد العربي قال وكأنما يتصبب العرق من وجهه، خجلاً واستحياء: " نشكر الأخ أحمد على اهتمامه بالأردن .. غير أننا نعتبر الموضوع ماساً بكرامتنا.. ونحن لا نوافق عليه" .. ولم يدر أن المستقبل الواضح الفاضح كان يخبئ له عاراً أكبر يوم أن سقطت الضفة الغربية ومعها بيت المقدس، وسقطت معها الكرامات واستبيحت الحرمات .. الطارف والتليد ..
ولم أبال بمعارضة الملك حسين، ومضيت أشرح أن المؤسسة المالية التي اقترحها هي مؤسسة عربية لا فلسطينية.. وأنها لتخفف الأعباء العربية المالية . ولترفع من الميزانيات الرسمية مشكلة التبرعات التي تفرضها ضرورات العمل العربي الموحد، من أجل القضية الفلسطينية، ولكن مؤتمرات القمة كانت مؤتمرات " موسمية" في تفكيرها، وهكذا .. قرر الملوك والرؤساء " أن يتولى الأمين العام للجامعة العربية تأليف لجنة برياسته لدراسة مشروع المؤسسة المالية المقدم من منظمة التحرير الفلسطينية، وتقديم تقرير عنه إلى المجلس في دورته المقبلة".
ولا بأس عليَّ أن أقف هنا قليلاً لأقول أن هذا المشروع كان قد قدم إلى الحكومات العربية لدراسته قبل انعقاد مؤتمر القمة بزمن كاف .. وكان المفروض أن يكون قد درس من قبل الجهات ذات الاختصاص .. ولكن أحداً لم يقرأ .. وأحداً لم يدرس .. وهذا هو حال الاجتماعات العربية، من اجتماعات الملوك والرؤساء إلى اجتماعات الوزراء والسفراء ..
وقارب المؤتمر على انتهاء أعماله وعهد إلى الأمانة العامة للجامعة العربية أن تضع القرارات بصيغتها النهائية، ومعها البيان المشترك .
وعقد الملوك والرؤساء جلستهم الختامية وأقروا الصيغة الكاملة لقراراتهم فكان منها:
-  الهدف العربي القومي النهائي في المجال العسكري هو تحرير فلسطين من الاستعمار والصهيونية.
-  استكمال القوة العربية لتحقيق هذا الهدف، وحشد جميع الطاقات العربية العسكرية والاقتصادية والسياسية .
-  أن تضع القيادة العامة الموحدة خطة تفصيلية لتنفيذ هذا الهدف .. وما يستلزمه من قوات ومعدات وأموال ووقت.
-  أن يضع القائد العام، خلال عام، خطة تفصيلية لتحرير فلسطين من الاستعمار الصهيوني على أساس القوات المتوفرة حالياً، وأن تعرض على المجلس في دورته المقبلة .
-  أن يتم حشد القوات المخصصة من العراق وسورية والسعودية لنجدة الأردن ولبنان، لتنطلق إلى أهدافها في حال حصول أي اعتداء من إسرائيل أو احتمال حصول هذا الاعتداء، كما تلتزم سائر الدول العربية بأن تكون قواتها متأهبة لرد العدوان فوراً
-  أن يمنح القائد العام حق التصريح المطلق بالتحركات العسكرية، على أن يراعى في تحرك القوات من دولة إلى دولة أخرى، قبل وقوع القتال، الأحكام الدستورية والنظم المرعية في كل دولة .. ( وهو القرار الذي وضع لمراعاة ظروف لبنان).
-  يكتفي الآن بالمبلغ المقرر في دورة الاجتماع الأول وهو مبلغ مائة وخمسين مليون جنيه إسترليني لشراء الأسلحة والمعدات وإقامة المنشآت الرئيسية .
-  تعتبر كلمة الملوك والرؤساء هي الضمان الوحيد للوفاء بالالتزامات المالية:
ثم أقر المؤتمر توصيات محددة بصدد المشروع العربي لتحويل مجرى نهر الأردن، ولا أرى داعياً لذكرها أو تلخيصها .. فإني لم أكن أؤمن أصلا بهذا المشروع .. ولم أكن أراه في البداية إلا تحويلاً للجهد العربي الأصل إلى الفرع.
ولقد انفض المؤتمر على " فرقعات" آلات التصوير العربية والعالمية، وتسابقت الصحف العربية في اليوم التالي، بعد أن " سمح " بأن تتسرب إليها المقررات السرية الخطيرة، فنشرت أكثر مما جرى، وأكثر مما سيجري .. وشحنت الأمة العربية بالآمال الجسام .. وعمت العالم العربي موجة من الابتهاج والانفراج لا تعدلها إلا الفرحة الكبرى بتحرير فلسطين .
وتسابق الملوك والرؤساء وهم يعودون إلى عواصمهم في إطلاق " بطاريات " التصاريح الطنانة من المدافع الكلامية الرنانة، وكان أغرب هذه الأقوال ما أعلنه الملك الحسن الثاني من أن اختلاف النظم الداخلية بين الدول العربية لا يمنع قيام اتحاد فيدرالي بينها .. وسألني الرئيس الجزائري أحمد بن بللا هل قرأت هذا التصريح .. قلت نعم لقد قرأته هذا الصباح أنه كالورود الاصطناعية، جميلة جميلة .. ولكنها من غير رواء ولا رائحة .. بل إنه كالشعر أعذبه أكذبه .
ولكن العذب حقاً والحلو صدقاً، من الملك حسين، لا من الملك الحسن فقد تذوقه الملوك والرؤساء، وكان عذباً حقاً وحلواً صدقاً فقد تجلى في أعة وستين صندوقاً من عنب الخليل حملها الملك حسين من الأردن بطائرته، فيها بطاقة جميلة " هدية من الملك حسين " وتقاسمها الملوك والرؤساء وعقب عليها فم الزمان بحكمته المأثورة : تقاسموها وأنت عنها غائب ..
وخرجت من المؤتمر أتأبط ملف المؤتمر، وعقلي لا يجرؤ أن يكذب ما سمع ، فقد أعلن الملوك والرؤساء، أن كلمتهم " تعتبر الضمان الوحيد للوفاء بالالتزامات".
وتركت مذكراتي أن تتحدث عن كلمة الملوك والرؤساء .. ولتروي للأمة العربية أن كلمة الملوك والرؤساء قد حنثت بكل كلمة من كلماتهم ونكثت بكل قرار من قراراتهم..
" فمن نكث فإنما ينكث على نفسه "
صدق الله العظيم

من الإسكندرية إلى.. دمشق..
بغـــداد .. الكويــت

ثلاثة رجال خرجوا من مؤتمر القمة الثاني الذي انعقد " بالإسكندرية " ومعهم القرارات التي أصدرها الملوك والرؤساء، وفي ذيلها أن " كلمة الشرف" هي الضمان الأكيد للوفاء.
وكان هؤلاء الثلاثة، الفريق أول علي عامر القائد العام للقيادة العربية الموحدة، والمهندس صبحي كحالة رئيس مجلس إدارة هيئة تحويل الروافد، وأحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
وقد انصرفنا كلَّ إلى دربه ليعمل على تنفيذ المهمة التي أوكلت إليه، فكان عل القائد العام أن يضع الخطط العسكرية لحماية تحويل الروافد كهدف عاجل، ولتحرير فلسطين كهدف آجل؛ وكان على المهندس كحالة أن ينفذ الخطط الفنية والإنشائية لتنفيذ المشروع العربي لتحويل روافد نهر الأردن بحيث يحجب عن إسرائيل أكبر قدر من مياهه؛ وكان عليَّ بوصفي رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية أن أجعل الكيان الفلسطيني حقيقة حية ، وخاصة فيما يتعلق بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني فقد كان الكيان الفلسطيني إلى ذلك العهد، هو اللجان التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولم تكن لنا مؤسسات قومية أخرى .
وتوجهت إلى ما توجهت بكل جوارحي نحو إنشاء جيش التحرير الفلسطيني، فلم يكن الشعب الفلسطيني، بعد تلك السنين الضائعة من حياته القومية ، يرضى إلا بأن يصبح له جيش، وأن يبادر هذا الجيش إلى تحرير وطنه.
ولعلي كنت أكثر الفلسطينيين ميلاً إلى هذا الاتجاه، فقد أورثتني خبرتي الطويلة في المحافل الدولية ضجراً بالعمل السياسي، وكفراً بالأمم المتحدة.
ولم أكد أخرج من اجتماع مؤتمر الملوك والرؤساء حتى دعوت اللجنة التنفيذية إلى اجتماع عاجل لنختار قيادة جيش التحرير الفلسطيني، ونبادر إلى إنشاء الجيش، قبل أن يجف الحبر على قرار الملوك والرؤساء .. وكنت قد بلوت الكثير من التلكؤ والتباطؤ في تنفيذ القرارات العربية منذ أن عقد الملوك والرؤساء مؤتمرهم العتيد في زهراء انشاص ( القاهرة) في أواسط الأربعينات (1)حتى مؤتمرات القمة الأخيرة في أواسط الستينات. ‍‍
وبدأت أستقصي عمن يصلح لأن يكون في قيادة الجيش، وكانت مفارقة عجيبة أن نعين القيادة العامة لجيش التحرير الفلسطيني قبل أن ننشئ الجيش نفسه؛ ولكن هذه واحدة من الأوضاع " المقلوبة " للقضية الفلسطينية وما أكثر هذه الأوضاع.
وأخذت أسأل عن الضباط الفلسطينيين ، الموجودين في قطاع غزة مع وحدات الجيش المصري أو الموجدين في سوريا مع وحدات الجيش السوري. ولم تكن لي معرفة بأحد منهم، كما لم تكن لي بطبيعة الحال أية معرفة بالأمور العسكرية.
وقال القائلون إن ضباطنا الفلسطينيين في غزة متأثرون إلى حد بعيد بأوضاع الإدارة المصرية في غزة، وبهذا لن يكونوا قادرين على فرض " استقلالية " الجيش وعدم تبعيته .. وأن ضباطنا الفلسطينيين الموجودين في الجيش السوري، قد يكونون أكفأ من رفاقهم في قطاع غزة وأعلى رتبة ، ولكن المشكلة فيهم أن هذا الضابط بعثي، وذاك شيوعي، وذلك لا يعصي للسلطة أمراً، وقالوا فوق هذا وذاك، إن أولئك الضباط قد تربوا في أحضان الانقلابات، فأصبحوا في مهب الرياح ..
ولقد وقفت حائراً أمام هذا الموضوع، فقد كنت منذ بداية اضطلاعي بمسؤولية إنشاء الكيان الفلسطيني حريصاً على تجميع طاقات الشعب الفلسطيني في وحدة وطنية، فلم أكن أريد أن أنشئ حزباً خاصاً أو تنظيماً معينا ًله ولاء عقائدي محدد .. فأنا لم أكن حزبياً .. ولا تمرست بالمناورات والمجادلات الحزبية ، وكان كل همي أن لا تكون المنظمة للبعثيين ، أو القوميين العرب، أو الشيوعيين، أو الأخوان المسلمين، أو غير ذلك من " الهويات " والصفات، بل كنت أريدها للشعب الفلسطيني كله . ولا حرج عندي أن يتجمع هؤلاء في إطار المنظمة، بشرط أن يكون ولاؤهم الأول والأخير لمنظمة التحرير ..
وانطلاقاً من هذا التفكير القومي، بدأت أبحث عن ضباط مستقلين تتكون منهم قيادة جيش التحرير، ويكفي من القيادة العسكرية أن لا تكون خاضعة لهذا الحزب أو ذاك.
وحين كانت اللجنة التنفيذية منعقدة في القاهرة في الأسبوع الأول بعد ارفضاض مؤتمر القمة الثاني، اقترح بعض الأعضاء تعيين عشرة من ضباطنا الفلسطينيين في غزة ، وسوريا ، والعراق، والكويت، ليكونوا قيادة للجيش وقد استرحت إلى هذا الترشيح من غير تردد ، فقد كنت أريد السرعة، قبل أن " يبطل " الملوك والرؤساء ويضعوا العراقيل في طريق إنشاء جيش التحرير.. وراقني أن تكون قيادة الجيش من ضباطنا في جميع البلاد العربية وعارض بعض أعضاء اللجنة أن قيادة الجيش ليس فيها ضابط كبير له ثقافة عسكرية واسعة .. ولكني أجبت : أن تحرير فلسطين سيكون مرهونا " بالكفاءة العسكرية العربية " لا بالكفاءة العسكرية الفلسطينية وحدها .. ويكفينا الجدال _ والقيل والقال
وفي يوم واحد وافقت اللجنة التنفيذية على تعيين قيادة الجيش، واعتبار اليوم العاشر من أيلول من كل عام يوم الجيش .. كل ذلك قبل أن يكون لدى المنظمة جندي واحد أو بندقية واحدة أو خرطوشة واحدة .. ذلك كان طموحنا، ومعنا الشعب الفلسطيني في قمة طموحه ..
وتألفت لجنة عسكرية من قيادة الجيش للاجتماع بالفريق علي عامر لوضع الخطة اللازمة لإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، لتكون وحداته متمركزة في قطاع غزة وسوريا والعراق .. فقد كان الأردن منذ البداية مقفلاً في وجه المنظمة، وكلما حدثنا الملك حسين لإنشاء وحدات عسكرية فلسطينية في الأردن كنا كأننا نقترب من ( رمل ) فيصبح ويقل ان الجيش الأردني هو جيش فلسطيني، ولا حاجة لإنشاء جيش آخر..
واستمرت اللجنة العسكرية تلتقي بالقيادة العربية الموحدة، في مقرها بمصر الجديدة شهراً كاملاً وهي تبحث التفاصيل.. عدد الكتائب .. المرتبات، التجنيد ، التمويل، التسليح، التدريب..
وانتهت الخطة بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، بما يقارب خمسة عشر ألف، يكون تمويله من صندوق القيادة العربية الموحدة، وإنشاؤه من قبل القيادات العربية في مصر وسوريا والعراق، كل على أرضه، بشرط أن يتم تسلمه إلى منظمة التحرير الفلسطينية بعد إتمام إنشائه وكان هذا الشرط محور خلافنا مع القاهرة ودمشق وبغداد..
وكانت هذه النقطة، " تسليم واستلام " الجيش الفلسطيني أهم ما دار حولها من الحوار بيني وبين الفريق أول علي عامر، فلم يكن في تصوره ولا تصور الحكومات العربية نفسها، أن يكون للشعب الفلسطيني جيش يستلمه بعد عام أو عامين .. كل شيء إلا استلام جيش التحرير ‍‍.. كل شيء إلا أن يكون للشعب الفلسطيني قوات مسلحة على الأرض العربية، مستقلة عن السلطة العربية الرسمية !!
وكنت أجادل الفريق عامر بأن جيش التحرير الفلسطيني سيخضع للقيادة العربية الموحدة فيما يتعلق " بالعمليات العسكرية " أما فيما عدا ذلك، فيجب أن يكون مستقلاً كأي جيش آخر، وأن يكون تابعاً للشعب الفلسطيني الذي تمثله منظمة التحرير الفلسطينية، وشأنه في ذلك شأن الجيوش العربية، كل منها تابع لحكومته.
وقد تجاوز الفريق عامر " الكلاسيكيات " العسكرية المتصلة بالجيش النظامي والأوضاع الحكومية الرسمية، ووافق إلى حد بعيد على خطة إنشاء جيش التحرير، تاركاً للمنظمة أن تدخل في " مفاوضة مع رئاسة أركان حرب الجمهورية العربية المتحدة، وزميلتها في دمشق وبغداد لإنشاء كتائب جيش التحرير الفلسطيني في كل من غزة وسوريا .. والعراق" وعلى هذا اتفقنا، وعلى الله اتكلنا.
وأعلنت في مؤتمر صحفي إلى الشعب الفلسطيني أننا قد انتهينا من وضع خطة لإنشاء جيش التحرير الفلسطيني بالتعاون مع القيادة العربية الموحدة، فكانت البشرى الكبرى للشعب الفلسطيني، ووصلتني البرقيات والرسائل بالتأييد أكياساً وأكداساً .. وكان التساؤل يملأ الوجوه .. الحقيقة سيكون لنا جيش .. وسيكون له سلاح ودبابات ومصفحات ؟؟ وهل سنرى مسدسه في حزامه، والبندقية على كتفه. أم أنه سيكون فلسطينياً لا بساً الكاكي وكفى، ليس أكثر من "كشاف" ولكن من عمر كبير.
واجتمعت برئيس أركان الجمهورية العربية المتحدة الفريق محمد فوزي ( فيما بعد وزير الحربية ) لأبحث معه الترتيبات اللازمة لإنشاء جيش التحرير في قطاع غزة، ففيه أكبر تجمع فلسطيني بعد الأردن .. ووضعنا الخطوط الرئيسية للخطة.
وكان الفريق فوزي عسكرياً صارماً مند البداية، فقد أصر على أن يتولى وحده إنشاء جيش التحرير الفلسطينية في غزة، من غير تدخل القيادة الفلسطيني، وأنه يسلمنا الجيش بعد إتمام إنشائه في مدة لا تتجاوز عامين، ولا يكون له بعدها أي سلطان على جيش التحرير.
قلت له : وما نفعل بقيادة جيش التحرير الفلسطيني. إن الخطة التي وضعناها مع الفريق عامر تتضمن إنشاء قيادة فلسطينية ذات شعب متعددة : للتدريب، والعمليات، للإمداد والتموين، للتوجيه المعنوي، للمخابرات، للتنظيم والإدارة، وللأمور المالية .. ولها رئاسة أركان، وقائد عام ..
قال : يجب أن يكون الأمر واضحاً منذ البداية .. هذه مسألة من اختصاصي وليست من اختصاص القيادة العربية الموحدة .. إن قطاع عزة يقع تحت سلطتنا العسكرية .. وأنا المسئول عن إنشاء جيش التحرير في قطاع غزة، أنا حاضر للتعاون معك كرئيس منظمة وحاضر لأن تبدأ قيادة جيش التحرير لعمل شيئاً فشيئاً، ولكن أنا المسؤول الأول والأخير وبعد انتهاء الإنشاء سأسلمكم الجيش.
قلت له : أنا أريد أن تشترك معك قيادة جيش التحرير الفلسطيني منذ البداية في إنشاء الجيش، وفي مراحل بنائه، وتدريبه وتسليحه..
قال : لا أوافق على المشاركة. الأمور العسكرية تقع تحت سلطة واحدة .. العسكرية ليس فيها مشاركة.
قلت : ولكن هذا الجيش هو للشعب الفلسطيني وسينشأ على أرض فلسطينية .. وسيكون جنوده وضباطه من الفلسطينيين .. وعلى الأقل أرى أن تمارس القيادة الفلسطينية أموراً إدارية مثل تعيين الضباط حتى يرتبط الجيش بقيادته.
قال : أنت تنظر للموضوع من ناحية سياسية قومية .. وأنا أنظر له من ناحية عسكرية.. والأمور السياسية هي بيد الرئيس عبد الناصر .. اتفق معه وأنا حاضر للتنفيذ .. أنا رجل عسكري أتلقى الأوامر.
ولقيت السيد محمود رياض وزير الخارجية، وهو عسكري سابق، فشكوت له من تصلب الفريق فوزي..
فقال : " فوزي ناصح " وله خبرة ممتازة ، أترك الأمر بين يديه، وسترى جيشاً فلسطينياً ممتازاً، وفي وقت قريب .. وأن كثيراً من الأمور سيقررها الفريق العجرودي الحاكم العام لقطاع عزة .. ومن المفيد أن تسافر إلى غزة بنفسك لتعالج الأمور على " الطبيعة ".
وراقت لي الفكرة، وخاصة أن الرئيس عبد الناصر كان قد وقع قراراً جمهورياً ( ديسمبر 1964) أضاف بموجبه مادة إلى " النظام الدستوري لقطاع غزة" جاء فيها أن " تحرير فلسطين واجب مقدس على أبنائها وعلى كل عربي وفي سبيل ذلك يعمل الفلسطينون في قطاع غزة متلاقين مع إخوانهم أبناء فلسطين أينما كانوا في تشكيل تنظيم قومي (منظمة التحرير الفلسطينية) هدفه العمل المشترك على استرداد الأرض المغتصبة من فلسطين والمساهمة في رسالة القومية العربية".
وقد قدرت للرئيس عبد الناصر، أن جعل تحرير فلسطين نصاً دستورياً، بعد أن أعلنه مؤتمر القمة العربي في القاهرة هدفاً قومياً.
وما هي إلا بضعة أيام حتى كنت في قطاع غزة مع 400 ألف فلسطيني بين مواطن ولاجئ .. وهبطت في مطار العريش، لأرى جموع الشعب الفلسطيني يتقدمهم الفريق العجرودي وكبار موظفي القطاع .
وسرنا رتلاً طويلاً من السيارات، وعلى جانبي الطريق حشود الشعب، والطلاب والشباب يرقصون، والطالبات ينشدن، والفرق الدينية بأعلامها تضرب بصنوجها وطبولها ودفوفها، والجميع يهتفون لفلسطين وتحرير فلسطين.
ولم نستطع أن نجتاز مدينة رفح وخان يونس، بين الجماهير الحاشدة، الهاتفة الصائحة، الدابكة الراقصة، إلا بمشقة بالغة؛ وكانت سياراتنا تخترق الصفوف المتراصة في كتل بشرية، فتساقط الشيوخ على الأرض، وتهاوى الأولاد على جنبات الميادين؛ ووصلنا إلى مدينة غزة لنجد الطرقات وقد انسدت بالجماهير، والأشجار وقد تسلق عليها الشباب، والأسطحة والشرفات وقد تثاقلت بأحمال الأهلين،حتى لم يعد لنا سبيل للوصول إلى الطرف الآخر من المدينة حيث مقر العجرودي.
وهجم رجال الشرطة على سيارتي فأخرجوني من نافذتها وحملوني إلى سيارتهم، فقد كادت الجماهير أن تعصر سيارتي بالأكتاف والصدور، ومن أين النجاة من هذه العاطفة الهادرة ؟..
وأخيراً وصلنا .. ولكن بمشيئة الله لا بسطوة الشرطة .
وأصيب عدد من الأهلين برضوض وجروح، وسقط أحد الشباب قتيلاً. وبادرت إلى أهله في اليوم الثاني معزياً، أعرض الدية، حسب التقاليد العربية، فأبوا بشمم وأنفة، وهم يقولون : هذا شهيد الوطن، ونحن لا نقبل دية ولا تعويضاً.. وأعظم بهذا الشعب وأكرم.
ولم يكن هذا الاستقبال الفريد الرائع لشخصي، ولكنه كان للملف الذي أحمله .. فقد نشرت الصحف يومذاك أني أحمل معي مشروع قانون التجنيد الإجباري، لأعرضه على المجلس التشريعي في غزة .. ونباشر بالتجنيد وإنشاء الجيش.
وهكذا كان ذلك الحشد العظيم، ولم يسبق له مثيل في القطاع، إلا يوم تم جلاء القوات الإسرائيلية عن قطاع غزة، بعد العدوان الثلاثي في عام 1956.
واجتمع المجلس التشريعي في غزة (15-31965) ومن القراءة الأولى، من غير حاجة إلى ثانية أو ثالثة، أقر المجلس بالإجماع مشروع قانون التجنيد الاجباري الفلسطيني في قطاع غزة، ولم يكد المجلس ينتهي من تلاوة المشروع حتى دوت القاعة بالتصفيق .
وخرجنا من قاعة المجلس وإذا بسكان المدينة قد احتشدوا في الساحة المقابلة – ساحة الجندي المجهول – وأخذوا يطالبون بالمبادرة لفتح المعسكرات، من غير انتظار لقانون التجنيد الإجباري .. واجراءته ومراحله..
وخطبت في الجموع أزف إليهم البشرى، وصاح أحد الشباب ..
- ولماذا " إجباري " إنه اختياري" نحن نريد التجنيد من غير قانون " إجباري" قلت : قانون " إجباري " لنجبر الدول العربية على " تجنيدنا" إنه اختياري لكم .. ولكنه إجباري على الدول العربية ..
ولعلعت هتافات الجماهير في كل أنحاء الفضاء، حتى لقد بلغت صيحاتهم المستعمرات اليهودية، وبعضها على مسمع الأذان منا، وبعضها الآخر على مرمى البصر .. هذا هو شعبنا البطل المقدام. وهذه كلمات قليلة في شجاعته وبسالته.
وقضينا الليل إلى الصباح في مقر الفريق العجرودي، ومعه ضباطه ومعاونوه، ونحن نتداول في مراحل إنشاء جيش التحرير الفلسطيني، ومعه ضباطه ومعاونه، ونحن نتداول في مراحل إنشاء جيش التحرير الفلسطيني، من أبناء القطاع، وممثلو العمال والطلاب والنساء والتجار يتوافدون علينا وهم يناشدون .. البدار .. البدار..
وقضيت بضعة أيام في زيارات لأطراف القطاع نهاراً، وعمل متواصل ليلاً .. وعدت إلى القاهرة .. وقد خلفت ورائي جموع الشباب يقفون صفوفاً طويلة أمام دائرة التجنيد، مصنع البطولة والرجولة .. على طريق الشرف والشهادة والتحرير ..
وقضيت بضعة أيام في مكتب المنظمة في القاهرة وإذا بالعرائض والبرقيات من جماهير الشعب الفلسطيني في سوريا والأردن والعراق ولبنان والكويت، وأصحابها يطالبون بالانضمام إلى جيش التحرير الفلسطيني .. ومن أين لي أن ألبي هذه الطلبات .. فإن الأموال المرصودة لإنشاء جيش التحرير محدودة، هذا إذا دفعتها الدول العربية بكاملها وفي الوقت المحدد.. ثم إن الملك حسين لا يوافق أصلاً على إنشاء كتائب فلسطينية في الأردن، ولينان لا يرضى أن يكون على أرضه جيشان، الجيش اللبناني والجيش الفلسطيني، وزاد من حجة لبنان أن عمان لا توافق على تجنيد الفلسطينيين في الضفة الغربية وهي أرض فلسطينية، فكيف يرضى لبنان بما لا ترضى به عمان!!
وسارعنا، ومعي القيادة العسكرية الفلسطينية، بأموال طائرة إلى دمشق لإنشاء كتائب فلسطينية من أبناء فلسطين في سوريا، تكون تابعة لجيش التحرير الفلسطيني .. واستقبلنا المسئولون كما كان الحال في مطار العريش يوم زيارتنا لقطاع غزة .. وعرفت السبب حين وصلنا فندق أمية ، فقد ذكر لي بعض الأخوان الفلسطينيين الذين كانوا ينتظروني في الفندق أن " السلطة " تحرص أن لا يكون لنا اتصال مباشرة بالجماهير الفلسطينية ..
ولم أبال بهذه البادرة، فقد كنت في تلك الزيارة منصرفاً إلى إنشاء قوات عسكرية فلسطينية على الأرض السورية وكفى .. وخاصة أن الوفد السوري في مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية كان في طليعة المطالبين بإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، وكان " لحماسته " فضل كبير في حمل الملوك والرؤساء على إقرار إنشاء الجيش ..
وقضينا أسبوعاً في دمشق، جرت خلالها اجتماعات مع رئاسة أركان الجيش السوري وشرحنا لهم ما وصل إليه الأمر من إنشاء جيش التحرير في قطاع غزة .. وتهيئنا إلى وضع خطة مماثلة، وصدرت الأوامر " بإفراز" الجنود الفلسطينيين الملحقين بالجيش السوري ليكونوا نواة جيش التحرير الفلسطيني، وضموا إليهم عدداً من الفدائين الفلسطينيين الذين كانوا يعملون في الجيش السوري، وهكذا تكونت النواة الأولى لجيش التحرير الفلسطيني في سوريا.
واستقبلت وفوداً من عديدة من أبناء فلسطين، والبهجة تغمرهم، أن تجنيد الفلسطينيين يجري على قدم وساق، وأن الفلسطينيين في المخيمات يطالبون بفتح مكاتب التجنيد عندهم .. وأن .. ولكن ..
قالوا : إن " السلطة" قد وضعت الأمر بين يدي الضباط الفلسطينيين البعثيين ، ونحن نخشى أن يصبح جيشنا بعثياً .. إن عددنا نحن الفلسطينيين في سوريا يقارب 150 ألفاً على الأرض السورية، وليس بيننا أكثر من 150 بعثياً.. ثم أننا نريدك أن تزور المخيمات، وتعقد الندوات .. نريد أن يكون جيش التحرير لفلسطين، لا نريده حزبياً، ولا بعثياً لا شيوعياً ولا عقائدياً .. نريد أن تكون عقيدته الوحيدة التحرير ،ولا شيء غير التحرير..
وقلت : لهم كل الذي يهمنا الآن أن يصبح المواطن الفلسطيني تحت السلاح .. ولنترك قضية البعث جانباً .. أما زيارتي للمخيمات فسأبحثها مع المسئولين.
وفعلاً، فقد اتصلت بالمسئولين، في رياسة الجمهورية، ورياسة الوزارة، ووزارة الخارجية، لتسهيل زيارتي لأبناء فلسطين في مختلف المحافظات السورية.. ولعقد مؤتمر فلسطيني كبير في الجامعة السورية في دمشق، على غرار المؤتمرات الفلسطينية الشعبية التي عقدت في قطاع غزة. ولكن المسئولين لم يجيبوا، ووعدوا أن يتم ذلك في زيارات لاحقة .. وكان عليّ أن أفهم أن " السلطة" لا تريدني أن أتصل بالجماهير الفلسطينية في سوريا..
ولا بأس أن أقف هنا قليلاً لأوضح الأسباب .. كان الصراع السياسي في ذلك الوقت على أشده بين دمشق والقاهرة، والإذاعة والصحافة لكلا الطرفين تخوض حرباً باردة بينهما، تتبادل تهماً خطرة .. دمشق تتهم القاهرة بالخيانة أو ما يقترب منها، والقاهرة تتهم دمشق بالمزايدة الكلامية والحماسة الجوفاء.
وكانت القيادة القومية لحزب البعث قد أصدرت بياناً (15 أيار 1965) أعلنت فيه صراحة : " أما بالنسبة لإنشاء الكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية فإن هنالك تخوفاً من أن يحملا التناقضات التي يعيشها الواقع العربي الرسمي باعتبار أنهما كانا وليدي مؤتمرات القمة، ولا يمكن إخفاء القلق حول مستقبل الكيان والمنظمة ومدى جديتهما وفعاليتهما؛ كما أنه لا يزيل تخوف الفلسطينيين من كون الكيان الفلسطيني ناقص الثورية والقدرة على مجابهة الأخطار وتنظيم عملية التحرير، ذلك لأن ظروف إنشاء الكيان وطريقة تشكيله والموافقة عليه تكاد تسجنه في حدود ضيقة
وقلت لقادة حزب البعث ، تعقيباً على هذا البيان : "هل تدلونني على طريقة أخرى لإنشاء منظمة التحرير بعيداً عن الواقع العربي، وثورية وقادرة من اليوم الأول لإنشائها؟" ولم أجد إلا جواباً واحداً : هذا شأنك . أنت المكلف بإنشاء الكيان الفلسطيني . ولم أجد من جانبي إلا جواباً واحداً على هذا الجواب : تعالوا نتعاون معاً على جعل المنظمة ثورية وقادرة .. وينتهي الأمر بعد هذا الحوار المرير بالصمت، الغارق بالصمت.
وكان حزب البعث منذ البداية يرى أن الرئيس عبد الناصر يؤيد فكرة إنشاء الكيان الفلسطيني ليتخلى عن أعباء القضية الفلسطينية ، ويلقي بها كلها على أكتاف الشعب الفلسطيني، وأن الرئيس عبد الناصر ، مضافاً إلى ذلك، يريد الكيان الفلسطيني جهازاً سياسياً إعلامياً، خالياً من المضمون الثوري.
وفوق هذا وذاك، فقد دخل في روع حزب البعث أوعلى الأصح أقنع نفسه بنفسه منذ البداية، أن الشقيري هو" عميل " لعبد الناصر، ويجب التعاون معه في حذر، وفي أضيق الحدود.
ولقد حرصت في لقاءاتي في القصر الجمهوري في دمشق، وفي رئاسة الوزارة ، وفي دوائر الخارجية أن " أخلق" كل مناسبة لأقول بكل صراحة إن صلتي بالقاهرة وبالرئيس عبد الناصر بالذات هي صلة قومية في مجال القضية الفلسطينية، وإنني حريص أن أكون على أحسن الصلات مع دمشق ومع قادة حرب البعث، وإنني لن أتعرض لأمورهم الداخلية، ولا لخلافهم مع الرئيس عبد الناصر .
ولكن هذه " التطمينات" والتأكيدات لم تكن لتقنع حزب البعث، فلم يتيسر لي أن أزور الفلسطينيين في سوريا، وكانوا في نظر الحكومة السورية ناصريين متحمسين، فكيف تتاح الفرصة للقائهم مع الشقيري" صديق عبد الناصر"، الذي قد يلهب حماستهم في خطبه، ويثير علينا ثائرة الرأي العام، وينتقل هذا الحماس إلى الشعب السوري، ومعظمه شغوف بالناصرية، غير منسجم مع قادة البعث*.
كان هذا هو موقف البعث مني ومن منظمة التحرير الفلسطينية ولكني رضيت من البعث أن يوافق على إنشاء جيش التحرير على الأرض السورية، تاركاً موضوع الاتصال بالجماهير الفلسطينية جانباً .
ومن دمشق حملتني الطائرة إلى بغداد لأواصل مهمتي في إنشاء جيش التحرير .. وحين هبطت بنا الطائرة أرض المطار بدا لي الفرق واضحاً بين الحكم في دمشق والحكم في بغداد. فقد كان في استقبالي جمهور من أبناء الشعب الفلسطيني وهم يهتفون لفلسطين والعروبة ويعلنون انضمامهم إلى جيش التحرير . كما كان في الاستقبال الوزراء العراقيون، وسفراء الدول العربية، والصحفيون والمصورون.
كان الحكم في العراق، برياسة المشير عبد السلام عارف، قومياً عربياً، بعيداً عن الحزبية وتعصبها، بعد أن شهدت بغداد في عهد اللواء عبد الكريم قاسم مجازر الحزبية الشيوعية البغيضة التي أعادت إلى العراقيين ذكريات احتلال التتار لبغداد في القرون الوسطى، يوم أفشوا فيها الدمار والنار..
وقضيت بضعة أيام في بغداد، اجتمعت خلالها بالرئيس عبد السلام عارف ووزرائه وكبار ضباط الجيش العراقي، وكانت مهمتي يسيرة غاية في اليسر . فقد وافقت رئاسة الأركان العراقية على تجنيد الفلسطينيين في العراق، وألحقت عدداً منهم في المعاهد العسكرية وكلية الضباط، وتوالت زيارتي لمعسكر الرشيد في ضاحية بغداد حتى غدا معسكر الرشيد تحت تصرف الشعب الفلسطيني، أو كأنه قطعة من الأرض الفلسطينية ..
والتقيت بالإخوان الفلسطينيين في كل مكان، في قاعة الخلد حيث خطبت فيهم عن جيش التحرير، وفي مسجد الأمام الأعظم حيث دعوت معهم دعاء النصر..
وذهبت إلى المشير عبد السلام عارف أودعه وأشكره لما لقيت من يسر وحفاوة، ودار الحديث بيننا عن الأوضاع العربية وسأل :
-  أين وصلت مهمتك في إنشاء جيش التحرير؟
قلت : أحمد الله لقد كانت بغداد خاتمة المطاف، لقد بدأنا إنشاء جيش التحرير الفلسطيني عملياً .. لقد أنشأنا قوات " القادسية" في بغداد، وقوات " حطين " في سوريا وقوات " عين جالوت "في غزة .. وهذه هي الأسماء التي أطلقناها على قوات جيش التحرير تيمناً بتلك الذكريات الناصعة، لتلك المعارك العربية الرائعة..
قال : وهل وافق البعثيون في دمشق على إنشاء القوات الفلسطينية؟..
قلت : نعم .. التجنيد يسير بنشاط، وكذلك التدريب والتسليح .. حتى أنهم بادروا بإخراج السلاح من مخازن الجيش السوري قبل أن تصلهم الأموال من القيادة العربية الموحدة.
قال : أنت لا تعرف البعثيين، يا أحمد، البعثيون " شُطَّار " .. جيش التحرير الفلسطيني في سوريا سيكون بعثياً .. وستكون وظيفة المنظمة أن تقدم الأموال لسوريا .. ولن تستطيعوا أن تحركوا جندياً فلسطينياً واحداً .
قلت : لا بأس. المهم هذه المرحلة أن يكون لنا جيش فلسطيني وليكن بعثياً.. ولكنه سيكون فلسطينياً على كل حال .. أليس كذلك؟
قال : لا أعلم ..
قلت : إذا كنت أنت رئيس الجمهورية العراقية لا تعلم، فماذا أصنع أنا، ونحن شعب فلسطين بلا وطن .. وبلا إرادة حرة .. وبلا تجمع .. ولولا موافقة الدول العربية في مؤتمر الإسكندرية ما استطعت أن أجند شاباً فلسطينياً واحداً، ولا أن أحوز على بندقية واحدة.
قال : على كل حال .. كن على حذر من البعث .. أنت قضيت سنين طويلة في المحافل الدولية،ولم تتمرس بالمناورات الحزبية، لقد بلونا منها القتل والسحل .. و .. و..
قلت: ولا أريد أن أتعلم المناورات الحزبية، ولا أن أمارسها، كل ما أريده أن أبني للشعب الفلسطيني كياناً وجيشاً، بأي وسيلة وبأي حيلة وليكن بعد ذلك ما يكون .. أنا لا أستطيع أن أتصدى للبعث ولا لأية حكومية عربية، إن الشعب الفلسطيني أصبح أسير الظروف العربية ، وسأفعل ما أستطيع وفوق ما أستطيع .. والتوفيق من الله ..
وانتهى الحديث بيننا عند هذه النقطة " ترك الأمور لله " فالمشير عبد السلام عارف مجادل عنيد صلب، ولا سبيل لإسكاته إلا بعبارة "دينية" تلجم لسانه.
وعدت إلى الفندق لأجد برقية من شباب الكويت، يلحون عليَّ أن أزورهم " وأنا قريب منهم .. وأنهم يريدون إنشاء معسكر للتدريب على حمل السلاح".
وكان بوسعي أن أعتذر للشعب الفلسطيني عن أي طلب يريدونه إلا السلاح وحمل السلاح، فبادرت إلى أول طائرة وصلت إلى الكويت إلى قصر الضيافة، قريباً من وزارة الخارجية الكويتية,وفي لحظات أصبح قصر الضيافة الكويتي داراً للشعب الفلسطيني فقد توافدت جموع الشباب والطلاب والعمال والموظفين، وهم يمثلون صفوة الشعب الفلسطيني، فغصت بهم ردهات القصر وحدائقه ومعابره. وكان المفروض على الحرس الكويتي المرابط على أبواب القصر أن يمنع أحداً من الدخول إلا بموافقتي .. أو بإذن من وزارة الخارجية .. ولكن أنىّ للشعب أن تصده هذه الإجراءات..
(صورتان)

(صورتان)

(صورتان)

(صورة الاتفاقية مع الصين)

