الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > في أسباب هزيمة ثورة 1917؟
إن ثورة أكتوبر 1917 الروسية هي أهم الأحداث السياسية في القرن العشرين فقد استولت الطبقة العاملة في هذه الثورة على السلطة السياسية من خلال المجالس العمالية (السوفييتات) في دولة كبرى لأول مرة في التاريخ، وأثبتت الثورة الروسية أن الطبقة العاملة يمكن أن تتوحد وأن الطليعة العمالية يمكنها قيادة كل المضطهدين في ثورة ناجحة. ولكن هذه الثورة العظيمة هُزمت في نهاية الأمر، وهزيمتها تُستخدم طوال الوقت من قبل البرجوازية للبرهنة علة أن الثورات الاشتراكية تكون نهايتها الحتمية الهزيمة والدمار والديكتاتورية.
إن الرد على البرجوازية وضحد أطروحاتها حول ثورة أكتوبر يستدعي أن نفهم جيدا الظروف التاريخية لتلك الثورة حتى يمكن أن نفهم لماذا انهزمت وكيف يمكن أن تننجح الثورات العمالية القادمة.
كانت روسيا في مطلع القرن العشرين دولة متخلفة وزراعية بالأساس، وكان أغلبية السكان من الفلاحين يتم استغلالهم ببشاعة من قبل ملاك الأرض والدولة القيصرية. وكانت الدولة قد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر في تشجيع التصنيع في روسيا وكان وراء هذا التشجيع خوف الدولة القيصرية من تأخر روسيا عسكريا بالمقارنة بالدول الأكثر تقدما وبدأ تحالف بين الدولة القيصرية ورأس المال الأجنبي بغرض بناء قاعدة صناعية ونتاجا لذلك ظهرت في المدن الرئيسية طبقة عاملة قوية اقتصاديا وسياسيا رغم حجمها الصغير نسبيا.
وكانت ثورة 1905 انعكاس للتأثير المتفجر للطبقة العاملة الجديدة على الساحة السياسية الروسية، ولكن النظام القيصري ظل متحكما في جيش واسع من الفلاحين المجندين واستطاع في النهاية أن يحطم الثورة.
لقد استطاع البلاشفة أن ينجحوا في أكتوبر 1917 ليس فقط بسبب تأييد الطبقة العاملة الصناعية ولكن أيضا لأن البلاشفة كانوا القوة الوحيدة التي طالبت بوقف فوري للحرب (العالمية الأولى) والتي أيدت حق الفلاحين في الأرض وكان الفلاحون قد بدأوا بالفعل في الاستيلاء على الأراضي وقنن البلاشفة ذلك فور وصولهم للسلطة.
وبالطبع لم يتقبل حكام الرأسمالية الغربية نجاح ثورة أكتوبر وبدأ 22 جيشا في الهجوم على روسيا بهدف الإطاحة بالبلاشفة وظلت روسيا لمدة تقارب 3 أعوام في حرب أهلية بين الدولة السوفييتية الجديدة وبين جيوش الثورة المضادة وحلفائها الغربيين.
ومات الملايين خلال تلك الفترة بسبب الحرب والأمراض والجوع وكان للحرب أثر مدمر على القاعدة الصناعية فاختفت الأسواق والمواد الخام وأغلقت المصانع، والعمال الذين لم ينضموا للجيش الأحمر أو الخدمة المدنية عادوا إلى قراهم فلم يعد هناك طعاما في المدن. وهكذا تفتت الطبقة العاملة الصناعية والتي تأسس عليها حكم البلاشفة.
ووجد البلاشفة أنفسهم بعد انتصارهم في الحرب الأهلية عام 1921 في وضع شديد الخطورة، فاختفاء الطبقة العاملة قد تركهم معلقين في الهواء، كانوا متحكمين في جهاز الدولة ولكن بدون أي قاعدة اجتماعية. أما الفلاحون الذين كانوا يؤيدون البلاشفة في البداية ضد الجيوش البيضاء خوفا من عودة الملاك القدامى فقد أصبحوا معادين للثورة نتيجة لاستيلاء البلاشفة على المحاصيل الزراعية لتغذية السكان في المدن.
وحاول لينين في 1921 أن يعطي النظام البلشفي بعض المساحة للحركة من خلال طرح "السياسة الاقتصادية الجديدة -النيب" والتي أعادت بعض سمات السوق الرأسمالي كوسيلة لتشجيع الفلاحين على إنتاج المزيد من المحاصيل الغذائية ولكن هذا لم ينجح في حل التناقض الأساسي.
