الصفحة الأساسية > 6.0 فلسطيننا > الشهداء والأسرى > إطلاق المشروع النضالي للحركة الأسيرة
" إن الانتصار في معارك الحركة الاعقتالية ليس انتصاراً عضلياً، إنه انتصار قوة الإرادة فقط أمام إرادة القوة، ولعل أقسى أنواع الانتصارات يجيء حين تكون أعزلاً من كل سلاح، إلا من هذه الإرادة، فلا بد أن تنتصر بها، وعليك أن تنتصر بلحمك العاري، ولم يكن ذلك بالأمر البسيط علينا".
لعل هذا القول الساخر من قوة الحديد، وبطشها الضاري، يرشدنا الى بداية الطريق الامثل للدخول الى عالم عبد العزيز شاهين، والى الامساك بطرف خيط أخر لسبر غور أعماقه، كقائدا ومؤسسا لحركة المقاومة الاعتقالية داخل السجون الإسرائيلية، لنكتشف لاحقا بان تمكن أبو على شاهين من الإبداع في بناء وتأسيس حركة المقاومة الاعتقالية كان محصلة لحالة عشق مختلفة ونادرة بين الفكرة ومصممها ، فتعامل أبو على مع فكرة بعث الحركة الاعتقالية المقاومة ، كمولود أنجب على راحتيه ، وغراس خضر أورقت بين يديه أسقاها من فيض فكره المتدفق ، المعزز بعشرات الأفكار والمواقف المساندة والداعمة له من مئات الاسرى والمناضلين داخل قلاع الأسر ، الى أن اصلب عود تلك الغراس واستوت على سوقها ، فكانت غلالها طيبة من نبع ومنبت طيبان أورث الحركة الأسيرة انتصارات تلو أخرى مكللة بالدم والعرق.
على هذا النحو كانت علاقة أبو علي شاهين بالحركة الأسيره، ولعل أبو علي قدم لنا بهذا البوح الإنساني الجياش تفسيراً ما لحالة التدفق الهائل في عطائه التي عاش تفاصيلها منذ اللحظة الأولى لدخوله الأسر إلى اللحظة الأخيرة لوجوده فيه، طوال الخمسة عشر عاماً التي أمضاها في سجون الاحتلال، لقد كان أبو على شاهين وفقاً لوصف معاصريه من قاده الحركة الأسيرة، قائداً بمواصفات اسطوريه بكل ما في هذا الوصف من دلالات إنسانية ووطنية وتاريخية.
لقد توزع دور هذا الرجل من الاهتمام بالأسرى حديثي الاعتقال وشد أزرهم ورفع معنوياتهم وتثقيفهم إلى غسل ملابسهم بيديه، إلى الانعزال في زاوية الزنزانة ليكتب أجمل وأعمق ما عرفته المقاومة العالمية داخل السجون من أدبيات وإبداعات فكرية ترقى إلى مصافي الرؤى والأفكار والنظريات النضالية العابرة للزمن والمقاومة للفناء والصالحة لكل عصر وجد فيه الظالم والمظلوم، الاستعمار والثورة، الاستبداد والانعتاق .
لقد أسس أبو على شاهين بخبرته العملية التجريبية وإبداعه الفكري الخلاق، طرقاً ونظريات ووسائل وتكتيكات المواجهة خلف القضبان، وأكد للأسرى الفلسطينيون بأن لأجسادهم العارية قوة تضاهي قوة الرصاص في حسم المعارك والانتصار بها، منطلقاً في ذلك من إدراكه النضالي المبكر للحقيقة القائلة " إن الحركة الصهيونية حركة قوية جداً يجب علينا أن نعترف بذلك، ولا يمكن أن ننتصر عليها ما لم نكن أقوى منها، فالضعيف لا ينتصر وقوة الحركة الصهيونية متمثلة في محصلة قوتها المادية، أما قوتنا فينبغي أن تكون كامنة في قوة إنساننا، هذا هو الفرق بيننا وبينهم، العدو قوته مادية، وأنت قوتك معنوية، يعني أنك تتفوق عليه معنوياً، لكن كيف يمكن أن تشحن هذه القوة المعنوية لتصبح طاقة قادرة ومؤثرة في قوته المادية، كيف تعزل العدو عن قوته المادية، وتفقده هذه السيطرة التي يتمتع بها ".
في مقدمة تلك الوسائل المعنوية سلاح الإضراب عن الطعام، حيث قاد أبو على شاهين الأسرى الفلسطينيين في أول إضراب عن الطعام عرفته السجون الإسرائيلية في العام 1970م، وفي سجن عسقلان أيضا شارك في قيادة أطول إضراب عن الطعام 11/12/1976 والذي استمر لمدة 45 يوماً، فعاقبته إدارة السجون بنقله إلى العديد من السجون الأخرى وعزله في " زنازين الحبس الانفرادي " لفترات طويلة، واستقر مع قيادة الإضراب في سجن شطا، ثم نقل إلى سجن نفحة الصحراوي الرهيب عند افتتاحه في منتصف 1980م، وكان الأسير الفلسطيني الأول الذي تطأ قدماه أرض ذاك السجن، حيث قام ثانية بقيادة إضراب بطولي عن الطعام دام ثلاثة وثلاثين يوماً، استشهد خلاله الأسيران راسم حلاوة وعلي الجعفري، ولاحقاً استشهد الأسير إسحاق المرغي، ونُقل من السجن قبل الإعلان عن الإضراب بيوم، ومع ذلك بقي قائد الإضراب الفعلي والمعنوي.
وقد اتسع نطاق ذاك الإضراب ليشمل كافة المعتقلات الصهيونية، ومدن الضفة والقطاع، مع مشاركة فعّالة ولأول مرة للقيادة الفلسطينية في بيروت، وشهدت قاعات هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن نقاشات صاخبة ومواجهات دبلوماسية حامية قادتها العربية السعودية حينذاك، وكان مطلب الأسرى في هذا الإضراب تحسين شروط وظروف الاعتقال رافعين شعار " نعم لألالم للجوع ،لا وألف لا لألالم الذل والركوع "، ونقل أبو علي من معتقل نفحة إلى معتقل "شطة" حيث تعرض هناك لاعتداءات فظيعة من السجانين اليهود، إقتضت معالجته طبياً .
وفي التقرير الخاص الذي أعده مدير مصلحة السجون الإسرائيلية في العام 1982م، والمُقدم للمستويين الأمني والسياسي الإسرائيليين، وذلك قبيل الإفراج عن أبو على شاهين بفترة وجيزة، وجدت الفقرة التالية: [ في فترة وجوده في السجن، تمكن عبد العزيز شاهين من أن يبلور لنفسه مكاناً ونفوذاً كبيرين، كأحد قادة " فتح" و" الفدائيين " عامة؛ وعلى امتداد فترة سجنه وبالذات في السنوات الست الأخيرة، برز نفوذ وتأثير أبو علي شاهين على السجناء الفلسطينيين، فإيعازاته وتوجيهاته تحتل مكانة هامة في حياة السجناء، الذين يستشيرونه ويقدمون له التقارير عن كل ما يجري، ويكنون له احتراماً كبيراً ].
وفقاً لهذا المنظور يتضمن هذا الجزء العمل النضالي والتنظيمي لأبو علي شاهين خلال مرحلة الاعتقال؛ فيتضمن بداية النشاط التنظيمي، مساهمته في تطوير العمل التنظيمي في السجون، المحاكمة، الإضراب عن الطعام كوسيلة للمواجهة داخل الأسر، الأمراض تغزو المعتقل رحلته في سجن عسقلان.
أولاً: بداية النشاط التنظيمي .
في سجن الرملة بدأنا أول نشاط تنظيمي، لكنا كنا نعاني باستمرار من مسألة غير صحية، وهي اعتناق العديد من الأسرى لوصفة الجهوية والفئوية ذات الأفق الضيق كأساس لإقامة العلاقات بين الأسرى، وهذه الآفة لا تنظر للقضية إلا عبر هذا الشق الصغير الذي هو نتاج تربية حزبية برجوازية واضحة جداً، لم تكن هذه العقلية قادرة على فهم النقلة النوعية ما بين التربية والحزبية البرجوازية، وما بين التربية الوطنية الثورية، فمنصوص التربية الأولى إن كل ما عداك خطأ، كل ما عداك بينك وبينه نسبة معينة من التناقض والتناحر، أما التربية الوطنية الثورية فتقول بمعادلة الكل الوطني، وتعي مرحلة التحرر الوطني وتضع الجميع في المركب الوطني، وقد كنا نتفاهم على هذه الأرضية، لكننا كنا نواجه بالأفق التنظيمي الضيق، أو الفئوي الضيق، كما كان التنظير الفوقي يسيء إلى الكثير من الشباب المقاتلين ممن اعتقلوا، إساءة طالت مسيرة هؤلاء، وكان ذلك واضحاً.
لقد أدعى البعض بأن لديه تجربة سابقة في المعتقلات العربية، ولكن عندما جاء إلى تجربة المعتقلات الإسرائيلية مُني بالفشل، ذلك لأن الظروف الذاتية والموضوعية كانت مختلفة، وبالتالي فتجربة المعتقلات الإسرائيلية تعتبر تجربة جديدة كل الجدة، وكان علينا جميعاً أن نضع قواعدها وأن نتناكب كتفاً بكتف، ونتكافل ونتعاضد لبناء قواد سليمة وقوية من العمل الاعتقالي، خاصة وأن الرؤيا لدى من يعي الحركة الصهيونية والصراع العربي الصهيوني كانت ترى أن رحلة الاعتقال طويلة، بينما كان يرى البعض الآخر أن سقف هذه الرحلة هو العام 1970، وإن تشاءم فعام 1975، وكان من الطبيعي أن نرى رحلة الاعتقال هذه كجزء من الصراع العربي الصهيوني الذي سيطول ليس لسنين فقط ولكن لأجيال أيضاً، وهكذا يتضح أن المقدمات الصحيحة تؤدي إلى النتائج الصحيحة.
لقد بدأنا في نقاشات موسعة تحددت أطروحاتها في أن حركة الاعتقال هي نتاج مادي لتفاعل القضية الفلسطينية، والتي تشكل جزءاً من حركة الصراع العربي الصهيوني، وإن كانت مركزه أو جزئيته المركزية، ذلك أن الفكر الصهيوني ومطامعه المعروفة لا تتوقف عند حدود فلسطين، بقدر ما تشكل فلسطين نقطة مده واتساعه، فالصراع طويل، علاوة على أن المعادلة الدولية تؤكد استحالة إنهاء الصراع العربي الصهيوني بجرة قلم، من هنا كانت رؤيتنا تستمد هذه الضرورة، ضرورة بناء واقع اعتقالي يستطيع الصمود أمام هذه الهجمة الصهيونية، رغم شدة القمع الممارس في السجون، خاصة القمع الجسماني، وآنذاك لم يكن القمع قد دخل مرحلة التنظيم، إضافة إلى أن الحركة الصهيونية بدأت بأجهزتها الاستخبارية والعليا تدرس هذا الواقع الاعتقالي وتفرز آليته.
كان العدو الصهيوني يريد من الواقع الاعتقالي أن يحيلنا إلى أرقام وكنا نرفض ذلك، ومن هنا بدا الصراع، وكان أمامنا تجارب حركات التحرر العالمية التي نجحت في تأطير إنسانها داخل المعتقلات، وكنا نجزم أن هذا التأطير سيتم بالنسبة لنا، وبدأنا ممارسة هذا التأطير، وهو ربط الإنسان المعتقل بالثورة داخل المعتقل، ذلك أن المعتقل الذي لا يمكن زرع الانضباط في أعماقه لا يمكن أن يكون معتقلاً سياسياً، ولعل أكثر ما واجهنا من صعوبة في هذا المضمار، هو كيف يمكن معاقبة من يخرج عن هذه الانضباطية داخل المعتقل، وطبيعي أن يتعذر ذلك، نظراً للواقع والمحيط الذي يشملنا جميعاً، لكن كان لا بد من البداية التي أخذت زمناً طويلاً عبر الحوار المفتوح والطويل والاقتناع هذه، وكنا في نضالنا اليومي نؤكد على المطالب الأساسية التي لا بد من تحقيقها لنا كمعتقلين، ولقد تمت الزيارة الأولى للصليب الأحمر لنا في شهر آذار 1968م وكنت أول من قابل هذه البعثة، ويذكر أن إسرائيل مانعت وما تزال تمانع في اتصال أي بعثة أو لجنة دولية بالمعتقلين، رغم أن الحركة الصهيونية تصر على أنها ديمقراطية.
لقد بدأنا عملية التأطير هذه، أي نقل التنظيم من الخارج إلى الداخل، أعني داخل المعتقلات، وكان على رأس من شارك في هذه العملية الأخ عبد الحميد القدسي، في سجن الرملة باعتباره كادراً تنظيمياً متقدماً، علاوة على تجربته الاعتقالية السابقة، وقد رافق كل ذلك عمل تثقيفي قصد التوعية بالتاريخ الفلسطيني وتجارب الثورات العالمية، فكانت النقاشات التي شملت بعض الأوضاع السياسية، والثورة، وتاريخ تأسيس الحركة، والأحزاب العربية، وبديهي أن حملة التوعية هذه قد بدأت بشكل مبسط ليسهل استيعابه من قبل الفئات العادية من شبابنا والتي لم تحظ بفرصة التعليم، وقد بدأ نوع من التركيز على فئة من الشباب بدت متحمسة ولديها ثابت وطني وثوري، وكان أغلب هؤلاء ممن صمدوا في التحقيق، وسرعان ما أحست إدارة السجن بدبيب هذا النشاط، فعملت على نقلي إلى سجن الخليل، وهناك واصلت مع الإخوة طرح المطالب الإنسانية التي لا بد من توفرها، وبعد شهور نجحنا في أن يكون في المعتقل مذياع ووعدنا بالجريدة.
في سجن الخليل كنا نستطيع أن نلتقي بالشباب الذين يدخلون السجن، ونتحدث إليهم، وكان ذلك قبل أن يوجد هناك قسم التحقيق والحجز، فكنا نخوض معهم أحاديث كثيرة، حيث نكشف لهم دور المخابرات وعملها وأساليبها التي توقع من خلالها المعتقل، فمن كان يصل قبل الاعتراف، كنا نحصنه على عدم الاعتراف فكان ينجو من الحكم، ومن كان يصل بعد تقديم اعتراف للمخابرات أو الشرطة، كنا نعرف كيف نوقفه عند هذا الحد من الاعتراف وأن لا يتجاوزه، والبعض كنا نطالبهم برفض الاعتراف المقدم وإنكاره باعتباره كان نتيجة لشدة الضرب، كما حصل مع مجموعة من الطلبة كانوا قد اعترفوا وسحبوا اعترافهم، وكان ذلك سبباً في نقلي من سجن الخليل إلى سجن نابلس.
ثانياً: تطور العمل التنظيمي في سجن نابلس .
يعود تاريخ أول إستحداث تنظيمي في تجربة الاعتقال الصهيوني إلى شهر ديسمبر/كانون أول في سجن نابلس، حيث كان يضم في تلك الفترة حوالي الألف سجين بين موقوف وإداري محكوم؛ لقد تم ترتيب الأوضاع وتوزيع المهام والمراتب التنظيمية، وتبدأ من الخلية بموجه الغرفة في الغرفة، لجنة للمردوان، لجنة للسجن، لجنة مركزية للسجن، موجه عام، كل هذه الترتيبات استحدثت في سجن نابلس، كان العمل جديداً، ومثل هذه التجربة كانت تحتاج إلى متابعة متواصلة من أجل بناء وتكريس تربية وطنية للاستمرار في الثورة والحفاظ عليها، للوصول بالثورة إلى هدف مميز وواضح أيضاً، كل ذلك كان يتم داخل السجن، بينما الإدارة لاهية بما كانت تسرقه من السجن سواء من محتوياته أو مما ينتجه السجناء لقد تم التركيز المركزي على شباب الدوريات لإعدادهم ككوادر فاعلة، باعتبار أنها ستوزع على بقية السجون في الأرض المحتلة.
كنا بعد أن يتم السجان إحصاء العدد، نبدأ اجتماعنا التنظيمي، وكان هذا ليلاً في إحدى الغرف، لقد أصبح السجن خلية عمل للتعبئة الحركية والسياسية والوطنية والثورية، كما أوجدنا جهاز رصد، وجهاز تحقيق، وقمنا بالتحقيق مع بعض العملاء، بناء على معلومات الرصد، وكان التحقيق يسلم إلى التنظيم، حيث يشكل لجنة تكون معنية بإصدار القرار الذي يسلم للتنظيم ليصدق عليه حتى يعتبر نافذاً.
طبيعي أننا لم نأخذ الشكل التنظيمي الموجود في الخارج، فكانت الغرفة هي وحدة الشكل التنظيمي، وبالنسبة لأعضاء اللجنة المركزية للتنظيم فكانوا حسب الكفاءة، ولا يهم أن يكونوا في غرفة واحدة، لكن المهم أن يتوزعوا ليتمكنوا من الإشراف على العمل.
ويذكر أنه في تاريخ 1-1-1969 كان أول احتفال بعيد انطلاقة الثورة المعاصرة نحييه في سجن نابلس، وفي كل الغرف تلى البيان التنظيمي، بيان الثورة، وأعطيت الكلمات لمن عنده القدرة على التعبير، وبعد إلقاء الكلمات بدأت الأغاني والدبكة، لقد كان احتفالاً حقيقياً شاركت فيه كل الفصائل الموجودة في سجن نابلس، واستمر إلى ما بعد منتصف الليل، ولقد فوجئت إدارة السجن بما يجري، وإن كانت لم تعرف الحقيقة كاملة.
ويمكن القول أننا نجحنا إلى حد كبير في مسألة خلق الكادر، وقد لمع بعضهم فيما بعد في مجال العمل الاعتقالي تنظيمياً وأصبح له دور كبير؛ كما أحيينا في السجن ذكرى معركة الكرامة والأول من أيار نفس العام، وبعد الانتهاء من هذا الاحتفال أخذت إلى الخليل حيث ستكون الجلسة الثانية للمحكمة.
في القانون الإسرائيلي لا تحق الزيارة للموقوف إدارياً، أم الموقوف في المحكمة، فمن حقه أن يطالب بالزيارة لكنهم رفضوا طلبي في البداية فأعلنت الإضراب عن الطعام والماء وبعد 48 ساعة من هذا الإضراب بدأت أوضاعي الصحية تسوء لكنني بقيت متماسكاً على الرغم من ضعف بنيتي العام، ولم يستجيبوا في اليوم الثالث، ومر يوم وليلة، حيث غدوت مهدداً بالنهاية، فاستدعيت إليهم، وبينت أنني أطالب بالحق الذي يوفره لي القانون أو أن عليكم أن تغيروا قانونكم، وهددوني بالزنزانة فهددت بمواصلة الإضراب حتى الموت، فأخذوا يماطلونني، واخيراً قال لي الطبيب سأتصل بأهلك ليحضروا، فأعطيته رقم الهاتف، واتصل، وكان أن رأيت أهلي، وزوجتي لأول مرة بعد عام ونصف من سجني، وكنت قد فككت إضرابي.
ثالثاً: المحاكمة .
استمرت محاكمتي لأربعة أيام متواصلة، حيث أُعلنت مدة الحكم، وبعد أن أخذت الوقت المخصص لي بالكلام، وقلت ما قلت أذكر حتى الآن كلمات والدتي لي:
• يا ولدي، ليس كل رجل يدخل السجن، يخرج منه رجلاً، ها أنت تدخله رجلاً، وأريد منك أن تظل رجلاً، وأن تغادره رجلاً، كنت أبتسم لها فقط، مثلما كنت حين دخلت المحكمة، وحين كانوا ينطقون الحكم.
بعد صدور الحكم، أعلمني الصليب الأحمر الذي كان يحضر المحاكمة أنهم سيأخذونني إلى سجن عسقلان، ذي السمعة الإرهابية السيئة، وحيث تتم عملية إذلال عميقة للفلسطيني السجين، إذ يفرض عليه أن يلفظ قبل وبعد الحديث كلمة سيدي لسجانه، حين وصلت السجن رفضت وبإصرار عنيد وكامل أن أقول للسجان هذه الكلمة رغم كل المحاولات والتهديدات والتعذيب؛ أية حياة يعيشها السجين في هذا المكان المجبول على الحقد والمؤسس لقتل روح الإنسان الفلسطيني، ففي كل لحظة يمكن أن يكون هناك ضرب وتعذيب، وعلى مدار ساعات النهار والليل أيضاً، بالعصي، بأسلاك التلفونات والأيدي والأقدام، لا تعرف من يعذبك، إذ ينهالون أحياناً مرة واحدة عليك، كان الضرب وحشياً.
أعرف في هذا السجن يهودياً مصرياً، وآخر اسمه "كليمونت" كان هذان لا يستعملان في تعذيبهما العصي أو الأيدي، كانا فقط يعضان، يعضان لحم الفلسطيني بشكل وحشي ومَـرَضي، وكنت تحس كأن قطعة من لحمك قد انتزعت بين أسنانهما، إن العذاب الذي واجهه معتقلو سجن عسقلان دفع البعض من الإخوة إلى محاولات انتحارية، وقد حدث هذا بالفعل داخل هذا السجن للتخلص من جحيم عسقلان اليومي.
كان سجن عسقلان مقموعاً حتى النخاع، إلى الحد أن المرء لا يكاد يصدق ما يرى، فبعد انتهاء مدة حجزي في الإكس، وعودتي إلى الغرف، كنت أجلس مرة على الأرض مستنداً بظهري إلى الحائط، فإذا بالمعتقلين يُـحذرونني بأن ذلك ممنوع، وإن عقابه لو رأوك أربعة عشر يوماً في الزنزانة، وسبعة أيام في الاكس، ذهلت لذلك، لكنني بقيت جالساً، جاء السجان ورآني، ونظر فيّ، وما لبث أن عاد قافلاً، وأخذ يتحدث في الهاتف، لم أفهم ما قال، لكن الجلوس والاستناد إلى الحائط لم يعد بعد ذلك ممنوعاً، وبذلك كُسر أول حاجز من حواجز الخوف المنتشرة في عسقلان، وكان ذلك مدخلاً للحديث باتجاه ضرورة المواجهة، لكن ذلك لم يكن سهلاً أمام ما يبثه السجن من هول في نفس المعتقل، ورغم ذلك لا يُعدم وجود العنصر الثوري في هذا المكان، فهو المكان الأكثر خطراً وقهراً والذي يستطيع الثائر أن يُـثبت فيه أنه ثوري بحق، فالثوري الحقيقي هو الذي يعطي وينتج في مثل هكذا مكان، فالمكان هو الدليل على حيوية الثوري.
كان لا بد من التفكير للخروج من إسار الخوف المستشري في هذا السجن، كالإضراب مثلاً، فإن تم، حتى وإن لم ينجح، سيكون العامل الأساسي في كسر حاجز الخوف هذا، وسيكون هذا بحد ذاته انجازاً ومنعطفاً تاريخياً في تجربة الحركة الاعتقالية، لكن النفسيات لم تكن جاهزة لمثل هذه الخطوة، ولم يمنع ذلك من عرض الفكرة على بعض الإخوة فوافقوني، لكن كان هناك الكثير ممن لم يكونوا ليستوعبوا معنى أن تثور ضد هذا الوضع القائم، لقد تم الاعتماد على مجموعة من الشباب كانوا معي في سجن نابلس، وقد تحرك هؤلاء، واستثرت الدعوة والإعداد للإضراب عن الطعام عاماً كاملاً، من حزيران 1969 إلى تموز 1970.
قبل الإعلان عن الإضراب شعرت سلطة السجن بتحركاتنا فقامت بعزلي إلى الاكس، وبعد لحظات، تم عزل أحمد أرشيد، وعمر قاسم، وكنا في اكسات متقاربة، ثم بدأ الشباب الإضراب، وبدأناه ثلاثتنا في الاكسات، فيما بعد حصلت تطورات كثيرة في مسيرة هذا الإضراب، الذي هدف أساساً إلى كسر حاجز الخوف في أي تعامل مع إدارة السجن، وقد تم هذا الكسر نهائياً، رغم أن السجن لم يستجب إلى إعطائنا أي من حقوقنا المطلوبة، ولم يكن ذلك مهماً بالنسبة لنا، أن يستجيبوا، فالمهم كانت حركتنا في اجتياز الحاجز.
وفي هذه المعركة، معركة الإضراب، قدم سجن عسقلان أول شهيد في الاضرابات الجماعية في المعتقلات الصهيونية، وقد سبقه أحد مناضلي فتح الذي كان أعلن اضراباً فردياً في سجن غزة واستشهد عام 1969 وهو الأخ/ أبو عوني.
لقد تركزت القيادة النضالية للسجون في سجن عسقلان نتيجة لتواجد فعاليات اعتقالية ورموز اعتقالية فيه، وكانت هذه الفعاليات والرموز على قدر عال من المسئولية، والواضح أن في كل مرحلة من مراحل السجون، كان يبرز هناك سجن معين، ففي المرحلة الأولى، مرحلة الملحمة والضرب برز سجن الخليل، كذلك برز سجن نابلس.
إن أول صحيفة في تاريخ المعتقلات، ظهرت في سجن عسقلان هذا، وهي صحيفة "عسقلان الثورة" التي أصدرتها "فتح" وكانت تكتب على ورق أكياس اللبن، وتوزع في السجن، نسخة لكل مردوان، وقد تطورت المواد الكتابية لهذه الصحيفة، حيث أصبحت قادرة على بلورة موقف موحد داخل السجن، وتصاعدت في هذا المعتقل أيضاً إقامة المحاضرات والعمل التثقيفي الجاد، مما حدا بإدارة السجن العمل على عزل ما يزيد على عشرين معتقلاً من الفعاليات القيادية، بسبب التحريض ضد ما هو سائد من ممارسات لا إنسانية في السجن، هكذا وجدت نفسي من جديد في الاكس. وبدأت مرحلة أخرى من القمع وبدأ التحدي ، والتصعيد في المواجهة التي انجلت عن انجازات كثيرة.
رابعاً: الإضراب عن الطعام أفضل وسيلة للمواجهة داخل الأسر.
كان إضراب سجن عسقلان هو الخطوة الأولى في رحلة الإضرابات المنظمة في سجون العدو الإسرائيلي، والنقلة النوعية في الصراع الدائر رحاه في ساحات المعتقلات كافة، وقد كان سجن عسقلان نموذجاً خاصاً للإرهاب ولقتل الإرادة الفلسطينية، إرادة التصدي والتحدي، ونستطيع أن نلمس حجم المردود المعنوي لهذا الإضراب، حينما نعلم أن بقية السجون غدت تتساءل، بأنه إذا كان عسقلان وهو على ما هو عليه من قمع قد أضرب، فلماذا نحن لا نضرب؟ وهكذا بدأت الشرارة، شرارة الإضراب، التي هي إرادة التحدي لكل أشكال القتل المنظم والممارس ضد المعتقلين.
في مراحل الإعداد الأخيرة لهذا الإضراب لم يتم الاتفاق حول موعد محدد للإعلان عن الإضراب، فقد اختلف حول التاريخ المحدد له، لكن أحد الشباب ومن باب الغرفة رقم 16 حسم هذا الخلاف حينما كان السجانون يهمون بتوزيع طعام الإفطار، فإذا به يطل برأسه من شباك غرفته ويصرخ بصوت عال: إضراب يا شباب، وكان الإضراب، فقد تعامل المعتقلون مع النداء كأمر اعتقالي وبالتالي الالتزام به، والإضراب، وإن لم يأخذ زمناً طويلاً لكنه كان من أكثر الاضرابات أهمية من الناحية النفسية، وإن لم يكن له انجاز يذكر على الصعيد المادي بالنسبة لأوضاع المعتقلين، إن الواقع الصدامي الذي عشناه في سجن عسقلان كان وليد حالات الإجحاف الهائلة بحقوقنا وبنا كبشر أساساً، ولو وفر العدو في هذا المعتقل وضعاً إنسانيا لنزلائه، لما كانت هذه الحدية في المواجهة، ولصعب علينا أن نتغلغل في نفسية هؤلاء ودفعهم باتجاه الصدام الضروري مع العدو.
إنه لأمر فادح أن لا يتمتع الإنسان العربي بحريته على امتداد مساحة الوطن العربي، لكننا في المعتقلات الصهيونية كنا نتمتع بهذه الحرية، الحرية المقترنة بالإرادة المواجهة لمخطط العدو، ألا وهو محاولة إفراغنا من المحتوى الوطني، والمحتوى الثوري، والمحتوى القومي، والإنساني، والحضاري، وقد عجز العدو تماماً، أمام تكامل أدوارنا جميعاً داخل المعتقلات، لقد بنت المعتقلات نفسها بنفسها دونما دعم من قيادة الخارج، هذه حقيقة أقولها للتاريخ، ولم يبدأ الالتفاف الحقيقي لحركة المعتقلات إلا في الآونة الأخيرة.
صعد معتقلو عسقلان من نضالهم اليومي الموجه، في رفضهم الانصياع إلى وضع اليدين وراء الظهر، أو لفظ كلمة سيدي، ولم يكن ليمنعهم أي عقاب أو تهديد، واستمر النضال من أجل ذلك شهوراً إلى أن تم لهم ما أرادوا، وعبر المفاوضات مع إدارة السجن، كانت الحياة في معتقل عسقلان قاسية، ومثل هذا الوضع شئنا أم أبينا يفرض علينا استمرار تصعيد الأزمة، وكان الانصراف إلى العمل التنظيمي يخفف علينا جزءاً ليس يسيراً من هذه الأزمة، لقد نجحنا في أمور، وفشلنا في أمور كثيرة أخرى بالنظر إلى أننا نخوض في عسقلان تجربة جديدة، وكنا نعرف أن طبيعة الظروف الموضوعية هي التي تعيق من رقي الظرف الذاتي، رغم أن البروز التنظيمي غدا واضحاً في كافة غرف المعتقل، وظهرت هناك عناصر نشطة تلتهم المعرفة التهاماً، وبدأت التجربة في فرز قيادات العمل الاعتقالي، إذ عملت إدارة السجون على نقل الكثيرين من سجن عسقلان إلى سجون أخرى، وقد خدمتنا حركة التنقلات هذه كثيراً، إذ اقتصرت على الفعاليات النشيطة، التي حملت بدورها شرارة هذه التجربة، وراحت تبثها في سجون جديدة وبين معتقلين جدد، في كفاريونا- بيت ليد، وبئر السبع، حيث كانت هناك ضمائر جديدة تتكون، وقد وصل في هذه الفترة إلى معتقل عسقلان دفعات جديدة من معتقل الرملة، نقلوا على إثر نشاطهم هناك، مما ساعدنا في الاطلاع على أشكال تجربة جديدة عمقت من تجربتنا في معتقل عسقلان، سواء من حيث تكريس العمل التنظيمي داخل الغرف أو الإرتقاء التثقيفي الذي أخذ أشكالاً أكثر نضجاً من السابق، كما أخذ التوجه التنظيمي يفرض نفسه بشكل واضح بين المعتقلين.
الإنسان المعتقل والمحكوم عليه في معتقلات العدو الصهيوني، ليس له من مفر إلا أن يخفف من أزمة اعتقاله ما أمكن، ولا يستطيع أن يفعل ذلك بدون علاقات اجتماعية جيدة، وإذا كنا نسعى لفرض الشكل التنظيمي نفسه في المعتقل كنوع من الضبط الأولي، فلأن الضبط المركزي هو للمعتقل وليس للتنظيم؛ من هنا سادت العلاقات الإنسانية الحميمة فهذا بين المعتقلين أنفسهم، وإذا حدث أن نشأ إشكال ما بين اثنين، كنا نتحرك لنضع له حداً فورياً، دون أن نسمح لهذا الأشكال أن يتفرع أو يتسع عن حده الثنائي، ثم تعود الأمور إلى حالتها الطبيعية بين المتشاكلين.
ولعل أسوأ ما حدث في هذا المجال في معتقل عسقلان، هو ما نشأ من خلاف وعراك خرج عن كونه خلافاً وعراكاً شخصياً بين مجموعة من الشباب قدمت إلى السجن حديثاً من قطاع غزة تنتمي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكان واضحاً أن هذه المجموعة من الشباب تعوزها التجربة الاعتقالية والتنظيمية والسياسية وأنها تفتقر إلى وعي وتحليل الظرف الذي نواجهه في المعتقل، فقامت هذه المجموعة بافتعال صراع حاد مع عدد قليل من شباب فتح، حيث تم الاستفراد بهم وضربهم بأدوات حادة موجعة، ومنذ البدء شرعنا إلى وضع حد لهذا العراك ما دام شخصياً، موضحين أنه إن كان كذلك، فليس لنا أي حق كتنظيم، وينتهي الإشكال بالتفاهم، والمصالحة، أما أن يكون العراك والضرب تنظيمياً، ويصوت عليه داخل مجموعاتهم التنظيمية، فذلك ما لا يُـغتفر ولا تسامح فيه، إذ كيف تضرب إنساناً بسبب انتمائه السياسي فقط، وفي المعتقل أيضاً؟! فذلك معناه الفوضى الكاملة في المعتقلات، ومعنى هذا أن نقدم حركة المعتقلات ونضالها على طبق من ذهب، وليس من فضة للعدو، وليتفضل العدو ويفعل فينا ما يشاء!
كان ذلك مؤلماً، ومع هذا اتجهنا نحو الحل السليم لجذوره، جذور القضية، واستطعنا أن نوقف عملية التدهور وأن نوظف جل جهدنا لوضع حل ايجابي يضمن فقط كرامة المضروبين، لكنهم رفضوا، مصعدين الأمر، في تهيؤ على ما يبدو لجولة ثانية، وحين عرض عليهم الحل مجدداً، إذا بهم يهددون ويلوحون بالأدوات الحادة التي هيئوها، وازداد الأمر تفاقماً، وكان لا بد من وضع حد بالقوة لكل هذه الفوضى في المعتقل، وعرفت كل السجون فيما بعد أن المرء الذي يضرب أمريء آخر لانتمائه السياسي وليس لخطأ شخصي ارتكبه، لا بد أن يوضع له حد، وأن يضرب ويهان، ويموت على أن يكرس عرفاً جديداً في المعتقلات ألا وهو ضرب الإنسان بسبب انتمائه التنظيمي، فهذه قضية تخالف العرف الديمقراطي، كما تخالف أبسط المفاهيم الديمقراطية التي ينبغي أن تسود بيننا، إذ كيف تجيز لنفسك أن تمارس الإرهاب، ألا يكفي إرهاب العدو، لنضيف إرهاباً آخر علينا؟ هكذا كان لا بد من التصدي لهذا الإرهاب، وقلعه من جذوره، وكان موقفنا مستنداً أساساً على هذا الفهم، حاسماً.
وعلى أثر هذه القضية مباشرة حصل أول تمرد في معتقل عسقلان، واستدعيت قوات العدو من كل الجهات، من السجون، من الشرطة، من المخابرات، حيث تم تطويق السجن الهائج، والتحم كل المعتقلين باختلاف فصائلهم مع القوة القادمة لاقتحام السجن، وقد تم اقتحام الغرف، غرفة غرفة، بالغاز والهراوات، ليبدأ وضع جديد من القمع اللا إنساني ضد كل الاحتلال الصهيوني البغيض.
وقف سجانان إثنان بباب الاكس الذي فتحوه عليّ، وقال أحدهم هذه فرصة أن نقتله الليلة ونرتاح، كنت أفهم أن ذلك كتهديد موجه لي، فتصايحت معهما، وفوجئت بضربة قوية من أحدهما على معدتي مما دفعني لأن أقذف كل ما في جوفي مرة واحدة، ثم هجم علي وأخذ في خنقي، وكنت بدوري قد مسكته من عنقه، في حين بدأ الآخر في ضربي، ثم أخذ يعض يدي إلى أن أفلتهما عن عنق صاحبه، لكن هذا واصل خنقي إلى أن ضاعت قوتي وسقطت يداي فكان أن رماني على الأرض، وكان ذلك فرصة أخرى لضربي كيفما يحلو لهم، ثم أغلقوا عليَّ الباب، وعادوا مرة أخرى وثانية وثالثة في وجبات ضرب متقطعة، أذكر أن نائب مدير السجن، وكان إسمه "هايمن" وكنا ندعوه أبو صلعة نحاس، لم يكتف بالضرب، بل حنى نفسه عليّ وراح يعضني في أسفل ظهري بشكل هستيري، عضة رجل مليء بالكراهية والحقد، وقد استمر علاج عضته هذا طيلة شهر كامل، حيث نقلت إلى سجن الرملة للعلاج بإيعاز من طبيب يهودي استنكر ما رآه وما فعله زملاؤه بالمعتقلين، من إصابات وجروح، ونقل هذا الطبيب بعض الأسرى للعلاج، كما أشرف هو بنفسه على علاجي، ولم يصدق أبداً أنه يمكن لإنسان أن يعض بهذا الشكل، كما لو أنه كلب حقيقي، فقلت له إنه نائب مدير السجن. هذا الطبيب وقف موقفاً جيداً أمام لجنة التحقيق التي حضرت إلى السجن، لقد احتج هذا الطبيب على عمليات التعذيب التي كانت تتم في المستشفيات بحضور رجال المخابرات، وتم منعها، فمستشفى السجن هو عبارة عن سجن عادي إلا أنه يحتوي على أَسِرّة وشراشف ولا يستقبل إلا الحالات الضرورية والخاصة، ومنه عرفت أنني مصاب بالقرحة، وقد نصحني هذا الطبيب بقوله أنني إذا أردت لرأيي السياسي أن يستمر فعلي أن أعتني بصحتي، وللحق إن هذا الطبيب هو الوحيد من بين الأطباء الإسرائيليين في السجون الذي ما ضرب أحداً من الشباب أثناء العلاج، ولا حاول استغلال أوضاعهم المرضية أو طلب تعاونهم معه مقابل علاجهم كما يفعل غيره، لقد احترم هذا الطبيب من قبل جميع المعتقلين بما فيهم السجناء اليهود الذين لا يميلون إلى شرطة السجن، وقد تبين له فيما بعد أن كثيرين غيري في السجن مصابون أيضاً بالقرحة، فعمل على صرف الأدوية لهم، كان هذا الطبيب استثناء غريباً لقاعدة الأطباء الجلادين والقتلة، وما أكثرهم.
خامساً: الأمراض تغزو المعتقل .
يعاني المعتقلون خاصة من ذوي المدد الطويلة، من العديد من الأمراض المنتشرة في أوساط المعتقلين كأمراض الروماتيزم والقرحة والديسك على سبيل المثال، ويندر أن يوجد واحد من المعتقلين القدامى دون أن يكون مصاباً بواحدة او أكثر من تلك الأمراض أو غيرها، وإن ضيق المكان ومحدودية الرؤية وانغلاق كل شيء حول المعتقل أوجد أمراض العيون، مرض ذبابة العين، كما أوجد أمراضاً سمعية في الأذن، عدا عن مرض البواسير الناتج عن البرودة والنوم على الأرض، وأمراض الكلى، التي تسبب آلاماً حادة لا تطاق، والمسالك البولية والجلدية ، والأمراض الخاصة بالنساء، حيث الافتقار إلى أدنى حالات العلاج، ولعل المرض الرهيب في السجن هو مرض تساقط الأسنان، الذي بدأ يتزايد في أوساط المعتقلين، وينجم هذا المرض عن نقصان الغذاء، فالحياة في المعتقل هي شكل من أشكال المجاعة الدائمة، ويتم كل ذلك في غياب كامل للعلاج، سوى الخلع الدائم للأسنان، فالعيادة مفتوحة فقط لا لعلاج هذه الحالات، بل لاستئصال الأسنان فقط، كما يهدف المعتقل بشكل عام إلى استئصال إرادة وحرية السجين.
ولأننا في السجن لا نعرف الماء الساخن والصابون، فقد انتشرت بيننا الأمراض الجلدية الغريبة، ولا نعرف من أين جاءنا القمل، كمرض قمل العانة الذي يدخل تحت الجلد، ويسبب آلاماً مبرحة كما يسبب أمراضاً جنسية أيضاً، مما أشاع الرعب في أوساط المعتقلين، واستنفر الجميع لمواجهة هذا الخطر الداهم، وقد خلف وجود هذا القمل على السجين أن يظل دائم الحك في جلده، فكنت ترى كل من في السجن وفي وقت واحد يحكون جلودهم كأنهم في سباق منظم، وكانت كل الأمراض الأخرى تبدو هينة بالقياس لهذا المرض الأليم، وإذا ما تعرضنا إلى الأمراض النفسية التي تواجه المعتقل في السجن لشاهدنا إلى أي مدى يتجرد العدو الصهيوني من أية نزعة إنسانية، غير نزعة القتل والتدمير الوحشي، لقد أدخلوا علينا ذات يوم رجلاً فاقد الذاكرة، لا يعرف من هو، ولا أين كان، أو أين هو، لا يعرف أو يذكر شيئاً، ومع هذا بقي في المعتقل، وإذا ما خرجت إلى ساحة السجن فسترى ألواناً كثيرة من الانهيارات العصبية بين المساجين، فلا أحد يعنى بهذه الحالات، لا أحد يسأل عن أحد، ألم نقل أنه الموت المنظم، أنه حكم الإعدام الطويل التنفيذ علينا، هل رأيت طبيباً أو ممرضاً يحمل هراوة؟ رأيت ذلك في إضراب سجن نفحة، كان اسمه "فيلمتن" وهو الآن مدير مستشفى الرملة، هذا الطبيب حمل الهراوة وضربني وضرب آخرين، ووضع الكلبشات في أيدي المساجين، وكان يطعم المضربين عن الطعام بالأنبوب، وبدل أن يضع الأنبوب في المعدة كان يضعه في الرئة، هكذا قتل علي الجعفري وراسم حلاوة، وإسحاق المراغي، كما قتلوا في السجن عمر شلبي الذي هددوه بالعمل معهم، فأتلف عدداً كبيراً من المكاوي، وقد مات تحت التعذيب، لقد قتلوه بوحشية، وشارك هذا الطبيب مع زبانيته في القتل، بالعصي والهراوات، وحين نقل إلى معهد التشريح في أبو كبير، صدر تقرير أنه مات في ظروف طبيعية، هذا التقرير مقدم من قاض وطبيب إداري بحيث لا يمكن نقضه، هذا هو القهر الحقيقي، وهذا هو عدونا، كم من الحالات الشبيهة يمكن سردها، هناك قاسم أبو عسكر الذي استشهد تحت هول وقساوة التعذيب، هناك فريز سهيل الذي علقوه بحبل وقالوا إنه انتحر بشنق نفسه.
كان حمزة وطنياً ومثقفاً، أعني حمزة أبو شعيب، بعد اعتقاله شعر بآلام حادة، ولكن أطباء المعتقل ما أفادوه في شيء ، فظل مجهول المرض، لا أحد يعرف علته، وكان حمزة لا يتوجع لكنهم في النهاية أخبروه أن هناك احتمال قرحة في المعدة، لثلاث سنوات وحمزة يتعذب، والنتيجة أن هناك شيئاً غير معروف؛ كان حمزة يجيد العبرية إجادة كاملة، ويخفي ذلك، في أثناء فحصه اقترح أحد الأطباء إعطاءه الدم، لكن طبيباً آخر رد عليه قاءلاً: إن عالجناه سيعود في يوم ما لإطلاق النار علينا، فقال الطبيب الأول: إن علينا أن ننقذ حياته فهذه مهمتنا، فرد ثانية: إنقاذ حياته يعرضنا للخطر، كان حديثهما بالعبرية، وهكذا قرروا عدم إعطائه الدواء أمام مسمعه، هو الذي بدا أنه لا يفهم شيئاً من نقاشهم.
مرة تقابلت مع حمزة في المستشفى، كنت أراجع بسبب آلام المعدة والظهر، وكان هو يسعى لمعرفة مرضه، كان هناك الطبيب "كوهين" وطبيب السجون ذو الهراوة "زيكل بون" حيث أخبراه أن لا شيء جديداً، كان هناك أيضاً طبيب روسي يدعى "شولانسكي" ، كان معنياً بالأمور السياسية والاجتماعية، ومتفهماً، أخذته جانباً وقلت له: هل يصح ما تراه من عنصرية وقتل متعمد للعربي؟ فقال لي بتعاطف إنه كان صهيونياً حتى جاء إلى "إسرائيل" ليكتشف أنهم كذابون ودجالون، لقد حوّل هذا الطبيب حمزة للفحص، وطلب مني أن أراقبه في السجن وإذا ما لاحظت ظهور ورم ما عليه أن أخبره بسرعة، وبينما كنت أساعد حمزة في الحمام وهو يغتسل لاحظت تورماً في بطنه، فسارعت إلى إخبار الدكتور، فأخذه إلى المستشفى، حيث جرت له عملية تفتيش، وأخبرني الطبيب أن حمزة مصاب بسرطان في القولون، وأنه لن يعيش طويلاً، ذلك أن مرضه في مراحله الأخيرة، وكان يمكن أن يعيش لو تم اكتشاف المرض قبل أن يستفحل، قلت للطبيب من المسؤول عن ذلك؟ قال : الأطباء الإسرائيليون وأنا منهم.
هذه هي اللامبالاة، والقتل المدروس، إذن سيموت حمزة، وستعمل الإدارة على إبعاده إلى أهله، قلت لا بأس فليمت بينهم، كان حمزة ذي إرادة عالية، لقد أخفينا عنه نوع مرضه، قال لي سيخرج ويشفى ولا بد أن يعود ليقاتل من جديد، لم يكن يعرف لماذا يتآكل جسمه، وما الذي يزيده نحولاً، حين دخل المعتقل كان يمتلئ صحة وعافية طويلاً مثل نخلة، ويزيد وزنه على 85 كجم، وإذا بالمرض يهدّه ليغدو مثل شبح، شبح هزيل.
وحين كان يرى نظراتي إليه، كان يقول لي: لا يهمك يا رجل، حتى لو كان مرضي السرطان، سأشفى وأعود للقتال، لقد أخرجوه من السجن يموت؛ رأيته بعد ذلك في المستشفى، كان يشد علي يدي بوهن ظاهر، لكن بكل قوته كأنما يقول كلماته الأخيرة، كأنما يودعني، كان يبدو فرحاً لرؤيتي قبل أن يموت، قال يومها الفلسطيني كالشجرة، يموت وهو واقف، كم كان عنيفاً وملتزماً وجلوداً، ولكن حمزة مات، وهو على السرير، وقتلوه قبل ذلك في المعتقل، حينما تركوه للسرطان ينهش أحشاؤه .
سادساً: في سجن عسقلان
يطلق عليه الإسرائيليون سجن (شيكما) بمدينة أشكلون، بينما يطلق عليه الفلسطينيون سجن عسقلان لأنه يقع في مدينة عسقلان القديمة والمسماة بالمجدل، ويقع السجن حاليا وسط المدينة الإسرائيلية السكان، والتي تبعد 20كيلو إلى الشمال من مدينة غزة، وثمانين كيلو إلى الجنوب الغربي من مدينة القدس.
انشأ سجن عسقلان في عهد الانتداب البريطاني على فلسطين كمقر لقيادة الجيش البريطاني في المنطقة، واستعمل كسرايا لاستقبال الوفود البريطانية الرسمية، ويذكر مراسل صحيفة الهيرالد تريبيون أنه تحول لسجن لاعتقال المجموعات التي قامت بمقاومة الانتداب من العرب واليهود على حد سواء.
وفي عام 1968 ناقشت الكنيست الإسرائيلية أوضاع الأسرى الفلسطينيين، واتسم نقاشها بالتطرف خاصة قضية زيادة عدد المعتقلين نتيجة تزايد أعمال المقاومة، وبدأ العمل على تهيئته من مركز شرطة إسرائيل بالمدينة إلى سجن، وبالفعل تم افتتاحه يوم 11/2/1969 بإرسال أول دفعة من المعتقلين إليه وهي خمس وثمانون أسيراً.
اعترفت مصلحة السجون أن هدف إنشاء هذا السجن هو الحد من "الزيادة في الأعمال الإرهابية التي قام بها السكان العرب مما دعا إلى افتتاح منشأ حبس لهؤلاء المخربين"، و قد شددت إدارة السجن معاملتها للمعتقلين مما أدى إلى اعتبار الفلسطينيين إن فتح هذا السجن جاء ليؤدب المعتقلين.
يتكون سجن عسقلان من عدة أبنية كل منها في طابقين ويسمى قسماً، ويتألف السجن من أربعة أقسام في كل قسم خمس غرف، و كل منها يطل على ساحة مربعة الشكل إضافة إلى بناية للخدمات وبناية أخرى لإدارة السجن، في حين تتعامل إدارة السجن على تقسيم السجن لأحد عشر جناح، ويتسع لستمائة وخمسين سجين، وهذا ما يوضح حالة الازدحام الشديد في هذا المعتقل والتي وصلت ذروتها عام 1976.
يعتبر سجن عسقلان حتى مايو 1985 من أكثر السجون التي تضم معتقلين ذوي أحكام عالية فغالبيتهم محكوم عليهم أكثر من خمسة عشر عاماً، وهذا ما يفسر أقوال وزير الشرطة الإسرائيلي شلومو هليل عندما وصف المعتقلين في سجن عسقلان بأنهم " قد اقترفوا جرائم قتل و تخريب ضد إسرائيل عندما كانوا أحراراً وهم اليوم يلقون على إسرائيل القنابل الدعائية ".
استطاعت إدارة سجن عسقلان السيطرة جيداً على المعتقلين في بداية فتح السجن، فقد كانوا منقسمين إلى تجمعات حتى داخل التنظيم الواحد أو حسب الطوابق، ما أدى إلى زيادة الإجراءات ضد المعتقلين، فقد كان يدخل مدير السجن ويدعى (حيوت) إلى الغرف ومعه كلبه، وكان نائبه يمارس ضرب المعتقلين، وكانت ملامح المرحلة الأولى من حياه المعتقلين في السجون تنطبق على معتقلي سجن عسقلان.
خاض المعتقلون الفلسطينيون في سجن عسقلان العديد من الإضرابات عن الطعام وذلك بهدف تحسين ظروف حياتهم، فقد خاضوا إضراباً عام 1970 استمر لمدة واحد وثلاثين يوماً، تكبد خلاله المعتقلون شهيداً واحداً هو الشهيد عبد القادر أبو الفحم والذي قتله الطبيب أثناء إدخال الأنبوب في فمه رغم علم الطبيب أنه مريض حيث اعتقل جريحاً بعد اشتباك مع القوات الإسرائيلية، وكذلك خاض المعتقلون إضرابا عن الطعام عام 1971استمر ما يزيد عن خمسة وعشرين يوما، وتم تعليقه لمدة يومين ثم أعاد المعتقلون الإضراب عشرين يوما أخرى، وكذلك أضرب المعتقلون عام 1976 لمدة خمسة وأربعين يوما، وكان إضراب عام 1977 عن العمل لينهي قضية إلزام المعتقلين بالعمل في المرافق المختلفة.
لقد تعرض سجن عسقلان لكثير من المداهمات والاعتداءات التي كانت تنفذها مصلحة السجون ضد المعتقلين الفلسطينيين، فقد استشهد الأسير عمر السليبى عندما انهال عليه مدير السجن (حيوت) ضرباً حتى الموت عام 1973، وكذلك اقتحام السجن كله ورشه بالغاز المسيل للدموع في 11/12/1981 رداً على قيام المعتقلين الفلسطينيين برفع الإعلام الفلسطينية وترديد هتافات ضد إسرائيل داخل السجن، وتم عقاب كل المعتقلين بحرمانهم من الزيارة أو الشراء من دكان السجن، وتقليص ساعات الفسحة إلى ساعة واحدة، وتقليص عدد عمال النظافة ومنع إدخال الفواكه و الخضروات.
في عام 1985 هاجمت الشرطة الإسرائيلية السجن، مستغلة الإفراج عن قياداته ضمن صفقة تبادل الأسرى مع منظمة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة، فقامت بإطلاق الغاز المسيل للدموع والاعتداء على المعتقلين بالهراوات مما دفع المعتقلين إلى حرق الغرف، وكرروا إضرام النار في غرفهم مرة أخرى في نهاية عام 1985.
سابعاً: الإضراب الأسطوري عن الطعام في سجن نفحة الصحراوري عام 1980
يرويها الاسير المحرر عبد الرحيم النوباني :
يقع سجن نفحة الصحراوي في صحراء النقب بجنوب فلسطين ويبعد 115 كم إلى الجنوب من مدينة بئر سبع، وحوالي 200 كم جنوب القدس، ويسمي سكان النقب البدو هذه المنطقة بقصر الغزال نسبة لأثار قديمة بهذا الاسم، وتسمي إسرائيل تلك المنطقة (متيسبيه رامون) وبها مطار عسكري بهذا الإسم.
افتتح هذا السجن في الأول من مايو أيار 1980، وكانت فكرة إنشائه تعود إلى عام 1976 سنة الذروة في قضية الازدحام ومطالبة المعتقلين والصليب الأحمر المتكررة للسلطات بحل هذه المشكلة، ولكن افتتاح سجن يتم نقل خمسة وأربعين معتقلاً إليه لن يحل مشكلة ازدحام يعاني منها الآلاف، لكن افتتاحه كان يهدف إلى عزل قادة المعتقلين أو ما تصنفهم إسرائيل بالخطرين، فبعد عدة أعوام من افتتاحه اعترفت إدارة السجون بأن إنشاءه كان لسد الحاجة لحبس السجناء الأمنيين الخطرين وعزلهم عن المراكز السكانية.
أشرف على التخطيط الهندسي لهذا السجن معهد الهندسة التطبيقية (التخنيون)، والذي يخطط للمشاريع الكبرى في إسرائيل، وعليه فليس من المعقول بأن بناءه بمواصفات سيئة بالنسبة للمعتقلين كالاختناق وقلة التهوية أن يكون محض صدفه أو إهمال بل إنه صمم على أيدي علماء الهندسة في إسرائيل؛ حيث وصل الحرص الأمني لحراسة هذا السجن إلى أعلى درجة في التصنيف الأمني الإسرائيلي، و هو غير موجود في أي سجن آخر، وأن هذه الدرجة تشبه تلك التي توضع فيها منشآت البرلمان و مجلس الوزراء والمنشآت الحيوية جدا.
كان السجن يضم قسمين، كل قسم يضم خمس عشرة غرفة، يبلغ مساحة الواحدة منها 650سم×350سم وارتفاعها 260سم، وتحت السقف مباشرة يوجد ست فتحات للتهوية طول كل منها 65سم وعرضها 12سم، أما الباب فهو مقفل تماما وهو من الصاج بدل القضبان، وفى وسطه فتحة طولها 20سم وعرضها 20سم، وتبقى مغلقة طوال الوقت والسجان وحده يفتحها من الخارج، ويقع في الغرفة مرحاض يستعمل لقضاء الحاجة وتنظيف الأواني وكل ما يخص النظافة.
أثار افتتاح هذا السجن بهذه المواصفات حفيظة الرأي العام الإسرائيلي، وهذا ما وجد تعبيراً له من خلال ما نقله مراسلو صحيفتي هأرتس وعل همشمار عما رأوه في ذلك السجن، وتأكيدهم أنه فرض على المعتقلين أن يبقوا في غرفهم ثلاثاً وعشرين ساعة، ولا يسمح لهم بالمشي إلا ساعة في غرفة مقفلة طولها سبعة أمتار وعرضها أربعة أمتار في الوقت الذي كان يعاني غالبيتهم من أمراض القلب، و قد رأتا هاتين الصحيفتين بأعينهم العقارب والأفاعي داخل غرف السجناء.
حرصت مصلحة السجون على تزويد السجن بطاقم يستطيع التعامل مع المعتقلين في هذا السجن الخاص، فقد تم تزويده بطاقم مقداره مائة وثمانون شرطياً يرأسهم العقيد (فاكنين عمرام)، فمصلحة السجون تعرف أن هذا الطاقم الكبير سيتعامل مع قيادات المعتقلين في السجون، بل أن إسرائيل اعتبرتهم الأخطر، حيث كانت تظهر دائما أسماؤهم على رأس القوائم التي يطالب رجال المقاومة بإطلاق سراحهم مقابل أي رهائن إسرائيليين بحوزتهم.
وحرصت إدارة مصلحة السجون على تأكيد هيبتها في تعاملها مع هذا الحشد من المعتقلين، فقد قامت عنوة بتعريضهم لمضخات D.D.T وهي مادة سامة لقتل الحشرات ومن ثم أمرتهم بدخول غرفهم تحت الضرب ونباح الكلاب من حولهم، وكانت هذه الكلاب لا تكف عن النباح بجوار غرف المعتقلين طوال اليوم.
إن إجراءات إدارة السجن تهدف إلى وضع المعتقلين في حالة نفسية صعبة، مما يجعل التفكير بمشاكل السجون الأخرى أمراً صعباً، وكذلك منعهم من محادثة زملائهم في الغرف الأخرى، وكان العقاب لأي سبب فقد دخل زنازين العزل خمسة وعشرون معتقلاً من أصل الخمسة وأربعين في السبعين يوماً الأولى لافتتاح السجن، برغم هذا الوضع الصعب فقد استطاع المعتقلون منذ الأيام الأولى لوصولهم هذا السجن ترتيب أوضاعهم التنظيمية، بحيث اتفقوا على تشكيل لجان لكل تنظيم على حده، وقد تم تشكيل لجنة موحدة وصفها مراسل صحيفة هآرتس بأنها تفرعت إلى لجان نضالية و لجان عمل ولجان تثقيف، ما جعل مراسل صحيفة هأرتس يصف الحالة بـأن " تكون إسرائيل قد أقامت المعهد الفلسطيني العالي لزعماء القومية العربية المتطرفة في المستقبل"، وقد كان عبد العزيز شاهين رئيساً للجنة المعتقلين العامة.
رفض المعتقلون الفلسطينيون أن يظلوا بهذه الأوضاع السيئة، فقد قاموا بالتحضير لإضراب عن الطعام لتحقيق تحسين لأوضاعهم وبدأ هذا الإضراب في الرابع والعشرين من تموز 1980، واستمر مده ثلاثة وثلاثين يوماً، تكبد خلاله المعتقلون شهيدين هما: راسم حلاوة وعلي الجعفري، واستشهاد اثنين آخرين فيما بعد متأثرين بالنتائج الصحية للإضراب وهما: أنيس دوله واسحق مراغه.
1- تحضيرات للاضراب
أدرك الأسرى منذ اللحظة الأولى لتجميعهم في سجن نفحة بأن إدارة السجون تقصد بهذا التصرف تحطيم النواة الصلبة للجبهة الاعتقالية، وأن تحقق لإدارة السجون هذا الأمر فمما لاشك فيه بأن كارثة كبرى ستحل بالحركة الأسيرة وتعيدها إلى سيرتها الأولى من القمع والعذاب، لذا أدرك الجميع بأن الانتصار في المواجهة القادمة هو خيار فردي وجماعي وإجباري ووحيد، فدون ذلك الموت والهلاك البطيء والمذل، وقد استأنفت قيادة الأسرى إطلاق الرسائل إلى المؤسسات والمحافل الدولية والعربية والمحلية معلنة هذه المرة عن موعد الإضراب الشامل عن الطعام وكان يوم 14/7/1980م، وقبل يومين من بدء الإضراب قامت إدارة السجن بنقل الأخ أبو علي شاهين ومعه جبر عمار ومحمد القاق وعبد الله العجرمي ليصبح العدد الإجمالي للأسرى المتواجدين في سجن نفحة والذين سيخوضون الإضراب 71 أسيراً، لكن هذه المجموعة القيادية دخلت مع أسرى سجن نفحة الإضراب عن الطعام في اليوم المحدد له 14/تموز /1980م، من مكانها الجديد في سجن شطه.
وفي مساء يوم 13/7/1980م، حدد الأسرى مطالبهم من خلال رسالة موجهة لإدارة السجن، سلمت في نوبة العدد المسائي لذاك اليوم، قدم فيها الأسرى العديد من المطالب على النحو التالي:
1- بتركيب أسرة للنوم .
2- السماح لهم بإدخال راديو وتلفزيون .
3- بتحسين نوعية وكمية الأكل.
4- السماح لهم بإدخال الكتب والصحف العربية والعبرية
5- بتوسيع نوافذ الغرف بما يسمح لدخول الشمس والهواء الى داخلها
6- التوقف عن سياسة العقاب الجماعي والفردي وعزل الأسرى في الزنازين، وحرمانهم من الأكل إثناء عزلهم، والاكتفاء بتقديم الخبز والماء لهم فقط لا غير .
7- تكون زيارة الأهل مرة كل أسبوعين ولمدة ساعة كاملة .
8- السماح لهم بإدخال الملابس الشتوية والصيفية والأغطية.
9- السماح لهم بشراء أطعمة وأغذية من كانتين السجن غير المسموح بها حتى تاريخه .
10- إطالة وقت ساعة النزهة لتصبح ساعة بدلا من ربع ساعة.
2- وصايا
تم إبلاغ ضابط العدد بأن الأسرى في السجن قد أعلنوا الإضراب عن الطعام اعتباراً من صباح غداً 14/7/1980م، وقد قام بعض الأسرى وأنا منهم بحلق رؤوسهم على الشفرة وذلك لعدة أسباب منها أن الشعر خلال الإضراب يأخذ بالتساقط، وتحسباً لأية محاولة قمعية من جانب إدارة السجن التي تستخدم أسلوب شد الشعر أثناء التعذيب في زنازين العزل والتحقيق، وقسم أخر من الأسرى انصرفوا لكتابة وصاياهم لأنهم كانوا على يقين بأنهم سيستشهدون في هذا الإضراب وكان من بين اؤلئك الأسرى الذين كتبوا مذكراتهم كل من الشهيد " راسم حلاوة " و " علي الجعفري " اللذان استشهدا في اليوم العاشر للإضراب، وتعاهد كافة الأسرى على الصبر والصمود وعدم الرضوخ لمحاولات الإدارة كسر أرادتهم وإضرابهم .
قبل بدء هذا الإضراب تمكن الأسرى من الحصول على جهاز راديو صغير قام بتهريبه لهم أحد السجناء اليهود المدنيين مقابل المال وقد تم إخفاء الراديو في مكان سري وكلف أحد الأسرى بالاستماع للراديو وتدوين ما يسمع لتتم كتابته وتعميمه على الأسرى بما في ذلك أخبار الإضراب الذي يخوضونه، في اليوم الثاني لبدء الإضراب قام رؤساء البلديات الوطنيون بسام الشكعه وإبراهيم الطويل وفهد القواسمي ومحمد ملحم وكريم خلف ووحيد الحمدالله بمحاولة لزيارة الأسرى في السجن، إلا أن إدارة السجن أوقفتهم جميعاً على بعد مئات الأمتار من السجن ولم تسمح لهم بزيارتنا، وبعد يوم واحد على هذه الواقعة سمعنا عن محاولة الاغتيال الجماعية المعروفة لرؤساء البلديات المذكورين، والتي فقد فيها الأخ المناضل بسام الشكعه ساقيه بعد إنفجار إحدى العبوات الناسفة التي زرعتها المخابرات الإسرائيلية في سيارته، وعمت المظاهرات الجماهيرية الحاشدة كافة المدن الفلسطينية، وقدم المندوب السعودي في الأمم المتحدة السيد ( أحمد خليل عبد الجبار ) طلباً لأمين عام هيئة الأمم المتحدة ( كورت فالدهايم ) لدراسة الأوضاع في سجن نفحة وإرسال لجنة أمميه لتقصي الحقائق داخل السجن .
ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن مدير السجن كان أحد الضباط السابقين في سجن بئر السبع وإسمه ( عميرام ) وهو يهودي يمني، في سجن بئر السبع تعرض للضرب المبرح من الأسرى، إبان الفترة التي عرفت في سجن بئر السبع ( بتأديب شرطة وضباط إدارة السجن في العام 1976م ) ردًا على تجاوزات واعتداءات إدارة السجن الوحشية بحق الأسرى حينذاك، لهذا السبب كان هذا المدير عدوانياً وشرساً في تعامله مع أسرى سجن نفحة .
ومن الجدير ذكره هنا أيضاً بأن وكالات الأنباء والإذاعات العربية والغربية قد بثت تصريحاً للمتحدث الرسمي بإسم الجبهة الشعبية بسام أبو شريف قبل بدء الإضراب بثلاثة أيام مفادة " بأن إدارة سجن نفحة قتلت 26 أسيراً من الأسرى المضربين عن الطعام "، وكان هذا الخبر منافيا للحقيقة تماماً، وقد أثار لدى الأسرى مزيداً من القلق والخوف من استغلال إسرائيل لهذا التصريح وتنفذ اعتداءً حقيقياً ضد الأسرى طالما أن الخبر قد انتشر .
3- محاولة لكسر الاضراب
في ظهيرة يوم 21/7/1980م وهو اليوم التاسع للإضراب قامت إدارة السجن بإطلاق نداءً جديداً للأسرى عبر السماعات المثبتة داخل الغرف، مفاده بأن عليهم الاستعداد، وبعد ساعة تقريباً حضر إلى غرف السجن أحد ضباط إدارة السجن ومعه ضابط الاستخبارات وقام بتسمية ست وعشرون أسيراً وطلب منهم الاستعداد مع أمتعتهم، وهو نفس عدد الأسرى الذين أعلن بسام أبو شريف عن استشهادهم قبل بدء الإضراب، وقد اخرج الأسرى إلى باحة السجن وكان بانتظارهم سيارة نقل الأسرى ووحدات القمع الخاصة بالسجون وجنود من الجيش الإسرائيلي، وطلب من الأسرى نزع ملابسهم تماماً استعداداً للتفتيش داخل غرفة فارغة، وفي هذه الغرفة التقيت للمرة الأخيرة بالأخ راسم حلاوة، وأثناء انتظارنا لشرطة السجن التي ستجري عملية التفتيش قال لي الأخ راسم " يا أخ أبو النوب اقترب مني لنتحدث قليلاً، الله يعلم هل سأراك بعد هذه المرة أم لا !! " وبعد أن اكتمل عددنا في هذه الغرفة على 26 أسيراً، تم إخراجنا اثنين اثنين إلى ساحة السجن وتم تكبيلنا كل اثنين مع بعضهم البعض، لنبدأ مشواراً جديداً من اللكمات والركلات والشتائم الموجهة لنا من قبل الجنود والشرطة الذين رافقوا سيارة النقل، وتحت وطأة الضرب والسب طلب منا الصعود إلى حافلة النقل الخاصة بالسجون " البوسطة "، ولم يكن لدينا أية فكرة عن وجهة السيارة، وخلال هذه الرحلة واصل الجنود والشرطة المرافقين لنا سبهم وشتمهم لنا وقال لنا أحدهم " بأن إسرائيل استطاعت شراء أسلحة بثمن الأكل الذي امتنعنا عن تناوله "، فرد عليه من بيننا الأسير على الجعفري رداً قوياً ومناسباً.
4- الموت بانتظارنا في سجن الرملة .
بعد مرور أكثر من ثلاث ساعات على إنطلاق هذه السيارة من سجن نفحة توقفت بالتدريج أمام أبواب تفتح وتغلق وأصوات كثيرة تتعالى من حولنا، فوقف أحد الأسرى وألقى نظرة من شباك السيارة المتواجد في أعلى جدارها فعرف إننا في سجن الرملة، وعندما بدأنا بالنزول من السيارة كان بانتظارنا في باحة السجن سربين متقابلين من الجنود والشرطة الذين بدأوا بضربنا بشكل شديد ومخيف، وكان من بينهم مدير السجون العامة حينذاك ( حاييم ليفي )، ولاحقاً عرفنا بأن مدير هذا السجن اسمه " روني نيتسان " وكان أحد المجرمين البارزين الذين عرفتهم الحركة الأسيرة، وفي وقت لاحق لقي مصرعه على يد أحد السجناء اليهود، بسبب ظلمه وبطشه، بعد الإنتهاء من إتمام الإجراءات الصحية الشكلية مثل التوزين وقياس الضغط في عيادة السجن التي ستصبح لاحقاً مسرحاً مفتوحاً للتنكيل والقتل، تم توزيعنا على 26 غرفة في أحد أقسام سجن الرملة، أي بمعدل سجين واحد في كل غرفة، وهي غرفة خالية من أي فراش تماماً باستثناء قطعة رقيقية من الإسفنج تسمى"جومه" بحجم فرشة البرش، وطلب منا الجلوس على تلك القطعة وعدم الوقوف وعدم الاقتراب من الباب نهائياً.
بعد مرور أقل من ساعة واحدة على دخولي لهذه الغرفة سمعت صوت صراخاً عالياً مدوياً قادماً من بعيد، ولم أعرف من هو صاحب ذاك الصوت لكن أدركت بأنه يخص احد أفراد مجموعتنا القادمة من نفحة، وتكرر هذا الصوت مراراً، ومع تعاليه تزداد حيرتي وقلقي على صاحبه وخوفي من القادم المجهول، لكن هذه المرة سمعت صوت مجموعة من الجنود كأنهم يسحبون جثة أو جسداً محطماً على الأرض، وقد تعالت في هذه الأثناء أنات وأهات العديد من الأسرى الموزعين على الغرفة المجاورة والملاصقة لغرفتي، فتأكدت من أن تعذيباً شديداً يمارس في هذا القسم بحق الأسرى المضربين عن الطعام الذين تم إحضارهم من نفحه، أخيراً فتح الشرطي باب غرفتي وطلب مني الخروج فخرجت وإذ بي أقف في عيادة السجن وأمام مسئول العيادة واسمه " رافي روميه " وسجان أخر اسمه " نواف مصالحة " ومجموعة أخرى من رجال الشرطة مفتولي العضلات، وطلب مني أن أجلس على كرسي فجلست وكان أمامي صحن من الأكل فطلب مني مسئول العيادة أن أكله مرتين فرفضت، فقال لي أنت حر، في هذه الغرفة لمحت ومنذ اللحظة الأولى لدخولي إليها طنجرة كبيرة جداً مثبتة فوق غاز للطبخ، لاحقاً عرفت بأنها مملؤة بالماء والملح المذاب، بعد ذلك قام مسئول العيادة بإحضار جهاز يشبه جهاز تنضير المعدة، وهو عبارة عن علبة في أسفلها بربيش طويل يمكنه وصول المعدة إذا أُدخل من الأنف أو الفم، وهذا الجهاز إسمه " الزوندا " لكن في هذه العيادة لن يتم إدخال الطعام إلى داخل معدة الأسير المضرب لأن العيادة أصلاً لم يكن فيها طعاماً معداً من اأجل هذه الغاية، إنما المعد والمجهز لنا سلفا هو ملح وماء مغلي تماما، وتم تثبيتي وربطي بالحبال على الكرسي الذي أجلسوني عليه وبدأوا بإدخال البربيش من فتحة انفي بقوة وفظاعة بالغتين، وأخذت الدماء تنهمر من أنفي إلى داخل فمي فامتلىء قميصي وصدري بالدماء، وهنا شعرت بأن البربيش اللعين قد وصل إلى قاع معدتي الخاوية، بعد ذلك سكبوا في العلبة من الطنجرة مباشرة الماء والملح المغليان، في هذه اللحظات تذكرت أمراً هاماً وهو أن زميلاً لي ومن الذين نقلوا معي من نفحة الى الرملة واسمه " هاني العيساوي " قال لي يا أبو النوب " أنا سمعت ( لفينات ) وهو ضابط برتبة رائد في سجن نفحة يوصي جنود البوسطة ضدك فكن حذرا "، ومما زاد من يقيني بأن إدارة سجن الرملة عاقدة النية على قتلي فعلا، ما قاله لي أيضا أثنا التعذيب السجان ( نواف مصالحة ) يا نوباني فك إضرابك لإن ( رافي ) يريد قتلك .
5- استشهاد علي الجعفري وراسم حلاوة واسحاق مراغة
على أية حال ما حصل معي هو نفسه ما حصل مع كافة الأسرى الـ 26، لكن ما حدث مع راسم حلاوة وعلي الجعفري وإسحاق المراغة كان مختلفاً قليلاً حيث استقر بربيش الزوندا في رئة ثلاثتهم بدلاً من المعدة، وقد سكب الماء والملح المغليان داخل الرئة مباشرة فتم حرقها وتدميريها على الفور، في ضحى اليوم التالي 22/7/1980م، نادي منادي من خارج القسم الذي نوجد فيه، واعتقد أنه كان أحد السجناء الجنائيين العرب من العاملين في مرافق إدارة السجن الخارجية، وقال بصوت حزيناً مدوياً " يا سجناء نفحة صباح الخير، أخبركم بأن علي الجعفري قد استشهد " وفي مساء ذات اليوم نادى ذات المنادي المجهول قائلاً " يا سجناء نفحة مساء الخير، أبلغكم بان راسم حلاوة قد استشهد " وهكذا طوي اليوم الأول لوجودنا في سجن الرملة بسقوط شهيدين، وإصابة بالغة في رئة الرفيق إسحاق المراغة الذي تعرض لما تعرض له الشهيدان علي وراسم من تعذيب وتنكيل في عيادة السجن، لكن جسده تحمل تلك الإصابة، واستشهد في وقت لاحق من العام 1983م متأثرا بتلك الإصابة القاتلة .
بعد إصابة الأسرى الثلاثة علي وراسم وإسحاق قامت إدارة السجن بجمعهم في غرفة مجاورة لعيادة السجن تسمى غرفة الانتظار، وفي وصف حالته وحالة الشهيدين قال لي الرفيق إسحاق بعد أن جمعتنا مجدداً إدارة سجن الرملة في ذات القسم بعد سقوط الشهيدين ما يلي : " بعد أن أُدخل ثلاثتنا إلى غرفة الانتظار إستلقينا من فرط تعبنا وإرهاقنا على معقد خشبي كان في تلك الغرفة، وكان الألم يمزق صدورنا وأحشاؤنا تمزيقاً شديداً، لكن التعب كان بادياً أكثر على ( علي الجعفري ) الذي تمسك بقضبان الباب الحديدي وهو يصرخ بصوته المرهق على سجان القسم تارة وطبيب العيادة تارة أخرى، لاستعجالهم في تقديم الإسعاف والعلاج له ولنا، وفجأة، قال لي: " يا أبو جمال إنني أموت، إنني أموت "، وحاولت أن اهدأ من روعه ورفع معنوياته وشد أزره، لأنني لاحظت عليه أمراً مختلفاً لم أشعر أنا به، رغم أن إصابتنا واحدة .
من جديد يصرخ علي الجعفري ويقول " لقد وصل الموت إلى قدمي يا أبو جمال، فلم أعد أشعر بهما فهما باردتان كالثلج يا أبو جمال"، وأنا ليس بيدي شيء أفعله سوى إنني قلت له لا تخف يا على ها هو الطبيب قادم لا تقلق، وفجأه قال علي مرة ثالثة وأخيرة، " لقد وصل الموت إلى يدي يا أبو جمال "، وأنا المرهق مثله يقول أبو جمال اغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرى الأنفاس الأخيرة تخرج من رئته المدمره إلى أنفه الذي مزقته برابيش الزوندا وفتحت في داخله أقنية للدم والألم، في الأثناء مال راس على الجعفري على كتفه الأيمن ويداه الباردان ما زالتا تمسكان بقضبان الباب الحديدي اللعين، حيث سالت نفسه الكريمة وفاضت روحه الطاهرة إلى باريها وهو واقفاً كشجرة نخيل عاشت مئة عام واقفة بعد جفافها، أرحنا جسد الشهيد على الأرض واستبد بناء البكاء والعويل، وللحظة نسينا أنا وراسم أننا شركاء الشهيد بذات المصير.
وعلى الفور دخل الجلادون إلى الغرفة ونقلوا الشهيد ونحن معه إلى العيادة، لم تمضي سوى ساعات قليلة حتى ارتقت نفس راسم حلاوة إلى باريها، واستشهد هو وعلى الجعفري في ذات اليوم 22/7/1980م، سقط علي الجعفري بطل نفحة وبطل عملية جبل القرنطل الأسطورية، وترك خلفة تاريخاً مشرفاً من العطاء والتضحية، ورافقه في رحلة الخلود رفيقه وصديقه الشهيد راسم حلاوة، وعن علي الجعفري أيضاً قال لي أخي وصديقي أبو علي شاهين ذات يوم أمراً في منتهى الأهمية " ما زلت أذكر علي الجعفري الذي كان يرجو في إضرابات سابقة على أن لا يستعمل معه الأنبوب لسبب ما، فقد كان له رأياً بأن شرب الحليب إذا كان مسموحاً فلنشربه مباشرة بدون الأنبوب، وكأنه كان على يقين بأنه سيكون ضحية ذاك الأنبوب اللعين، لقد استعملوا معه الأنبوب هذه المرة كرهاً، وضعوه في رئته وصبوا الماء والملح ما أدى إلى استشهاده في نفس اليوم، أما راسم حلاوة، صاحب البنية القوية، الذي كان يحمل الواحد منا مثلما يحمل عصفوراً في يديه، استشهد هو الآخر في نفس اليوم بسبب الأنبوب، وأيضاً المناضل الكبير اسحق المراغة، الذي أحدث له الأنبوب نزيفاً داخلياً حاداً، استشهد على أثره فيما بعد.
6- تضامن وغضب
انتشر خبر الشهداء في كافة أنحاء فلسطين وخرجت التظاهرات الجماهيرية الغاضبة إلى الشوارع، وتناقلته باهتمام بالغ منظمات وهيئات حقوق الإنسان عبر العالم وداخل إسرائيل نفسها، وأصبح موقف إدارة السجن في منتهى الحرج، وحضر إلى السجن مجموعة من المحامين عرف من بينهم المحامية المعروفة ليئا تسيمل التي قابلت الأسير المصاب ( إسحاق مراغة )، وقدمت هذه المحامية الإسرائيلية التقدمية وصفاً مثيراً لحالة الأسرى في سجن الرمله أمام الرأي العام الإسرائيلي والعالمي، وفضحت أمر حكومة " مناحيم بيغن " و وزير داخليتة " يوسف بورغ " و مدير السجون العامة " حاييم ليفي " لتورطهم المباشر في تنفيذ عملية القتل في سجن الرملة، فارتفعت وتيرة الضغط في العالم تضامناً مع مضربي نفحة .
إن أهم ما كان في قضية نفحة، هو أن قيادة الثورة الفلسطينية تبنت هذا الإضراب تبنياً كاملاً، بالرغم من أنه لم يكن لهذا الإضراب أي هدف سياسي أبداً ، فقد كان الهدف الوحيد هو تحسين مستوى الحياة للمعتقل الذي لم يحظ بأدنى حق من حقوق الإنسان، ونجح إضراب نفحة، وأعطى نتائج ملموسة وغير كثيراً، والأهم من ذلك أنه أسقط مدرسة القمع والإرهاب وأفرغها وكسر الشوكة، وأثبت أن شعار نفحة المرفوع " نعم للجوع، لا للركوع" هو شعار النضال الاعتقالي، كما أثبتت معركة الأمعاء هذه إرادة المعتقل الفلسطيني وصموده في وقفة منيعة واحدة، لم يتخللها ضعف، أو خلاف داخلي.
7- استمرار الإضراب
في صباح اليوم التالي لسقوط الشهداء 23/7/1980م، فوجىء الأسرى المضربين بإدخال عربة مطبخ محملة بطنجرة حليب معدة للأسرى المضربين، وقبل ذلك كانت إدارة السجن قد أنهت عزل وتوزيع المضربين عن الطعام على الغرف وقامت بإعادة توزيعهم على الغرف بمعدل كل ستة أسرى في غرفة واحدة، وكان لدينا موقف سابق من تناول الحليب خلال الإضراب، والقاضي بأن تناول كاس الحليب لا يفسد ولا ينهي الإضراب عن الطعام، وقد سبق للمحكمة الإسرائيلية العليا أن أيدت هذا الرأي بناء على التماس قدمه الأخ أبو علي شاهين في العام 1979م، وقد قامت إدارة السجن بهذه الخطوة في محاولة منها لامتصاص نقمة الأسرى وغضب الشارع الفلسطيني .
من المهم ذكره هنا بأن إضراب سجن نفحة قد بدا مع حلول شهر رمضان المبارك من ذاك العام، ومع سماح إدارة السجن لنا بتناول الحليب خلال الإضراب أصر بعض الأسرى على صيامهم أثناء الإضراب عن الطعام أي أنهم كانوا يتناولون كأس الحليب بعد أذان المغرب، بعد ذلك بأربعة عشر يوماً عدنا إلى سجن نفحة، حيث ما زال الإضراب هناك مستمراً، بعد مرور 27 يوماً على بدئه، وواصلنا الإضراب مع بعضنا البعض وقد انتهى شهر رمضان وأمضينا العيد مضربين .
8- تعليق الإضراب .
في ثالث أيام عيد الفطر السعيد، وهو اليوم الثالث والثلاثين لبدء الإضراب وكان الموافق 16/آب /1980م، قامت إدارة السجن باستدعاء لجنة الحوار الاعتقالية وكان على رأس تلك اللجنة الأخ المناضل خليل أبو زياد، وفي مكاتب الإدارة كان بانتظارهم لجنة مكونة من ممثلين عن لجنة المحامين العرب وممثلين عن الصليب الأحمر وممثلين عن مديرية السجون العامة، وبدأ نقاشاً مستفيضاً بين ممثلو الأسرى واللجنة المذكورة استمر حتى نهاية عصر ذاك اليوم، ومن الجدير ذكره هنا بأن قادة الأسرى في نفحة رفضوا سابقاً مقابلة لجنة منفردة من مديرية السجون العامة لوحدها لبحث مطالب الأسرى، وقد كانت استجابة اللجنة الحالية لأكثر من 95 % من مطالب الأسرى كفيلاً بأن تدفع لجنة الحوار الاعتقالية للموافقة على تعليق الإضراب، وقد عادت اللجنة الاعتقالية إلى السجن، ووقف الأخ خليل أبو زياد بين الغرف وقال مخاطباً الأسرى بما يلي :-
" أيها الإخوة أيها الرفاق، مبروك نصركم لقد استجابت مديرية السجون العامة لمطالبنا، وبناء عليه قررت اللجنة النضالية العامة تعليق الإضراب لمنح إدارة السجون فرصة لتنفيذ ما وعدت به" ومن أبرز تلك المطالب أذكر الأتي :-
1- الموافقة على تركيب أسرة نوم في السجن.
2- الموافقة على إدخال أجهزة تلفزيون.
3- الموافقة على إدخال أجهزة راديو .
4- الموافقة على توسيع الفتحة في أبواب الغرفة الحديدية لتصل إلى نصفه تقريبا .
5- الموافقة على إدخال المزيد من الكتب والصحف العربية والعبرية.
6- الموافقة على زيادة وقت النزهة ليصبح ساعة في كل مرة أي بمعدل ساعتين يومياً.
7- الموافقة على تخصيص غرفة للزيارة، وزيادة وقت زيارة الأهل ليصبح 45 دقيقة كل أسبوعين.
8- الموافقة على علاج المرضى من الأسرى بما تتطلبه حالة كل منهم .
9- الموافقة على عمل الأسرى في مطبخ الأسرى، والمردوان .
10- الموافقة على إدخال الملابس الداخلية والأغطية من خلال زيارات الأهل.
11- الموافقة على التنقل بين الغرف وزيارة الأسرى لبعضهم البعض .
9- مثار اعجاب
بعد هذا الإعلان أمر مدير السجن مساعديه بإعادة السكر والشاي والقهوة والدخان إلى أقسام السجن، وفي مطبخ السجن تم إعداد وجبة من الحليب والزبدة، يتم تناولها مساءً من قبل كافة الأسرى، في صباح اليوم التالي أحضرت لنا إدارة السجن وجبة مكونة من حليب مخلوط بالزبدة وخبز محمص وفول، فقام الأسرى بإعادة الفول لأنه لا يلائم حالة الخارجين من الإضراب عن الطعام، كما أن الأخ خليل أبو زياد طلب من إدارة السجن السماح للأسرى جميعاً بالخروج إلى ساحة السجن لتناول وجبة الغداء بشكل جماعي والسلام على بعضهم البعض، فسمحت الإدارة بذلك، ومع اقتراب موعد تناول وجبة الغداء وخروج الأسرى إلى ساحة السجن فوجئوا بوجود أعداد كبيرة من الزوار الإسرائيليين من المدنيين والعسكريين والصحفيين، قسم منهم اعتلى سطح السجن وقسم أخر يتجول بين الغرف والأقسام، وقد جاء هؤلاء إلى سجن نفحة لرؤية الأسرى الذين تمكنوا من الصمود بلا طعام 33 يوما، ولعل بعضهم أو كلهم توقع أن يقوم الأسرى بالهجوم على أواني الطعام لحظة دخولها إلى ساحة السجن كالغيلان الضارية من شدة جوعهم وعطشهم، لكن ما قام به الأسرى أثار عجب واستغراب وتقدير اؤلئك الزوار حيث جلس كافة الأسرى على شكل حلقة مفترشين الأرض، باستثناء ثلاثة منهم، كلفوا بسكب الغذاء في الصحون وتوزيعها بالترتيب على الأسرى الجالسين بانتظام .
وأذكر أن تلك الوجبة كانت مكونة من بطاطا مسلوقة ومهروسة تماماً وخبز محمص وشوربة، ولم يتناول أي أسير لقمة واحدة إلا بعد أن أعطى الأخ خليل أبو زياد الأمر بذلك، فخرج كل من كان في سجن نفحة في ذاك اليوم من الزوار بانطباع في منتهى الأهمية عن الأسرى الفلسطينيين سيعيش معه حتى الموت، وقسم منهم وثق ما رأى في كتب ودراسات قاموا بإعدادها لاحقا، ونحن سمعنا على الفور بأذاننا تعليقاتهم على ما رأوه كمثل " أي جنود هؤلاء الذين يتصرفون بهذه الانضباطية العالية " و " أن هؤلاء الأسرى سيشكلون أعمدة الدولة الفلسطينية " .
10- مقبرة الشهداء
وهكذا إنتهى إضراب سجن نفحة الأسطوري والذي شاركهم فيه كافة الأسرى الفلسطينيين، وخاصة سجن عسقلان الذي استشهد فيه الأسير " أنيس دولة " بعد إنتهاء الإضراب بأيام قليلة وبالتحديد في يوم 26/8/1980م، متأثراً بما ألم به من تعب ومعاناة جراء خوضه للإضراب التضامني مع أسرى سجن نفحة، وقد تلي هذا الإضراب بإضراب جزئي أخر استمر لمدة سبعة عشر يوماً بسبب تلكؤ إدارة السجن في تنفيذ المطالب المذكورة وأخيراً تم إنجازها كلها باستثناء جهاز الراديو الذي تحقق خلال إضراب سجن جنيد 1984م، أما جثامين الشهداء على الجعفري وراسم حلاوة وأنيس دولة وإسحاق المراغة فإنه تم دفنها في مقابر الأرقام وسلمت لذويهم في العام 2011م أي بعد مرور 31 عاماً على استشهادهم.
ثامناً: سجن شطه
يقع سجن شطه في غور الأردن بجوار بلدة بيسان الفلسطينية الواقعة جنوب بحيرة طبريا التي سماها الإسرائيليون بيت شأن، ويعود إنشاء هذا السجن إلى قلعة خان التي بناها العثمانيون ومن ثم استعملها الجيش البريطاني، إلى أن حولتها إسرائيل عام 1953 إلى سجن أطلقت عليه شطه، وهذا الموقع يجعل من العيش بالظروف الطبيعية أمراً صعباً لارتفاع درجة الحرارة التي تصل إلى أكثر من 40 درجة صيفاً، فضلاً عن جفاف الجو، فهي منطقة منخفضة عن سطح البحر.
وفي عام 1958 حدث تمرد المعتقلين العرب حيث استطاعوا قتل إثنين من السجانين هما الكسندر يغر ويوسف شيفاح، وبعدها قامت مصلحة السجون بتعزيز الإجراءات الأمنية للسجن من جميع النواحي، وزادت من الطاقم العامل به ليصل إلى ثلاثمائة شرطي .
مارس المعتقلون الفلسطينيون في هذا السجن حياه تنظيمية سياسية في وقت مبكر مقارنة مع السجون الأخرى، وكان ينقل إليه قادة السجون الأخرى عند حدوث إضرابات عن الطعام، أو صدامات مع الإدارة في تلك السجون، ويتكون هذا السجن من أربعة أقسام؛ يحيط به سور من الباطون المسلح بارتفاع أربعة أمتار، ويعلوها سور من الأسلاك الشائكة المكهربة، يتخللها ستة أبراج مراقبة، كما يوجد في السجن غرف عزل ضيقة وتقع تحت سطح الأرض وليس بها أي فتحات للتهوية.
إن طبيعة الحياة في تلك المنطقة تعكس حاجات المعتقلين خاصة تلك الناتجة عن البيئة كدرجة الحرارة، وبناءً عليه فقد عانى المعتقلون كثيراً من الأمراض الجلدية المزمنة، وعدم توفر أدوات ووسائل النظافة الكافية وكذلك الأجواء التي يمكث فيها الأهالي عند زيارتهم لذويهم.
وقد ارتفعت قوة البناء التنظيمي للمعتقلين بعد نقل عدد من قيادة المعتقلين من سجن عسقلان إلى سجن شطه في ديسمبر 1978، مما أدى إلى حدوث إضراب جديد في سجن شطه حقق فيه المعتقلون العديد من الإنجازات خاصة إعادة الكتب والملابس الداخلية وإخراج من كانوا في العزل منذ شهر ونصف من قادة المعتقلين، وهم محمود القاضي، محمد مهدي بسيسو وعبد العزيز شاهين وعبد الله العجرمى.
فكر العديد من المعتقلين الفلسطينيين بالهرب من هذا السجن، وعليه فقد اتفق عدد من قادة السجن على خلع باب الغرفة والهروب في وقت تبديل قوة الشرطة، إلا أن أحد السجناء الجنائيين كشف الأمر وتم إحباط المحاولة، وإنزال سكان الغرفة إلى زنازين تحت سطح الأرض لمدة شهر ونصف.
من كتاب المناضل الراحل أبو علي شاهين "مسيرة شعب"
8 من الزوار الآن
916824 مشتركو المجلة شكرا