وجلست مع الإخوان الفلسطينيين في حديقة القصر، وكان معظمهم جالساً على العشب الأخضر؛ وخيل إلينا أننا في ضواحي حيفا، أو في مروج عكا، أو سهل مرج بني عامر، حيث السهول السندسية تتألق في أيام الربيع، والزمان في فلسطين كله ربيع ..
وسردت على الحاضرين خلاصة إنجازات منظمة التحرير بصدد إنشاء جيش التحرير الفلسطيني، وما انتهى إليه الأمر في بناء وحداتنا العسكرية من قوات عين جالوت (قطاع غزة) وحطين (في سوريا) والقادسية (في العراق).. وطبيعي أنني لم أكشف للأخوة الفلسطينيين عن متاعبي التي لقيتها من القيادة العربية الموحدة.. ورياسة الأركان في كل من دمشق والقاهرة، ولم أكاشفهم كذلك أن الملك حسين يرفض أن يكون للمنظمة أي نشاط عسكري في الضفة الغربية مهما كانت صيغته وصفته، فقد حرصت دائماً أن أتستر على الحكومات العربية، وأن أحتفظ بأوجاعي في صدري وحدي ..
وكانت معي مجموعات من الصور عن ضباطنا وجنودنا بملابسهم العسكرية وأسلحتهم، فتخاطفوها وهم لا يكادون يصدقون أنه أصبحت لهم نواة جيش يتأهب لمعركة التحرير .. وتعرف الأخوة الفلسطينيون على بعض الضباط والجنود .. وتصايحوا : هذا أبن عمي، هذا ابن خالتي، هذا أبن حامولتي، وعم السرور والفرح .. إلاَّ نفرا كانوا يجلسون متربصين، لا يتجاوز عددهم الخمسة أو الستة..
لم يشارك هؤلاء الخمسة إخوانهم فرحتهم وسرورهم، فرأيت من واجبي أن أشرح صدرهم، وأحل عقدتهم، فسألت :
مالي أراكم واجمين لا تشاركون إخوانكم سرورهم، وهل من فرحة أعز على قلوبنا من إنشاء جيشنا، إلا العودة الظافرة إلى الوطن ..
قالوا : نحن لا تخدعنا الشعارات والعبارات...
قلت: إن الأمر قد تجاوز الشعارات والعبارات لقد بنينا نواة جيش التحرير.
قالوا : هذا جيش كلاسيكي ونريده جيشاً ثورياً..
قلت : أدخلوا الجيش، واجعلوه جيشاً ثورياً ..
قالوا : نحن لا ندخل الجيش الكلاسيكي..
قلت : هذا ما قدرت عليه، وإذا كنتم قادرين أن تبنوا جيشاً ثورياً، فما يمنعكم .. وأنا مستعد أن أعاونكم.
قالوا : أنت بارع في الجدال .. ونحن لا نقدر عليك ..
قلت : أنا مستعد أن أتخلى عن العمل، إذا كان عملي لا يعجبكم .. تفضلوا أنتم وأعملوا وأنا أؤيدكم..
قالوا : نحن لا نؤمن بمؤتمرات القمة، ولا بأي عمل يصدر عن مؤتمرات القمة، وهذا الجيش سيكون خاضعاً لمؤتمرات القمة.
قلت : أنا لا أزعم أنه ستكون لنا السلطة الكاملة على جيشنا، فإن جيشنا ليس على أرضنا .. وماله وسلاحه من أموالنا وسلاحنا .. أنا لا أخدعكم، إنني أحاول أن أصنع أحسن شيء من أسوأ شيء.. وهذه هي ظروفي مع الملوك والرؤساء.. ومن كان يستطيع أن يفعل خيراً من هذا فليتفضل، وأنا وراءه.
كان هذا الحوار يدور بيني وبين الشباب الخمسة على مسمع من جمهور الفلسطينيين، وقد ضجروا من هذا الجدل .. وصاح أهدهم قائلاً: هؤلاء حزبيون .. لا يصلحون إلا للجدال .. نحن دعوناك لتقنع حكومة الكويت لتسمح لنا بإنشاء معسكر للتدريب ..وهذا كل ما نريده ..
قلت لهم : سألبي طلبكم، وعلى مسمع منكم.
ونهضت إلى التلفون، وطلبت الديوان الأميري، وتحدد موعدي مع الأمير عبد الله السالم في اليوم الثاني ..
وفي الموعد المحدد(6-1-1965) كنت أصعد باب القصر الأميري، أمر أمام حرس الشرف وقد اصطف لهذا " الفلسطيني اللاجئ " يستقبله كما يستقبل " رئيس دولة "، مع أنه من غير دولة ولا وطن .. وشعبه مشرد في الآفاق..
دخلت على الأمير عبد الله السالم في مكتبه، وأنست بترحيبه، وقهوته العربية، وشرحت له ما أنجزنا بشأن جيش التحرر الفلسطيني، وشكرت للكويت حكومة وشعباً ما تلاقيه المنظمة من تأييد مادي ومعنوي .. ورجوته أن يصدر أمره إلى وزراء الدفاع بإنشاء معسكر لتدريب أبناء فلسطين على حمل السلاح وليكن ذلك تحت إشراف الضباط الكويتيين.
قال : وهل أنشأتم معسكرات تدريب في دول عربية أخرى؟
قلت : نعم، في قطاع غزة، وسوريا، والعراق ..
قال : الأردن .. ولبنان .. حيث يوجد ألوف من الفلسطينيين؟
قلت : طال عمرك .. أنت تعرف أمورنا في الأردن، وظروفنا في لبنان.
قال : ونحن عندنا ظروفنا .. الفلسطينيون عندنا كلهم موظفون وعمال، يعاونون أسرهم في الضفة الغربية .
قلت : أنهم يريدون أن يتدربوا على حمل السلاح في أوقات فراغهم، بعد انتهاء العمل.. لقد ألحوا عليَّ أن أنقل رغبتهم إليكم، وأنا على موعد معهم اليوم في قصر الضيافة لأبلغهم بقرار سموكم.
قال : وماذا ستخبرهم ؟؟
قلت : سأخبرهم أن طويل العمر قد وافق على رغبتهم .. وأن حكومة الكويت ستهيء مركز التدريب والضباط والسلاح والسيارات..
قال : أنا موافق .. بشرط أن يبقى السلاح في المعسكر ..
قلت : يبقى السلاح في المعسكر .. وليبقَ معه الفلسطينيون إذا شئتم !! فضحك الأمير، وتناول التلفون وأصدر أمره إلى وزارة الدفاع بإعداد العدة لإنشاء معسكر التدريب.
وخرجت من القصر الأميري، والسيارة تسابق الرياح إلى قصر الضيافة، وهناك وجدت جموع الفلسطينيين بانتظاري .. ومن غير مقدمة ولا ديباجة، قلت لهم إن سمو الأمير أصدر أمره إلى وزارة الدفاع بإنشاء المعسكر، والهمة الآن أصبحت همتكم.. فتعالت أصواتهم بالهتاف للكويت، أميراً وحكومة وشعباً .. إلا الخمسة إياهم فقد كانوا واجمين،فجاء أحد المدرسين الفلسطينيين وجرَّهم من تلابيبهم وهو يقول : أريد أن أشدكم من ملابسكم كما أفعل مع أبناء المدرسة .. اذهبوا إلى معسكر التدريب، إذا كنتم ثوريين حقيقيين.
واتصلت بدار الإذاعة الكويتية، وأمليت الخبر بنفسي بأن سمو الأمير قد وافق على إنشاء معسكر للتدريب لأبناء فلسطين .. وأذيع الخبر في نشرة الإذاعة الكويتية عدة مرات .. ولكني دفعت الثمن !!
دفعت الثمن .. لأن جموع الفلسطينيين قد أحاطوا بقصر الضيافة في عصر ذلك اليوم، والحرس يشدد في عدم الدخول .. وكانت وزارة الداخلية قد بالغت في حراستي، فقد وصلت إليها بعض التقارير السرية، أن السيد أمين الحسيني رئيس الهيأة العربية العليا قد دبر مؤامرة لاغتيالي في الكويت، بعد أن لم تفلح مؤامرته في لبنان – والله أعلم.
وخرجت إلى باب القصر وطلبت إلى الحرس أتن يفتحوا الأبواب وليدخل الجمهور، والحارس هو الله، وقال الضابط بلهجة كويتية: عندنا أوامر مشددة أن لا نسمح لأحد بالدخول..
ولكن الجمهور، وقد رآني أجادل الضابط، دخل واقتحم .. ولم يسع الضابط وجنوده إلا أن يفسحوا الطريق ..
ورويت للأخوة الفلسطينيين ما دار بيني وبين الأمير . فكان سرورهم عظيماً، وانتظم كثير منهم في حلقات فأخذوا يدبكون الدبكة الفلسطينية، كما لو كنا في إحدى قرانا الحبيبة في ساحاتها، أمام طوابينها .. وعلى مقربة من المسجد والمضافة، وما أعزها وأكرمها..
ولم يكد ينصرف أبناء فلسطين من قصر الضيافة حتى دخل علي الضابط المرافق وهو يقول باللهجة الكويتية : يا أستاذ .. إن فلسطين ليست لكم وحكم با أبناء فلسطين.. نحن شباب الكويت نريد أن نجاهد معكم في سبيل تحرير فلسطين .. وقد استمعت إلى أسئلة الفلسطينيين ،وكان بعضها وجيهاً وبعضها تافهاً .. وأنا أريد أن أسأل : في أي عام تتوقعون تحرير فلسطين ؟
قلت : ( وقد أغرقني هذا السؤال المثير في لجة ثقيلة من الحيرة) يا أخي ليس الأمر منوطاً بالأعوام .. إن تحرير فلسطين لا يحسب بالشهور والأعوام، ولكن له قياساً آخر.
قال : وما هو هذا المقياس في رأيكم؟
وعزمت أن أتهرب من هذا الحديث، ولكن الضابط الكويتي ألحَّ وألح وقد أغرتني حماسته فقلت :
- إن تحرير فلسطين يحتاج أول ما يحتاج إلى تحرير الأمة العربية..!!
قال : ( مذهولاً) وماذا تعني بتحرير الأمة العربية ؟
قلت : كنا في عهد الاحتلالات والانتدابات نطالب بالاستقلال والحرية. لقد ظفرنا بالاستقلال، وأصبحت لنا دول مستقلة .. ولكننا لم نظفر بالحرية .. بل إننا سلبنا كثيراً من الحريات التي كنا نمارسها في عهود الاحتلال والانتداب..
قال : وماذا تعني ؟؟
قلت : لقد عشنا عهد الانتداب، وكنا في الوطن العربي نمارس إلى حد غير قليل كثيراً من الحريات : حرية التظاهر، إنشاء الجمعيات والنوادي، حرية الصحافة وما إلى ذلك .. ولما جاء عهد الاستقلال، قامت " السلطات" العربية بمصادرة الكثير من هذه الحريات.
قال : وكيف ذلك؟
قلت : إن الصحافة وأجهزة الإعلام هي بيد الحكومات .. المظاهرات والمسيرات الشعبية تقوم بها السلطة .. ليس على الحكم العربي رقابة شعبية حقيقية.. الملكيات (وراثية) والجمهوريات لا تستمد الحكم من إرادة الجماهير .. ثم استطردت قائلاً : لقد تلقيتم في الكويت تقريراً عن محاولة لاغتيالي .. أنا لا أعلم مبلغ الصدق في هذا التقرير .. ولكني لا أستغرب .. أن الحكم العربي الحاضر، ولا أعني الجميع، قد مارس القتل والسحل، الاعتقال والاغتيال، الإرهاب الفكري، والعزل السياسي، وما إلى ذلك من المظالم .. يجب تحرير الإنسان العربي من هذا النوع من الحكم العربي قبل أن ندخل معركة تحرير فلسطين .. فهذا النوع من الحكم العربي ليس مؤهلاً لتحرير فلسطين ..
قلت هذا وغير هذا .. ولست أدري كيف قلته للضابط الكويتي.. ولكنها كانت لحظة تفجرت فيها نفسي ولم استرح منها إلا حين انصرفت إلى غرفتي لأنام ..
وقضيت أياماً في الكويت اجتمعت خلالها بأبناء الكويت، الشيوخ والشباب والطلاب والنواب والوزراء .. وكان حماسهم للقضية الفلسطينية على غاية ما يكون إيماناً ورسوخاً..
وبهمة وعزيمة بادر الشيخ سعد العبد الله وزير الدفاع الكويتي لإنشاء المعسكر، فما هو يوم أو اثنان إلا والمعسكر قائم ينتظر شباب فلسطين، وخرجت بنفسي لأرى .. خرجت إلى سهل فسيح في ضاحية الكويت حيث المعسكر، فرأيت بعض الخيام وفيها الضباط الكويتيون وصناديق الأسلحة .. والعلمان الكويتي والفلسطيني يرفرفان في ساحة المعسكر، والسيارات الكبيرة تدخل أرض المعسكر لينزل منها الفلسطينيون .. الشباب، العمال، الأطباء، المهندسون، المدرسون، كبار الموظفين .. كلهم ينتظمون في صفوف طويلة، والبنادق على أكتافهم في المراحل الأولى من التدريب.
وقفت أتفرج، والسرور يملأ جوانحي، ودقات قلبي تضرب في صدري، مع وقع خطواتهم، وهم يضربون الأرض، كأنما إسرائيل تحت أقدامهم وانتهت ساعة التدريب .. ووقفت أتحدث إليهم عن بطولات الشعب الفلسطيني التي عشتها في وطننا كل عمري،وعن معاركنا مع القوات البريطانية والصهيونية على مدى ثلاثين عاماً في عهد الانتداب.
وقلت في ختام حديثي: " لقد قضيت خمسة عشر عاماً من عمري في الأمم المتحدة، ولكن ساعة معكم هنا في معسكركم هذا، أجمل عندي من تلك الأعوام كلها؛ بكم أيها الإخوان وبجيش التحرير الفلسطيني تبدأ حياة جديدة للشعب الفلسطيني ولقضية فلسطين. إنها حياة التحرير، شاقة وطويلة، كثيرة المنعطفات والمزالق والنكسات ولكن هذا هو طريق التحرير .. وإذا هلكت في الطريق فاحملوني معكم إلى فلسطين .. ذلك هو عهدي إليكم وليكن هذا عهدكم إليَّ".
وخرجت من المعسكر رأساً إلى المطار، وقد أعددت نفسي للسفر، والشباب معي مغبرة أقدامهم من غبار المعسكر، معفرة وجوههم من عفار التدريب..وكان ذلك عندي أكرم وداع .. أليس غبار النضال، وعفار الجهاد، أعز من أكاليل الورود وأقواس الرياحين.
ركبت الطائرة عائداً إلى بيتي في القاهرة، بعد رحلة طويلة شاقة، شهدت خلالها جيش التحرير في مولده.. وغبار الكويت وعفاره يتخلل ملابسي إلي جسدي، وبودي ألا أزيحه عني، لو أستطيع إلى ذلك سبيلا.
أنه غبار المعسكر عفار التدريب.
ذلك الغبار، أكرم من أقواس النصر التي تنصب للملوك.
وذلك العفار، أجمل من أكاليل الغبار التي ترفع للرؤساء.
وماذا أقول اليوم في أقواس النصر التي تنصب للملوك بعد الهزيمة وفي أكاليل الغار التي ترفع للرؤساء، بعد الانكسار.
ماذا أقول فيهم، وهم يمشون تحت ظلالها فرحاً ومرحاً.
"ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً"
"صدق الله العظيم"

أنا لا أقرأ الفاتحة لأني
لسـت رجعيــاً!!

كان عام 1965 من بدايته إلى نهايته، بأيامه ولياليه عملاً متصلاً، ودعني أسميه نضالاً لاهباً، لبناء الكيان الفلسطيني، بجميع مؤسساته السياسية والعسكرية والمالية والإعلامية والتنظيمية .. وما أشق البناء بين الأنقاض والخرائب، ومع الحكومات العربية.
لقد تهدم الكيان الفلسطيني بعد عام 1948، وفقد الشعب الفلسطيني وجوده القومي، واندرست كل مؤسساته القومية التي كان يناضل من خلالها في عهد الانتداب البريطاني، فقد أصبحت الهيأة العربية العليا التي كان يرأسها السيد أمين الحسيني اسماً من غير مسمى، فقد استقال من أعضائها من استقال، ومات من مات، وبقي الحاج أمين الحسيني يحمل أختامها وملفاتها، ليصدر بيانات إلى الصحف في المناسبات القومية، مثل ذكرى وعد بلفور أو قيام إسرائيل ..
ثم جاءت حكومة عموم فلسطين فقامت بشيء من النشاط في بداية إنشائها، ولكن تخلف الدول العربية عن مساندتها ،جعل منها في النهاية مكتباً صغيراً بين أسواق القاهرة، يقضي فيه رئيسها السيد أحمد حلمي باشا بعض فراغه، وكل ما بين يديه ميزانية من الجامعة العربية في حدود أربعمائة جنيه مصرياً للشهر الواحد .. هذا إذا وصلت المشاهرات في مواعيدها.
وحينما ولد الجديد – الكيان الفلسطيني – على فراش مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية في خريف 1964، هب الشعب الفلسطيني، على آماله وأحلامه، وما أراد أن ينتظر دقيقة واحدة .. إنه يريد الكيان الفلسطيني اليوم اليوم، ولا ساعة واحدة بعد اليوم ..
ولم أكد أستريح بضعة أيام في القاهرة، بعد جولتي التي قمت بها في الدول العربية لإنشاء جيش التحرير، حتى أصبحت لا أذهب إلى عملي في الصباح إلا وأجد وفود الشعب الفلسطيني من كل مكان، وقد سبقوني إلى مكتبي في القاهرة، وجميعهم يلحون ويلحون على استكمال بناء الكيان الفلسطيني.
وما أكاد أفرغ من الاستماع إليهم، والاصطبار على جدليات بعضهم، حتى أبدأ بقراءة البريد أكداساً أكداساً، من كافة أرجاء الوطن والمهاجر، والفلسطينيون يصيحون في أذني للمبادرة إلى تنظيم الشعب الفلسطيني، وتعبئة طاقاته وقدراته.
وأحسست أن مطحنة قد أصبحت تطحن أعصابي، فقد أنهال عليَّ الشعب الفلسطيني بمطالبه، ومقترحاته، وشكاواه، وكأنما سياط لاهبة أصبحت تمزق ظهري . ووجدت نفسي أمام موقف رهيب خطير .. رأيت نفسي أنني لا أحمل متاعب القضية الفلسطينية برمتها، وما أخطرها؛ ولكني أصبحت مسؤولاً أمام ثلاثة ملايين فلسطيني بمشاكلهم وما أكثرها :الإقامة والعمل، والتنقل، والوظائف، والرواتب، والطلاب، وكل ذي حاجة وشكوى؟
وقلت في نفسي لحظة من لحظات الإرهاق والتعب : إن الملوك والرؤساء أذكياء حقاً .. لقد خلعوا عن أكتافهم القضية الفلسطينية بكل متاعبها ومشاكلها، وألقوها على أكتافي.
وإن أعظم دواعي سروري أن أقضي عمري في حمل هذه الأمانة، لو توافرت بيدي إمكانات العمل وقدراته المادية والمعنوية .. ولكن إنَّى يكون لي ذلك.
لقد أعطاني الملوك والرؤساء المسؤولية كاملة ، ولكنهم لم يضعوا بين يدي الإمكانات التي تتطلب هذه المسؤولية الجسمية، وأصبحت أحمل، بالإضافة إلى القضية الفلسطينية ومتاعبها، متاعبي مع الدول العربية.
وقد كان الخيار أمامي من البداية، وأنا أعلم بالخبرة والممارسة الطويلة تلكؤ وتخاذل الدول العربية، أن أعمل أولاً أعمل .. فاخترت أن أعمل .. بل ما في هذا الخيار من مغامرة وأي مغامرة!!
وكان أول عمل انصرفت إليه هو إنشاء إذاعة لمنظمة التحرير الفلسطينية وقد بدا هذا غريباً على كثير، من الفلسطينيين ومن العرب على السواء.
وتطايرت الأسئلة بعضها بريء وبعضها حاقد.. ولماذا الإذاعة، ألا يحسن إنفاق أموال الإذاعة على القتال؟؟ أليس في الدول العربية ثلاثة عشرة إذاعة كل منها مستعد أن يعطي لمنظمة التحرير ساعة في اليوم ؟ ألم تشبع كلاماً وخطباً.
وكان عليَّ أن أجيب عن هذه الأسئلة، في الصحف، وفي اجتماعات الجامعة العربية، وفي ندوات الشعب الفلسطيني.. وكنت أصيح على الدوام في وجه السائلين بجواب واحد: إذا كانت الإذاعة لازمة لشعب آمن في وطنه مستقر في دياره له حكومته وحريته واستقلاله، فإنها للشعب الفلسطيني ألزم،وقد فقد وطنه ودياره، وتباعدت منازله .. ولم يعد من وسيلة للاتصال به، أو الاجتماع إليه إلا عن طريق الإذاعة، بالتعبئة والتوجيه و .. و..
واجتمعت بالدكتور عبد القادر حاتم وزير الثقافة والإرشاد القومي في القاهرة .. لأطلب إليه أن يعطينا سب ساعات من برامج إذاعة الشرق الأوسط، لتكون تحت تصرف منظمة التحرير الفلسطينية؛ وبعد مداولات مع المهندسين والفنيين ، وقفت أمام المفاجأة !!
وكانت مفاجأة حقاً، حين أبلغني الوزير حاتم بأن " الوزارة تريد أن تتقاضى مبلغ 150 ألف جنيه إسترليني من المنظمة أجراً عن الساعات الست المطلوبة .. وأن هذا المبلغ هو فقط استهلاك الكهرباء و .. أن الأجر المعتاد أكثر من ذلك بكثير" .
لقد كنت أطمع من الجمهورية العربية المتحدة، وهي التي تتحمل أعباء ضخمة في سبيل القضية الفلسطينية، أن تتبرع بهذه الساعات الست للشعب الفلسطيني.. وعاودت السؤال عن تفاصيل هذا المبلغ، وأنا أطمع أن يراجع الدكتور حاتم نفسه ويتنازل عن الأجر كله أو معظمه أو بعضه. ولكنه كان يؤكد لي أن هذا المبلغ هو " تكلفة لا أجر، وأن المبلغ مطلوب بالإسترليني، لأن القاهرة تشتري الأدوات والأجهزة اللازمة من الخارج، وبالنقد النادر..
ولم يسعني إلا القبول بدفع المبلغ حتى ولو رفضت المنظمة الموافقة .. وحتى لو أدى ذلك أن أبيع مكتبتي وهي أعز ما أملك؛ فقد كان لا بد لنا من إذاعة تعبر عن مشاعر الشعب الفلسطيني وإرادته، وتلتقي عند موجاتها آماله في العودة الكريمة، والتحرير المؤزر..
واتصلت المنظمة بالفلسطينيين الإذاعيين في الوطن العربي، فاندفعوا إلى القاهرة، لا يسألون عن راتب أو شروط، ليضعوا كفاءتهم وخبراتهم تحت تصرف شعبهم وطنهم، وبدأت الاستعدادات الفنية، لافتتاح الإذاعة في مطلع شهر آذار 1965.
وفي اليوم المحدد، وصلت إلى مقر إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، وكان رجالها يروحون ويغدون في حركة دائبة، والبشر يعلو وجوههم، فهذا اليوم يومهم، بل يوم الشعب الفلسطيني كله.
وأخذ المسؤولون عن إذاعة الجمهورية العربية المتحدة، يتقدمهم الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومي، وعدد من الصحفيين العرب والأجانب يفدون لشهود حفل الافتتاح .. وكانت الوجوه طافحة بالسرور، والحضور يتبادلون التهنئة؛ وخيل إليَّ إن الحفل أشبه ما يكون باجتماع الأسرة احتفاء بمولود طال انتظاره.. وكان هذا المولود حقاً هو " صوت " الشعب الفلسطيني بعد أن احتجب بضعة عشر عاماً.
ودخلت حجرة الإذاعة وجلست أمام المذياع.. وأصبحت في الحجرة وحدي أنتظر إشارة البدء .. وغمرتني طائفة من الذكريات عن شعبنا في كفاحه الدامي الطويل، وعن وطننا وما عاناه وقاساه .. وخُيل إليَّ أن الشعب الفلسطيني قد أصبح كله معي في تلك الحجرة الصغيرة .. وأننا نجتمع بعد تشريد، وأني في واحد من لقاءاتنا الحبيبة مع شعبنا وفي وطننا.. ولله ما أسعد الخيال في عزائه وسلوانه ..
وفي غمرة هذا الفيض من الذكريات، انطلق جناني قبل لساني في حديث إلى أبناء فلسطين قلت فيه :" إذا كانت الإذاعة، أي إذاعة، حاجة قومية ملحة في حياة الأمة المستقرة في وطنها، الآمنة في ديارها، الرافلة في نعماء الحرية والسيادة والاستقلال، فإنها أدعى وأوجب، بل إنها أهم وألزم، لأهل فلسطين وقد تمزق جمعهم، وتشتت شملهم، وتباعدت ديارهم ومنازلهم؛ لهذا أصبح لا بد لأهل فلسطين من إذاعة تتلاقى أرواحهم حولها، وتتجمع أسماعهم على أخبارها وأحاديثها، وبهذا يلتقي الشعب دوماً على آماله، ويحيا مع وطنه، ويظل مشدوداً إليه بروحه ووجدانه، يعيشه بعقله وضميره، وقدماه على عتبات الكفاح.. وأعلموا يا أبناء فلسطين، أن إذاعتكم هذه ستكون إذاعة ثورية، جديرة بأمة ثورية، لها قضية ثورية:
" أخبارها. أولاً أخبار فلسطين وشعب فلسطين، دائماً وأبداً، حتى تظل قضيتنا المقدسة ملتهبة الحياة، مشتعلة الوجود، متوهجة النضال.
" القصة فيها: سيرة شعب فلسطين في بطولات الفلاحين وبسالات العمال، وأمجاد الشهداء من الرجال والنساء، من الشباب والطلاب، لنجدد هذه السيرة، ونحن أشد نظاماً وأقوى عزماً.
" أحاديثها مجابهة الاستعمار، وعميلته الصهيونية، والعصابة الدولة، وفضح مناوراته ودسائسه،وتعزيز للحق في كل ميدان، وتنديد للباطل في مجال.
"الشعر فيها :التغني بمرابع الوطن الفاتنة، وخمائله الرائعة، بأغواره وأنجاده، بوهاده وجباله، بشواطئه وأنهاره، بالكروم التي أنشأها الآباء، والحدائق التي غرسها الأجداد، بالمدن التي بنتها أكتاف الرجال، بالقرى التي أقامتها سواعد الشباب أجيالاً بعد أجيال.
" الرواية فيها : مسرحية التحرير، كما تريدها حقيقة حية نابضة، أبطالها رجالنا ونساؤنا وشبابنا، حوارها التوعية والتوجيه، وشاهدها التعبئة والتنظيم، وختامها نصر من الله وفتح قريب.
" الغناء فيها صيحات المجاهدين، وتكبيرات المناضلين، لا بكاء ولا رثاء، ولا ذل ولا انكسار، النغم عزم، والإيقاع اندفاع، واللحن هادر ثائر.
" هذه إذاعتكم يا أبناء فلسطين، لن تكون تسلية ولا لهواً ولا عبثاً ولا مجوناً، فذلك حرام علينا ونحن في غير فلسطين، وإن معركة التحرير متعددة الجبهات متنوعة الأسلحة، كثيرة المقاتل، وفي زماننا هذا لم يعد القتال فارساً لفارس، ولا حتى جيشاً لجيش، ولكن القتال اليوم، هو أمة بكاملها، بكل طاقاتها، أمام أمة بكاملها، بكل إمكاناتها، نقاتل بالكلمة المرسلة كما نقاتل بالقذيفة الموجهة..
" ولقد اخترع الإنسان أفتك الأسلحة وأشدها تدميراً، ولكن هذا الإنسان لم يستطع ولن يستطيع، أن يجد سلاحاً أمضى من الكلمة، وستظل الكلمة في قداستها وسحرها، وأثرها وخطرها، أقوى سلاح في الوجود، على مر العصور والأجيال.
"وهذه هي الرسالات المقدسة، والحروب الاستقلالية، والحركات التحريرية، كلها بدأت بالكلمة، وعلى ذلك فإن هذا المذياع الصغير أمامي، وذلك الراديو الصغير بين يديكم، يؤلفان قوة هائلة في معركة التحرير، فإن الكفاح لا بد فيه من الأرواح قبل السلاح، فكم من أمة في الحربين العالميتين الماضيتين، قد استسلمت وهي كاملة السلاح والعتاد، وكم من أمة انتصرت وقد قاربت على النفاذ في العتاد والسلاح".
وخرجت من حجرة الإذاعة إلى الصالة لأجد الأخوة الحاضرين المستمعين، وقد ارتسمت على جباههم كل مشاعر الشعب الفلسطيني، وكأنه يستقبل بذراعيه وجناحيه، مولوده الجديد النازل من السماء..
حقاً أنه المولود النازل من السماء، فلم يكد الشعب الفلسطيني من بقي في وطنه ومهاجره، ليستمع إلى إذاعته وهي تردد غناءه وشوه وقصصه وتطلعاته واهتماماته حتى أصبح ساعي البريد في القاهرة ، يحمل إلى مكتب المنظمة " حمولة" سيارة من الرسائل والعرائض والبرقيات، تعرب كلها عن الابتهاج بافتتاح إذاعة منظمة التحرير.
وكذلك كان الابتهاج على صعيد الجماهير العربية حينما وصل إليهم صوت المنظمة، فقد سمعت هي بدورها صوت فلسطين، حبيباً إلى قلبها، أثيراً على مسامعها ..
ولكن العربي الرسمي، كان على خلاف ذلك، وخاصة في أروقة الجامعة العربية، في اجتماعات الوزراء والسفراء، وفي لجان المتابعة التي انبثقت عن مؤتمرات القمة.
بدأ الحديث الرسمي في أروقة الجامعة العربية، ينتقد ويتململ، فيقول هذا الوزير لذلك الوزير، وهذا السفير لزميله السفير، ولماذا إذاعة منظمة التحرير.. الدول العربية ثلاثة عشر إذاعة، أليس الأفضل والأوفر أن تطلب المنظمة من إذاعات الدول العربة تخصيص حصة من الوقت لإذاعة منظمة التحرر؟ ثم لماذا تدفع المنظمة من أموال الدول العربية مئة وخمسين آلف جنيه إسترليني للقاهرة من أجل الإذاعة .. ألم يكن واجب القاهرة أن تتبرع لإذاعة المنظمة بالوقت الكافي، دون أن تتقاضى هذا المبلغ الكبير؟ وهل .. وهل.. وغير ذلك من الأسئلة.
كان عدد من الوزراء والسفراء يطرحون عليَّ هذه الأسئلة، بريئة من بعضهم، وحاقدة من بعضهم الآخر .. وكنت أقول لهم : ليتكم تثيرون هذا الموضوع داخل الاجتماع، عسى أن تتنازل القاهرة عن الأجر المطلوب.
وندخل قاعة الاجتماع، وأنا أحسب أنهم سيثيرون هذا الموضوع بصورة أخوية مع وفد الجمهورية العربية المتحدة .. وأمضي في تلاوة تقريري عن إنجازات المنظمة، ومن جملتها إذاعة منظمة التحرير .. فيقرر الحاضرون توجيه الشكر إلى رئيس المنظمة على جهوده، وإلى المنظمة على إنجازاتها .. ويسكتون عن موضوع الإذاعة وأجورها، وكأن شيئاً ما كان ..
ولا يقتصر الأمر على سكوت الوزراء والسفراء، وإنما يتبارون في مناسبة وغير مناسبة في تقديم الشكر إلى القاهرة، " قاعدة النضال العربي ورائدة النضال العربي بزعامة البطل الملهم الرئيس عبد الناصر .. " ثم يخرج بعض هؤلاء الفضلاء من الوزراء والسفراء ليقولوا " لقد أصبحت منظمة التحرير تابعة لوزارة الخارجية المصرية، وأصبح الشقيري عميلاً للرئيس عبد الناصر "!!.
وكنت لا أبالي بهذا الكلام، لأني ألفت العمل العربي في الجامعة العربية وخارجها، وسبرت غور الخلق القومي في الحكم العربي زمناً طويلاً، ووطنت نفسي أن أكون كالحمار يحمل ويُضرب، كل ذلك من أجل فلسطين التي يسميها الحكم العربي المعاصر " قضية العرب الأولى .. !!"
وانصرفت بعد ذلك إلى إنشاء مركز الأبحاث للقضية الفلسطينية، وفي وميض البرق تأسس " المركز"وتجمعت الكفاءات الفلسطينية لتضع الدراسات العلمية عن مختلف جوانب القضية الفلسطينية ،وتجعل العلم في خدمة قضيتنا المقدسة.
ولقد حرصت أن يكون مركز الأبحاث في مدينة بيروت،لتوافر المراجع العلمية والاتصالات ، ولسبب أخير .. كنت أريد أن أثبت بصورة عملية أن المنظمة ليست دائرة من دوائر وزارة الخارجية المصرية .. وهذا هو مركز الأبحاث في عاصمة الجمهورية اللبنانية .
ونشطت الدراسات .. وأصبحت وزارات الخارجية العربية تتلقى هذه الدراسات وتطالب المزيد من الكتب .. ولكن دون أن تدفع الثمن أو نفقات البريد .. واستمر هذا " الدلع" العربي حتى بعد أن توقفت الحكومات العربية عن دفع التزاماتها المالية لمنظمة التحرير .. فإن على المنظمة أن تحقق حلم الكيمياء القديم، وتحول الحديد إلى ذهب !!
وجاءت بعد ذلك الخطوة الثالثة: تأسيس مكاتب المنظمة في الوطن وفي الخارج .. ولم تخل هذه الخطوة الصغيرة من مصاعب كبيرة.
والمكاتب في الدول العربية، كانت ضرورة لا بد منها، فالتجمعات الفلسطينية في كل قطر عربي، لها مشاكل إفرادية وجماعية مع السلطات المحلية، فمن الذي يتولاها ؟؟ والتوعية والتنظيم لأبناء فلسطين، من يقوم بهما؟ ومطاردة الحكومات العربية للوفاء بالتزاماتها التي لا تفي بها عن طريق المذكرات والبرقيات، من يأخذ بزمامها؟.
كل ذلك وغيره كان يتطلب إنشاء هذه المكاتب لإداء هذه الخدمات والواجبات، ومع هذا فقد ثرثر الجدليون من الفلسطينيين والعرب: لم هذه المكاتب، هل الشقيري يريد أن يبني سفارات فلسطينية كما لو كان رئيس دولة ، ومن هؤلاء المدراء الذين اختارهم الشقيري . إنهم لا يصلحون .. إنهم يتقاضون رواتب كبيرة. إنهم إنهم .. ومضيت في طريقي في إنشاء هذه المكاتب البسيطة واختيار المديرين برواتبهم المحدودة، وأنا أردد قوله تعالى، " وأصبر على ما يقولون".
وبما يشبه الأسلوب البرقي، تم كذلك إنشاء مكتب نيويورك ليكون ممثلاً للشعب الفلسطيني في الأمم المتحدة، وثار الجدال فلسطينياً وعربياً، لماذا تنفق الأموال على غير طائل في الأمم المتحدة ، خير لنا أن نشتري بها أسلحة.. وغير ذلك من الهراء، ولكن المنظمة مضت في طريقها لا تبالي.
ولم يبق علينا إلا أن نفتح نافذة على العالم الإسلامي، وهذه النافذة هي بطبيعة الحال في الباكستان، باعتبارها أكبر دولة إسلامية، وقد رأيت ذلك من أول واجبات المنظمة، فليس من المعقول أن نجهد أنفسنا في طلب معونة دولة صغرى في أطراف إفريقيا ونهمل العالم الإسلامي بكل طاقاته وقدراته.. ووقع الاختيار على الشيخ عبد الرحمن مراد (حيفا) أن يكون مديراً لمكتب كراتشي .. وقد أيقنت أن صداقتي مع المشير أيوب خان وزمالتي الطويلة لوزير خارجيته السيد على ذو الفقار بوطو، ستفتح لنا أواب الباكستان على مصراعيها .. وترددت على سفارة الباكستان في بيروت مرات، لطلب تأشيرة دخول والسماح بافتتاح مكتب المنظمة في كراتشي..
ومضت أشهر طويلة والتأشيرة لم تصدر، والشيخ عبد الرحمن مستقيل من عمله في القضاء الشرعي في دمشق ،وأصبح الأمر عندي لغزاً كبيراً وخاب ظني في صداقتي العريقة مع الباكستان، ولولا الإسلام لم يكن مبرر لوجود الباكستان
وتصيدت صديقي القديم وزير الخارجية الباكستاني" ذو الفقاربوطو" في فندق هلتون في إحدى زيارته للقاهرة، وسألته في غضب ودود عن السبب .. فقال " بوطو" بإيجاز، ماذا أصنع، أنتم يضرب بعضكم بعضاً.. السيد أمين الحسيني بعث برسالة طويلة إلى المشير أيوب خان يقول فيها إن منظمة التحرير الفلسطينية تعمل على تصفية القضية الفلسطينية، وهي تسير في فلك القاهرة، وإن الشقيري يعمل على تحقيق هذه الأغراض الاستعمارية الصهيونية، بشعور أو غير شعور .. وقد عجبت أن يصدر عن الحاج أمين مثل هذه الاتهامات وخاصة عليك، وأنت الذي كنت تسرد لي محاسنه..ووطنيته" قلت : نعم لقد كنت أسرد محاسنه .. ولكني لم أكن أسرد لك مساوئه .. وهو الآن في مرحلة " أرذل العمر حماني الله وإياك منها".
وخرجت من فندق هيلتون وأنا أقول : ليت الحاج أمين وأمثاله من المشتغلين بالقضايا العامة يتعلمون آداب الخصام السياسيين من الإنجليز، من الأمريكان .. بل من الإسرائيليين، الأعداء الألداء..
تمت هذه الإنجازات إلى ذلك العهد، عام 1965 في إنشاء جيش التحرير، إذاعة المنظمة، مكاتبها، ومركز الأبحاث، لتجابهني صعوبة الصعوبات إلا وهي المال.. وقد كان نابليون يردد أن عوامل النصر الثلاثة : الأول المال، والثاني المال، والثالث المال.
لقد بدأت الشكاوي تردني من السيد عبد المجيد شومان رئيس مجلس إدارة الصندوق القومي بأن الحكومات العربية تتباطأ في الوفاء بالتزاماتها المالية التي أقرها مؤتمر القمة الثاني في الإسكندرية.. وهكذا وجب عليَّ أن أقوم بزيارة خاطفة إلى عدد من الدول العربية .. وقلت في نفسي خير البر عاجله، فاتصلت بالدكتور حسن صبري الخولي ممثل الرئيس جمال عبد الناصر وطلبت إليه أن يدعو الفريق يوسف العجرودي للاجتماع في مكتبه لنبحث موضوع فرض " ضريبة التحرير" على أبناء فلسطين في قطاع غزة .. ولم أكد اشرح اقتراحي حتى قال : إن الفريق العجرودي موجود الآن في مكتبي ونحن بانتظارك ..
ووضعت سماعة التلفون وأخذت طريقي إلى مصر الجديدة إلى سراي الحكومة المركزية، حيث مكتب الدكتور الخولي.
وعرضت رأيي بشأن فرض " ضريبة التحرير" على سكان القطاع، وسردنا تفاصيلها في نسب معينة : على الرواتب الموظفين، على صناديق البرتقال التي تشحن للخارج، على بيع الأموال غير المنقولة، على رواتب، على .. وتمت الموافقة على ذلك كله.
واتصل العجرودي بمكتبه في قطاع غزة، وأملى عليهم تفاصيل المشروع، وطلب إليهم أن توضع في صيغة قانون يعرض على المجلس التشريعي في غزة، في أقرب وقت .
وفي الواقع، لم تمض أيام حتى قدم مشروع القانون إلىالمجلس التشريعي في غزة فأقره، (15/4/69) واعتبره نافذ المفعول بصورة عاجلة.. وكان التقدير الأولي أن حصيلة الضريبة السنوية ستصل إلى 750 ألف جنيه مصري..
وأحسست أنه قد آن الأوان لأقوم بزيارة خاطفة للدول العربية ،فإن بيدي هذه النتيجة الباهرة، شعبنا في قطاع غزة، ومعظمه من اللاجئين سيقدم لمنظمة التحرير ثلاث أرباع المليون جنيه، فحملت حقائبي " وهي معدة أبداً ودائماً " إلى مطار القاهرة، ومنها إلى مطار عمان ومنه إلى فندق الأردن إلى الجناح الذي أنزل فيه دائماً.. فقد كان موظفو الفندق يحرصون على راحتي بقدر " حبهم للملك حسين !!
وتكاثر عليَّ الصحفيون يريدون مني أن أتكلم بصراحة .. عن مهمتي، وعن موقف الملك حسين من منظمة التحرير.. وكانت سياستي إلى ذلك العهد أن أجامل الملك حسين إلى أبعد الحدود ، وأن أستنفد معه كل وسائل الملاينة والملاطفة حتى أجعل لمنظمة التحرير موطئ قدم في وطنها، في الأردن .. فأجبت الصحفيين أجوبة عامة ، مثنياً على " جلالة الملك حسين لتأييده منظمة التحرير الفلسطينية".
ومال عليَّ أحد الصحفيين هامساً " والله ما فيه فايدة من مجاملة الملك..ونحن لا نعرفك دبلوماسياً .. " إذا ما خربت مش حتعمر ".
قلت : "يا أخي هوَّن عليك .. " ولم أكد أنهي كلامي حتى دق جرس التلفون، من الديوان الملكي، بأن " سيدنا " سيستقبلني في تمام الساعة الواحدة ظهراً .
وكنت في الموعد المحدد، أعبر بسيارتي بوابة القصور الملكية، إلى الديوان الملكي..
وجلست في صالة الاستقبال، وموظفو الديوان يسألون عن الجو في القاهرة؛ والقهوة العربية تدخل علينا المرة بعد المرة، و " سيدنا " لم يأت بعد .. وقد عشت كل عمري حريصاً على المواعيد .. ميعاد نومي ويقظتي، ووجبات الطعام، حتى إنني حين كنت الأمين المساعد للجامعة أذهب كل صباح إلى مكتبي في الساعة التاسعة، ويطل الموظفون من النوافذ يقول بعضهم لبعض اضبطوا ساعاتكم ..
ومن غير أن أشعر أحداً بالغضب أو العتب، خرجت من الديوان الملكي وحملت بعضي إلى سيارتي ومنها إلى الفندق، إلى قاعة الطعام، فقد بلغت الساعة الثالثة والنصف، لأعالج معدتي من هذه الفوضى" الملكية الهاشمية" التي وقعت فيها ..
وفيما كنت أتناول الطعام، وخدم الفندق، يقدمون الأطباق بالحب والعطف إلى أخ لهم يرون في وجهه ما يعاني من أجل وطنهم ووطنه .. إذا بالتلفون يدق من الديوان الملكي، بأن " سيدنا " شرَّف، وأنه ينتظرني.. فأجبت بأنني سأحضر بعد أن أنتهي من طعامي.
وغادرت قاعة الطعام، وأصدقائي وأحبائي، خدم الفندق يدعون : والله يوفقك وينصرك على كل ظالم.." ولله شعبنا ما أكرم محتده ...
ودخلت على الملك حسين في مكتبه، وهو يروح ويغدو بين أطباق الدخان .. وكان سلام وتحية ثم سؤال عن صحة الأخ الرئيس عبد الناصر .. وانتقلت بعد ذلك إلى الناحية المالية، وذكرت له أن الأردن لم يدفع نصيبه إلى منظمة التحرير، وأننا نريد أن نطبق ضريبة التحرير على الأخوان الفلسطينيين في الأردن..
قال : سأوعز إلى وزارة المالية أن تدفع حصتنا إلى المنظمة، مع أنك تعرف ظروفنا المالية الصعبة .. أما بالنسبة إلى ضريبة التحرير على الفلسطينيين فأنت تعلم أننا نريد أن نتجنب الحساسيات في الأردن، ولا نريد أن نخلق فوارق بين فلسطيني وأردني، وتخلخل الوحدة بين الضفتين ..
قلت : إن المنظمة حريصة على هذه الوحدة، وحاشا لله أن تفرق بين فلسطيني وأردني، وإني أقترح أن نفرض الضريبة على " المواطنين"، وهذا اللفظ لا يشير إلى الفلسطينيين ولا إلى الأردنيين.
قال : ولكن الأردنيين يشعرون بغضاضة إذا لم يساهموا في دفع الضريبة.
قلت : إذن فلتكن الضريبة على " الأردنيين" عموماً وبهذا يدفع الفلسطينيون والأردنيون معاً، وعلى السواء .. وهذا شرف للجميع .. بل إنه واجب على الجميع.
قال : لكنك تعرف أن الأردن بلد اللاجئين، والناس هنا في حالة مالية صعبة ..
قلت : أنا أعلم أن الأهالي يريدون أن يدفعوا الضريبة على طيبة خاطر.. ثم إن قطاع غزة هو في حال أسوأ من الأردن .. ومع هذا فقد طبقنا ضريبة التحرير في القطاع وتبلغ حصيلتها ثلاثة أرباع مليون جنيه .. إن ثلاثة أرباع السكان في قطاع غزة هم من اللاجئين..
قال : سنعرض الأمر على البرلمان، لأن الضريبة تحتاج إلى قانون..
قلت : يا سيدنا لسنا في حاجة إلى قانون .. يكفيني أمر إداري من وزارة المالية، وأنا على يقين أن الأهالي، والموظفين خاصة، سيقبلون على دفع الضريبة بكل سرور ..
قال : وهل علينا أن نرسل المبالغ المتحصلة إلى القاهرة .. القاهرة ستأخذ مبالغ الإسترليني، ثم تقيدها لكم بالجنيه المصري.
قلت : لنا حساب في البنك العربي في بيروت، لا داعي لإرسالها إلى القاهرة، وكن على ثقة أموال المنظمة ستكون دائما تحت تصرف المنظمة ولن يكون للقاهرة أي سلطان عليها ..
وطال الأخذ والرد دون أن نصل إلى نتيجة حاسمة ... وانتهى الاجتماع على غير اتفاق، وخرجت من الديوان الملكي لأجد الصحفيين في انتظاري، بالسؤال التقليدي:
-  هل تم الاتفاق مع سيدنا ؟؟
قلت : إن سيدنا لا يتأخر عن تأييد منظمة التحرير، وكان اجتماعي به ودياً للغاية.
قلت هذا، وفي نفسي الصراع الذي ينتابني بعد مقابلتي لكل ملك ورئيس، الصراع بين الكذب والصدق .. أن أقول الحقيقة عما يجري بيني وبين الملوك والرؤساء .. ولقد يكون الصدق هو الأسهل؛ أأقول الحقيقة وأكسر الجرة، وأنهي منظمة التحرير وأعود إلى بيتي بطل الحقيقة والصدق !! ولكني كنت أختار الكذب، ولقد احتملته من أجل قيام منظمة التحرير وبقائها .. وأصبح " الكذب، من واجبي الوطني .. هذا ما فرضه علي الملوك والرؤساء!!
كان ذلك أمري مع الصحافة في معظم الأحوال .. أما في الداخل في الغرف المقفلة فقد كان الصدق، الصدق الصارخ، هو ديدني. حتى أن أحد الوزراء العرب قال لي مرة : ما أقساك على الملوك والرؤساء في الداخل، وما أهدأك في الخارج، وكان هذا الوزير السيد جواد هاشم وزير الخارجية العراقية السابق، الذي رمته الأقدار ليعمل اليوم في خدمة الأمم المتحدة، بدلاً من أن يكون في خدمة الأمة العربيةّ!!
وقضيت بضعة أيام بين عمان والقدس، في لقاءات متواصلة مع الإخوان الفلسطينيين، وكان بعضهم يرى الإبقاء عل شعرة معاوية مع الملك حسين، والبعض الآخر يرى هدم الجسور، فلا فائدة من الملك حسين، ولا من الحكم الأردني بأسره..
وقد اخترت في تلك الفترة أن لا أكون ليناً فأعصر، ولا صلباً فأكسر .. فقد كنت أعرف نقاط الضعف في الأوضاع الأردنية منذ أن أنشئت إمارة شرق الأردن، إلى أن ألحقت بها الضفة الغربية، إلى أن أصبحت المملكة الأردنية الهاشمية بعد الكارثة .. ولكني كنت أذكر نفسي دائماً بأن منظمة التحرير ولدت عل فراش مؤتمرات القمة، ولا تزال ترضع من ثديها.. فلنحرص على حياة هذا الرضيع، إلى أن يصبح وليداً قادراً، ويقف على قدميه ..
وأعددت نفسي للسفر إلى الرياض .. فقد خلع الملك سعود، وتولى الأمير فيصل الملك من بعده .. فلأذهب إلى هذا الصديق القديم ولأنسى ما جرى بيني وبينه أيام أزمة اليمن .. وأنا الآن في صميم القضية الفلسطينية، ومن أجلها عليَّ أن أتجاوز عن كل شيء..
ووصلت الرياض، فلم أجدها كالعهد بها، لقد كانت تعج بالخلائق من كل أنحاء المملكة، وبالوفود العربية والأجنبية من الخارج.. كلها جاءت لتبايع الملك فيصل، أو لتهنئته في توليه أمور المملكة .. وشهدت واحدة من جلسات المبايعة، فقد سبقتني أمثالها لا سابيع خلت، ويدخل العديدون في صفوف طويلة، قبيلة قبيلة، أو قرية قرية، أو مدينة مدينة، فيمرون أمام الملك فيصل، يخلعون كتفه وهم يصافحونه بقوة وعزيمة، ليقولوا : بايعناك على كتاب الله، وسنة رسول الله".
والواقع أن الذي يتولى الحكم في المملكة العربية السعودية، يجب أن يوطن نفسه أن يخلع كتفه، ويتصدع رأسه ، فإن مطالب الرعية كثيرة، وعلى الملك أن يلبيها، وفضلاً عن أهل الحضر، فإن أهل البادية يأتون بأنفسهم إلى الرياض ليقولوا : يا طويل العمر، هلكت بقرتي في السيل أريد معاونة، هذا العام عندنا محل أريد مساعدة، الموتور انكسر نريد خلافه .. وهكذا ..
وإذا تململ طويل العمر أو أعتذر، صاح البدوي في وجهه، " أنت مسؤول عن الرعية، يا طويل العمر، والله ما نروح حتى تساعدنا .. ساعدك الله...
واختلست ساعة، ودخلت على الملك فيصل في مكتبه الخاص، ورجعت به إلى ذكرياتنا القديمة أيام لقيته لأول مرة في أمريكا 1945 (1) بعد مؤتمر سان فرنسيسكو وقد حضره رئيساً للوفد السعودي، واستذكرنا لقاءاتنا المتلاحقة في الأمم المتحدة وفي الجامعة العربية .. والرسائل الكثيرة التي تبادلناها مع الأعوام بشأن القضايا العربية والدولية .. قبل التحاقي بخدمة المملكة العربية السعودية، وبعدها .. ثم وقفت عند موضوع أزمة اليمن شارحاً له وجهة نظري في أن مثل هذه الخلافات يجب أن تحل بين جدران الأسرة العربية، وقلت في النهاية " إذا كنت قد أخطأت معك فأرجو معذرتك .. أنا الآن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وكل ما أرجوه منك أن تعاونني في حمل هذه الأمانة الضخمة.. وأنت تعرف مصاعب هذه القضية وقد رافقتها من بدايتها."
قال : أرجو من الأخ أحمد، أن يعتبر أن موضوع اليمن قد انتهى، وأنا لا أحمل لك إلا التقدير .. ونحن لا ننسى مواقفك في سبيل القضية .. وسأعمل كل جهدي لمؤازرتك ..
قلت :يا طويل العمر أرجو أولاً أن تأمر وزارة المالية بدفع جميع الالتزامات المترتبة على المملكة للقيادة العربية الموحدة وهيأة تمويل الروافد ومنظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير.
قلت : سيصدر الأمر اليوم، وآمل أن لا تكون قد عدت إلى القاهرة إلا وتكون المبالغ المطلوبة قد تحولت .
قال : وأرجو كذلك أن تسمح لنا بفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في الرياض، وأن تأذن لنا بأن يُستوفى من الموظفين الفلسطينيين مبلغ خمسة في الماية من رواتبهم تدفع للصندوق القومي الفلسطيني.
فأطلق الملك فيصل من فمه ابتسامة ذكية هادئة، وقال : يا أخ أحمد .. لا لزوم لأن تنشئوا مكتباً في الرياض وتتكلفوا نفقات ورواتب موظفين .. المملكة كلها مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية، واعتبر أن مكتبي هو مكتب المنظمة..
قلت : وضريبة التحرير على الفلسطينيين..
قال : الفلسطينيون عندنا موظفون أو عمال، جاؤا ليعملوا هنا ليعولوا عائلاتهم .. نحن لا نستطيع أن نجبرهم أن يدفعوا شيئاً.
قلت : ليس في الأمر إجبار .. أعتقد أنهم يرغبون في أن يتبرعوا لمنظمة التحرير .. نحن نريد من وزارة المالية أن تخصم الضريبة من رواتب الموظفين وتحولها إلى الصندوق القومي.
قال : هذا الموضوع خارج عن اختصاص وزارة المالية .. ولا تملك وزارة المالية أن تخصم من رواتب الموظفين شيئاًَ.
وسكت برهة، وأنا لا أدري ماذا أقول وماذا أفعل .. إني أعرف الملك فيصل جيداً، إنه يرفض أن يكون لمنظمة التحرير أي صلة بالفلسطينيين في المملكة .. ولا فائدة من مجادلته ولا من التوسل إليه فإن عنده خزائن من الأجوبة عن كل الأسئلة، وعلى النحو الذي سردته. ولم أشأ كذلك أن أقطع الأجوبة عن كل الأسئلة، وعلى النحو الذي سردته.. ولم أشأ كذلك أن أقطع الحبل معه، فقد كنت عزمت منذ توليت رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية أن أحتمل كل شيء ،من أجل فلسطين .. ولولاها لكان أكرم لي أن أكون في بيتي مع كتبي، بعيداً عن أعتاب الملوك والرؤساء!!
وانتهى الحديث بيني وبين الملك فيصل، وأنا أردد وأعيد وأؤكد، بأن منظمة التحرير الفلسطينية ستكون مع الدول العربية جميعها لا لواحدة منها، وأنها فوق الخلافات العربية، وإنها لا تتدخل في الشئون الداخلية للدول العربية، وأنها .. وأنها..
ونهضت أودع جلالته وهو يقول : سنضع كل إمكاناتنا من أجل القضية الفلسطينية .. ولقيت الصحفيين على الباب فأمطروني بالأسئلة المعتادة. وأجبت إن " العاهل العربي العظيم قد أمر بدفع الالتزامات المالية، وسيساند منظمة التحرير والقضية الفلسطينية. وحيا الله السعودية ملكاً وحكومة وشعباً " .
لقد كنت صادقاً في بعض ما قلت، وكاذباً في البعض الآخر.. وهذا هو بلاء القضية الفلسطينية مع الدول العربية. وكان الملك فيصل نفسه هو الذي أثبت كذبي حين أثنيت على موقفه، فلم تمض بضعة أسابيع على زيارتي للرياض حتى سمح للهيأة العربية العليا أن تفتح لها مكتبين: واحداً في الرياض والآخر في جدة، وأن تستوفي من الفلسطينيين في السعودية تبرعات مالية، مع إن الهيأة العربية العليا قد انحلتِ بعد كارثة فلسطين عام 1948 ولم يبق منها إلا السيد أمين الحسيني ،وخاتم قديم منقوش عليه " الهيأة العربية الفلسطينية ".
ومن الرياض، وليت وجهي شطر الكويت عسى أن أكون أكثر حظاً، فإن برقيات الصندوق القومي كانت تلاحقني وتطالبني بجباية المال، من الدول العربية وأبناء فلسطين، وتذكرت القول المأثور : إن الله قد أرسل محمداً هادياً وما أرسله جابياً .. فلأكن ذلك الجابي.
ولم يكن الأمر عسيراً في الكويت .. فقد اجتمعت، بعد وصولي، بالأمير عبد الله السالم الصباح، وبوزير الخارجية الشيخ صباح السالم
(الأمير حالياً) وبالشيخ جابر الأحمد وزير المالية (رئيس الوزراء حالياً وولي العهد) وشرحت لهم مطالبي فوافقوا على إنشاء مكتب لمنظمة التحرير في الكويت ..
ووافقوا على دفع الالتزامات المالية المقررة من قبل مؤتمر الإسكندرية .. أما ضريبة التحرير ففيها نظر ..
وكان الرأي أن أية ضريبة يجب أن يصدر بها قانون من قبل مجلس الأمة .. هذا هو نص الدستور .. والكويت تملك دستوراً، خلافاً لما يجري عليه الحال في عدد من الدول العربية الأخرى .. وإنها مفارقة محزنة حقاً وبعد تبادل الرأي وافق الأمير ووزراؤه أن يتم خصم الضريبة من رواتب الموظفين الفلسطينيين من قبل وزارة المالية بصورة إدارية، على أن يكون لأي موظف الخيار في رفض الخصم إذا شاء.
وأعلنت هذا الاتفاق في مؤتمر صحفي أثنيت فيه على الكويت أميراً وحكومة وشعباً، وصادف قدومي أواخر الشهر، فلم يتخلف فلسطيني واحد من السبعين آلف فلسطيني في الكويت عن الدفع، وتجاوزت الحصيلة خمسين ألف جنيه في الشهر الواحد.. وتنفست الصعداء وحمدت الله، وأدركت الألم الكامن في القول الشهير : كاد الفقر أن يكون كفرا ..
ومن الكويت أسرعت إلى بيروت ودمشق .. ولا حرج عليَّ أن أقفز إلى النتيجة، لأقول إن مهمتي في كلتيهما كانت فاشلة وناجحة معاً .. ففي بيروت أبلغني رئيس الجمهورية السيد شارل حلو بعد حديث حافل بالمودة، أنه رئيس دستوري ولا يستطيع أن يتعدى سلطات الحكومة.. ولكنه سيبذل كل جهده . وأبلغني رئيس الوزراء الدكتور عبد الله اليافي أن الأمر من اختصاص مجلس الوزراء ، وسيعرض عليه الأمر ولكنه سيبذل كل جهده. وأبلغني وزير المالية الحاج حسين العويني أنه لا يستطيع أن يفرض ضريبة التحرير على الموظفين " اللبنانيين" الذين هم من أصل فلسطيني، فهؤلاء لبنانيون في نظر القانون، والقانون لا يخول الحكومة أن تفرض عليهم ضريبة لصالح منظمة التحرير الفلسطينية، أما بالنسبة لمكتب منظمة التحرير في بيروت فقد قال الحاج حسين العويني وكان يومئذ قائماً بأعمال وزارة الخارجية بأن لبنان موافق على ذلك وأنه سيمنح مكاتب المنظمة جميع الحصانات الدبلوماسية .. وبهذا تجاوز لبنان معظم الحكومات العربية .. ولم أغادر لبنان حتى أقرت الحكومة كل التزاماتها لمنظمة التحرير الفلسطينية وللقيادة العربية الموحدة، وهيأة تحويل الروافد .. فصدقوا جميعاً فيما وعدوا، كل في دائرة اختصاصه . إلا في موضوع ضريبة التحرير..
وبانتهاء مهمتي في بيروت سافرت إلى دمشق، فوجدت مفرزة من الجيش السوري في استقبالي، على الحدود .. واستبشرت خيراً، فقد كنت حريصاً على تأييد سوريا لمنظمة التحرير، لأني أعرف مقام سوريا في معركة التحرير ..
واجتمعت بمجلس الرياسة، ورئيس الوزراء، ووزير الخارجية، وعدد من أعضاء القيادة القطرية .. شارحاً لهم ما وصلت إليه من إنجازات في الدول العربية إلى ذلك العهد، ولكني وجدت التجاوب فاتراً، متحفظاً،غامضاً..
وقد حاولت أن أستل من أفواهم وصدورهم سبب هذا الموقف، وسألت :
هل في المنظمة خلل، أرجو أن تدلوني عليه، وأنا مستعد لإصلاحه.. هل من ترشحونه من الإخوان البعثيين الفلسطينيين ليكون في قيادة المنظمة وفي مكاتبها، وفي أجهزتها .. الإعلامية .. وأنا حاضر لأنظر في أمر تعيينه؟؟ هل تريدون أن أستقيل من رياسة المنظمة، ويختار الشعب الفلسطيني رئيساً مكاني.
كنت أطرح هذه الأسئلة وكثيراً مثلها، فلا أجد لها جواباً إلا انفراج الشفتين، ولا عن جواب، ولكن عن ابتسامة لم أفهم معناها لأني ما تمرست في حياتي " بترجمة" الابتسامات والتعرف على اشكالها وألوانها ..
وأخيراً اقترح مجلس الرياسة السوري أن أجتمع بالسيد عبد الكريم الجندي المسؤول عن جهاز الأمن العام.
وفي ساعة من الثأر لكرامتي وعقلي، خطر في بالي أن أغادر دمشق، وأخرج الحكومة السورية من حسابي بالنسبة إلى منظمة التحرير.
ولكنها فلسطين، هي التي لجمتني عن هذا التصرف كما لجمتني في مواقف كثيرة مع الدول العربية.
وفي الموعد المحدد ذهبت إلى مكتب عبد الكريم الجندي فأعلمني أن مجلس الوزراء سيقرر في أول اجتماع له الوفاء بجميع الالتزامات المالية.. أما المنظمة ..
قلت : خيراً إن شاء الله .. ما هو موضوع المنظمة.
قال : الحق أن المنظمة ليست ثورية.
قلت : هل تسرد لي الأسباب
قال : الواقع، أننا تحدثنا ملياً في موضوع المنظمة، وأن الحزب قد وصل إلى نتيجة حاسمة في هذا الموضوع .. المنظمة ليست ثورية.
قلت : وكيف تريدون المنظمة لتكون ثورية.
قال : مثلاً .. أنت ماشي مع الدول الرجعية .. في السعودية كنت تكيل المديح للملك فيصل .. وفي الكويت لم تترك ثناء إلا وأسبغته على الأمير وحكومته..
قلت : إن ظروف القضية الفلسطينية تفرض علي مجاملة جميع الدول العربية .. ما لم أواجه خيانة، فأنا حاضر للقتال والنزال..
قال : نترك هذا الموضوع جانباً .. إن الحزب يرى تأليف جبهة وطنية تجمع كل المنظمات الفلسطينية.
قلت :وما الداعي لإنشاء جبهة وطنية، إن منظمة التحرير قائمة، وقد اختارها المجلس الوطني، وفيه أعضاء يمثلون كل الاتجاهات الفلسطينية، حركة فتح، القوميين العرب، الشيوعيين، البعثيين، المستقلين..
قال : نحن نرى تأليف جبهة فلسطينية، وأن تدخل المنظمة إلى هذه الجبهة ..
قلت : العكس هو الذي يجب أن يكون المنظمة هي الأم .. وإذا كان هنالك منظمات غير ممثلة في منظمة التحرير يمكننا أن نبحث أمر ضمها .. وطال الجدل حول هذا الموضوع قرباً من ثلاث ساعات لم اترك للسيد عبد الكريم الجندي حجة إلا (انهكتها) وحسبت أنه أقتنع.
وقلت : يبدو أننا اتفقنا .. ولنقرأ الفاتحة تيمناً في هذا الاتفاق..
وكانت لحظة اهتزت لها دمشق عرين العروبة ومعقل الإسلام .. فقد وقف السيد عبد الكريم الجندي محملقاً وقد تورمت أوداجه وهو يقول وهل أنا رجعي حتى أقرأ الفاتحة!!
وذهلت أمام هذه المفاجئة المذهلة .. واستشعرت أنه لم يعد لي مكان في ذلك الاجتماع وخرجت ولا تصدق أذناي ما سمعت .. وكان ذلك آخر اجتماع بالسيد عبد الكريم الجندي، فقد انتحر بعد ثلاثة أعوام، ومن عجب أن القيادة القطرية لحزب البعث قد نعته ببيان يتصدر بسورة الفاتحة إياها، " بسم الله الرحمن الرحيم" فقلت في نفسي، لقد أبى رحمه الله أن يلفظها في حياته، فلحقته في مماته، غفر الله له ،وبرد مرقده..
والواقع أن هذا التحلل الديني لم يكن قاصراً على السيد عبد الكريم الجندي وحده، فقد كانت السلطة في دمشق آنذاك تفرض أن يكون القسم الرسمي مبتدئاً بعبارة " أقسم بشرفي ومعتقدي."
وقد أثلج صدري ، وأنا أراجع مذكراتي في صيف 1971، أن القيادة القطرية لحزب البعث في دمشق قد جنحت إلى الإيمان فأعلنت أن نص القسم الذي يؤديه رئيس الجمهورية وأعضاء مجلس الشعب ورئيس الوزراء والوزراء يجب أن يبدأ بعبارة " أقسم بالله العظيم" وبهذا انسابت السكينة إلى جوانح دمشق، واطمأنت إلى عروبتها وإسلامها، فإذا ضاع الإيمان ضاعت معه العروبة والإسلام ..
وغادرت دمشق التي عاشت كل كفاحها من أجل القضية الفلسطينية؛ من أيام الدول العثمانية، وقد أخفقت أن أظفر بمساندة حزب البعث بقيادته لمنظمة التحرير الفلسطينية، لسبب واحد سواه .. لا لأني لست وطنياً مخلصاً لوطني، ولا لأن منظمة التحرير الفلسطينية لا تمثل الشعب الفلسطيني، ولكن لأني لست بعثياً، ولأن منظمة التحرير ليست بعثية .. وهذه بلية الحزبية التي لا تؤمن إلا بنفسها ولو كانت كافرة، وتكفر بغيرها ولو كان مؤمناً .. على حين أني التقي مع البعث في مبادئه، فأنا أؤمن به وهو يكفر بي!!
وصلت القاهرة بعد هذه المرحلة المضنية، لأجد التقارير السارة أمامي بما يرد إلى الصندوق القومي من تبرعات الشعب الفلسطيني في كل مكان، سواء منهم الذين تحسم من رواتبهم " كضريبة" أو الذين يدفعونها تبرعاً وتطوعاً .
لقد كانت " تبرعات " الشعب الفلسطيني أهم عندي من " التزامات " الدول العربية، فإنها المورد الثابت الذي كنا نتكئ عليه عند الملمات، والأزمات.
وهذه الملمات تجمعت على المنظمة التحرير الفلسطينية، بعد العام الأول والثاني من قيامها، فقد أخذت الدول العربية، تفلت واحدة بعد الأخرى، من التزاماتها المالية لمنظمة التحرير ولجيش التحرير، ولم أحضر اجتماعاً من مستوى الملوك والرؤساء إلى مستوى الوزراء والسفراء إلا واستنجدت بالمروءات والنخوات لتفي الدول العربية بالتزاماتها..
وقد كان الظن أن السبب في ذلك التلكؤ " الشقيري " رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، فلما اعتزلت، وتولى غيري رئاسة المنظمة، حسبت أن الحكومات العربية ستدفع التزاماتها للمنظمة بعد أن غادرها رئيسها السابق الذي يريد أن يلقي اليهود بالبحر، ويا للهول!!
ورجعت إلى ملفاتي وأنا أكتب هذا الفصل فوجدت أنه في الثماني سنوات ما بين 1964 – 1971:
الأردن : تخلف ست سنوات عن دفع التزاماته للمنظمة ولجيش التحرير.
تونس : تخلف سبع سنوات عن دفع التزاماته للمنظمة وخمس سنوات لجيش التحرير.
الجزائر: تخلف ست سنوات عن دفع التزاماته للمنظمة ولجيش التحرير.
السودان : تخلف سبع سنوات عن دفع التزاماته للمنظمة ولجيش التحرير.
العراق : تخلف سبع سنوات عن دفع التزاماته للمنظمة ولجيش التحرير.
السعودية : تخلفت ست سنوات عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير .
سوريا : تخلفت ست سنوات عن دفع التزاماتها عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير.
الجمهورية العربية المتحدة : تخلفت ست سنوات عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير .
اليمن : تخلفت ثماني سنوات عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير.
الكويت : تخلفت ثماني سنوات عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير.
لبنان : تخلف أربع سنوات عن دفع التزاماته للمنظمة وسنتين لجيش التحرير.
ليبيا : تخلفت ست سنوات عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير.
المغرب : تخلفت ثماني سنوات عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير.
ولو سألت هذا الملك أو ذلك الرئيس لماذا تتخلفون عن دفع التزاماتكم لمنظمة التحرير قالوا : نحن ندفع للجبهة الفلانية أو للمنظمة الفلانية .. وبذلك يعمل الملوك والرؤساء على تمزيق القيادات الفلسطينية عن طريق المال، بالإضافة إلى الوسائل الأخرى!!
ولقد عدت إلى أيام طلب العلم، حين كنت أدرس الحساب، فجمعت وجمعت، وكانت النتيجة أن الدول العربية الثلاث عشرة مدينة حتى 1971 للمنظمة والجيش بمبلغ تسعة عشر مليوناً من الجنيهات، وهو مبلغ يجمعه اليهود في نيويورك في ولائم موسمية في هذا الفندق أو ذاك.
وإزاء هذا التخلف العربي، كان على المنظمة في كثير من الأحيان أن تنفق على جيش التحرير الفلسطيني، في مصر، وسوريا، والعراق، من تبرعات الشعب الفلسطيني..
وقد ظننت في مؤتمر الإسكندرية، يوم حملت أمانة منظمة التحرير أن الدول العربية لن تخذلني ولن تخذل المنظمة، حين أعلن الملوك والرؤساء في قراراتهم السرية أن " كلمة الشرف من قبل الملوك والرؤساء هي الضمان الوحيدة للوفاء بجميع الالتزامات المالية المترتبة للقيادة العربية الموحدة، لهيأة تحويل الروافد، ولمنظمة التحرير ولجيش التحرير.."
ولست أريد أن أعقب، أو أعلق على ذلك القرار في قليل أو كثير، ولا أن أتحدث عن كلمة " الشرف" ومقامها عند " شرف الملوك والرؤساء، فقد تحدث عنها ملك الملوك ورب الأرباب :
" كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون "

صدق الله العظيم

صداقتي وعداوتي
مع بو رقيبة

أول من عرفت في حياتي السياسية، من الملوك والرؤساء، الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة .. ولم يكن يوم عرفته رئيساً، ولا كانت تونس جمهورية مستقلة.
كان ذلك قبل سبعة وثلاثين عاماً، وفي مدينة عكا وحين جاءنا المناضل التونسي السيد حبيب بورقيبة ليدعو لقضية بلاده يوم كان تحرير تونس خيالاً أو محالاً.
وقد طاف السيد الحبيب بورقيبة المدن الرئيسية في فلسطين يشرح مظالم الاستعمار الفرنسي، ويحض على مؤازرة الشعب التونسي في كفاحه لتحرير وطنه .. واحتفت الأوساط الوطنية بهذا النضال العربي، فقد كنا نرزح تحت مظالم الاستعمار البريطاني، وكانت فرصة لفلسطين وتونس أن يتشاكيا، وأن ينشدا مع الشاعر : " تعالي أقاسمك الهموم تعالي"...
ولم يقتصر أمرنا مع الحبيب بو رقيبة، على " تقاسم الهموم " فقد أسعفه الشعب الفلسطيني بما تيسر عنده من المال، ولا منة ولا صدقة، ولكن نهوضاً بواجب النضال العربي.. وقبل أن يرتفع شعار " العمل العربي الموحد " بزمان وزمان ..
وغادرنا الحبيب بو رقيبة، وقد تركت " عصبيته" وحماسته وإيمانه بالقضية التونسية أعظم الأثر في نفوسنا، وأحسب أنه امتلأت نفسه إعجاباً ببسالة الشعب الفلسطيني واستمساكه بقضيته الوطنية، ومساندته للقضية التونسية..
واستمر الاتصال الروحي بيننا وبين بورقيبة في مراحل كفاحنا ضد الاستعمار الصهيوني، فكان بدوره لا يفتر عن الإدلاء بالتصريحات الصحفية في تأييد القضية الفلسطينية، وخاصة أيام لجوئه إلى القاهرة في الأربعينات وما بعدها ..
وكان أن جاءت لجنة التحقيق الأنجلو أمريكية في أوائل 1946 إلى البلاد العربية لدراسة القضية الفلسطينية ووضع التوصيات بشأنها، وكنت يومها في المكتب العربي في القدس أشرف على إعداد الدراسات والمذكرات اللازمة لتقديمها إلى اللجنة الأنجلو- أمريكية؛ وكان السيد الحبيب أبو رقيبة، واحداً من زعماء العرب في القاهرة الذين أرسلنا إليهم هذه الدراسات.
والتقت اللجنة الانجلو - أمريكية في القاهرة بعدد من زعماء العرب، وكان الحبيب بورقيبة في جملة من عرض عليها وجهة النظر العربية.. " باسم الأقطار العربية في شمال أفريقيا " .. وكانت " شهادته " فلسطينية " حقاً بكل معنى الكلمة، استخدم خلالها الدراسة التي بعثناها إليه خير استخدام ..
ولقيته غير مرة في القاهرة، في مكتب صديقه القديم، السيد محمد علي الطاهر صاحب جريدة الشورى وصديق جميع المجاهدين والنازحين إلى مصر . وكنت أستشف من حواري معه، مبلغ فهمه للقضية الفلسطينية، وسبره غور الخطر الصهيوني على الوطن العربي بأسره..
وتوالت الأعوام تعقب الأعوام، إلى أن أصبحت مندوباً عربياً في الأمم المتحدة، وأصبح الحبيب بورقيبة شريداً مرة وسجيناً مرة أخرى تطارده السلطات الفرنسية، في كل مكان، فوقفت نفسي للدفاع عن القضية التونسية في قلب باريس أثناء انعقاد الأمم المتحدة فيها، ونشأت زمالة نضال بيني وبين الزعماء التونسيين الذين كانوا يترددون على الأمم المتحدة : الباهي الأدغم، صالح بن يوسف ،محمد بدره، المنجي سليم، الحبيب بورقيبة الابن(1) .
وكان الحبيب بورقيبة يواصلني برسائله مليئة بالتقدير والود .. وأن الشعب التونسي سيكافئني في قضية فلسطين بعد أن يأذن الله بتحرير تونس..
وقد أذن الله، وأخذت تونس طريقها إلى التحرير، وعاد الحبيب بورقيبة إلى تونس ليقود شعبه في مرحلة الحرية والاستقلال وله في ذلك فضل كبير وراءه تاريخ كبير.
وجاءت مرحلة الجلاء الفرنسي عن ميناء بنزرت، وكانت فرصة وطنية اغتنمها الرئيس بورقيبة فدعا الدول العربية والصديقة لشهود احتفالات الجلاء .. وتذكر الرئيس بورقيبة الأصدقاء القدامى فجاءني سفيره في القاهرة، السيد الصادق المقدم يحمل إلي الدعوة للاشتراك في الاحتفالات وكنت يومها الأمين العام المساعد للجامعة العربية ورئيس الوفد السوري للأمم المتحدة..
وكان سروري عظيماً يوم وصلت تونس الفاتنة بعد الاستقلال، ولا يعدله إلا سروري يوم العودة إلى بلدتي الجميلة، عكا، مدينة التاريخ، أو طروادة العصور الوسطى كما يقول عنها قصاصو الحروب الصليبية.
والحق أن تونس العاصمة الخضراء بأسرها، بشواطئها الخلابة من أجمل بلاد الله،وقد أخذت بدماثة أهلها ونظافة مدنها وقراها، وجزالة زيتونها وبرتقالها، وأندلسيات موشحاتها.
وكانت أياماً تاريخية لا تنسى تلك التي قضيناها في بنزرت، احتفالاً بالجلاء الفرنسي عنها، وكانت حشود الشعب التونسي تنساب في الميادين والشوارع مبتهجة بتحقيق آمالها العظام بعد سبعين عاماً من الاحتلال.
وفي الساحة الرئيسية تجمع الشعب التونسي، واخترقت الوفود العربية والصديقة طريقها إلى المنصة الرئيسية، وجلس الرئيس بورقيبة في مقام الصدارة وقد تصدرت على وجهه ومضات مشرقات من البهجة والسرور، وجلس من حوله الرئيس عبد الناصر، والرئيس بن بللا، وسائر رؤساء الوفود؛ وكان جلوسي معهم.
وخطب عبد الناصر وبن بللا يحييان جهاد الشعب التونسي في هذه الذكرى المجيدة وينددان بالاستعمار والصهيونية، ويذكران قضية فلسطين بالخير، ونهض من بعدهما الرئيس بورقيبة يتحدث باللهجة التونسية تارة، وبالفصحى تارة أخرى، مستعرضاً تاريخ الكفاح التونسي، ومشيداً بالتضامن العربي، وشكر للوفود العربية والصديقة مشاركتها في هذه المناسبة العظيمة.. ووجه تحية خاصة إلى الشعب الفلسطيني قال في ختامها : " وهنا معنا الأخ الشقيري ابن فلسطين؛ الذي لا ننسى دفاعه عن قضية تونس والقضايا العربية الأخرى".
وقد شملت برامج الاحتفالات، زيارة مقابر الشهداء، والمصانع والمنشآت العامة، وكانت أيام ماطرة، فعانى الرؤساء ساعات من الوحل والرذاذ في سبيل الجلاء .. وكنا كلما نزلنا من السيارات عند المعالم التونسية، كان الرئيس عبد الناصر يقول لي : أصبحنا نغار كثيراً من هذا الود بينك وبين الرئيس بورقيبة وكان الرئيس بن بللا يجيب " سي أحمد أخ لجميع المناضلين في المغرب ". وقد عقد هذا الثناء لساني، فلم أملك جواباً .
وقد أتاحت لي هذه الزيارات لقاءات مع الصحافة والطلاب والشباب في تونس وتحدثت في الإذاعة التونسية، مشيدا بكفاح الشعب التونسي، معرباً عن ابتهاج الأمة العربية وقد تحقق الجلاء عن بنزرت هذا الثغر العربي الكبير على شواطئ المتوسط، وأن ميناء بنزرت يتطلع إلى تحقيق الجلاء الصهيوني الاستعماري عن شواطئنا في فلسطين ، وثغورنا العزيزة في عكا وحيفا ويافا..
وانتهت الاحتفالات الشعبية والرسمية، وغادرنا تونس، ونحن على عهد مع الرئيس بورقيبة بان ينصر القضية الفلسطينية بكل ما أوتي من قوة..
وانعقد مؤتمر القمة العربي الأول في أواخر 1963، وبعده مؤتمر الدول غير المنحازة، وكان موقف الرئيس بورقيبة مسانداً للقضية الفلسطينية، كما فصلت ذلك في صدر مذكراتي ..
وإلى هنا فقد كان كل شيء حسناً بين الرئيس بورقيبة والقضية الفلسطينية، إلى أن جاء شتاء عام 1965 (17-2-1965) وجاء معه الرئيس بورقيبة لزيارة الجمهورية العربية المتحدة، في سلسلة زيارات أخرى لعدد من الدول العربية والأوروبية..
وبالغ الرئيس عبد الناصر بالحفاوة " بضيفه العظيم " الرئيس أبو رقيبة،وهتفت له جماهير القاهرة بكل جوارحها، وقد عرفته لاجئاً إلى قهوة الفيشاوي في مصر، في أيام الشدة، وها هي اليوم تحييه في أيام الرخاء، وقد أصبح رئيساً للجمهورية في قصر قرطاجة في تونس..
وألقى الرئيس بورقيبة في جامعة القاهرة خطاباً كانت بين سطوره إشارة ناعمة، كأنها تقول لعبد الناصر وللجمهورية العربية المتحدة " ألزموا حدودكم " ..
فقد كان الرئيس التونسي يأخذ على الرئيس عبد الناصر أنه يمسك بزمام المبادرة بالقضية العربية، دون تشاور سابق مع الرؤساء العرب.
ولقد ضايقتني هذه البادرة من الرئيس بورقيبة، ولكن قلت وما يعنينا؟ نحن تهمنا قضية فلسطين..
وأقامت السفارة التونسية حفلة عشاء كبرى، ودخل الرئيس بورقيبة ومعه الرئيس عبد الناصر، والابتسامات العراض على وجهيهما ..وأخذني الرئيس بورقيبة بالحضن وهو يقول للرئيس عبد الناصر " إني مستبشر خيراً .. إن الأخ أحمد قد ترك الأمم المتحدة، وقد أصبح الآن رئيس منظمة التحرير .. ونحن لا ننسى جهاده في القضية التونسية، وقد آن الأوان أن نكافئه في قضية فلسطين".
قلت : استغفر الله، إني لم أفعل للقضية التونسية إلا ما هو واجبي .. وأنا لا أستطيع أن أنهض بواجباتي في القضية الفلسطينية إلا بمعاونتكما وسائر ملوك العرب ورؤسائهم..
وبعد انتهاء المباحثات بين عبد الناصر وأبو رقيبة صدر البلاغ المشترك (23/2/1965) معلناً أن الرئيسين " يؤكدان تأييدهما لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومساعدتهما على استرداد حقوق الشعب الفلسطيني كاملة".
وخرجت في اليوم الثاني إلى المطار، وودعنا الرئيس بورقيبة في سفره إلى البلاد العربية، وأولها الأردن ..
وإلى هنا كان كل شيء مع الرئيس بورقيبة جميلاً كريماً .. ومن هنا أصبح كل شيء مع الرئيس بورقيبة لا جميلاً ولا كريماً ..
كان ذلك في الأسبوع الأول من شهر آذار 1965 حينما قام الرئيس بورقيبة بزيارة عدد من المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، ومخيمات اللاجئين، وراح يخطب على الشعب الفلسطيني خطباً، لم أصدق أذني وأنا أسمعها..
ففي مدينتي أريحا ونابلس ومخيم عقبة جبر، وقف الرئيس بورقيبة يرثي لحال اللاجئين ويندب سوء طالعهم ، ويندد بالسياسية التي أدت إلى نزوح الفلسطينيين عن مدنهم وقراهم ليعيشوا في الخيام، تفتك بهم الأمراض والأوبئة ويقرصهم الشتاء القارص، ويلهبهم الحر اللاهب.. وأنه لا سبيل للخلاص من هذا العناء والبلاء إلا بالاعتراف بالأمر الواقع ، على أساس الاحترام المتبادل بين العرب وإسرائيل وان التعايش السلمي بين الدول العربية وإسرائيل هو الحل الوحيد لتسوية القضية الفلسطينية، وأن إسرائيل دولة عضو في الأمم المتحدة، وأن إزالتها مناف لميثاق الأمم المتحدة وللأخلاق الدولية.. إلى آخر هذا الكلام الواضح الصريح، الخالي من كل إبهام أو تلميح..
سمعت هذا الكلام في الإذاعات العربية والأجنبية على السواء .. فلم أصدق سمعي، فقد فقد كان الرئيس بورقيبة قبل ليلة واحدة في القاهرة .. ولم يتحدث بمثل هذه الآراء .. لم يتحدث معي على الأقل في هذه الأفكار .. وإن كان بورقيبة قد زعم في أحاديثه الصحفية أنه كاشف الرئيس عبد الناصر بكل آرائه!
ولأول وهلة لم أصدق فهمي لهذه التصريحات من رجل قضى كل عمره في الكفاح الوطني ولم يصل إلى سدة الرئاسة إلا من السجون والمعتقلات .. غير أن الأنباء بدأت تتوارد عن احتجاج الشعب الفلسطيني ونقمته، فأدركت أن سمعي وعقلي، هو تماماً مثل سمع الشعب الفلسطيني وعقله، سواء بسواء.
ثم جاءت غضبة الجماهير العربية في الوطن العربي بأسره تعلن استنكارها لتصريحات الرئيس أبو رقيبة.
ولم يكن حديث الرئيس بورقيبة فلتة لسان أو زلة بيان، فقد راح يخطب بهذه المعاني في حضور مضيفه الملك حسين، وفي كل مكان في المملكة الأردنية الهاشمية .. ولم يكتف بذلك بل عاد وأكد هذه الآراء في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم انتهاء زياراته .. وحملته وكالات الأنباء الأجنبية إلى كل أرجاء العالم.
وانقضَّت الصحافة والإذاعة العربية على الرئيس بورقيبة تندد بموقفه، وتدينه بأنه خروج على الإجماع العربي وانتهاك صارخ للموقف العربي الذي اتخذه مؤتمر القمة العربي بصدد تحرير فلسطين؛ ومع الصحافة العربية انطلقت التصريحات العربية الرسمية من الملوك والرؤساء تشجب تصريحات الرئيس ابو رقيبة، وتعتبرها خيانة عظمى بحق العروبة.
وصادف في ذلك الوقت أن كان الملك الحسن الثاني في زيارة للجمهورية العربية المتحدة فشجب تصريحات الرئيس بورقيبة من غير أن يذكر أسمه، وخطب الرئيس عبد الناصر مندداً بآراء الرئيس أبو رقيبة، وان الزمن زمن نضال، و " ليس وقت فلسفة ومراحل على طريقة أبو رقيبة.."
كان الهياج والاحتجاج يعمان العالم العربي بأسره، على حين انبرت إسرائيل للترحيب بتصريحات أبو رقيبة؛ فقد هللت له الأوساط الإسرائيلية، وأعلنت جولدا مايير في مأدبة غداء أقامها نادي الصحافة في تل أبيب، عن ابتهاجها بأنه "وُجد زعيم عربي لا يتحدث عن الحرب وعن تصفية إسرائيل بل يدعو إلى السلام والتعايش مع إسرائيل".. ونشرت جريدة " جروسلم بوست " برقية من رئيس بلدية عكا (العربي) يطلب فيها ن الرئيس بورقيبة " أن يزور إسرائيل بل يدعو إلى السلام والتعايش مع إسرائيل ليتحقق بنفسه كيف يسود السلام والتعايش الأخوي بين اليهود والمسلمين والمسيحيين تحت علم إسرائيل".
وأعلنت الأوساط الغربية من جانبها في أمريكا وبريطانيا، تقديرها لشجاعة الرئيس بورقيبة وواقعيته، وأعربت عن تمنياتها أن يقوم الرئيس بورقيبة بدور قيادي في تسوية القضية الفلسطينية وإنهاء النزاع بين الدول العربية وإسرائيل.
وفي هذا الفلك المحموم، لم يجد الاتحاد السوفيتي مناصاً لأن يلقي بدلوه، أو بثقله في تأييد سياسة الرئيس أبو رقيبة، فقد رحبت جريدة " ازفستيا " الناطق الرسمي بلسان الاتحاد السوفيتي " بالسياسة الواقعية" التي أعلنها الرئيس أبو رقيبة، ودعوته إلى إجراء مفاوضات سلمية مع إسرائيل (27/5/1965) .
وكان في برنامج الرئيس بورقيبة أن يزور عدداً من الدول العربية، بعد الأردن،ولكن المظاهرات التي عمت الوطن العربي لم تترك مجالاً لتحقيق هذا البرنامج، وإني أقول هذا البرنامج، فقد كانت كل الدلائل تشير إلى أن الرئيس بورقيبة يريد أن يدعو إخوانه " الملوك والرؤساء " إلى تبني مقترحاته السلمية لتسوية القضية الفلسطينية.
وسافر الرئيس بورقيبة إلى لبنان، ليقضي فيه أياماً، وهو في طريقه إلى بقية الأقطار الأوروبية التي يعتزم زيارتها .. وفي بيروت جرى حوار حاد بينه وبين الشخصيات العربية الرسمية والشعبية، ونشطت الصحافة اللبنانية في مهاجمته والتنديد بآرائه .. واكتظت الشوارع بالمظاهرات الصاخبة، وكاد حبل الأمن أن يخرج من يد السلطة .. وتنفست الحكومة اللبنانية الصعداء بملء الرئتين، يوم غادر " الضيف الكبير" بيروت في طريقه إلى تركيا ..
وفي تركيا عاد الرئيس أبو رقيبة يردد تصريحاته في عناد وإصرار، وهو يحسب أنه قد أصبح بعيداً عن العالم العربي .. ولكنه فوجئ بمظاهرات الطلاب العرب في أنقرة وهم يصيحون ويستنكرون.
وأزداد الرئيس بورقيبة ابتعاداً عن العالم العربي بعد أن غادر تركيا وسافر إلى يوغوسلافيا، وهناك كرر وأعاد موقفه وتصريحاته، وهناك أيضاً وجد الطلاب العرب يتظاهرون صائحين ومستنكرين.
وانتهت زيارات الرئيس بورقيبة ، وحط رحاله في تونس وقد أخذته "العزة بالإثم" فعقد مؤتمراً صحفياً حمل فيه على الملوك والرؤساء ، وشنع على الجيوش العربية، " وأن رفض الدول العربية لوجود إسرائيل هو موقف لا يتمشى مع المنطق والحق والأخلاق .. وأن ميثاق الأمم المتحدة لا يجيز انتزاع شبر واحد من دولة هي عضو في الأمم المتحدة"!!
وفي هذه الغمرة العارمة من التصريحات سافر الحبيب بورقيبة الابن، كاتب الدولة للشئون الخارجية التونسية، إلى واشنطون ليبحث مع المسئولين الأمريكان تقديم مساعدات وقروض للحكومة التونسية..!!
ولقد كنت مع رحلة بورقيبة وتصريحاته، بكل غضبي ونقمتي؛ فمنذ أن نطق الكلمة الأولى من العبارة الأولى بالصلح مع إسرائيل، أصبح صديقي الودود عدوي اللدود، فانبريت للهجوم عليه، لا تهجماً ولكن دفاعاً عن قضية بلدي، وأنا أحمل فيها المسئولية الأولى أمام الشعب الفلسطيني. ولم يكن ممكناً أن أسكت أو أجامل .
وكان أول ما عملته أن عقدت مؤتمراً صحفيا (22-4-65) دعوت إليه على التلفون، وأدليت ببيان شجبت فيه تصريحات بورقيبة وبينت فيها مواضع الخطر والخطأ وأعلنت باسم الشعب الفلسطيني رفضها جملة وتفصيلاً . . ثم أخذت إذاعة منظمة التحرير تتولى قيادة الحملة على الرئيس بورقيبة ..
وتوالت بعد ذلك خطبي، وتصريحاتي إلى الصحافة العربية والعالمية، في التنديد بموقف الرئيس بورقيبة .. وأشهد أني كنت قاسياً وعنيفاً .. ولكني كنت على الدوام موضوعياً غير مبتذل .. وما أظن الرئيس بورقيبة يكون أقل عنفاً وقسوة، لو أن أحداً قد تعرض للقضية التونسية بمثل ما تعرض للقضية الفلسطينية .
وأعلنت بعد ذلك إني سأطلب في أول اجتماع عربي فصل الحكومة التونسية من الجامعة العربية وإسقاط عضويتها من مؤتمرات القمة العربية.. وأعلنت الصحف العربية تأييدها لهذا الاقتراح ،وتقدمت جريدة الأهرام الصفوف وقالت " " إن القاهرة لا يمكنها أن تجلس مع تونس في اجتماع عربي وتكشف لها عن خططها السياسية والعسكرية."
وعقد الاجتماع الدوري (28/4/65) للجنة ممثلي الملوك والرؤساء، التي انبثقت عن مؤتمر القمة حتى ساد الوجوم جو الاجتماع، واستشعر ممثلو الملوك والرؤساء أنه حان الحين للمقارنة بين التصريحات التي تعطى للصحف في الخارج والموقف الذي يتخذ في الداخل.
وقدمت للوفود العربية ملفاً كاملاً عن رحلة الرئيس أبو رقيبة وتصريحاته منذ أن غادر القاهرة إلى أن عاد إلى تونس بعد زيارته للدول الأوروبية..وقد حرصت أن تكون معظم محتويات الملف مما نشرته الصحف التونسية ذاتها، وأذاعته الإذاعة التونسية نفسها.
وتكلم رؤساء الوفود في الموضوع، من العنف السوري، إلى اللطف المغربي، وكلهم أعلنوا بلهجات متباينة أنهم لا يوافقون على تصريحات الرئيس أبو رقيبة، ولا يقرون الصلح مع إسرائيل، وأنهم عند عهدهم الذي قطعه الملوك والرؤساء لتحرير فلسطين في مؤتمر القمة في القاهرة والإسكندرية.
وقلت : إن القانون العادي يسمي هذا العمل من جانب الرئيس بورقيبة " خيانة عظمى " وإني لا أستطيع أن أجد لفظاً أرق وأرفق، ومنظمة التحرير تطالب بفصل تونس ..
قالوا : لا نستطيع أن نتعرض لرئيس دولة.
قلت : القضية الفلسطينية فوق الملوك والرؤساء.
قالوا : نحن وزراء وسفراء، ولا نملك أن نحاسب رئيس دولة.
قلت : أنتم ممثلون للملوك والرؤساء، ومن لم يكن عنده تفويض بالموضوع يستطيع أن يرجع إلى ملكه أو رئيسه.
قالوا هنالك أمور دبلوماسية وأصول بروتوكولية تحول دون البحث في تصريحات لرؤساء الدول .
قلت لا حصانة مع الخيانة، وإني آسف أن أقول مرة ثانية أن موقف الرئيس بورقيبة هو خيانة للقضية الفلسطينية .. ولو كان على أحد أن يجامل .. فأنا أولى منكم جميعاً بذلك .. لأني أقدم صديق بينكم للرئيس أبو رقيبة، ولكن الوطن فوق الصداقات والمجاملات..
قالوا ولكن كلمة خيانة قاسية ونابية .
قلت : أقولها وصفاً، لا تشهيراً ولا تنديداً، وقد وردت " الخيانة " ومشتقاتها في عدة آيات من القرآن، منها قوله :" وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء " وأنا أطالب بنبذ الخائن.
قالوا : أن طلب الفصل يجب أن يأتي من دولة عربية، وهذا ما نص عليه ميثاق الجامعة..
قلت : إن الجامعة أسست أصلاً من أجل قضية فلسطين، وما معنى حضوري معكم .. إني أرفض أن أكون مراقباً أو مستمعاً .
وامتد الحوار على هذا النحو دون أن نصل إلى نتيجة ، والواقع أن لجنة المتابعة التي تضم ممثلي الملوك والرؤساء كانت تبحث عن " مهرب " قانوني من مواجهة الموقف الخطير الذي وقفه الرئيس أبورقيبة بصورة حاسمة وقاطعة .. ووجد أصحاب " الفتاوى" صيغة توصية بإحالة الموضوع كله على اجتماع مجلس رؤساء الحكومات العربية المزمع عقده في ربيع ذلك العام .. وقد ظنت الأوساط العربية الرسمية أن الموضوع ستنطفئ حدته في الأسابيع القليلة المقبلة، وتنزاح الأزمة عن أكتاف الحكومات العربية.. ولكن الرئيس بورقيبة مضى " بشجاعته" المعروفة يؤكد مقترحاته بضرورة تسوية القضية الفلسطينية على أساس الأمر الواقع .. وظل يعقد المؤتمرات الصحفية ويدعو الدول العربية للاعتراف بإسرائيل، والاعتراف بها كدولة في منطقة الشرق الأوسط ..وظلت وزارة الخارجية الأمريكية ترحب بهذه المقترحات، ومعها الأوساط الغربية كلها .. الرسمية والصحفية..
وفي تلك الأثناء زارني السفير التونسي السيد محمد بدره، في منزلي، وله بي معرفة سابقة منذ أن توليت الدفاع عن القضية التونسية، في دورة الأمم المتحدة المنعقدة في باريس عام 1951(1) .
جاءني السفير بدره يشكو أن الطلاب العرب في القاهرة قد هاجموا السفارة التونسية ورشقوها بالحجارة..وأن هذا العمل غير لائق ..
قلت له : إنه عمل غير لائق من غير شك .. ولكن عمل الرئيس بورقيبة ليس عملاً غير لائق فحسب، وإنما هو خروج على الإجماع العربي. فأي العملين أشد وأنكى..,
قال : وهل من سبيل إلى التفاهم .
قلت : الرجوع إلى الحق فضيلة .. ويستطيع الرئيس بورقيبة أن يعلن بأنه يؤيد مطالب الشعب الفلسطيني.
قال : ألا تؤمنون مع الرئيس بورقيبة بسياسة المراحل وهي التي طبقناها مع الفرنسيين في القضية التونسية..
قلت : لست غريباً عن القضية التونسية، وقد واكبت جميع مراحلها في الأمم المتحدة .. والقضية الفلسطينية لا بد لها من مراحل .. ولكننا لا نستطيع أن نقبل " مرحلة " تصفي القضية .. نريد " مرحلة" تنقلنا إلى مرحلة أخرى، ولكن المرحلة التي تنتهي عندها القضية تكون هي البداية والنهاية.. إن الرئيس بورقيبة يدعونا إلى الاعتراف بإسرائيل، والتصالح معها .. هذه ليست "مرحلة " ولكنها نهاية القضية .. أنها خاتمة المطاف، أنها آخر محطة في مسيرة القطار .. القطار السائر إلى وادي العدم ..
وخرج السفير بدره من منزلي ولسانه مع الرئيس بورقيبة .. ولكن قلبه معي، ومع القضية الفلسطينية ومع الأمة العربية ..وإني أرجو أن لا أسلط عليه غضب الرئيس بورقيبة بهذه الملاحظة العابرة.
وانعقد مجلس رؤساء الحكومات العربية (26-30 أيار 1965) في القاهرة وتصريحات الرئيس بورقيبة أهم موضوع على جدول الأعمال؛ وقد حضر الاجتماع عدد من رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، كان بينهم: العقيد هواري بومدين ( الحزائر) وزكريا محي الدين (مصر) وطاهر يحيى ( العراق ) نور الدين الأتاسي ( سوريا ) حسين العويني ( لبنان ) الأمير فهد بن عبد العزيز ( السعودية) محمد أحمد محجوب ( السودان ) وصفي التل
(الأردن) الطيب بن هيمة ( المغرب) .. وغيرهم من السفراء والخبراء..
وأسهبت في الحديث عن خطورة موقف الرئيس بورقيبة على القضية الفلسطينية، وخروجه على مؤتمرات القمة وعلى إجماع الأمة العربية .. وأن الأمر لم يعد يتحمل تساهلاً ولا مجاملة، وأن منظمة التحرير الفلسطينية، مع تقديرها للشعب التونسي ونضاله، تطالب بفصل الحكومة التونسية من الجامعة العربية، وإسقاط عضويتها من مؤتمرات القمة.
وتأجل الاجتماع إلى اليوم الثاني .. وأفضى رؤساء الحكومات العربية إلى الصحافة العربية بتصريحات " هائلة" ينددون فيها بموقف الرئيس بورقيبة ويتهمونه بالخيانة والعمالة وقرأت هذه التصريحات في صحف الصباح ، وأيقنت أن مهمتي أصبحت يسيرة .. وأن قرار " الفصل " سيصدر في ذلك اليوم .
وفي أورقة الجامعة، ومسكينة هذه الأورقة كم شهدت من المآسي والمهازل بدأت الاتصالات الجانبية بين الرؤساء .. وامتدت إليَّ هذه الاتصالات يأتيني هذا الرئيس ليقول : نحن موافقون على اقتراحك ولكن الجزائر لا تريد، إن لها مصالح مع تونس .. ويأتي ذاك الرئيس ليقول :نحن موافقون معك، ولكن القاهرة لا تريد ،كل ما تريده القاهرة هو حملة إعلامية .. ويأتي ذلك الرئيس ليقول : نحن موافقون ولكن سوريا لا يهمها إلا المزايدة الكلامية .. ثم يأتي هذا الرئيس ليقول .. ويقول ..
وأيقنت أن الإجماع يكاد ينعقد على قبول مقترحات المنظمة .. وندخل قاعة الاجتماع لأسمع رئيس الجلسة وهو يقول : استجابة لمشاورات جرت بين الإخوان تقرَّر إرجاء موضوع الرئيس بورقيبة إلى نهاية الجلسات ..
ونخرج من الاجتماع، وأنا أسأل الرؤساء : لماذا التأجيل؟ فيقول هذا الرئيس: أنت تعلم نحن موافقون على رأيك، وكنا نريد حسم الأمر هذا الصباح ولكن ما العمل فالوفد اللبناني غير موافق .. ويقول لي ذلك الرئيس : نحن لا نريد التأجيل وكنا نريد أن يصدر القرار في هذا اليوم ولكن العراق غير موافق .. ويقول لي ذلك الرئيس : ماذا نفعل بالسعودية إنها لا توافق على فصل بورقيبة وكذلك الأردن، فإنها من هذا الرأي !!
وأمسكت أعصابي بيدي، ورأسي على كتفي، فقد أَلفِتُ هذه " الدوامات" في اجتماعات الجامعة العربية عبر السنين، وصبرت حتى الجلسة الختامية .. فعدت إلى شرح الموضوع مرة ثانية وثالثة.. ولكن رئيس الاجتماع السيد زكريا محي الدين بدأ يقرأ من ورقة أمامه . فأدركت أن الرؤساء قد " طبخوا" فيما بينهم مشروع قرار .. وكفى الله المؤمنين القتال .. وقد نص القرار بعد الديباجة الغاضبة على ما يأتي :
أولاً ) الرفض التام للمقترحات التي انفرد السيد رئيس جمهورية تونس بإعلانها خروجاً على الإجماع العربي الحكومي والشعبي ونقضاً للالتزام القومي والرسمي بالعمل لتحرير الوطن العربي من الاستعمار الصهيوني في فلسطين.

ثانياً ) التأكيد بتمسك الدول العربية المشتركة في الاجتماع بمقررات مؤتمري القمة الأول والثاني وتصميمها على تنفيذهما تنفيذاً كاملاً.
وفرغ رئيس الجلسة من تلاوة هذا القرار وبادرت إلى طلب الكلمة، وأعلنت أن منظمة التحرير لا توافق على هذا القرار، وأن لا سبيل أمامي إلا الانسحاب من الجلسة، استنكاراً لذلك القرار الهزيل .. وخرجت من القاعة، وهرول الصحفيون من حولي يسألون عن السبب، فقلت لهم اسألوا رؤساء الحكومات العربية الذين يصرحون لكم في الخارج على النقيض مما يقولون في الداخل .. وهذه هي مصيبة العمل العربي إلى يومنا هذا، وإلى غدنا حتى يتبدل الخُلق غير الخُلق والحُكم غير الحُكم.
وما أن وصلت بيتي حتى لحق بي الفريق طاهر يحيى رئيس وزراء العراق .. وجرى الحديث طويلاً بيننا، وهو يشرح أسباب هذا القرار " الضعيف " حسب اللهجة العراقية. وناشدني أن أعود إلى الاجتماع صوناً للإجماع العربي .. فقلت له إن الإجماع العربي كان دائماً هو الفتوى تبريراً للتراخي العربي.
فقال : أنا أصبحت الآن في بيتك، وأريدك أن تأتي معي إلى الجامعة..
قلت :أشكرك على هذه العاطفة الكريمة؛ أنا أسعى إليك ماشياً إلى بغداد .. ولكني لا أعود إلى الاجتماع.
وعاد الفريق طاهر يحيى إلى الاجتماع وحده .. وما أن وصل إلى الجامعة حتى بادر السيد زكريا محي الدين رئيس وفد الجمهورية العربية المتحدة، ومحمد أحمد محجوب رئيس وفد السودان، بمطالبتي تلفونياً، لأعود إلى الاجتماع؛ والشاعر الناثر محمد أحمد محجوب ينشد على التلفون:
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى
ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وأنا أجيبه منشداً:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وانتهى اجتماع مجلس رؤساء الحكومات العربية عند هذا القرار، فاستقبلته الصحافة العربية بالغضب والاستنكار، وتابعهم في هذا المجال رؤساء الحكومات العربية إياهم ..
ومباشرة بعد ذلك، عقد المجلس الوطني الفلسطيني دورته الثانية في القاهرة (13 أيار 1965) وحضر الاجتماع ما يقرب من 450 مندوباً يمثلون جميع فئات الشعب الفلسطيني في جميع مواطنه ومهاجره ..
وفي الجلسة الأولى قدمت استقالتي لأفسح المجال أمام المجلس لتحديد الموقف الذي يراه ملائماً، بالنسبة لجميع الخطوات التي اتخذتها إزاء الرئيس أبو رقيبة، فقد كانت اللجنة التنفيذية بعيدة عني إذ ذاك، مشتتة تشتت الشعب الفلسطيني وفعلت ما فعلت على مسئوليتي الفردية.
وناقش المجلس الوطني أزمة الرئيس التونسي من جميع جوانبها، وقرر في النهاية 2(/6/1965) رفض استقالتي مع تسجيل التقدير " للموقف الوطني الحازم الرائع الذي وقفه رئيس منظمة التحرر حفاظاً على القضية الفلسطينية.
ورغماً عن ضعف القرار الذي أصدره مجلس رؤساء الحكومات العربية ،فقد أصبح الرئيس بورقيبة في شبه عزلة غير معلنة وفي قطيعةغير مقررة؛ فلا يتصل به أحد من الحكومات العربية.
ولكن هذا الموقف قد أخذ يضعف شيئاً فشيئاً، لأن حرب الأعصاب من الدول العربية قد جعلت حكاية بورقيبة في المقاعد الخلفية ،وتصدر الخلاف في المشرق العربي إلى الصفوف الأمامية ..
وكانت الإذاعات العربية متلاحمة مع بعضها .. فاستراح الرئيس بورقيبة بعض الشيء ..بل لعله تنفس الصعداء، وهو يرى التراشق بين دمشق والقاهرة، قائما ًعلى قدم وساق، وعلى كل شفة ولسان ..
وأقبل العيد الثالث عشر للثورة المصرية (23/7/1965) فخطب الرئيس عبد الناصر حسب عادته، مستعرضاً الأمور الداخلية والخارجية، والشؤون المصرية والعربية، وعرج على الرئيس بورقيبة مشيراً إليه أنه نكسة من النكسات العربية .. وتلقفتها دمشق ،فأعلن مصدر سوري رسمي " بأن الرئيس بورقيبة لم يفعل شيئاً لم يفعله الرئيس عبد الناصر .." هكذا حذوك النعل بالنعل .. وبقيت تصريحات الرئيس بورقيبة تذكر بالاستنكار، كلما جاءت مناسبة قومية، إلى أن جاءت حزيران في حرب الأيام الستة . وبين أشلاء الهزيمة وأنقاض الانكسار، غاضت تصريحات الرئيس أبو رقيبة، وطفت على السطح تصريحات عربية أشد هولاً، توافق على قرار مجلس الأمن الصادر في نوفمبر 1967 وترضى بالاعتراف بإسرائيل، وإقامة حدود آمنة مع إسرائيل، وإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل – كل ذلك مما يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية.
وكانت الهزيمة فرصة للرئيس بورقيبة ليعلن فيها " سداد " آرائه، " وصواب " تصريحاته، وراح يغتنم كل مناسبة لينقض على منظمة التحرير الفلسطينية، وينتقد تصريحات الشقيري " جنكيز خان " القرن العشرين الذي يريد أن يلقي اليهود بالبحر، تماماً كما زورت الصهيونية وكذبت عن طريق أجهزتها الإعلامية.
وفي شهر تشرين الثاني عام 1967 أكد الرئيس عبد الناصر في خطاب ألقاه في مجلس الأمة الضرورة الملحة لانعقاد مؤتمر القمة الخامس، وبدأت الاتصالات بين الملوك والرؤساء لتحديد الزمان والمكان، وكتب الرئيس بورقيبة إلى القاهرة أنه لا يجلس مع الشقيري في أي مؤتمر قمة، كائنة ما كانت الظروف .
وفي أوائل عام 1968 نشأت ظروف دولية وعربية سيأتي شرحها في حينه، حملتني على الاستقالة من رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية*.
وبقدر ما انغم الشعب الفلسطيني فوق غمومه وهمومه، هللت الإذاعة التونسية وفرحت لاستقالتي .. ثم عادت وأعلنت فرحتها يوم قامت، ما أسمته،" قيادة جديدة متحررة " للشعب الفلسطيني .. وأعلنت الحكومة التونسية " اعترافها " بمنظمة التحرير الفلسطينية في ظل قيادتها الجديدة " وأن فخامة الرئيس المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة يؤيد منظمة التحرير الفلسطينية. وحسب الرئيس بورقيبة أنه قد انتصر وانتصرت آراؤه ومقترحاته..
وما حسب أن الأمة العربية، والشعب التونسي في المقدمة، هي مع الشقيري وآرائه في قضية فلسطين، وأقول ذلك بكل تواضع وتوادع .. ففي أوائل عام 1970 قدم الشعب التونسي البطل الدليل القاطع، وكان ذلك في شهر شباط من ذلك العام، فحين وصل إلى تونس المستر روجرز وزير الخارجة الأمريكية في زيارة رسمية يحمل بعض المقترحات بشأن القضية الفلسطينية، فتصدى له الشعب التونسي البطل وفي مقدمته الطلاب والشباب، بالاحتجاج والمظاهرات .. ولم تستطع الحكومة التونسية حماية الوزير الأمريكي من غضبة الشعب وخرج من البلاد بعد أن اختزل كثيراً من برنامج زيارته للبلاد .
استمعت إلى هذه الأخبار الماجدة عن الشعب التونسي البطل، وأنا في بيتي في القاهرة أستكمل كتابة مذكراتي .. وقلت في نفسي : ما أعظم الأمة العربية، وما أعظم الشعب التونسي، وهو واحد من شعوبها.
وها قد أثبتت الأيام، حتى الهزيمة النكراء، إن الشعب التونسي هو مع " الشعب الفلسطيني اللاجئ " أحمد الشقيري .. وليس مع " المجاهد الأكبر فخامة الرئيس بورقيبة بل قد أثبتت الأيام؛ أينا المغرور ..
" فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور"
"صدق الله العظيم"

أيـام مـع زعيـم ملهـم
ورئيس مقدام وشعب عملاق

عامان طويلان قضيتهما وأنا أدق أبواب موسكو، (1963 0 1965)، حتى لكأني أصبحت هنري الرابع وقد وقف قبل سبعة قرون، على أبواب طانوسا، يطلب الغفران من البابا كما تروي القصة الشهيرة ...*
ولم أكن أطلب الغفران حين وقفت على أبواب موسكو، فلم يكن لي ذنب معها، ولكن كان لي رصيد كبير، ادخرته لدى الاتحاد السوفيتي على مدى خمسة عشر عاماً، وجئت اليوم أطالب بالوفاء، ولو قسطاً قسطاً.
وكان هذا الرصيد سيرتي ومسيرتي مع الاتحاد السوفيتي في الأمم المتحدة، أو هو " حيلتي وفتيلتي " كما يقول المثل العامي، فمنذ اليوم الأول الذي وطئت فيه قدماي أرض هذه المنظمة العالمية في عام 1948 بحثت عن الوفد السوفيتي، قبل أن يبحثوا عني، وألقيت بنفسي في موكبهم، ورحت أسير في ركابهم عبر الطريق الطويل، المحفوف بالمكاره والشدائد ..
وكرست وقتي كل وقتي، أقرأ وأستمع وأتعلم في أروقة الأمم المتحدة، لأتعرف على القضايا الدولية، وخاصة ما كان منها متصلاً بالحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي على رأس الدول الاشتراكية والولايات المتحدة على رأس الدول الغربية.
وبدأت أدخل حلبة الصراع الدولي، أخطب وأناقش، وأحاور وأناور، إلى جاب الاتحاد السوفييتي، في كل المشاكل الدولية من قضية كوريا في أقصى آسيا، إلى قضية كوبا الرابضة بين الأميركتين الشمالية والجنوبية ..
وفي غمرة هذا الصراع، لم أتورع عن التعريض برؤساء الدول الغربية، بمناسبة وفي غير مناسبة ، فحملت على ترومان، وايزنهاور، وكنيدي، وجونسون، من رؤساء الولايات المتحدة، وعلى مكميلان، وايدن، وهيوم وسلوين لويد من رؤساء بريطانيا ووزرائها، كل ذلك ثأراً لقضيتي الشهيدة، قضية فلسطين، والمعسكر الغربي يتحمل المسئولية الأولى في نشوئها وتطورها..
وبالإضافة إلى مشاعر الثأر، وهي المشاعر المتأصلة في نفوسنا منذ حياتنا الأولى في البادية، كنت أريد أن أبني، ولو لبنة بعد لبنة، ولأدخرها من أجل المستقبل.
ولقد كان موقفي هذا مبرراً بعض الشيء حين كنت رئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة.. ذلك أن سوريا قد خرجت من الحرب العالمية الثانية، دولة حرة مستقلة، غير مرتبطة باية قيود أجنبية، وسارت في ركب الدول غير المنحازة .. وفي الطليعة.
وكذلك كان موقفي مبرراً، حتى حين أسرفت في تأييد الاتحاد السوفييتي، على بياض .. هكذا ..وبدت الجمهورية العربية السورية في أروقة الأمم المتحدة كأنها واحدة من جمهوريات الاتحاد السوفيتي؛وأصبحت أنا بنفسي، حسب تعبير الصحافة الأمريكية، والبريطانية، " عميلاً " للاتحاد السوفيتي.
ولكن موقفي لم يعد مفهوماً ولا مبرراً، حين أصبحت رئيساً للوفد السعودي لسبعة أعوام (1957 – 1963) ...، ولسبعة أعوام مضيت في ركب الاتحاد السوفيتي أحارب حربهم ولا أسالم سلمهم .. حتى انطلقت النكتة الدولية الشهيرة في أروقة الأمم المتحدة، في أن الشقيري لم يكن يمثل الجمهورية السورية، ولا المملكة العربية السعودية، وإنما هو دولة بنفسه!!
ولم ابال بهذه النكتة،ولا بما جره علي استعداء المعسكر الغربي كله، في هذا العراك غير المتكافئ، الذي لم أكن أملك فيه غير لساني، وقدسية القضية العربية التي كنت دائماً أعتصم في خنادقها، في جولاتي وصولاتي على منبر الأمم المتحدة ..
وظل الاستعمار يتربص بي الدوائر، إلى أن وقعت حرب اليمن؛ ولم أذعن " لأوامر" الملك فيصل ، بعرض شكواه على الأمم المتحدة، وصدر القرار بفصلي من خدمة المملكة العربية السعودية، ووقع ما كان يخشاه " خروشوف" وقد حذرني غير مرة، وهو يطلب إلي أن أجعل الأمر بيني وبين الأمريكان كراً وفراً، فإنهم ، حسب تعبيره " قادرون في اللحظة المناسبة أن يعملوا على إخراجي من الأمم المتحدة" وصدقت نبوءة خروشوف .. فلم انتصح، ووقع ما وقع .. ولست نادماً على ما وقع..
وتلقفتني الأقدار، فيما بعد، فدعاني مؤتمر القمة العربي في القاهرة، إلى إنشاء الكيان الفلسطيني .. وبدأت أبحث عن رصيدي في العالم الدولي .. فالبدوي إذا أفلس يبحث عن الدفاتر العتيقة، كما يقول المثل العامي ..
ولم أكن في حاجة إلى حساب طويل، لادرك للوهلة الأولى، أنه ليس لي رصيد في المعسكر الغربي؛ بل إن حسابي فيه هو حساب المدين، مسطراً بالحبر الأحمر ..فانصرف ذهني إلى رصيدي في الدول الاشتراكية،وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي .. وأنا أعلل النفس بالآمال الجسام..
وعزمت أن اسحب من رصيدي هذا، فبدأت اتصالاتي بالاتحاد السوفيتي، عن طريق سفرائه في الوطن العربي كله، واستنفدت في هذا الطريق شعارنا الحبيب من المحيط إلى الخليج .. فلم أترك للاتحاد السوفيتي سفارة ولا مفوضية إلا وطرقت بابها، أطلب العون للشعب الفلسطيني ممثلاً في منظمة التحرير الفلسطيني، وقد أصبحت لها شخصيتها المستقلة؛ واعترفت بها، على الأقل، ثلاث عشرة دولة عربية .
وكانت السفارات السوفيتية تستقبلني بإكرام، وتودعني بحفاوة .. دون أن أظفر بشيء من رصيدي الكبير في الاتحاد السوفيتي .. ولو " روبل " واحد، وهو من العملات العالمية التي لا تداول لها في الأسواق ..
وفي أسفاري الكثيرة خلال هذين العامين (1963 – 1965) لقيت كبار رجال الدولة السوفييت، كوسسيجين، خروشوف، جروميكو، جاكوب مالك، وغيرهم؛ وسردت مطالبي في تأييد منظمة التحرير: معاونة عسكرية، مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، بعثات فلسطينية ثقافية، افتتاح مكتب للمنظمة في موسكو، وغير ذلك من المطالب، طامعاً في الكثير، وراضياً بالقليل .. حتى بمجرد زياراتي لموسكو(1).
وكان الجواب من هؤلاء جميعاً .. إن الاتحاد السوفييتي يقدر جهودي في المنظمة الدولية، وصداقتي للاتحاد السوفييت، ولكن .. " ولكن الظروف الدولية في الوقت الحاضر .. ولكن موقفنا من قضية فلسطين .. ولكن موقفنا من إسرائيل .. كل ذلك يفرض علينا أن ندرس .. وأن سفارتنا مفتوحة لك على الدوام لتنقل إلينا آراءك في القضية الفلسطينية وفي سائر الشؤون العربية والدولية.. وسنظل أصدقاء .. على الدوام .."
ولكن أنَّى لي أن أنتظر، وقد انتظرت عامين طويلين، والشعب الفلسطيني من ورائي ينهش لحمي ويقضقض عظمي، وهو يطلب السلاح، والشعار الصارخ يصيح في الشوارع " يا شقيري بدنا سلاح .. يا شقيري هات سلاح وخذ أرواح.."
ولم أكن في هذه الفترة ناسياً أو غافلاً، أنني بنيت صداقة وطيدة مع جمهورية الصين الشعبية في شخص رئيس وزرائها " شوآن لاي " يوم اجتمعت به في مؤتمر باندونغ في 1955، وكنت يومها نائباً لرئيس الوفد السوري ..(1).
أجل لم أنس لقائي به ليلة كاملة حتى الفجر، وأنا أشرح له مختلف جوانب القضية الفلسطينية ، لينهض في اليوم التالي، ويعلن تأييده لقضيتنا، أمام اللجنة السياسية لمؤتمر باندونغ، في وجه معارضة مستترة من المستر نهرو رئيس وزراء الهند، ومعارضة سافرة من قبل زملائه ، رؤساء سيلان والفلبين .
لم أنسَ ذلك كله؛ وكنت قد أضمرت في قرارة نفسي أن أقرع أبواب بكين، أطلب العون والمدد .. ولكني أضمرت كذلك أن أرجئ ذلك حتى أفرغ من اتصالاتي بموسكو، لأسباب وأسباب .
من هذه الأسباب أن موسكو أغنى وأقوى من بكين، على الأقل في هذه السنين من هذا القرن .. ومنها أن موسكو عضو في الأمم المتحدة .. ومنها أن موسكو هي الفريق الرئيسي في الصراع الدولي ضد المعسكر الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة .. ومنها ، أخيرا، أن " رصيدي" في موسكو أكبر وأكبر من رصيدي في بكين .. والواقع أن رصيدي في بكين لم يكن أكثر من موقفي على الدوام، في الأمم المتحدة، مؤيداً انضمام الصين الحمراء إلى المنظمة العالمية .. وذلك كل ما فعلت.
وعلى غير جدوى طال وقوفي على أبواب موسكو، انتظرها أن تفتح أمامي، واشتدت خلال ذلك سياط الشعب الفلسطيني تلهب ظهري، وهو يرفع شعار الكفاح والسلاح .. فقررت وعزمت .. وأخذت طريقي، إلى سفارة " جمهورية الصين الشعبية الديمقراطية " في القاهرة..
ودخلت على السفارة الصينية، لأول مرة، ولم تكن لي معرفة بالسفير وفي حديث قصير أعربت له عن رغبتي بزيارة بكين .. مشيراً إلى صداقتي مع السيد شوآن لاي في مؤتمر باندونغ .. وكان السفير لطيفاً ورقيقاً .. ووعد أن يبرق فوراً ..
ومضت أربعة أيام، ولا تزيد .. وجاءني السفير الصيني إلى مكتبي في منظمة التحرير الفلسطينية ليقول لي، وصلني جواب البرقية.. " إن الرفيق شوآن لاي يرحب بزيارتكم، وينتظر قدومكم في أقرب وقت، مع الوفد الذي تختارونه .. وهذه الدعوة موجهة إليكم شخصياً وبوصفكم " رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية ".. فشكرت وشكرت .. وفي إيجاز وبساطة، اتفقنا على الموعد، ومدة الزيارة، وأنواع الطعام، وأصناف الشراب.. إلى آخر القائمة .. وانصرف السفير إلى مكتبه ليبرق بالتفاصيل.
وبدأت اتصالاتي لاختيار أعضاء الوفد وحرصت أن أختارهم من أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة ومن أعضاء المجلس الوطني، لتمثيل " السلطتين " التنفيذية والتشريعية، وحرصت أن يكون جيش التحرير الفلسطيني ممثلاً، تطلعاً إلى العون العسكري الذي كنت أطمع فيه، وتم تشكيل الوفد من اللواء وجيه المدني القائد العام لجيش التحرير الفلسطيني والسادة عبد الرحمن السكسك، عبد الخالق يغمور، خالد الفاهوم، من أعضاء اللجنة التنفيذية، والسادة، رفعت النمر، عبد المحسن قطان، الدكتور فاضل زيدان، جميل بركات، شفيق ترزي، عبد الحميد طقش من أعضاء المجلس الوطني .. والنقيب فخري شقورة الضابط في جيش التحرير الفلسطيني مرافقاً عسكرياً .. وكنت قد عرضت على عدد من الشخصيات الفلسطينية أن ينضموا إلى الوفد ومن بينهم الدكتور جورج حبش من قادة حركة القوميين العرب، ولكنهم اعتذروا، بعضهم لمشاغله، وبعضهم لأن الصين شيوعية، والبعض الآخر، لأن بين أعضاء الوفد عدداً من كبار البورجوازيين!!
وفي مساء يوم الاثنين (15-3-1965) كان وفد منظمة التحرير الفلسطينية في مطار القاهرة الدولي، يصعد الطائرة، وعند السلم يقف سفير الصين ومعاونه في وداعنا، يتمنى لنا رحلة موفقة؛ وأخذتنا العزة أن الشعب الفلسطيني قد أصبحت له شخصية، وأن سفيراً يمثل سبعمائة مليون نسمة، قد خف لوادعنا في المطار، كما لو كنا دولة ذات سيادة واستقلال ..
وأخذنا مقاعدنا في الطائرة، ومددت يدي إلى حقيبتي، وفيها مجموعة من الكتب عن الصين ونهضتها وثوراته، ورحت أتصفح كتاباً بعد كتاب، وكان بينها " المقالات العسكرية للزعيم ماوتسي تونغ " فقد كنت حريصاً أن أصبح "صينياً"في معرفة تاريخ الصين وفلسفتها وثوراته، وفي طليعة ذلك مسيرة قائدها العظيم ماوتسي تونغ وفي عصر اليوم التالي وصلنا إلى " هونج كونج " المدينة الباذخة بتجارتها العالمية، المرصعة بأقار الأكواخ، الرافلة بأجمل الشواطئ والخلجان ..
وكان في استقبالنا بعض الموظفين الصينيين .. ومن المطار ركبنا السيارات إلى الحدود الصينية.. وكنا نتمنى لو أن البرنامج سمح لنا بقضاء بضعة أيام في هذه المدينة الساحرة المتآمرة .. إحدى مستعمرات التاج البريطاني، التي يزيد عدد سكانها على سكان الجمهورية العربية الليبية، ودولة الكويت ، وجمهورية اليمن الجنوبية، مجتمعين .. وجميعاً. مجتمعين .
وعلى الحدود الصينية وجدنا قطاراً خاصاً ينتظرنا، ووفداً صينياً مؤلفاً من كبار رجال الدولة، والتراجمة ورجال البروتوكول .. وتوزع الأحد عشر عضواً من وفدنا على عربات القطار، كل واحد أو اثنين في عربة .. ونعمنا بالراحة، والفاكهة، والشاي الصيني، وألطاف المرافقين .. وفوق هذا وذاك، فقد داعبنا الخيلاء، إننا، بفضل أصدقائنا الصينيين، قد أصبحنا " دولة " نركب في قطار خاص .. والصين العظيمة في خدمتنا.
وسار بنا القطار الخاص، قريباً من ثلاث ساعات، والمكارم الصينية تحف بنا، والموظفون والمرافقون لا يتحدثون في شيء من الشئون العامة أو السياسية أو الاجتماعية .. وظيفتهم قاصرة على أمر واحد : راحتنا وسرورنا، ولا شيء غير ذلك إلا الابتسامات اللطاف، إلا الابتسامات اللطاف، لا عيب فيها غير أنها ابتسامات تنفرج عنها شفاه الرجال ..
وفي المساء وصلنا إلى مدينة كانتون، وكانت المحطة مزدانة بالأعلام، مكتظة بكبار رجال الدولة، ومجموعات من الطلاب والشباب، تهتف وتنشد وتلوح بالأيدي والعيون ،واللافتات بالصينية والعربية " مرحباً بالضيوف " .." يعيش شعب فلسطين " .. تحيا الصداقة الآسيوية الأفريقية".
ومن المحطة ،اخترق موكبنا الشوارع والساحات بين صفوف متراصة من جماهير الشعب الصيني ، يحيون " الضيوف العظام" حتى بلغنا قصر الضيافة،وقضينا بعض الوقت نصلح من شؤوننا في غرفنا، انتقلنا بعدها إلى الصالة العامة، فلم نكن في حاجة إلى راحة كثيرة، فمنذ أن وطئت أقدامنا أرض الصين، والراحة تحف بنا من كل جانب.
وفي تلك القاعة الضخمة تناولنا العشاء مع حاكم المقاطعة وكبار الرجال العسكريين والمدنيين؛ وألوان الطعام الصيني تقدم إلينا، طبقاً بعد طبق، أنواعاً كثيرة وكثيرة، في كميات قليلة؛ ومضيفنا الكبير يؤانسنا بالحديث عن مصانع المدينة وتجارتها، وأنها مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها 2 مليون نسمة.. كأنه يعتذر لنا عن هذه العدد القليل !!
وما أن فرغنا من الطعام حتى تراجع " الخدم " إلى الجدار، ووقفوا صفاً واحداً، بقامتهم المنتصبة كأنهم ينتظرون أمراً عسكرياً .. ووقف حاكم المدينة، يرحب بنا باسم جمهورية الصين، شعباً وحزباً وحكومة، ويتمنى لنا إقامة سعيدة، مشيداً بالروابط العديدة " القائمة بيننا وبين الشعوب العربية، راجين للشعب الفلسطيني النصر في معركته ضد الإمبريالية الأمريكية وربيبتها إسرائيل .."
كان حاكم المدينة يقرأ من ورقة مكتوبة، وأنا أستمع إليه وهو يتحدث عن الإمبريالية الأمريكية وربيبتها إسرائيل، فأدركت أن جمهورية الصين قد أضاءت أمامنا " النور الأخضر" من اليوم الأول لوصولنا القارة الصينية..
وعرفت كيف أسير تحت هذا النور الأخضر، فوقفت أرد على تحية الحاكم بأقوى منها، فحملت على الإمبريالية العالمية، الممثلة في السياسة الأمريكية، وأخذت أسرد مظالم الاستعمار الغربي في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
وانتقلت بعد ذلك إلى شرح القضية الأمريكية في كوريا وفيتنام، واستأنفت القول بأنه " لا حاجة بنا أن نذهب بعيداً في الحديث عن مساوئ الاستعمار الغربي وجرائمه، ونحن في كانتون، في المدينة التي شهدت فظائع حملة الأفيون وكانت سبباً في الحرب الصينية – البريطانية .. في هذه المدينة التي عانت الكثير بسبب الاحتلال البريطاني – الفرنسي .. في هذه المدينة التي ابتليت بالاحتلال الياباني .. في هذه المدينة التي تذكرنا بالبلايا التي وقعت في وطننا العربي في مشرقه ومغربه .. وإذا كنتم قد ابتليتم بالأفيون، فنحن كذلك قد ابتلينا بالأفيون البشري، وأعني بذلك الهجرة اليهودية التي غزت بلادنا على مدى ثلاثين عاماً تحت الحراب البريطانية و .. و ..
واسترسلت في الحديث على هذا المنهج من المقارنات، لأكون أقرب إلى السامعين، ولأزيد حقائق القضية الفلسطينية رسوخاً في أذهانهم، وهم يستمعون إليَ بجوارحهم قبل أذنهم ... وبعد حديث طويل امتزجت فيه الطرافة بالجد، ختمت كلامي قائلاً :" ولا يفوتني، وأنا أتحدث إليكم، أن أذكركم أن للعرب صلات قديمة بهذه المدينة العظيمة، فإن التجار العرب قد وفدوا عليها منذ أن وجدوا سفناً تنقلهم في عباب البحر إليكم، فأقاموا أولى الروابط التجارية بين الأمة العربية، والشعب الصيني العظيم .. وها نحن نأتي إليكم، ونحن نتطلع إلى قيام " الروابط الثورية " معكم؛ والانتفاع بتجاربكم الرائدة الغنية في مقاومة الاستعمار، وحركة التحرير الوطني .. وهذه هي التجارة الثورية التي جئنا من أجلها في هذه الزيارة .. و ..
فتهلل وجه مضيفنا بالسرور، وانطلقت أكف الحاضرين بالتصفيق، ولم تقف إلا لترفع الأقداح على " نخب الصداقة العربية الصينية " و " الانتصار على الإمبريالية الأمريكية " ، " وحياة الشعب الفلسطيني " .. وبادلتهم الأنخاب بتحية "الشعب الصيني العظيم و " قائد النضال الثوري الرئيس ماو " .. وكانت أنخابهم بالشراب الصيني الثقيل، على حين كانت أنخابنا ، بعصير الفواكه؛ فقد كانت هذه رغبتنا، حافظوا عليها بكل دقة في جميع الولائم..
وقضينا شطراً من الليل في المؤانسة والملاطفة، كأننا على معرفة منذ زمن طويل، نداعب الضباط، ونلاطف سائر المدعوين، حتى لم يكد يفصل بيننا إلا اللغة .. ولولاها لكانوا " هم الضيوف ونحن رب المنزل"..
وصعدنا إلى مخادعنا ، تلاحقنا الهتافات والأنخاب، لنقضي ليلة ناعمة هادئة .. واسترحت ليلة واحدة، بعد ليال طويلة مديدة مع فرسان الجدل والحوار في الوطن العربي .. والحمد لله !!
ونهضنا في الصباح إلى المطار لنستقل طائرة خاصة إلى بكين العاصمة .. فكان الوداع حافلاً على طويل الطريق، أروع من الاستقبال، ذلك بأن ليلة واحدة قضيناها في كانتون جعلتنا نتعلق بهم، ويتعلقون بنا، وكأنما رأوا فيها وجوه أسلافنا التجار العرب الذين وفدوا على أسلافهم في سالف العصر والأوان.
وانطلقت بنا الطائرة، وتعالى فوق هدير محركاتها، هدير الجماهير الهاتفة المنشدة، وقد غصت بها جنبات المطار؛ ومددت يدي إلى حقيبتي أتناول هذا الكتاب وأتصفح ذلك الكراس، عن الصين، وأباطرتهم، وثوراتها: لا أنقطع عن القراءة إلا حين تتقدم المضيفة، مؤدبة محتشمة، تسألنا إذا كان نريد شراباً..
وما أزف وقت الظهيرة حتى أخذت الطائرة تحوم حول مطار بكين وأقبل التراجمة من حولنا، وهم يمدون أصابعهم يشيرون إلى النافذة، لنرى ونبصر .. ولقد رأينا عجباً.
كان المطار " حقلاً " من الأعلام رفعت بالمئات والآلاف، بكل الألوان التي غرفتها صناعة الأصباغ .. وكانت الجماهير بالألوف لا بالمئات، تقف في صفوف طويلة منتظمة مرصوص بعضها إلى بعض .. وأن هذا الاستقبال الرائع الجامع قد أعد لغيرنا .. ولكن سرعان ما أدركت إن هذه الحفاوة البالغة هي لنا، لا لسوانا.
ونزلنا من سلم الطائرة، برزانة وتؤدة، كما كنت أرى كبار الضيوف يفعلون في مطاراتنا في الوطن .. فتقدم لمصافحتنا المارشال " شن يي " وزير الخارجية الصينية، ونائب رئيس مجلس الدولة،وأخذ يقدم لنا كبار رجال الدولة من العسكريين والمدنيين، ثم مررنا على الطريق الطويل الذي وقف فيه رجال السلك الدبلوماسي العربي والأجنبي. وفي نهاية هذا الصف صافحنا ثلاثة من إخواننا الفلسطينيين، يعملون في القسم العربي للإذاعة الصينية، وبذلك أصبح الفلسطينيون العرب كاليهود منتشرين في كافة أرجاء الدنيا !!
وأخذنا طريقنا بعد ذلك، والمارشال شن يي بجانبنا، أمام الصفوف الطويلة للطلاب والشباب، وممثلي العمال والفلاحين، والمنظمات القومية المتعددة، وبينهم شيوخ الجامع الإسلامي في بكين .. ووقفت عند شفتي العبارة الشهيرة : الحمد لله، إن الإسلام بخير، ولكني حبستها .. وتذكرت إنني في مطار بكين لا في باحات الأزهر الشريف !!
وعبقت أجواء المطار بأكاليل الزهور التي كان يحملها الأطفال والصبيان والبنات، وهم ينشدون باسمين فرحين، ومن خلفهم الشباب والشابات يهتفون بحماسة دافقة، ومن وراء اؤلئك العمال والفلاحون يلوحون بسواعدهم، وقد تشنجت شرايينهم بالعزة والقوة.
ولولا أن هذه الصيحات كانت توجه إلينا .. ولولا أن الأيدي كانت تمد حتى لتكاد تلامس رؤوسنا، لأيقنت أن هذا الاستقبال العظيم العظيم، هو على وجه التأكيد لغيرنا .. وهكذا تفعل الشعوب العظيمة لكسب الصداقات، وتوثيق الروابط والعلاقات..
ولقد أسرني فوق الاستقبال الرائع، ما رأيته من النظام والانضباط بين هذه الجماهير، وهي تمثل قطاعات مختلفة من الشعب .. فجميعهم يقفون في صف واحد كأنهم في " طابور "، والأعلام بأيديهم جميعاً مرفوعة باتجاه مستقيم وتكاد أن تكون خفقاتها واحدة .. وهتافاتهم كأنها رجع اسطوانة واحدة، مسجلة بغاية العناية والدقة .. وقسمات وجوهم في حركاتها وومضاتها تنم عن تعبيرات واحدة .. وفيوض حماستهم تتدافع من ينابيع واحدة، وأحسب أن هذا الوصف دون الحقيقة بكثير، فالحقيقة أروع وأبدع.
ودخلنا بكين، والجماهير تملأ الساحات والميادين والأرصفة، تستقبلنا استقبال الفاتحين ونحن لم نفتح بعد أرضنا المحتلة.. وكأنما هبطت نفسي إلى القاع، ونحن نمتطي قمة هذه الاستقبالات الفخمة..
وكان المارشال شن يي إلى جانبي في السيارة، يشرح لي بإنجليزيته الصينية، شيئاً عن معالم العاصمة، ونحن نخترق شوارعها الفسيحة .. وأنا أستوضح وأستزيد، كما فعل عظماء الضيوف، ونسيت في لحظة من الزمن، أنني بلا وطن ولا دولة .. وأني واحد من الشعب اللاجئ، والشريد الطريد..
وابتدرني المارشال قائلاً : إن الشعب يرحب بكم، ويؤيد قضيتكم، وخاصة بعد إنشائكم منظمة التحرير الفلسطينية، لتبدأ النضال من أجل تحرير وطنكم من الإسرائيليين عملاء الإمبريالية الأمريكية.
وقلت : نحن لا نلقي بالاً إلى الإمبريالية الأمريكية وعميلتها إسرائيل، وما دامت الشعوب الحرة تساندنا، وفي مقدمتها شعب الصين العظيم ، الذي ذاق مرارة العبودية ، وحارب من أجل الحرية ..
وأستأنف المارشال حديثه قائلاً : المهم أن تكون الأمة العربية متحدة، فلا أمريكا ولا إسرائيل تستطيع أن تتغلب عليكم إذا كنتم متحدين .. على الدول العربية أن تتحد ..
قلت : هذه حقيقة أساسية .. لقد عقد الملوك والرؤساء العرب مؤتمري قمة .. الأول في القاهرة والثاني في الإسكندرية، وقد وحدوا كلمتهم على محاربة الاستعمار والصهيونية ..
قلت هذا الكلام، وأنا أتجنب التشديد والتوكيد .. فلا بد أن المارشال الوزير، يعرف عن حال الملوك والرؤساء العرب ما أعرف، إن لم يكن أكثر وأكثر..
ومضينا في الطريق الطويل بين أرجاء العاصمة، نتحدث خليطاً من السياسة والمجاملة، حتى وصلنا قصر الضيافة وسط غابة كثيفة، مزهارة معطارة ..
ودخل المارشال معنا بعض الوقت، مؤانساً ملاطفاً؛ وتركنا في القصر في أيدي أمينة، مع المرافقين والتراجمة والخدم، وحاشية كبيرة من الحرس ..
وهرول إلينا الخدم الصينيون يسألون عن راحتنا، وماذا نريد : طعام، شراب، حمام، حلاق، أدوات حلاقة، كتب، سجاير ..
وشكرت الخدم .. فقد فطنت أن شعري طويل، وأنه مضى علي زمن من غير حلاقة، فإن فرسان الحوار والجدال في الوطن لم يتركوا لي فرصة وأنا أطوف العواصم العربية لأدخل على حلاق، فأنجو من حوارهم العليل ، وأتخفف من شعري الطويل..
وجاءني الحلاق، يعالج شعري الأشعث، بمقصه الرتيب، وراح بعد ذلك يدلك جبيني، وعنقي، ومنابت الشعر في رأسي .. وما أن فرغ من ذلك حتى أحسست أن النوم قد أخذ دبيبه إلى أوصالي، فسارعت إلى غرفتي قبل أن يهرب النوم من أجفاني، لا أسأل عن شراب أو طعام، فأمر الطعام ميسور دائماً، دائماً أبدا .. أما النوم فإنه في مثل حالي وهمومي، عزيز المنال..
ونهضت في الصباح المبكر، وحوالي من الهدوء، وسط هذه الغابة الفسيحة، والأطيار ترسل تغريداتها الحلوة، والأزهار تبعث عطورها الشذية، لا نسمع أبواق السيارات ولا أصوات الباعة .. وجلست في الشرفة، وأحسست أن السكون قد طال وطال " واستوحشت " إلى الضجيج والجلبة، ولم أستأنس إلا حين كان الحرس يمرون من حول القصر بخطواتهم الرقيقة..
وبادرنا في الموعد المحدد إلى صالة الطعام فأكلنا وتخمنا، وشربنا وامتلأنا، فقد كان الفطور شهياً وغنياً، وهذا يوم بعيد عن المشاغل والمشاكل، فلَم لا نأكل ونشرب،إنها فرصة طيبة ومن يدري .. فمتى نستطيب الطعام مرة أخرى.
وجاءني كبير " الياوران" يهمس في أذني، همسة صينية ناعمة، بان رئيس الوزراء السيد شوآن لاي قد حدد لي موعداً خاصاً في الصباح ..وموعدا آخر بعد الظهر للاجتماع بالوفد بكامل هيآته .. وبهذا أصبح النهار كله ملكاً للشعب الفلسطيني.. وأصبح رئيس الوزراء لأكبر شعب في العالم محجوزاً ذلك اليوم بكامله، لحساب القضية الفلسطينية.
وفي الموعد المحدد غادرت قصر الضيافة إلى مقر رياسة الوزراء، في وسط المدينة، من غير حراسة ولا أي مظهر الحكم والسلطان .. ودخلت الباب ومنه إلى المعابر الطويلة، لأجد السيد شوآن لاي على باب غرفته في انتظاري.. ويتقدم إليَّ بقامته الممشوقة الشابة، تحمل السبعين عاماً من عمره وبوجهه الناعم القسمات، يحتوي عينيه النافذتين، فوقهما حاجبان غليظان مغوليان، تعلوهما جبهة عريضة، وراء عقل يختزن الدقائق والصغائر، مهما قل حجمها وخف وزنها.
وأخذني السيد شوان لاي بالذراعين، على طريقتنا العربية، في شوق ولهفة، وهو يقول: لقد مضت عشر سنوات على لقائنا في لقائنا في باندونغ .. أليس كذلك.
قلت : لا .. نحن لم نفترق أبداً، ولا عاماً واحداً .. لقد كنت دائماً معكم، أتابع أخباركم ونضالكم.
ودخلنا مكتباً رحباً في مثل رحابه عقله .. وهو يقول : أنتم العرب معرفون بالفصاحة، ولا نستطيع أن نجاريكم.
قلت : نحن نتطلع أن نجاريكم في غير الفصاحة..
قال : وهذه فصاحة أيضاً..
ودخلت كؤوس الشاي، وأغلقت الأبواب، وخرج الموظفون والتراجمة من الصالة، ورأيت نفسي أمام فرصتي التاريخية، مع شوآن لاي وجهاً لوجه وهو يقول : ليس عندنا وقت محدد .. تكلم ما تشاء، وقدر ما تشاء.
وبدأت الحديث عن لقائنا الأول في مؤتمر باندونغ، وعن وجهوده الموفقة في إنقاذ المؤتمر من هول التيارات التي كادت أن تعصف به من الداخل والخارج(1) وأثنيت على وقوفه إلى جانب القضية الفلسطينية، وأن الأمة العربية تحفظ له هذا الجميل .. ثم انتقلت بعد ذلك إلى سرد الأحداث التي جرت على القضية الفلسطينية بعد مؤتمر باندونغ .. وأسهبت في شرح ما انتهى إليه مؤتمر القمة في القاهرة والإسكندرية.. واسترسلت في تفصيل قيام الكيان الفلسطيني وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني.
ولخصت له قرارات الملوك والرؤساء .. وختمت حديثي الطويل بحديث طويل عن تصميم الشعب الفلسطيني والجماهير العربية على تحرير فلسطين بالكفاح والسلاح مهما عظمت التضحيات .. وما تعلقه الأمة العربية على زيارتنا إلى هذا البلد العظيم، وما ستنتهي إليه من نتائج عظيمة..
كان شوآن لاي يستمع إليَّ بإذنيه وحاجبيه وعينيه ووجنتيه، يستوعب حديثي بأعضائه هذه كلها .. لا يتحرك ولا يتثاءب ولا يلتفت، ولا يضع رجلاً على رجل، ولا ساعداً فوق ساعد .. كأنني أجلس أمام تمثال موسد في هذا الكرسي .. ولولا بريق الحياة يشع في عينيه، لحسبته كذلك .. يقيناً ..
توقفت عن الكلام، وأنا أعتذر عن الإطالة، فقد تجاوزت الساعتين وأنا أتحدث .. قال : لا داعي للاعتذار .. وهل جئت من أقاصي الوطن العربي، لنشرب الشاي معاً، ولتقول كلمتين وتنصرف .. والآن، وقد شرحت ما شرحت، ما هي مطالبك .. وبالتحديد.
قلت : بالإضافة إلى التأييد السياسي .. نريد معونة عسكرية..
قال : وماذا تريد بالتفصيل.
قلت : نريد أسلحة خفيفة ومتوسطة، ونريد كذلك أن نوفد بعثة من ضباطنا ليتدربوا على حرب العصابات .. فإن لكم خبرة غنية في هذا الموضوع.
قال : أنت تعلم إننا مستعدون على الدوام لتأييد أية حركة تحريرية في العالم، بقدر طاقاتنا .. إن مسئولياتنا تجاه شعبنا كبيرة .. نحن لسنا أغنياء .. ولكننا كذلك نشعر أن علينا مسئوليات أمام الحركات التحريرية في العالم لمساندة الشعوب المضطهدة ومقاومة الإمبريالية الأمريكية .. ولن نتأخر عن مساعدتكم في حدود إمكاناتنا.
قلت : إن مطالبنا ليست كبيرة .. وإني أترك لكم تقديم العون الذي تستطيعونه ..
قال : نحن لسنا كغيرنا الذين يقدمون مساعدات ويتقاضون ثمنها، ويتقاضون عليها فائدة .. هذه أعمال مراباة سياسية .. ليس هذا أسلوبنا.
قلت : نحن لا نريد طائرات ولا دبابات .. نريد من السلاح ما يصلح لحرب العصابات..
قال: أين تريد أن يصل السلاح، هل اتفقت مع أي من الحكومات العربية .. هل تحدثت مع الرئيس عبد الناصر في هذا الموضوع؟؟.
قلت : الصحيح، أني لم أكلم أحداً في هذا الموضوع.. ولكني أعتقد أن القاهرة لا تعارض في ذلك، ونحن نرجو أن تشحن الأسلحة إلى ميناء الإسكندرية.
قال : نحن حاضرون لذلك، ويمكننا أن نرسل إليكم الأسلحة مجاناً، وأن نشحنها على بواخرنا رأساً إلى الإسكندرية .. فلا نأمن من إرسالها على بواخر أخرى .. فإن الأسطول الأمريكي واقف بالمرصاد .. وأعلنوا ما شئتم فنحن لا نخاف من الأمريكان .. ولكنا نخاف عليكم من الأمريكان.
قلت : لا أستطيع أن أجد كلاماً أعبر فيه عن شكري العظيم .. وما دامت باخرتكم ستصل إلى الإسكندرية، فهل نستطيع أن نرسل عليها ضباطنا ليبدأوا دورة تدريبية عندكم على الفنون العسكرية المتصلة بحرب العصابات.
قال : بالطبع إن ذلك ممكن .. ويحسن أن تظل على اتصال دائم بسفارتنا في القاهرة لترتيب جميع الإجراءات اللازمة، سواء بالنسبة للأسلحة أو للضباط..
قلت : لن ننسى لكم هذا الجميل و ..
قال : (وهو يقاطعني) هذا واجبنا .. لا داعي للشكر .. أنتم تريدون أن تحاربوا من أجل أرضكم، ولا يمكن أن نترككم وحدكم، ولا أن نترك الشعوب الآسيوية الأفريقية وحدها.
واستطرد السيد شوآن لاي بعد ذلك، وقال : وهل قدم لكم الروس شيئاً؟
قلت :لم يصلنا شيء حتى الآن من موسكو..
قال : وما هي المعاونات التي طلبتموها من الروس؟
قلت : طلبنا معاونات عسكرية وثقافية، ولكن لم يصلنا شيء حتى الآن ..
قال : أنا أعلم أنك على صداقة متينة مع زعماء الاتحاد السوفيتي ..
قلت : الصداقة ما تزال قائمة، ولكن المعونة غير قائمة.
قال : (ضاحكاً) .. أما نحن فصداقة ومعونة .. ولكني أحب أن أؤكد لك أننا نكون مسرورين كثيراً لو أن الروس قدموا إليكم أية مساعدة .. ونحن لا نريد أن تكون صداقتنا معكم على حساب صداقتكم مع موسكو .. فإذا قدموا لكم أية مساعدة فسنكون مسرورين جداً .. نحن يهمنا أن تظفروا باستقلالكم وحريتكم.
قلت : هذا هو الموقف الثوري الأصيل ..
قال : وني لا أريد أن أدفعك إلى اليأس .. واصلوا مساعيكم مع الاتحاد السوفيتي .. وإن كنت أعتقد أنكم لن تحصلوا منهم على شيء .. لا سياسي ولا ثقافي .. إن موسكو معترفة بإسرائيل، وتقوم بينهما علاقات اقتصادية فضلاً عن أن الاتحاد السوفيتي وافق مع أمريكا على تقسيم فلسطين وقيام إسرائيل ..
قلت : هذا صحيح، وإن العالم العربي يذكر هذا الموقف .. (ثم استدركت) وهل تسمحون لنا بفتح مكتب في بكين باسم المنظمة.
قال : من الصباح الباكر .. ونحن نقدم لكم المبنى .. ونعترف بالمنظمة، ونمنح مكتبكم في بكين الحصانة الدبلوماسية، ونعاملها كما نعامل أية سفارة صديقة .. ونهض السيد شوآن لاي من مقعده، وهو يقول : نحن معكم .. ونحن حاضرون لكم ما نستطيع ..
قلت : لقد جئنا إلى بكين أثنى عشر فلسطينياً لنمثل الشعب الفلسطيني ولكننا الآن أصبحنا بكم سبعمائة مليون، وهذه بداية النصر مهما طال الزمان.
وخرج السيد شوآن لاي يودعني، فسار معي في الرواق الطويل، حتى الباب الخارجي، إلى أن دخلت السيارة، ورفع كلتا يديه بالتحية، وأنا أقول في نفسي : هكذا يقع الإنسان في أسر الإنسان.
وصلت قصر الضيافة، فوجدت رفاقي بانتظاري بعد أن عادوا من جولة في ضواحي العاصمة، وقد حجبت قسمات السرور عن وجهي واقفلت عليها في نفسي وسرت معهم إلى قاعة الطعام، وهم يهمسون في إذني بتعبيرنا الفلسطيني : قمحة أم شعيرة.
فقلت : مازحاً .. نحن هنا في الصين .. لا قمحة ولا شعيرة .. وأمامنا أطباق شهية من الأرز الصيني ..وبهذا الجواب، ما أنكرت ولا اعترفت .. وتركت المكاشفة بين يدي المستقبل .. ومن على المنابر حين يتطلب الأمر .. وبعد أن نصل إلى القاهرة.
وجلسنا إلى مائدة الطعام، والخدم الصينيون يطوفون علينا بأطباق الحساء، وأصناف الأسماك، وألوان اللحوم، وأنواع الأعشاب والخضار، وإخواني يطلبون المزيد من هذا الصنف، ومن ذلك النوع، كأنهم في بيتهم وأعز .. وعيوني معهم، ولكن آذاني ما تزال تستمع إلى شوآن لاي، في صوته الرنان، ثم يسرح خيالي مع الباخرة التي ستحمل الأسلحة إلينا لتعود وعلى ظهرها ضباطنا الشجعان .. وهكذا جلست إلى المائدة ونهضت، وأنا لا أعرف ماذا ازدردت من الطعام، وماذا احتسيت من الشراب ..
ولم أكد أزدرد اللقمة الأخيرة حتى سارعت إلى سيارتي، وتوجهت إلى سفارة الجمهورية العربية المتحدة، على غير موعد، واستقبلني السفير في مباذله، وعلى طاولته كتبت إلى الرئيس عبد الناصر برقية لخصت فيها حديثي مع شوآن لاي، وذكرت موافقته على شحن الأسلحة إلينا عن طريق ميناء الإسكندرية.
أمسك السفير العربي البرقية وهو يقول : إنني لا أكاد أصدق، هل سيقدمون لكم السلاح .. هل تم هذا بمثل هذه السرعة.. وهل أخذت موافقة الرئيس عبد الناصر على هذا الموضوع .. هذه خطوة عظيمة وخطيرة ..
قلت : لم أتحدث مع الرئيس عبد الناصر حول هذا الموضوع.. ولسنا في حاجة إلى موافقة .. مصر بلدنا، والإسكندرية ثغرنا .. وهل نحن في حاجة أن نحصل على إذن من القاهرة في هذا الأمر .. القاهرة قلب العروبة ومعقل الثورة العربية .
قال : سأرسل البرقية فوراً .. وأرجو أن تعلمني أول بأول بما يتم بينكم وبين المسئولين، حتى تكون القاهرة على علم..
خرجت من السفارة إلى قصر الضيافة التماساً لبعض الراحة؛ ومن أين الراحة، وكأنني أقيم لا في قصر الضيافة، بل في الباخرة الصينية التي ستحمل إلينا البنادق والمدافع والقنابل .. هدية من شعب الصين، إلى شعب فلسطين.
وأزف موعدنا مع السيد شوآن لاي، بعد أن استرحنا قليلاً، وسرنا في رتل من السيارات نخترق شوارع العاصمة، ليجدوا شوآن لاي، كما رأيته في الصباح، واقفاً عند باب مكتبه، وحوله التراجمة ورجال مكتبه.
وبدأنا الجلسة الرسمية، وبدأ الرئيس شوآن لاي الحديث باللغة الصينية، ومن حوله السكرتارية يكتبون، والتراجمة يترجمون .. وكنا في جلسة الصباح وحدنا، لا سكرتارية ولا تراجمة .. والحديث بيننا باللغة الإنجليزية، تتخللها من حين إلى حين بعض العبارات بالفرنسية .. فقد تعلم شوآن لاي بعض الوقت في باريس..
واستفتح الرئيس شوآن لاي كلامه بالثناء على الشعب الفلسطيني في كفاحه البطولي من أجل وطنه .. وندد بإسرائيل، مؤكداً أنها قاعدة للامبريالية، وأعرب عن استعداد جمهورية الصين لمساندة الشعب الفلسطيني في نضاله الثوري لتحرير وطنه .. ثم عاد بالذاكرة إلى مؤتمر باندونغ وما كان من اللقاء ( بالأخ والصديق شقيري) وعرض بعد ذلك موقف الرئيس الهندي نهرو، وكيف كان يساند موقف إسرائيل في المؤتمر .. وختم حديثه قائلاً " أما الاتحاد السوفيتي فليس دولة آسيوية، ويجب أن لا يكون له مكان في مؤتمر الشعوب آسيوية – الأفريقية .. وحسناً فعل مؤتمر باندونغ أنه لم يوجه الدعوة إلى الاتحاد السوفيتي.."
وشكرت للسيد شوآن لاي الحفاوة البالغة التي لقيناها في بكين، والتفهم الثوري الأصيل الذي تبديه جمهورية الصين تجاه القضية الفلسطينية .. وتناولت بالتفصيل القضية الفلسطينية منذ نشوئها، مستعرضاً مراحل المؤامرة الاستعمارية لإنشاء الوطن القومي اليهودي، ومساندة الهجرة اليهودية، وإخراج العمال والفلاحين العرب من أراضيهم وقراهم، ثم إنشاء الدولة اليهودية بمساندة الولايات المتحدة .. وقاطعني، هنا شوآن لاي قائلاً : وكذلك بتأييد الاتحاد السوفييتي ..
وقلت على الفور : نعم وبتأييد الاتحاد السوفيتي، هذه حقيقة تاريخية.. ثم تحدثت عن مؤتمرات القمة، وعن قيام منظمة التحرير الفلسطينية، مؤكداً تصميم الشعب الفلسطيني على تحرير وطنه مسنوداً بجماهير الأمة العربية، ومعاونة جميع الشعوب المناضلة من أجل العدل والحق والحرية .. وفي مقدمتها شعب الصين العظيم..
وانتقلت بعد ذلك إلى عقد المقارنة بين المشاكل العربية والصينية، وتحدثت عن جزيرة (تايوان) فرموزا، مشيراً إلى أن الولايات المتحدة هي التي فصلتها عن الوطن الأم – الصين – وأن المقعد الذي تحتله في الأمم المتحدة إنما هو حق جمهورية الصين الشعبية .. وأن .. وأن ..
وعرضت إلى قضايا فيتنام وكوريا ولاوس والكونغو، وموقف الإمبريالية الأمريكية من شعوب أمريكا اللاتينية .. ثم ختمت حديثي بالعودة إلى الكلام عن القضية الفلسطينية شارحاً بالتفصيل ما يعانيه اللاجئون في مخيماتهم من بؤس وشقاء وحرمان، على حين أن الولايات المتحدة تمد إسرائيل بالقروض والأسلحة، وقد بلغت المعونات الأمريكية المالية لإسرائيل ستة بلايين من الدولارات، وذلك أكثر مما قدمته أمريكا لشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مجتمعة.
وانقضت ساعة، ونحن في هذه الجلسة الرسمية في إطار هذه الأحاديث وكأنما أصبحنا فريقاً واحداً لا فريقين، نتكلم من منطق واحد، ومن منطلق واحد . وخرجنا من الاجتماع ، والأخوان أعضاء الوفد مبهورون بهذا اللقاء وهم يقولون : هذه مبادئ .. النظرية والسلوك عندها شيء واحد.
ووقف الرئيس شوان لاي على الباب يودعنا وهو يقول : غداً سنلتقي على الغداء، و" الصديق الشقيري " سيجد مفاجأة سارة.
وعدنا إلى قصر الضيافة .. والأخوان أعضاء الوفد يقولون : - يا أخي نحن لا نريد مفاجآت سارة في المطعم .. نحن نريد سلاح .. الشعب وراءنا ينتظر السلاح .. أنت لم تتكلم في موضوع السلاح .. نرجو أن تختلي بالرئيس شوآن لاي وتحدثه في الموضوع قبل أن نعود إلى الوطن.
قلت : سأفعل ما تأمرون .. أرجو أن تصبروا علي قليلاً..
قالوا : نستغفر الله .. الأمر أمرك .. ونحن نرجو أن تصبر على إلحاحنا .. قضينا ليلتنا في صالة الاستقبال نشاهد فيلماً سينمائياً عن حرب التحرير في الصين ، والأخوة يتفرجون بحماسة، وأنا استعرض فيلما سينمائياً آخر، في خيالي، أتخيل الباخرة الصينية وهي تمخر البحر تحمل إلينا السلاح، وتعود، على ظهرها ضباطنا الشجعان ليتدربوا على حرب التحرير .. والفيلمان وإن اختلف فيهما الأبطال والقصة، يدوران في فلك واحد، معركة الإنسان من أجل كرامة الإنسان.
وفي ضحى اليوم التالي انشطر الوفد إلى شطرين، فقد ذهب " المدنيون" إلى زيارة المصانع والمعاهد، وذهبنا نحن " العسكريين " أنا، واللواء وجيه المدني، والنقيب فخري شقورة إلى وزارة الدفاع للبحث في الشؤون العسكرية للمنظمة.
وفي الموعد المحدد، وصلنا إلى مبنى وزارة الدفاع، ولم يكن ما حوله يدل عليه، فلا جنود، ولا قعقعة سلاح .. ولا مدافع أثرية عند المدخل.. ولعل السبب في ذلك أن الدولة والشعب كلاهما تحت تعبئة عسكرية دائمة، فالجيش هو الشعب، والشعب هو الجيش ولا فرق في المظاهر بين وزارة الدفاع ووزارة الفنون الجميلة.
والتقينا برئيس الأركان ومعاونيه في صالة رحبة وأنيقة، وعلى عجل، وسألني رئيس الأركان أن أطرح الجانب العسكري لقضية فلسطين .. كأنما المعركة ستكون غداً وبعد غد..
وتقدم أحد الضباط الصينيين وعلق على جدار الحائط خارطة كبيرة لفلسطين، فتفرست فيها، فوجدتها من خرائط حكومة الانتداب البريطاني، مكتوبة باللغة الإنجليزية، مرسومة بمقياس كبير.. وقلت في نفسي : خارطة فلسطين، في الصين.. إن الحكومات العربية ليس عندها خارطة فلسطين .. ومن كانت عنده واحدة فهي في مخازن المهملات.
وأخذت أتحدث عن جغرافية فلسطين وطوبوغرافيتها، وأنا أشير على الخريطة إلى الماوقع والمواضع .. ولم يكن الأمر عسيراً عليَّ، فأنا أعرف فلسطين لا " جغرافياً" ولكني أعرفها لأني عشتها منذ طفولتي، وعرفت مدنها وقراها في شبابي، وفي رجولتي واكبت الحياة في جبالها وسهولها ووديانها وعلى شواطئها..
وقضيت ساعة من الزمن، وكأنني في خلوة صوفية نقلتني إلى الوطن الحبيب، فتحدثت عن الخطط البعيدة التي وضعها اليهود لبناء قواتهم العسكرية، ومستعمراتهم، وكيف بنى جيش الهاجاناه، والمنظمات الإرهابية العسكرية، وأسهبت في الكلام عن إجراءات سلطة الانتداب البريطاني في تحقيق هدفين متوازيين متكاملين، تدريب اليهود على الحرب، وتجريد العرب من السلاح .. ثم شرحت " حدود" إسرائيل، ومناطق التجمعات العربية، وطبيعة طوبوغرافيتها .. واستعرضت تاريخ الثورات الفلسطينية الخمس عشرة، منذ 1910 حتى 1940، وقفزت بعد ذلك إلى قيام منظمة التحرير الفلسطينية، وإنشاء جيش التحرير الفلسطيني، وإلى المواقع التي يتمركز فيها :قطاع غزة، سوريا، والعراق..
وفي صعوبة محرجة متحشرجة أو جزت الأسباب التي امتنع فيها الملك حسين عن " تواجد " جيش التحرير الفلسطيني في الضفة الغربية .. وعند هذه النهاية من حديثي كانت بداية حديث رئيس الأركان الصيني.
قال أول ما قال : إن وجود جيش التحرير الفلسطيني في الضفة الغربية هو أمر سياسي لمعركة التحرير .. إن الضفة الغربية، إذا أحسن استخدامها، تملك مواقع استراتيجية قاتلة مدمرة لإسرائيل .. ولذلك فنحن نفهم لماذا تقوم الإمبريالية الأمريكية بمنع جيشكم من التحشد في الضفة الغربية.. معلوماتنا أن الجيش الأردني مدرب تدريباً حسناً، وعناصره تتمتع بمزايا قتالية عالية، ولكن المشكلة في الجيش الأردني أن أمره ليس بيد الشعب، وما بقي في هذه الحالة فإنه لا يستطيع أن يؤدي دوره في معركة الشعب.
وحملق رئيس الأركان في الخارطة المعلقة على الجدار، وقال : إن حرب التحرير الفلسطينية يجب أن تكون لها قاعدة في داخل إسرائيل .. إن الأعمال من الخارج، قد تزعج إسرائيل بعض الشيء، ولكنها لا تأتي بفائدة تذكر..
وأخذ رئيس الأركان عصا صغيرة بيده وأشار إلى منطقة الجليل وقال : يجب أن تكون هذه الجبال قاعدة لكم .. إن لها مزية عسكرية كبرى .. إنها قريبة من الأهداف الإسرائيلية الحيوية، وحولها سوريا ولبنان، حيث يمكن أن تكون قواعدكم الخلفية.
وتحدث رئيس الأركان بعد ذلك، وقال : إن التحرير ليس في حاجة إلى جيش كبير .. فليكن جيشكم .. فليكن جيشكم مؤلفاً من مجموعات صغيرة، مدربة تدريباً خاصاً، للقيام بأعمال خاطفة شجاعة، لإنزال ضربات موجعة بالعدو.. تجنبوا مواجهة العدو في معارك مكشوفة .. السلاح الحقيقي هو الجندي المدَّرب الذي يعرف كيف ينتفع بقدراته العسكرية أثناء المعركة .. إلى آخر ما هنالك من الأوامر والنواهي التي عرفت بها " العقيدة " الصينية في خوض معارك التحرير ..
وفي ختام الجلسة جرى حديث بين رئيس الأركان،واللواء وجيه المدني، عن أنواع الأسلحة التي يستعملها جيش التحرير، وعن تشكيل الجيش ووحداته، ونظام تدريبه ..
وانتهت الجلسة، وأخذنا طريقنا إلى السيارة، ورئيس الأركان يقول لي : لقد كان لقاؤنا مفيداً جداً .
قلت : لقد كان مفيداً لنا نحن .. نحن الجانب الذي استفاد من هذه الجلسة، ونرجو أن نستفيد منه في المعركة.. وكل ما نرجوه أن تقوم بيننا رفاقة السلاح.
قال رئيس الأركان وهو يلتزم حدوده: إن أموركم كلها مع الرفيق شوآن لاي ..
وقلت : كمن لا يريد أن يذيع سراً : لقد اتفقنا مع الرفيق شوآن لاي على كل شيء .. ونحن الآن ذاهبون إلى الغداء معه ..
وحملتنا سياراتنا من وزارة الدفاع، ونحن نحسب أنا أصبحنا خبراء في فنون القتال ..ولم يعد أمامنا إلا أن نقول : كن فيكون ..
ومررنا بمقر رياسة الوزراء ، وذهبنا مع مضيفنا الكبير شوآن لاي،عبر الشوارع الرئيسية إلى الشوارع الفرعية، ولا حرس معنا ولا حولنا، وانتهى المطاف بنا إلى مطعم صغير أنيق، لا ينبئ مكانه، ولا أثاثه، عن فخامة ولا عن عظمة !!
عدت بالذاكرة إلى المطاعم الفارهة في نيويورك، حيث بهرجة الديكور، وبذخ الزينة، وتجلى لي الفارق بين الرأسمالية المبذرة، والاشتراكية المقترة، تلك تبذر مرضاة للأغنياء، وهذه تقطر توفيراً للفقراء..
وبادرت الرئيس شوآن لاي بالسؤال : وما هي المفاجأة السارة؟..
قال : تذكر وليمتنا للوفد السوري في باندونغ .. لقد قدمنا لكم كل الأطعمة الصينية التي حملناها معنا بالطائرة .. إلا " أكلة البط " فإنها لا تؤكل إلا في الصين .. ولقد وعدتكم أن تأكلوها معنا في بكين .. وها نحن هنا .
ودخل الخدم يحملون أطباق البط، لحماً من غير عظم .. وما كان أشهاه وأزكاه، وقد أزدادت زكاوته بالطرائف التي كان يرويها شوآن لاي أثناء الطعام، وهو المضيف الظريف، يعرف كيف يأسر سامعيه، في المطعم أو في المكتب، سواء بسواء..
وقد بالغ شوآن لاي في اللطف، واللطف طبيعة الصينيين جميعاً، فصار يتناول بديه شرائح البط من الأطباق ويقدمها إلى أعضاء الوفد واحداً واحداً، يؤانس الجميع ويتفكه مع الجميع، وحسبنا أننا أمام " منسف " حيث تغوص الأيدي في طبخة من اللحم والأرز والسمن واللبن .. ولو عرفها شوآن لاي ،لأكلها براحتيه كما يأكلها العرب ..
لقد أكلنا من غير وعي في ذلك اليوم، ففي غمرة الحديث، كانت الأطباق تغافلنا، ترفع وتوضع، ونحن نأكل حتى تخمنا، وانتهينا.
وخرجنا من المطعم ، كل إلى سيارته، وقال شوآن لاي : إن وجبة البط في حاجة إلى راحة .. إذهبوا واستريحوا..
قلت ضاحكاً : إن وجبة البط في حاجة إلى صلاة ..
قال : وكيف ذلك ؟!
قلت : إن موعدنا بعد الظهر هو في معهد الشؤون الإسلامية .. وسنذهب إلى الجامع ونصلي، وسيكون البط في جوفنا، ليصلي معنا!!
فقهقه الرئيس شوآن عالياً بكل فرح وسرور .. ورفع الواقفون من الجمهور في الطرف الآخر من الشارع أيديهم بالتحية، وهم يعربون عن سرورهم بانتظام وانضباط، تماماً مثل تصرف الجنود.
وكان هو الواقع، فقد ذهبنا رأساً إلى معهد الشئون الإسلامية، لنعيش ساعة من الزمن في قلب بكين ، تحت قباب الإسلام ..
ووجدنا جمعاً من الوجوه المغولية عليها عمائم إسلامية، في انتظارنا عند باب المسجد وكان سلام .. وكان عناق .. وكان حديث باللغة العربية الأعجمية ..ودخلنا وإذا نحن في مسجد لطيف أنيق، ووجدنا بعض الشباب يجلسون مقرفصين يتفرسون في بعض في بعض الكتب الدينية مكتوبة باللغة الصينية، وانتقلنا إلى جناح المكتبة وأخذنا ننظر في المصاحف الإسلامية التي تعود إلى عصور مختلفة، فكانت ساعة عشنا معها في موكب التاريخ الإسلامي، عصراً بعد عصر، حتى أصبح المسلمون في الصين بالملايين.
وانتحينا جانباً إلى جناح الوضوء، وتوضأنا، ثم صلينا العصر، إمام المسجد المغولي يؤمنا في الصلاة .. وهذا هو الإسلام لا يفرق بين الأسمر والأصفر، إلا بالعافية والتقوى.
وبعد الصلاة بدأنا " ندوة " إسلامية حول قضية فلسطين، وتحدثت إلى الإمام وصحبه عن " فلسطين " باعتبارها وطناً إسلامياً، وأنها موطن الإسراء والمعراج، وأولى القبلتين وثالث الحرمين، وأن الجهاد في سبيل تحرير فلسطين هو فريضة على المسلمين .. وهو انتصار للحق والحرية لغير المسلمين .. وأن على المسلمين الصينيين أن يدعوا مواطنيهم في الصين لنصرة القضية الفلسطينية.
ورد الإمام ببيان فضائل بيت المقدس، وواجب الجهاد، وأعلن أن شعب الصين بقيادة زعمائه لن يتردد في مقاومة الصهيونية والإمبريالية ولولا اللكنة المغولية التي غلبت على لسان إمامنا المفضال، لحسبت أننا في قاعة من قاعات الأزهر الشريف، نتحدث عن أحكام الدين الحنيف.
وعدنا إلى قصر الضيافة بعد يوم حافل بالطعام مع شوآن لاي، عامر بالصلاة مع الإمام .. ووجدنا رجال وزارة الخارجية في انتظارنا ليقرأوا لنا برنامج "الثلاثة أيام المقبلة" في زيارة المصانع والمزارع، وحمدنا الله إننا سنلتقي بالشعب، ليحدثنا ونتحدث إليه، ونرى كيف يعيش وبمَ يفكر.. ذلك أن الشعب الصيني قد كتبت عنه مكتبة كاملة، وها نحن الآن نقرأه في حياته اليومية، على الطبيعة .. ولو في بضعة سطور..
وفي مرحلة الأيام الثلاثة التي قضيناها مع الشعب الصيني، في مزارعه، ومصانعه ومدارسه وقراه رسمت لنفسي هدفاً منذ البداية .. لقد أردت أن أتعرف على العامل قبل المعامل، وعلى الصانع قبل المصانع، وعلى المزارع قبل الزراعة، ذلك أن الإنسان هو أثمن من كل ذلك .. ومن وجهة أخرى فإني لم أتوقع أن أرى في الصين من المصانع والمعاهد ما رأيته في أوروبا وأمريكا، فإن الصين على عراقتها وعظمتها لا تزال في بداية تطورها الصناعي، وإن كان ينتظرها مستقبل عالمي هائل ..
وبادئ ذي بدء، فإني أسجل هنا الأمور التي ما وجدتها، قبل التي وجدتها وفي رحلتي كلها في الصين.