كان جوهر هذا التناقض هو وصول طبقة عاملة صغيرة إلى السلطة في بلد غالبيته من الفلاحين. ومنذ البداية لم يكن لينين وتروتسكي يظنون ولو للحظة أن الجمهورية السوفييتية تستطيع الصمود والبقاء وحدها، فقد كانا يتوقعان أن ثورة أكتوبر بمثابة الشرارة التي ستحرك موجة من الثورات في البدان الرأسمالية في الغرب. وطرحا أن الاشتراكية لا يمكن بناؤها في بلد واحد خاصة بلد متخلف مثل روسيا، فبناء الاشتراكية يتطلب الإمكانيات المشتركة لكل البلدان الرأسمالية الرئيسية.
وتبعا لهذه الرؤية أنشأ البلاشفة الأممية الشيوعية (الكومنترن) عام 1919، وكان هدف الأممية هو تنظيم الثورة العالمية وبناء جمهورية سوفييتية عالمية. ولتحقيق هذا الهدف بدأت الأممية الشيوعية في بناء أحزاب شيوعية جديدة في أنحاء عديدة من العالم.
وأثبتت الموجة الثورية الني تلت نهاية الحرب العالمية الأولى صحة وواقعية الاستراتيجية الأممية للبلاشفة، فقد شهدت الأعوام 1918 - 1920 ثورة في ألمانيا وجمهوريات سوفييتية في المجر وبافاريا، وتمردات عسكرية في بريطانيا واحتلال للمصانع في إيطاليا. ولكن نجاح الثورة العمالية الروسية لم يتكرر في أي من تلك الأماكن وكان السبب الرئيسي هو غياب الأحزاب الثورية المؤثرة كالحزب البلشفي.
ومع بداية العشرينات كانت الظروف الموضوعية المناسبة للثورة قد انحسرت ومع فشل الحزب الشيوعي الألماني في الاستيلاء على السلطة عام 1923 أغلق الباب في وجه الثورة العالمية لفترة.
وكان هذا هو الاستنتاج الي وصلت إليه غالبية القيادة البلشفية ولكن الحزب البلشفي وقت وفاة لينين في يناير 1924 كان مختلفا تماما عن ذلك التنظيم العمالي الثوري الذي استولى على السلطة عام 1917. فمع اندثار السوفييتات العمالية الديموقراطية بعد تدمير الطبقة العاملة خلال الحرب الأهلية أصبح الحزب تحت السيطرة الكاملة لهيكل بيروقراطي من المسئولين المتفرغين. وكان على رأس هذه البيروقراطية جوزيف ستالين، سكرتير عام الحزب. وفي الأعوام التي تلت موت لينين استطاع ستالين أن يهزم بالتدريج جميع معارضيه حتى أصبح في عام 1928 مسيطرا تماما على الحزب وعلى جهاز الدولة.
كانت أهمية ستالين تنبع من أنه كان ممثلا لبيروقراطية الدولة/الحزب الجديدة والتي أصبحت في الحكم، وهذه البيروقراطية لم يعد يهمها الثورة العالمية وكان همها الأساسي هو مصالح الدولة الروسية ومصالحهم هم كحكام لتلك الدولة. ووفقا لهذه المصالح طور ستالين ومساعديه نظرية "الاشتراكية في بلد واحد" زاعمين أنه من الممكن بناء مجتمع إشتراكي داخل حدود الاتحاد السوفييتي وحده.
وبناء على ذلك أصبحت مهمة الأحزاب الشيوعية في البلدان الأخرى ليست التحضير للثورة ولكن خدمة مصالح الدولة الروسية. وأدت هذه السياسات فيما بعد 1924 بالأحزاب الشيوعية في العالم إلى هزائم كارثية ولعل أهمها كان في الصين وفي ألمانيا.
ففي الثورة الصينية 1925-1927 ثار ملايين العمال والفلاحين ضد القوى الأجنبية المسيطرة وحلفائها المحليين، وولكن ستالين الذي كان يريد علاقات جيدة مع جارته أجبر الحزب الشيوعي الصيني على تأييد الكومينتانج، التنظيم البرجوازي بزعامة تشانج كاي شيك، والذي يريد بناء دولة رأسمالية في الصين. وكان نتيجة هذا التأييد أن كاي تشيك انتصر بفضل دعم الشيوعيين له وقام بعد ذلك بقتل عشرات الآلاف من العمال والفلاحين في مذابح كبرى وقضى تماما على الحزب الشيوعي.
وفي ألمانيا كانت الأزمة الاقتصادية التي بدأت في 1929 قد أدت إلى زيادة تأييد النازيين ولكن الشيوعيون، وبسبب أوامر ستالين، رفضوا تشكيل جبهة متحدة مع الاشتراكيين الديمقراطيين لوقف زحف النازيين، وبدلا من ذلك أدعوا أن الاشتراكيين الديمقراطيين ليسوا مختلفين عن النازيين وأطلقوا عليهم إسم "الفاشيون الاجتماعيون" وأدى هذا الانقسام في صفوف الحركة العمالية الألمانية إلى وصول هتلر للسلطة عام 1933.
أدت مثل هذه الكوارث إلى زيادة عزلة روسيا عن بقية العالم ولما كانت المواجهة بين نظام اشتراكي وعالم رأسمالي تستدعي أحد إختيارين؛ إما محاولة الإطاحة بالنظام الرأسمالي العالمي من خلال تأييد وتشجيع حركات ثورية في البلدان المختلفة، أو التأقلم مع هذا النظام وإتباع قوانين حركته. وكان حكام روسيا قد رفضوا الاختيار الأول عندما تبنوا سياسة "الاشتراكية في بلد واحد" وبالتالي كان منطقهم يؤدي بهم إلى التصرف كقوة رأسمالية كبرى.
وكانت روسيا تحت التهديد العسكري الدائم من الغرب حتى قبل وصول هتلر للسلطة في ألمانيا ولمواجهة هذا التهديد كانت الدولة الروسية تحتاج إلى إنشاء مؤسسة عسكرية قوية خاصة بها. وبما أن التكنولوجيا الحربية الحديثة كانت تعتمد يشكل أساسي على الصناعة الثقيلة، بدأت البيروقراطية الروسية بقيادة ستالين في إنشاء هذه الصناعة الثقيلة مبتدئة من الصفر، وكما قال ستالين: "إن إبطاء معدل التصنيع يعني أننا نتأخر عن الركب، والذين يتأخرون يُهزمون، ونحن لا نريد أن نُهزم. نحن متأخرون عن الدول المتقدمة بمقدار خمسون أو مائة عام وعلينا أن نلحق بهم في عشر سنوات، إما أن نفعل ذلك أو يدمرونا تماما."
ودخلت روسيا الستالينية منذ عام 1928 في عملية تنصيع سريعة تستهدف اللحاق بالغرب، وفي عشر سنوات إستطاعت أن تبني قاعدة صناعية ثقيلة متنوعة. ولكن الذي دفع ثمن هذا التطور الاقتصادي الكبير كان الطبقة العاملة والفلاحون، فلم يكن أمام الحكام الروس وسيلة للتصنيع التنافسي إلا من خلال إستغلال شديد للعمال والفلاحين، فقد كانوا يحتاجون لاستيراد الميكنة الحديثة من الغرب، والوسيلة الوحيدة لتوفير التمويل اللازم كانت من خلال تصدير المحاصيل الزراعية، تلك التي ينتجها الفلاحون. ولهذا قام ستالين بعملية تجميع وتأميم إجبارية للأراضي الزراعية واستولى على الأرض من الفلاحين وأجبرهم على العمل كأجراء في مزارع الدولة الجماعية وأسفرت عملية التجميع القهرية هذه عن مصرع الملايين من الفلاحين.
وتمت عملية شبيهة فيما يتعلق بالصناعة، فالمكاسب التي تحققت في ثورة 1917 تم سلبها وتحولت النقابات إلى أدوات في أيدي الإدارة، وتم تعميم العمل بنظام القطعة بحيث يضطر العمال للعمل بكثافة متزايدة حتى يحصلوا على أجرهم الأساسي. لقد اعتمد التصنيع الذي تم في الثلاثينات على تكثيف رهيب لاستغلال الطبقة العاملة.
لقد شهد المجتمع الروسي تحولا هاما في الثلاثينات، فالطبقة العاملة المتنامية لم يعد لديها أي سيطرة على الاقتصاد أو السياسة ووضعها لم يعد يختلف كثيرا عن وضع الطبقات العاملة في الغرب إن لم يكن أسوأ. وعلى الرغم من أن وسائل الإنتاج كانت قانونيا مملوكة للدولة فإنها كانت في الواقع تحت سيطرة بيروقراطية الحزب/الدولة، كانت هناك طبقة حاكمة جديدة نشأت على أنقاض السوفييتات العمالية. وكان هذا التحول غاية في الدموية، فقد قُتل أكثر من عشرة ملايين شخص منهم غالبية أعضاء الحزب البلشفي القديم الذين أُعدموا خلال التطهيرات الكبرى التي قام بها ستالين، كما قام البوليس السري باعتقال الملايين ونقلوا لمعسكرات العمل في سيبيريا واختفى معظمهم تماما.
وهذه المذابح هي التي مكنت ستالين من تحطيم أي بقايا للدولة العمالية التي قامت في أكتوبر 1917، ولكن ما هي طبيعة المجتمع الذي حل محل الدولة العمالية؟ بالطبع كان مجتمعا طبقيا، فالمنتمين للبيروقراطية الحاكمة وعائلاتهم كانوا يستمتعون بمزايا خرافية تفصلهم تماما عن الجماهير العاملة وكان لهم مدارس ومستشفيات خاصة وفيلات ضخمة وحسابات بنكية في سويسرا وغيرها مما تم كشفه فيما بعد عن حياة تلك الطبقة.
وأصبح المجتمع الروسي بعد الثورة المضادة بقيادة ستالين، وعلى الرغم من بعض الإختلافات الظاهرية، شديد التشابه مع المجتمعات الرأسمالية الغربية، فهدف الإنتاج في روسيا لم يكن إشباع حاجات الجماهير ولكن تكثيف استغلال تلك الجماهير من أجل توسيع القاعدة الإنتاجية، أي التراكم الرأسمالي، وبالتالي تم التضحية بالإستهلاك من أجل الإنتاج، وكان دافع حكام روسيا مماثلا لما يدفع حكام الغرب للتراكم الرأسمالي وهذا الدافع هو التنافس. ولكن في حالة روسيا لم يكن التنافس اقتصاديا بقدر ماكان عسكريا، فالدولة الروسية كانت تحت ضغط دائم للإبقاء على مؤسسات عسكرية يمكن مقارنتها بتلك الموجودة بالولايات المتحدة الأمريكية. وشكل هذا عبئا كبيرا على اقتصاد لا يتعدى حجمه نصف حجم الاقتصاد الامريكي وذو إنتاجية أضعف كثيرا. ولكن كان من الضروري إنفاق أكثر من 15% من الناتج القومي على التسليح، وأن يُضحى بكل شئ مقابل البقاء في سباق التسلح. وهذه بالضبط هي الطريقة التي يتم بها العمل في الرأسمالية الغربية، فالشركات تضطر لإعادة استثمار الأرباج وإن لم تفعل ذلك فهي تفلس نتيجة للتنافس الشديد، وروسيا كانت مجبرة على التركيز في بناء الصناعات الثقيلة وإلا دمرتها الولايات المتحدة. والفارق الوحيد هو أنه في حالة الرأسمالية الغربية تكون المنافسة بين الشركات ولكن سباق التسلح يكون بين الدول.
إن النظام الذي حكم روسيا هو نظام رأسمالية الدولة، فالدولة تملك الاقتصاد والبيروقراطية السياسية المركزية كانت تدير الدولة وهؤلاء كانو يشكلون الطبقة الرأسمالية الحاكمة.
وأحداث الأعوام العشر الأخيرة تثبت ذلك تماما، فالتحول المفاجئ من رأسمالية الدولة إلى اقتصاد السوق في روسيا ودول أوروبا الشرقية لا يمكن اعتباره تحولا من دولة عمالية وعودة إلى الرأسمالية كما يتصور الستالينيون ولكنه مجرد تحول من شكل رأسمالي تلعب فيه الدولة الدور الرئيسي إلى شكل رأسمالي آخر تلعب فيه الشركات متعددة الجنسيات ذلك الدور.
هكذا هُزمت ثورة أكتوبر والمهم هنا توضيح أن تلك الهزيمة لم تكن حتمية، فلو كانت الثورة قد انتشرت بشكل ناجح في الدول الأوربية لكان من الممكن تجنب الحكم الستاليني بكل بشاعاته وكان من الممكن أن تحافظ الطبقة العاملة على سلطتها.
وحتى بعد إنتهاء الموجة الثورية الأولى كانت هناك استراتيجية ثورية بديلة يمكن تبنيها، فقد طرح ليون تروتسكي والمعارضة اليسارية في الحزب البلشفي أهمية التركيز على تشجيع الثورات في البلدان الأخرى ولو كان الحزب قد سلك هذا الطريق لكان من الممكن تجنب الكوارث في الصين وألأمانيا وغيرها وكان تاريخ القرن العشرين سيصبح مختلفا تماما ولكن المعارضة اليسارية دمرت وطرت من الحزب وسجن ونفي وأعدم أعضائها وأغتيل تروتسكي في منفاه. ولكن هذه المعارضة بقيت، وأبقت على شعلة الاشتراكية الثورة متقدة، وذكرتنا دائما بأن ستالين هو نقيض ماركس ولينين، وأن ماحققه كان تدميرا للاشتراكية وليس تحقيقا لأحلام الذين قاموا بالثورة في أكتوبر 1917.
الاشتراكية الثورية
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا