الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > ثورة العشرين 1920 ثورة تأسيس العراق
في آذار 1917 دخلت القوات البريطانية بغداد بعد ثلاث سنوات من القتال المرير. وفي 7 تشرين الثاني 1918 صدر بلاغ فرنسي -بريطاني ينص على "أن الهدف النهائي الذي ترمي إليه كل من بريطانيا وفرنسا هو التحرير الكامل الناجز لجميع الشعوب التي خضعت طويلاً للجور التركي ، وإقامة حكومات وإدارات وطنية تستمد سلطانها من تأييد رغبة السكان الوطنيين أنفسهم ، ومحض اختيارهم ، واعترافهما بهذه الحكومات -عندما يتم تأسيسها تأسيساً فعلياً- وكان موضوعاً بصورة أولية ليشمل سوريا والحجاز ، ولكن العراقيين طلبوا شموله العراق كأمر طبيعي ، وفي الوقت نفسه برزت فكرة الانتداب".
بدأ التفكير بتأسيس إدارة حكومية جديدة ، وكان هناك تياران داخل الحكومة البريطانية :
الأول : يدعو إلى وضع العراق تحت الإدارة البريطانية المباشرة ، ويتزعمه الكولونيل أرنولد ولسن نائب الحاكم المدني العام في العراق ، ويؤيده بعض الوجهاء والتجار والعلماء من أهل البلاد .
الثاني : يرى أن أفضل طريقة لحكم العراق هي الإدارة غير المباشرة من قبل بريطانيا .
بعد ثلاثة أسابيع أي في 30 تشرين الثاني وصلت برقية إلى ولسن A.T. Welson نائب الحاكم الملكي العام في العراق من وزارة الخارجية البريطانية تضمنت تكليفه باستبيان آراء العراقيين بصدد ثلاثة مسائل هي :
1- هل يرغبون في دولة عربية واحدة ، تحت الوصاية البريطاني ، تمتد من الحدود الشمالية لولاية الموصل حتى الخليج الفارسي ؟
2- هل يرغبون ، في هذه الحالة ، في رئيس عربي بالاسم يرأس هذه الدولة الجديدة؟
3- من هو الرئيس الذي يريدونه في هذه الحالة ؟
وأضيفت إليها ملاحظة هامة هي : من المهم في نظرنا أن يكون التعبير عن آراء السكان المحليين حول هذه الأمور حقيقياً ، بحيث أن إعلانه للعالم يكون تعبيراً نزيهاً عن رأي سكان العراق .
حاول ولسن أن ينفذ وجهة نظره ، فأقنع بعض العوام بتأييد موقفه . وأصدر تعليماته إلى ضباط الارتباط في المدن العراقية ، وأبلغهم بعدم قبول غير الأجوبة المرضية والملائمة للإنكليز . وقد وقع بعض أهالي كربلاء مضبطة يقولون فيها : ( وقد اجتمعت أفكارنا عموماً ، وصار نظرنا على ما فيه صلاح العموم ، بأن نكون تحت ظل حكومتنا العطوفة الرؤوفة البريطانية العظمى مدة من الزمان لترقي العراق خصوصاً ممالكنا وتعمير بلادنا ويكون بذلك مصلحة العموم ). وفي الموصل اجتمع بعض العلماء والأشراف ، ووقعوا على مضبطة كتبها بخطه القاضي أحمد أفندي الفخري هذا نصها :
( نعرض الشكر لدولة بريطانيا العظمى على إنقاذنا من الأتراك ، وتخليصنا من الهلاك ، وإعطائنا الحرية والعدالة ، والسعي في ترقي ولايتنا بالتجارة والزراعة والمعارف ، ونشر الأمن في جميع الأطراف . ونؤمل من الدولة المشار إليها أن تحسن علينا بحمايتنا ، وإدارة شؤون ولايتنا إلى زمن يمكن فيه أن نفوز بالنجاح ، ويحصل لنا الترقي والصلاح ، ونسترحم إبلاغ معروضاتنا هذه من سعادتكم إلى عرش الملك جورج الأعظم ، والأمر لمن له الأمر .
حرر في 10 كانون الثاني 1919)
يقول فيليب إيرلاند : بذل الإنكليز سعيهم من أجل جمع تواقيع شيوخ العشائر لصالح الحكم البريطاني ، وخاصة في المدن الكبرى كالبصرة ، حيث كان ملاك الأرض مستفيدين من الاحتلال البريطاني ، وأغلبهم أعلن عن تأييده الحكم البريطاني المباشر . وفي الموصل صدرت عشرة إعلانات (مضابط) موقعة من ممثلي المؤسسات الدينية ، سبعة منها تعود لغير المسلمين الذين طالبوا بالحكم البريطاني المباشر أو الحماية البريطانية . وبيانان للمسلمين وآخر للأكراد الذين أصروا على أنهم لن يعيشوا تحت حكم عربي أبداً ، وطالب اليزيدية بذلك أيضاً . وأعلن بقية المسلمين في الموصل عن رغبتهم في الحماية البريطانية.
أما أغلبية الشعب العراقي فقد رفضت صيغة الاحتلال والحكم البريطاني المباشر . فقد أصدر المرجع الديني الشيخ محمد تقي الشيرازي فتوى بصدد الاستفتاء جاء فيها :
ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين .
20 ريع الأول 1337 ( 23 كانون الثاني 1919)
وقد تم استنساخ الفتوى وتوزيعها في المدن والمساجد والمراكز العامة . فكانت هذه الفتوى قد حسمت الموقف ، وأوضحت الموقف الشرعي تجاه الاستفتاء واختيار غير المسلم حاكماً على المسلم بإرادته ورغبته . فكان رفض المقترح البريطاني قد تصاعد في أنحاء المدن العراقية بتأثير من المدن المقدسة ، النجف وكربلاء والكاظمية ، وبتأثير المجتهدين الذين أيدوا فتوى الشيرازي الذي اعتبر من يرغب بحكومة غير مسلمة فهو كافر .
إن موقف الفقهاء والمجتهدين يتضمن بعدين :
الأول : ديني فقهي ، إذ توجب الشريعة الإسلامية طاعة أولي الأمر من المسلمين لا أي يطيعوا السلطة
الحاكمة إذا كانت من الكفار . يقول تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء :59)
الثاني : سياسي ، إذ كانت بريطانيا وفرنسا قد وعدتا بإنشاء دولة عربية بعد انسحاب النفوذ العثماني من المنطقة العربية . فقد جاء في البلاغ البريطاني-الفرنسي الصادر في 7 تشرين الثاني 1918 "أن الغرض الذي ترمي إليه كل من بريطانيا وفرنسا في الشرق ، هو تأسيس حكومات وإدارات وطنية ، تستمد سلطانها من تأييد رغبة السكان الوطنيين أنفسهم ، ومحض اختيارهم ، واعترافهما بهذه الحكومات " عندما يتم تأسيسها تأسيساً فعلياً .
وجاءت الفتوى ترجمة لموقف سياسي ومطالب وطنية أجمع عليها الفقهاء والعلماء وبقية أبناء الشعب العراقي . ففي " الكاظمية اجتمع العلماء والوجهاء والأشراف في اليوم الخامس من شهر ربيع الثاني 1337 والثامن من شهر كانون الثاني 1919 ووقعوا هذه المضبطة :
بسم الله الرحمن الرحيم
بناء على الحرية التي منحتنا إياها الدول العظمى ، وفي مقدمتهن الدولتان الفخيمتان انكلترة وفرنسة ، وحيث أننا ممثلو جمهور كبير من الأمة العربية العراقية المسلمة ، فإننا نطلب أن تكون العراق ، الممتدة أراضيه من شمال الموصل إلى خليج فارس ، حكومة عربية إسلامية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال جلالة الملك حسين ، على أن يكون مقيداً بمجلس تشريعي وطني والله ولي التوفيق .
حرر يوم الأربعاء في 5 ربيع الثاني سنة 1337
وكانت أبرز التواقيع في هذه المضبطة للذوات :
محمد مهدي صدرالدين ، السيد أحمد السيد ، الحاج عبدالحسين الجلبي ، الشيخ عبدالحسين آل الشيخ ياسين ، السيد إبراهيم السلماسي ، السيد حسن الصدر والسيد محسن السيد حيدر .
وفي النجف الأشرف عقدت عدة اجتماعات لبحث الموضوع . وأخيراً تمت الموافقة وبإشارة من السيد كاظم اليزدي على مضبطة طلبوا فيها حكومة مستقلة استقلالاً تاماً ناجزاً برئاسة ملك عربي مسلم مقيد بدستور ومجلس تشريعي منتخب .
وفي بغداد ، اجتمع وجهاؤها وأشرافها بدعوة من قاضي بغداد ، وأصدروا بياناً يتضمن المطالب المذكورة آنفاً . "على أن موقف النقيب كان يختلف عن موقف المرشحين الآخرين . فإنه كان يصرح جازماً في أحاديثه الخاصة مع الحكام السياسيين (الإنكليز) بأنه ضد تعيين أمير على رأس الحكومة في العراق على أساس أن البلاد لم تكن على درجة من النضوج تؤهلها لأي نوع من أنواع الحكم العربي . ولذا كان يدعو إلى استمرار الإدارة البريطانية التي يتحتم عليها أن تتعاون مع سكان البلاد ، وتكثر من استخدامهم بصورة تدريجية . وكان يؤكد على الحاجة إلى وجود الحاميات البريطانية في البلاد من أجل المحافظة على السلم . كما أنه أولاً وآخراً يعرب عن تعجبه وأسفه لاستفتاء الرأي العام عن مستقبل البلاد".
لقد كان موقف عبد الرحمن النقيب غريباً ولا يتناسب مع كونه نقيب الأشراف ومتولي الحضرة القادرية وزعيماً دينياً ، إضافة إلى أنه قبل برئاسة الحكومة فيما بعد مع أنها لم تنضج بعد على حد زعمه . ولم يكن ذلك موقف بقية العلماء السنة ، بل حدث تآلف وتعاون بين العلماء السنة والشيعة ، وصل إلى توقيع مضابط مشتركة كالتي وقعها الوفد الشيعي-السني المشترك والتي جاء فيها :
لما علم أن الغاية التي ترمي إليها كل من دولتي بريطانيا العظمى وفرنسا في الشرق هي تحرير الشعوب وإنشاء حكومات وإدارات وطنية وتأسيسها تأسيساً فعلياً بكل من سوريا والعراق حسبما يختاره السكان الوطنيون ، فإننا ممثلو الإسلام من الشيعة والسنة من سكان مدينة بغداد وضواحيها ، بما أننا أمة عربية وإسلامية قد اخترنا أن تكون لبلاد العراق الممتدة من شمالي الموصل إلى خليج العجم دولة عربية يرأسها ملك عربي مسلم هو أحد أنجال سيدنا الشريف حسين مقيداً بمجلس تشريعي وطني مقره عاصمة العراق بغداد .
حرر يوم الأربعاء 19 ربيع الآخر سنة 1337 الموافق 22 كانون الثاني 1919م
فشلت الإدارة البريطانية في إقناع العراقيين بالحكم المباشر ، رغم أن الخيار الآخر ليس بعيداً عن نفوذها ، فالملك فيصل بن الشريف حسين كان من رجالها وعلى علاقة وثيقة به قبل سنوات عبر الجاسوس البريطاني لورنس الذي رتب الثورة العربية على تركيا .
في 2 آب 1919 اعتقلت السلطات البريطانية ستة من العاملين النشطين في مدينة كربلاء ، مما أغضب المرجع الشيخ محمد تقي الشيرازي ، فهدد بالهجرة إلى إيران وإعلان الجهاد هناك ضد الإنجليز ، فتفاعلت الأمة مع هذا الموقف ، وشعر الإنكليز بخطورة الموقف فقرروا إطلاق سراحهم . فبريطانيا كانت قبل خمسة أعوام قد جربت وعرفت ماذا يعني إعلان الجهاد ، لذلك آثرت عدم تصعيد الموقف . وسيكون موقف الشيرازي إلهاماً في تحرك الجمعيات والأحزاب السياسية في تصعيد المعارضة السياسية ضد الاحتلال البريطاني . وفي الأول من آذار 1920 أصدر الشيرازي فتوى حرم فيها العمل في الوظائف الحكومية تحت الإدارة البريطانية ، فأدت إلى موجة استقالات بين الموظفين الشيعة . لقد أراد الشيرازي عزل سلطات الاحتلال عن أبناء البلاد .
ولما رأت المرجعية الدينية أن بريطانيا تماطل في منح العراق الاستقلال ، كما ترفض تأسيس حكومة وطنية في العراق ، بادرت إلى مخاطبة المجتمع الدولي ، والاتصال بالقوى الأخرى ومنها أميركا . فقد بعث الشيخ محمد تقي الشيرازي وشيخ الشريعة الأصفهاني معاً برسالتين إلى كل من السفير الأميركي في طهران والرئيس الأميركي وودرو ولسن Woodrow Wilson من أجل مساعدة الشعب العراقي . فكان نص الرسالة الموجهة إلى السفير الأميركي في طهران كالتالي :
تحظى بخدمة جناب الأجل سفير دولة أميركا المتحدة في طهران المحترم
بعد الاحترام اللائق :
لزمنا أن نحرر لكم في هذه الآونة على سبيل الإيجاز ، وذلك نظراً إلى ما أملته حكومة الولايات المتحدة من الشروط المعروفة التي قدمها رئيس جمهوريتها لإحقاق الحقوق ، وتقرير المصائر ، قد رأينا أن نراجع حكومة الولايات المتحدة بتوسطكم ونستعين بها في تأييد حقوقنا بتشكيل دولة عربية .
ولا يخفاكم أن كل أمة مطوقة بالقوات العسكرية المحتلة من كل الجوانب لا تجد أمامها مجالاً حراً للتعبير عن آرائها في الحرية والاستقلال .
أما حرية الرأي المزعومة في هذا العهد فلا يطمئن إليها الناس ، لهذا خشي أكثر الأهالي أن يعلنوا رغائبهم ، ويكشفوا عما في ضمائرهم ، وإذا بان خلاف ذلك فإنه لا شك منبعث عن الظروف القاسية المحيطة بهذه البلاد ، لذلك رأى الشعب العراقي أن يستعين بحكومة الولايات المتحدة على المطالبة بحقوقه وإنجازها .
(التوقيع) شيخ الشريعة
محمد تقي الحائري
5 جمادى الأولى 1337هج ( 6 شباط 1919)
أما الرسالة الموجهة إلى الرئيس الأمريكي ولسن فكانت كالتالي :
لحضرة رئيس جمهورية الولايات المتحدة الأميركية المحترم
ابتهجت الشعوب جميعها بالغاية المقصودة من الاشتراك في هذه الحروب الأوربية من منح الأمم المظلومة حقوقها ، وإفساح المجال لاستمتاعها بالاستقلال حسب الشروط المذاعة عنكم ، وبما أنكم كنتم المبدأ في هذا المشروع ، مشروع السعادة والسلام العام ، فلابد وأن تكونوا الملجأ في رفع الموانع عنه . وحيث قد يوجد مانع قوي يمنع من إظهار رغائب كثير من العراقيين على حقيقتها بالرغم مما أظهرته الدولة البريطانية من رغبتها في إبداء آرائهم . فرغبة العراقيين جميعهم والرأي السائد - بما أنهم أمة مسلمة - أن تكون حرية قانونية واختيار دولة جديدة عربية مستقلة إسلامية ، وملك مسلم مقيد بمجلس وطني . وأما الكلام في أمر الحماية فإن رفضها أو الموافقة عليها يعود إلى رأي المجلس الوطني بعد الانتهاء من مؤتمر الصلح .
فالأمل منا حيث إنا مسؤولون عن العراقيين في بث آمالهم وإزالة الموانع عن إظهار رغائبهم بما يكون كافياً ليطلع الرأي العام على حقيقة الغاية التي طلبتموها في الحرية التامة ، ويكون لكم الذكر الخالد في التاريخ بحرية العراق ومدنيته الحديثة .
( التوقيع ) شيخ الشريعة الأصفهاني
محمد تقي الحائري الشيرازي
في 12 جمادى الأولى 1337هج ( 13 شباط 1919)
ولنا بضع ملاحظات ومناقشات حول هاتين الرسالتين الهامتين :
1- لمحت إلى مبادئ الرئيس ولسن الأربعة عشر فيما يتعلق بحق تقرير المصير والاستقلال وتأسيس كل شعب حكومة ودولة خاصة به .
2- قبول الوساطة الأمريكية في تأييد حقوق المسلمين والدفاع عنها ، أي جواز الاستعانة بالكافرين لخدمة أهداف إسلامية أو الدفاع عن دولة إسلامية .
3- أعلنت عن ارتياح المرجعية ورضاها عن " مشروع السعادة والسلام العام " أي تأييد السلام الدولي والمحافظة عليه ، وهو أحد مبادئ القانون الدولي .
4- التأكيد على أسس الدولة الديمقراطية وهي الحاكم المسلم ، الدستور والمجلس التشريعي أو الوطني .
ويشير ذلك إلى وعي مبكر لطبيعة الدولة الإسلامية التي كان يطالب بها الفقهاء والعلماء .
5- أن المرجعية الدينية تمثل الشعب وتدافع عن آماله وطموحاته وتدافع عن مصالحه ، ومسؤولة عن المطالبة بما يريده . فالشعب أولاها ثقته ومنحها قياده .
6- انتقاد موجه لبريطانيا التي قبلت الاستفتاء لكنها ترفض نتائجه .
7- تنم عن دبلوماسية رصينة في عدم البت بقضية الانتداب أو الحماية بل ترك ذلك إلى رأي الشعب عبر المجلس الوطني . كذلك عدم استباق الأحداث وانتظار نتائج مؤتمر الصلح في باريس 1920 .
زعماء العشائر يقنعون المرجعية بالثورة
في 25 نيسان 1920 أعلنت مقررات مؤتمر سان ريمو ، والتي تضمنت إعلان الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين ، والفرنسي على سوريا ولبنان . لقد كان القرار صدمة قوية للأوساط الشعبية والدينية . وكانت قد سبقته تحركات سياسية فجرها الاستياء من سوء معاملة الإدارة البريطانية للعراقيين عموماً . وكانت المرجعية تشرف على الاتصالات مع الأطراف الخارجية ، فقد كتب رسالة شخصية في أوائل آب 1919 إلى الملك حسين في الحجاز ، فأجابه الأخير برسالة يعلن فيها تأييده لمطالب العراقيين . في 16 نيسان 1920 عقد اجتماع في دار السيد علوان الياسري حضره عدد من العلماء ورؤساء العشائر ، وضم الميرزا محمد رضا الشيرازي ، نجل المرجع الشيرازي . طرحت في الاجتماع فكرة الثور لأول مرة ، وتم الاتفاق فيه على تصعيد المواجهة .
لم يكن الشيخ الشيرازي يميل للعنف والثورة المسلحة ، بل كان يريد أن تبقى الحركة الوطنية سلمية تكتفي بالمطالبة بحقوق البلاد المشروعة دون اللجوء إلى السلاح ، ولكن الذين خططوا للثورة ، ثم أصبحوا قادتها منهم عبد الكريم الجزائري وجعفر أبو التمن ونور الياسري وعلوان الياسري وعبد الواحد الحاج سكر ، استطاعوا إقناعه ، وتبديد مخاوفه وتحفظاته ." إذ كان يخشى الفوضى ، ويعتبر حفظ الأمن أهم من الثورة بل أوجب منها ، فأجابوه بأنهم قادرون على حفظ الأمن والنظام ، وأن الثورة لابد منها وسوف يبذلون ما في وسعهم لحفظ النظام وتوفير راحة العموم . فقال لهم : إذا كانت هذه نياتكم وهذه تعهداتكم فالله في عونكم".
وبدأت التحركات السياسية بدعوة الناس للتظاهر سلمياً للمطالبة بالحقوق المشروعة ، فأصدر الشيخ الشيرازي بياناً يدعوهم فيه للتظاهر السلمي مع المحافظة على الأمن ، ثم يطلب منهم إرسال وفد يمثل كل منطقة إلى بغداد ، جاء فيه :
إلى إخواننا العراقيين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد فإن إخوانكم في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وغيرها من أنحاء العراق ، قد اتفقوا فيما بينهم على الاجتماع والقيام بمظاهرات سلمية . وقد قامت جماعة كبيرة بتلك المظاهرات ، مع المحافظة على الأمن ، طالبين حقوقهم المشروعة المنتجة لاستقلال العراق إن شاء الله بحكومة إسلامية ، وذلك أن يرسل كل قطر وناحية إلى عاصمة العراق (بغداد) وفداً للمطالبة بحقه ، متفقاً مع الذين سيتوجهون من أنحاء العراق عن قريب إلى بغداد .
فالواجب عليكم ، بل على جميع المسلمين ، الاتفاق مع إخوانكم في هذا المبدأ الشريف . وإياكم والإخلال بالأمن ، والتخالف والتشاجر بعضكم مع بعض ، فإن ذلك مضر بمقاصدكم ومضيع لحقوقكم التي صار الآن أوان حصولها بأيديكم . وأوصيكم بالمحافظة على جميع الملل والنحل التي في بلادكم ، في نفوسهم وأموالهم وأعراضهم ، ولا تنالوا أحداً منهم بسوء أبداً . وفقكم الله لما يرضيه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
.
الأحقر محمد تقي الحائري الشيرازي
9-10 رمضان 1338 ( 28-29 نيسان 1920 )
وزع البيان في المساجد والمدن وسارت التظاهرات ، وكتبت البيانات ، وذهبت الوفود لكن كل ذلك لم يغير شيئاً من الموقف البريطاني . يقول فيليب إيرلاند وهو إنكليزي : " لقد فشلت المحاولة لجعل الانتداب مقبولاً وأنه التزام فرض على بريطانيا من قبل عصبة الأمم ، حيث واجه رفض العراقيين سواء الاعتراف بسلطة عصبة الأمم التي منحت الانتداب ، أو ما يتعلق بالإدعاء البريطاني بمسؤوليتها عن العراق وأنه رد فعل ودي تجاه عصبة الأمم . إن نظرة العرب العامة تجاه إعلان الانتداب تشابه ما ذكره اللورد كورزن Lord Curzon وزير الخارجية إذ قال : إنه من الخطأ الافتراض أن عصبة الأمم أو أية هيئة أخرى هي التي تمنح الانتداب . ليس ذلك بصحيح ، إنه يستند إلى أن القوى المنتصرة ، والتي فشلت في تقسيم الأراضي ، وجرى فرض الانتداب البريطاني على العراق وفلسطين ، والانتداب الفرنسي على سوريا".
لقد فشلت الجهود السلمية في إقناع الإدارة البريطانية بالاستجابة إلى مطالب الشعب العراقي ، وبدأت بتصعيد سياستها وممارساتها ضد المعارضين والناشطين . ففي 21 نيسان 1920 ألقى الميجر بولي القبض على ابن الشيرازي ، محمد رضا الشيرازي ، ثم نفي إلى جزيرة هنجام في الخليج . لم يكن أمام الشيخ الشيرازي إلا تأييد الاتجاه الآخر ، أي الثورة ، فأصدر فتواه التي منحت الشرعية لحركة جهاد جديدة ضد الاحتلال البريطاني جاء فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم
مطالبة الحقوق واجبة على العراقيين . ويجب عليهم في ضمن مطالبتهم رعاية السلم والأمن . ويجوز لهم التوسل بالقوة الدفاعية إذا إمتنع الإنكليز عن قبول مطالبهم .
محمد تقي الحائري الشيرازي
أحدثت الفتوى هيجاناً عاماً في العراق ، وبات توقيت إعلان الثورة مجرد أيام ، فعقد علماء الدين والشخصيات ورؤساء العشائر اجتماعات للتداول واتخاذ الخطوات وتوزيع المهام ، حتى ألنت الثورة يوم 30 حزيران 1920 . استمرت الثورة لمدة خمسة أشهر ، تضمنت عمليات عسكرية ، ومواجهات مسلحة وقصف مدن بالطائرات وإحراق قرى ومزارع ، قتلى وجرحى وأسرى ، بشكل أربك الإدارة البريطانية . ولكن الثورة أصيبت بنكبة إثر وفاة قائدها الشيخ محمد تقي الشيرازي ، فتولى القيادة الشيخ فتح الله الأصفهاني المعروف بشيخ الشريعة . " وقد فقدت بريطانيا 426 قتيلاً و1228 جريحاً و615 أسيراً ومفقوداً ، إضافة إلى 8450 إصابة بين (المتمردين). "
خاتمة
لم تحقق الثورة كل أهدافها إلا أنها أسهمت في تغيير موقف الحكومة البريطانية والتخلي عن فكرة الحكم المباشر ، والاعتراف بتأسيس حكومة وطنية ، والاستقلال . وهذا ما سيؤثر على مستقبل الحركة السياسية في العراق عموماً الذي استفاد من الثورة ، إلا أن المرجعية الدينية دفعت الثمن . إذ لم تغفر لها بريطانيا ما سببته لها من مشاكل وصعوبات خلال خمس سنوات ، فغيرت من خططها بحرمان قادة الثورة وجماهيرها من السلطة .
ورغم ذلك فقد حققت ثورة العشرين إنجازاُ عظيماً في تاريخ العراق الحديث، إذ لولاها لم يحقق العراق وجوده السياسي متمثلاً بتأسيس الدولة العراقية ولأول مرة منذ سقوط الدولة العباسية عام 1258 م. إذ بقي العراق طوال القرون التالية إما بأيدي أسر حاكمة غريبة عنه، أو ولاية تابعة للدولة العثمانية خلال القرون 16-20 . فقد مهدت ثورة العشرين لتأسيس أول حكومة عراقية برئاسة عبد الرحمن الكيلاني بتاريخ 25/10/1920 ، ثم لمجيء الأمير فيصل بن الشريف حسين، الذي أصبح الملك فيصل الأول، ليتولى عرش العراق في آب 1921.
بعد أشهر توفيا قائدا الثورة ، ففي 17/8/1920 توفي الشيخ محمد تقي الشيرازي، وفي 18/12/1920 رحل الشيخ فتح الله الأصفهاني المعروف بشيخ الشريعة. واستلم المرجعية الدينية من بعد السيد أبو الحسن الأصفهاني. ودخلت المرجعية في مرحلة انكفاء منذ تموز 1923 عندما غادر العراق مجموعة من الفقهاء الكبار إلى إيران، ثم يعودون بعد تقديم تعهد بعدم التدخل بالشؤون السياسية.
وبعد أن كانت لهم نشاطات سياسية ومشاركات فعالة في الصراعات المسلحة، عاد الثوار إلى مناطقهم وأعمالهم وعشائرهم ومزارعهم بعد أدوا واجباً شرعياً ووطنياً. وبذلك مهدوا الطريق أمام عودة ضباط الجيش العثماني الذين غيروا ولاءهم إلى الإنكليز، فأمسكوا بمناصب الدولة الجديدة، ولتبدأ معادلة جديدة في السلطة في العراق، لم تسقط إلا بعد سقوط نظام البعث عام 2008 .
د. صلاح عبد الرزاق
9 من الزوار الآن
916812 مشتركو المجلة شكرا