في المدن والقرى، لم أجد على مدى خمسة عشر يوماً، حافياً ولا عارياً، ولا فقيراً يتسول بأعضائه المشوهة..
ولم أجد مواطناً متسكعاً، أو عاطلاً.
ولم أجد فتاة أو امرأة على زينة فاحشة، أو تمشي بفتنة فاجرة.
ولم أجد فتى يحاصر فتاة محاصرة داعرة .. أو يقبلها قبلة عاهرة.
ولم أجد السائق يجادل بوليس المرور، ولا المشتري في حوار مع البائع..
ولم أجد أفلام الجنس، والقتل، والجاسوسية، وشذوذ المراهقين والمراهقات .. ولكني وجدت الناس يعيشون عيشة واحدة .. حتى الإمبراطور السابق، أعتذر عن خطاياه، فأصبح مواطناً عادياً، له وعليه، ما للمواطنين وعليهم، وقد فاتني أن أطلب زيارته ..
وجدتهم يلبسون الملابس الواحدة على طراز واحد، العمال لهم زيهم، وكذلك الفلاحون والطلاب والموظفون.
وجدتهم يأكلون الطعام الواحد، في الوقت الواحد، وطبق الأرز وجبتهم الأولى.
وجدتهم في نظام وانضباط، في المدرسة، والمعمل، والمزرعة، والشارع ..
وجدتهم في الاجتماعات العامة في غاية الاتزان والهدوء والنظام، فلا هرج ولا مرج .. يهتفون جماعة، وينصتون جماعة ..يدخلون قاعة الاجتماع بالألوف ويخرجون بالألوف، ولا تحس كيف دخلوا وكيف خرجوا..
وجدتهم في المزارع، يعمل الواحد منهم كأنه يملك أرض الصين بأسرها..
وجدتهم في المصانع، ويعمل الصانع منهم كأن الوطن كله هو بيته.
وعلى الجملة وجدتهم في المدارس والمعاهد والمؤسسات العامة ودور الحكومة يعملون بروح السباق مع الزمن، فهم يعرفون أنهم متخلفون، ويعملون بروح الاعتماد على النفس.
" والاعتماد على النفس" في الصين، ليس كلمة أدبية أو عبارة إنشائية، لقد أطلقه الزعيم العظيم ماوتسي تونغ شعاراً عاماً للحياة في الصين .. وقد عرفت معنى هذا الشعار في المصانع، بصورة خاصة.
في زياراتنا للكثير من المصانع حدثنا العمال عما فعله الاتحاد السوفيتي بهم، وبمصانعهم .. قالوا : إن " السوفييت المنحرفين" قد سحبوا خبراءهم من مصانعنا .. وقد غادروا بلادنا وهم يبكون ، لأن صداقة الشعوب لا يؤثر عليها القادة المنحرفون". وامتثالاً لأوامر الزعيم ماو، بالاعتماد على النفس، مضينا في صناعاتنا بجهودنا وحدنا .. وها نحن قد حققنا إنجازات عظيمة بدون الخبراء السوفييت ، وسنصبح في طليعة الشعوب تقدماً، وسنضع خبراءنا تحت تصرف الشعوب الصديقة ".
وليس المصنع وحده هو عالم العامل، العمال في الصين لا يعيشون في عزلة عن العالم، لقد تحدثنا إليهم في كافة المشاكل الدولية فرأيناهم على معرفة حسنة.. قالوا : لقد زارنا زعيم العمال البريطاني " المستر ويلسون" حين كان في جانب المعارضة، وذكرنا له يومئذ، أن حكومة المحافظين قد منعت تصدير بعض المواد التي نحتاج إليها في صناعاتنا، واستنكر ذلك على مسامعنا جميعاً.. وبعد أن عاد إلى بلاده وأصبح رئيساً للحكومة، بقي الحظر على حاله.. الاستعماريون استعماريون سواء كانوا في الحكم أو المعارضة.. أليس كذلك أيها الصديق ؟؟"
وانتقل الحديث إلى الشئون الآسيوية الأفريقية، والقضية الصهيونية، والإمبريالية العالمية.. فتحدثوا لا حديث العارف فحسب، ولكن حديث المؤيد المساند ..
قالوا : نحن نؤيد قضايا الشعوب المظطهدة، نحن نقاوم الإمبريالية الأمريكية .. نحن معكم في نضالكم ضد الصهيونية ، إسرائيل هي ركيزة أمريكا في بلادكم .. وليس تأييدنا للشعوب الصديقة قاصراً على المواقف المعنوية إن مصانعنا ومزارعنا تنتج لشعبنا، وكذلك نقدم العون للشعوب الصديقة..
إن مواردنا ليست لنا وحدنا .. إن علينا واجباً إزاء الشعوب المناضلة لتحقيق حريتنا، وكنا نتمنى لو أن مواردنا أكبر لنقدم أكثر ".
وغير ذلك .. وغير ذلك، مما سمعته ورأيت في هذه الأيام الثلاثة في رحلتنا، في قصر الضيافة ليلاً، ومع الشعب نهاراً.
وأزف يوم الأحد ( 21/3/1965) وهو اليوم المحدد للاجتماع الشعبي الكبير في بكين، وكان مقرراً أن يكون، غير أنه قُدَّم يوماً واحداً، لأن رئيس الوزراء شوآن لاي جد له سفر قصير خارج الصين، وأراد أن يشارك في هذا الاجتماع بنفسه.
ومكثت في غرفتي بعض الوقت مع التراجمة، وأنا أردد وراءهم بعض العبارات والشعارات باللغة الصينية .. يعيش الرئيس ماو .. يعيش شعب الصين العظيم .. لتسقط الإمبريالية الأمريكية .. لتسقط الصهيونية .. سنحارب حتى النصر ..
ولم تكن هذه المهمة يسيرة، فاللغة الصينية صعبة في نطقها، وليس من السهل حفظ ألفاظها، ولكني بقيت مصراً على الحفظ والتعلم .. ورسولنا الكريم أو صانا " تعلموا العلم ولو في الصين " كان ذلك في أيام القوافل، فكيف اليوم في عصر الطائرات، ونحن الآن في قلب الصين.
خرجنا من قصر الضيافة، إلى قاعة المعارض الكبرى، حيث الاجتماع الشعبي الكبير .. وغداة وصولنا حسبنا أننا أخطأنا الموعد، ذلك أنه لم نسمع أحداً ولا شيئاً .. وأخذنا طريقنا إلى المنصة ويا لهول ما رأينا ..
رأينا القاعة مكتظة بالألوف، في صمت تام، وفي نظام عام، ولولا الصدور التي تتحرك بالأنفاس لأيقنا أننا لا نرى إلا حشداً هائلاً من الدمى أو تماثيل الشمع.. وتذكرت القول العربي الفصيح " كأن على رؤوسهم الطير" والقول العربي العامي " ترمى الإبرة تسمع صوتها" جلسنا على المنصة الرئيسية محاطة بالزهور، ومن حولنا السفراء العرب وممثلو الدول الصديقة وكان إلى جانبي شوآن لاي، ورئيس البلدية، ووراءنا كبار رجال الدولة عسكريين ومدنيين .. ونظرت في القاعة فلم أجد نهاية لها،لأن الأكتاف تراصت بالأكتاف، واللافتات الحمراء الفاقعة تملأ الجدران باللغة الصينية:" نؤيد نضال الشعب الفلسطيني لتحرير وطنه" " عاش التضامن بين الشعب الصيني والشعوب العربية في النضال ضد الاستعمار " إلى غيرها من اللافتات الضخمة، فكل شيء ضخم في الصين إلا مباسم الصينيات، وبراعم الزهور..
ووقف شوآن لاي يقدمني إلى الجمهور ، وارتفع صوته الرنان من مكبرات الصوت، واشرأبت إليه الأعناق ودوت القاعة بالتصفيق، طويلاً وموقعاً، كأنما أمام الجمهور " نوتة أنغام" .. وقال : لا أريد أن أتكلم لقد جئتكم بأخي وصديقي السيد الشقيري ليتكلم إليكم .. سيتكلم كفلسطيني عن فلسطين، وكعربي عن الأمة العربية، وكدولي عن الأمم المتحدة؛ هذا هو السيد شقيري ضيف الشعب الصيني، وعاد شوآن لاي إلى مكانه، وقد تصاعدت حماسة الجماهير بالتصفيق والهتاف، ولكن في نظام، يبدأ معاً وينتهي معاً.
ووقفت وراء المذياع، ووقف معي الجمهور، إلى أن أومأ لهم شوآن لاي بالجلوس وبدأت خطابي بتردد الشعارات التي حفظتها باللغة الصينية " يعيش الرئيس ماو" " يعيش الشعب الصيني العظيم " "لتسقط الإمبريالية الأمريكية " ولم أكد أنتهي من إلقاء العبارات الثلاث باللغة الصينية المعربة حتى وقفت الجماهير مرة ثانية سروراً وابتهاجاً .. ومضيت بعد ذلك لأقول : " إن شوآن لاي يملك ذاكرة حادة، فلا تغيب عن ذهنه الأحداث مهما تقادم عهدها.. لقد قال لكم إنني سأتكلم كفلسطيني وكعربي وكدولي .. وقد نسي أن يقول لكم أنني سأتكلم كعضو في مؤتمر باندونغ .. وكان هذا نسياناً مقصوداً ذلك أن شوآن، له شخصية دولية متواضعة .. أنه لا يريد أن أذكر لكم دوره في مؤتمر باندونغ .. ومضيت أشرح الأزمات الخطيرة التي مرت في مؤتمر باندونغ وكيف أن الفضل الكبير في إنقاذ المؤتمر يرجع إلى حصافة شوآن لاي .. وقلت : " أن شوآن لاي حمل روحكم الثورية إلى مؤتمر باندونغ، ومن أجل هذا تكلل المؤتمر بالنجاح بعد أن كان على حافة الهاوية..(1) ومضيت بعد ذلك في شرح القضية الفلسطينية من بدايتها: وعد بلفور ، الانتداب البريطاني، الهجرة اليهودية، بيع الأراضي، الثورات الفلسطينية، قيام إسرائيل، نزوح اللاجئين، الكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، دور الإمبريالية الأمريكية، إلى آخر تطورات القضية الفلسطينية..وخلصت إلى القول أن شعبنا هو شعب من العمال والفلاحين والمثقفين، تآمرت عليه الإمبريالية الأميركية، والرأسمالية الصهيونية، وإن معركتنا هي جزء من النضال العالمي للتحرير الوطني .. ولا يحسبن أحد أننا شعب صغير " فإن شرارة واحدة، كما قال الرئيس ماو، " تكفي لأن تشعل غابة كبيرة" ولم أكد أنهي هذا الاقتباس حتى أصبحت الجماهير في حماستها وابتهاجها كأنها في مسيرة عسكرية .
ولاحظت أمامي عدة صفوف من الطلاب والطالبات فقلت أخاطبهم: " أنتم تعرفون أن شكسبير، قد بدأ خطابه الشهير في رواية يوليوس قيصر منادياً " أيها الأصدقاء، أيها الرومان أيها المواطنون .. ولكني أقول لكم اليوم: أيها الرفاق، وهذا نداء أرفع وأعظم، لأننا نحن رفاق حقاً .. لأننا رفاق في معركة واحدة وأنكم لتعرفون أن الرئيس ماو، قال " نحن بارعون في هدم النظام القديم، ولكن يجب أن نكون أعظم براعة في بناء النظام الجديد" وعلينا، أيها الرفاق، أن نكون معاً في الميدان لنهدم النظام القديم، ولنبني النظام الجديد، نهدم النظام الإمبريالي الأمريكي، ونبني نظام الحرية والمساواة لجميع الشعوب..
وتطرقت بعد ذلك إلى حديث طويل عن المشاكل الآسيوية الحبيبة إلى قلوب الشعب الصيني : جزيرة أوكاناوا التي تحشد فيها أميركا الصواريخ النووية عن إرادة الشعب الياباني، قضية كوريا وكيف مزقتها الولايات المتحدة تحت أعلام الأمم المتحدة، قضية فيتنام وكيف تقصف القاذفات الأمريكية مدنها وقراها ثم وقفت وقفة طويلة عند جزيرة تايوان " فرموزا " وكيف أن الإمبريالية الأمريكية فصلتها عن الصين الوطن الأم، وأقامت فيها حكومة عميلة.. واستدركت بالقول إنها ستعود إلى الوطن، وتصبح صينية كما أن بكين صينية.
وهللت الوجوه بقسمات السرور، وتداوت الأيدي بالتصفيق، وأصبح التعاطف والتفاعل بيني وبين الجماهير بالغاً القمة، حتى غدوت صينياً، وغداً الجمهور عربياً ..وختمت خطابي بتردد الشعارات التي حفظتها باللغة الصينية، وحمدت الله أنني لم أنس في غمرة الحماسة العبارات الثلاث إياها .. ولم أسقط في الامتحان.
وعدت إلى مكاني في المنصة، ليصافحني شوآن لاي في حرارة دافقة، مغمورة بالسرور والارتياح، ذلك أن ضيفه قد مرغ وجه الإمبريالية الأمريكية في الوحل ..وما كان أوحل ذلك اليوم على الأمريكان.
ولم تمض على حديثنا دقيقة أو دقيقتان، حتى خلت القاعة الكبرى من آلاف الجماهير، فلم أحس كيف خرجوا، ومتى، دون أن نسمع قعقعة أو وقع الأقدام .. هكذا خرجوا بكل وداعة وسكينة ، وغادرنا القاعة إلى سياراتنا، فلم أجد أثراً للجماهير في الميدان ..وعجبت أين ذهبوا، وقد صدق فيهم القول العامي الشهير، " فص ملح وذاب" .
وصلنا قصر الضيافة، لاستراحة قصيرة، فكان برنامجنا تلك الليلة أن نحضر مأدبة عشاء يقيمها السفراء العرب على شرف منظمة التحرير الفلسطينية، حفلة هادئة، ليس فيها خطب ولا خطباء .. وحمدت الله ..وصلنا الحفل في المكان وفي الزمان، وكانت القاعة مضاءة بالأزهار زاهرة بالأضواء في غاية البهجة والإيناس والموائد منثورة هنا وهناك والسفراء العرب وعقيلاتهم يستقبلون المدعوين، وما أجملهم حينما يتفقون ولو على وليمة!!
وتوزع أعضاء الوفد على الموائد، وحضر شوآن لاي وكبار رجال الدولة ووزعوا أنفسهم كذلك على الموائد، وتوافدت أطباق الطعام العربي، فطعمنا بشوق ولهفة وقد بعدنا عنه أياماً .. وإذا بالمفاجأة تقع على غير انتظار...
وقف شوآن لاي يخطب .. كان مسروراً غاية السرور .. وأحسب أن حفلة البلدية ذلك اليوم قد شحنته شحنة كبيرة .. فتكلم عن القضية العربية، وعن قضية فلسطين مؤيداً ومسانداً .. وتمنى أن تكثر الزيارات العربية إلى الصين، " حتى يزداد الشعب الصيني فهماً للقضية العربية وتنمو بيننا الصداقة، لأن العدو واحد، والمعركة واحدة، والنصر واحد .. وإني أشكر أخي وصديقي السيد شقيري على خطابه الجامع الذي استمعنا إليه اليوم في قاعة البلدية .. لقد تعلم شعبنا اليوم كثيراً من السيد شقيري، وإني أرجو من السفراء أن يطلبوا من حكوماتهم أن يوفدوه إلينا من حين إلى حين.
وحين جلس شوآن لاي كان علي أن أقف .. وبدأت قائلاً : لا حاجة أن أزور الصين في حين إلى حين،وإن كان ذلك يسعدني فإن الرئيس شوآن لاي يعرف عن القضية العربية ما أعرف وأكثر .. والشعب الصيني العظيم لن يجد صعوبة في التعرف على قضايانا، فإن الثوار يعرفون مشاكل الثوار.. إن قضايانا متشابهة، لقد كانت الصين موزعة بين مناطق النفوذ الأجنبي، فناضلتم من أجل التحرير ثم ناضلتم من أجل الوحدة، ونحن نسير على الدرب نفسه، نناضل للتحرير والوحدة.. إن النفوذ الأجنبي ينهزم الآن في الوطن العربي أمام الزحف الوطني المقدس؛ وآخر معاركنا هي تأميم قناة السويس ، والمعركة مستمرة وفلسطين ميدانها الكبير .. وأسهبت في الحديث عن الوحدة العربية ومقوماتها، وقلت إن الأمة العربية تبلغ سبع سكان الصين، وأقل منها مساحة، وقد استطاع شعب الصين المناضل أن يقيم دولة واحدة، ونحن مصممون أن نسير على النهج نفسه لتحقيق وحدتنا .. نحن أمة واحدة تحكمها ثلاث عشرة حكومة .. واسمحوا لي أن اضرب مثلاً في نفسي دلالة على وحدة الأمة العربية .. لقد عملت أميناً مساعداً في الجامعة العربية وهي للدول العربية كلها، ثم أصبحت رئيساً للوفد السوري في الأمم المتحدة، وبعد ذلك كنت وزير الدولة السعودية لشؤون الأمم المتحدة، وها أنا الآن معكم أمثل شعب فلسطين .. هذا مثل صغير، ولكن له مدلول كبير في مفهوم الوحدة العربية.." ومضيت إلى أخر ما يمكن أن يتحدث به عربي عن الوحدة العربية.
ورأيتها فرصة حسنة لأوضح السبب في أني كنت أخطب باللغة الإنجليزية في جميع مراحل هذه الرحلة فقلت : أنا أخطب الإنجليزية لسببين: الأول أن الإنجليزية لغة فقيرة، بالنسبة إلى اللغة العربية، ولذلك تسهل ترجمتها..والثاني أني أريد أن أهاجم الإمبريالية الأمريكية بلغتها، لا بلغتنا" وانتهى الحفل في هذا الجو المرح .. وخرجت مع السفراء العرب إلى الباب الخارجي لأكون في وداع الرئيس شوآن لاي .. وهو يقول لي : موعدنا غداً الساعة التاسعة لتوقيع البيان المشترك..
ركب الرئيس شوآن لاي سيارته، وقال السفراء العرب : بيان مشترك!! وهل سيكون بينكم وبين الصين بيان مشترك؟.
قلت : نعم .. وخلال اليومين الماضيين تبادلنا الآراء حول صيغته..
قالوا : وهل يمكن أن نعرف مضمونه؟
قلت : أنه تأييد كامل للقضية الفلسطينية،تماماً كوجهة النظر العربية.
قالوا : ومن سيوقعه نيابة عن الطرف الصيني ؟
قلت : الرئيس شوآن لاي سيوقعه نيابة عن الصين.
قالوا : الرئيس شوآن لاي نفسه ؟؟
قلت : نعم، شوآن لاي، بيده وبخطه، وبتوقيعه الصيني .. لماذا أنتم مندهشون .. (مازحاً) إن اعتراف الصين بمنظمة التحرير أقوى من اعتراف حكوماتكم .. وافترقنا على هذا المزاح الجارح، الذي لم يكن يخلو من الجد الموجع .
وفي صبيحة اليوم التالي( 022/3/1965) وهو يوم ليس للشعب الفلسطيني أن ينساه، كانت الصالة الكبرى في قصر الضيافة، تؤثث من جديد لتصبح قاعة مؤتمر .. ففي هذا اليوم سيوقع البيان المشترك بين السيد شوآن لاي رئيس وزراء الصين، أكبر شعب في العالم، وأحمد الشقيري اللاجئ الفلسطيني، ممثل الشعب الشريد الطريد..
وفي التاسعة والنصف كنا، شوآن لاي وأنا، نجلس على المائدة، وأمامنا الصحفيون والمصورون ، ليشهدوا حفل التوقيع .. وقام رجال البروتوكول بالمراسم المعتادة ، ووقعنا صورتين عن البيان المشترك، مغلفتين في جلد فاخر .. وتصافحنا، وخرج الرئيس شوآن من قصر الضيافة .. وهو يقول أنا مسافر الآن .. وستتم رحلتكم حسب البرنامج . وسيستقبلكم الرئيس ماو في الوقت المناسب .. وأرجو لكم إقامة سعيدة بيننا..
قلت : أرجو أن نستقبلكم في الوطن العربي قريباً وسنرحب بكم في قطاع غزة .. وعدت إلى القاعة، لأبدأ مؤتمراً صحفياً ينقل إلى العالم ما جرى ..
وقلت في بداية المؤتمر الصحفي : إن ما جرى اليوم فريد حقاً في العلاقات الدولية .. ونحن لسنا حكومة، لا في الوطن العربي ولا في المنفى، ومع ذلك، فهذا هو البيان المشترك بيننا وبين جمهورية الصين الشعبية الديمقراطية، أكبر جمهورية على وجه الأرض .. إن هذا البيان هو نفسه حدث ثوري في عالم القانون الدولي .. إن القانون قد نص على اعتراف رسمي، واعتراف واقعي، ولا يعرف نوعاً ثالثاً، ولكن الصين الثورة، قد أدخلت هذا النوع الثالث، وهو ما اسميه : الاعتراف الثوري .. إنه اعتراف الثوار بالثوار .. ثم أخذت أتلو البينان المشترك وأشرح جوانبه الهامة .. وغادر الصحفيون قصر الضيافة في سباق إلى مراكز البرق ،ليبرقوا بهذا الحديث.
ومن أجل أنه فريد، ولأنه لا يمكن إيجازه ولا تلخيصه، بل من أجل الأمانة التاريخية، فإن هذا البيان المشترك يقحم نفسه على مذكراتي، قبل أن أصل إلى لقائنا مع الزعيم ماو .. وإلى الأجيال العربية المعاصرة والمقبلة، نصه الكامل:
بيان مشترك
بين منظمة التحرير الفلسطينية – وجمهورية الصين الشعبية
22 آذار (مارس )1965
بناء على الدعوة الموجهة من معهد الشعب الصيني للشؤون الخارجية، قام وفد منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة سيادة أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية بزيارة صداقة إلى الصين في شهر آذار
( مارس ) 1965.
وقد رافق سيادة أحمد الشقيري في زيارته هذه اللواء وجيه المدني القائد العام لجيش التحرير الفلسطينية، عبد الرحمن السكسك نائب رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عبد الخالق يغمور عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، خالد الفاهوم عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، رفعت النمر عضو مجلس إدارة الصندوق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضو المجلس الوطني الفلسطيني، عبد المحسن قطان عضو مجلس إدارة الصندوق القومي لمنظمة التحرير الفلسطينية وعضو المجلس الفلسطيني، شفيق طرزي عضو المجلس الوطني الفلسطيني، الدكتور فاضل زيدان عضو المجلس الوطني الفلسطيني،النقيب فخري شقورة المرافق العسكري للقائد العام لجيش التحرير الفلسطيني..
وقد استقبل سيادة أحمد الشقيري وجميع أعضاء الوفد استقبالا حاراً وودياً من قبل حكومة وشعب الصين، وقد عبر هذا بشكل واضح عن الصداقة الوطيدة المتبادلة بين الشعب الصيني والشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى.
وأثناء الزيارة استقبل الرئيس ليو شاوشي ورئيس مجلس الدولة شوآن لاي ونائب رئيس مجلس الدولة شن يي الوفد وأجروا محادثات ودية مع سيادة احمد الشقيري وأعضاء الوفد .
وقد أجرى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري بشكل خاص مع الرئيس شوآن لاي مباحثات تفصيلية عن النواحي العامة والسياسية والنواحي الأخرى للقضية الفلسطينية، واشترك في هذه المباحثات نائب وزير الشئون الخارجية شياوكوان هو، وبالإضافة إلى ذلك فقد أجرى الرئيس الشقيري يعاونه اللواء وجيه المدني القائد العام لجيش التحرير الفلسطيني محادثات مع اللواء هسياوهيسننج جنج مدير الدائر العامة لوزارة الدفاع الوطني، وأثناء المباحثات أعرب الجانب الصيني عن إعجابه بالشعب العربي الفلسطيني في كفاحه البطولي ضد الصهيونية وبالدور الذي لعبه قائد رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في مقاومة الإمبريالية الأمريكية والصهيونية سواء في الحقل الدولي أو في العالم العربي.
وقد تبادل الفريقان الآراء بصراحة وتوصلا إلى تفاهم مشترك حول قضية فلسطين، وتأييد الشعب الصيني لكفاح الشعب العربي الفلسطيني، وتعزيز التضامن بين الشعب الصيني والشعوب العربية ضد الإمبريالية ، وتنمية التضامن الأسيوي الأفريقي، والأمور الأخرى الهامة ذات المصلحة المشتركة .
كما اتفق الفريقان على أن القضية الفلسطينية في جوهرها، هي من الجهة الواحدة عدوان سافر من قبل الصهيونية تدعمها الإمبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وكفاح الشعب العربي الفلسطيني، والشعوب العربية الأخرى، من الجهة الأخرى. أن إسرائيل هي أداة للعدوان خلقتها الإمبريالية الأميركية في فلسطين مستخدمة هيئة الأمم المتحدة أداة لذلك، وتهدد الإمبريالية الأميركية بواسطة إسرائيل الدول العربية والبلدان الآسيوية الأفريقية الأخرى.
وقد قامت الإمبريالية في الآونة الأخيرة بالتواطؤ مع العسكرية الألمانية الغربية بمضاعفة تسليح إسرائيل ، كما أن الإمبريالية الأميركية دعمت قرار ألمانيا الغربية بإنشاء علاقات دبلوماسية مع إسرائيل .. وقد أثار ذلك احتجاج وسخط الشعوب العربية، وأن الشعب الصيني يؤيد بحزم الشعوب العربية في كفاحها العادل ضد الثالوث غير المقدس، الإمبريالية العسكرية الألمانية والصهيونية.
وأشار كلا الفريقين إلى أن كفاح الشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى ضد إسرائيل، أداة الإمبريالية الأميركية، لا علاقة له بالعنصرية أو الكراهية الدينية أو أي شكل من أشكال التفرقة الأخرى. وأن كفاحهم هو جزء لا يتجزأ من الكفاح العظيم لشعوب آسيا وأفريقيا ضد الإمبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة .
وأشار كلا الفريقين إلى أن الاستعمار الأمريكي ليس العدو الرئيسي لشعب فلسطين العربي فحسب، بل وشعوب العالم قاطبة .. ففي آسيا قامت الولايات المتحدة باحتلال جنوب كوريا وأوكيناوا التابعة لليابان وايوان التابعة للصين،وهي تمارس العدوان في جنوب الفيتنام وتتدخل في لاوس وتهدد كمبوديا وتقصف جمهورية فيتنام وتعزز جهودها لتوسيع الحرب في الهند الصينية، ويؤيد الاستعمار الأميركي الاستعمار البريطاني في قمع كفاح شعب عمان والجنوب اليمني وإن جميع مظاهر التوتر في آسيا من غير استثناء هي نتيجة سياسات العدوان والحرب التي يقترفها الاستعمار وعلى رأسه الولايات المتحدة، وفي أفريقيا تقوم الولايات المتحدة متواطئة مع الاستعمار البلجيكي والبريطاني بتأييد نظام حكم تشومبي العميل وواصل القمع الدموي لشعب الكونغو (ليوبولدفيل) وتهدد البلدان المجاورة له، وفي أوروبا تعكف الولايات المتحدة على إعطاء الأسلحة النووية لعسكريي ألمانيا الغربية مهددة بذلك أمن أوروبا، وفي كل مكان تحتفظ الولايات المتحدة بقواعد عسكرية، كما أنه تقترف جرائم العدوان في كل مكان، كما أن كفاحاً عادلاً يشن على الاستعمار الأميركي في كل مكان .. ويكرر الجانب الصيني التأكيد بأن شعب الصين يؤيد بحزم الشعب العربي الفلسطيني في كفاحه العادل ضد إسرائيل، أداة الولايات المتحدة العدواني، كما ويؤيده في مطلبه بالعودة إلى وطنه واستعادة حقوقه كاملة في فلسطين، وفيما يتعلق بقضية فلسطين قدمت الصين وستستمر في تقديم التأييد لشعب فلسطين العربي دون تحفظ، وقد بين الجانب الصيني وجهة نظره في أن واجب الشعب الصيني الدولي يقتضي تأييده لكفاح الشعب العربي الفلسطيني، وأن الكفاح العادل للشعب العربي الفلسطيني، يعتبر بدوره تأييداً للشعب الصيني وسيظل الشعب الصيني إلى الأبد الصديق الذي يعتمد عليه الشعب العربي الفلسطيني وجميع الشعوب العربية الأخرى الذي يعتمد عليه الشعب العربي الفلسطيني وجميع الشعوب العربية الأخرى في كفاحها العظيم ضد الإمبريالية والاستعمار القديم والجديد والصهيونية.
وقد اتفق الفريقان على تنشئة منظمة التحرير الفلسطينية بعثة لها في بكين لتعزيز التعاون المتبادل وسيبذل الشعب الصيني كل جهده في تأييد الشعب العربي الفلسطيني في كفاحه للعودة إلى وطنه بشتى الوسائل، سياسية كانت أم غير ذلك.
ويرى الفريقان أن شعوب العالم في نضالها ضد الإمبريالية والاستعمار القديم والجديد وعلى رأسه الولايات المتحدة إنما يؤيد بعضها بعضاً وأعرب الفريقان عن تأييدهما الحازم لشعوب الفيتنام والكونغو
(ليوبولدفيل) وبقية العالم في الكفاح الثوري ضد الإمبريالية.
وأشار الفريقان إلى أن سياسة الولايات المتحدة إزاء مسألة فلسطين كانت خاطئة منذ البداية حتى أن الستة عشر قراراً التي أصدرتها فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين خلال الستة عشر عاماً الماضية قد عجزت عن أن تمكن لاجئاً عربياً واحداً من العودة إلى وطنه، وقد أثبتت الحقائق مرة أخرى بالنسبة لقضية فلسطين بأن الأمم المتحدة قد تحولت إلى أداة للإمبريالية الأميركية وأعوانها لمتابعة سياسات العدوان والحرب، ويرى الجانبان أنه ينبغي على الأمم المتحدة أن تصحح أخطاءها بصورة كاملة وأن يعاد تنظيمها بصورة أساسية .
كما يرى الفريقان أن التعايش السلمي الحقيقي بين الشعوب يمكن قيامه فقط على أساس المبادئ التي تنص على احترام الوحدة والسيادة الإقليمية لبعضها البعض وعدم الاعتداء وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض وعلى أساس المساواة والمصلحة المشتركة ولا يمكن قيام التعايش السلمي مع صنائع سياسة العدوان الإمبريالية، ومن أجل تحقيق تعايش سلمي بين الشعوب فلا بد من النضال دون هوادة ضد سياسات العدوان والحرب التي ينتجها الإمبرياليون وعلى رأسهم الولايات المتحدة
وأشار الطرفان إلى أن المهمة الملحة التي تواجه الأمم والشعوب المضطهدة هي محاربة الإمبريالية والاستعمار القديم والجديد وعلى رأسه الولايات المتحدة وأن الشعب العربي الفلسطيني والشعوب العربية الأخرى مصممة على أن تزيد تضامنها فيما بينها ومع جميع الشعوب والأمم المضطهدة في العالم لتواصل إلى النهاية النضال ضد الإمبريالية والاستعمار القديم والجديد وعلى رأسه الولايات المتحدة، وفي الختام أعاد الفريقان إلى الأذهان المنجزات الكبيرة التي حققتها الشعوب الآسيوية والأفريقية منذ المؤتمر الآسيوي الأفريقي الأول الذي عقد في باندونغ وذلك في نضالها ضد الإمبريالية والاستعمار القديم ولاستعمار الجديد ومن أجل إحراز الاستقلال الوطني والحفاظ عليه وقد تعاهد الفريقان على الاستمرار في تعزيز روح اندونغ في الوحدة ضد الإمبريالية وبذل الجهود المشتركة لإنجاح المؤتمر الأفريقي الأسيوي الثاني المنوي عقده قريباً في الجزائر.

رئيس معهد الشعب الصيني للشؤون الخارجية رئيس منظمة التحرير الفلسطينية
شانغ شي أحمد الشقيري
الرئيس الفخري لمعهد الشعب الصيني
للشؤون الخارجية
شوآن لاي
وفي صبيحة اليوم التالي 023/3/1965) وقفنا على مدخل قصر الضيافة الذي احتوانا واحتوى آمالنا معنا عدة أيام، وأخذنا نتأهب للسفر .. لنستأنف بقية الرحلة .. ووقف من حولنا خدام القصر، تنطق عيونهم وقسمات وجوههم بالأخوة الصادقة العميقة ..والإنسان أخو الإنسان .. وانطلقت سياراتنا عبر الشوارع والميادين، والمواطنون الصينيون يلوحون بأيديهم حتى بلغنا المطار، فوجدناه كيوم وصلناه .. كبار رجال الدولة، والإعلام .. والجماهير..والطلاب، والشباب، والأناشيد والهتافات .. ولحكمة تمارسها الشعوب الحكيمة كان الوداع أروع من الاستقبال..
وحلقت بنا الطائرة في سماء الصين ،وسماؤها رحبة كأرضها، وقضينا أربع ساعات في الجو، لم ندر كيف مرت، فقد آنسنا التراجمة والمرافقون بأحاديثهم، وأغرقت علينا المضيفات الصينيات برعايتهن، في ابتسامة عذبة، لا تحتجب إلا حين نعتذر عن الطعام أو الشراب !!
وعند الظهيرة بلغنا مدينة" اوهان" فكان الاستقبال رائعاً، والحفاوة بالغة، وقضينا بقية يومنا في قصر الضيافة نستريح من برامجنا الحاشدة التي كانت لنا في بكين .. " أقيمت لنا حفلة عشاء فاخرة، حضرها كبار رجال الدولة ،وتحدث فيها حاكم المقاطعة موجهاً التحية إلى الأمة العربية وإلى الشعوب الآسيوية الأفريقية،ورفع كأسه يشرب نخب " نضال الشعب الفلسطيني الثائر" وتحدثت عن القضية الفلسطينية، ورددت التحية بأحسن منها، ورفعت كاسي اشرب نخب " جمهورية الصين الشعبية، رئيساً ، وحزباً وحكومة، وجيشاً وشعباً، نخب الثوار للثوار"، وكان مضيفنا في غاية الدقة، فقد كانت كؤوسنا ليمونا، على حين كانت كؤوسهم من الخمور الصينية من العيار الثقيل.
وعلى هذه الأنخاب الودية، قضينا ليلتنا في قصر الضيافة، وطلب إلينا الموافقون أن ننام مبكرين، لأن علينا ان نصحو مبكرين، فإن برنامجاً هاماً ينتظرنا في اليوم التالي:
وليت المرافقين لم يلقوا علينا هذا التحذير، فإن " البرنامج الهام الذي ينتظرنا" بقي يؤرقني في فراشي، وأنا اسأل نفسي: ما عسى أن يكون هذا البرنامج الهام ..هل يكون مقابلة الرئيس ماو .. ولم أستطع أن أدفع عني هذا الأرق إلا بعد أن سللت من حقيبتي كتيباً في سيرة الرئيس ماو ..
واستيقظت في اليوم التالي على قرع الباب، والمرافقون من خلفه يقولون: الساعة السادسة والفطور جاهز .. فقلت : يبدو أن البرنامج الهام قد أبتدأ، فما عسى أن يكون .. فأصلحت من شأني، وسارعت إلى غرفة الطعام لتناول وجبة الفطور .. والمرافقون يروحون ويعودون " ليجروا " بقية أعضاء الوفد من حجراتهم.
وخرجت بنا السيارات إلى ضاحية المدينة، وإذا نحن في مباني الكلية العسكرية، فطاف بنا المدير وأعوانه في أقسامها، وانتقلنا في الصفوف من واحد إلى واحد، ثم خرجنا إلى ساحة الرماية، لنشهد مناورة بالذخيرة الحية قام بها طلاب الكلية في مختلف الأسلحة .. ولأمر ما ، ولعله بناء على أمر من وزارة الدفاع، تكررت الرماية بالمدافع المضادة للدروع.. وفي كل مرة كانوا يزيدون سماكة الهدف لنشهد بأعيننا فعالية المدافع ..وقدرت في خاطري أن هذه المدافع ستشحن إلينا قريباً .. أو ليت الصفقة الرابحة هي التي تتم بعد المعاينة ..!! كأننا سندفع الثمن وبالنقد النادر، كما يفعل الإنجليز والأمريكان مع عدد من الدول العربية..
وعدنا إلى الفندق مسرعين وتناولنا الغداء في الساعة الحادية عشرة، على غير العادة في الصين .. فلم أسأل .. ولم أفهم لذلك سبباً .. ولكني قلت، وهذا جزء من البرنامج الهام.
ولم نكد نفرغ من الطعام، وكان خفيفاً ورشيقاً، كأن المقصود أن لا نتخم وننام حتى قال كبير المرافقين : ستذهب الآن لمقابلة الرئيس ماو ..
قال هذا وأساريره تتهلل ، كأنما يزف إلينا البشرى .. وتهللت أساريرنا جميعاً لهذه المفاجأة، فقد طال انتظارنا لهذه المقابلة، وكنا نخشى أن تكون هنالك أسباب صحية تحول دون ذلك، ونعود إلى الوطن دون أن نقابل أكبر زعيم لأكبر ثورة في العالم .
وحملتنا السيارات، وحملت أشواقنا لهذا اللقاء .. وطال السير وطال .. هكذا شعرنا وإن كان لم يتجاوز نصف ساعة..والانتظار أطول من الزمان..
ووسط غابة كبيرة وقفت سياراتنا أمام فيلا صغيرة، بسيطة عادية .. وفي توقيت محسوب على الثانية، كان يقف على الباب الرئيس ماو، بوجهه المشرق، ومنكبيه العريضين، وذراعاه ممدودتان بالترحيب .. من غير حرس ولا مرافقين .. إلا شابة دقيقة الجسم صغيرة الحجم ، كانت تقف إلى جواره لتزيد هامته جسامة ، وقامته ضخامة.
دخلنا صالة بسيطة، فدعانا الرئيس ماو أن نجلس حوله، وجلس وراءه التراجمة، وقال " هذه أول مرة نجتمع معاً "، وفي خاطر خاطف، قلت أستأذنك يا سيدي الرئيس ، أصحح .. ليست هذه أول مرة "..
قال : هل التقينا قبل الآن؟
قلت : التقينا مراراً وتكراراً
فنظر إلى من حوله بهدوء، ومن غير استغراب أو اندهاش، وقال ومتى التقينا؟؟
قلت : " منذ قدمنا إلى الصين، رأيناك في الأنهار التي قطعتها، وفي الجبال التي تسلقتها، أثناء مسيرتك الطويلة الشهيرة ( 934 –36) .. ورأيناك كذلك في المزارع التي أنشأتها، وفي المصانع التي أسستها، و ... وفي .. وفي.."
وابتسم الرئيس ماو لهذه الإشارة الخاطفة وقال " أنت متمرس على الإجابات السريعة في الأمم المتحدة .. أليس كذلك"؟
قلت : إن إجابتي الآن هي من وحي الصين وزعيم الصين..
ودعا الرئيس ماو الترجمة أن يقتربوا منه، وراح يرحب بنا ترحيباً حاراً، ثم مضى في حديث هادئ، كأنه بناء فخم تتجلى أمامك قوائمه وقواعده.. وقال :
-  أريد أن أوجه إليكم سؤالاً .. هل تخشون إسرائيل والإمبريالية الأمريكية .. إن هؤلاء يجب أن يخافوا منكم .. فلا تخافوا من الذين يجب أن يخافوكم.
-  لقد دخلنا الحرب ضد الكونتانج واليابان، وعددنا لا يتجاوز خمسين ألفاً .. ثم قمنا بالزحف الطويل ..
-  لقد ارتكبنا أخطاء عديدة، وكان خطأنا الأول هو أننا دخلنا المعركة غير واثقين من النصر، فقتل منا الكثير .. واستسلم عدد آخر .. والتجأ قسم ثالث إلى شانج كاي شك.. ولكننا لم نيأس، فقد أخذنا نبني أنفسنا من جديد وتمركزنا في مواقع جديدة ...
-  إن نظريتي في الحرب تتلخص في ما يلي:-
أولا)ً أضرب حينما تكون واثقاً من النصر، وانسحب حينما تكون ضعيفاً.
ثانياً) أضرب العدو على مراحل .. أنت لا تستطيع أن تقطع يد خصمك بفمك، ولكنك تستطيع أن تقطع أصابعه واحداً واحداً ..
ثالثاً) حارب على طريقتك وحسب ظروفك، ولا تقليداً أعمى..
رابعاً) الكليات الحربية لا تخرج ضباطاً كاملين .. من الضروري أن توجد الكليات الحربية ليقضي فيها الطلاب ستة أشهر مثلاً، ليتعلموا العلوم النظرية مثل الذرة، ولكن الحرب هي أهم جامعة لتخريج الضباط الناجحين."
وانتقل الرئيس ماو إلى جانب آخر من الحديث فقال " إن الصين دولة كبيرة بمساحتها وسكانها، ولكننا لا زلنا متخلفين نسبياً.. إن شعبنا لا يأكل الزبدة، ويأكل أقل من حاجته، ولكنه قانع ومسرور، لأنه يوفر من قوته، وبذلك يساعد حكومته على التنمية الاقتصادية، وعلى تقديم المعونات للشعوب الصديقة المناضلة.. نحن نقدم العون المالي والسلاح للشعوب المناضلة، من غير مقابل بدون فائدة، وبلا شروط أو قيود..
وقفز الرئيس ماو إلى موضوع آخر، وهو يتحدث عن السلاح، وقال: نحن نقدم السلاح حتى للذين حاربونا .. لقد تحرشت بنا القوات الهندية على الحدود، واستطاع الجيش الصيني أن يأسر عدداً كبيراً من الجنود الهنود، ووقعت في أيدينا كميات من أسلحتهم الآلية .. ولقد أكرمنا وفادة الأسرى الهنود، وأصلحنا المصفحات الهندية حتى جعلناها جديدة، وأعدناها إلى الهند مع الأسرى، جاهزة للقتال !! وهذا هو النصر الحقيقي، لأننا نريد أن يثق الشعب الهندي بصداقتنا ورغبتنا بالسلام ..
وأراد الرئيس ماو أن يجعل خاتمة حديثه عهداً فقال في عام 1949، وبعد انتصار ثورتنا مباشرة، أرسلت إلينا إسرائيل تعرض علينا الاعتراف بنا.. ولكننا رفضنا هذا العرض لأننا علمنا أن الأمة العربية كلها ضد إسرائيل .. ونحن من جانبنا لا يمكن أن نعترف بإسرائيل لأنها قاعدة للإمبريالية الأمريكية والبريطانية والفرنسية وألمانيا الغربية.
وجاء دوري في الكلام، فأثنيت على موقف الجمهورية الصينية من إسرائيل وهو الموقف العربي بذاته، وأكدت له أننا سنسترشد بنظرياته في الحرب، لأن الثورة الصينية هي مدرسة عسكرية كبرى قدمت للعالم " عقيدة عسكرية" جديدة لم تكن معروفة من قبل .. وعرضت بإيجاز إلى جوانب القضية الفلسطينية في ظروفها الحاضرة، وقيام منظمة التحرير وجيش التحرير، وتصميم الشعب الفلسطيني على تحرير وطنه، وأننا لن نقف وحدنا في هذه المعركة .. ويسعدنا أن جمهورية الصين معنا تؤيدنا .. وإننا نتطلع إلى ذلك اليوم الذي تقوم فيه الشعوب المناضلة بتطويق الإمبريالية العالمية وتضربها في الشرق والغرب معاً..
ولمعت عينا الرئيس ماو .. وبادر إلى القول : نعم هذا صحيح " إن مدفعيتنا قصفت جزيرة كيموى لإشغال الإمبرياليين أبان ثورة العراق والإنزال الأميركي في لبنان .. يجب إشغال العدو على كل الجبهات ".
ودامت الجلسة ثلاث ساعات على هذا الحال، حديثا وتعقيباً، وسؤالاً وجواباً، وسار بنا الرئيس ماو إلى خارج الفيلا البسيطة، يودعنا، وبين ذراعيه عواطف شعبه العظيم..
عدنا إلى قصر الضيافة في " اوهان" لنرى الشعب يصطف على جانبي الطريق محيياً .. وهذه المدينة صغيرة، سكانها 2 مليون ونصف فقط .. وفي حساباتنا العربية هذه المدينة الصغيرة أكثر سكاناً من جمهورياتنا الثلاث : لبنان ، ليبيا، واليمن الجنوبية .. مجتمعة متحدة !!
وكان من حسن الاختيار، إننا بعد أن رإينا ماوتسي تونغ أعظم من في الشعب ، أن نرى أروع ما في الوطن فقد غادرنا أوهان في صباح اليوم التالي (25/3/1965) إلى مدينة " هان شاو " .. وهي فردوس الصين الرائع.. وكان من حسن التوقيت أننا وصلناها ظهراً والشمس في قبة السماء الصافية، ترسل أشعتها على الغابات الفاتنة والبحيرات المتلألئة، والروابي السندسية، والوهاد الحانية على الغدران .
حملتنا أرواحنا قبل أقدامنا، إلى قصر الضيافة، ووقفنا على شرفاته الرحبة، لنظل على حدائق الأزهار، وغابات الأشجار، ومرابض الغزلان، ومسارح الطيور، وملاعب الأولاد، ومراعي القطعان، كل ذلك في تنسيق فاتن اشترك فيه الخالق والمخلوق.
وتنفست الصعداء، وأنا أتمنى .. لو .. أن فلسطين محررة، لقضيت في هذا الفردوس عاماً أو عامين، أقرأ واكتب، وأمشي وأسبح، وآكل وأنام وأعيش كل أيامي مع أحلامي!!
وقضينا يوماً وليلة، في هذا الفردوس، من غير مراسم ولا خطب، ولا حفل عشاء، كأنما أراد أصدقاؤنا الصينيون، أن تحتفى بنا الصين بأروع ما عندها، من جمال وجلال .. وما أكرم هذا الكرم، وأحفى هذه الحفاوة.
ونمنا ليلتنا؛ وادعة هانئة، لنفيق في الصباح ونحن نشم الزهور ملء الأنوف وننعم بالأطيار ملء الآذان، ونحدق بالأشجار والأنهار ملء العيون فهذا يوم سفرنا إلى شنغهاي، وكر الدسائس العالمية، ومقر الجاسوسية الدولية مدينة المغامرات والمؤامرات، وهكذا كانت حتى عهد الثورة والاستقلال ..
وصلنا شنغهاي ظهراً، واستقبلتنا السماء بمطر مدرار، ولكن الأرض ظلت جافة، فقد كانت بين السماء والأرض حشود من الشعب تراصت فيما بينها بمظلاتها وأعلامها، فأصبحت سقفاً من الرؤوس وبساطاً من الأكتاف..
واجتزنا ميادين المدينة وساحاتها وشوارعها، وبدت لنا كأنها مجموعة من المدن، لك طابعها ونظامها، فقد كانت حتى عام 1949 مقسمة تحت سلطان الإنجليز والفرنسيين واليابانيين والألمان والأميركان، وكل دولة تدير المنطفة التي لها بموجب قوانينها الخاصة .. كأنها قطعة من أرضها ..
وكان عمدة المدينة، ونحن في طوافنا وتجوالنا، يشير إلينا بيديه ، هذا حي الألمان، وذاك حي الفرنسيين، وذاك حي اليابانيين، وتلك حدائق الإنجليز كتب على أبوابها" ممنوع دخول الكلاب والصينيين" .. وقلت ساخراً لو أنهم كتبوا " الصينيين أولاً والكلاب ثانياً !! قليلاً من الذوق أيها الإنجليز !!
وقضينا يومنا نزور المؤسسات العامة، والمصانع، والمدارس، والمرافقون يروون لنا العجائب عما صنعه الاستعمار في مدينتهم الباسلة، ويسردون قصص البطولات في حرب الشوارع التي توجت بطرد المستعمرين، وإعادة الوحدة والحرية إلى شنغهاي، لتصبح مع ضواحيها مدينة الأحد عشر مليوناً أي ما يعادل جمهوريتين عربيتين متحدتين: سوريا والعراق.. ونحن نهتف تعيش الوحدة العربية ..
وأقبل اليوم التالي، آخر أيامنا في الصين (27/3/1965)، فكان ذروة رحلتنا، وسدرة المنتهى في لقاءاتنا، كان لقاء فريداً مع الشعب، في أكبر ميادين المدينة .. ونصبت الأعلام والأقواس والمكبرات في كل مكان حتى أصبحت المدينة كلها هي قاعة الاجتماع.
ووصلنا الميدان ومعنا عمدة المدينة وكبار رجال الدولة،والطلاب والشباب يهزجون وينشدون ويهتفون، وكأنهم يريدون أن يملأوا نفوسنا بأعظم شحنة عاطفية في يوم سفرنا ،لندخرها في مواجهة مصائبنا ومصاعبنا التي تنتظرنا في الوطن..
وجلسنا على المنصة، وإذا بنا في بحر من البشر، ونحن نركب أعلى أمواجه ونهض عمدة المدينة يتكلم بنبرة حاسمة قاطعة فقال .. " إن شعب شنغهاي الذي قاسى الكثير من بلاء الاستعمار، يؤيدكم ، وأن شعب الصين بأجمعه يساندكم .. لقد شردكم الاستعمار والصهيونية من وطنكم ،ونحن معكم حتى النصر و .. و .." إلى آخر هذه العبارات المليئة بالتقدير والتشجيع.
وفي هذا اللقاء الأخير مع الشعب الصيني وقفت لأفرغ كل غضبتنا على الإمبريالية الأمريكية والاستعمار الصهيوني، في خطاب أستغرق ثلاث ساعات كنت استوحي خلالها تاريخ هذه المدينة مع الاستعمار.
وكان التجاوب الشعبي بالغاً ذروة الذروة، ذلك أني " طعمت " القضية الفلسطينية بالأحداث الجسام التي نزلت بهذه المدينة الباسلة، قلت " لقد كانت مدينتكم مجزأة بين المستعمرين الإنجليز والفرنسيين واليابانيين، وقاتلتم قتالاً باسلاً فتوحدت مدينتكم وتحررتم، وكذلك فإن وطننا العربي كان مجزأ بين الإنجليز والفرنسي والطليان، وقاتلنا قتالكم فتحررنا، ونحن مصممون أن نتوحد .. وكانت الرأسمالية العالمية تستأثر بخيراتكم، فهذا حي ساسون اليهودي وهنا حي خاتون اليهودي هنا في شنغهاي، وقد ناضلتم نضالاً شريفاً فطهرتم بلدكم من ساسون وخاتون وكذلك فإن وطننا قد احتلته الرأسمالية اليهودية وشردت شعبنا، ونحن الآن نعد أنفسنا لنناضل نضالكم، لنطهر بلدنا من ساسون الكبير، من إسرائيل"..
ومضيت في المقارنات بين ما جرى في شنغهاي في عهد الاستعمار، وما يجري في الوطن العربي وفلسطين وفي عهد الإمبريالية وإسرائيل .. وانتهى الاجتماع في جو رائع من التعاطف والتأييد .. ولولا الملامح المغولية والهتافات الصينية، لحسبنا أننا كنا نعيش يومنا ذلك مع جماهير عربية نتحدث إليها بالوجدان قبل اللسان، وتستمع إلينا بالفؤاد قبل الآذان.
وسارعنا إلى قصر الضيافة نحزم حقائبنا، وإلى المطار نسبح في الأجواء عبر الأصقاع والأقطار.
ودسست يدي للمرة الأخيرة في حقيبة كتبي، لأكمل قراءة كتاب رائع عن الصين كتبه أحد الصحفيين الأمريكان بعنوان " العملاق غير الصابر"، ومضيت في قراءاته، وأنا مبهور بالنهضة العظمى التي تقودها جمهورية الصين الشعبية، وأيقنت في نفسي أنه إذا قُدر للأمور في الصين أن تسير سيرها الحاضر ،فستصبح الصين هي عالم الغد .. بل العالم كله .. وتذكرت قوله تعالى " لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة "؛ ومن يدري فقد يشاء حين يشاء..
وفرغت من قراءة الكتاب وأنا أقترب من سماء القاهرة .. وامتلأت نفسي اعتزازاً وأنا أعود إلى الوطن العربي وأنا أحمل معي رأس كليب .. كما يقول الأعراب الأقدمون .
أجل، لقد كنت أحمل في حقائبي رأس كليب.. بل ما هو أكبر وأعظم.. ألم أكن أحمل البيان المشترك، ولو كتبه عربي ما كتبه أكمل منه ولا أفضل؟! ألم أكن أحمل اتفاقاً مع شوآن لاي بإمدادنا بالسلاح، وكان ذلك من أعز الأحلام؟!
وما دريت أن هذه الإنجازات التي أحملها ستكون في رأس المشكلات التي ستواجهني، لا مع الشعب الفلسطيني، ولا مع الأمة العربية، ولكنها مشكلات مع الملوك والرؤساء..
فالمشكلات .. كانت قصتي معهم على الدوام، منذ أن زاملتهم إلى أن فارقتهم ..
وكان فراقهم هو البشرى أو العيد .. بكل ما في العيد من بهجة وفرحة .
" ويومئذ يفرح المؤمنون "

صدق الله العظيم

المصائب والمصاعب
في العواصم العربية

عدت من سفرة الصين إلى الوطن، لأخوض في الوحل إلى الركبتين، بعد أن قضيت أسبوعين رائعين في بكين، مع ماوتسي تونغ وشوآن لاي، ومع الشعب الصيني في مدنه وقراه، في مدارسه ومصانعه، وكأنما أصبحت الصين هي فلسطين مضروبة مليون مرة أو يزيد .. مساحة وسكاناً ..
ولقد أنجزنا في الصين ما أنجزنا على نحو ما ذكرت، وها إني أحطُّ رحلي في القاهرة لأواجه المتاعب من كل جانب .. وكأنما قُدر لمن يعمل في القضية الفلسطينية أن يتصدى للمصاعب العربية أولاً، قبل المصائب الاستعمارية ..
دعوت إلى مؤتمر صحفي في مكتب المنظمة، لأتحدث عن رحلتنا إلى الصين، واحتشد عدد كبير من الصحفيين وممثلي وكالات الأنباء، الأجانب أكثر من العرب، ليقفوا على ما وصلنا إليه في محادثاتنا مع قادة جمهورية الصين الشعبية الديمقراطية.
وتحدثت طويلاً عن نجاح هذه الرحلة، وما حققت من مكاسب سياسية وعسكرية .. وألمعت إلى موافقة الصين على إنشاء مكتب للمنظمة في بكين، وتقديم الأسلحة اللازمة .. وتدريب ضباطنا على حرب العصابات .. ودار الحوار طويلاً مع الصحفيين الأجانب خاصة..
قالوا : لماذا سافر وفد المنظمة إلى الصين أولاً، وهل تعتزمون السفر إلى موسكو ..
قلت : إن المنظمة على اتصال دائم مع الاتحاد السوفيتي عن طريق سفرائه في الدول العربية.. وسنغتنم أول فرصة لزيارة موسكو .. نحن نشكر الاتحاد السوفيتي والدول الاشتراكية تأييدها لقضية فلسطين، في الأمم المتحدة وخارجها.
قالوا : وما هي الأسحلة التي ستقدمها إليكم الصين؟
قلت : إنها أسلحة خفيفة ومتوسطة .. وستكون بالقدر الذي نحتاجه.
قالوا : وهل ستأخذونها بأثمان مخفضة، كما تفعل روسيا مع الجمهورية العربية المتحدة؟
قلت : إن جمهورية الصين تقدمها للشعب الفلسطيني مجاناً، بلا مقابل.
قالوا : وبلا شروط؟
قلت : نعم هنالك شرط واحد.
قالوا : وما هو الشرط الواحد.
قلت : أن نخوض معركة التحرير..
قالوا : ألا تعتزم المنظمة أن ترسل وفداً إلى لندن وواشنطن؟
قلت : إن أبواب لندن وواشنطن مقفلة في وجهنا.. وإذا كنتم تستطيعون أن تفتحوا لنا الأبواب، فنحن مستعدون أن نسافر من الغد..
قالوا : ألا تخشون تغلغل النفوذ الصيني إلى منطقة الشرق الأوسط، كما تغلغل النفوذ الروسي؟
قلت : الأمة العربية حريصة على حريتها وسيادتها، وهي لا تريد أن تبدل سيداً بسيد..
قالوا : وضباطكم الذين سيذهبون إلى الصين ليتدربوا على حرب العصابات، ألا تخشون أن يعودوا إليكم شيوعيين ؟
قلت : إن العروبة في نفوس ضباطنا أمنع من سور الصين العظيم ..
وكان سرور الصحفيين العرب بالغاً بما دار من الحوار بيني وبين الصحفيين الأجانب الذين كانوا يتربصون بنا الدوائر، وتسابقوا إلى مكاتبهم من أجل ريبورتاج " عظيم" .. على حد تعبيرهم ..
ودهشت في صباح اليوم الثاني، ذلك إني لم أسمع في إذاعات القاهرة أي شيء عن المؤتمر الصحفي .. وما ورد عنه في الصحف لم يتجاوز سطرين أو ثلاثة..
واتصلت بالدكتور عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومي ، أسأله عن السبب في هذا الإهمال .. فقال :
-  في الصحف زحمة مواد شديدة هذه الأيام..
قلت : ولكن جريدة الأهرام قد ملأت صفحتها الأولى عن " اللحم في الأرجنتين " وإني أحسب أن مكاسبنا في الصين أهم من اللحم في الأرجنتين.
قال : البركة في إذاعتكم .. لقد سمعتها .. وقد نشرت وقائع المؤتمر الصحفي بكامله..
قلت : نريد هذا من إذاعة القاهرة.. نحن حريصون أن تعرف الصين أن الأمة العربية معنا في كل شيء .. والجمهورية العربية في المقدمة .. بصورة خاصة..
قال : سنصدر التعليمات إلى الصحف والإذاعة بنشر كل شيء غداً، وستكون مسروراً..
ورحت أستعجل الساعات في انتظار الصباح .. فلم أسمع شيئاً، ولم أقرأ شيئاَ، وقلت في نفسي لا بأس هذه واحدة على طريق النضال، مع المسئولين العرب..
وطلبت موعداً للاجتماع بالرئيس عبد الناصر، لأشرح له بالتفصيل محادثاتي مع ماوتسي تونغ وشوآن لاي، وكنت أبرق إليه عن طريق سفيره في بكين بموجز اتصالاتي يوماً بعد يوم.
وحسبت أن الرئيس سيستقبلني في اليوم نفسه، فإن المكاسب العظيمة التي حققناها في بكين جديرة بالمبادرة إلى هذا اللقاء ..
ومضى اليوم الثاني وما بعده، وما بعد، من غير تحديد للموعد .. وأنا أتصل تلفونياً بمكتب الرئيس لأسمع الجواب مرة بعد مرة: " مدير مكتب السيد الرئيس " مش " على مكتبه"
وأدركت بعد هذه المحاولات المتعددة، أن الرئيس جمال عبد الناصر لا يريد أن يقابلني .. لسبب ما .. ورحت أنقب عن السبب في تلافيف نفسي وفي تجاويف ذاكرتي .. وأنا أتساءل لماذا يرفض الرئيس عبد الناصر أن يستقبلني، وقد افترقنا قبل سفري إلى الصين على ود كامل وتفاهم شامل .. وما أكثر ما كان يقول لي : " لا تتردد أن تطلب مقابلتي ليلاً أو نهاراً ".. وكم اجتمعنا ليلاً، ومن غير خبر ولا صورة في الصحف ولا في التفلزيون..
ولجأت إلى أسلوب " الحذف " الذي كنا نتعلمه في الرياضيات .. فرحت " أحذف " كل الاحتمالات، واحد بعد واحد.. بحثاً عن السبب، إلى أن بقي الاحتمال الأخير .. وهو سفرتي إلى الصين .. وهي السفرة التي ظننت أنها ستزيدني تلاحماً مع الرئيس عبد الناصر..
وحين قلبت الأمر على جميع وجوهه، أدركت سفرة الصين هي العقدة .. وبدأت أستعرض الأسباب ..
أدركت أولاً، أن الرئيس عبد الناصر كان يتصور أن أقصى نجاحنا في الصين سيقف عند حدود المكاسب السياسية، وأن موضوع المساعدات العسكرية غير وارد ، فنحن لسنا حكومة .. وأرض المعركة لم تتهيأ بعد ..
وأدركت ثانياً : أن نجاحنا في بكين سيزعج موسكو، وكان الخلاف بينهما على أشده .
وأدركت ثالثاً : أن موسكو عند عبد الناصر، أهم في موازين القوى العالمية من بكين .. وأن صداقة الأولى أنفع له من الثانية.
وأدركت رابعاً : إن شحن الأسلحة الصينية إلى ميناء الإسكندرية، هكذا .. ومن غير استئذان سابق من الرئيس عبد الناصر تجاوز على الحدود..
والواقع أن الرئيس عبد الناصر على حق في هذه الأمور كلها .. كما أنني على حق في هذه الأمور كلها.
لقد تصرفت من غير شك تصرفاً انفرادياً، وأصبحت علاقتي بالصين خطراً على علاقة القاهرة بموسكو.. ولكن ما ذنبي؟
لقد طرقت أبواب موسكو أولاً حتى قبل أن أفكر في زيارة الصين، ولكن الاتحاد السوفييتي لا يوافق على تحرير فلسطين، ولا يريد أن يعترف بمنظمة التحرير(1).
والأسلحة الصينية.. أين أذهب بها؟ .. ليس للشعب الفلسطيني أرض ولا مستودع . فلأرسلها إلى ميناء الإسكندرية .. أليست الجمهورية العربية المتحدة هي قاعدة النضال الثوري .. أليست أرضها أرضنا، وموانيها موانينا ،فلتذهب أسلحتنا إليها ومن غير إذنها ومن لنا غيرها.. وهكذا كان تفكيري، بصوفية النضال، وصفاء الإخاء..
وكانت فراستي وحساباتي في محلها، فقد كان موضوع زيارتي للصين هو سبب فتور الرئيس عبد الناصر، فقد قال لي السيد سامي شرف مدير مكتب الرئيس، وأنا أُلح على التلفون طالباً مقابلة الرئيس :
-  أرجوك أن لا تزعل، إن الرئيس عبد الناصر يحبك ويقدرك، أترك لي الموضوع بعض الوقت حتى أعالجه؛ لقد تعجلت الأمور في الصين، وكان الرئيس عبد الناصر يأمل أن تؤخر موضوع الأسلحة الصينية إلى أن تعود إلى القاهرة للتشاور في الأمر.
قلت : لقد فعلت لأني خشيت أن تفلت الفرصة من يدي .. وفوق هذا وذاك فإني أعتبر القاهرة كل شيء عندي .. فإذا كانت مصر هي مستقر آمالنا، فمن باب أولى أن تكون متسودع أسلحتنا .
ثم استدركت مداعباً، وطلبت إلى السيد سامي شرف أن يروي للرئيس عبد الناصر ما قاله الشاعر العربي:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد رأيت فقد ضيّعت أيامي
وانتهى الحديث التلفوني بيننا، والسيد سامي شرف يكتب هذا البيت من الشعر ليرويه للرئيس عبد الناصر..
وكظمت ألمي أن الرئيس عبد الناصر لم يستقبلني .. وكتمت خبره عن رجال المنظمة .. وإن كان الذكاء الفلسطيني بدأ يتساءل .. لماذا لم نسمع عن اجتماع بين عبد الناصر والشقيري بعد رحلة الصين..؟
وكنت أجيب، بعد الإلحاح والإصرار : " وهل من الضروري أن تنشرفي الصحف كلا مقابلاتي مع الرئيس عبد الناصر".. والأخوة من حولي بين مقتنع ومتململ ولقد كنا كلانا، الرئيس وعبد الناصر وأنا، على حق في مواقفنا .. كما كان يتنازعنا كلينا ألم مرير .. ولكنني أعترف أن الرئيس عبد الناصر لا بد، أنه كان يعاني ألماً أشد وأعمق؛ ذلك أنه، وهو قائد النضال العربي ،قد وجد نفسه أمام اختيار قاسٍ كان يود أن يتجنبه بكل جوارحه وقدراته..ولكن هذه هي القضية الفلسطينية بكل تعقيداتها، في شوكها وحريرها وما أقل الحرير .. وأحسب أني لو كنت مكان الرئيس عبد الناصر لفعلت مع الشقيري ما فعل، فكثيراً ما " يصطدم" النضال القومي بشرور متعددة، لا بد أن يختار واحداً منها .. أهونها وأيسرها، ولو كان مراً .
وحل شهر أيار(1965) ومعه الموعد السنوي لانعقاد المجلس الوطني في دورته العادية، وبدأت الترتيبات لعقده في القاهرة .. ووجهت الدعوة إلى الرئيس عبد الناصر لحضور حفل الافتتاح .. ووقع الامتحان المصير.
لقد جاء الجواب من رياسة الجمهورية بأن الرئيس عبد الناصر قد أناب عنه الوزير كمال الدين رفعت لافتتاح المجلس الوطني .. وانسابت الإشاعات والأقاويل بأن الرئيس عبد الناصر " زعلان " من الشقيري، وأنه لا يرغب أن يحضر المؤتمر.
وغصت القاهرة بالعشرات من أعضاء المجلس الوطني، وقد توافدوا من كل أرجاء الوطن العربي، وهذه الإشاعات تسبقهم إلى مطار القاهرة، قبل أن يصلوا إلى فنادقهم.
وكاشفني عدد من الأخوان الفلسطينيين بصدد هذه الإشاعات فقلت : لا أعلم شيئاً عن هذه الإشاعات .. وإذا كنتم ترون أن هذا يؤثر على علاقات المنظمة بالجمهورية العربية المتحدة فإني مستعد للاستقالة، لأن تأييد القاهرة للمنظمة هو عندي أثمن من بقائي رئيساً للمنظمة " فكان الجواب الذي أسمعه من الأخوة دائماً : إن رياسة المنظمة مسألة داخلية للشعب الفلسطيني ولا شأن للقاهرة فيها، ولا للعواصم العربية الأخرى.
وحان يوم افتتاح المجلس الوطني في جامعة القاهرة، والشائعات مستمرة بأن الرئيس عبد الناصر سيتخلف عن حضور الاجتماع.
وقبل الموعد بساعة واحدة، اتصل بي الدكتور حسن صبري الخولي الممثل الشخصي للرئيس عبد الناصر بالتلفون ليخبرني بأنه " من المناسب وجودكم في الجامعة قبل الموعد بنصف ساعة لأمر يهمكم، وسنلتقي هناك"، ولم يكن عسيراً عليَّ أن أفهم أن الرئيس عبد الناصر سيحضر الاجتماع بنفسه.
ووصلت في الوقت المناسب، وقدم الرئيس، وكنت في استقباله وجلسنا معاً في الصالة المجاورة ودخلنا القاعة معاً إلى المنصة الرئيسية، ومن خلفنا نواب الرئيس والوزراء.
وافتتح الحفل بتلاوة آي من الذكر الحكيم ،ثم وقف الرئيس عبد الناصر يلقي كلمة الافتتاح وأمامه الملف المعتاد، يقرأ منه حيناً، ويتكلم من خاطره مرة أخرى.
وأعلن في بداية خطابه بأنه قرر الحضور " في آخر لحظة " ولكنه لم يذكر سبباً لذلك .. ثم تحدث عن الكيان الفلسطيني، ومنظمة التحرير ،وجيش التحرير، وإن ذلك كله هو من إنجاز مؤتمر القمة .. وتناول الشئون العربية معرجاً على الرجعية العربية، وعلى الرئيس بورقيبة بالذات وكان مما قاله بعباراته المعروفة: " أنا أؤكد لكم أن أكبر شيء تعب الغرب وإسرائيل قيام الكيان الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، لهذا نجد أن منظمة التحرير تُهاجم، الشقيري بيتكلم ونازل كلام، طيب حيعمل إيه الشقيري، في الأول ما هو بيتكلم، في أول قيام المنظمة، تكلموا أن المنظمة مش ثورية، قد تكون فيه مآخذ على المنظمة، ولكن بدي أقول لكم حاجة، الكيان الفلسطيني قام، المنظمة قامت، وبعدين الهجوم على المنظمة مغرض، المنظمة بقى لها سنة واحدة، أرجو منكم ما تبقوش تشتكو منا، والقيادة بتاعتكم تشتكي منا، إذا حصلت منا حاجات، إحنا الحقيقة واخدين مسئوليات كبيرة ما فيش داعي إن إحنا نزعل لأن قرار الجامعة العربية ( موضوع بورقيبة ) طلع مش ثوري، ومفيش داعي إنه احنا نزعل .. ده اللي خلاني جيت النهادره.."
ومضى الرئيس عبد الناصر في خطابه على هذا المنهج، ومضيت في متابعة نظراته إليَّ مرة، وإلى الجمع الحاشد مرة أخرى، وأنا أرى أنه يدافع عني تارة، ويقرعني تارة أخرى .. يدافع عني أمام " الثوريين " الذين لا يدركون الواقع العربي ومصاعب القضية الفلسطينية، ويقرعني لأني انسحبت من الجامعة العربية، بصدد موضوع أبو رقيبة، ولأني أشكو من الجمهورية العربية المتحدة..
ولم يكن الرئيس عبد الناصر يشير إلى الخلافات الفلسطينية عن فراغ، فالشعب الفلسطيني بجماهيره كان متحد الكلمة وراء المنظمة، ولكن المنظمات الفلسطينية وهي تمثل جانباً ضئيلاً من الشعب الفلسطيني هي التي رفعت علم الخلافات وراء راية الشعارات..
ذلك أن منظمة " فتح" قدمت مذكرة تطالب فيها أن " تمارس قيادة جيش التحرير الفلسطيني مسئولياتها بحرية" وأعلنت حركة القوميين العرب أن " يكون تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني من أربعمائة عضو، منهم مائتان وأربعون من الأردن، وتسعون من غزة، وثلاثون من لبنان، وأربعة عشرون من سوريا، وثمانية من الكويت، واثنان من العراق، وستة من المناطق الأخرى؛ على أن تشكل اللجنة التنفيذية من خمسة وعشرين عضواً ينتخبهم المجلس الوطني؛ أما التنظيم الفلسطيني البعثي فقد التزم الصمت انتظاراً لما تقرره قيادة حزب البعث !!
تلك كانت الصورة التي كان يتحدث عنها الرئيس عبد الناصر : الشعب وراء المنظمة، يمنح قيادتها كل ثقة؛ ومنظمات تتصارع فيما بينها حول الشعارات والعقائديات!!
وبعد أن أنهى عبد الناصر خطابه، وقفت لأتكلم .. وحدّق أعضاء المجلس الوطني بي، وفي عيونهم السؤال الكبير، ماذا عسى أن أتكلم ؟؟!!
لقد استفتحت خطابي، على غير ما كنت قد أعددته في ذهني .. وعزمت أن أرد على الرئيس عبد الناصر، ولو بصورة غير مباشرة، فقد نسيت دفاعه عني، وعلق في نفسي تقريعه إياي، وهل أنا إلاَ إنسان، وكان الرئيس إلى ذلك العهد في ذروة مكانته. يتربّع قمة شامخة عند الجماهير العربية؛ ومن ذا الذي يستطيع أن يناقشه أو يجادله أو يعقب على كلامه؛ ولكني أحسست أن كرامتي قد جرحت، فوق ما أعانيه من المتاعب .. فرأيت أن لا أسكت على " الإشاعات " وأن أقول كلمتي وأمشي .. وأمشي إلى بيتي ومعي كرامتي.
والواقع أنني، كأي فلسطيني آخر، بل أشد، نشأت في نفسي عقدة " الكرامة" وأصبحت أثور لأقل سبب حتى لكأنني أصبحت مثل ثيران المصارعة الإسبانية تثور كلما رأت الرداء الأحمر .. وحتى صدق فيَّ قول الشاعر:
خطرات النسيم تجرح خديه
ولمس الحرير يدمي بنانه

وبدأت خطابي بإسداء الشكر إلى " سيادة الرئيس لأنه قرر الحضور في اللحظة الأخيرة وأنه قد الهم الصواب والخير .. فالقضية العربية تدعو إلى ذلك .. وتحرير فلسطين يدعو إلى ذلك .. وما عسى أن تقول الجماهير العربية، وما عسى أن يقول الاستعمار وأعوان الاستعمار، إذا تخلف الرئيس عن هذا لاجتماع وهو يعقد في القاهرة قاعدة النضال وقلعة الكفاح .. حقاً إن الرئيس قد ألهم الصواب والحق .. والحق أحق أن يتبع .. ولم تفت هذه العبارات الواخزة على الرئيس عبد الناصر ولا على المجلس الوطني، وقد ساد الجو إحساس " بالتمني " بأن لا استرسل أكثر من ذلك في هذا الحديث .. فهذه الجرعة كافية .
ولكني أردت أن أزيد هذه المعاني عمقاً، فانتهزت فرصة الحديث عن الرئيس أبو رقيبة، وقلت : " لقد كانت الإذاعة التونسية تعلق في اليومين السابقين، بأن منظمة التحرير أصبحت دائرة من دوائر وزارة الخارجية المصرية، وأن الشقيري قد أصبح عميلاً لعبد الناصر .. وأريد أن أعلن من هذا المنبر، وعلى مسمع الرئيس عبد الناصر أن منظمة التحرير الفلسطينية ليست عميلة لأحد، ولا تابعة لأحد، إنها ملك الشعب الفلسطيني وحده .. أما أنا .. فإنني أرفض أن أكون عميلاً لأحد .. ما أنا عميل أنا زميل .. أنا زميل لعبد الناصر لقاء الثوار بالثوار، والأحرار بالأحرار".
ودوت القاعة بالتصفيق، وكان الرئيس عبد الناصر بارعاً كعادته، فصفق طويلاً وكان آخر من توقف عن التصفيق.
وأحسست عندها، أن الفرصة مؤاتية، لأثأر لكرامتي إلى درجة الإشباع فرميت بقفازي في ختام خطابي، وقلت : غداً ستبدأ أولى جلسات العمل، وسأقف أمامكم للحساب .. ومن شاء منكم أن يسألني من أين لك فليتفضل .. ومن شاء أن يحجب ثقته عني ، فليتفضل .. لقد قامت المنظمة وسط مصاعب جمة .. وستكون التقارير أمامكم، السياسية والعسكرية والمالية والإعلامية .. ومن رأى اعوجاجاً فليقله .. إن الأمانة بلاء وعناء .. والجبال أبين أن يحملنها .. وأنا حاضر أن أرد الأمانة إلى الشعب، فإنه وحده صاحبها..
واسترسلت في هذا السياق من المعاني، وأعضاء المجلس الوطني يجدون في هذا الحديث شفاء " لعقدتهم" ولكنهم، في الوقت نفسه، تشير عيونهم : إلى هنا وكفى..
واكتفيت بما قلت، وعدت إلى مكاني على المنصة بجوار الرئيس وانتهى حفل الافتتاح، وعاد الرئيس إلى منزله ومشيت بضعة خطوات في وداعه ولم يتعد حديثنا كلام المجاملة العادية .. ووجهت في اليوم الثاني، برقية بوصفي رئيساً للمجلس الوطني، إلى الرئيس جمال عبد الناصر أشكره افتتاحه الاجتماع، واشكر للجمهورية العربية ما يلقي أعضاء المجلس الوطني من رعاية وحفاوة، وجاء الجواب في اليوم نفسه معنوناً إلى " أعضاء المجلس الوطني " يرحب فيهم ويتمنى للمجلس الوطني النجاح .. وما أظنها " غفلة " أن يغفل " رئيس المجلس الوطني" في هذا الجواب .. فكأن الرئيس ما يزال " متأثراً " بتصرفاتي في الصين.
ولكن أموري في القاهرة لم تنته عند هذا الحد .. فقد وقعت لي أحداث " صغيرة " تجاوز عنها صبري .. ولكنْ حادثان يلحان أن يكون لهما مكان في مذكراتي..
الأول : أن الدكتور عبد القادر حاتم وزير الإرشاد القومي، قد أتصل بي تلفونياً ليقول : إن إذاعة منظمة التحرير قد بدأت تحمل على الأردن وقد طلب سيادة الرئيس وقف الحملة.
قلت :ليست هنالك حملة إطلاقاً .. إن الإذاعة تشرح مطالب المنظمة في الأردن - التجنيد الإجباري، تسليح القرى الأمامية، التدريب الشعبي، وهذه مطالب وطنية.. وانتهت المكالمة وهو يلح على وقف " الحملة" وأنا " ألح " على شرح مطالبنا، وفي اليوم التالي اتصل بي المسئول عن الإذاعة ليقول لي : إن مكتب الدكتور حاتم يطلب وقف " الحملة" على الأردن.. فأجبته بأن يستمر في شرح مطالب المنظمة، والإذاعة تحت تصرف المنظمة.. نحن ندفع للقاهرة (150) ألف جنيه إسترليني سنوياً أجراً عن الإذاعة. قل له إن المثل العام يقول :" الذي يدفع يركب" وانتهى الأمر بعد ذلك الحديث، بل بعد ذلك المثل.
أما الحادث الثاني فهو على نفس المنوال .. كنت عازماً أن أسافر إلى غزة لمناسبة ذكرى 15 أيار – قيام إسرائيل – وقد أعددت البرنامج الكامل لهذه الزيارة.. وقبل موعدها بيومين اتصل بي المشير عبد الحكيم عامر تلفونياً وهو يقول بصوت متهدج:
-  هل يمكن تأجيل الزيارة؟..
قلت هذه مناسبة وطنية – وقد أعلنت عنها- والشعب في غزة ينتظر هذا اليوم.
قال الظروف الحاضرة تطلب تأجيل الزيارة – ربما يحدث هياج ضد الملك حسين في قطاع غزة.
قلت : إذاعة صوت العرب، وصحف القاهرة، نهشت الملك حسين من الرأس حتى القدمين.
قال : الرئيس عبد الناصر يرى تأجيل الزيارة .. وأنت تعرف تأييد الرئيس للمنظمة، وتقديره الشخصي لك.
وانتهت المحادثة التلفونية، وأنا ألقي اللوم على نفسي وحدي : لماذا رضيت أن أتحمل هذا البلاء؟؟ ماذا سيقول الشعب في قطاع غزة؟.
ولكن الله قد أراد أن يصون كرامة القاهرة من هذا العبث .. وجاء الفرج عن طريق الغباء، غباء عمان، وحكام عمان.
وكان ما حدث، هو أن سفير الأردن في القاهرة السيد أنور الخطيب، أبرق إلى الملك حسين " يطمئنه " بأن زيارتي لقطاع غزة قد ألغيت، ونشرت صحيفة عمان المساء في اليوم التالي عنوانا ضخماً " الرئيس عبد الناصر يمنع الشقيري من زيارة قطاع غزة"..
وكان الفرج الكبير في هذا العنوان الخطير .. واهتزت القاهرة للخبر، ويا للفضيحة .. واتصل بي الحاكم العام لقطاع غزة الفريق العجرودي تلفونياً، ليقول لي من غير مقدمة ولا ديباجة، كأن شيئاً ما كان : " الطائرة ستكون تحت تصرفك غداً، لتنقلكم إلى العريش، حيث نكون بانتظاركم مع الشعب، والاحتفالات ستجري حسب البرنامج، وكل شيء تمام"..
وفي اليوم الثاني كنت في مطار الماظة بالقاهرة " وقر قول الشرف" من الضباط ينتظرني ليؤدي التحية لاستقل الطائرة " الفاخرة"، طائرة المشير عبد الحكيم عامر، وكان كل شيء فخماً رائعاً، البرامج والاحتفالات، والاستقبالات، والفضل من غير شك يعود إلى العنوان الفخم الذي نشرته جريدة " عمان المساء " وتذكرت القول المأثور " إن الله لينصر هذا الدين على أيدي رجال ليسوا من أهله ..
تلك كانت بعض مصاعبي في القاهرة، وكلها من وزن الريشة، وإنها لمصاعب يسيرة لا بد أن يجدها السائرون في درب النضال، بل إني أغتفرها، ذلك أنه لولا الجمهورية العربية المتحدة ولولا الرئيس عبد الناصر بالذات، لما قامت منظمة التحرير الفلسطينية، أقول هذا من غير انتقاص للشعب الفلسطيني ولا للعون السياسي والمادي الذي لقيته المنظمة من عدد من الدول العربية الأخرى ..
أما مصاعبي في الأردن فقد شهد عام 1965 مولدها ونشوءها، وستروي مذكراتي كيف استفحلت في الأعوام التالية :
ومرة ثانية، كانت سفرة الصين بداية الخلاف مع عمان، تماماً كما كان الحال مع القاهرة .. وإن تباينت الأسباب.
لقد أشعلت سفرة الصين حماسة الشعب الفلسطيني في الأردن، وهو يستمع إلى إذاعة المنظمة عن استقبال وفد فلسطين في الصين .. واللقاء مع ماوتسي تونغ وشوآن، والاحتفالات الشعبية الكبرى، والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلة للشعب الفلسطيني، وتأييد الكفاح المسلح لتحرير فلسطين... وتقديم السلاح إلى جيش التحرير .. وتدريب الضباط الفلسطينيين على حرب العصابات.
وكانت حكومة عمان تستمع إلى هذه الأخبار، فترتعد فرائصها من " خطرها" الشيوعي، ومن تعلق الشعب الفلسطيني بمنظمة التحرير .. ولعبت السفارتان الأمريكية والبريطانية دورهما في مضاعفة هذه المخاوف، الصحيحة منها والزائفة .. والصحيح فيها أندر من الكبريت الأحمر كما يقولون!!
وتفتحت فريحة السياسة الأردنية عن أسلوب "ذكي" في مواجهة هذا الموقف. لقد أعلن الملك حسين تأليف وزارة جديدة برياسة السيد وصفي التل لتحقيق برنامج " وطني " كبير في " دعم خط الدفاع الأول عن دنيا العرب وحشد طاقات الأمة للمعركة " وأمثال هذه العبارات الطافية على سطح البلاغة والفصاحة . وجاء في ختام البيان الوزاري:
" إنه لمن النقاط الرئيسية التي على الحكومة أن تلتزم بها في سياستها تجاه قضيتنا الأولى دعم منظمة التحرير الفلسطينية، والتعاون الوثيق معها، فنحن نقف إلى جانب المنظمة، ونؤيدها ونساند جهودها إلى أبعد الحدود".
واحتل البيان الوزاري صدر الصحف الأردنية تحت عناوين " شامخة" بألوان " صارخة" ودخل في روع الرأي العام أن الملك حسين قد أقتنع أخيراً بمنظمة التحرير الفلسطينية، وأنه لابد من مؤازرتها .. وكان عدد من الفلسطينيين المخلصين أن يدخلوا تلك الوزارة على أساس ذلك البرنامج..
وركب الملك حسين ورئيس وزرائه متن هذا المد الإعلامي الضخم، وركبت بدوري الطائرة إلى عمان .. لأكتشف ما يريده الملك حسين من العبارة الفخمة " تأييد منظمة التحرير إلى أبعد الحدود ..".
وصلت إلى عمان فوجدت الناس ولا حديث لهم إلا البيان الوزاري الذي أعلنته حكومة وصفي التل، حتى لقد خامرني الظن أن " انقلاباً " قد حدث في الأردن، وأن الملك حسين هو بطل الانقلاب !!
واجتمعت بالملك حسين في قصر بسمان وشكرت له ما ورد في البيان الوزاري من تأييد عظيم لقضية فلسطين، ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية، وقلت له : " لقد سمعت هذه الأخبار السارة وأنا في القاهرة، ورأيت من واجبي أن أسافر فوراً إلى عمان لوضع هذه السياسة موضع التطبيق . وأن المنظمة من جانبها مستعدة أن تبذل جهدها الصادق المخلص للتعاون مع الحكومة الأردنية في هذا السبيل".
وبعد حديث طويل ناشدت خلاله شباب الملك حسين وهاشميته ووطنيته وعروبته أن نتضافر على السير معاً في تقوية الجبهة الأردنية وحشد الطاقات جميعها في هذا الميدان، وأن المنظمة لا تطمع في سلطة أو حكم، وإن كل ما تتطلع إليه أن تكون جهازاً شعبياً يعمل بالتعاون مع الأجهزة الأردنية الرسمية في سبيل إعداد الأمة روحياً وعسكرياً لمعركة التحرير.,
وقال الملك : وماذا تريد المنظمة على وجه التحديد..
قلت : مطالبنا أربعة : التجنيد الإجباري – تسليح القرى الأمامية وتحصينها – إقامة معسكرات للتدريب- إنشاء فرق للدفاع المدني.
قال : وما شان المنظمة في هذه الأمور، هذه كلها من اختصاص الدولة ..
قلت : نريد أن نتعاون مع الدولة على تحقيقها، ونحن لا ننكر على الدولة اختصاصها، ونحن مستعدون أن نساهم مالياً ومعنوياً..
قال : سيكون هنالك تضارب بين المنظمة والحكومة..
قلت : أمامنا الوكالة اليهودية وإسرائيل، يتعاونان من غير تضارب بينهما، هذا مثل واحد، وإن كنت أكره هذا التشبيه..
قال : نحن لا نريد أن نفرق بين أردني وفلسطيني، وبين الضفة الغربية والشرقية ..
قلت : نحن طلاب وحدة من المحيط إلى الخليج، فكيف نفرق بين الضفتين، وكلتاهما وطن واحد اسمه فلسطين أو الأردن، ولا تفصل بينهما إلا ساقية صغيرة أسمها نهر الأردن.
وهنا دخل علينا السيد وصفي التل رئيس الوزراء، فعاد النقاش من جديد، وكان من" رقة " الرئيس التل أن حمى الحوار..
وقلت : لقد ذكرتم في البيان الوزاري إنكم تؤيدون منظمة التحرير الفلسطينية إلى أبعد الحدود .. هذا تعبير عظيم، ولكني أريد أن أفهم معناه ومداه ..
قال الملك : نظموا الشعب الفلسطيني في سوريا ولبنان والكويت وقطاع غزة ، أرسلوا وفوداً إلى الأمم المتحدة وإلى الدول الصديقة، اشتركوا في المؤتمرات الدولية لنصرة قضية فلسطين، ونحن مستعدون أن نؤيدكم في جميع هذه المساعي، هذا هو مجال نشاط المنظمة.
قلت : نحن نشكركم على ذلك.. هذا تأييد للمنظمة ولكنه " خارج الحدود" وليس إلى أبعد الحدود " في الأردن، كما جاء في البيان الوزاري.
قال : نحن لا نوافق على الازدواجية.
وتدخل الرئيس وصفي التل وقال : يا أخ أحمد .. لقد كنت رئيساً لي في المكتب العربي في القدس، وأنا لا أستطيع أن أجادلك، نحن الآن أمام ظروف صعبة ، إسرائيل تشن علينا غارات يومية " وأن سيدنا " لا يوافق على غارات " فتح" هؤلاء مخربون، إنهم يعرضوننا للاصطدام المسلح مع إسرائيل قبل الوقت الملائم، وإن سوريا تريد أن تفسد علينا خططنا، وهي التي تتبنى جماعة " فتح"، وما معنى نسف " عبَّارة " ووضع لغم في الطريق، نحن نستعد لمعركة كبرى .. وهذا هو رأي " سيدنا" باختصار.
قلت : هذا خروج عن الموضوع، أنا لا أبحث موضوع " فتح" ولا سوريا، وتستطيعون أن تكلموهم مباشرة في هذا الموضوع .. إني مهتم الآن بما ورد في البيان الوزاري، أريد أن أعرف كيف تؤيدون منظمة التحرير إلى " أبعد الحدود "...
قال الملك : هذا موضوع كبير سنتفاهم عليه مع الدول العربية في مؤتمر الدار البيضاء الذي سينعقد هذا الصيف (1965)؛ إن مؤتمر القمة الأول هو الذي أنشأ الكيان الفلسطيني، وسنطالب الملوك والرؤساء في مؤتمر الدار البيضاء لتحديد مهمات المنظمة ونشاطاتها، وانتهى النقاش على غير جدوى، وما أردت إلى ذلك العهد أن أصل في الحديث إلى درجة القطيعة، بل أحببت أن أبقي شعرة معاوية .. فإن الأردن بلدنا، وشعبنا شعبها، ولا بد من الصبر على المكروه .. المكروه الذي لا أراه من الشعب، ولكن من الملك ورئيس وزرائه..
وخرجت من الديوان الملكي إلى غرفتي اياها " 304" في فندق الأردن، في عمان.. وأقول إياها فإن " المخابرات الأردنية" كانت تتخذ الترتيبات اللازمة مع إدارة الفندق لكي أنزل فيها .. وقد اكتشفت فيما بعد أن في جدرانها أجهزة لاقطة وسامعة ومسجلة .. وحمداً لله فإن الأحاديث الهامة كانت تدور بيني وبين الأخوة الفلسطينيين على " الشرفة " خارج الغرفة، أما عبارات الثناء على "سيدنا " فكان يطلقها إخواننا الفلسطينيون داخل الغرفة ." ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين".
غير أني في هذه الغرفة، وردت على خاطري أفكار لم تستطع أجهزة المخابرات أن تسجلها، ذلك إني كنت أفكر في أن انتزاع السم من الأفعى، في حكاية أردني وفلسطيني، وهي الحكاية التي كان الملك حسين يرددها في خطبه وتصريحاته وأحاديثه .."
ورأيت أن خير وسيلة لذلك هي أن أضم إلى المنظمة إلى المنظمة نفراً من الأخوان " الأردنيين " وبهذا نقضي على " قميص عثمان" الذي يبكي عليه الملك حسين بمناسبة وغير مناسبة.
واتصلت بالسيدين نجيب رشيدات واللواء علي الحياري وهما من أبناء شرق الأردن، وعرضت عليهما أن يدخلا المنظمة، الأول عضواً في اللجنة التنفيذية، والثاني مديراً للدائرة العسكرية، وقبل الأردنيان ،الفاضلان هذا العرض .. وأعلنت ذلك في الصحف الأردنية .. وسرعان ما تحرك الملك حسين وأجهزته، لتهاجم هذه "العملية " الخاطفة .. وأوحى الرئيس وصفي التل إلى بعض الفلسطينيين والأردنيين، كل على حدة، لمهاجمة هذه " الدسيسة الشقيرية"..
فقال المأجورون الفلسطينيون : إن الشقيري قد هدم الشخصية الفلسطينية إن الكيان الفلسطيني يقوم على أبناء فلسطين .. إن إسرائيل هي التي تقول إن حدود فلسطين تشمل شرق الأردن، وقال المأجورون الأردنيون: إن الشقيري يريد أن يبتلع " الشخصية الأردنية" وسيصبح الأردن دولة فلسطينية لأن أكثرية الأردن من الفلسطينيين.
وقال الملك حسين والرئيس التل : نحن حريصون على بقاء الطابع الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية، فذلك أنفع في الأمم المتحدة!!
وكان حوار، وكان جدال، وصل إلى الصحف والبيوت والشوارع والمقاهي .. وأشتد الضغط على السيد نجيب رشيدات واللواء الحياري .. فاضطرا إلى الاستقالة كارهين، واستطاعت الحكومة الأردنية إفشال هذه التجربة الوحدوية الرائدة .. ولو أفلحت هذه المحاولة لجنبت النضال الفلسطيني كثيراً من المتاعب التي خاضها فيما بعد، وما يزال غارقاً فيها إلى يومنا هذا، وسيظل، وسيظل..
وقبل انتهاء زيارتي للأردن، عقدت مؤتمراً صحفياً في مقر المنظمة في بيت المقدس أعلنت فيه بصورة هادئة أن المنظمة ترحب بالبيان الوزاري الذي أعلنته حكومة وصفي التل وتتطلع إلى تحقيقه، وأن تأييد المنظمة إلى أبعد الحدود، ليس له إلا معنى واحد، وهو الاستجابة لمطالب المنظمة الأربعة : التجنيد – التدريب – تسليح القرى الأمامية – الدفاع المدني..
وخرجت في اليوم الثاني إلى دمشق، ومعي صحف الصباح، والمؤتمر الصحفي الذي عقدته، محشوراً في ثلاثة أسطر بين الإعلانات عن " أحذية باتا " و " بيرة أمستل " .. ومسكينة أنت يا منظمة التحرير ، ومسكينة أنت يا قضية فلسطين..
وصلت دمشق وأنا أدعو الله أن تكون مصاعبي فيها أيسر مما لقيت في عمان .. وعللت نفسي بالدعاء إلى الله أن لا ألقى فيها شراً، إذا لم أجد فيها خيراً ..
ولكني وجدت الشر كل الشر ..وكان أول ما لقيت كلاماً مبتذلاً في صحف دمشق عن "محاولة الشقيري تصفية المنظمة وتسليمها إلى الملك حسين" .. وتمت لي لقاءات مع قادة حزب البعث * وسألت : ما معنى هذا الكلام وما سببه؛ فقالوا كلاما مغمغماً، مغلفاً بالشعارات، وثورية الكلمات!!
ولكني سمعت تلك الليلة ما هو أوضح من ذلك (15/6/1965)؛ سمعت تعليقاً من إذاعة دمشق " بأن الشقيري عميل لعبد الناصر، وأنه موظف في المخابرات المصرية، وأنه يحاول أن يمد أصابعه إلى قوات " العاصفة" لإجهاضها تحت ستار المفاوضة للوصول إلى ما يسمى " بالوحدة الوطنية ومن ثم جرها إلى المواقع السلبية " .. واجتمعت باللواء أمين الحافظ والدكتور منيف الرزاز ، وغيرهما من زعماء البعث آنذاك، لأنفي عن نفسي هذه التهمة المضحكة، وشر البلية ما يضحك..
قلت لهما : إن لهذا الموضوع حكاية، أرى من واجبي أن أقصها إليكما .. حينما انعقد المجلس الوطني الفلسطيني في القاهرة في دورته الثانية( أيار 1965) ثارت ضجة كبرى بين الأعضاء بشأن العمل الفدائي .. وكانت السلطات الإسرائيلية قد قبضت على المناضل الفلسطيني محمود بكر حجاز، وهو من رجال " فتح"؛ وكان بين أعضاء المجلس وخاصة ممثلي الضفة الغربية ما يشبه الإجماع بأن العمل الفدائي سابق لأوانه وأنه يجب أن يكون، أولاً، مدعوماً ومنسقاً مع الجيوش العربية، حتى لا تتعرض القرى الأمامية في الأردن لإرهاب القوات الأردنية .. وقد عارضهم في الرأي أعضاء آخرون يمثلون "فتح" أو يعطفون عليها .. وثار جدال عنيف حول الموضوع، وصاح ممثلو الضفة الغربية في وجه ممثلي فتح وقالوا لهم : تعالوا إلينا وعيشوا معنا في القرى الأمامية .. لا أن ترسلوا الفدائيين وأنتم تعيشون في بيروت، بعيدين عن الغارات الإسرائيلية".
وكاد أن يقع التلاحم بالأيدي بين الفريقين، وتدخلت بوصفي رئيساً للمجلس الوطني، وأعلنت سرية الجلسة، وطلبت من الصحفيين مغادرة القاعة.. وألقيت بيانا مطولاً حول العمل الفدائي، أكدت بطولته ومزاياه وأثنيت على محمود بكر حجاز، وأنه بطل فلسطيني قبل أن يكون من رجال " فتح"، وأننا في المنظمة قد اخترنا المحامي الفرنسي ( فرجس) ليتولى الدفاع عنه أمام المحكمة الإسرائيلية، وكان قد سبق له أن دافع عن الأبطال الجزائريين أثناء حرب التحرير الجزائرية .. وقلت في النهاية إن العمل الفدائي له خطورته وسريته، ولا يجوز أن يناقش في جلسة عامة، وأن علينا أن نمد الأبطال الفلسطينيين تحت أية راية سقطوا .. وأن خير ما يتخذه المجلس الوطني من قرار في هذا الموضوع هو " تفويض رئيس المجلس الوطني بأن يقوم بالمساعي اللازمة لتوحيد المنظمات الفدائية" وما أن طرحت هذا الرأي حتى قابله المجلس الوطني بالتصفيق الإجماعي، وانتهت الأزمة عند هذا القرار...
واستأنفت حديثي إلى السيدين الحافظ والرزاز متسائلاً .. وهل توحيد العمل الفدائي خيانة، وهل الوحدة الوطنية خيانة..
فقالا : إن دخول العاصفة ( وهي الجناح العسكري لمنظمة فتح ) إلى المنظمة من شأنه أن يجهض العمل الفدائي .. المنظمة جهاز علني، والعمل الفدائي يجب أن تصان له سريته .
قلت : هذا صحيح، ولكن يمكن أن يقوم تنسيق بين المنظمة والعاصفة، وبصورة سرية ..
قالا : وكيف ذلك ؟
قلت : لقد سبقتنا إسرائيل إلى ذلك في زمن الانتداب، كان هنالك تعاون كامل بين الوكالة اليهودية والمنظمات الإرهابية اليهودية.. فلم لا نفعل مثل أعدائنا..
قالا : إن المنظمة غير ثورية..
قلت : وما هو تعريف الثورية. نحن لا نلعب ولا نعبث .. لقد أنشأنا جيشاً، وبعض كتائبه عندكم .. وقد أرسلنا بعض ضباطنا إلى الصين ليتدربوا على حرب العصابات .. أليست هذه أعمالاً ثورية .. إذا كانت الثورية خطبا فأنا أخطب منكم جميعاً .. وإذا كانت جيشاً وسلاحاً فإن جيشنا وسلاحنا عندكم.
وانتهى الحديث على غير اتفاق، وإن كانت الأمانة تقتضي أن أقول بأن اللواء الحافظ كان أكثر انفتاحاً على المنظمة ولم يكن أسير الشعارات والكلمات ..وقد ازداد انفتاحه على المنظمة في فترات لاحقة،حتى أصبحن سندها الوحيد في أوساط حزب البعث .. ولكن اللواء الحافظ كان يصارع من أجل سلطاته، وصارع فيما بعد بالسلاح من منزله، بكل شجاعة، ولكن القوة غلبت الشجاعة وغلب الحافظ على أمره، وخرج من البلاد!!
غير أن زيارتي لدمشق في تلك الفترة، لم تكن حواراً فكرياً فحسب، فقد صادفت مصاعب عملية، تتصل بأعز ما عملت له منظمة التحرير الفلسطينية وأعني بذلك جيش التحرير.
زرت معسكراتنا في درعا، لأتفقد شئون ضباطنا وجنودنا، وكنت كلما وصلت إلى دمشق أبادر إلى زيارة قوات جيش التحرير، فأخطب فيهم ، وآكل معهم، وأتناقش معهم وكم كنت أتمنى لو تكون لي غرفة في معسكراتهم لأبيت عندهم، بدلاً من أن أبيت في فندق أمية الجديد حيث أسمع الجدل العقائدي وما إلى ذلك من كلام لا يتطلب جهداً إلا تحريك اللسان.
واختلى بي الضباط الفلسطينيون ليشكوا إليَّ من تدخل القيادة القديمة لحزب البعث في شئون جيش التحرير.
قالوا : لقد طلبت رياسة الأركان السورية فصل سبعة من ضباط جيش التحرير ..
قلت : وما هو السبب، هل هنالك تصرف مسلكي شائن، هل هنالك تدخل م جانبنا في الأمور الداخلية في سوريا .. هل هنالك سبب معقول ؟
قالوا : ليس هنالك أي سبب .. إن ذنب هؤلاء الضباط السبعة أنهم غير بعثيين، وتريد رياسة الأركان السورية أن تعين مكانهم سبعة من الضباط البعثيين.
قلت : وهل لكم شكاوي أخرى؟
قالوا لنا شكوى أخرى، نرجو أن تعالج قبل أن تغادر دمشق ..
قلت : ما هي، خيراً إن شاء الله .. أرجو أن أكون قادراً على معالجتها ..
قالوا : رئاسة الأركان السورية قررت فصل أثنى عشر فلسطينياً التحقوا بكلية الضباط في حمص .
قلت : ( ضاحكاً ) هل يفصلون لأنهم بعثيون؟
قالوا :( وهم يقهقهون) لا .. بل أنهم من جماعة القوميين العرب.., وأن بينهم فيصل ابن الشهيد عبد القادر الحسيني .. فإذا أرادت سوريا أن تفصلهم، فنرجو إبقاء " فيصل " من أجل خاطر والده البطل..
وخرجت من معسكر درعا وأنا لا أبصر طريقي، فقد تركت ورائي عمان، وهي تريد أن تلقي المنظمة خارج الحدود، وها أنا الآن في دمشق عميل لعبد الناصر ..ولا أدري كيف الخروج من هذه التناقضات، وأصبحت مثل ذلك العاشق الذي يقول :
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
وذهبت إلى رياسة الأركان السورية، واجتمعت بكبار الضباط وبينهم اللواء أحمد سويداني .. واستغرقنا في حديث طويل عن جيش التحرير الفلسطيني في درعا، وقال إن الجيش أصبح مجموعة منظمات وخلايا، وأن سوريا لا يمكن أن تقبل بهذا الوضع الذي قد يهدد أمنها وسلامتها .. وركز بعض الضباط السوريين على أن عناصر معينة في جيش التحرير الفلسطيني تقوم بدعاية ناصرية، وأن الدولة لا تستطيع أن ترضى بحكومة داخل حكومة.
وقلت من جانبي إن هذه المعلومات غير صحيحة إطلاقاً، وإن عناصر الجيش، ضباطاً وجنوداً ، غير منتسبين إلى أحزاب، وإني حريص أن يكون الجيش بعيداً عن الحزبيات والعقائديات.
قالوا : الحزبية ليس لها أن تتسرب إلى الجيش، ولكن الجيش يجب أن يكون عقائدياً..
قلت : لقد كنت كل حياتي عربياً حراً مستقلاً، وأريد جيشاً أن يكون كذلك .. وأنا لا أوافق أن يكون الجيش عقائدياً في إطار المعاني الحزبية.. الجيش يجب أن تكون له عقيدة واحدة .. إيمانه بأمته وعروبته وبمعركة التحرير، وكفى ..
قالوا : على كل حال .. نحن نريد من المنظمة أن تفصل الضباط السبعة، فنحن لا نستطيع أن نتعاون معهم.
قلت : وما ذنبهم .
قالوا : إنهم يقومون بدعاية معادية للحزب والدولة .
قلت : نشكل هيأة تحقيق للنظر في الشكوى، فإن ثبتت عليهم التهمة فصلناهم.
قالوا : لا بل يجب فصلهم فوراً .. وهل تستطيعون أن تفرضوا على مصر ضباطاً في جيش التحرير يقومون بدعاية ضد عبد الناصر.
قلت : لو طلب مني عبد الناصر أن أفصل أحداً من ضباطنا، لقلت له يجب أن نحقق أولاً ..
قالوا : إذن، سنعتقلهم..
قلت : وسأعلن حل الجيش في سوريا!!
وهنا تأزم الموقف، وهممت بالانصراف، ووقف بعض الضباط في وجهي، وهم يحاولون تهدئة الموقف.
واستأنفت حديثي وسألت : وما هو موضوع الأثني عشر فلسطينياً الذين التحقوا بكلية الضباط في حمص، لماذا أخرجتموهم؟
قلت : إن القوميين العرب ليسوا على مودة مع منظمة التحرير الفلسطينية إنهم لا يتركون فرصة إلا ويحملون على المنظمة، ولكني مع ذلك أرحب بكل من يريد منهم أن يكون ضابطاً، أو يتدرب على حمل السلاح، أريد أن أجعل ولاءهم للشعب قبل ولائهم للحزب ..
قالوا : إن موضوع هؤلاء الشباب قد انتهى، ولا سبيل إلى الرجوع فيه لأننا قد أتخذنا قراراً بالإجماع في هذا الموضوع.
قلت : وفيصل، أبن الشهيد عبد القادر الحسيني؟؟
قالوا : سنعيده إلى الكلية على مسئوليتنا، ولكن نرجو أن تحذره من القيام بأية دعوة عدائية ضد الحزب.
ورأيت أن مثلي لا يصح له أن يستمر في الحوار مع هؤلاء الضباط " العقائديين" ولا شك في وطنية هؤلاء الضباط وإخلاصهم، ولكن أكبر مساوئ هذا النوع من الحزبية، أنها مغلقة على غيرها، ولا تريد أن تقنع، ولو استمر الحوار إلى يوم القيامة، بل لعل القيامة وحدها هي التي تريحنا من هذا الحوار..
وخرجت من رياسة الأركان، وأنا نادم على ما أنفقت من الجهد والوقت وأنا أردد قول المتنبي:-
ومن البلية عزل من لا يرعوي
عن جهلة وخطاب من لا يفهم

ورحم الله المتنبي رحمة واسعة .. كم أسعفني حين كانت تضيق الدنيا في وجهي وأنا " أتعامل " مع الملوك والرؤساء.
وصلت إلى الفندق وأنا أكاد أتقيأ من الحوار في رياسة الأركان، لأجد نفسي في حوار من نفس الطراز، ولكن في موضوع آخر ..
وجدت ثلاثة شبان فلسطينيين في انتظاري، ولم أكن في حاجة إلى فراسة كبيرة لأدرك من تعابيرهم وألفاظهم، إنهم جدليون إلى الأذقان .. فذكروا لي أسماءهم، ومن الخير أني نسيتها ونسيتهم..
بدأ الحوار حول ثورية المنظمة، فقالوا إنها يجب أن تمثل العناصر الثورية فقط، وأن المنظمة قد أصبحت بيد الملك حسين، وإن إدخال عناصر أردنية إلى قيادة المنظمة سيجعلها بيد الحكومة الأردنية.
وأخرج واحد منهم من جيبه، قصاصة من جريدة البعث في دمشق، وهي لسان حال الحزب، وقرأ منها خطاباً للدكتور منيف الرزاز الأمين العام لحزب البعث، ألقاه في جامعة دمشق ودعا فيه " أن تكون منظمة التحرير منظمة ثورية لا منظمة تمثل، مثل منظمة الشقيري"...
ثم عاد هذا الشاب وأخرج من جيبه قصاصة أخرى من جريدة الأحرار في بيروت وهي لسان حال البعثيين في لبنان، وتقول القصاصة: إن ضم السيد نجيب أرشيدات واللواء الحياري إلى المنظمة هو محاولة رخيصة من جانب الشقيري للتقرب من الملك حسين.
قلت : لقد حرت في أمري معكم يا شباب البعث .. أسمع منكم مرة أني عميل لعبد الناصر، ومرة أخرى أني أريد أن أتقرب من الملك حسين .. هلاَّ استقام فكركم على واحدة .. ثم أنكم تناقضون أنفسكم بأنفسكم..
قالوا : كيف؟
قلت : إن رسالة البعث، أمة عربية، واحدة، وشعاركم الوحدة .. وإني أعتبر نفسي بعثياً إيماناً بهذا الشعار، فمالي أراكم تعترضون على ضم أردنيين أثنين إلى منظمة التحرير .. ولو إنكم تعرفون تاريخ بلادكم حقاً، لأدركتم أن " إمارة شرق الأردن" قد صنعها المستر تشرشل في أوائل العشرينات(1).
قالوا : نحن لا نبحث في التاريخ .. نحن نتكلم عن الحالة الحاضرة، عن الأمر الواقع..
قلت : أمة بلا تاريخ ليست لها حياة .. وإذا كان الأمر الواقع هو مقياس تفكيركم، فهذه إسرائيل أمامكم، إنها تمثل الأمر الواقع.
ودخل علينا أحد موظفي مكتب المنظمة ليقول لي إن السيارة جاهزة، وأن موعد سفر الطائرة إلى بغداد قد أزف.. وحمدت الله إن هذا الحوار قد بلغ منتهاه، ولا يحمد على المكروه سواه.
وكان سفري إلى بغداد لمعالجة المشاكل نفسها التي تتمرس بها المنظمة في أرجاء الوطن العربي ..
وقد دخلت إلى جناح مريح في فندق دجلة في بغداد، وأنا أحسب أنني قد أصبحت بعيداً عن دمشق وعن حوار الأخوة البعثيين، ولكني فوجئت تلك الليلة بغير ذلك، فقد " غزاني " البعث السوري وأنا على ضفاف دجلة فقد فتحت إذاعة دمشق في موعدها، على عادتي فاستمعت إلى اللواء أمين الحافظ، يخاطب في مهرجان شعبي (2/6/1965) يتحدث عن مؤتمر القمة والإسكندرية، ويعرض بالرئيس عبد الناصر " الذي يزعم أنه من رواد القومية العربية .. الذين أرادوا من مؤتمر القمة أن يستروا ضعفهم وترددهم وإهمالهم . ولكن فليعلم من يتصدى للقيادة ومن يدعي الثورية أنه يجب أن يكون أهلاً وإلا فعليه أن يتخلى .. لقد قلت للرئيس عبد الناصر أن لك صفات طيبة ولكن لك أخطاء .. وبالنسبة لمنظمة التحرير نحن نقف بجانبها .. ناور على المنظمة من ناور بعد أن وجدت، قلنا للشقيري هذه المنظمة يجب أن تضم ما أمكن من الفئات الفلسطينية.. " وقد استمعت إلى هذا الكلام الظالم، وأنا على معدة فارغة، ولكنني لم أستطع أن احتمل الخطيب الذي جاء بعده، وهو السيد منيف الرزاز أمين عام حزب البعث، وهو يعلن : " لو كان عبد الناصر يؤمن بجدوى الشقيري وزمرته بديلاً عن الجماهير العربية الثورية للشعب الفلسطيني لكان له العذر كل العذر .. لقد شكك الحزب في ثورية منظمة التحرير وجدوى قيادتها"...
استمعت إلى هذا الكلام، وأنا أستعجل الصباح، فقد بكرت إلى السفارة السورية في بغداد، وأبرقت إلى قيادة الحزب أطلب " برنامجاً تفصيلاً لأطبقه في جعل المنظمة ثورية " ولم يصلني جواب على برقيتي، يفضي بهذا الحوار إلى نهاية كريمة عاقلة ..
ومن السفارة السورية ذهبت إلى القصر الجمهوري لأرى أي مشكلة تنتظرني ولكن مشكلتنا في العراق هذه المرة على يسرها وطرافتها فأنها لا تخلو من الغرابة البالغة.
اجتمعت برئيس الجمهورية المشير عبد السلام عارف، ورئيس والوزراء الفريق طاهر يحيى، ووزير الدفاع اللواء شكري؛ وكدت أبيح لنفسي أن أضحك ساخراً، كما سخر الماجنون والفاجرون في العراق أيام الخلفاء العباسيين، فقد سمعت أمراً عجبيبا :
قالوا : إن كتيبة القادسية، وهي قوات جيش التحرير الفلسطيني في العراق، قد أصدرنا إليها الأوامر بالانتقال إلى معسكر يبعد عن بغداد تسعين كيلوا متراً، لمدة ثلاث أشهر، ريثما تتم إجراءات التحقيق.
قلت : وما هي إجراءات التحقيق؟
قالوا : لقد وصلتنا أنباء موثوقون من المخابرات العسكرية العراقية تفيد بأن عناصر بعثية مندسة بين ضباط جيش التحرير الفلسطيني كانت تعتزم التحرك في اتجاه بغداد للاشتراك في مؤامرة على الحكم في العراق.
قلت : ما أشقى الشعب الفلسطيني وأتعسه .. كنت في عمان فقالوا إن منظمة التحرير جهاز مصري؛ وسافرت إلى دمشق فقالوا إن الشقيري سلم المنظمة للملك حسين.. وها أنا في بغداد أسمع منكم أن جيش التحرير فيه عناصر بعثية تدبر خطة للقيام بانقلاب في العراق .. فلم يبق أمامنا إلا أن نلقي بالشعب الفلسطيني في البحر، ليستريح وتستريحوا.
وذهبت في صحبة وزير الدفاع اللواء شاكر محمود شكري، إلى شعبة المخابرات العراقية لنطلع على التقارير السرية التي ألصقت هذه التهمة بجيش التحرير الفلسطيني.
وفتح مدير الشعبة الملفات، وأخذ يقرأ التقرير الوارد من دمشق ويشير بأن " حزب البعث يحاول أن يتصل بالضباط الفلسطينيين في دمشق، ليتصلوا بزملائهم في بغداد ليدخلوا حزب البعث "..؟
قلت : يا أخي .. ولنفرض أن هذا التقرير صحيح، فأين المؤامرة وأين محاولة الانقلاب؛ كل ما في هذا التقرير هو انضمام الفلسطينيين إلى حزب البعث ، هذا إذا صدق الراوي ..
فقال المدير : آغاتي، بسلامتك ، بوداعتك، هذه أخبار مظبوطة؛ إلى آخر هذه العبارات العراقية..
وأحس وزير الدفاع اللواء شاكر إن مدير " المخابرات " تعوزه المخابرات الدقيقة، فأنهى المناقشة؛ وذهبت معه إلى مكتبه في وزارة الدفاع، ذلك المكتب البلوري الحصين الذي كان أعده الرئيس العراقي عبد الكريم قاسم لنفسه، ليعتصم فيه، يوم لا عاصم من أمر الله ..
واستدعى اللواء شاكر مدير مكتبه، وأملى عليه أمراً عسكرياً بأن " تعود قوات القادسية الفلسطينية إلى ثكناتها في معسكر الرشيد فوراً ". وانتهت الأزمة بلطف الله ورحمته !!
وخرجت من وزارة الدفاع بكل مظاهر الحفاوة، والحرس يرفعون بنادقهم على أكتافهم في حركة عصبية، يضربون الأرض بأحذيتهم العسكرية، ضربات قوية تتكسر أصداؤها على جدران المداخل والمعابر..
وقضيت أياماً في الفندق أستقبل الأخوة العراقيين والفلسطينيين في الحديث الرتيب إياه، عن تحرير فلسطين، كيف يكون، ومتى يكون؟.
وفي صبيحة يوم تألقت فيه شمس بغداد، وسطعت الزرقة الصافية في سمائها السامية، خرجت إلى معسكر الرشيد لأشهد المشهد الذي لا أنساه طيلة عمري؛ لو أني نسيت ذلك المشهد الرفيع ..
وصلت سياراتنا إلى أرض فضاء، لنشهد النسور الفلسطينيين وهم يهبطون من الجو بالمظلات .. وكانت هذه هي النواة الأولى لكتيبة المظليين الفلسطينيين بدأ المدرب العراقي يشرح لنا " العملية" بمراحلها المختلفة؛ كانت آذاننا معه، ولكن أبصارنا كانت مجذوبة إلى الفضاء، ورؤوسنا مشدودة إلى السماء، ننتظر الطائرة التي تحمل جنودنا البواسل .. أبناء فلسطين الأبطال..
وتقبلت أبصارنا في كل اتجاه، وسمعنا أزيز الطائرة، ووثبت قلوبنا من صدورنا .. ولم يكن مثل هذا المشهد غريباً عليَّ، فقد رأيته كثيراً في الاستعراضات العسكرية؛ ولكني أراه الآن فريداً منقطع النظير .. إنهم الفلسطينيون، اللاجئون، المشردون، أولئك الذين كانت تظللهم الخيام، وهم الآن يتحزمون بالمظلات، ليهيئوا أنفسهم لليوم الموعود، للهبوط فوق مدنهم وقراهم التي تحتلها إسرائيل ..
سرت هذه الخواطر سريعة في ذهني، وبدأ المظليون الفلسطينيون يقفزون من الطائرة، ويتساقطون في الهواء، ثم ينشرون مظلاتهم، ويترنحون هابطين، وقد أمسكنا أنفسنا، نود لو نرسل إليهم عزمنا وبأسنا، حتى يصلوا إلى الأرض سالمين.
واقترب نسورنا من الأرض، ونزلوا عليها برفق ودعة، وراحوا ينهضون من تحت المظلات وحبالها...ورحت إليهم وقد سبقتني ذراعاي أضمهم وأقبلهم، وأبلل جباههم بدموعي؛ وكأنني في يوم العودة، فرحتي في بكائي..
كانوا عشرة .. وقفت معهم واحداً واحداً، وسألتهم: من أية مدينة، من أية قرية، من أية عائلة؟؟ متى نزحت، وكم كان عمرك يوم نزحت، وما هي ذكرياتك عن بلدك؟؟
وجاء دورهم بالأسئلة .. وقفت حائراً أمام السؤال الحائر : متى نعود إلى فلسطين ؟؟ وأعادوا السؤال : متى نعود إلى فلسطين؟..
فقلت : نعود إلى فلسطين حينما تهبطون بمظلاتكم على فلسطين، ومن ورائكم كتائب التحرير .. واختزلت الحديث عن هذا الجواب المختزل..
وشكرت الضباط العراقيين المدربين، وصافحت نسورنا البواسل، وانطلقت بي السيارة إلى بغداد، وقد ربطتُ على نواصيهم آمالي، وآمال شعب بأسره.
ولكن فرحتي لم تدم طويلاً، فقد زارني وفد من أبناء فلسطين عشية ذلك اليوم، ونقلوا إلي نبأ أزعجني، لقد أخبروني بأنهم سمعوا الإذاعة السعودية عند الظهيرة لتعلن على لسان متحدث رسمي باسم وزارة الخارجية بأن المملكة العربية السعودية " ستتوقف عن دفع التزاماتها للمنظمة ولجيش التحرير، لأن السيد أحمد الشقيري بعد زيارته للصين قد أرسل كتائب من الفلسطينيين إلى فيتنام، ليحاربوا إلى جانب الفيتكونج، بدلاً من أن يخوضوا معركة التحرير في الوطن ..".
وقضيت الليلة أتقلب ذات اليمين الشمال على فراشي، لا كما تقضي ليالي بغداد في السرور والحبور .. ونهضت في الصباح، إلى حلاقتي وطعامي، ولا أعرف ماذا أكلت وكيف لبست.
وانطلقت بي السيارة إلى السفارة السعودية أقفز على درجاتها في جو عاطر من أريج القهوة السعودية، وفاجأت السفير الشيخ عبد العزيز الكحيمي مسلماً محييا ..
- الله بالخير.
وقال : أنا عاتب على الخارجية العراقية، إنها لم تخبرنا بموعد وصولك إلى بغداد .. لنكون في استقبالك، إن تكريمك هو تكريم الشعب الفلسطيني.
قلت : إن تكريمي هو أن تبرق لي هذه الرسالة إلى جلالة الملك فيصل " وتطرزها" من عندك بالمقدمة والخاتمة .. وكان نص البرقية " جلالة الملك فيصل حفظه الله .. لا صحة إطلاقاً لما ذكرته الإذاعة السعودية عن إرسال جنود من جيش التحرير إلى فيتنام، وأرجو أن تأذنوا لي بزيارتكم، ونحن نرضى بلجنة تحقيق تختارونها جلالتكم للتأكد من الأمر، وحاشا لله أن يموت أبناؤنا خارج وطنهم، وتقبلوا فائق تحياتي.
تسلم السفير السعودي مني البرقية، وهو يقول :
-  أبشر، أبشر، يا شيخ أحمد، هذه خدمة بسيطة لفلسطين، ونحن لا ننسى مواقفك في الأمم المتحدة بالنيابة عن السعودية.. اللاسلكي مفتوح اليوم مع الرياض، وسنرسل البرقية فوراً، وآمل أن نحصل على الجواب اليوم مساء أو غداً صباحاً، والله ما يتأخر عن خدمة فلسطين وشعب فلسطين".
ونعمت بالقهوة السعودية وبدماثة السفير، وعدت إلى الفندق، وسألت الاستعلامات عن مواعيد الطيران للسعودية .. فقد كنت على مثل اليقين إني سأتلقى جواب الملك فيصل بين عشية وضحاها .. للترحيب بقدومي..
ومضى اليوم الأول والثاني من غير جواب .. واتصلت بالسفير السعودي ورجوته أن يرسل تأكيداً، فقال :
-  التأكيد غير مناسب .. إن طويل العمر لا بد أن يكون خارج الرياض.
قلت : أتظن أنه ذهب إلى القنص، فأنا أعرف أنه يحبه ..
قال : لا .. جلالة الملك لم يعد يذهب إلى القنص بعد أن تولى الملك.
قلت : إذن .. ماذا تتصور أن يكون السبب .. لقد طلبت زيارة جلالته وتقضي التقاليد العربية أن لا يرد سائل ..
قال : لا داعي للعجلة . وإذا جاءني جواب فسأتصل بكم فوراً ..
ومضى يومان آخران، فلم يتصل بي السفير، ورأيت أن أصون ما ء وجهي وكم أرقت وجهي من أجل فلسطين، فلم أتصل به وما شئت أن أحرجه.
وطلبت من الاستعلامات في الفندق أن يحجزوا لي مكاناً في أول طائرة إلى القاهرة بدلاً من الرياض، وأنا أترحم في نفسي على التقاليد العربية في الجزيرة العربية وطن المروءات والنخوات .. وترحمت على الملك عبد العزيز آل سعود الذي كان يبالغ بالحفاوة بأعدائه قبل أعوانه.
وصلت إلى القاهرة ،ومن المطار اتصلت بمدير إذاعة منظمة التحرير وطلبت إليه إن يوافيني إلى منزلي .. ووصلناه معاً .. وأمليت تصريحاً باسمي أنفي بشدة أن يكون لنا أي جنود في فيتنام، وإننا نقبل بتحقيق من قبل الجامعة العربية أو أية دولة عربية بمفردها .. وقال لي المدير: الا نشير إلى تعليق الإذاعة السعودية .
قلت : لا تذكر السعودية من قريب أو بعيد، ولا الملك فيصل .. أنا حريص أن لا يقوم بيننا وبين السعودية أي حوار مهما كان هادئاً، حتى لا يظن أحد أني أريد أن أتحرش بالملك فيصل بسبب خلافي معه على قضية اليمن يوم كنت أمثل السعودية في الأمم المتحدة .. وفوق هذا وذاك فأنا حريص على توطيد أحسن الصلات مع السعودية، فأنها تستطيع، إذا أرادت أن تؤدي خدمة كبرى للقضية الفلسطينية سياسياً ومادياً ومعنوياً، ويكفي أن ننفذ إلى العالم الإسلامي عن طريق الحج، إذا كان الملك فيصل راضياً عنا".
واستمرت إذاعة منظمة التحرير تردد هذا التصريح في نشراتها الثلاث على مدى ثلاثة أيام، وكانت الإذاعة المفضلة لدى الجماهير العربية، وتأتي بعدها إذاعة صوت العرب والقاهرة .. وهذا ما قاله لي الرئيس عبد الناصر غير مرة.
ولم نكتف بالإذاعة، بل أرسلنا مذكرة من مكتب المنظمة إلى الجامعة العربية، ووزارات الخارجية العربية، بنص التصريح، وأضفت إليه أننا في الواقع قد أرسلنا عدداً من ضباطنا إلى الصين الشعبية، لا إلى فيتنام، وذلك ليتدربوا على حرب العصابات.
ولكن ذلك كله لم يقنع الملك فيصل، فقد دأب في مجالسه يتحدث بهدوئه ووداعته المعروفين بأن " الأخ أحمد له خدمات في القضايا العربية " ولكنه مع الأسف يميل للشيوعيين، وفي زيارته الأخيرة للصين أعلن تضامنه مع المبادئ الشيوعية . وأخيراً أرسل جيش التحرير إلى فيتنام عوضاً عن أن يحارب في فلسطين .. " ذلك ما نقله إلي واحد من أصدقائي السعوديين الكبار لا أبيح لنفسي أن أذكر اسمه خشية أن تلفه " الحرية " السعودية بذراعيها العطوفتين !!
تلك كانت بعض مصاعبي في مهدها، مع بعض العواصم العربية .. وسأعود إليها في سياق مذكراتي، فقد تضاعفت هاتيك المصاعب مع دورة الزمن*.
وكانت الحصيلة في كل ذلك، إني قضيت أيامي وأعوامي في منظمة التحرير، وفي عنقي ثلاثة عشر حبلاً، يمسكها ثلاثة عشر ملكاً ورئيساً.

وما أشد أن يقع المرء في حلبة الصراع، حين يكون المتصارعون هم الملوك والرؤساء، وأنكى من ذلك كله أن تكون الضحية قضية فلسطين، وأن يبتلى شعب فلسطين بهذا البلاء ..
" إن هذا لهو البلاء المبين "
صدق الله العظيم

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

10 من الزوار الآن

917333 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق