الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > ملف الصهيونية وتمظهراتها
الصهيونية ومعاداة السامية: وجهان لعملة واحدة
د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 7/5/2005
ينطلق الصهاينة مما يسمونه "القومية اليهودية" والإيمان بأن أعضاء الجماعات اليهودية المنتشرة في أرجاء العالم هم في واقع الأمر شعب عضوي مرتبط ارتباطاً عضوياً وحتمياً بأرض فلسطين أو "إرتس إسرائيل" في المصطلح الصهيوني. ولهذا فاليهود المنتشرون في شتى أنحاء العالم، والذي يُسمى "المنفى" أو "الشتات" أو "الدياسبورا" حسب المصطلح الصهيوني، لا يدينون بالولاء لأوطانهم التي يقيمون فيها، ويحنون بطبيعتهم إلى العودة إلى "وطنهم"، أي فلسطين، لأنهم يعرفون أن جوهرهم اليهودي لن يتحقق إلا هناك، وأن وجودهم في أوطانهم المختلفة هو وجود مؤقت. والنتيجة المنطقية لنقطة الانطلاق هذه هو المفهوم الصهيوني الذي يُسمى "نفي الدياسبورا" negation of the Diaspora، فكل إنجازات عصور الشتات (عبر تواريخ كل الجماعات اليهودية) من المنظور الصهيوني هي محض خيانة للروح اليهودية النقية وللجوهر اليهودي.
ولكل هذا، يحول الصهاينة يهود العالم إلى وسيلة في خدمة الوطن اليهودي القومي وليس إلى غاية لها قيمة في حد ذاتها، وهو ما عبر عنه المفكر الصهيوني "كلاتزكين" بقوله إن "الشتات في حد ذاته لا يستحق البقاء، لكنه قد يكون مفيداً كوسيلة". وقد أوضح الصهيوني الروسي "أهارون جوردون" القضية كلها حين قال إن "الدولة الصهيونية ستكون الوطن الأم ليهود العالم وتكون الجماعات اليهودية في الشتات مستعمرات لها".
ولكن رفض الشتات هو في واقع الأمر رفض ليهود العالم وعداء لهم، أي أنه في جوهره تعبير عن عداء جذري عنيف لليهود، وهو ما يُطلق عليه اسم "معاداة السامية". وقد وصف المتحدثون الصهاينة يهود الشتات بأنهم "لعنة إلى الأبد"، "مجرد غبار إنساني" و"دمار وانحلال وضعف أبدي". ويُعد مثل هذا الوصف السلبي ليهود العالم "يهود الشتات" أمراً جوهرياً بالنسبة للفكرة الصهيونية، لأنه إذا افترض أن حياة اليهود في أنحاء العالم "خارج إسرائيل" حياة نشطة لها نصيبها الطبيعي من السعادة والمعاناة الإنسانية، فماذا يكون إذن مبرر وجود الدولة الصهيونية؟ ولماذا توجد الصهيونية أصلاً بحديثها عن الوطن القومي وضرورة بل وحتمية "العودة" إليه؟
والواقع أن مثل هذه المقولات تقود بالضرورة إلى السقوط في حبائل معاداة السامية. وقد لاحظ الكاتب البريطاني "ج. ك. تشسترتون" (1847-1936) أن ما يُسمى معاداة السامية هو في واقع الأمر الصهيونية. فالصهيونية تقول إن اليهودي يهودي، والنتيجة المنطقية أنه ليس روسياً ولا فرنسياً ولا بريطانياً. وميزة هذا بالنسبة لليهودي أنه سيستعيد أرض الميعاد، أما بالنسبة لغير اليهود فهو التخلص من المسألة اليهودية "أي الفائض البشرى اليهودي" الذي لم يعد العالم الغربي في حاجة إليه.
ويرى الصهاينة أن وجود اليهود خارج وطنهم القومي المزعوم قد حولهم إلى شخصيات هامشية طفيلية غير منتجة، وإلى كائنات شاذة وغير طبيعية. وقد عبر الكاتب الصهيوني "حاييم برينر" عن هذه الأفكار الصهيونية بكلمات فظة حين وصف اليهود بأنهم "مرابون" و"شخصيات مريضة" يحيون مثل "الكلاب والنمل"، وبأنهم "غجر وكلاب جريحة قذرة"، يجمعون المال ويتبعون قيم السوق، ودعاهم إلى الاعتراف بوضاعتهم منذ فجر التاريخ حتى الوقت الحاضر، وأن يبدأوا بداية جديدة في الوطن القومي.
وقاموس الأوصاف المعادية للسامية ضخم وطويل في الأدبيات الصهيونية، فكلاتزكين يصف اليهود بأنهم شعب بلا جذور يعيش حياة زائفة. وتظهر نفس النغمة المعادية للسامية بوضوح في كتابات الكاتب الصهيوني "إسرائيل سنجر"، شقيق الكاتب المرموق إسحق أشيفيس سنجر. فاليهود، حسب تصوره، "شعب منحط قانط يحيا في القذارة"، وهم "مجموعة من آسيا" تحيا وسط أوروبا، وهم - ككيان مستقل - يمثلون "حدبة واحدة كبيرة". وفي مقال بعنوان "دمار الروح"، يورد يحزقيل كوفمان مجموعة من أوصاف اليهود في الكتابات الصهيونية، على الوجه التالي:
فريشمان: حياة اليهود حياة كلاب تثير الاشمئزاز.
برديشيفسكي: اليهود ليسوا أمة، ليسوا شعباً، وليسوا آدميين.
أ. د. جوردون: اليهود عبارة عن طفيليات - أناس لا فائدة منهم أساساً.
شوادرون: اليهود عبيد وبغايا ... أحد أنواع القذارة ... ديدان وطفيليات بخسة بلا جذور.
وهذه نغمة متكررة في أعمال هرتزل "الليبرالي"، كما في أعمال برينر غير الليبرالي. وإذا كان الأخير قد استخدم كلمات شديدة الواقع، فإن هرتزل هو الآخر - كما قال كاتب يهودي معاد للصهيونية - قد وضع قوالب معينة لو كان أي كاتب غير يهودي قد استخدمها لاتهم بلا جدال بعنصرية تعادل "بروتوكولات حكماء صهيون".
ويرى أحد المستوطنين الصهاينة قبل سنة 1948 أن معاداة السامية كانت أمراً "إيجابياً" إلى درجة دفعته إلى الاعتقاد بأنها "مستوحاة من عقيدة إلهية" إلى حد ما. وهو في هذا كان يردد، دون وعي، نفس آراء هرتزل الذي ادعى أن "معاداة السامية ربما تنطوي على إرادة الرب الإلهية، لأنها تجبرنا على توحيد صفوفنا". وفي مناظرة أُقيمت في الجامعة العبرية في فلسطين خلال الثلاثينيات بين هذا المستوطن وكوفمان، وصف المستوطن نفسه بأنه "صهيوني، معادٍ للسامية" ثم أضاف أنه "لم يستطع أن يرى كيف يمكن لأي صهيوني أن يتجنب اتخاذ نفس الموقف". وقد صرَّح هرتزل نفسه بأنه إذا لم يسلم الصهاينة بعدالة معاداة السامية، فإنهم ينكرون بذلك عدالة الصهيونية ذاتها.
وقد أدى قبول جوانب معينة من معاداة السامية إلى اعتبار المعادين للسامين حلفاء طبيعيين وقوة إيجابية للصهاينة في سعيهم من أجل "تحرير" يهود الشتات من عبوديتهم المزعومة. وبدلاً من أن يصارع هرتزل معاداة السامية، كان يرى أن "المعادين للسامية سيكونون أكثر أصدقاء يمكننا الاعتماد عليهم، وستكون الدول المعادية للسامية حليفة لنا". وقد أدرك منذ البداية التوازي القائم بين الصهيونية ومعاداة السامية، ورأى الإمكانيات الكامنة للتعاون بينهما.
وقد وضع هرتزل الخطوط العامة لتصوره للأنشطة الصهيونية المستقلة، فأشار إلى أن الخطوة التالية ستكون "بيع الصهيونية"، ثم أضاف بين قوسين أن هذا "لن يتكلف شيئاً، لأنه سيسعد المعادين للسامية". وفي فقرة أخرى من مذكراته عدَّد هرتزل عناصر الرأي العام العالمي التي يستطيع حشدها لمناصرته في قتاله ضد "سجن" اليهود، أي حياتهم في الشتات، فذكر من بينها المعادين للسامية كأحد العناصر التي يمكن أن تعمل نيابة عن اليهود.
وتكرر هذا التصور الخاص بالصورة المشتركة للصهاينة والمعادين للسامية في أقوال الزعماء الصهاينة في المراحل التالية. ففي سنة 1925، قال "كلاتزكين" إنه "بدلاً من إقامة جمعيات لمناهضة المعادين للسامية الذين يريدون الانتقاص من حقوقنا، يجدر بنا أن نقيم جمعيات لمناهضة أصدقائنا الراغبين في الدفاع عن حقوقنا".
وهذا الرأي الشاذ هو جزء من نمط إدراكي متكرر تضمنته الأيديولوجية والممارسات الصهيونية، وأكدت عليه مراراً وتكراراً. وكان آباء الصهاينة المؤسسون هم أول من طرحوه، ثم جاء أحفادهم في "إسرائيل" فحافظوا على استمراره بنفس القوة والحماس. ولعل آخر تبدٍّ لهذا الموقف هو تصريحات شارون التي حث فيها يهود فرنسا على الهجرة إلى "وطنهم القومي" لأن معاداة السامية ستلحق بهم إن عاجلاً أو آجلاً، وهو الأمر الذي رفضته غالبية يهود فرنسا، فهو بهذه الطريقة يشكك في ولائهم لوطنهم، ويقلل من قيمة إسهاماتهم وإنجازاتهم، ويحولهم من غاية إلى وسيلة. والسؤال الآن: هل سيطبق جورج بوش "قانون معاداة السامية" على هذا الجانب الجوهري في الفكر الصهيوني؟.
لقد حان الوقت فعلاً لتغيير المناهج ...... الصهيونية !!
أ. د . مصطفى رجب
صحيفة الشرق القطرية 4/4/2005
لو أنصف العرب لتبادلوا التهنئات بما تقرر في الجانب الغربي من الأرض من ضرورة تغيير المناهج الدراسية في الشرق الأوسط الكبير، فالمناهج فعلاً في حاجة إلى تغيير حازم جازم حاسم يقتلع جذور الإرهاب من نفوس الناشئة، ويغرس في نفوسهم المحبة والسلام وحسن الجوار. وأنا هنا أتكلم عن المناهج المقررة في "إسرائيل"!! وليس عن المناهج العربية وفيما يلي نماذج من نصوص الكتب المقررة في "إسرائيل" حاليًّا أضعها بين يدي الأستاذة كوندوليزا رايس لكي تتأملها وترى إن كانت فعلاً تدعم الإرهاب أم لا؟
إن وزارة التربية والتعليم والرياضة الإسرائيلية تختار نصوصًا معينةً من العهد القديم (التوراة المزيفة) لتضعها في الكتب المقررة على تلاميذ المرحلة الابتدائية. فمن ذلك ما تفيض به كتب الدين المقررة حالياً، ومنها:
أ- ما ورد في كتاب الدين المقرر على الصف الرابع الابتدائي، ص 258 من سفر يشوع، إجماع 6 و 8 فقرة (21،2).
"وصعد الشعب إلى المدينة، وأخذوا المدينة وضربوا كل ما فيها من رجل وامرأة، وطفل وشيخ، حتى الغنم والبقر والحمير بحد السيف، وحرق «أي يوشع عليه السلام» مكانها، وكل نفس فيها، ولم يبق فيها شاردًا. وفعل ذلك بملك (مقيدة) كما فعل بملك (أريحا) .. ثمَّ اجتاز يوشع بن نون (مقيدة) وكل إسرائيل معه، إلى (لبنة) وحارب (لبنة)، فدفعها الرب أيضًا إلى بني إسرائيل مع مكانها، فضربها بحد السيف ... وفعل بملكها كما فعل بملك أريحا..".
ب - ما ورد في كتاب الدين للصف الرابع، ص 304، من سفر القضاة، إجماع (1)، فقرة (8):
"ثمَّ أضرم المشاعل ناراً، وأطلقها بين زروع الفلسطينيين، فأحرق الأكداس، والزرع، وكروم الزيتون".
ج - ما ورد في كتاب الدين المقرر على الصفين الخامس والسادس، ص 328، من سفر صموئيل الأول، إصحاح 7، فقرة (14):
"فذل الفلسطينيون ولم يعودوا بعد ذلك للدخول في تخوم إسرائيل، وكانت يد الرب على الفلسطينيين كل أيام صموئيل، والمدن التي أخذها الفلسطينيون من إسرائيل رجعت إلى إسرائيل من (عقرون) إلى (جت)، واستخلص إسرائيل تخومها من يد الفلسطينيين".
د. ما ورد في كتاب الدين المقرر على الصف الثالث الابتدائي، ص 69 من سفر الخروج، إصحاح 6، فقرة 4، 8:
"أقمت معهم عهدي أن أعطهم أرض كنعان: أرض غربتهم التي تغربوا فيها، وأدخلكم إلى الأرض التي رفعت يدي أن أعطيها لإبراهيم وإسحق ويعقوب وأعطيكم إياها ميراثًا".
غير أن تشويه صورة الإسلام والمسلمين يبدو أكثر وضوحًا في مقررات الاجتماعيات كالجغرافية والتاريخ، كما يظهر أيضًا كثقافة جانبية من خلال الموضوعات المختارة لكتب القراءة وكتب تعليم قواعد اللغة العبرية.
فعلى سبيل المثال نقرأ في كتاب الجغرافية المقرر على الصف الخامس (1) الابتدائي نصًّا من هذا النوع ص 71، 72 جاء فيه:
".. دين آخر ظهر في منطقتنا وتأثر باليهودية وهو الإسلام، إن الإسلام لم يولد على شواطئ البحر المتوسط، بل بالقرب منه.
وقد جاء مؤسسه وهو النبي محمد من مدينة مكة في العربية السعودية، وتقع تلك المدينة وهي مقدسة عند المسلمين، بالقرب من البحر الأحمر.
سافر محمد شمالاً وغربًا حيث كان يقود قوافل التجار، والتقى في رحلاته بيهود ونصارى، وتعرف على معتقداتهم وتقاليدهم.
وفي الدين الجديد الذي أسسه محمد هناك أمور كثيرة تشير إلى معتقدات وتقاليد موجودة في اليهودية والنصرانية. إن المسلمين من أتباع محمد خرجوا في حملات احتلال حيث قاموا باحتلال القدس التي كانت مقدسة بالنسبة لهم. وتوجهوا في حملات الاحتلال بالأساس إلى دول تقع جنوب البحر المتوسط، ولكنهم وصلوا أيضًا إلى الهند شرقًا".
وفي نفس الكتاب (ص 179) نقرأ تحريضًا ضد التوجه الإسلامي الذي ظهر في الجزائر في التسعينيات من القرن العشرين، حيث يقول مؤلفو الكتاب المذكور:
"تعاظم في السنوات الأخيرة في الجزائر، وبشكل كبير جدًّا، الإيمان الديني بالإسلام. وقد أسهم في ذلك كل من اليأس من الوضع الاقتصادي، والبطالة، والسكن الحقير، وانعدام الأمل في الحياة.
إن الكثيرين من سكان الجزائر يؤمنون بأن الخلاص سيأتي إليهم من الدين الإسلامي.
وبدأ الكثيرون من أوساط جيل الشباب، والقاطنين في المناطق الفقيرة، يحملون السلاح. إنهم مهتمون بإيصال رجال الدين إلى السلطة، ويأملون أن يقوم رجال الدين بتحسين حالة السكان.
وللأسف الشديد إن ذلك الهيجان قد حقق العكس حيث يلحق الضرر بالاقتصاد والمجتمع".
وواضح من هذه النصوص أن مناهج التعليم الإسرائيلية تعمل - في جميع المقررات- على تحقيق عدة أهداف:
الأول: غرس العزة في نفوس أطفال اليهود.
الثـاني: إشعار هؤلاء الأطفال بالتميز العرقي تحت مقولة (شعب الله المختار).
الثالث: تأكيد رخص أموال الآخرين وأعراضهم ودمائهم مما يجعل قتل غير اليهود لا يهز شعرة في رأس أي يهودي يتخرج في ظل هذه المناهج.
الرابـع: أن الاعتقاد بتقدم اليهود وتخلف المسلمين يجب أن يتحول إلى عقيدة لا تتزعزع.
الخامس: أن قيم القوة والشجاعة والنبل والتقدم لا ترتبط إلا بأشخاص اليهود، وأن ما يقابلها من الضعف والجبن والنذالة والتخلف لا يفارق أي عربي أو مسلم.
وتتكاتف المقررات الدراسية جميعًا من أجل تحقيق هذه الأهداف، بل إن الأنشطة المدرسية المصاحبة للتدريس كالوسائل التعليمية والرحلات وأوجه الترفيه كالمسرح والسينما والقصص وغيرها، كل ذلك يؤدي إلى النتيجة ذاتها التي تبتغيها المناهج الدراسية.
والعجيب أن القوة المسيطرة الآن، وهي الولايات المتحدة الأمريكية، لم تتوجه إلى "إسرائيل" لتنقية مناهجها من هذه الخدع والدسائس والأكاذيب، والدعوات المفضوحة للقتل والعنف، بل إنها على العكس من ذلك توجهت إلى الدول العربية والإسلامية لكي "تطور" مناهجها لتتواءم مع ما يسمونه عصر "السلام". فهل تريد الدولة العبرية السلام بهذه المناهج الدموية؟!!
(*) أستاذ الدراسات العليا بكلية الشريعة - جامعة اليرموك- الأردن.
التوراة.. والانسحاب من غزة!
أ.د. مصطفى رجب
صحيفة الشرق القطرية 16/3/2005
أصبح العرب يسيرون بسرعة الصاروخ في تنفيذ إرادة شارون وتحقيق طموحاته السياسية غير المحدودة، فحين قال: «لا» للاعتراف بأي سلطة للرئيس عرفات، سارع الحكام العرب إلى تجاهل عرفات تماماً حتى في برقيات التهاني الروتينية في الأعياد والمناسبات، وقد كادت تلك التهاني تصبح هي الإنجاز العربي الرسمي الوحيد سنوياً! وحين أعلن شارون خطته للانسحاب الأحادي الجانب من غزة، وضع الأنظمة العربية كافة في مأزق، لأن الجميع يعرف أن ذلك إن تم فسوف يلحق أضراراً بالغة بالفلسطينيين، ولذلك تمسحوا بربط ذلك الانسحاب بخريطة الطريق التي أقرها المجتمع الدولي، مع ما فيها من إجحاف وقهر يتمثل في تجاهل قضايا جوهرية مثل القدس والحدود والمياه واللاجئين، وقد مر عام وبعض عام على إعلان خطة شارون التي أعلنها في الثاني من فبراير 2004 حين قال إنه يعتزم إخلاء المستوطنات اليهودية في قطاع غزة رغبة منه في حل القضية الفلسطينية كما قال!!! غير أن تلك الخطة تستثني:
1- قطاعاً بعرض 20-16 كم في غور الأردن من النهر وحتى شارع آلون، يبقى تحت السيطرة اليهودية.
2- قطاعا بعرض 10 كم من صحراء الضفة تحت السيطرة اليهودية.
3- قطاعا أضيق بطول 7.5 كم على طول الخط الأخضر.
وهذا يعني -عملياً- تفتيت الفلسطينيين وتوزيعهم على عدة كيانات محاصرة بممرات أمن يهودية مشددة، كما أنه يعني - وهذا هو الخطير - تفاقم الأزمات داخل قطاع غزة.
إن قطاع غزة لم يكن في أي يوم من الأيام جزءاً من دولة يهودية من فجر التاريخ، فقد كان الفلسطينيون يسكنونه في الزمن القديم - مع بقية أرض فلسطين- وحتى بعد دخول بني "إسرائيل" إلى مؤاب وعمون ومعكة وأورشليم وغيرها، بقيت منطقة غزة واشقلون وأشدود وعجلون وصقلاغ وبئر سبع وغيرها مناطق للفلسطينيين وذلك كذلك في عهد يشوع - الذي ملكهم بعد موسى عليه السلام- ثم في عهد القضاة بعد يوشع، ثم في عهد الملك شاؤول ثم داود عليه السلام وفي عهد داود خاصة كانت المنطقة من الساحل الفلسطيني شمالي يافا إلى جنوبي غزة تابعة لمصر كما يذكر مصطفى الدباغ في كتابه «بلادنا فلسطين» وظل الحال كذلك في عهد سليمان عليه السلام.
ومن هذا المنطلق فإن شارون وغيره من متطرفي الصهيونية لا يرون في غزة أية قيمة توراتية بعكس مناطق أخرى مثل القدس مثلاً وبعض مناطق الضفة، والحال مشابه إلى درجة ما بالنسبة لمنطقة «أريحا» فهي ليست ذات قيمة تاريخية أو دينية بالنسبة لليهود، لذلك كان اتفاق أوسلو الذي وقعوه مع أبو مازن عام 1993 يسمى «اتفاق غزة- أريحا: أولاً» وستظل أولاً هذه هي أولاً وثانياً وأخيراً، لأن ثانياً وثالثاً: معناها السير في طريق التنازل عن أراض لها قيمة توراتية مما سيفجر الأوضاع داخل "إسرائيل"، وسيجد أهل اليمين المتشدد، والمتطرفون من المتدينين، الفرصة لتبرير الاغتيالات والعنف الذي يهدد المجتمع بعدم الاستقرار.
أما الانسحاب من غزة- التي لا قيمة تاريخية أو توراتية لها- فسوف يحقق لإسرائيل عدة أهداف أهمها:
1- التنصل من خريطة الطريق التي ترتب حقوقاً على كل من اليهود والفلسطينيين، أما الانسحاب الأحادي الجانب فلا يجعل "إسرائيل" ملتزمة بأية حقوق.
2- تغييب المرجعيات الدولية المعتمدة فيما يخص القضية الفلسطينية وأهمها قرارات الأمم المتحدة.
3- يرى شارون -ويؤكد- أن الانسحاب من غزة سيؤدي إلى خلاف داخلي، فلسطيني-فلسطيني، بين السلطة والفصائل في صراع حول تقاسم السلطة ونزع الأسلحة التي ستصر عليه "إسرائيل" تحت زعم أنه أول بند في خريطة الطريق.
4- سيزداد الوضع الاقتصادي الفلسطيني سوءاً، إذا تم منع الفلسطينيين من فتح المطار، أو ميناء غزة وربط اقتصاد غزة بالاقتصاد المصري.
5- وسيزداد هذا الأمر سوءاً إذا تم إغلاق الحدود بين قطاع غزة وبقية الأراضي الفلسطينية حيث ستزداد معدلات الفقر والبطالة والانحراف ومن ثم سيحدث خلل أمني يهدد الأمن الاجتماعي للفلسطينيين داخل القطاع.
وتبقى نقطة جوهرية تتجاهلها التصريحات الرسمية العربية، ويتغافل عنها الإعلام العربي - سهواً أو عمداً- وهي أن خطة شارون لا تتضمن انسحاباً كاملاً من كل قطاع غزة، ولكن الخطة تستبقي ممرات وقطاعات معينة تحت السيطرة اليهودية مما يجعلها في النهاية مجرد مناورة ولن يتحقق للرومانسيين العرب الحالمين بإعلان دولة فلسطينية في قطاع غزة وما يحلمون به، لأن شارون لن يستطيع الالتفاف على أيديولوجية حزبه «حزب الليكود» الذي قرر في 13/5/2002 رفضه فكرة قيام دولتين على أرض فلسطين، إلا إذا انطلق شارون من مبدأ أن قطاع غزة ليس أرضاً توراتية، ومن ثم فلا مانع من قيام دولة فلسطينية به لأنه ليس جزءاً من «أرض الميعاد» المزعومة، فبالله عليكم أيها السياسيون العرب الكبار من منكم قرأ العهد القديم أو التلمود وفكر - أو حاول مرة أن يفكر - ما مدى صدقية المزاعم الصهيونية المرتبطة بالوعد الإلهي؟!
عقيدة القتل عند الصهاينة
ناصر الفضالة
صحيفة أخبار الخليج البحرينية 17/2/2005
مما قاله «بن جوريون» أول رئيس وزراء لدولة الكيان الصهيوني الغاصب: «إن دولة (إسرائيل) تضم الشعب الكنز، ولهذا فإن بوسعها أن تصبح منارة لكل الأمم». هكذا يعتقد اليهود الصهاينة، ومن هذا الاعتقاد جاءت نظرتهم المحقرة لباقي الشعوب، وصدق الله العظيم القائل عنهم: )ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل( وهذا المصطلح (الأميون) في لغتهم يسمى (جوييم) أي (الأغيار أو الغرباء أو الآخرين) الذين لا قيمة لهم ولا لدمائهم أو مقدساتهم أو أعراضهم.
وهكذا تتجذر عقيدة الإبادة وتنزع معاني الرحمة والإنسانية من نسلهم ليحل محلها التلذذ بقتل الأغيار «الفلسطينيين» في وجدان الجنود الصهاينة، وهذا ما عبر عنه الجنود الصهاينة في شهادة فاضحة على أنفسهم و بأفواههم:
ليس صحياً بالمرة أن تشفق على الفلسطينيين، رأيت الفلسطيني في أحد شوارع مخيم جباليا، وجهت إلى رأسه البندقية بواسطة عدسة المنظار المتطورة، أطلقت النار باتجاهه، رأيته يترنح على الأرض إنه أحلى شعور في العالم يشبه الشعور الذي ينتابك عندما تفوز بمباراة كرة قدم.
بعد ذلك رأيت فلسطينياً ثانياًً أطلقت النار عليه فرأيته يطير داخل الغرفة، على الرغم من أنه كبير الجثة. «إذا استيقظت في الصباح بشعور سيء فإنك تقتل الفلسطيني، وإذا كان فتى في الـ14 من عمره، يجب أن تقتله.
بالإضافة إلى ذلك باستطاعتك قتل امرأة حتى تتوقف عن إنجاب الأطفال، وأن تقتل الطفلة الصغيرة التي ستكبر وستتزوج وبعد ذلك ستلد على الأقل عشرة أولاد».
هذه الأقوال المقززة لجندي صهيوني لصحيفة معاريف الصهيونية، وتحدث عن شعور النشوة العارمة الذي ينتابه بعد قتل الفلسطينيين.. يتابع قائلاً:
«بعد انتهاء عملية قتل الفلسطينيين، كنا نعود إلى القاعدة العسكرية حيث يتفاخر الجنود من قتل اليوم من الفلسطينيين أكثر من الآخرين. لست نادماً بالمرة على ما قمت به بل أنتظر بشغف الخروج إلى عملية أخرى للقتل.. يا الله، متي سنخرج مرة أخرى لقتلهم».
الجندي «شاي« من وحدة «غفعاتي« الإرهابية يقول أيضاً: «خرجنا إلى عملية لملاحقة وقتل الفلسطينيين. رأيت مسلحاً يركض، أطلقت النار باتجاهه، قتلته بالرصاصة الأولى، وصحت لصديقي أفي لقد قتلته.. لقد قتلته، ولكنني لم أشعر بأن ذلك كاف، أردت أن أقتل المزيد منهم، أطلقت الرصاص مرة أخرى فلم أصب الهدف.. رصاصة أخرى فسقط اقتربنا منه، كان بارداً. الضابط المسئول أمرني بأن أتأكد أنه قتل فأطلقت الرصاص على الفلسطيني مرة أخرى وتأكدت من أنه قتل». «أتذكر الحادث دائماً، ولكنني أحاول أن أنساه، خلال فترة نقاهتي في خارج البلاد حاولت التخلص من مشهد المخرب وأنا أقتله مرة أخرى، وفي الحقيقة فإن الأمر لم يعد يلاحقني».
«دودو« مجند صهيوني آخر ممن يفاخرون بقتل فتية فلسطين يعبر عن تلذذه بذلك قائلاً: كنا ننتظر وصول الفلسطينيين في قطاع غزة، وعندما شاهدنا عدداً من الفتية، أطلقنا عليهم الرصاص فهربوا واختبئوا، اقتربنا منهم، خرج أحدهم يحمل سكيناً، فأطلقت النار باتجاهه وأرديته قتيلاً، إنه عربي قذر، قتلته فأصبح كخرقة قماش يجب أن تخفيها، إنه جثة هامدة، قطعة من اللحم مرمية على الأرض، وفي تلك اللحظات أنت لا تهتم البتة به وبمصيره. جميع الجنود يريدون تنفيذ أعمال القتل لكي يشعروا بما شعرت به. «ودائماً كنا نأخذ معنا كاميرا للتصوير مع جثة الفلسطيني الذي نقتله فهذه الصور التذكارية تعطيك شعوراً بالارتياح والفخر»!!.
ومما جاء في كتابهم المحرف: «قومي ودوسي يا بنت صهيون، لأني أجعل قرنك حديداً، وأظلافك أجعلها نحاساً، فتسحقين شعوباً كثيرين». سفر ميخا:4/12 هكذا هي بواعث اليهود الصهاينة الدينية التي توضح كيفية تعاملهم مع غير اليهود فهلا تبينا حقيقة عقائدهم وأفكارهم التي تحمل كل شر لكل ما هو غير يهودي. وما سبق يؤكد حقيقة البعد العقائدي كمنطلق أساس في الصراع بين اليهود والمسلمين فهل يعي ذلك أعلامنا ومثقفينا وأصحاب القرار؟
نرجو ألا يكون قد فات الأوان.
الإنسانية والعدوانية في العقيدة اليهودية
د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 5/2/2005
أشرنا في المقال السابق للأضلاع الثلاثة للحلولية أو وحدة الوجود اليهودية (أي حلول الإله في مخلوقاته وتوحده بها) وهي الإله والشعب والأرض. وقد تناولنا الضلعين الأول والثاني في المقال السابق، وسنتناول في هذا المقال الضلع الثالث، أي الأرض. فكما حل الإله في الشعب فإنه يحل في الأرض، ولذا فهي تتأله وتتقدّس، تماماً كما تأله وتقدس الشعب. ولذا فإن فلسطين (أي إرتس إسرائيل في المصطلح الديني اليهودي) تسمى "أرض الرب" و"الأرض المختارة" و"الأرض المقدسة" التي تفوق في قدسيتها أية أرض أخرى، لارتباطها بالشعب المختار. كما يشار إلى الأرض بأنها "صهيون التي يسكنها الرب". فقد ورد في الزمور التاسع المقطوعة الحادية عشرة "رنموا للرب الساكن في صهيون"، أي الرب الذي حل في صهيون، أو "إرتس إسرائيل"، أي فلسطين.
وقد جاء في التلمود "الواحد القدوس تبارك اسمه قاس جميع البلدان بمقياسه ولم يستطع العثور على أية بلاد جديرة بأن تمنح لجماعة "إسرائيل" سوى أرض إسرائيل". وقد ساوى أحد أسفار التلمود بين الإيمان والسكنى في إرتس "إسرائيل" إذ جاء فيه "من يعيش داخل أرض "إسرائيل" يمكن اعتباره مؤمناً، أما المقيم خارجها فهو إنسان لا إله له". وهي عبارة رددها بن جوريون في بعض تصريحاته.
وقد ارتبطت شعائر الديانة اليهودية بالأرض ارتباطاً كبيراً. فبعض الصلوات من أجل المطر والندى تتلى بما يتفق مع الفصول في أرض الميعاد. وتدور صلوات عيد الفصح حول الخروج من مصر والدخول في الأرض. وترتبط عقيدة الماشيح (المسيح المخلص اليهودي) بالعودة إلى الأرض. وحتى الآن يرسل بعض أعضاء الجماعات اليهودية في العالم في طلب شيء من تراب الأرض لينثر فوق قبورهم بعد موتهم. وقد تضخم الحديث عن الأرض وعن ارتباط اليهودي بها حتى ظهر ما يسمى "لاهوت الأرض المقدسة" الذي ناقش أموراً كثيرة من بينها حدود هذه الأرض. فقد جاء في سفر التكوين (15/18) أن الإله قـد قطع مع إبراهيم عهداً قـائلاً: "لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات". ولكن في الإصحاح الرابع والثلاثين من سفر "العدد" توجد خريطة مغايرة حددت على أنها "أرض كنعان بتخومها"، وحددت التخوم بشكل يختلف عن خريطة سفر "التكوين". وقد حل الحاخامات هذه المشكلة بأن شَبَّهوا الأرض بجلد الإبل الذي ينكمش في حالة العطش والجوع ويتمدد إذا شبع وارتوى. (وهى صورة مجازية استخدمها هرتزل وكثير من المفكرين الصهاينة) وهكذا الأرض المقدَّسة، تنكمش إذا هجرها ساكنوها من اليهود، وتتمدد وتتسع إذا جاءها اليهود من بقاع الأرض.
وهذه الرؤية تعد الأساس الديني للتوسعية الصهيونية: إذا زاد عدد المهاجرين اليهود ليستوطنوا في فلسطين تمددت حدود الدولة الصهيونية. وقد طرح الصهاينة في بداية الأمر شعار "من النيل إلى الفرات"، ولكن على مستوى الممارسة الفعلية أصبح ما يقرر حدود الأرض هو القوة العسكرية الإسرائيلية. ولذلك انسحبت القوات الإسرائيلية من سيناء ولم تنسحب من الجولان، رغم أن سيناء أكثر قداسة من الجولان في المنظور اليهودي، فالصهاينة يوظفون الرؤية الدينية في خدمة الرؤية العسكرية. ومن المشـكلات الطريفـة التي واجهها لاهـوت الأرض مشـكلة ملكيتها. فالأرض المقدَّسة عبر تاريخها كان يقطن فيها، في معظم الأحيان، شعب عادي "غير مقدَّس" من وجهة النظر الدينية اليهودية. ففسر الحاخام راشي العبارة الافتتاحية في التوراة التي تقول: في البدء خلق الإله السماوات والأرض"، بالطريقة التالية: إن الإله يخبر جماعة إسرائيل والعالم أنه هو الخالق، ولذلك فهو صاحب ما يخلق، يوزعه كيفما شاء. ولذا، إذا قال الناس لليهود أنتم لصوص لأنكم غزوتم أرض إسرائيل وأخذتموها من أهلها فبوسع اليهود أن يجيبوا بقولهم: إن الأرض مثل الدنيا ملك الإله، وهو قد وهبها لنا. وقد استخدم الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر المنطق نفسه في العصر الحديث في مجال تبرير الاستيلاء الصهيوني على الأرض.
يوجد إذن جانبان في اليهودية: واحد إنساني يقبل الآخر ويحاول التعايش معه وهو جانب أقل ما يوصف به أنه كان هامشياً، وجانب آخر غير إنساني عدواني يرفض الآخر تماماً. ولكن في القرن التاسع عشر ظهرت حركة الاستنارة اليهودية واليهودية الإصلاحية التي أكدت الجانب الإنساني وعمقته وحذفت من الصلوات اليهودية أية إشارات لإعادة بناء الهيكل وللعودة وللأرض المقدسة، وأكدت أن اليهودية ليست انتماءً اثنياً أو عرقياً أو حتى حضارياً وإنما هي انتماء ديني، شأنها في هذا شأن الإسلام والمسيحية. هذا على عكس الصهيونية التي عمقت الجانب العدواني الرافض للآخر، وطرحت تصوراً مؤداه أن اليهود شعب مثل كل الشعوب وأن من حقه أن "يعود" إلى وطنه. وقد أحيا الفكر الصهيوني الثالوث الحلولي (وحدة الإله بالشعب وبالأرض) ولكن بطريقة ماكرة ومراوغة للغاية، إذ تم تأكيد فكرة القداسة بشكل وتم التزام الصمت بخصوص مصدرها: هل هي من الإله (وهذه هي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية الدينية) أم هي صفة مُتوارَثة لصيقة بالشعب اليهودي والأرض اليهودية، كامنة فيهما (وهي الصيغة التي تأخذ بها الصهيونية اللادينية). والصيغة الدينية هي حلولية متطرفة بحيث يتم تقديس الأرض لأنها متوحدة مع الإله، أما الصيغة العلمانية فهي حلولية بدون إله حيث تصبح الأرض هي الإله، وقد صرح موشي ديان أن أرض "إسرائيل" هي ربه الوحيد، كما صرح جابوتنسكي بأن الشعب اليهودي هو المعبد الذي يتعبد فيه.
وقد اكتسحت الصهيونية معظم أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، العلماني منهم والمتدين، بل واكتسحت اليهودية الإصلاحية ذاتها بحيث أصبح مصطلح "يهودي" أو "صهيوني" مترادفين في أذهان الكثيرين، وتم توظيف العقيدة اليهودية في جانبها العدواني في خدمة الصهيونية. فعلى سبيل المثال، رغم أنه جاء في شرائع نوح السبع أنك لن تقتل لأن من يريق دم إنسان يقوض صورة الإله، لأن الإله قد خلق الإنسان في صورته (كما جاء في مقال شالوميت آلونى هآرتس 15 سبتمبر)، فالحاخامات الذين توظفهم الصهيونية في خدمتها يبررون قتل العرب بما في ذلك النساء والأطفال. فعندما وقعت مذبحة قبية عام 1953 قال الحاخام شاؤول يسرائيلى إنه من المباح قتل النساء والأطفال العرب، لأن العربي الصغير سيصبح عربياً كبيراً، والأم يمكن أن تلد أطفالاً عرباً سيكبرون بمرور الوقت! وقد أفتى الحاخام إسحق جنزبرج، وهو رئيس مدرسة تلمودية عليا (يشيفا) في نابلس بأن دم العرب ودم اليهود لا يمكن اعتبارهما متساويين.
وقد جاء في العهد القديم أن اليهود يجب أن يكرموا الغريب الذي يعيش بين ظهرانيهم "لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر". ولكن الحاخامات الصهاينة يفضلون اقتباس فقرات أخرى من العهد القديم هي تلك الخاصة بالكنعانيين التي جاء فيها أن اليهود يجب أن يحطموا الكنعانيين تماماً وألا يعقدوا معهم ميثاقاً وألا يظهروا أي رحمة تجاههم (تثنية: 7/2). وقد كتب الحاخام "إسرائيل هس"، حاخام جامعة بار إيلان، مقالاً في مجلة الجامعة جاء فيه أنه قام بعدة بحوث واكتشف أن الإسرائيليين ملزمون بضرورة إبادة الفلسطينيين، نعم إبادة الفلسطينيين، لأنهم من سلالة العماليق وهي القبيلة التي تأمر التوراة اليهود بإبادتهم فهم رمز الشر (وليس من قبيل الصدفة أن يشير المستوطنون الصهاينة في الضفة الغربية إلى الفلسطينيين باعتبارهم "عماليق"، أي لابد من إبادتهم).
والله أعلم
شارون والدرس الخطأ من اوشفيتز
د. عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي اللندنية 29/1/2005
لم يتهم أحد رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون بأنه تلميذ نجيب، ولكن حتى أقل التلاميذ قدرة على التحصيل يمكن أن يتعلم شيئاً إذا جلس في نفس الفصل واستمع إلى نفس الدرس لمدة ستين عاماً، إلا شارون على ما يبدو.
شارون خرج علينا هذا الأسبوع بتصريح يقول فيه إن العبرة من اوشفيتز والمحرقة هي أنه لن يدافع عن اليهود إلا اليهود. وأضاف شارون في تصريحاته التي تزامنت مع الاحتفال الدولي بذكري تحرير معسكر اوشفيتز على أيدي الحلفاء، إن الدرس من تلك التجربة هي أن على اليهود الاعتماد على أنفسهم فقط، لأن الأوروبيين وغيرهم لم يحركوا ساكناً لإنقاذ اليهود رغم علمهم بما كان يجري في معسكر الإبادة.
وإذا لم يكن شارون يقصد من تصريحاته ابتزاز الأوروبيين والمزيد من الضغط عليهم لإشعارهم بالذنب تجاه اليهود، وهو افتراض لا ينبغي استبعاده، فإن شارون يكون أغبى تلميذ على وجه الأرض. ذلك أنه لو لم يكن لليهود صديق كما يزعم، وكان العالم كله عدواً لهم، لكان عليهم أن يقولوا على الدنيا السلام. فما الذي يستطيع خمسة عشر مليوناً من اليهود عمله أمام ستة مليارات من الأعداء؟
الدرس الحقيقي من اوشفيتز هو بالعكس تماماً، يشير إلى رفض عالمي كامل لفظاعات النازية، وانحياز كامل إلى صف الضحايا. الرسالة التي تلقاها العالم من اوشفيتز كانت هي ألا يسمح بعد اليوم للضحايا أن يقفوا وحدهم أمام الجلادين، وأن تكون الإنسانية يداً واحداً ضد مرتكبي الفظائع. لم تكن هذه مجرد شعارات، بل تحولت إلى برنامج دولي تمثل في إنشاء الأمم المتحدة والإعلان الدولي لحقوق الإنسان، والمعاهدة الدولية ضد الإبادة الجماعية، ومواثيق جنيف ضد جرائم الحرب إلى غير ذلك من المؤسسات والاتفاقيات والترتيبات الدولية.
العالم كله تعاطف مع ضحايا النازية، وهو تعاطف تستثمره بعض الجهات الصهيونية لابتزاز الآخرين، وتتخذه ستاراً لارتكاب جرائم كثيرة ما كانت تتم لولا هذا التعاطف الممزوج بالإحساس بالذنب.
مزاعم شارون بعداوة العالم كله لليهود كانت ستكون مثاراً للسخرية لولا خطورة ما يترتب عليها من ترويج لأيديولوجية تزعم أن العنف، والعنف فقط هو الذي يضمن سلامة شعب معين وحقه في الوجود. وإذا تم تعميم هذا المبدأ عالمياً فإنه سيكون مبرراً للإرهاب والفاشية، وتحول العالم إلى غابة من الوحوش لا مكان فيها للقانون والقيم الإنسانية المتمثلة في العدل والرحمة والتسامح واحترام حقوق الضعفاء.
لا شك أن العالم لم يتحول اليوم إلى جنة يمرح فيها الحمل مع الذئب في سلام، وما تزال تتحكم فيه عوامل تعتمد منطق القوة والمصلحة. الضعفاء في العالم ما زالوا لا يجدون حقوقهم والأقوياء يجدون الكثير مما يطلبون.
ولكن العالم بنفس القدر ليس غابة لا توجد فيها قيم ولا قوانين وتعتمد أوضاعه على العنف والقهر فقط. بل بالعكس نجد أن أوضاع العالم اليوم أقرب منها من أي وقت إلى اعتماد المبادئ الإنسانية أسلوباً للتعامل، مع وجود ميل للتعاطف مع الضحايا في معظم الأحوال. ويعتبر هذا أحد نتائج الصدمة من جرائم النازية، والحذر من تكرارها. ولهذا شهدنا الرأي العام العالمي يتحرك بقوة حين يقع العدوان على المستضعفين، كما حدث في رواندا والصومال وكوسوفو وليبيريا والبوسنة ودارفور، أو في المجاعات والكوارث الطبيعية في أثيوبيا والمحيط الهندي وغيرها.
الدرس الأهم من اوشفيتز هو أن العالم أثبت أنه أكثر إنسانية مما يزعم شارون، وأنه يتجه في ذلك الاتجاه بسبب ارتفاع أصوات المستضعفين والأقليات. ولكن وجود أشخاص مثل شارون وحركات تتبنى منطقه الأعوج هي التي تهدد بردة فاشية عنصرية تجتاح العالم. وإذا كان شارون يعتقد أن أمن اليهود لن يضمنه إلا أمثاله عبر ما يرتكب من فظاعات ومجازر، وعبر تحويل الآخرين إلى مستعبدين وحصرهم في سجون كبيرة على شكل معتقلات النازية وغيتواتها، فان شارون يثبت أنه هو الخطر الأكبر على يهود العالم.
العقيدة اليهودية: الجوانب العدوانية
د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 29/1/2005
ذكرنا في المقال السابق بعض الجوانب الإنسانية في العقيدة اليهودية وهي موجودة بالفعل ولكن لابد من الاعتراف بأنها قليلة. ويوجد على العكس من هذا جوانب عدوانية كثيرة. خذ على سبيل المثال مفهوماً أساسياً في اليهودية وهو تصور الإله. في بعض أجزاء العهد القديم تصور للإله يقترب كثيراً من التصور الإسلامي. فهو إله واحد لا يتجسد ولا تدركه الأبصار، خالق الطبيعة المادية والتاريخ الإنساني، ولكنه يتجاوزهما. وقد وصل التيار التوحيدي إلى قمته في كتب الأنبياء (خاصة كتاب أشعياء) الذين طهروا التصور اليهودي للإله من كل الشوائب الوثنية، فصار أكثر إنسانية وشمولاً وسموا، فهو إله عادل لا يفرق بين الشعوب ولا يتبنى مقاييس أخلاقية، بل يحكم على اليهود وعلى كل الشعوب بمقياس واحد. لكن إلى جانب هذا يوجد تصور آخر للإله داخل الإطار الحلولي ووحدة الوجود أبعد ما يكون عن التوحيد. والحلولية ووحدة الوجود تعنيان أن الإله الخالق يحل في مخلوقاته ويتوحد بها، بحيث يصبح العالم مكونا من جوهر واحد. وفي حالة وحدة الوجود اليهودية يحل الإله في الشعب اليهودي فيتأله الشعب ويصبح في منزلة الإله كما يحل في فلسطين (أرتس إسرائيل في المصطلح الديني اليهودي) فتصبح أرضاً مقدسة. والإله في هذا الإطار الحلولي يتصف بصفات البشر فهو يأكل ويشرب ويتعب ويستريح ويضحك ويبكي ويحب ويبغض، بل يحس بالندم ووخز الضمير (خروج 32 /10 – 14). وإذا كان من أهم صفات الإله في الإطار التوحيدي أنه يعرف كل شيء ففي الإطار الحلولي الإله نجده لا يعرف كل شيء، ولذا يطلب من اليهود أن يرشدوه بأن يصبغوا أبواب بيوتهم بالدم حتى لا يهلكهم مع أعدائهم من المصريين عن طريق الخطأ (خروج 12 / 13 – 14).
وهو إله يتجسد في أشكال مادية محسوسة فهو يسكن في وسط اليهود ويحملونه في خيمة العهد (خروج 25/8)، كما يسير أمام اليهود على شكل عمود دخان في النهار كي يهديهم الطريق، أما في الليل فكان يتحول إلى عمود نار كي يضيء لهم. وهو إله الحروب يعلم يدي داود القتال. وهو إله قاس يأمر شعبه المختار بقتل جميع الذكور في المدن البعيدة عن أرض الميعاد. أما سكان هذه الأرض نفسها فمصيرهم الإبادة ذكوراً كانوا أم إناثاً أم أطفالاً. ومقاييس هذا الإله تختلف باختلاف الزمان والمكان ولذا فهي تتغير بتغير الاعتبارات العملية، ولذا يأمر اليهود بالسرقة ويطلب من كل امرأة يهودية في مصر أن تطلب من جارتها "أمتعة فضة وأمتعة ذهب وثياباً حتى يسلبوا المصريين (خروج 3 / 22). وهو في نهاية الأمر يعد إلهاً قومياً خاصاً مقصوراً على الشعب اليهودي، بينما نجد أن للشعوب الأخرى آلهتها (خروج 6 / 7).
والحلولية تيار مهم في العهد القديم، ولكنها تضخمت واتسعت في التلمود. فالإله في التلمود، متعصب بشكل كامل لشعبه المختار، ولذا فهو يعبر عن ندمه على تركه اليهود في حالة تعاسة وشقاء حتى أنه يلطم ويبكي. ومنذ أن أمر بهدم الهيكل وهو في حالة حزن وندم، توقف عن اللعب مع التنين الذي كان يسليه، وأصبح يمضي وقتاً طويلاً مع الليل يزأر كالأسد.
وورد في التلمود أن خلافاً وقع بين الإله وعلماء اليهود حول أمر ما. وبعد أن طال الجدل، تقرر إحالة الأمر موضع الخلاف إلى أحد الحاخامات الذي حكم بخطأ الإله الذي اضطر إلى الاعتراف بخطئه. وهكذا اختل التوازن الحلولي، كما هو الحال دائماً، لصالح المخلوقات من الحاخامات على حساب الإله.
ويظهر ارتباط الانعزالية بالحلولية في فكرة الاختيار، فقد جاء في التلمود أن الإله اختار اليهود لأنهم اختاروه، وهي عبارة تفترض المساواة بين الإله والشعب، (وكان يرددها بن جوريون برضا شديد، وهي تشكل أساس فلسفة بوبر الحوارية، ونقطة انطلاق لكثير من النزعات الحلولية المعاصرة في اليهودية ولصهيونية جوش ايمونيم الحلولية).
وتزداد الحلولية تطرفاً في تراث القبالة (التراث الصوفي الحلولى اليهودي) فقد جاء في إحدى فقرات سفر أشعياء (23/12) "أنتم شهودي، يقول الرب، وأنا الله" وهي فقرة تؤكد وحدانية الإله. تفسر القبالاه هذه العبارة كما يلي: "حينما تكونون شهودي أكون أنا الإله، وحينما لا تكونون شهودي فكأنني لست الإله"، فكأن وجود الإله من وجود الشعب وليس العكس. بل إن كمال الإله يتوقف على الشعب. وقد استمر هذا التيار الحلولي حتى العصر الحديث فنجد حاخاماً مثل أيوجين بوروفيتز يتحدث عن حرب 1967 أنها لم تكن تهدد دولة "إسرائيل" فحسب، وإنما تهدد الإله نفسه، فكأن الإله قد تجسد في دولة "إسرائيل"، فمن يصيب الدولة الصهيونية بأذى فكأنه يصيب الإله نفسه بأذى.
وفي كل المنظومات الحلولية كما أسلفت ثمة ثالوث أساسي هو الإله والشعب والأرض، فيحل الإله في الشعب فيصبح شعباً مقدساً وأزلياً (وهذه من صفات الإله) ويحل في الأرض فتصبح أرضاً مقدسة.
ولنبدأ بمفهوم الشعب. يشار إلى اليهود في العهد القديم بأنهم "الشعب المقدس" و"الشعب الأزلي". وقد جاء في سفر التثينة (20/ 24،26) "أنا الرب إلهكم الذي ميزكم من الشعوب... " وكما جاء في نفس السفر (14/2) "وقد اختارك الرب لكي تكون شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض". ونفس التيار الانعزالي يوجد في التلمود الذي جاء فيه أن اليهود شبهوا بحبة الزيتون لأن زيت الزيتون لا يمكن خلطه مع المواد الأخرى. وكذلك جماعة "إسرائيل"، لا يمكن أن تختلط مع الشعوب الأخرى. ويدعي التلمود أن روح الإله من روح الشعب كما أن الابن جزء من أمه، ولذا فمن يعتدي على يهودي فهو كمن يعتدي على العزة الإلهية، ومن يعادي جماعة "إسرائيل" أو يكرهها فإنه يعادي الإله ويكرهه.
ويتناسى التلمود الفرق بين الأخيار والأشرار من الأغيار، رغم أنه تمييز أساسي في العقيدة اليهودية نفسها. بل إن التلمود يطلب أحياناً إلى اليهود أن يستخدموا مقياسين أخلاقيين: أحدهما للتعامل مع اليهود، والآخر للتعامل مع غير اليهود. وقد جاء في التلمود أنه لا يصح أن يباع لليهودي الشيء الذي يحتمل فساده إن ترك، ولكنه من الممكن أن يباع لغير اليهودي. كما يحرم على الطبيب اليهودي أن يعالج مريضاً غير يهودي (إلا لدرء أذى الأغيار).
وتصل النزعة التلمودية المتعالية ذروتها في عبارة: "اقتل أفضل الأغيار، اسحق رأس أنبل الأفاعي". وقد اقتبس أحد كتيبات الحاخامية العسكرية الإسرائيلية هذه العبارة التلمودية التي أثارت ضجة داخل "إسرائيل" وتصدى لها بعض القادة الدينيين ووصفوها بأنها تشويه للعقيدة اليهودية. وقد عمقت القبالاه هذا التيار وجعلت الشعب المقدس شريكاً للإله في عملية إصلاح الكون.
والله أعلم.
فتوى الحاخامين برفض خطة الانسحاب هل تشجع على العنف؟
جعفر هادي حسن
صحيفة الحياة اللندنية 27/12/2004
الحاخام ابراهام شابيرا الذي يبلغ من العمر تسعين سنة يعتبر نفسه حارساً على أرض "إسرائيل" ومدافعاً عنها، فهو يرفض الانسحاب مما يعتبره "إسرائيل" الكبرى حتى من متر واحد. وهو معروف بتشجيعه على الاستيطان ورفضه القاطع لاتفاق أوسلو. وهو اليوم يرأس المحكمة الحاخامية العليا ويشرف على أهم مدرسة دينية (يشيفا) اسمها «مركز هاراف» لتخريج المتدينين الصهيونيين. وكانت هذه المدرسة أسسها الحاخام ابراهام كوك واضع الأسس الفكرية للصهيونية الدينية الحديثة.
وما أن يعرف هذا الحاخام أن هناك خطة للانسحاب أو حتى إشاعة عن انسحاب، حتى يشهر سلاح الفتوى لتحريض الجنود والضباط على العصيان. وقد فعل ذلك أيام اسحق رابين وهو ما يفعله اليوم كذلك.
فبعد المذبحة المشهورة التي ارتكبها باروخ غولدشتاين وراح ضحيتها 29 فلسطينياً سرت إشاعة بين المستوطنين بأن رئيس الوزراء سيأمر بإجلاء أولئك الذين استوطنوا الخليل. وما أن وصلت الإشاعة إلى أذن الحاخام شابيرا حتى أصدر فتوى بصفته رئيساً لمجلس حاخامي "إسرائيل" بتحريم إخلاء أي مستوطنة، وجاء في فتواه «أن من الواجب رفض أي أمر بإخلاء أي مستوطنة في أرض "إسرائيل"». وانزعج رابين كثيراً من هذه الفتوى وطلب من المدعي العام أن يحقق في الموضوع وإمكان توجيه التهمة له بالتحريض على الفتنة، ولكن شيئاً من هذا لم يحدث.
واليوم، يصدر الحاخام فتوى أشد قوة من سابقتها وأكثر تحريضاً، بعد أن أعلنت الحكومة الإسرائيلية عن خطتها للانسحاب من غزة وبعض المستوطنات في الضفة الغربية، فقد اعتبر إخلاء المستوطنات جريمة في حق الهلخا (الشريعة اليهودية)، وهو كالرفض لواجباتها ومثل أكل الطعام الحرام وتدنيس يوم السبت، وعلى الجنود والشرطة أن يرفضوا حتى المساعدة في الإخلاء ولو اقتضى ذلك الذهاب إلى السجن، وقال أكثر من مرة إن هذه هي أوامر الرب.
وكما انزعج رابين يومها من فتوى الحاخام كذلك انزعج شارون من فتواه حيث اعتبر عدم إطاعة الأوامر «خطوة كبيرة نحو الفوضى التي ستقوض وجودنا»، واعتبر موفاز الفتوى تمزيقاً للشعب وتقويضاً للصهيونية. كما أن يوسف لبيد زعيم «شينوي» والعدو اللدود لسيطرة الأرثوذكس طالب بأن يقدم الحاخام للمحاكمة بتهمة التحريض على الفتنة. كما أن حاييم رامون (من العمل) طالب بسجنه.
وقد لا يحدث شيء من هذا، خصوصاً أن ستين حاخاماً أيدوا فتواه وأكدوها. وخشية المسؤولين في الدولة من نتائج هذه الفتاوى حقيقية كما عبر بعض المسؤولين عن ذلك لأن عدد الجنود المتدينين في الجيش ازداد في السنوات الأخيرة بعد التسهيلات التي قدمت لهم مثل إنشاء الوحدات العسكرية الخاصة بهم وتوفير متطلباتهم وما يحتاجون إليه من أشياء «كوشر» والسماح لهم بأداء الخدمة العسكرية جزئياً وغير ذلك.
كما أن الضباط المتدينين الذين تصل نسبتهم في الجيش إلى 30 في المئة وصلوا إلى وظائف عليا في الاستخبارات والتخطيط والاستراتيجيا، وهؤلاء في الغالب يسمعون لحاخاميهم.
كما أن هذه الفتاوى تعطي إجازة للمتدينين المتطرفين في القيام باغتيال مسؤولين، ولإسرائيل سابقة في ذلك.
وتشجعت المنظمات المعارضة للانسحاب بهذه الفتوى وأخذت تحرض الجنود والضباط على العصيان. ومن أكثر هذه المنظمات نشاطاً وتأثيراً «حركة درع الدفاع» التي يتزعمها نعوم لفنات - وهو أخو وزيرة التربية الحالية - الذي يقول إن منظمته أسسها حاخامون.
وهو يصف الإعلان عن الانسحاب بأنه كان صدمة لليمين وزلزالاً في نظرهم، وأنهم ظلوا لفترة مشدوهين لا يدرون ماذا يفعلون إلى أن أيقظتهم فتوى الحاخام شابيرا حيث أخذ الحاخامون يقنعون الجنود «بأن أوامر الرب هي أهم من أوامر الجيش وأن أوامر التوراة مطلقة في عدم التخلي عن أي جزء من أرض "إسرائيل"».
وأخذ لفنات والمنتمون إلى حركته بتوزيع فتوى الحاخام شابيرا على الجنود والضباط في طول البلاد وعرضها من أجل اقناعهم بعدم إطاعة الأوامر. وهو يقول إنه جمع آلاف التواقيع للجنود الحاليين والاحتياط. وهم لم يكتفوا بهذا، بل يذهبون إلى بيوت السكان بيتاً بيتاً يبيّنون لهم خطورة الانسحاب والضغط على شارون لإجراء استفتاء حول خطته.
وهو يؤكد أن جمع التواقيع لا يكفي و«من الضروري تقوية المستوطنات في غزة ودعوة المستوطنين من خارجها للانتقال إليها، حتى يكون من الصعب على الجيش تطبيق خطة الانحساب، وأخبر شارون أن الإخلاء غير ممكن وإننا بجهودنا ومساعدة الرب، سنتمكن من أن نهزم شارون».
وطبقاً لما ذكرته صحيفة «هآرتس»، فإن حركة «أمانا» ساعدت إحدى عشرة عائلة على النزوح إلى غزة والسكن فيها «رداً على الصواريخ وخطة الإخلاء وحكومة شارون»، كما ذكرت إحدى مسؤولاتها.
وبعد صدور الفتوى أخذ مجلس المستوطنات «يشع» يكثر من الاجتماعات ويشرك في اجتماعاته بعض الحركات المتطرفة مثل «كاخ» و«الجبهة القومية اليهودية». وهم يعلنون بأنهم يتخذون قرارات لمضاعفة العمل وتطبيق أفكار جديدة «وإننا لا يمكن أن نتحدث عن الشعارات وشارون يغتصبنا بشراسة، إذ أن المجلس يشعر بأن الشعارات قد أصبحت غير كافية». وعبر البعض من هؤلاء عن استعداده لمخالفة القانون «لأن ما يعمله شارون هو ضد القانون وأن الوقت حان لنا لمخالفة القانون، وندعو الناس للذهاب إلى «غوش قطيف» وإذا كان هذا غير قانوني فإننا مستعدون إلى الذهاب إلى السجن».
بينما قال آخرون كان هناك حديث عن سد طرق ودعوة إلى القيام بحملة عصيان مدني و«إننا نتمكن من شل البلد خلال أيام»، كما أنهم انتقدوا خطاب شارون في هرتزيليا نقداً شديداً وقالوا إن أفكاره لا تختلف عن أفكار بيريز وأنه سيدفع ثمن سياسته هذه. ويبدو أن هؤلاء مصممون على استعمال العنف كلما اقترب موعد الانسحاب. والحكومة تعرف ذلك ولذلك بدأت تأخذ بعض الإجراءات مثل منع دخول أي شخص إلى غزة قبل موعد الانسحاب بثلاثة أشهر، كما أن «الشين بيت» قد شدد الإجراءات الأمنية حول شارون.
والذي يبدو أيضاً أن الحكومة ماضية بتطبيق خطة الانسحاب على رغم احتمال حدوث العنف لأن الانسحاب من وجهة نظر شارون ضرورة يحتمها أمن "إسرائيل". ولكن هؤلاء الرافضين للانسحاب يقومون بنشاط آخر غير منظور وهو نشاط مكثف تساعدهم فيه منظمات مسيحية صهيونية هدفه إسقاط الحكومة الحالية والتعجيل بالانتخابات حيث يأملون بأن لا يفوز فيها من ينوي الانسحاب.
أكاديمي عراقي - لندن.
حقائق الصراع العربي ـ الصهيوني وقوانينه الحاكمة
عوني فرسخ
صحيفة القدس العربي 21/9/2004
في سنة 1886 وقع أول صدام فيما بين المواطنين العرب والمستعمرين الصهاينة في منطقة الخضيرة علي خلفية طرد الفلاحين العرب من أرضهم. وفي سنة 1891 وجه أعيان القدس مذكرة للباب العالي العثماني يطلب وقف هجرة الصهاينة وشرائهم الأراضي، وحذروا من سيطرة اليهود علي التجارة المحلية. وفي سنة 1899 كتب الأب هنري لامانس في مجلة الشرق مستعرضاً المستعمرات الصهيونية وتاريخ إنشائها والجمعيات والأفراد القائمين عليها، وحذر من أطماع الصهاينة في فلسطين وشرق الأردن. وفي سنة 1905 صدر في باريس كتاب يقظة الأمة العربية لنجيب عازوري الذي تميز بنظرة استراتيجية واستشراف مستقبلي دقيق. فهو يقول: إن ظاهرتين متشابهتي الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد تتضحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية. أعني يقظة الأمة العربية وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة "إسرائيل" علي نطاق واسع. وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متعارضين يتعلق مصير العالم أجمع.
وعلي مدي السنوات التي أعقبت صدام الخضيرة توالت الصدامات الدامية، وتعددت طروحات التسوية، ولقي الصهاينة دعم ومساندة القوي العظمي، وقدم الشعب العربي في فلسطين ومحيطها العربي تضحيات مشهودة. ولم تتوقف الكتابة حول الصراع الذي فجره التواجد الصهيوني علي التراب العربي في فلسطين منذ نشر الأب لامانس مقالته قبل مئة وخمس سنوات.
ومع ذلك لم يحسم أحد الطرفين الصراع لصالحه، ولا حققت ردات الفعل العربية، الرسمية والشعبية، ما يتكافأ وعطاء الشعب وإبداعات أبطال المقاومة، ولا توصل الفكر والعمل العربي القومي العام والقطري الخاص لصياغة الاستراتيجية الشاملة والمستمرة لإدارة الصراع مع التحالف الإمبريالي ـ الصهيوني. ولقد فشلت محاولات التسوية كافة، ولم تحقق اتفاقيات السلام وعمليات التطبيع قبولاً شعبياً يعتد به في أي قطر عربي. بل ويمكن القول وبثقة تامة أن التناقضات فيما بين الشعب العربي في فلسطين وعلي مدي الساحة من المحيط إلي الخليج وبين التحالف المضاد هي اليوم أشد عمقاً وأوضح عداءً مما كانت عليه لحظة الصدام الأول في ضواحي يافا سنة 1886.
وفي تواصل عجز التحالف الاستعماري الصهيوني عن حسم الصراع لصالحه، أو فرض التسوية التي يريدها بشروطه برغم تفوقه الاستراتيجي في ميزان القدرات والأدوار. وكما في استمرار القصور العربي القومي والقطري عن صياغة الاستراتيجية الشاملة والدائمة لإدارة الصراع مع التحالف المضاد، دلالة علي حقائق الصراع وقوانينه الحاكمة، والتي بدون أخذها في الحسبان لا يمكن فهم تاريخ الصراع فهماً موضوعياً، وقراءة معطيات حاضره قراءة واقعية، وبالتالي العجز عن استشراف احتمالاته المستقبلية استشرافاً علمياً.. وفي يقيني أن في مقدمة ما يحتاجه الشعب العربي في المرحلة الراهنة من الصراع تسليط الضوء علي حقائقه وقوانينه الحاكمة.
وأولي الحقائق التي أري التذكير بها والتنبيه لخطورة التعتيم عليها أن إسرائيل ليست بالدولة الطبيعية النشأة والدور، فهي لم تقم نتيجة تطور سياسي ـ اجتماعي لشعب مقيم في أرض آبائه وأجداده، وإنما بتهجير يهود متعددي الأصول والأوطان كي يشكلوا المادة البشرية لآخر مشروعات الاستعمار الاستيطاني، التي صدرت عن المجتمعات الأوروبية. إلا أن المشروع الصهيوني متميز عن سابقاته بأنه لم ينشأ عفوياً مثلها، ولا أقامه مغامرون لم يمكنهم وضعهم الطبقي في أوطانهم الأوروبية من تحقيق طموحاتهم الذاتية فسعوا إلي تحقيقها وراء البحار. ذلك لأن المشروع الصهيوني منذ أن كان فكرة إلي أن غدا دولة إقليمية القدرات كونية الطموحات، إنما هو نتاج عمل مبرمج وجهود مكثفة وتنسيق فيما بين القوي الاستعمارية والصهيونية.
فالقوي الاستعمارية استهدفت إقامة حاجز بشري غريب يفصل فيما بين جناحي الوطن العربي، ويكبح فعالية مصر القومية ويعطل تفاعلها التاريخي مع بلاد الشام، بهدف تعميق وتأصيل واقع التخلف والتجزئة والتبعية العربي. وذلك ما التقت علي تأييده كل القوي الاستعمارية الأوروبية، التي رأت في وحدة العرب وأخذهم بأسباب الحضارة الحديثة الخطر الأعظم علي مصالحها الكونية ورفاه شعوبها وتواصل استغلالها الوطن العربي.
وكانت نخب يهود أوروبا الغربية، التي حققت اندماجاً في مجتمعاتها في بداية عصر النهضة الأوروبي، تشعر بخطر تدفق مئات الألوف من يهود روسيا وشرق ووسط أوروبا نحو الغرب، التماساً للنجاة من الاضطهاد، وسعياً لنقلة نوعية في واقعها الاجتماعي - الاقتصادي. ولقد رأت النخب الفكرية والمالية للبرجوازية اليهودية في أوروبا في المشروع الصهيوني ملجأ لذلك الفائض من فقراء اليهود المهدد لمصالحها المتنامية، وحلاً لما كان يسمي المسألة اليهودية في القارة الأوروبية. وذلك ما نادي به كل من هرتزل وبنسكر وكثيرون غيرهما من الصهاينة المؤسسين.
ومنذ البدايات الأولي قامت فيما بين الطرفين: الاستعماري والصهيوني علاقة عضوية، تأسست علي إدراك مشترك لحاجة كل منهما للآخر، كما أعلنا عن ذلك بصراحة ووضوح.
وتتميز العلاقة العضوية فيما بين قوي الاستغلال العالمية وبين المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بأنها غير قاصرة علي قوة استعمارية معينة، وإنما هي عامة ووثيقة الصلة بمختلف القوي الاستعمارية. مما يجعلها دائمة ومتجددة وغير متأثرة بالمتغيرات علي صعيد قيادة القوي الاستعمارية. ذلك لأن القوة الصاعدة من بينها تجد في مصلحتها دعم ورعاية المشروع الصهيوني كي توظفه في خدمة مصالحها الإقليمية والكونية. الأمر الذي يوفر له الدعم والرعاية مع تواصل تواجد قوي الهيمنة والاستغلال علي الصعيد العالمي، وما ظل قادراً علي أداء دوره الوظيفي في خدمة هذه القوي.
والذي يذكر أنه منذ كان المشروع الصهيوني فكرة لقي تأييد ودعم النخب والإدارات الأمريكية. فالقنصل الأمريكي بالقدس واردور كرستوفر أقام سنة 1852 أول مستوطنة يهودية في فلسطين. وقد اعتبرها البداية الأولي لفلسطين الحديثة حيث ستقيم الأمة اليهودية وتزدهر، والرئيس ويلسون أقر صيغة وعد بلفور قبل إصداره سنة 1917، فيما أجاز الكونغرس مضمون صك الانتداب قبل أن تصدره عصبة الأمم سنة 1922.
ثم إن توافق المشروع الصهيوني مع الثقافة العامة في المجتمعات الأوروبية والأمريكية جعله يحظى بما لم يحظ بمثله أي مشروع استعماري سابق من قبول شعبي واسع، وسكوت شبه عام علي تجاوزاته للقوانين والأعراف الدولية، وعدوانه علي حقوق الإنسان، واستهانته بقرارات الشرعية الدولية. وذلك علي الرغم من أنه جاء في زمن تقدم الفكر الإنساني وتراجع الدعوات العنصرية. فالذين يؤمنون بنبوءات التوراة يرون في تحققه تعجيلاً بالعودة الثانية للسيد المسيح، ومعادو السامية يجدون فيه وسيلة خلاص بلادهم من وجود اليهود المرفوض والمكروه. والمسكونون بعداء تاريخي للعروبة والإسلام ينفثون بتأييده ودعمه عن حقد دفين يكابدونه. واليساريون وأدعياء اليسار أخذوا بتجربة الكيبوتز والموشاف وبالمقولات اليسارية للقادة الصهاينة الأوائل وعضوية حزب العمل النشطة في الاشتراكية الدولية .
ولقد شكل التزوير التاريخي واللاموضوعية، والتنكر لحقوق الإنسان، واعتماد موقفين متناقضين تجاه كل من اليهود وعرب فلسطين، ومنذ البداية، القواسم المشتركة لمواقف القوي الدولية تجاه الطرفين. فوعد بلفور، وصك الانتداب الذي تضمنه، يعترفان باليهود كشعب له صلة تاريخية بفلسطين، برغم تعدد أصول اليهود، وانتسابهم لأوطان شتي، وانعدام صلة غالبيتهم الساحقة تاريخياً بفلسطين. وعلي النقيض تماماً اعتبرا عرب فلسطين مجرد طوائف غير يهودية مقيمة في فلسطين ، ودون تحديد الوضع القانوني لهذه الإقامة، هل هي طبيعية وتاريخية أم مفروضة وطارئة؟ وفيما إذا كانت دائمة ومستمرة، أم هي آنية ومؤقتة؟ كما حصرا ما لهذه الطوائف بعدم المساس بحقوقها الدينية والمدنية. وتجاهلا تماماً حقوقها السياسية. وبذلك يكون وعد بلفور وصك الانتداب قد أهدرا الانتماء القومي للشعب العربي في فلسطين، وتجاهلا امتلاكه كل مقومات الشعب المتعارف عليها في الفكر السياسي الحديث، وأنكرا عليه حقوقه السياسية، خاصة حقه في تقرير المصير، وإقامة دولته كاملة السيادة علي ترابه الوطني.
وكان الافتقار للموضوعية في وعد بلفور، وبالتبعية صك الانتداب، مقصوداً كما أقر بذلك بلفور بعد عام ونصف العام من إصدار وعده، فهو يقول: إن نقطة الضعف في موقفنا أننا بالتأكيد رفضنا في حالة فلسطين مبدأ تقرير المصير، فلو أن السكان الحاليين استشيروا لأعطوا قطعاً قراراً ضد دخول اليهود. وكان الرئيس الأمريكي ويلسون قد أوفد سنة 1919 لجنة كنج ـ كراين لتقصي الحقائق، وبعد لقاءات متعددة في كل نواحي بلاد الشام وتلقيها آلاف العرائض، وضعت تقريراً يؤكد إجماع المواطنين العرب علي الوحدة السورية ، ورفض وعد بلفور والوطن القومي اليهودي، والإصرار علي الاستقلال، وفي حال عدم موافقة مؤتمر الصلح علي ذلك وضع البلاد تحت الانتداب الأمريكي. ولكن الرئيس والكونغرس تجاهلا التقرير، وأبقي طي الكتمان لثلاث سنوات، وتشير بعض المصادر إلي أن لجنة المخابرات في الجيش الأمريكي رفعت حينها تقريراً للإدارة يفيد بأن المصلحة الأمريكية تقضي بفصل فلسطين عن محيطها العربي، ووضعها تحت الانتداب البريطاني، ودعم مشروع الوطن القومي اليهودي، والاعتراف بالدولة اليهودية فور موافقة عصبة الأمم علي إقامتها.
والصراع الذي يفجره الاستعمار الاستيطاني لم يُحلَّ يوماً بتسوية استناداً لتنازلات متبادلة، وإنما كان دائماً معركة صفرية يحسمها أحد الطرفين لصالحه. ولم يكن تفوق المستعمرين بالإمكانيات المادية والقدرات البشرية هو العامل الحاسم، وإنما هي استجابة أصحاب الأرض للتحدي وكفاءتهم في إدارة الصراع مع الغزاة. فحيث كان مستواهم الحضاري متدنياً، وقدرتهم علي التكيف مع المستجدات محدودة، نجح الغزاة في إبادة غالبيتهم.
ويذهب أكثر من مفكر عربي إلي أن الافتقار للاستراتيجية الشاملة والدائمة لإدارة الصراع مع التحالف الاستعماري ـ الصهيوني في مقدمة عوامل العجز العربي عن توظيف القدرات والإمكانيات المتاحة في تقديم الاستجابة الفاعلة، وتدني مستوي كفاءة الأداء القيادي، مما تسبب في توالي مسلسل الخيبات العربية، خاصة الفلسطينية منها، برغم عظم التضحيات الشعبية، وحين يتواصل الافتقار للاستراتيجية طوال قرن استقطب الصراع خلاله أجيالاً من مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري والاجتماعي العربي، ففي ذلك مؤشر علي افتقار المجتمع العربي، قومياً وقطرياً، للكتلة الاجتماعية ذات المصلحة في الوحدة والتحرر والتقدم والقادرة علي الفعل. فضلاً عن دلالة ذلك علي تخلف الوعي والمعرفة وسعة وعمق المداخلات الخارجية في أدق الشؤون العربية. الأمر الذي انعكس في أن تكون القوي الأشد تأثيراً في صناعة القرارات علي مختلف الصعد إنما هي غير المتناقضة مصالحها تناقضاً عدائياً مع التحالف المضاد بحيث دأبت علي نشدان الحل في لندن أولاً ثم في واشنطن فيما بعد. متعللة في الحالين بأن اللوبي الصهيوني هو المتحكم الأول في صناعة قرارات الدولة الأعظم في زمانها، في تجاهل تام للعلاقة العضوية فيما بين الاستعمار والصهيونية وكون مشروع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين ليس إلا أداة الاستعمار في سعيه لاستلاب الإرادة العربية.
العبراني الجديد
د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 18/9/2004
من الجوانب التي تستحق النظر في الظاهرة الصهيونية أن الجيب الاستيطاني الصهيوني يعيش في حالة حرب مستمرة منذ عام 1948، وهو تاريخ إعلان قيام الدولة الصهيونية، بل ومنذ عام 1882، وهو تاريخ وصول أول مجموعة من المستوطنين الاستعماريين الصهاينة إلى أرض فلسطين. ولا غرابة في ذلك، فمن الخصائص الأساسية لهذا الجيب أنه جيب وظيفي قتالي، زرعه الاستعمار الغربي في قلب العالم العربي ليقوم بالقتال دفاعاً عن المصالح الاستراتيجية الغربية وعن وجوده، وفي نظير ذلك يتولى الغرب دعمه سياسياً واقتصادياً وعسكرياً فيضمن استمراره وبقاءه. ونظراً لهذه الوظيفة القتالية، تكتسب المادة البشرية القتالية، التي يشكل الشباب عمودها الفقري، أهمية قصوى، ويصبح من الضروري لفهم مستقبل الصراع العربي الصهيوني التعرف على وضع الشباب الإسرائيلي وموقفه من الصهيونية ومن تلك الحروب المستمرة.
فقد جاء المستوطنون الصهاينة من أوروبا محملين بأفكارهم العنصرية الاستبعادية وأسلحتهم الغربية الحديثة، واستخدموا أقصى أشكال العنف للاستيلاء على الأرض الفلسطينية، واستقروا عليها وكونوا عائلات وأنجبوا أطفالاً، شأنهم في ذلك شأن أي استعمار استيطاني إحلالي. وكان يُطلق على أبنائهم اسم "الصابرا"، وهي كلمة مشتقة من الكلمة العربية "الصبَّار" أو "التين الشوكي". وقد تردد هذا المصطلح في أعقاب الحرب العالمية الأولى مباشرةً، حيث أُطلق على التلاميذ اليهود من مواليد فلسطين، والذين كانوا يحسون بالنقص حيال أقرانهم الأوروبيين الأكثر تفوقاً في الدراسة، مما كان يحدو بهم إلى تعويض هذا الشعور بتحدي هؤلاء الأوروبيين بنوع من النشاط الخشن يرد لهم اعتبارهم. إلا أن هذا المصطلح أخذ في الاختفاء تدريجياً بسبب التنوع العرقي في الجيب الصهيوني، إذ كان يشير في بادئ الأمر إلى أبناء المستوطنين الصهاينة الغربيين (الأشكناز)، ثم حاول علم الاجتماع الإسرائيلي توسيع نطاقه ليشمل أيضاً أبناء المستوطنين من اليهود الشرقيين (السفارد)، ولكن هذه المحاولة لم يُقدر لها النجاح، وخاصةً بعد وصول أفواج من يهود الفلاشاه والهند ودول الاتحاد السوفيتي السابق، مثل روسيا وأوكرانيا وجورجيا والجمهوريات الإسلامية. ولهذا، يجدر التخلي عن هذا المصطلح واستخدام مصطلحات أخرى بدلاً منه، مثل "الأجيال الجديدة" أو "الشباب الإسرائيلي".
ولفهم عقلية هذه الأجيال الجديدة، ينبغي الإشارة إلى أن الصهيونية تنطلق من نقد عميق لما يُسمى "يهود المنفى"، أي يهود العالم باستثناء فلسطين، إذ يتهمهم الصهاينة بأنهم شخصيات طفيلية، شاذة ومريضة وضعيفة وغير قادرة على الدفاع عن نفسها، ولابد أن تلجأ لغير اليهود (الأغيار) ليكفلوا لها الأمن والبقاء. وقد طرح الصهاينة رؤيتهم للمجتمع اليهودي المثالي (أي المجتمع الصهيوني) بوصفه جزءاً من مشروع حضاري متكامل يهدف إلى تحويل "يهود المنفى" إلى شخصيات سوية منتجة وقوية وقادرة على حماية نفسها. وتستخدم الأدبيات الصهيونية تعبير "العبراني الجديد" للإشارة إلى هذا اليهودي الجديد، الذي يُراد له أن يكون النقيض الكامل لشخصية اليهودي النمطية، وهو ما عبَّرت عنه إحدى القصائد بدعوة المستوطنين الصهاينة لأن يكونوا "أول العبرانيين وآخر اليهود". كما عبَّر الشاعر تسفي جرينبرج عن معنى مماثل عندما كتب في إحدى قصائده:
الأمهات اليهود أحضرن أطفالهن (من المنفى الموبوء) إلى الشمس (في فلسطين)
ليحترق الدم الذي يجري في عروقهم، ويزداد حمرةً
بعد أن بهت في الجيتو وعالم الأغيار.
وقد أشار آرثر كوستلر إلى هذا النموذج الجديد باعتباره "طرزاناً يهودياً"، أي إنساناً طبيعياً مجرداً من القيم والتاريخ، يعيش بقيم الغابة الداروينية، ولا يحتفظ من اليهودية سوى بالاسم. كما يُوصف هذا النموذج أحياناً بأنه "سوبرمان يهودي" قياساً على بطل نيتشه الأرقى الذي يمجده الفكر النازي والصهيوني، وهو بطل خارق يجسد مجموعة من القيم التي تعلي من شأن الفعل في مقابل الفكر، ومن القوة الذاتية في مقابل الاعتماد على الأغيار.
وقد حوَّلت الصهيونية العهد القديم إلى مأثور شعبي لهذه الشخصية الجديدة، وهو كتاب تفيض صفحاته بوصف لحروب كثيرة خاضتها جماعات العبرانيين ضد الكنعانيين وغيرهم من الأقوام السامية، حيث طردوا بعضها وأبادوا البعض الآخر. وانطلاقاً من تصورهم لهذه الشخصية الجديدة، أعاد الصهاينة كتابة ما يسمونه "التاريخ اليهودي"، فأكدوا أن العبرانيين كانوا جماعة محاربة من الرعاة الغزاة الذين أبقوا رايات اليهود مرفوعة، كما بينوا أن ثمة تياراً عسكرياً قوياً في التراث اليهودي، مسلطين الضوء على أحداث بعينها مثل غزو العبرانيين أرض كنعان، وعلى أبطال عسكريين مثل يوشع بن نون وداود التوراتي، فضلاً عن إبراز ما جاء في التراث الحاخامي من أن "السيف والقوس هما زينة الإنسان". وفي هذا السياق، كان جابوتنسكي، الأب الروحي لبيجن وشارون، يوصي الشباب اليهودي "بالاحتفاظ بالسيف، فهو ملك لأجدادنا العبرانيين الأوائل... لأن التوراة والسيف أُنزلا علينا من السماء". كما كان ينادي بتفضيل السيف، وهو رمز الاستيطان الصهيوني، على الكتاب، وهو رمز يهود المنفى، حتى يظهر ذلك اليهودي الجديد المتحرر من أغلال الدين والقيم.
وفي إطار هذه الرؤية الصهيونية، لا يُعد العنف مجرد أداة لتحقيق بعض الأهداف، بل الأداة التي يتوسل بها الصهاينة لإعادة صياغة الشخصية اليهودية، فمن خلال العنف يحرر "العبراني الجديد" نفسه من الطفيلية والهامشية والعجز. ويتضح تمجيد العنف على هذا النحو بصورة جلية في كتاب الثورة الذي ألفه مناحم بيجن، وصاغ فيه رؤيته في عبارته الشهيرة "أنا أحارب، إذن أنا موجود"، والتي تعارض عبارة ديكارت المأثورة "أنا أفكر، إذن أنا موجود"، وتؤكد على أن الوجود اليهودي الجديد لا يرتبط بالعقل الإنساني وإنما بالفعل العسكري. وفي نفس الكتاب، يعرض بيجن تصوره لمستقبل "الشخصية اليهودية" قائلاً: "من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال لم يعرفه العالم مطلقاً طوال السنوات الماضية، وهو اليهودي المحارب".
وقد نجحت الصهيونية، مثلها مثل كل التجارب الاستيطانية الإحلالية، في تدريب جيل من المستوطنين القادرين على القتال دفاعاً عن المشروع الاستيطاني، أي الاستيلاء على الأرض وطرد أصحابها والاستقرار فيها ونهب ثرواتها. ولتحقيق هذا الهدف، كان من الضروري ترسيخ الاتجاه الجماعي بين المستوطنين، وخاصة في المزارع الجماعية (الكيبوتز) التي كانت تتسم بروح جماعية عسكرية مغايرة للروح الفردية السائدة بين "يهود المنفى"، بل ووصلت هيمنة الروح الجماعية إلى مستوى متطرف، وهو ما تعكسه إحدى القصائد الإسرائيلية بقولها إن "أبناء الأجيال الجديدة يحلمون دائماً بضمير الجمع"، كما تعكسه النكتة الشهيرة من أن أحد أعضاء الكيبوتز وجد نفسه وحيداً بعدما تركه أصدقاؤه، فحاول الانتحار، ولكنه أخفق لأنه كان بمفرده!!.
والله أعلم.
العداء للسامية غير العداء لليهودية غير العداء لإسرائيل
إدغار موران
صحيفة النهار اللبنانية 9/8/2004
ثمة كلمات يجب إعادة النظر فيها، والعداء للسامية واحدة منها. في الواقع، حلت هذه الكلمة مكان العداء لليهودية لدى المسيحيين الذين كانوا ينظرون إلى اليهود على أنهم معتنقو ديانة مذنبة بإدانة يسوع، أي بقتل إله، مع أن استعمال هذا التعبير عبثي في حالة هذا الإله القائم من الأموات.
نشأ العداء للسامية من العنصرية، ويعتبر أن اليهود ينتمون إلى عرق أدنى أو منحرف هو العرق السامي. منذ اللحظة التي تطوّر فيها العداء لليهودية في العالم العربي، الذي هو نفسه سامي، أصبح التعبير غير منطقي ويجب العودة إلى فكرة العداء لليهودية بدون الإشارة إلى "قتل الإله" من الآن فصاعداً.
يجب التمييز بين بعض الكلمات، مثل العداء للسامية والعداء لإسرائيل، بدون أن يمنع هذا من حصول تداخلات في المعنى بين الكلمة والأخرى. في الواقع، لا يرفض العداء للسامية استقرار اليهود في فلسطين وحسب، بل أيضاً وفي شكل خاص وجود "إسرائيل" كدولة. ولا يقرّ بأن الصهيونية تعبّر في عصر القوميات، عن طموح العديد من اليهود الذين رفضتهم الدول الأخرى، في إقامة دولتهم الخاصة.
"إسرائيل" هي تجسيد للحركة الصهيونية على المستوى الوطني. يرتدي العداء لإسرائيل شكلين: الأول يرفض إقامة دولة "إسرائيل" على أراضٍ عربية، ويتداخل مع العداء للسامية، لكنه يقرّ ضمناً بوجود الدولة الإسرائيلية. اما الثاني فهو جزء من انتقادات سياسية تكتسب أكثر فأكثر طابعاً عالمياً، وتندّد بسلوك السلطة الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين وتعاملها مع قرارات الأمم المتحدة التي تطالب بعودة "إسرائيل" إلى حدود عام 1967.
بما أن "إسرائيل" دولة يهودية، وبما أن عدداً كبيراً من يهود الشتات الذين يشعرون بالتضامن مع "إسرائيل"، يبرّرون أعمالها وسياستها، تحوّل العداء لإسرائيل إلى عداء لليهودية(...).
هل هناك عداء فرنسي لليهودية موروث عن عداء المسيحيين القديم لليهودية وعداء الأوروبيين القديم للسامية، أو مكمّل لهما أو مؤمّن لاستمراريتهما؟ إنها النظرية الرسمية الإسرائيلية التي تردّدها المؤسسات المعروفة بالمجتمعية وبعض المفكّرين اليهود.
لكن تجدر الإشارة إلى أنه بعد تعاون الفرنسيين المعادي للسامية مع المحتل هتلر، ثم اكتشاف أهوال المجزرة النازية، فقدَ العداء للسامية القومي العنصري حظوته لدى الناس فتلاشى، وفي موازاة ذلك، وعلى إثر تطوّر الكنيسة الكاثوليكية، اضمحل العداء لليهودية لدى المسيحيين الذين كانوا يعتبرون اليهود قتلة الإله، ولاحقاً تم التخلي عن هذه التهمة الغريبة(...).
لكن الانتقادات الموجهة للقمع الإسرائيلي، لا بل العداء لإسرائيل، ليست ناجــمة عن العداء القديم لليهودية. يمكن القول حتــى إن فرنسا عرفت منذ إنشاء "إسرائيل" الذي ترافق مع تهديدات مميتة، سلوكاً مؤيداً لها في شكل عام(...).
لكن نظرة التعاطف مع "إسرائيل" بدأت بالتبدّل تدريجاً اعتباراً من 1967، تاريخ احتلال الضفة الغربية وغزة، ثم مع المقاومة الفلسطينية، ولاحقاً الانتفاضة الأولى، حيث عمل جيش قوي على قمع ثورة حجارة، وبعد ذلك، الانتفاضة الثانية التي قُمعت بالعنف والممارسات التعسفية. وتعزّزت النظرة إلى "إسرائيل" كدولة غازية وظالمة. وتحوّلت العبارة الديغولية التي وُصفت بالمعادية للسامية: "شعب مهيمن وواثق من نفسه"، أمراً بديهياً (...).
في المقابل، يعزّز القمع الإسرائيلي وإنكار حقوق الفلسطينيين التحوّل من العداء لإسرائيل إلى العداء لليهودية في العالم الإسلامي. كلما ربط يهود الشتات أنفسهم ب"إسرائيل"، رُبطت "إسرائيل" أكثر فأكثر باليهود، وتحوّل العداء لإسرائيل أكثر فأكثر إلى عداء لليهودية. يكرّر هذا العداء الإسلامي الجديد لليهودية الحجج الأوروبية المعادية لليهود (مؤامرة يهودية للهيمنة على العالم، عرق مشين) التي تجرّم اليهود ككل(...).
في الواقع، ليس هناك صحوة زائفة للعداء الأوروبي للسامية، بل تطوّر عداء عربي لليهودية. أو بالأحرى بدلاً من الإقرار بالسبب الكامن وراء هذا العداء العربي لليهودية الذي هو في صلب مأساة الشرق الأوسط، تفضّل السلطات الإسرائيلية والمؤسسات المجتمعية وبعض المفكرين اليهود أن يروا فيه إثباتاً على استمرار، أو عودة عداء أوروبي متجذّر للسامية.
من هذا المنطلق، يبدو كل انتقاد لإسرائيل عداء للسامية. ونتيجة لذلك، يشعر يهود كثر أنهم مضطهدون في هذا الانتقال ومن خلاله. يُهانون في صورتهم عن أنفسهم، وفي صورة "إسرائيل" التي أدمجوها في هويتهم. ربطوا أنفسهم بصورة المضطهدين، وتحولت المحرقة إلى العبارة التي تحدّد إلى الأبد وضعهم كضحايا وكأشخاص لطفاء، ومن خلال وعيهم التاريخي لوضعهم كمضطهدين، يدحضون بسخط الصورة القمعية التي تبثّها وسائل الإعلام عن الجيش الإسرائيلي. وسرعان ما تُستبدل هذه الصورة في أذهانهم بصورة الضحايا في صفوف انتحاريي "حماس"، الذين يربطونهم بالفلسطينيين ككل. ربطوا أنفسهم بصورة مثالية عن "إسرائيل"، التي هي بلا شك الديموقراطية الوحيدة في محيط من الأنظمة الديكتاتورية، لكنها ديموقراطية محدودة، وعلى غرار ديموقراطيات أخرى، يمكن أن تعتمد سياسة استعمارية مقيتة (...).
من يتضامنون مع "إسرائيل" بدون شروط يشعرون في أعماقم أنهم مضطهدون من خلال تشويه صورة "إسرائيل" المثالية. ويمنعهم هذا الشعور بالاضطهاد من إدراك الطابع الاضطهادي للسياسة الإسرائيلية.
إنها لجدلية جهنمية. يعزّز العداء لإسرائيل التضامن بين يهود الشتات و"إسرائيل". تريد "إسرائيل" أن تظهر ليهود الشتات أن العداء الأوروبي القديم لليهودية تأجج من جديد، وأن الوطن الوحيد لليهود هو "إسرائيل"، ومن هنا حاجتها إلى تغذية مخاوف اليهود وزيادة تعلّقهم ب"إسرائيل".
وهكذا، تغذّي المؤسسات التابعة ليهود الشتات الوهم بأن العداء الأوروبي للسامية تفشّى من جديد، في حين يتعلّق الأمر بكلمات أو تصرفات أو هجمات صادرة عن شبان إسلاميين من أصل مهاجر. لكن بما أن هذا المنطق يعتبر أن كل انتقاد لإسرائيل معادٍ للسامية، يبدو لمبرّري "إسرائيل" أن انتقادها، الذي يتجلّى بطريقة معتدلة جداً في كل قطاعات الرأي، هو امتداد للعداء للسامية. وأكرّر أن هذا كله يهدف إلى حجب القمع الإسرائيلي، وزيادة تعلّق اليهود ب"إسرائيل"، وتأمين التبرير المطلق للدولة الإسرائيلية. وفي هذه الحالات، تكون الغاية الوحيدة من إطلاق تهمة العداء للسامية حماية الجيش الإسرائيلي و"إسرائيل" من الانتقادات.
وفي حين كان المفكّرون من أصل يهودي، الذين يعيشون في دول مضيافة، يتأثرون بشمولية إنسانية تتناقض مع الذاتيات القومية وامتداداتها العرقية، حصل تغيير كبير منذ السبعينات. ثم أدى تفكّك التيارات الشمولية المجردة (الستالينة، التروتسكية، الماوية) إلى تجدّد البحث عن الهوية الأصلية لدى مجموعة من المفكرين اليهود الذين كانوا في السابق ستالينيين أو تروتسكيين أو ماويين. وتحوّل الكثيرون منهم، وغالبيتهم من المفكرين، الذين وجدوا في الاتحاد السوفياتي والصين تجسيداً لقضية البشرية التي ربطوا أنفسهم بها، تحولوا اذاً بعد أن خابت آمالهم، إلى التطرف الإسرائيلي.
وتحول المفكّرون الذين خذلتهم الماركسية إلى التوراة. ولجأت مجموعة من المفكرين اليهود إلى الكتاب المقدس معتبرين أنه مصدر كل الفضائل والحضارات. وعبر الانتقال من الشمولية المجردة إلى الذاتية اليهودية التي هي ملموسة في الظاهر لكنها مجردة على طريقتها (لأن الوسطية اليهودية تتجرد من البشرية ككل)، تحولوا إلى مدافعين عن "إسرائيل" واليهودية ومجسدين لهما، وباتوا يلجأون إلى الجدلية والحجج لإدانة كل سلوك يصب في مصلحة الفلسطينيين معتبرين أنه منحرف أيديولوجياً ومعادٍ للسامية. وهكذا لا يفهم متشرّبو الفكر الوسطي اليهودي في الوقت الحالي التعاطف الطبيعي جداً مع معاناة الفلسطينيين. لا يرون في الإمر ردّ فعل إنسانياً بديهياً بل عداء لا إنسانياً للسامية.
جدلية الكراهيتين، أو جدلية الاحتقارين، احتقار الإسرائيلي الذي يهيمن على العربي المستعمر، لكن أيضا الاحتقار الجديد المعادي لليهود والذي تغذّيه كل مكونات العداء الأوروبي التقليدي للسامية، هذه الجدلية المزدوجة تعزز الكراهيتين والاحتقارين وتؤججهما وتنشرهما.
الحالة الفرنسية مثيرة للاهتمام، فرغم حرب الجزائر ومضاعفاتها، ورغم حرب العراق، والنزاع الإسرائيلي - الفلسطيني لطالما تعايش اليهود والمسلمون بسلام في فرنسا. كان الشبان من أصل مغربي يكنّون حقداً مكبوتاً لليهود الذين يربطون أنفسهم ب"إسرائيل". ومن جهتها، كانت المؤسسات اليهودية المعروفة بالمجتمعية تحافظ على الاستثناء اليهودي في صلب الأمة الفرنسية والتضامن غير المشروط مع "إسرائيل"، وأدى تفاقم دورة القمع والاغتيالات، إلى تعديات جسدية، وحوّل العداء الذهني لليهودية إلى أشرس أنواع الكراهية، من خلال انتهاك حرمة المعابد اليهودية والمقابر. لكن هذا يخدم استراتيجياً الليكود التي تحاول أن تثبت أن اليهود غرباء في فرنسا وأن العداء للسامية يتفشى من جديد، وتسعى تالياً إلى تحريض اليهود على القدوم إلى "إسرائيل".
ومع تفاقم الأوضاع في "إسرائيل" وفلسطين من شأن التسميم المزدوج أي العداء لليهودية والوسطية اليهودية، أن ينتشر في كل مكان يتعايش فيه يهود ومسلمون.
من الواضح أن الفلسطينيين هم من يُذلون ويهانون في الوقت الراهن، ولن ينجح أي سبب أيديولوجي في جعلنا نتوقف عن التعاطف معهم، ولا شك في أن "أسرائيل" هي من تذل وتهين. لكن الإرهاب المعادي للإسرائيليين والذي أصبح معادياً لليهود، يلحق الإهانة القصوى بالهوية اليهودية، فقتل اليهود رجالاً ونساء وأطفالاً وتحويل كل يهودي إلى طريدة يجب صيدها، وإلى جرذ يجب قتله، عار وجرح وإهانة للبشرية اليهودية جمعاء. فالاعتداء على المعابد اليهودية وانتهاك حرمات المقابر تدنيس للمقدسات، والصاق لصفة النجاسة باليهود. لا شك في أن الناس في فلسطين والعالم الإسلامي يكنّون كرها شديداً لليهود. لكن إن كان هذا الكره يبغي موت كل اليهود، فهو إهانة كبيرة، يخبّئ العداء المتفشي لليهودية مأساة يهودية جديدة. ولهذا وبطريقة جهنمية أيضاً، من يُذلّون ويهينون، يهانون في الوقت عينه ويصبحون هم أنفسهم مذلولين. لقد طغت الكراهية والانتقام على الشفقة والرحمة. وأفضل تعليق في هذا الوضع المروع هو ما قاله العجوز اركيل في مسرحية "بياس وميليزاند" لماترلينك: "لو كنت الله، لأشفقت على قلب البشر".
هل من مخرج؟
المخرج الفعلي هو في تغيير هذه النزعة، أي الحدّ من العداء لليهودية من خلال حل عادل للمسألة الفلسطينية وسياسة غربية منصفة تجاه العالم العربي الإسلامي. يقتضي هذا تدخلاً على الصعيد الدولي يشمل بالتأكيد قوة توسط بين الطرفين، ويكون الحل الحقيقي الوحيد. لكن هذا الحل الحقيقي، وتالياً الواقعي، هو الآن غير واقعي على الاطلاق. مزيد من المآسي والكوارث في انتظارنا إذا لم ننجح في جعل الواقعية جزءاً من الحقيقة.
عن "الموند"
ترجمة ن. ن - عالم اجتماع فرنسي
المناهل الجديدة للعنف الصهيوني
بقلم: د. محمد السيد سعيد
ما يجري على ساحة الحركة الصهيونية العالمية وداخل "إسرائيل" جدير بأن يثير الاستغراب لكل من بقي لديه ضمير. ففي الأمر غرابة حقيقية. فقد وصل تطرف وعنف الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة بالذات إلى قمم جديدة. فهي تدفع الولايات المتحدة بمؤسساتها المختلفة إلى مواقف متطرفة لا تمر بالسهولة نفسها داخل "إسرائيل" عبر سلسلة من التحركات الوقحة التي تضع الدولة المهيمنة على النظام الدولي في صدام مباشر مع القانون الدولي ومع أبسط المبادئ العقلية والإنسانية. وهي بذلك ترعى بذور الكراهية بين الولايات المتحدة وشعوب العالم. ومن المحتم أن تترجم هذه الكراهية إلى مزيد من العنف المتبادل. فكأن الحركة الصهيونية تحارب العالم بأيد أمريكية حتى لو أدى ذلك إلى خسارة الولايات المتحدة لاحترام العالم، بل ولمكانتها المهيمنة.
وقد انتهى للتو مؤتمر الحزب الديمقراطي الذي تبنى نفس وعد بوش حول إنكار حق العودة وضم أجزاء من الأرض المحتلة إلى "إسرائيل". وكان المرشح الديمقراطي كيري قد أيد وعد بوش لشارون وزايد عليه رغم أن الأخير لم يقدم شيئاً مما وعد به الرئيس الأمريكي فيما يتعلق بخطة الطريق والانسحاب من غزة.
وعلى نفس القدر من الأهمية تدفع الحركة الصهيونية الكونجرس الأمريكي للصدام مع محكمة العدل الدولية ومع الجمعية العامة للأمم المتحدة التي طلبت الرأي الاستشاري للمحكمة فيما يتعلق بالجدار، ووافقت على حكم المحكمة وطالبت بالاجماع تقريباً تنفيذه. ويبدو الكونجرس طيعاً بصورة مطلقة بيد الحركة الصهيونية الأمريكية والعالمية. وقد يقوم الكونجرس بالانتحار القانوني والأخلاقي الدولي إذا ما أصدر قراراً بادانة حكم المحكمة وقرار الجمعية العامة.
أما داخل "إسرائيل" فالموقف لايقل غرابة. فالمستوطنون في غزة قرروا القيام بالاحتجاج على خطة الانسحاب من جزء من القطاع وفقاً لما جاء بالحل الوسط بين شارون ونيتانياهو علماً بأن القطاع كله لا يزيد على 1% من أرض فلسطين تحت الانتداب وهو يوطن نسبة كبيرة من لاجئي 1948. ويشمل هذا الاحتجاج تنظيم سلسلة بشرية من غزة حتى القدس وجمع مليون توقيع لرفض هذه الخطة. وليس بوسعنا في هذا الحيز استعراض مختلف صور جنون التطرف الذي يجتاح السياسة الإسرائيلية. يكفي أن أحد أبرز ممثلي ما كان يعرف باتجاه مابعد الصهيونية المؤرخ (بيني موريس) الذي اكتشف أن المذابح التي ارتكبتها القوات الإسرائيلية لاجبار الشعب الفلسطيني على الفرار بحياته خارج فلسطين أعوام 1947 و1948 كانت مدبرة ومرسومة بأوامر عليا قد تراجع عن موقفه المؤيد للتسويات السياسية. وأكد أن هذه المذابح كانت ولاتزال ضرورية من أجل فرض وجود "إسرائيل" على المحيط العربي المعادي وأن السلام غير ممكن في هذه المرحلة وأنه بعد الانتفاضة صار مشروعاً مؤجلاً!
وكانت الانتخابات الإسرائيلية بداية عام 2001 قد أنتجت أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً. ومن المتوقع أن تكون الحكومة المقبلة أكثر تطرفاً فيما لو عقدت الانتخابات في الوقت الراهن.
من أين جاءت الحركة الصهيونية بكل هذا العنفوان وما هو السبيل لمواجهة هذا الميل الطاغي للعنف والتطرف السائد الآن في أوساطها؟
بالنسبة للكثيرين لايبدو هذا السؤال بذي بال. فالصهيونية كانت دائماً أيديولوجيا لا إنسانية وعنصرية وعنفوية على الأقل في مواجهة الشعب الفلسطيني لأن هذا الشعب المناضل هو النفي المباشر لأساطيرها وأكاذيبها. كما أن العنف الإسرائيلي لم يتوقف أبداً لأن العنف الرمزي هو شكل الوجود ومحتوى العلاقة بين الأنا الصهيونية والعالم. وهذا العنف الرمزي يتحول بالنسبة للعالم إلى انتهازية محضة ويتمحور بالنسبة للفلسطيني في إطلاق النار بدون تردد.
إننا نفترض أن هذا العنف المتواصل جدير بالاستغراب لأسباب متعددة. فأولاً لاتوجد ظاهرة بشرية إلا وتبدأ في فقدان قوة الدفع الأولى التي دفعت بها إلى الوجود بعد فترة من الوقت خاصة أن هذه الدفعة لم تأت من جانب العرب وإنما من الجرائم النازية. بل ولا توجد ظاهرة تطرف إلا وتبدأ بعد فترة من الوقت في مراجعة العنف الكامن فيها. وتنته تلك المراجعة إلى بزوغ تيار للمصالحة مع العالم والآخر، خاصة إذا كان أساسها العقدي حافلاً بالثقوب مثلما عليه الحال مع الأيديولوجيا الصهيونية. فهي أيديولوجيا علمانية تستند إلى مرويات دينية لا تتمتع بمصداقية تاريخية. وهي أيديولوجيا تنكر ما لا يمكن انكاره وهو الشعب الفلسطيني وحقوقه السياسية، ولذلك كان من المحتم أن تستخدم العنف لافنائه معنوياً وتدميره اجتماعياً، ولذلك لم يكن من الممكن أن يعيش طويلاً تيار الصهيونية الإنسانية لأنهما نقيضان. وهي أيديولوجيا تقيم معارضة مطلقة بين الأنا اليهودية والآخر غير اليهودي. وبايجاز فهي أيديولوجيا لا عقلانية واقطاعية عسكرية تعيش العصر الحديث ولا تأخذ منه إلا بقشوره أو منتوجاته الخارجية وادعاءات العظمة اللا إنسانية التي تموج فيه.
وكان من المتوقع أن ينتعش مشروع انتاج أساس عقيدي جديد هو ما سمي بما بعد الصهيونية. بل وبدا بالفعل أن هذا المشروع يشق طريقة للتبلور بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 وبروز أفكار مثل الحل الوسط التاريخي للصراع بين العرب والإسرائيليين. بل وبدا أيضاً أن غالبيه من الشعب الإسرائيلي راغبة بالفعل في منح ثقتها للقوى التي تهندس هذا الحل سياسياً لتقود "إسرائيل" خارج مدار العنف المطلق.
ولاشك أن عقد التسعينيات الذي شهد حركة قوية من داخل "إسرائيل" والنظام العالمي للالتقاء مع مبادرات السلام العربية مثل بالنسبة لإسرائيل الحلم الإسرائيلي من حيث مستويات النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي وبروز موجة اعتدال نسبية وبداية مصالحة مع الآخر على المستوى العالمي والعربي حيث جال الإسرائيليون العالم بحرية لم يتمتعوا بها أبداً من قبل. وبدا أن الحياة الطبيعية خارج الحصن صارت ممكنة وقريبة أو أنها تمارس فعلاً.
وقد انتهى هذا الحلم إلى حد بعيد. فعاد الاقتصاد إلى الانكماش واشتبكت "إسرائيل" في أطول موجة عنف وجودي مع الشعب الفلسطيني وخلعت تماماً قناع الحياء والحداثة وأقدمت على قدر من جرائم الحرب المريعة التي تشين أي كيان متحضر. وعلى نفس القدر من الأهمية تعاظمت موجات العنف والكراهية والتطرف إلى حد أن صار شارون نفسه يبدو معتدلاً ودبلوماسياً هاديء الطباع!
الصهيونية و"معجم" الإرهاب الجديد
علي الخليلي
صحيفة الخليج الإماراتية 7/7/2004
أي نقدٍ لسياسة "إسرائيل" في هذه المرحلة التي تتصاعد فيها جرائمها الاحتلالية الاستيطانية الواضحة ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه ووجوده على أرض وطنه الممزق والمحطم، يتحول على الفور، إلى "معاداة للسامية" في الخطاب السياسي الإعلامي-الثقافي الإسرائيلي، وفي الخطاب الأمريكي المتوافق معه إلى درجة التماهي. والناقد، مهما كانت جنسيته أو هويته أو انتماؤه، يصبح في هذا "التحول" أو "التحويل" المنهجي الإسرائيلي- الأمريكي، "لاسامياً" مُطارداً في كل مكان، من قِبَل ذلك الخطاب، ومُحاصراً به، ومُغرقاً الى حد الاختناق في تهمة "اللاسامية" الخطيرة.
يحاول هذا الخطاب الإسرائيلي- الأمريكي في هذا الشأن، أن يُخرس كل الأصوات التي تنقد سياسة "إسرائيل"، إخراساً إرهابياً حاسماً، يؤدي إلى قتل هذه الأصوات وتشويهها ونزع مصداقيتها، وإلى ردع الأصوات الأخرى التي يمكن لها أن تقترب -مجرد اقتراب- من حافة هذا النقد المنبوذ والمُطارد. وطالما أن السياسة الأمريكية الحالية في حربها الكونية المعلنة والجارية فعلياً، على مسمّى "الإرهاب" وفق تفسيرها الإمبراطوري الاستعماري الحديث لهذا المسمى على امتداد العالم، قد ازدادت تداخلاً وتشابكاً (تماهياً) مع سياسة "إسرائيل"، وبخاصة في الشرق الأوسط (الذي أصبح بالنسبة لهذا الخطاب ذاته، شرقاً أوسطياً كبيراً يضم إلى جانب الدول العربية، أفغانستان وإيران)، فإن الإخراس بتهمة "اللاسامية" يمتد أيضاً إلى الأصوات التي تنقد السياسة الأمريكية في مجالاتها (جرائمها) الشرق أوسطية.
ومع أنه من المعروف تاريخياً وجغرافياً أن "اللاسامية" Anti-samitism مصطلح أوروبي بحت، نشأ وانتشر في مختلف أنحاء أوروبا، ودخل كل اللغات الأوروبية، لأسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية تتعلق بالواقع الأوروبي نفسه، على أساس ديني يعني معاداة اليهود (الدين اليهودي اليهودية) في الوسط الأوروبي، منذ أن استخدمه لأول مرة، الصحافي الألماني وفيلهم مار، عام 1873، في كتابه "انتصار اليهودية على الجرمانية"، إلا أن الفكر الصهيوني سعى إلى تجريد هذا المصطلح من معانيه التاريخية والجغرافية، كي يصل منذ فترة مبكرة، إلى فرض معادلة توازي بين اللاسامية ومناهضة الصهيونية.
في البدايات، لم يستطع الفكر الصهيوني الذي نشأت على أساسه "إسرائيل"، أن يفرض هذه المعادلة التعسفية على رؤية أو منهج أي إطار حكومي أو مدني خارج "إسرائيل". وقد وجدنا الأمم المتحدة في خريف العام 1975، تتخذ قراراً مهماً في مواجهة المسعى الصهيوني، تعتبر فيه الصهيونية حركة عنصرية. تماماً كما أن اللاسامية دعوة عنصرية. أي أن الصهيونية ذاتها، وليست مناهضة الصهيونية، هي التي توازي اللاسامية.
لقد قَلَب قرار الأمم المتحدة معادلة الصهاينة رأساً على عقب، وأسهم في الكشف عن حقيقة الصهيونية باعتبارها دعوة وحركة عنصرية دينية استيطانية احتلالية إحلالية (احتلال فلسطيني وطرد وتهجير أو إبادة شعبها العربي الفلسطيني، وإحلال اليهود مكانه فيها)، بوساطة الغزو والعنف كحلّ للمسألة اليهودية.
بعد عشر سنوات، استطاعت "إسرائيل" (أو استطاعت الولايات المتحدة على الأصح)، أن تُجبر هيئة الأمم المتحدة ذاتها، على إلغاء قرارها هذا، بإصدارها لقرار جديد يعتبر الصهيونية حركة قومية، تحرّر وطني.. الخ. كانت الصهيونية في القرار "الأممي" الجديد، تبصق عملياً في وجه أعلى هيئة شرعية في العالم. ففي الوقت الذي ترفض فيه "إسرائيل" ذات الأيديولوجية الصهيونية المتجذرة، كل قرارات هذه الهيئة المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وتسخر من الشرعية الدولية، وترى في هذه الشرعية، مجرد “خرقة بالية وملوثة” حسب تعبير أحد مفكريها الصهيونيين، يصدر القرار الجديد الذي يحق لنا أن نسميه بقرار الرضوخ للهيمنة الأمريكية وربيبتها "إسرائيل"، قرار "الردة" أو الارتداد المُذلّ عن الشرعية، وعن حقائق التاريخ والجغرافيا.
وتأسيساً عليه، أعاد الفكر الصهيوني مسعاه لفرض معادلته بين اللاسامية ومناهضة الصهيونية. وقبل بضعة أيام فقط، بعد عشرين سنة من قرار "الردة"، اتضح أن الطبعة الجديدة من معجم “وبستر" Webster الأمريكي تتضمن تعريفاً جديداً للاسامية هو أن اللاسامي/المعادي للسامية يعني "المعارض للصهيونية والمتعاطف مع أعداء دولة "إسرائيل"".
في هذا التعريف، لم يكتف التماهي الإسرائيلي- الصهيوني- الأمريكي بمعادلة التوازي بين اللاسامية ومناهضة الصهيونية، بل أضاف الى رقعة التشويه والتضليل وإخراس أصوات الناقدين، كل متعاطف مع الحقوق العربية والفلسطينية في مواجهة العدوان الإسرائيلي. وجعل من هذه "الحقوق" التي تقف الى جانبها الشرعية الدولية "أعداء لدولة "إسرائيل"".
تعريف إرهابي مكشوف، لم يرد في مقالة بجريدة، أو على موقع في الانترنت، أو ضمن خطاب سياسي في مناسبة معينة، وإنما جاء ثابتاً وراسخاً في معجم شهير ومنتشر على امتداد العالم.
وقد تنبهت المندوبية الدائمة لفلسطين لدى جامعة الدول العربية لهذا الشأن الخطير، وطالبت كما علمنا بمقاطعة هذا المعجم على مستوى كل المؤسسات والمنظمات والهيئات "وعدم اعتماده في عالمنا العربي، الى أن يتم تصحيح ما ورد فيه من عدوان وتشويه للحقيقة".
متى يتم هذا التصحيح؟ وهل يتم حقاً؟ يُقال إن ثمة شكوى خطية من "لجنة مكافحة التمييز" قدمت للناشر، لإجراء هذا التصحيح أو "التغيير"، إلا أنها لم تلقَ أذناً صاغية لديه. وعلى أية حال، إن "التصحيح" أو "التغيير" أو سمهِ ما تشاء، إن كان يمكن له أن يكون، فلن يكون إلا في الطبعة المقبلة للمعجم، أي بعد عشر سنوات أخرى أو أكثر، حين يكون التعريف الإرهابي ذاته، قد عمّ وطمّ في الدنيا، بما فيها دنيا العرب!
الآن، تستغل "إسرائيل" هذا التعريف، ليس فقط في إسكات وإخراس الناقدين لسياستها الإجرامية، وإنما أيضاً لجلب المزيد من اليهود الأوروبيين إليها وتوطينهم في الأرض الفلسطينية المحتلة وتضع "إسرائيل" عينها في هذا الشأن، على يهود فرنسا، على وجه التحديد، بعد أن استطاع خطابها الإعلامي السياسي، أن يشيع فكرة أن "اللاسامية" قد أصبحت "ظاهرة يومية" في فرنسا، وإن الحل بالتالي، هو هجرة يهود فرنسا إلى "إسرائيل"!
وكشفت صحيفة "معاريف" مؤخراً، أن مئات الناشطين في الوكالة اليهودية، بدعم مباشر من حكومة شارون، وصلوا بالفعل إلى باريس، لتحريك "عملية هجرة غير مسبوقة". ونقلت هذه الصحيفة عن مسؤولة كبيرة في الوكالة كُلفت بملف يهود فرنسا، قولها إن "الأجواء في فرنسا مهيأة للهجرة، وينبغي عدم تفويت الفرصة".
ونشرت صحيفة "هآرتس" في السياق ذاته، بعددها الصادر في 11/6/2004، أن حكومة "إسرائيل" تخطط لاستيعاب حوالي خمسة وخمسين ألف مستوطن جديد، داخل أكبر مستوطنة جديدة تجري إقامتها جنوب مدينة القدس. بذلك، تستبق حكومة "إسرائيل"، عملية تهجير يهود فرنسا، وتُعد للمهجّرين- المستوطنين الجدد، أكثر من ثلاثة عشر ألف وحدة سكنية فوق الأرض الفلسطينية المغتصبة، تستقبلهم فيها، على الفور!
هل يكفي أن نقاطع “المعجم”؟ هل يكفي أن نطالب بتغيير “التعريف”؟ ثمة وسائل أخرى لوقف العدوان. والمذهل، كما أحسب، ولا حول ولا قوة، سوف نجد المعجم ذاته، “وبستر” في مكتباتنا العامرة، على الرحب والسعة!
"الفرقان الحق".. فرية صهيونية لتشويه القرآن
ناصـر الفضـالة
صحيفة أخبار الخليج البحرينية 1/6/2004
في غفلة من المثقفين وأصحاب القرار في عالمنا العربي والإسلامي تتنامى حملة أمريكية صهيونية غربية عالمية ضد ما يسمى بالإرهاب الدولي تستهدف الإسلام والعرب، وتتجاهل هذه الحملة الإرهاب المنظم ضد هذه الشعوب، مثل الإرهاب الصهيوني ضد شعب فلسطين وبينما ينشغل العالم ووسائل الإعلام بالجوانب العسكرية والأمنية قلما ينشغل أحد بجوانبها السياسية والتربوية والثقافية والاجتماعية والحضارية والاقتصادية ولا يتم التطرق لها بشكل جدي مع خطورة آثارها التي لاتقل خطورة عن آثار الحرب العسكرية المدمرة.
تحاول هذه الحملة الثقافية الاجتماعية تشويه صورة العرب والعروبة والإسلام والمسلمين بهدف تكريس قناعة أن كل المسلمين عبارة عن "مشروع إرهاب" ومن يريد محاربة الإرهاب حقاً ينبغي عليه القضاء على الإسلام. في سياق هذه الحملة النكراء أصدرت مجموعة صهيونية في ولاية تكساس الأمريكية كتاب "الفرقان الحق" الذي تسعى من خلاله للإساءة إلى الإسلام عن طريق تشويه القرآن الكريم، بكتابته بطريقة لغوية تشبه بعض الصياغات في القرآن الكريم. وأصدرت المجموعة الكتاب باللغتين العربية والإنكليزية وقالت إنها توجهه إلى العالم العربي والإسلامي.
عرضت المجموعة مبالغ طائلة مقابل نشر كتابها في صحيفة فلسطينية إلكترونية تدعى "دنيا الوطن". وبعد فشلها في هذه المحاولة وصل أعضاء من المجموعة إلى المناطق الفلسطينية داخل الخط الأخضر وطرقوا الأبواب لبيع الكتاب.. تزامن هذا النشاط مع نشر مادة لا تقل خطورة في إساءتها للإسلام والمسلمين على الموقع الالكتروني لإحدى الحركات السياسية الصهيونية وتدعى "يد لاحيم" (يد للإخوة) والتي جاءت بروح هذا الكتاب وأهدافه ونشرت المادة تحت عنوان "القرآن الجديد"..
ليس صدفة أن مؤلفي كتاب "الفرقان الحق" قرروا توزيع الكتاب في الكيان الصهيوني فهم يلتقون مع عدد من اليهود المتطرفين في أساليب وأهداف المساس بالإسلام بمختلف الطرق. الكتاب اسمه "الفرقان الحق" وهو مؤلف من 368 صفحة من القطع المتوسط. وصدر عن جهة من ولاية تكساس الأميركية ووصل حديثاً إلى الكيان الصهيوني. بهدف إدخاله إلى المناطق الفلسطينية كمدخل للعالم العربي، ومما يحتويه الكتاب 77 "سورة" جاء معظمها تحت نفس العنوان المذكور في سور القرآن الكريم، لكن مضمونها مختلف تماماً وتم اختيار سور أخرى بعناوين جديدة تتطرق إلى مواضيع هي بالأساس موضوع التحريض على الإسلام. سورة الروح وهي السورة العاشرة في الكتاب تكشف بشكل واضح النوايا والأهداف التي ابتغاها معدّوه.. فهم يشوهون ما يؤمن به المسلمون في كل ما يتعلق بالشهادة والاستشهاد من خلال إظهار كل من يستشهد بأنه يقوم بعمله هذا من أجل الرغبة الجنسية!!! حيث تقول السورة المشوّهة والتي لا علاقة لها بالقرآن: "يا أيها الذين ضلوا من عبادنا: إذا سئل أحدكم عن الروح قال: الروح من أمر ربي. فما أوتيتم من العلم كثيراً أو قليلاً وما سألتم أهل الذكر الذين بشروا بالروح قبل جاهلية ملتكم بمئات السنين. وإذا استشهدتم في سبيل جنة الزنى فقد نعم كفرة الروم قبلكم بجنة تجري من تحتها الأنهار يلبسون فيها ثياباً خضراً وحمراً متقابلين ومتكئين على الأرائك يطوف عليهم ولدان ونساء بخمور ولحم طير وما يشتهون وهم الكافرون. وبزت جنتهم جنتكم التي استشهدتم في سبيلها فرحين طمعاً بما وعدتم به من زنى وفجور".
وهكذا يمضي مضمون بقية فصول الكتاب المسموم الذي يحمل الكلمات والمعاني المحرضة بهدف التشويه لطهارة كتاب الله وقدسيته والتي تشمئز النفس السوية من متابعة ما فيه من العهر والخسة التي وصل لها أعداء الله في هذه الحرب القذرة على الإسلام خاتم الأديان السماوية..
ولكن يبقى اليقين الذي لا يتزعزع أنه حتى لو تخاذل المسلمون جميعاً عن نصرة كتاب ربهم فإن أحداً لم ولن يستطيع تغيير القرآن أو تحريف كلماته فقد تكفل العزيز القهار بحفظه حتى قيام الساعة.
لقد بات واضحاً أن الحرب التي تشنها الولايات المتحدة على العالم الإسلامي ليست حرباً عسكرية وحسب بل فكرية وتربوية وثقافية. فالحرب العسكرية بدأت منذ الحرب الصليبية واستمرت مائة عام، أما الحملة العسكرية الأميركية الصهيونية اليوم فتوازيها مصطلحات جديدة مثل "تغيير المناهج التعليمية بحذف بعض آيات من القرآن" من بعض الكتب المدرسية في عدد من الدول ثم تأتي على شاكلة كتاب "الفرقان الحق" وتفسير الجمعية التابعة "لشاس" الصهيونية للقرآن الكريم بشكل يسيء للإسلام كدين و للمسلمين كأمة.
حملة التحريض على الإسلام لم تتوقف هنا فقد نشرت مجموعة صهيونية غير معروفة عبر موقع الكتروني صور فتيات أجنبيات شبه عاريات رسمت على ظهورهن شعارات دينية إسلامية.. إنها بلا شك ملامح الحرب الفكرية والثقافية التي تريد أميركا ومن ورائها الصهاينة أن يجعلوها موازية لغزوهم العسكري على العالم العربي والإسلامي ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد "الكبير".. هذا الغزو الذي ينفذ تحت لافتة الحرب الشاملة على "الإرهاب"..
إنها حرب صليبية تهدف لإطفاء نور الإسلام، والله متم نوره ولو كره الكافرون.
الثقافة الأميركية - الإسرائيلية لا تحارب الإرهاب بل تنشره
وليد أبو بكر
صحيفة الوطن القطرية 23/5/2004
لو لم يكن الدعم الأميركي لإسرائيل موجوداً، فهل كانت تستطيع أن تستمر في ارتكاب جرائم الحرب كما تفعل، وكما هي متمثلة الآن بوضوح في رفح خصوصاً، وعلى كامل الأرض الفلسطينية منذ سنوات طويلة؟
ولو لم تكن الرهبة من التدخل الأميركي لصالح "إسرائيل" عامة، هل كان بإمكان مجرمي حرب لا شبهة في إدانتهم، أن يستمروا على رأس جيش مسلح بكل ما أنتجته آلة الحرب الأميركية، ليواجه مدنيين لا يملكون ما يحميهم منه، ولا ما يدافعون به عن مأواهم الذي التجأوا إليه في المخيمات، بعد أن سلبتهم "إسرائيل" بيوتهم ووطنهم منذ سنوات طويلة؟
ولو لم يكن النموذج الأميركي في إبادة الهنود الحمر، وإقامة ديمقراطية غربية فوق جثثهم، هو الأسلوب الذي تعتمده "إسرائيل" في حرب الإبادة التي تشنها ضد الوجود الفلسطيني منذ مائة عام أو يزيد، فهل كانت تستمر فيه، رغم التنديد الدولي والقرارات الدولية؟
ولو لم تصل الوحدة الإسرائيلية الأميركية في ممارسة القتل، وارتكاب جرائم الحرب، إلى حد التشاور والتعاون وتبادل الخبرات، فهل كانت "إسرائيل" قادرة على أن تفعل ما تفعل؟
ولو أن وجوداً عربياً لا يخشى فيه الزعماء على مواقعهم يستطيع أن يطلق طلقة واحدة في الفضاء ليشعر العدوان المركب بأنه يمثل مئات الملايين، هل كانت "إسرائيل"، ومن ورائها الولايات المتحدة، تعيث فساداً في الأرض، وتمارس حريتها في القتل والاحتلال وهدم البيوت وتشريد الناس، ووضع كل الرؤوس التي لا تتقن إلا إهانة شعوبها، في التراب؟
هل نكتفي بعد ذلك بأن ندين قيام الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار على متظاهرين يحاولون أن يحتجوا على جرائم الحرب التي يرتكبها، وأن يشعروا إخوانهم تحت ظلال الموت في رفح، أنهم معهم، عند الموت، كما هو الحال مع كل فلسطيني ينتظر رصاصة قادمة من حيث لا يحتسب، لأن لغة الرصاص وحدها هي التي تسود، ولأن شارون، رجل السلام، بالمفهوم الأميركي السائد، لم يعرف في تاريخه قط غير هذه اللغة، وقد بات متأخراً أن يعرف، كما بات متأخراً أن يجد من يصدقه غيرنا، نحن الذين نموت كل يوم، ونرفع رؤوسنا من داخل قبرنا لنصرح، ونقول إننا مستعدون للبدء في مفاوضات السلام؟
سلام مع من؟ مع شارون الذي يطلق النار قبل أن يفكر، أم مع موفاز الذي يقول إن النار التي سقطت من السماء على رأس التظاهرة السلمية، كانت موجهة إلى جدار مهجور، أم يعلون الذي يبتسم أمام الجثث الصغيرة ويصر على أن العملية سوف تستمر، كما استمرت خلال المائة عام السابقة عليها، حتى تحقق أهدافها؟
هل يصدق أحد أن إطلاق النار على تظاهرة احتجاج سلمية، تقبل بها كل الشرائع، وتعتبر التعرض لها جريمة حرب، يمكن أن يشكل مبادرة في طريق السلام؟
لن يقبل ذلك أحد، غير الإدارة الأميركية التي تمنح "إسرائيل" نموذجاً لما يجب عليها أن تفعل حتى تقوم بحماية نفسها، لا من خلال التاريخ الذي اعتمد على إبادة الشعوب وحسب، وإنما من خلال المبادرات الحالية لاحتضان الأسلوب ذاته، وتبنيه، ونشره، في العالم المعاصر، كمثال لما يجب أن تكون عليه الديمقراطية التي يدعو إليها الرئيس الأميركي بكل وضوح.
عندما كانت الدبابات الإسرائيلية تهرس البيوت وأصحابها في حي الزيتون، وتدك هذه البيوت فوق رؤوس سكانها في مخيم رفح، كان الرئيس الأميركي يمتدح "إسرائيل"، وما تفعله "إسرائيل"، كحليف أميركي لا خلاف عليه، ولا شبهة في ولائه، وكان يبرر لإسرائيل ما تفعل، لأنها تدافع عن نفسها أمام إرهاب الأطفال الذي يتجمعون تحت بيوت تهتز مع الريح، لأن "إسرائيل" سرقت بيوت آبائهم وأجدادهم لتقوم عليها، كما فعل المستوطنون الأوروبيون في الأرض الأميركية، وبمواطني تلك الأرض الأصليين.
لم يكن صدفة أن يتحدث الرئيس الأميركي عن التشابه نفسه، في وقت المجزرة نفسها، أمام الذين يتوسل إليهم كي ينتخبوه، ممن يسيطرون على أصوات اليهود، ويبتزون المواقف من مرشحي الرئاسة كل الوقت، ومن غيرهم من مرشحي السلطة في الولايات المتحدة.
لم يكن من باب الصدفة أن يقول الرئيس الأميركي بصريح العبارة إن "إسرائيل" تبني وجودها على الطريقة الأميركية: مستوطنون من أوروبا يقيمون ديمقراطية غربية في بلاد لم تلحق بالعصر، ويواجهون بأعداء من كل جانب، ويضطرون للدفاع عن أنفسهم بكل سلاح.
كان الرئيس الأميركي من قبل قد منح رئيس الوزراء الإسرائيلي رخصة للقتل، عندما منحه وعداً بقبول التوسع، وبمقاومة حق العودة، أما في خطابه أمام الإيباك، أكبر المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، وأكثرها تأثيراً في سير الانتخابات، وأهمها علاقة بإسرائيل، لدرجة أنه يمكن أن تسمى «إسرائيل الأميركية»، فقد شرح له أسلوب القتل الذي يجب أن يعتمد، وهو الأسلوب الذي ينسجم مع حالة التشابه بين البلدين، نشأة وديمقراطية، كما شرحها الرئيس الأميركي لمن كان يتحدث إليهم من قادة اليهود، قادة الصهيونية التي تعمل على بقاء "إسرائيل" قوية وعدوانية ومسيطرة: إنه الأسلوب الأميركي في القضاء على الوجود السابق عليه، وجود من أطلق عليهم الغرب صفة الهنود الحمر.
شارون، الذي حمل هذا الأسلوب القديم معه من دعاة الصهيونية المتطرفين، الذين التزموا بإقحام أنفسهم داخل الأرض الفلسطينية بالقوة، وبطرد الفلسطينيين من أرضهم، كوسيلة لإقامة الدولة على «أرض إسرائيل»، ليس قابلاً للتغير، ولا هو قابل أن يفهم أن الأسلوب الذي أقام الدولة، بعون من الانتداب البريطاني والدعم الأميركي، وبتآمر عربي أو ضعف، لم يستطع أن يمنحها الأمن الذي تريد، رغم أنها حققت أغلبية على الأرض لم تكن تحلم بها، وقوة عسكرية لم تتصور أن تصل إليها، لولا تحولها إلى قاعدة أميركية تهدف إلى منع الشعوب في هذه المنطقة من التحكم بمقدراتها، وتبقى خيرات هذه المنطقة تحت السيطرة الأميركية.
شارون ما زال يعيش عصر الثلاثينيات ويتجمد عنده، وليس هناك أمل في أن يتغير، موقفا أو سياسة أو أسلوب عمل، خاصة وأنه وجد في زمنه من يرى فيه نموذجاً يحتذى، ويقدم له من الدعم ما لا يقبله عقل أو منطق، وما ينقض القرارات التي تواضع عليها العالم كله، ثم يبالغ بعد ذلك، وهو صاحب أكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ، فيسير على خطى شارون في حروبه، ويعتمد الأسلوب الاستيطاني القديم في الإبادة من ناحية، وفي احتقار البشر من ناحية ثانية، والتعامل معهم بالأسلوب السينمائي لراعي البقر الذي يربط خصمه بالحبل ويجره مرتدياً ملابسه، أو عارياً حتى من جلده، كما فعلت المجندة الأميركية بالسجين العراقي.
هل كان صدفة أن توجه المروحيات الإسرائيلية والدبابات نيران قذائفها إلى رؤوس الفلسطينيين في مظاهرة سلمية، وتقتل من تقتل، وتجرح من تجرح، ثم تأتي القذائف الأميركية لتصب نيرانها من كل اتجاه، فوق رؤوس الناس في عرس عادي في قرية صغيرة، كتب لها أن تكون على الحدود العراقية السورية، فتقتل من تقتل، وتجرح من تجرح، بالأسلوب ذاته؟
هل كان صدفة أن تدعي "إسرائيل" أن ما حدث لم يكن مقصوداً، لأن المنطقة ساحة حرب (هل هي ساحة حرب بالفعل، أم موضوع عدوان؟) وأن التحقيق حول ما جرى سيتم، ويوضع في الملفات، وكان صدفة أن تقول الولايات المتحدة عبارات متطابقة، تتحدث عن تهريب الأسلحة أيضاً، وتسلل الإرهاب؟
هل هو صدفة أن يتحدث العسكريون الإسرائيليون عن نجاح عملياتهم وعن استمرارها رغم إدانة العالم لها، ورغم قرار مجلس الأمن «الرقيق» الذي يطالب بوقف هدم البيوت، ولا يدعو إلى حماية للفلسطينيين من نوع ما، ولا إلى ردع للإسرائيليين من أي نوع، بينما يتحدث الأميركيون عن إصرارهم على البقاء في العراق حتى يحرروه من آخر أمل في حياة مستقرة خالية من الموت والآلام؟
لا شيء في هذا الواقع يحدث صدفة: إنها ثقافة العصر الأميركي الإسرائيلي التي تعلن أنها تهدف إلى محاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية، ولكنها في الواقع تحارب الديمقراطية، وتساعد على نشر الإرهاب، إنها تحرف الديمقراطية عن أي مسار مقبول، وتحوله إلى عدوان مباشر، يفرض وجوده، ويفرض مقاومته على كل أفق، حتى وإن كانت بسيطة أول الأمر، لأنها سوف تستمر، وسوف تتصاعد، كما أن ما يخلقه من استفزاز، ومن تجاوزات تعزز الكراهية، ومن إحباط ويأس، يستمر في خلق ما يسميه إرهاباً، ليواجه إرهاب الدولة التي يسمى دفاعاً عن النفس وعن القيم.
لا جديد الآن، ولا جديد غداً، وكل أمل في أن يغير شارون جلده، ويتحول إلى رجل سلام، لن يكون، إلا إذا حدث رغم أنفه، وكل أمل في أن يتحول بوش إلى رجل دولة حقيقي، يعمل على نشر العدل بدلاً من سيطرة القوة، لن يتحقق، لأن طبيعة بوش لا تقبل ذلك، الذي يجب أن يتغير هو أسلوب المواجهة، مهما كانت الآلام، جيش شارون سوف يغادر غزة كما غادر أسلافه لبنان، لأن الهستيريا التي يعيشها الآن، وتتحول إلى جرائم حرب، ليست دليل قوة شخصية، ولا قوة مجتمع، وجيش بوش سوف يغادر العراق، كما غادر أسلافه فيتنام، لأن الضربات الموجعة التي يتلقاها، على مستوى الموت، وعلى مستوى القيم، سوف تظل في الهواء الطلق، لكن هذا سيكون، بعد أن ترتوي شهوة الطرفين من الدم العربي، أو يختنقان به.
الصهيونية المسيحية: انحراف سياسي
تحت عباءة دينية و"إسرائيل" هي المستفيد الأوحد
كتب: د. محمد السعيد إدريس
صحيفة الأهرام 22/5/2004
رغم الفجوة الهائلة بين رسالة الضمانات الأمريكية التي قدمها الرئيس الأمريكي جورج بوش لرئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون, ووعوده التي اعتبرت بمثابة "وعد بلفور" أمريكي للدولة الصهيونية وبين رسالة التطمينات التي قدمها الرئيس الأمريكي للعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني التي أعاد فيها للتفاوض المباشر دوره في معالجة القضايا الخلافية بين الفلسطينيين والإسرائيليين, فإن المنظمات الصهيونية الأمريكية صدمت بما اعتبرته تراجعاً أمريكياً ليس في الضمانات والوعود, ولكن في النهج الأمريكي, كما صدم أرييل شارون هو الآخر واضطر لإلغاء زيارته التي كان سيقوم بها لواشنطن مبرراً ذلك برفض حزب الليكود لخطته الخاصة بالانسحاب من قطاع غزة.
لقد كان جوهر الاهتمام الإسرائيلي, وكذلك المنظمات الصهيونية الأمريكية طيلة الأسابيع الماضية التي أعقبت وعود الرئيس بوش لشارون متركزاً ليس على الوعود والضمانات رغم خطورتها الشديدة من المنظور العربي, ولكن على النهج الأمريكي الجديد في التعامل مع الصراع العربي- الإسرائيلي الذي تلخص في استبدال سياسة الأمر الواقع كمحدد لما يسمي بـ"عملية السلام" بدلاً من قرارات الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي.
فالإسرائيليون يريدون فرض سياسة القوة والأمر الواقع واختلال موازين القوى الإقليمية لصالحهم كمعيار وكمحدد للتفاوض مع الفلسطينيين, بدلاً من قرارات الأمم المتحدة. تجلى ذلك عندما قال الرئيس الأمريكي في لقائه مع شارون بالبيت الأبيض: إن حدود عام 1949 لم تعد تعبر عن الأمر الواقع في إشارة إلى أن مطالب العرب بالانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة عام 1967 لم تعد مقبولة, وأنه بات من الضروري قبول العرب بأن تضم "إسرائيل" أجزاء من تلك الأراضي التي احتلتها عام 1967 إلى أراضيها بما يتوافق مع موازين القوى ومع متطلبات الأمن الإسرائيلي.
هذا التطور في الموقف الأمريكي هو الذي حظي بكل الاهتمام الإسرائيلي والصهيوني, لذلك حدثت لهم انتكاسة معنوية بل وصدمة قوية بالتطمينات التي قدمها الرئيس الأمريكي للملك عبد الله الثاني, وأعاد فيها التركيز على خريطة الطريق وأهمية التفاوض الثنائي بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي.
وكرد فعل لهذه الصدمة نظمت مجموعة ممن يطلقون على أنفسهم اسم" المسيحيون الصهاينة" مظاهرة حاشدة تضامناً مع "إسرائيل" يوم الخميس (6 مايو 2004) خارج مبنى الكونجرس في العاصمة الأمريكية تم فيها عرض إحدى الحافلات الإسرائيلية التي دمرتها التفجيرات الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقال بيان منظمة "مسيحيون من أجل "إسرائيل"": إن أنشطة هذه المظاهرة تشمل إعلان يوم 6 من مايو يوماً قومياً للصلاة من أجل "إسرائيل" تستمر فيه المظاهرات والصلوات من الساعة الثانية عشرة ظهراً إلى الرابعة بعد الظهر. وعقدت المظاهرات تحت عنوان: "الإرهاب, تذكرة في اتجاه واحد", وتم عرض إحدى الحافلات المحترقة التي قالوا إنها تم تفجيرها من قبل الفلسطينيين في "إسرائيل". وقال منظموا المظاهرة إن الحافلة رقم 19 ستعرض أمام مبنى الكونجرس وستبقى هناك للعرض طوال شهر مايو ليشاهدها الجمهور الأمريكي الذي يقبل على هذه المنطقة السياحية بكثافة في شهور الصيف.
وقال المتظاهرون في بيان لهم: نحن المسيحيون الصهاينة.. مهمتنا حث الدعم لدولة "إسرائيل" والشعب اليهودي عن طريق الصلوات وعن طريق العمل الجاد وفق مشيئة وكلمة الرب.. إننا نريد أن يتفهم الآخرون قلب الرب وأغراضه من أجل اليهود وأن نحصل على الفهم الجديد للأصول اليهودية للعقيدة المسيحية".
ولحسن الحظ, وفي اليوم نفسه (6 مايو 2004) عقد في القدس المحتلة مؤتمر دولي هو الخامس من نوعه لمركز بحثي اسمه" مركز السبيل للاهوت التحرر المسكوني" أكد على رفض التحالف المعاصر لمنظمات" الصهيونية المسيحية" وقادتها مع العناصر الأكثر تطرفاً في حكومات "إسرائيل" والولايات المتحدة والتي تسعى حالياً لفرض سياسة استباقية عسكرية أحادية الجانب على الآخرين في فلسطين والعراق, وذلك في البيان الختامي للمؤتمر الذي اختتم أعماله التي تواصلت لأربعة أيام في القدس ورام الله المحتلتين عن الصهيونية المسيحية وأبعادها ومخاطرها وتأثيرها في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وجاء في البيان أنه" كنتيجة لمذكرة التفاهم بين الرئيس الأمريكي جورج بوش ورئيس وزراء الكيان أرييل شارون في الرابع عشر من الشهر الماضي, اتجهت الأزمة بين "إسرائيل" وفلسطين نحو مرحلة جديدة من القمع للشعب الفلسطيني, ما سيقود, لا محالة, إلى دائرة مفرغة من العنف والعنف المضاد, والذي ينتشر حالياً في جميع أنحاء الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم. نرفض التعاليم الهرطوقية للصهيونية المسيحية التي تدعم السياسات المتطرفة والمساندة للاقتصارية العرقية والحروب المستمرة بدلاً من بشارة الحب والخلاص, والمصالحة للعالم أجمع التي نادى بها السيد المسيح في الإنجيل المقدس".
وأكد المؤتمر أن الصهيونية المسيحية حركة سياسية ولاهوتية حديثة, تتبنى أكثر المواقف الأيديولوجية الصهيونية تطرفاً, والتي تسيء للسلام العادل في الأرض المقدسة, وتصور هذه الحركة, بدعمها للصهيونية السياسية المعاصرة, الإنجيل وكأنه يتبنى أيديولوجية التسلط (حكم القيصر) والاستعمار والحرب, مشدداً على أن التصرفات أحادية الجانب للحكومة الإسرائيلية تتناقض مع القانون الدولي, وتنقض اتفاقيات السلام السابقة, كما ترفض مشاركة الفلسطينيين وتضع السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط في خطر مستمر.
وعبر المؤتمر عن استيائه لموافقة الولايات المتحدة وحكومات أخرى على إملاءات شـارون, ممـا يعيد تكرار الأخطاء التاريخية للإمبراطوريات الاستعمارية في الماضي, مثل وعد بلفور, معتبراً أن مثل هذه الإملاءات أحادية الجانب تثبت سياسة تجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم ومن حقوقهم الوطنية, وتواصل حرمانهم من حقوق الإنسان الأساسية.
جذور الصهيونية المسيحية
لقد شكل تيار الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة على الدوام رافداً استندت إليه الصهيونية في تحقيق مشروعها وفي تشكيل مجموعات ضغط تعمل لمصلحة "إسرائيل", بل وفي كسب قطاع واسع من الأوساط البروتستانتية الأصولية في أمريكا وعلى أعلى المستويات. وإذا كانت الصهيونية المسيحية تبرز الآن كقوة محركة ودافعة للسياسة الأمريكية ونزوعها إلى معاداة العرب والمسلمين وحقوقهم والتحريض على خوض الحروب ضدهم تحت شعار محاربة "الإرهاب" أو غيرها من الشعارات بعد وصول أركانها إلى السلطة, فالحقيقة أن تيار الصهيونية المسيحية موجود منذ سنوات طويلة وبدرجات مختلفة في مراكز صنع القرار الأمريكي في مختلف العهود وبالذات ابتداء من وصول اليمين المحافظ أو" المحافظين الجدد" إلى الحكم في الولايات المتحدة في عهد حكم الرئيس رونالد ريجان عام 1980, وقد أسس هذا اليمين برامجه السياسية والاجتماعية والثقافية على مبادئ دينية خطيرة, وشكل مع قوى الصهيونية المسيحية تحالفات وثيقة.
وقد لعبت القوى الصهيونية المسيحية دوراً رئيسياً في صياغة الأبعاد الأيديولوجية والتصورات الفلسفية والأخلاقية لقوى اليمين المحافظ, كما أمدته بعناصر وكفاءات بشرية بارزة, وساندته بمؤسساتها ومنظماتها المختلفة بحيث أضحى أبرز مفكري هذا اليمين المحافظ يعبرون عن جوهر المنطلقات الفكرية لتيار الصهيونية المسيحية, وأخذوا يوظفون هذه المنطلقات في صياغة الفكر الاستراتيجي الحاكم في الولايات المتحدة, كما يتجلى الآن في عهد الرئيس جورج بوش.
وتعتبر مؤلفات الكاتبة الأمريكية جريس هالسل وبالذات كتاب "النبوءة والسياسة" ثم كتاب "يد الله" (ترجمهما للعربية الأستاذ محمد السماك وصدرا من دار الشروق بالقاهرة) من أبرز ما كتب عن هذا التيار الديني- السياسي المؤثر بقوة متصاعدة في صياغة السياسة الخارجية الأمريكية وبالذات نحو الصراع العربي- الإسرائيلي خاصة, والوطن العربي بصفة عامة.
لقد بين كتاب "النبوءة والسياسة" أن الصهيونية أضحت بسبب تيار الصهيونية المسيحية, صهيونيتين, الأولى والأساسية صهيونية مسيحية, والثانية يهودية. ويأتي كتاب "يد الله" ليبين أن اللاسامية أضحت, وبفضل هذا التيار أيضاً, لا ساميتين, الأولى تكره اليهود وتريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل الممكنة (لا سامية المجتمعات الأوروبية في النصف الأول من القرن العشرين), والثانية تكره اليهود أيضاً بيد أنها تريد تجميعهم في مكان محدد هو فلسطين, ليكون هذا المكان مهبط المسيح في مجيئه الثاني المنتظر (لا سامية أمريكية في النصف الثاني من القرن العشرين وما بعده), وفكر هذه اللاسامية يجئ امتداداً للفكر الذي أرسته بعض الحركات الدينية المسيحية وبالذات "الحركات الألفية" التي تؤمن بأن السيد المسيح سيعود ليحكم العالم مدة ألف سنة, وربطت بين هذه العودة ووقوع بعض الأحداث الرمزية من أهمها عودة اليهود إلى فلسطين وقيام دولة "إسرائيل" وإعادة بناء الهيكل ثم ظهور المسيخ الدجال, وتفجر مجموعة من الصراعات الدموية تتوج بالمعركة الشهيرة المعروفة بمعركة "هرمجدون" (قرية مذكورة في الرؤيا وتقع شمال القدس) حيث تقع معركة بين ما يسمى بـ"الحق والباطل", وعند اقتراب إفناء العالم يظهر السيد المسيح.
ولقد خطف تيار الصهيونية المسيحية هذه المعتقدات بالربط بين الانتصار الساحق لإسرائيل وعودة السيد المسيح ونشأة تيار مسيحي يزداد قوة يربط بين شدة الولاء والدعم لإسرائيل وبين تعجل عودة السيد المسيح.
الصهيونية المسيحية كحركة سياسية
سعت الصهيونية المسيحية, منذ تبلور اتجاهاتها في ما قبل إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين, لدعم نفوذها لدى الرأي العام الأمريكي, وممارسة الضغوط السياسية على الإدارات الأمريكية المتعاقبة من أجل مصلحة هجرة اليهود إلى فلسطين وإقامة وطن لهم فيها, واستخدمت الصهيونية المسيحية من أجل ذلك كل وسائل العمل السياسي والإعلامي والمنابر اللاهوتية, وتقديم العرائض ونشر الكتب والبيانات, وتأسيس المنظمات والمؤسسات العاملة من أجل دعوة اليهود "للعودة" إلى الأرض المقدسة وتيسير أمر هذه الهجرة, كما أسهمت في دعم وتمويل إنشاء مستعمرات يهودية زراعية وغير زراعية في فلسطين.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين تسارع نمو منظمات صهيونية مسيحية, نشطت من أجل "مساعدة اللاجئين اليهود الفارين من ألمانيا وأوروبا الشرقية لدخول فلسطين ملاذهم الطبيعي".
ومن بين هذه المنظمات" اللجنة الفلسطينية- الأمريكية" التي تأسست في مايو عام 1932 وقادها في مراحل تالية أعضاء كبار من الكونجرس وقادة عمال ورجال أعمال وأكاديميون ووزراء, وكذلك منظمة "المجلس المسيحي لفلسطين" التي تأسست في عام 1942 وغيرها.
لكن التنامي الكبير في هذه المنظمات الصهيونية المسيحية عدداً وقوة, أخذ في التسارع بعد قيام "إسرائيل" وبخاصة في الستينيات حينما برزت قيادة صهيونية مسيحية عبر منابر كنسية ومحطات تليفزيونية وإذاعة, وقدمت برامج دينية ذات طابع جماهيري, ونشرت كتباً, وأنتجت أفلاما سينمائية ناجحة, وأسست مدارس وجامعات ومراكز بحث, وقد شكلت "إسرائيل" ودعمها والوقوف معها محوراً أساسياً في هذه الأنشطة باعتبار أن الوقوف ضد "إسرائيل" هو معارضة للرب.
ومن أبرز القيادات الصهيونية المسيحية القس جيري فولويل الذي اقتحم الحياة السياسية الأمريكية في مطلع الستينيات ببرامج متلفزة ومسموعة, من بينها برنامج "ساعة من إنجيل زمان" والذي يبدو فيه أكثر تشدداً في دعم "إسرائيل" من كثير من اليهود الأمريكيين, ولم تقف طموحاته عند حدود الوعظ في الكنيسة ووسائل الإعلام, بل عمل على بناء مؤسسات تعليمية تملك أجهزة إعلامية, وتأسيس منظمة سياسية للعمل السياسي باسم "منظمة الأغلبية الأخلاقية" لممارسة الضغط على الكونجرس والإدارة الأمريكية, وللتأثير في اتجاهات الرأي في المجتمع الأمريكي, ولتعبئة الملايين من الأمريكيين لممارسة حقهم الانتخابي والتصويت على البرامج والأشخاص الذين ترشحهم منظمات الصهيونية المسيحية. ونجحت منظمة جيري فولويل في توفير عناصر النجاح لعدد من الشيوخ والنواب في الكونجرس, وحولت مواقف عدد غير قليل من الأعضاء لمصلحة التصويت الدائم لطلبات "إسرائيل".
ولا يقف جيري فولويل وأتباعه وبرامجه ومنظماته, عند مسألة الوقوف مع "إسرائيل" دائماً, وإنما يمارس مواقف مناهضة للعرب ولحقوقهم, كما يعارض بيع أسلحة أمريكية للدول العربية, ويمارس ضغوطاً في الكونجرس لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس, ويقدم "شهادات استماع" أمام لجان الكونجرس المختلفة بهذا الشأن, حيث يرى أن القدس هي عاصمة لليهود منذ آلاف السنين وأن نقل السفارة إليها خطوة مبررة دينياً وصحيحة سياسياً, وأن "إسرائيل" هي الدولة الوحيدة في العالم التي ينكر حقها في اختيار مكان عاصمتها. وقد عبرت "إسرائيل" عن تقديرها للقس الصهيوني جيري فولويل, فمنحته ميدالية الزعيم الصهيوني الإرهابي جابوتنسكي, وزرعت غابة باسمه في أحد جبال القدس المحتلة.
ومن القيادات الصهيونية المسيحية البارزة الأخرى, القس بات روبرتسون, الذي يعود بأصوله إلى أسرة هاريسون الذي وقع إعلان استقلال أمريكا, وكان والده عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي لمدة 34 عاماً, وأعلن بات روبرتسون ترشحه للرئاسة الأمريكية عام 1988. ويقف روبرتسون على رأس منظمة متشعبة الأغراض والوسائل ولها جذور شعبية وتأثير واسع المدى, وتعتبر شبكته الإعلامية المسماة" شبكة الإذاعة المسيحية "CBN)) من بين المحطات الأكثر حداثة وحذقاً ونشاطاً, واحتلت الموقع الرابع بعد شبكات التلفزة الرئيسية الثلاث في الولايات المتحدة الأمريكية, وتصل إلى أكثر من30 مليون منزل. وتملك مؤسسة روبرتسون جامعة معتمدة منذ عام 1977 تصدر نشرة إخبارية تضم أكثر من ربع مليون مشترك, وقد اعتاد أن يقول فيها: إن "إسرائيل" هي أمة الله المفضلة ويؤيد احتلالها للأراضي العربية ويعتبر العرب في برامجه المتلفزة أعداء الله.
ومن الشخصيات الصهيونية المسيحية البارزة الأخرى القس مايك ايفانز, ومن برامجه الاستعراضية المرئية برنامج يسمى "إسرائيل مفتاح أمريكا للبقاء", وقد اعتاد أن يستضيف في برامجه قادة من "إسرائيل", وتغطي برامجه أكثر من 25 ولاية أمريكية, وينشر الإعلانات الصحفية الباهظة الثمن دعماً لإسرائيل ولسياساتها, ويرى أن بقاء "إسرائيل" حيوي لبقاء أمريكا, وأنتج فيلماً واسع الانتشار أسماه" القدس دي. سي" ويعني ذلك القدس عاصمة داوود, مستخدماً حرفـيD)) و(C) ليـرتبـط هـذا المسمـى في أذهان الأمريكيين بحرفي D)) وC)) فـي عاصمتهم واشنطـن دي. سي (Districtof Colombia), بهدف التدليل على أن القدس هي عاصمة "إسرائيل" مثلما أن واشنطن هي عاصمة الولايات المتحدة.
ويتضح مما سبق حدوث تطور هائل في أساليب الدعوة والتبشير والوعظ في الشؤون اللاهوتية, فالديانة لم تعد في المجتمع الأمريكي مجرد طقوس تؤدى في الكنائس في أيام الآحاد وفي الأعياد الدينية, وإنما تتم أيضاً من خلال التفاعل والاستجابة مع برامج دينية متلفزة يشاهدها ملايين الناس, وبخاصة البالغين ممن تتجاوز أعمارهم الخمسين عاماً, وهم أضخم كتلة انتخابية وأكثر فئات المجتمع ثراء وتبرعاً واهتماماً بالعمل السياسي والاجتماعي.
وقد شكلت الصهيونية المسيحية العديد من جماعات الضغط للتأثير في صناع القرار في الإدارة الأمريكية من أجل تحقيق أغراضها وتوجهاتها وعقدت تحالفات متينة لهذا الغرض مع جماعات اليمين المحافظ السياسية, وهو اليمين الذي يؤمن بالمبادئ التوراتية نفسها ويتميز بكفاءة كبيرة في التنظيم, واستقطاب الجماهير, وتوفير مصادر التمويل. ومن بين هذه المنظمات الممارسة للضغط السياسي, منظمة "المائدة المستديرة الدينية" التي تأسست في عام 1979, وقد ترأسها القس ادوارد مالك اتيـر E.M.CAtter)), وعقدت العشرات من الندوات التي شارك فيها سياسيون وقيادات أصولية مسيحية, كما أقامت "حفلات إفطار سنوية" للصلاة من أجل "إسرائيل" ودعم سياساتها ودرجت على إصدار بيان عقب كل صلاة إفطار تبارك فيه "إسرائيل" باسم ما يزيد على50 مليون مسيحي يؤمنون بالتوراة في أمريكا. وتشارك هذه المنظمة في إصدار النشرات وتقديم المعلومات لأعضاء الكونجرس, كما تشارك في تنظيم الرحلات إلى "إسرائيل", وفي تنظيم حملات الرسائل إلى مراكز القرار السياسي الأمريكي لمصلحة "إسرائيل".
ومن بين هذه المنظمات التي تمارس أساليب الضغط السياسي (اللوبي) مؤسسة "جبل المعبد", ولها امتداداتها داخل "إسرائيل" وتركز هدفها على إنشاء "الهيكل" في القدس, ولها شبكة هائلة من المتعاونين معها من رجال أعمال وقساوسة ولها فروعها في عدد من المدن الأمريكية, كما أن لها تفرعاتها على شكل لجان كنسية, وتعمل في مدينة القدس, وتوفر الدعم المالي لغلاة اليهود العاملين على هدم المسجد الأقصى وبناء "الهيكل" مكانه, كما توفر دعماً قانونياً لأولئك اليهود الذين اقتحموا المسجد الأقصى واعتدوا عليه, وتجمع الأموال المعفاة من الضرائب وتبعث بها إلى "إسرائيل", كما تقوم بشراء أراض في الضفة الغربية المحتلة لمصلحة الإسرائيليين وبخاصة في القدس الشرقية وضواحيها, كما تتولى هذه المؤسسة عمليات تدريب الكهنة اليهود وإعدادهم, وتجنيد خبراء في الآثار والتصوير وإيفادهم إلى فلسطين للتنقيب تحت المسجد الأقصى.
وهناك العديد من المنظمات الصهيونية المسيحية من أمثال منظمة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" التي تأسست في عام 1975, و"الصندوق المسيحي الأمريكي لأجل إسرائيل", المتخصص في شراء الأراضي العربية وحيازتها لأغراض بناء المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية, وكذلك" الرابطة الصهيونية المسيحية لدعم إسرائيل", و"وسطاء لأجل إسرائيل", و"الكونجرس المسيحي الوطني" الذي يشارك فيه رهبان كاثوليك وقساوسة بروتستانت.
ومن المنظمات الصهيونية المسيحية النشيطة داخل "إسرائيل" نفسها, المنظمة المسماة بـ" السفارة المسيحية الدولية" وقد جاء تأسيسها تعبيراً عن أهمية القدس لدى أتباع هذه العقيدة الصهيونية المسيحية, وتأكيداً لأهمية العمل المسيحي, نيابة عن "إسرائيل", وقد تأسست عام 1980 وبحضور أكثر من ألف رجل دين مسيحي يمثلون 23 دولة, وافتتحت لها فروعاً في عدد كبير من عواصم العالم, ولها أكثر من عشرين مكتباً في الولايات المتحدة الأمريكية.
ومن أبرز نماذج أنشطتها ما تنشره من كتب ومجلات ونشرات, وحملات عرائض, وحملات بريد ورسائل, ورحلات سياحية إلى "إسرائيل" إلى جانب تنظيم مسيرات ومظاهرات.
هذه نماذج قليلة من منظمات الصهيونية المسيحية التي يزيد عددها على ثلاثمائة منظمة ومؤسسة وجماعة ضغط. لقد نمت هذه الحركة الصهيونية المسيحية في أمريكا بتسارع جارف وحجم كبير وبموارد ضخمة وصارت تشكل تياراً سياسياً رئيسياً وبخاصة في الحزب الجمهوري ومؤسساته, وتؤدي دوراً مؤثراً وحاسماً في توفير التأييد الشعبي, والدعم المالي والمعنوي والسياسي والعسكري لإسرائيل على قاعدة وشعار الحركة الأصولية المسيحية "هل تستطيع أن تحب المسيح من غير أن تحب "إسرائيل"؟", وصارت توصف في الأوساط اليهودية بأنها أحد أهم أعمدة "إسرائيل" في الولايات المتحدة الأمريكية.
ونتذكر ما قاله المتحدث باسم "السفارة المسيحية الدولية", حينما اعترض أحد الإسرائيليين المشاركين في المؤتمر الصهيوني المسيحي الأول المنعقد في بازل عام 1985, على اقتراح حث "إسرائيل" لإعلان ضم الضفة الغربية وغزة مقترحاً تخفيفه, بسبب أن استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تشير إلى أن ثلث الإسرائيليين يرغبون في مبادلة الأرض بالسلام. أجاب المتحدث باسم هذه المنظمة المسيحية, قـائلاً: "لا يهمنا تصويت الإسرائيليين, ما يهمنا هو ما يقوله الله, والله أعطى هذه الأرض لليهود", عند ذلك مر الاقتراح بالإجماع. ولقد وعت "إسرائيل" و"الحركة الصهيونية العالمية" مدى أهمية المنظمات الصهيونية المسيحية لدعم المشروع الصهيوني, ولا سيما أن هذه المنظمات صارت تشكل قوة عددية ومادية ونفوذاً كبيراً في المجتمع الأمريكي, مما دفعها إلى التحالف والتنسيق معها, وتيسير حركتها وتلميع قادتها إعلامياً, والسماح لها بالحركة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه واستخدامها لأغراض ممارسة الضغط والتأثير في الرأي العام الأمريكي والعالمي لمصلحة أهداف "إسرائيل" وسياساتها.
وتدرك "إسرائيل" أن تحالفها مع هذه القوى المسيحية المتصهينة له فائدة استراتيجية, ووجدت أن مسألة تنصير اليهود في المستقبل, أي عند عودة المسيح الثانية, هي مسألة لاهوتية مؤجلة لا تستدعي الخوض فيها الآن, حتى لا يؤثر ذلك في تحالفات وعلاقات "إسرائيل" بالمسيحية الأصولية, ويبدو أن كلا الطرفين يتحاشى الخوض في هذه المسألة الخلافية, وكلاهما يملك عقلية براجماتية مدهشة, فالمنظمات الصهيونية المسيحية درجت في مراحلها المبكرة من هذا القرن على اعتبار أمريكا "أمة مسيحية", لكنها تراجعت عن شعارها هذا واعتمدت شعاراً جديداً يعتبر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي "جمهورية مسيحية, يهودية".
وفي الوقت نفسه فإن استقراءً لتاريخ "إسرائيل" والحركة الصهيونية السياسية يبين أن "إسرائيل" لا تستطيع تحمل مسألة التدقيق في نوعية أصدقائها, أو التردد في قبول الدعم, بل تأخذه من أي مصدر تستطيع الحصول عليه, ولا ترد اليد التي تمتد لدعم سياساتها وأمنها ووجودها, وأثبتت الصهيونية المسيحية أن "صهيونيتها" أشد تطرفاً وغلواً من صهيونية قطاع غير قليل من يهود "إسرائيل" نفسها.
ومن ناحية أخرى, يلاحظ وجود قاسم مشترك ما بين الفكر الصهيوني اليهودي, والفكر الصهيوني المسيحي, من حيث اعتبار القوة بمثابة الطريق لتحقيق الغايات السياسية أو اللاهوتية, وكلاهما يتحدث عن الإبادة والغزو والحرب النووية. كما يتشابه مضمون الخطاب الصهيوني لدي اليهودية والمسيحية المتهودة, من حيث تبرير الاستيطان عقائدياً, واستخدام التطهير العرقي لسكان الأرض الأصليين, وامتلاك الشرعية المستمدة أو المبررة من فهم حرفي للتوراة, حيث كان الغزاة عبر التاريخ في الأمريكتين وجنوب أفريقيا وغيرها يتلحفون نموذج المسيحي المتهود المؤمن بمقولة: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". وقد شكلت الصهيونية السياسية تجسيداً صارخاً لما يمكن تسميته بالإمبريالية الثيوقراطية المسيحية, وبررت الاستيطان واقتلاع السكان وقتلهم بمبررات توراتية.
وفي كل الأحوال لا تبدو "إسرائيل" في الخطاب الصهيوني المسيحي أمراً دنيوياً أو إنسانياً أو حتى سياسياً, ولكن تبدو" قضاء إلهياً", ومن ثم تصبح معارضة سياسات "إسرائيل" خطيئة دينية, ويصير دعمها وتأييدها في سبيل مرضاة الله, وتكون تقويتها عسكرياً واقتصادياً ومساعدتها مادياً وتسويق منتجاتها وسنداتها وإنشاء صناديق الاستثمار الدولية لمصلحتها, وبناء المستوطنات فوق أرض مغتصبة, وتنظيم الرحلات السياحية إليها, وتوفير وسائل المعلومات والتقنية لها, التزاماً دينياً مبنياً على اعتبارات تاريخية ولاهوتية.
ماذا يعني ذلك ؟
يعني في جانب بارز منه أن هذه الظاهرة إذا ما استمرت وتعمقت فإنها ستترك آثاراً كبيرة داخل المجتمع الأمريكي نفسه, وبخاصة تجاه طرح منظومة قيم مختلفة مستندة إلى مبادئ توراتية, كما سيكون لهذه الظاهرة أبعادها على مستوى العلاقات الأمريكية مع العالم الخارجي, وبخاصة في إطار الهيمنة الثقافية والقيمية الأخلاقية, ولعل هذا النوع من الهيمنة قد يدفع باتجاه إدخال الاصطفاء الإلهي في السياسة الدولية.
شارون وسلام أنبياء اليهود
د. عبدالستار قاسم
صحيفة القدس العربي 17/4/2004
ذكر شارون في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الأمريكي بوش بتاريخ (14نيسان 2004) أنه ينشد إقامة سلام، حسب تعاليم أنبياء اليهود. أحاول في هذا المقال أن أضع أمام القارئ بعض المقتطفات من الكتاب الذي يعتبره اليهود توراتهم وكتابهم المقدس. لكنني أشير بداية أن الحديث هنا هو عن أنبياء اليهود كما ترد النصوص في التوراة الموجودة الآن بين أيدي اليهود وليس عن أنبياء اليهود كما ترد النصوص في القرآن الكريم. شارون يؤمن بالكتاب الذي بين يديه، وهو حسب تعليقه يستمد تعريفه للسلام منه وليس من أي كتاب آخر.
واضح في التوراة أن العلاقة مع الآخرين تأخذ علاقة العبرانيين مع غير العبرانيين ثلاثة مستويات: أبناء إبراهيم من هاجر والكنعانيين والشعوب الأخرى. تتميز هذه العلاقة بالتحديد بنظرة فوقية حيث يعتبر العبرانيون أنفسهم شعب الله المختار والمميز عن الشعوب الأخرى التي لم يعبر الرب عن رغبته في أن يكون إلهاً لها. فالشعوب الأخرى أقل منزلة واحتراماً وخارجة عن الإطار الرباني الذي يرعى "بني إسرائيل" في تجوالهم وحلهم وترحالهم وبيوتهم. وجاء تحديد علاقة العبرانيين مع هذه الشعوب لتكريس الاعتقاد بأن العالم يقسم على شعبين: شعب له الله ونعمه وشعوب أخرى ذات وحشية وجلافة.
من ناحية أبناء إبراهيم من هاجر، هناك نصوص واضحة تحرمهم المنزلة التي حظي بها أبناء إبراهيم من زوجته الثانية سارة. فهاجر، كما تصورها التوراة، لم تكن سوى جارية لدى سارة وقد أمرها ملاك الرب بأن تبقى كذلك عندما حاولت الهرب من خلال محاورة بينهما. تقول التوراة يا هاجر من أين أتيت وإلي أين تذهبين. فقالت إن هاربة من وجه مولاتي ساراي. فقال لها ملاك الرب ارجعي إلى مولاتك واخضعي تحت يديها. (سفر التكوين 16: 9).
ويبدو من سياق الحديث في التوراة أن إبراهيم غضب عندما طلبت سارة من إبراهيم طرد هاجر وابنها إسماعيل لأنه كان يلعب. إلا أن الرب لم يجد مبرراً لهذا الغضب قائلاً لإبراهيم: لا يقبح في عينيك من أجل الغلام ومن أجل جاريتك. في كل ما تقول لك سارة اسمع لقولها. لأنه بإسحق يدعى لك نسل . (تكوين 21: 12) وهناك محاولة توراتية لتجاهل إسماعيل كابن لإبراهيم. أمر الرب إبراهيم أن يأخذ اسحق إلى أحد الجبال مخاطباً خذ ابنك وحيدك الذي تحبه اسحق واذهب... (تكوين 22: 2).
التوراة لا تتجاهل إسماعيل باستمرار، لكن منزلته تبقى متدنية بالمقارنة مع إسحق. ففي سياق الحديث حول إسحق وتعظيمه يأتي في النهاية ذكر لإسماعيل بأن الله سيجعل منه، ابن الجارية، أمة لأنه من نسل إبراهيم، لكنه لا يذكر ما إذا كانت ستكون هذه الأمة عظيمة كالأمة التي ينجبها إسحق. (تكوين 21: 18) حتى أن ميلاد إسماعيل، كما يتم تصويره، لم يكن من أجل الخير والبركة وإنما كان كنوع من العطف على هاجر التي أذلت كثيراً. فقد قال لها ملاك الرب إنها ستلد ولداً تدعوه إسماعيل وإنه يكون إنساناً وحشياً. يده على كل واحد ويد كل واحد عليه.(تكوين 16: 12) أي أن هذا الولد شرير ولا يصل مرتبة أخيه من أبيه الذي يتلقى أوامر الرب إلهه.
أما من ناحية الكنعانيين، فإن وصايا الأنبياء، كما تذكر التوراة، تحظر التعامل معهم أو الرأفة بهم. فقد أوصى إبراهيم، بعدما تقدمت به السن، عبده كبير بيته ألا يأخذ لابنه زوجة من بنات كنعان. (تكوين 24: 3) وكذلك فعل إسحق الذي أوصى ابنه يعقوب بألا يتخذ لنفسه زوجة من بنات كنعان لأنهن شريرات. (تكوين28: 1) إنهن لا يعبدن إله بني إسرائيل، وبالتالي فهن غير صالحات، علماً أن دين "بني إسرائيل" ليس للكنعانيين. لكن التوراة، على أية حال، لا تذكر لماذا لا يعرف الرب نفسه للكنعانيين الذين من الممكن أن يؤمنوا.
حث الرب "بني إسرائيل" على أن تكون علاقتهم مع سكان أرض كنعان علاقة عداء. فهو يحضهم، في حالة احتلال أرض الميعاد، على تهديم مذابح ساكنيها وتكسير أنصابهم وحرق تماثيلهم. ذلك لأن "بني إسرائيل" شعب مقدس للرب إلههم. (التثنية 7: 6) وقد أمر الرب بني لإسرائيل بقتل كل من يجدونه أمامهم في المدن التي يحتلونها حتى الأطفال والرضع. وبناء على هذه الأوامر، فقد قتل العبرانيون كل رجل وامرأة وطفل وشيخ عند احتلالهم أريحا. ولم يوفروا حتى البقر والغنم والحمير وألحقوا على البيوت وأحرقوها. (يشوع 6: 21) وهذا ما فعله يشوع أيضاً بأهل عاي. فقد قتل كل إنسان كان يسكن المدينة وأحال المدينة خراباً ومثّل بجثة ملكها. (يشوع، 8: 29).
والشعوب الأخرى ليست أحسن حالاً من حال الكنعانيين. فلا يجوز لهذه الشعوب أن تكون على قدم المساواة مع العبرانيين، وحتى لا يجوز لها أن تعيش بأمن واطمئنان. فالرب يؤكد لموسى أنه سيدفع سكان الأرض إلى أيدي العبرانيين. وشرط الرب على ذلك بألا يقطع مع الشعوب الأخرى أو آلهتهم عهداً. (خروج 23: 32) إن مكانة هذه الشعوب إذا سمح لها بالبقاء أن تكون في خدمة "بني إسرائيل" وطاعتهم. فكما هو منصوص يقف الأجانب يرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم. أما أنتم فتدعون كهنة الرب تسمون خدام الهنا. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدها تتأمرون. (إشعياء 61: 5- 6).
حدد الرب علاقة العبرانيين مع الشعوب الأخرى كالأموريين والكنعانيين والحثيين قائلاً: لا تسجد لآلهتم ولا تعبدها ولا تعمل كأعمالهم. بل تبيدهم وتكسر أنصابهم. (خروج 23: 24) إنه لا يجوز أن يقام معهم عهد لأنهم غير مقدسين ولا يصلون إلى منزلة "بني إسرائيل"، صفوة الأمم وخيرتها وشعب الله.
وما دام الأمر كذلك، فإن الرب سيبقى في نصرة "بني إسرائيل" ورعايتهم. إلا أن الرب يحذر ولكن إذا رجعتم ولصقتم ببقية هؤلاء الشعوب وأولئك الباقين معكم وصاهرتموهم ودخلتم إليهم وهم إليكم فاعلموا يقينا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد أولئك الشعوب من أمامكم فيكونوا لكم فخاً وشركاً وسوطاً على جوانبكم وشوكاً في أعينكم حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم إياها الرب إلهكم. (يشوع 23: 12-13) والرب يعارض سكنى هؤلاء في أرض "بني إسرائيل" حتى لا يكونوا سبباً في إغواء شعب الرب وتحويله عن عبادته. (خروج ـ 23).
ليس من الصعب على قارئ التوراة أن يدرك أن الأمم فئتان: فئة العبرانيين التي لها رب، وفئة بقية الشعوب التي ليس لها رب. وظيفة الأولى هي أن تطيع الرب فيفتح عليها أبواب النعم الدنيوية وأسباب الرخاء، ووظيفة الثانية ذات شقين: الأول أن تكون هدف انتصارات العبرانيين عندما يكونون في طاعة الرب فيتلذذون بنشوة الانتصار، والثاني أنها أداة الله لمعاقبة العبرانيين عندما يكونون في معصية الله. وفي كلتا الحالتين فإن الأمم الأخرى عبارة عن مطية إما للعبرانيين أو للرب الذي يريد معاقبة شعبه. وما عدا ذلك لا يبدو في التوراة أن للأمم وظيفة أخرى يمكن أن تكون سامية. الأمم الأخرى محرومة من الدعوة للانضمام على دين، ومحرومة من المعاملة الحسنة.
سقت أعلاه فقط بعض الأمثلة عن رب شارون الخاص وأنبيائه. وللقارئ أن يستنتج ذلك السلام الذي يقيمه شارون وفقاً لتعاليم أنبياء اليهود.
* أستاذ في جامعة النجاح
الرؤية الصهيونية والجدار العازل
د. عبد الوهاب المسيري
صحيفة الاتحاد الإماراتية 13/2/2004
يميل كثير من وسائل الإعلام إلى تناول قضية الجدار العازل، الذي تواصل "إسرائيل" تشييده على رغم كل الاعتراضات الدولية والمحلية، كما لو كانت مسألة فريدة ليست لها جذور، وكأن "عملية السلام" (بما في ذلك آخر إفرازاتها فيما يسمى "خريطة الطريق") كانت مستمرة وبشكل إيجابي إلى أن قررت الدولة الصهيونية إنشاء هذا الجدار. وهذا الطرح يتجاهل أن الجدار كامن داخل الرؤية الصهيونية الجيتوية. وقد صرح رعنان جيسين، المتحدث باسم الدولة الصهيونية، بأن قرار الجمعية العامة بإحالة موضوع الجدار الفاصل إلى محكمة العدل الدولية إنما هو محاولة لنزع الشرعية عن "حق الشعب اليهودي في أن تكون له دوله يهودية يمكن الدفاع عنها". وهذا التصريح يربط بشكل واضح وصريح بين الرؤية الصهيونية للواقع والجدار العازل.
وتنطلق الرؤية الصهيونية من التصور الأسطوري الخيالي بأن فلسطين "أرض بلا شعب". وكان الهدف الصهيوني الأصلي هو إخلاء هذه الأرض من سكانها عن طريق التهجير والطرد (الترانسفير)، ولكن بعد عام 1967، ومع اكتشاف استحالة تنفيذ هذا المخطط نظراً لضخامة الكتلة السكانية الفلسطينية التي ضمتها الدولة الصهيونية ونظراً لوعيها وتنظيمها، تم تعديل هذا الجانب من الشعار الصهيوني بحيث أصبح "فلسطين أرض فيها شعب ليست له حقوق في هذه الأرض، فوجوده عرضي هامشي بالقياس إلى حقوق الشعب اليهودي المطلقة". ومع تعاظم المقاومة الفلسطينية أصبح الشعار هو "فلسطين أرض فيها شعب لا نود أن نراه ولابد من محاصرته وتقييد حريته وحركته".
يُضاف إلى هذا أن الأيديولوجية الصهيونية تنكر الزمان، لأنها بذلك تنكر التاريخ ومن ثم الوجود الفلسطيني. ونظراً لإنكار الزمان، فقد تزايد الإحساس بالمكان بشكل مرضي في وجدان الصهيوني، وهو إحساس تعمق بسبب تراث الجيتو والشك العميق في الأغيار، أي غير اليهود. وقد ارتبطت نظرية الأمن الإسرائيلية تماماً بالمكان (الحواجز الطبيعية والصناعية) والأشياء (الأسلحة) مع إسقاط عنصر التاريخ والإنسان.
وهكذا يمكن القول إن فكرة الجدار العازل فكرة مترسِّخة في الوجدان الصهيوني. ففي الأربعينيات، اقترح (فلاديمير جابوتنسكي)، زعيم ما يسمى "الصهيونية المراجعة" أو "التنقيحية" Revisionist Zionism (والتي يعبر عن أفكارها حالياً حزب الليكود بزعامة شارون) إقامة ما سماه بالحائط الحديدي. وكان جابوتنسكي ينطلق من رؤية مفادها أن أية تجربة استيطانية استعمارية لابد وأن تُواجه بمقاومة السكان الأصليين، فلا يوجد شعب تنازل طواعيةً عن أرضه لشعب آخر، وأن حل هذه الإشكالية هو أن يقيم المستوطنون الصهاينة حائطاً حديدياً حول أنفسهم ويستمرون في البطش بالسكان الأصليين إلى أن يسلموا بأنه لا مفر من التنازل واقتسام الأرض مع الكتلة البشرية الوافدة. وهذه هي الفكرة نفسها التي عبر عنها شارون بعد ذلك بعدة عقود، عندما قال "إن ما لا يؤخذ بالقوة يُؤخذ بمزيد من القوة".
وقد استمعت في السبعينيات لمحاضرة في واشنطن لأهارون أرونسون، وهو من أهم المفكرين الاستراتيجيين الإسرائيليين، وكانت أطروحته في غاية البساطة وهي أن العالم العربي لا يزال يخوض مرحلة الانتقال من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، مما يعني أنه ستكون هناك قلاقل وتوترات ومقاومة لمجتمع حديث مثل المجتمع الصهيوني. ومن ثم، لابد وأن تحمي الدولة الصهيونية نفسها بأن تنشئ حائطاً نووياً حول نفسها وتنتظر. وقد أطلق أرونسون على هذا الوضع اسم "حرب المئة عام". (ولعله بذلك كان أكثر وعياً بحركة التاريخ وبطبيعة الصراع من كثير من "المفكرين" الاستراتيجيين العرب).
وبعد حرب عام 1967، وقيام "إسرائيل" بضم غزة والضفة الغربية، وهي مناطق مكتظة بالسكان، ظهر ما يسمى بالمشكلة السكانية (الديموجرافية)، حيث يرى بعض الصهاينة أنه بحلول عام 2010 سيزيد عدد السكان العرب الذين يعيشون في كل فلسطين المحتلة عن السكان اليهود. ومن ثم ظهر ما يُسمى "الصهيونية الديموجرافية" Demographic Zionism (ومعظم دعاتها ينتمون إلى حزب العمل وما يُسمى "اليسار الإسرائيلي"). ويدعو أصحاب هذا الاتجاه الصهيوني إلى الانسحاب من الضفة الغربية وغزة، مع الاحتفاظ بمواقع عسكرية إسرائيلية تضمن عزل الفلسطينيين عن بقية العالم العربي.
وهناك في المقابل اتجاه يُسمى "صهيونية الأراضي" Territorial Zionism (ومعظم دعاته من حزب الليكود وما يُسمى "اليمين الإسرائيلي") وهو يرى أن بوسع الدولة الصهيونية الاحتفاظ بالأرض الفلسطينية التي احتُلت عام 1967 والاستيطان فيها وقمع العرب وتحطيم إرادتهم. والصراع بين الاتجاهين الصهيونيين هو في واقع الأمر صراع بين رؤيتين: إحداهما استعمارية استيطانية إحلالية والأخرى استعمارية استيطانية مبنية على الفصل العنصري (الأبارتهايد). وقد عبر (آفي ديختر)، رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك)، عن هذا الصراع بقوله "ثمة خياران لا ثالث لهما أمام الحكومة: إما العودة إلى مدن الضفة الغربية بصورة دائمة (أي الاستعمار المبني على الفصل العنصري)، أو التوجه نحو الفصل المطلق فوراً (أي الاستعمار الاستيطاني الإحلالي)، وكل الاقتراحات الأخرى تشكل تفريطاً بمواطني إسرائيل".
وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الجدار العازل بين الضفة الغربية وأراضي فلسطين المحتلة عام 1948 كانت في الأصل فكرة عمالية صهيونية (يُقال عنها إنها "يسارية" وهي في الحقيقة إحلالية). وكان أول من طرحها (بنحاس سابير) عقب حرب 1967، حيث اقترح إنشاء حدود قابلة للدفاع عنها من طرف واحد والخروج من بقية المناطق. واقترح بن جوريون، الذي كان آنذاك زعيماً عمالياً متقاعداً، إعادة كل المناطق باستثناء القدس. ثم وضع (موشيه شاحل) خطةً للفصل، حين كان يشغل منصب وزير الشرطة عام 1994. ثم تتالت المشاريع العمالية الإحلالية الأخرى، ولكنها لاقت في بداية الأمر معارضةً قويةً من اليمين الصهيوني باعتبار أنها ستعطى شرعيةً للدولة الفلسطينية.
وقد تبدت فكرة الفصل العنصري في الطرق الالتفافية، وهي طرق تشقها الدولة الصهيونية لربط المستوطنات الاستعمارية الصهيونية بعيداً عن المناطق السكنية العربية، كما تبدت في حواجز التفتيش التي يقيمها الإسرائيليون لمراقبة حركة الفلسطينيين وقمعهم وإذلالهم وتذكيرهم بمن هو السيد ومن المَسود.
وبعد تصاعد انتفاضة الأقصى وفشل شارون في قمعها في مئة يوم كما كان يزعُم، بدأ اليمين يتراجع عن معارضته لفكرة الجدار الفاصل ويتصالح معها بعد تعديلها، وبدأ الرأي العام الإسرائيلي، الذي يعيش في ذعر من الهجمات الفدائية، يطالب بإقامة الجدار.
ومما ساعد على قبول الفكرة أن الصهاينة يبذلون قصارى جهدهم للحيلولة دون قيام دولة فلسطينية، ولكن أصبح من الصعب عليهم التصريح بذلك بسبب الموازين الدولية وبعض متطلبات السياسة الخارجية الأميركية في الوقت الحاضر. ولهذا، فهم يقبلون بمبدأ قيام دولة فلسطينية بشرط أن تكون دولة بلا أرض، بحيث يتحول الفلسطينيون إلى شعب بلا أرض يُعزل في معازل (كانتونات) صغيرة مفصولة تتحكم فيها الدولة الصهيونية. وقد عبر (شاؤول موفاز)، وزير الدفاع، عن ذلك بقوله إن الحكومة الإسرائيلية تتبنى فكرة إقامة دولة فلسطينية مقسمة من جانب الجيش الإسرائيلي، ومعزولة عن باقي أراضي الضفة الغربية. والجدار العازل يشكل حجر الأساس في هذه المحاولة.
ويقول حسن أيوب، الخبير في شؤون المستوطنات في مكتب "الدفاع عن الأراضي ومقاومة الاستيطان" في مدينة نابلس، إن الحكومة الإسرائيلية لم تعلن عن قرارها إقامة جدار أمني فاصل على طول الخط الأخضر إلا في منتصف عام 2002، وإن الحقائق على الأرض تؤكد أن التحضير لإقامة هذا الجدار بدأت منذ العام الأول لتسلم شارون رئاسة الحكومة أو حتى منذ وجوده في وزارة الإسكان، حين صادق على عدة قرارات بمصادرة مئات الدونمات من أراضي المواطنين الفلسطينيين، وخاصة تلك القريبة من المستوطنات والمحاذية للخط الأخضر.
والله أعلم.
اتجاهات إسرائيلية خطيرة!..
عبد المنعم سعيد
صحيفة الوطن السعودية 18/12/2003
كما هو معلوم فإن اتفاق جنيف المشهر في الأول من ديسمبر الجاري قد فتح الباب لنقاشات وحوارات وشجارات كثيرة على الجانبين العربي والإسرائيلي. وعلى هذا الجانب الأخير قدم لعدد من البدائل الإسرائيلية كان أولها بعد خيار التسوية التفاوضية ما يسمى ببديل "الأمر الواقع" أو في الحقيقة "فرض الأمر الواقع" وتتبناه جماعات المستوطنين واليمين الإسرائيلي. ويقوم هذا البديل على مجموعة من الادعاءات أولها أن اليهود لهم حق تاريخي وديني في فلسطين كلها وخاصة في "الضفة الغربية" وبدونها فإن وجود "الدولة اليهودية" هو نوع من الخيال.
وثانيها أن العرب لن يستسلموا لهذه الحقيقة إلا بعد سلسلة من الجولات العسكرية التي على "إسرائيل" أن تكسبها كلها، وبعد أن يقبل العرب الفلسطينيون الأمر الواقع سوف يحدث السلام
وثالثها أن الحرب الراهنة ما هي إلا واحدة من الجولات التي يتعين على "إسرائيل" كسبها، وحتى هذه اللحظة فإن هذه الحرب قد أدت إلى توحيد المجتمع الإسرائيلي حول اليمين، كما أدت إلى عزل الفلسطينيين وأظهرت "الوجه الحقيقي" لهم باعتبارهم من الجماعة الإرهابية الدولية التي هاجمت الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر، وفي النهاية فإن خسائر "إسرائيل" في هذه الحرب مقبولة من الناحيتين الاقتصادية والعسكرية.
ورابعها أنه في إطار هذا البديل لا بد من تغيير الأمر الواقع فقط عن طريقة خطة محكمة لزيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى الدرجة التي تجعل الحل القائم على دولتين مستحيلاً.
وخامسها أنه في إطار هذا الحل سوف يتعين "تشجيع" الفلسطينيين على الرحيل بحيث يستحيل تشكيل أغلبية عربية في الدولة اليهودية.
البديل الاستراتيجي الثالث المطروح إسرائيلياً بعد التسوية التفاوضية وفرض الأمر الواقع يقوم على "فك الارتباط من جانب واحد Unilateral Disengagement. ونقطة البداية في هذا البديل تقوم على أنه يفرض نفسه فقط لأن البديلين الآخرين من المستحيلات، فلم يعد ممكناً بعد سنوات الصراع الأخيرة، وحالة التهديد التي عاشتها "إسرائيل" أن تتم تسوية سلمية بين الطرفين، وحتى لو تم التوصل لهذه التسوية فإن الدولة الفلسطينية سوف تشكل دوماً خطراً على "إسرائيل" ليس فقط لأنها تمثل تهديداً أمنياً مستمراً من قبل جماعات فلسطينية غير قابلة بالتسوية بل أيضاً لأنها سوف تمثل عاملاً في تخريب الاقتصاد الإسرائيلي والتفكك الاجتماعي وزيادة الجريمة.
كما أنه بات مستحيلاً في نفس الوقت استمرار سيطرة "إسرائيل" على الفلسطينيين لأن الأخيرين لن يقنعوا بأحوالهم، كما أنهم سوف يجدون دائماً فرصة لإيذاء "إسرائيل"، فضلاً عن التكلفة العسكرية والدولية العالية لوجود حالة من حالات الاحتلال الدائم. فالصراع الحادث بين الفلسطينيين والإسرائيليين هو صراع بين الشعوب، وعندما بدأت العمليات "الإرهابية" الفلسطينية ضد الإسرائيليين المدنيين فإنه لم يعترض أحد من الجانب الفلسطيني بل كانت هناك مشاعر واضحة للتشفي والفرح من آلام الإسرائيليين.
ومع غياب هذين البديلين من الناحية العملية، وعدم وجود قيادة فلسطينية جاهزة للتفاوض، فإن الحل المتاح يقوم على الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية ليس إلى الخط الأخضر الذي يمثل حدود الرابع من يونيو 1967 ولكن إلى حدود تحددها "إسرائيل" وفقاً لما يحقق أمنها في وادي الأردن، وتحمي المستعمرات الكبرى، والقدس الموسعة تحت السيطرة الإسرائيلية. وبعد تعيين الأراضي التي سوف يتم الانسحاب منها تقوم "إسرائيل" بالفصل الكامل بين الأراضي الفلسطينية الباقية والأراضي الإسرائيلية من خلال حائط فصل مانع يعزل هذه الأراضي تماماً عن الجوار العربي، ويجعل الدخول والخروج منها مرتبطاً بالإرادة الإسرائيلية. وبالطبع فإن الانسحاب الإسرائيلي قد يتضمن تفكيك عدد من المستوطنات، كما أنه سوف يسبب انزعاجاً دولياً، ولكن "إسرائيل" تستطيع التعامل معه طالما بقيت أولاً على علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة، وطالما أن الفلسطينيين والعرب سوف يقومون بعمليات إرهابية تكفي لإبعاد العالم عنهم.
البديل الرابع المطروح في الفكر الاستراتيجي الإسرائيلي ربما يكون هو بديل شارون نفسه، وهو لا يتناقض مع بديل الأمر الواقع أو بديل الفصل الكامل، وإنما يمهد الطريق إلى أي منهما في المستقبل. ويقوم هذا البديل أيضاً على أن التسوية حالياً مستحيلة ليس فقط بسبب الدم الذي سال بين الطرفين، ولكن أيضاً لأن القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني ضالع فيما جرى من إرهاب. ومن الناحية العملية فإنه يستحيل ضم الأراضي الفلسطينية، كما أنه يستحيل الفصل الكامل معها، وبالتالي فإن الحل الممكن في هذه المرحلة يقوم على قاعدتين : الأولى هي تسوية مرحلية، والثانية هي إدارة الصراع الذي لا يتوقع له نهاية ولكن يمكن خفض مستوى حدته من خلال التسوية المرحلية. وهنا فإن خريطة الطريق لا ينظر لها على أنها طريق إلى تحقيق التسوية النهائية خلال فترة معقولة قدرها 30 شهراً كما هو الحال في وثيقة جنيف، وإنما ينظر لها على أنها طريق إلى فترة مفتوحة قد تصل إلى عشرين عاماً تبقى فيها الدولة الفلسطينية المؤقتة عند حدودها في أراضى المناطق (أ) و (ب) كما تقررت في أسلو.
هذه البدائل الاستراتيجية الثلاثة الأخيرة كما هو واضح تقوم على فرض حل إسرائيلي مهما كانت وجهة النظر الفلسطينية أو العربية أو الدولية فيه، وبالتالي فإنها تعتمد تماماً على القوة الإسرائيلية، وفي بعض منها فإنها تقوم على استمرار العلاقات القوية مع الولايات المتحدة التي يرى غالبية الإسرائيليين أنه لا يوجد غيرها له قيمة في المجتمع الدولي.
وبالتالي فإن أية استراتيجية عربية ومضادة لهذه البدائل والخيارات والاستراتيجيات الإسرائيلية لا بد وأن تضربها في نقاط ضعفها الرئيسية بحيث تجعل أولاً الحل ممكناً وهو ما تقدمه وثيقة جنيف، وبحيث تجعل الولايات المتحدة متحمسة لهذا الحل وهو ما توجد إشارات أمريكية قوية عليه عندما استقبلت واشنطن ياسر عبد ربه ويوسى بيلين بأذرع مفتوحة، وإذا كان ممكناً بعد ذلك خلق التفاف دولي حول الاتفاق بحيث تعزل "إسرائيل" وبعد ذلك يتم فرض هذا الحل عليها ربما بعد الانتخابات الأمريكية.
الأصولية اليهودية
بقلم: أحمد عمرابي
صحيفة البيان الإماراتية 18/9/2003
لنفترض أن «الأصولية الإسلامية» خطر على الغرب.. لكن ماذا عن «الأصولية اليهودية»؟ السؤال ليس من عندي.. وإنما يطرحه بإلحاح علمي رصين الكاتب الصحفي البرلماني الشهير ديفيد هيرست في الطبعة الثالثة لكتابه «البندقية وغصن الزيتون: جذور العنف في الشرق الأوسط» الصادر للتو. وإذ يطرح هيرست هذا التساؤل الكبير فإنه يقدم إجابة تتكون من 146 صفحة محورها أنه إذا كان هناك افتراض متداول بأن الأصولية الإسلامية تشكل فعلاً خطراً على الغرب فإن الأصولية اليهودية خطر يتهدد العالم بأسره.
شجاعة ديفيد هيرست العلمية يندر أن يكون لها نظير في عالم تتناوب على إرهابه وترعيبه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مع مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي «إف. بي. آي» في تناغم مع الموساد الإسرائيلي ومن ورائها جميعاً حركة صهيونية عالمية الطابع تسيطر على المؤسسات الاقتصادية والسلطوية والإعلامية في الدولة العظمى - الولايات المتحدة الأميركية.
والخطر الأعظم الذي يمكن أن يتعرض له أمثال هيرست - كما جرى للمفكر الفرنسي - رجاء جارودي - يتمثل في قوانين «معاداة السامية» في بلدان الغرب حيث يعتبر انتقاد اليهود واليهودية إثماً يضارع جريمة الخيانة العظمى.
ديفيد هيرست ليس مسلماً، إنه فقط كاتب موضوعي ترتقي عنده النزاهة المهنية إلى مستوى عقيدة مقدسة، وإذا أردت أن تدرك مدى هذه النزاهة فانظر - من قبيل المقارنة - إلى كتابات مسلمين عرب ممن تعتمل قلوبهم بشعور الانهزامية الداخلية.
في الطبعة الأخيرة لكتابه المشار إليه يفرد هيرست فصلاً للتأثير الصهيوني على الوسائل الإعلامية الرئيسية في الولايات المتحدة، وفي هذا الفصل يكشف أن الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 1977 لقيت حملة تعتيم وتجاهل واسعة النطاق.
هذه الحقيقة ليست غريبة بالطبع، فقد عومل بنفس الطريقة كتاب جارودي عن «الأساطير الإسرائيلية» وما لا يحصى من كتب سابقة ولاحقة لكتاب غربيين آخرين.
وبعض الكتب لا يسمح لها برؤية النور أصلاً. وأذكر أن صحفياً بريطانياً متخصصاً في الصحافة الاستقصائية أعد في ثمانينيات القرن الماضي مخطوطة كتاب يفضح الحركة الماسونية وتتكون مادته الأساسية من مقابلات مع أعضاء سابقين في الحركة، فاعتذرت كل دور النشر الكبرى في بريطانيا والولايات المتحدة عن طباعته. وأخيراً تجرأت مطبعة الصحيفة التي يعمل بها «صنداي تايمز» على طباعة الكتاب.. فكانت النتيجة أن الحركة الصهيونية اشترت معظم النسخ من المكتبات.. وأحرقتها!
ويتحدث ديفيد هيرست بإسهاب عن الترسانة النووية الإسرائيلية فيقول: إنها خطر جسيم وماحق على العالم إذا ما وقعت يوما ما تحت سيطرة اليمين الأقصى المتطرف في "إسرائيل" الذي تقوم رؤيته نحو العالم على معتقدات «توراتية» تدعو إلى إخضاع البشر أجمعين لسطوة اليهود باعتبارهم «شعب الله المختار».
وإزاء هذه الحقيقة وغيرها يعرب هيرست عن استغرابه إزاء الضخ الدعائي المتنامي في الغرب حول الأصولية الإسلامية مع التجاهل الكامل للأصولية اليهودية.
وما يمكن أن يقال في هذا الصدد يستعصي على الحصر، ففي الولايات المتحدة وأوروبا مؤسسات «فكرية» ذات اسم تتخصص في إصدار دراسات «علمية» عن «الخطر الإسلامي»، وبالإضافة إلى وسائل الإعلام الإلكترونية والمطبوعة في الولايات المتحدة التي تستأجر العقول والأقلام للإساءة إلى الإسلام والمسلمين هناك الضخ السينمائي في هوليوود التي وقعت شركاتها الإنتاجية في يد رأس المال اليهودي منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
وعندما أشار الممثل الأميركي المخضرم مارلون براندو ذات مرة خلال عقد التسعينيات وفي سياق حديث صحفي إلى هذه الحقيقة - مجرد إشارة عابرة - فإنه تلقى من الوعيد ما دفعه إلى «التصحيح» والاعتذار في اليوم التالي.
ونعلم أيضاً أنه منذ استيلاء الثورة الإسلامية على الحكم في إيران عام 1979 أنشأت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية للمرة الأولى قسماً خاصاً بالشئون الإسلامية استأجرت له كخطوة أولى عدداً من السياسيين و«المفكرين» العرب المسلمين ممن خفت موازينهم في الخلق القويم.
لكنها فشلت في استقطاب أمثال ديفيد هيرست ورجاء جارودي رغم أنهم غير عرب وبعضهم غير مسلمين. فاعجب!
"إسرائيل" والمشروع المؤجل لتغيير الشرق الأوسط
بقلم: عاطف الغمري
صحيفة الأهرام 27/8/2003
دائماً كان هناك هدفان متلازمان للمشروع الصهيوني لإقامة دولة "إسرائيل"، منذ طرح فكرة الدولة لأول مرة في القرن التاسع عشر. الهدف الأول أن تقوم الدولة، والثاني أن تهيمن على المنطقة بأن تصبح هي محور النظام الإقليمي للمنطقة سياسياً وأمنياً، ومركز حركته اقتصادياً.
ولنا أن نلاحظ أن الهدف الثاني الذي أخفقت "إسرائيل" في تحقيقه، يحاول أن يتحرك الآن مدفوعاً بطاقة الديناميكية الاستراتيجية للنتائج العسكرية للحرب في العراق، وإن كانت قوة الدفع الأمريكية له، ليست وليدة اليوم، بل إنها تتحرك على أساس من جهود جرت منذ سنوات في الولايات المتحدة لتحقيق هذه النتيجة، وكان يقودها مجموعة - ممن يشغلون الآن مواقع رئيسية ومؤثرة في حكومة الرئيس بوش - منذ تصديهم لتقديم هذه الفكرة في دراسات من خلال مراكز بحوث مرتبطة بـ"إسرائيل"، وفي أوراق كتبت خصيصاً لكي تكون هادياً استراتيجياً لبنيامين نيتانياهو عندما كان يتأهب لتولي رئاسة الحكومة الإسرائيلية في عام 1996، وبرز منهم في القيام بهذا الدور ريتشارد بيرل، ودوجلاس فايث، واليوت أبرامز، من أقطاب حركة المحافظون الجدد التي تدير الآن السياسة الخارجية، والعسكرية في حكومة بوش.
ثم انتقل هذا الهدف من إطار الطرح النظري، إلى دائرة التطبيق العملي، حين أصبح متداولاً بين المراكز السياسية والاستراتيجية في الولايات المتحدة، التي كانت تتابع التخطيط لحرب العراق، بالمتابعة والتحليل ورأت أن إعادة رسم الخريطة الإقليمية للشرق الأوسط، لتحتل فيها "إسرائيل" موقعاً مركزياً سياسياً واقتصادياً وأمنياً، هو أحد الأهداف غير المعلنة رسمياً، لحرب العراق.
وجذور هذا الهدف قديمة قدم التفكير في قيام دولة يهودية، وسجلها نبي الصهيونية ثيودور هيرتزل في عام 1899، في مفكرته، والتي صدرت في عام 1902 في كتابه الدولة اليهودية، الذي يتضمن نظرية سياسية استعمارية، يتحدث عن الهدف الأول وهو قيام "إسرائيل". ثم ينتقل إلى الحديث عن قيام القاعدة الصناعية المتقدمة بعد قيام الدولة، وفتح الجسور بينها وبين الدول العربية، التي تسهم برءوس أموالها في دفع هذا التقدم الصناعي ونموه، وتفتح أسواقها لتستوعب الإنتاج اليهودي، وتسيطر "إسرائيل" على مصادر الثروة في الشرق الأوسط.
وكانت نظرة الحركة الصهيونية للشرق الأوسط، أن له وضعاً متميزاً يجب الاستفادة منه، فالشرق الأوسط كان في أغلب فتراته التاريخية قاعدة لدولة كبرى مثل مصر الفرعونية، والإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية العثمانية وغيرها. وحيث لا توجد في هذا الوقت تلك الدولة الكبرى في الشرق الأوسط، فإن "إسرائيل" يمكن أن تكون هذه الدولة الكبرى.
وكان معروفاً أن الحركة الصهيونية درست جيداً تاريخ الدولة العثمانية منذ قيامها، وحاولت الاستفادة من تجربتها، حيث كانت تركيا التي قامت على أساسها الإمبراطورية العثمانية دولة صغيرة، تجاورها من ناحية الإمبراطورية الرومانية الشرقية التي أصابها الضعف، ومن ناحية أخرى العالم الإسلامي المفكك والمتناحر مع بعضه البعض.
وبالاستفادة من هذه الظروف، كان من اليسير لتركيا الصغيرة أن تسيطر على جيرانها، وتقيم دولتها الكبرى.
* * *
أي أن الهدف الثاني لإسرائيل، تاريخياً، كان يعني أن الصدام حتمي بين المشروع الصهيوني، والمشروع القومي لأي نهضة عربية، وبالتالي كانت العروبة وفكرة القومية العربية، بمعني التكامل العربي سياسياً واقتصادياً وأمنياً، تمثل من البداية عقبة، لابد من العمل على تفتيتها.
ولذلك صاحب كل الحروب العربية الإسرائيلية، حشد إسرائيلي مكثف لأسلحة الردع النفسي، القصد منها إحداث حالة جماعية من الإحباط النفسي. لدى الأمة العربية، وفقدان الثقة بالنفس، ومن ثم الثقة بفكرة العروبة ذاتها، وقدرة العرب على أن يقفوا حتى مع أنفسهم، والتشكيك في الهوية العربية الجماعية، وأصولها الحضارية أو الثقافية، وكان جزءاً من دوافع إثارة الأزمات والحروب الأهلية والإقليمية - وأشهرها الحرب الأهلية اللبنانية، وأزمة غزو العراق للكويت - يرمي إلى توسيع فجوة الشقوق فيما بين العرب والعرب وتفتيت الهوية الجماعية العربية.
وفي الأوقات التي اكتسبت فيها فكرة تفعيل الهوية الجماعية العربية، قوة دفع، فقد كان رد الفعل الإسرائيلي يظهر قوياً ليطرح البديل عن النظام الإقليمي العربي، حدث هذا عقب انتهاء الحرب الباردة في أواخر عام 1989، وما بدأ يسود من اعتقاد، بأن قدرة أي دولة مستقبلاً على مواجهة التحديات والتنافس في العصر الجديد، هي رهن أدائها ضمن تكتل إقليمي اقتصادي، مهما يكن ثراء مواردها.
وإن المستقبل هو للكيانات الإقليمية التي تتكامل اقتصادياً، وبعد أن قفز عنصر القدرة التنافسية الاقتصادية، إلى رأس قائمة أولويات مكونات الأمن القومي للدولة، وعندئذ بدأ الترويج للمبدأ الذي طرحه شيمون بيريز عن الشرق الأوسط الجديد، والذي كان في ظاهره إطاراً للتعاون الإقليمي الاقتصادي والاستثمارات المشتركة وفتح الحدود والأسواق وإن كان في باطنه نبض مشروع الحركة الصهيونية الأساسي والقديم.
عن الهدف الثاني بعد قيام الدولة اليهودية، وهو أن تكون هذه الدولة هي مركز الهيمنة الصناعية أو السياسية والقوة الكبرى في المنطقة.. ليس لأن قوتها خارقة، وإنما لاستفادتها بالتخطيط المنظم، من ضعف الآخرين، وغياب مفهوم التخطيط طويل الأجل عن عملهم. وأن تكون هذه القوة الكبرى، التي تدير قوتها الصناعية والاقتصادية بطاقات دول المنطقة، قادرة على هذا النحو، على أن تكون نداً لدول العالم الكبرى الأخرى.
ويذكرني هذا التوجه الاستراتيجي، بموقف لبنيامين نيتانياهو رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق، أمام المؤتمر السنوي لمنظمة اللوبي اليهودي (الإيباك)، وكنت حاضراً هذا المؤتمر في واشنطن عام 1997 - وكان يعرض لقدرة "إسرائيل" وحدها على قيادة التقدم في المنطقة، بناء على قدرتها على الهيمنة وليس على عملية السلام، يومها قدم في حركة حماسية لأحد علماء "إسرائيل" الذي أمسك بيده وكان جالساً إلى جواره على المنصة، ليطلب منه أن يشرح إنجازاته العلمية، ليقنع الحاضرين بأن الذي يحكم ميزان القوى في المنطقة، هو التقدم العلمي، وعنصر آخر هو الديمقراطية، وراح بنفس الأداء الحماسي الدرامي، وهو يلوح بساعديه في الهواء، يحاول إقناع الحاضرين بألا فائدة من اتفاقات سلام مع أنظمة غير ديمقراطية، وقد علت نبرات صوته وكأنه يصرخ وهو يقول، أنتم (يقصد الأمريكيين) لا تعرفون الشرق الأوسط، الذي نعيش نحن فيه، فهذه منطقة، يحكمها حكام، لا يعني توقيع أي معاهدة، بالنسبة لهم، شيئاً.
أي أن فكرة الهيمنة، وأن تكون "إسرائيل" هي الدولة المحورية، التي تقود وتخطط وتقرر، ظلت في عمق التفكير الإسرائيلي للمشروع الصهيوني، حتى وإن كان موضوع الحديث هو اتفاقات السلام.
* * *
والمشروع القديم للحركة الصهيونية، قد بعث من جديد لعدة أسباب هي:
(1) انقلاب حكومة شارون (الليكود) على ما كان قد بدأ يعرف في أوساط المفكرين اليهود في "إسرائيل" وفي الخارج، بعصر ما بعد الصهيونية، باستكمال السلام الشامل على كل المسارات، بناء على مبدأ الأرض مقابل السلام، وإغلاق ملف النزاع العربي الإسرائيلي، وإعادته للمشروع الصهيوني بكل أفكاره القديمة، عن التوسع، ولغة القوة، والدولة الكبرى.
(2) أن المجموعة التي كانت تساند فكر المشروع الصهيوني من الأمريكيين قد وصلت إلى مقاعد السلطة وصناعة القرار في الولايات المتحدة، وكثير من أفرادها له أفكاره المعلنة والمنشورة منذ سنوات مضت.
(3) أن هذا المشروع كان أحد الأسباب لحرب العراق، فلم يكن ما يشغل أمريكا أو يقلقها وجود صدام حسين، وعلاقته بالقاعدة، ووجود أسلحة دمار شامل في العراق، ولقد ثبت أن الذين اتخذوا قرار الحرب لهذه الأسباب، كانوا يعرفون أن صدام لا علاقة له بالقاعدة، ولا دليل على امتلاكه أسلحة الدمار.
وأصبح دعاة الفكر القديم للهدف الثاني للمشروع الصهيوني بعد قيام الدولة، يرون أنفسهم في طريق صدام مع المشروع القومي لأي نهضة فعلية لتقدم عربي ديمقراطي، يغير من ميزان القوى في المنطقة، والمثير للتأمل أن الصدام هو بين طرف (العرب) يملك طاقات وإمكانات التحول إلى قوة إقليمية ودولية، لكنها منزوع عنها الفكر الاستراتيجي، والإرادة السياسية، والتخطيط، وبين طرف لديه كوادر وخطط، لكنه يعرف أن حلمه لن تقوم له قائمة - بمقاييس العصر، وموازين القوة المتغيرة - إلا إذا وضع يده على مصادر ثروة وقوة الطرف الآخر (العرب) ليقيم منها قاعدة مشروعه.
واللافت للنظر، أن مراكز البحوث السياسية والاستراتيجية في "إسرائيل"، لم تستبعد من برامجها تجاهل، احتمال أن تتنبه الدول العربية لمفهوم الفكر الاستراتيجي الغائب عنها، وأن تزدهر فيها الحركة الديمقراطية، الحقيقية، التي تفتح أبواب الصحوة علمياً، واقتصادياً، وتوسع دائرة الوعي والمشاركة سياسياً، وثقافياً، واجتماعياً، بما يؤدي لتغيير ميزان القوى لمصالحة العرب.
وحين كانت تظهر لهم شواهد تمثل في نظرهم مؤشرات على أن هذا الاحتمال قد يصبح حقيقة، فقد كان ذلك يشكل قوة ضغط على المؤشرات السياسية للقبول باتفاقات تعيد الأرض مقابل السلام، بل كان المزاج لدى الرأي العام، يتجه أكثر نحو قبول السلام.
أما حين تبدو صورة العرب قاتمة بلا أمل في حدوث شيء من هذا، فإن عنصر الضغط نحو السلام يضعف، ويتلاشى مفعوله.
وفيه أن القوى في هذا الصراع بين العرب و"إسرائيل"، تحكمه مكونات يملكها العرب لكنهم لا يملكون وسيلة وضعها في خدمتهم، وخدمة مصالحهم.
مصطلح الدولة اليهودية وماذا يعني؟
بقلم: د. أحمد صدقي الدجاني
صحيفة الأهرام 26/7/2003
حمدت لمجلة العودة التي يصدرها مركز العودة الفلسطيني الذي مقره لندن أنها تناولت في افتتاحية العدد 138 لشهر يونيو حزيران 2003 مسألة الترويج لمصطلح "إسرائيل" دولة يهودية.
أوضحت هذه الافتتاحية أن وزارة الخارجية الصهيونية الإسرائيلية عممت على كل ممثليها في الخارج عدم استعمال مصطلح حق العودة بحجة أنه لا يوجد هناك في القانون الدولي ما اسمه حق العودة وبدلا منه يجب استخدام مصطلح الرغبة في العودة كما حذرت الافتتاحية من أن قبول السلطة الفلسطينية مصطلح "إسرائيل" دولة يهودية أو سكوتها عنه يعني تنازلها عملياً عن حق العودة ودفنه إلى الأبد بشهادة فلسطينية، ومنع عودة اللاجئين إلى وطنهم المحتل عام 1948م، كي لا تؤثر عودتهم على الدموغرافية الإسرائيلية وطابع الدولة اليهودي ونبهت الافتتاحية إلى أن هذا المصطلح يتضمن في طياته توجه الصهاينة نحو طرد أبناء فلسطين من وطنهم بزعم الحفاظ علي نقاء الدولة اليهودية يستوي في ذلك فلسطينيو أراضي67 وفلسطينيو أراضي 48 الذين فرضت عليهم الجنسية الإسرائيلية.
إن من أسرع التداعيات ظهوراً على المسرح هذا القرار الذي اتخذه الكنيست الإسرائيلي يوم الأربعاء 16/7/2003 الذي قدم مشروعه الأعضاء البرلمانيون لكتلة الليكود وفاز بأغلبية 26 وعارضه 8. وقد جاء في نصه عن الضفة الغربية وقطاع غزة الزعم الصهيوني هذه المناطق ليست محتلة، لا من الناحية التاريخية، ولا من ناحية القانون الدولي، ولا بموجب الاتفاقيات التي وقعتها "إسرائيل" وقد دعا القرار إلى مواصلة تعزيز المستعمرات الصهيونية وتطويرها، وإلى التمسك بالخطوط الحمراء الصهيونية وفي مقدمتها السيادة المطلقة على القدس، والاحتفاظ بالمناطق الأمنية الغربية والمناطق الأمنية الشرقية، وطالب في الوقت نفسه وبكل صفاقة بتفكيك ما يسميه الصهاينة منظمات الإرهاب ووقف ما يسمونه التحريض.
هكذا جاهر الكنيست بالموقف الصهيوني مجهزاً على ما تضمنته خريطة الطريق من مسكنات قدمت للفلسطينيين مثل وقف الاستيطان وإقامة دولة فلسطينية عام 2005 وأكمل بذلك موقف أرييل شارون الذي طرحه في لقاء رسمي حضر اجتماع العقبة. لقد جرى تسريب محضر ذلك اللقاء من داخل مركز دانيال زين الصهيوني للأبحاث ووصلني عبر البريد الإلكتروني، وأخضعته كدارس تاريخ إلى علم مصطلح التاريخ فوجدته أن لم يكن صحيحاً وأن الذي صاغه يصور الواقع بأمانة، ورجحت صحته وكان المشاركون فضلاً عن شارون ومستشاريه وموفاز ودحلان، ووليم بيرنز المبعوث الأمريكي ومعه مندوب جورج تينيت والقنصل الأمريكي في تل أبيب.
يصور المحضر في أحد أجزائه رد فعل شارون حين طالبه الأمريكيون بأن يعلن موافقته على خريطة الطريق دون أن يعلن تحفظاته الكثيرة عليها، وأن يترك باقي الأمور معتمداً على الثقة بأمريكا. فرفض شارون ذلك وقال أقول لكم بصريح العبارة إنه لم يخلق في دولة "إسرائيل" من يتنازل عن شبر من أرض "إسرائيل". وأوضح أنه أرسل إلى الرئيس بوش وإلى الكونجرس في واشنطن وزير السياحة في حكومته ليقول لهم: إن الحل الذي نقبله ولا نقبل سواه هو أن يكون الأردن وطن الفلسطينيين، وبإمكان أي فلسطيني في أي مكان كان، بما في ذلك عرب "إسرائيل" التوجه إلى الأردن وإقامة دولتهم فيه. وأردف قائلاً: هذا هو الحل العملي الذي يوفر علينا وعلى الفلسطينيين العذابات وعدم الاستقرار. فإسرائيل من البحر إلى النهر لن تكون إلا دولة يهودية نقية. وقد حملنا وزير السياحة اقتراحاً يقضي بإسكان أهالي الضفة الغربية وقطاع غزة في العراق وتجنيسهم بالجنسية العراقية، للإسهام في عملية تحقيق توازن بين الشيعة والسنة.
يوضح المحضر أن شارون ركز في نهاية اللقاء على طلبه أن يعلم عباس وكل المسئولين الأمريكيين أن دولة "إسرائيل" هي دولة يهودية نقية، وهي لليهود في "إسرائيل" وكل العالم. وحين نبهه وليم بيرنز أن هذا الأمر ليس في مصلحة الإسرائيليين ويبرزهم وكأنهم عنصريون، رد شارون قائلاً: إذا تركنا معادلة التكاثر السكاني على ما هي عليه الآن في "إسرائيل"، فإن دولة "إسرائيل" ستنتهي لأن العرب سيحكمونها وأعلن أنه لم يقبل الذهاب إلى العقبة إلا مثل أن يعلن الأمريكيون أن "إسرائيل" دولة يهودية. فقال وليم بيرنز هذا الأمر يعود إلى بوش وقد عاد الأمر إلى بوش فأعلن بملء الفم في العقبة مصطلح دولة يهودية وأضاف تنبض بالحياة.
يكشف المحضر أن شارون طالب عباس أن يعلق أن "إسرائيل" دولة يهودية، وألا يذكر في خطابه القدس أو الاستيطان أو الحدود أو اللاجئين أو السيادة أو المعتقلين أو عذابات الفلسطينيين أو الاحتلال. وحين تراجع بيان عباس في العقبة نجد أنه لم يذكر دولة يهودية وإنما ذكر عذابات اليهود على مر التاريخ وهو الزعم الصهيوني الذي يتفرع به لطرح فكرة الدولة اليهودية، والتاريخ منه براء، كما خلا الخطاب من النقاط السابقة الذكر.
لماذا أقدم الرئيس الأمريكي جورج بوش على إعلان هويته في العقبة؟ وما دواعي إلزامه بلاده تنفيذ البرنامج الصهيوني لهذه المرحلة؟
في محاولة الإجابة، رجعنا إلى ما بات واضحاً من المخططات الأمريكية للسيطرة على دائرتنا الحضارية، ونهب ثرواتها والتسلط على موارد الطاقة فيها. وكان وقت التأمل فيما أسند من مهام للقاعدة الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية من مهام في هذه المخططات التي أسهم الصهاينة بدور خاص في صياغتها في عهد هذه الإدارة الجمهورية المجاهرة بتبنيها ما يعرف بالصهيونية المسيحية وقد فصلنا الحديث عن ذلك في مقالات سابقة.
وبعد.. فما الذي ينبغي علينا عمله؟
ألا ينبغي أن ننظم فلسطينيين وعرباً على المستويين الشعبي والرسمي حملة على مصطلح ("إسرائيل" دولة يهودية) تتولى شرحه للعالم أجمع ومنهم اليهود غير الصهاينة، وتفضح عنصريته ومخالفته للقانون الدولي ونكشف ما يترتب عليه من تداعيات.
إن جامعة الدول العربية قادرة على رسم خطوط هذه الحملة بمعاونة جميع الدول العربية الأعضاء، وتحديد دور كل عنصر في تنفيذها.
مطلوب أن يتضاعف تركيزنا على حق العودة بقيام كل فلسطيني بإعلان تشبثه به وتنظم الدول العربية حملة لتأكيده ومباشرة البحث في تنفيذه. وقد شهدت لندن يوم السبت 19/7/2003 مؤتمراً جماهيرياً شارك فيه أبناء الشعب الفلسطيني في أوروبا منظمة مركز العودة الفلسطيني أكد على التمسك بحق العودة إلى الوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر لاجئين 48 ولاجئين67 على السواء.
مفروض أن تستمر المقاومة في فلسطين وفي العراق ويتصاعد ضمنها الكفاح المسلح الذي هو السبيل لتنبيه الشعب الأمريكي والشعب البريطاني واليهود غير الصهاينة إلى طغيان حكوماتهم والصهيونية، وكذلك لفرض المراجعة على بوش وبلير والتسليم على شارون. وقد رأينا كيف اقترب بلير من هذه المراجعة حين قال في الكونجرس إن أهم وسيلة لهزيمة الإرهاب في الشرق الأوسط (يقصد مقاومة الطغيان والعولمة المتوحشة) هي التوصل إلى حل للصراع العربي الصهيوني. ورأينا كيف شاء الله أن يخزيه بعد تظاهرة العولميين في الكونجرس احتفالاً به، فإذا بمقتل مستشار وزارة الدفاع البريطانية يوقعه في أزمة غير مسبوقة وما أعظم ما يمكن للمقاومة بكل أبعادها أن تتحقق حين يشارك فيها كل فرد من أبناء أمتنا كل حسب طاقته ومن موقعه، وسوف تجعل بوش يعض أصابع الندم على ما قاله في العقبة. وها نحن نرى ما يفعله فيه أبطالها في العراق وفلسطين.
الحلم الصهيوني للدولة اليهودية
أحمد خليل
صحيفة الوطن القطرية 28/5/2003
الدولة اليهودية حسب الحلم الصهيوني ليست كغيرها من دول العالم، فهي ليست كغيرها دولة للمقيمين فيها وإنما هي دولة لليهود المقيمين فيها وغير المقيمين فيها فقط دون سواهم، ومن هنا تعتبر الصهيونية أي يهودي في العالم مهما كانت جنسيته حالياً وأينما وجد مواطناً في هذه الدولة، وهناك قانون إسرائيلي يعرف بقانون حق العودة يمنح لأي يهودي في العالم حقاً طبيعياً بالهجرة إليها ونيل جنسيتها.
وبالمقابل ترفض "إسرائيل" الاعتراف بالقرار الدولي الذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين الذين عند قيامها عام 1948 أجبرتهم على الهجرة من مدنهم وقراهم وصادرت ممتلكاتهم بالعودة إليها وتعويضهم عما لحق بهم من أضرار، والحجة التي تتذرع بها "إسرائيل" هي أن عودة اللاجئين الفلسطينيين سوف تؤدي إلى تغيير طبيعتها كدولة خاصة لليهود فقط وستنسف الحلم الصهيوني بدولة يهودية خالية تماماً من أي عنصر بشري من غير اليهود.
السؤال الذي بدأ يؤرق المفكرين والمؤرخين الإسرائيليين الجدد في بعض المراكز والجامعات هو هل يمكن الحفاظ على الدولة بأغلبية سكانية يهودية على الأقل إن لم يكن ممكناً جعلها 100% من اليهود؟
من خلال قراءتهم للواقع المعاش يدرك هؤلاء بأن 200 ألف فلسطيني ظلوا في "إسرائيل" بعد قيامها وأصبحوا الآن مليوناً ومائتي ألف نسمة، أي حوالي خمس مجموع اليهود في "إسرائيل" وأن مجموع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية حوالي ثلاثة ملايين نسمة وبذلك تكون نسبة الفلسطينيين إلى اليهود في عموم مساحة فلسطين التاريخية 4:5 وأنه بحكم المعدل المرتفع للمواليد الجدد في أوساط الفلسطينيين وتدنيه في أوساط اليهود فإنه على المدى المنظور سوف يصبح عدد اليهود أقل من عدد الفلسطينيين.
صحيح أن تكاثر السكان اليهود في "إسرائيل" يعتمد بشكل رئيسي على هجرة اليهود إلى "إسرائيل" أكثر من كونه نمواً سكانياً طبيعياً، ولكن إجمالي عدد اليهود في العالم أجمع حوالي 16 مليون نسمة منهم 5 ملايين في "إسرائيل: و6 ملايين في الولايات المتحدة معظمهم لا يحبذون الهجرة إلى "إسرائيل" وإن كانوا من أشد المدافعين عن "إسرائيل" والداعمين لها، ولكن الآفاق لا تؤشر إلى نقاء يهودية سكان "إسرائيل، حتى في حالة نجاح حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي على أساس دولتين تعيشان جنباً إلى جنب بسلام، ففي ظل وجود مليون ومائتي ألف فلسطيني داخل الخط الأخضر ووجود 000. 200 مستوطن يهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة ومحاصرة القدس الشرقية بالأحياء الاستيطانية اليهودية فإن من الصعب فك التداخل بين الشعبين وفصلهما جغرافيا من دون تفكيك المستوطنات وضمان تواصل جغرافي للأراضي التي تقام عليها الدولة الفلسطينية.
مع تعنت الحكومات الإسرائيلية في رفضها التسليم بالمقومات الجغرافية والسيادية لأي دولة فلسطينية في المدى المنظور فإن عملية التداخل السكاني والنمو الطبيعي للسكان المختل لصالح الجانب الفلسطيني سينسف إمكانية الحل بدولتين مستقلتين وستصبح فلسطين التاريخية مأهولة في غضون السنوات العشر أو الـ 15 القادمة بأغلبية سكانية فلسطينية خاضعة لهيمنة أقلية يهودية تحتل شعباً منتشراً في جميع أنحاء فلسطين التاريخية وتتحول الدولة اليهودية إلى وضع شبيه تماماً بوضع دولة الأقلية العنصرية البيضاء البائدة في جنوب أفريقيا، وهذا الوضع لا يتمناه لا الفلسطينيون ولا اليهود بالطبع.
ولكن إذا ما ظلت السياسات الإسرائيلية على النحو الذي سارت عليه حتى الآن فإنها ستكون كمن يمشي إلى حتفه بظلفه فعندما يتحول الفلسطينيون إلى أغلبية مضطهدة في ظل دولة يهودية فلن يستقيم الوضع طويلاً حتى تتجلى العنصرية الصهيونية في أبشع صورها وستفقد الدولة اليهودية سمتها التي تفتخر بها بأنها دولة ديمقراطية فحتى هذه الديمقراطية الصهيونية ليست كغيرها من الديمقراطيات في العالم لأنها ديمقراطية لمواطنيها اليهود فقط وأما مواطنوها من غير اليهود فيعاملون بالضبط مثلما كانت دولة الأقلية البيضاء العنصرية في جنوب أفريقيا تعامل مواطنيها السود- سكان البلاد الأصليين، هذه النتيجة المنظورة في تكهنات المفكرين والمؤرخين الإسرائيليين الجدد هي التي تثير الرعب في نفس كل من يدركها من يهود الولايات المتحدة الأشد حرصا على مستقبل "إسرائيل" ولكن السياسيين الإسرائيليين يرفضون الاعتراف بهذه الحقائق الجارية فعلياً على أرض الواقع لأن معاييرهم التي تحكم تصرفاتهم تهدف إلى تحقيق المكاسب السياسية حتى لو كان ذلك على حساب مستقبل الحلم الصهيوني التاريخي الذي يحمل في داخله بذور فنائه على المدى الاستراتيجي.
آلة المصطلحات الصهيونية: الأرض والحقائق الجديدة
د. عبد الوهاب المسيري
مفكر - مؤلف الموسوعة الصهيونية
صحيفة الاتحاد 25/5/2003
تتسم المصطلحات الصهيونية، كما سبقت الإشارة في مقالاتٍ سابقة، بالمراوغة وبتجاهل حقائق التاريخ والجغرافيا، بل وأبسط مبادئ المنطق السليم في بعض الأحيان، وهو الأمر الذي يجعل من الضروري على الكتاب والباحثين العرب النظر بإمعانٍ في هذه المصطلحات وإخضاعها دوماً لعملية تفكيك وإعادة تركيب وصياغة مصطلحاتٍ مضادة، ومن ثم عدم التوقف عند نقد المصطلح أو إدانته، بل تجاوز ذلك إلى تعرية المفاهيم الكامنة خلفه، بما يتيح التصدي لها فكرياً وعملياً. ومن المفيد، في هذا السياق، إلقاء الضوء على طائفةٍ من المصطلحات المترابطة التي تتواتر في كتابات وتصريحات الساسة والكتاب الصهاينة، ومحاولة كشف ما تنطوي عليه من رؤى.
إرتس يسرائيل: يستخدم الصهاينة هذا المصطلح، ويصرون على إشاعته، للإشارة إلى فلسطين المحتلة، وهو ترجمة دينية إثنية للتصور القائل إن فلسطين هي مجرد أرضٍ بلا شعب. وقد أكد مناحم بيجين في خطابٍ لأعضاء أحد الكيبوتسات أنهم لو اعتبروا تسمية (إرتس يسرائيل) مرادفةً لاسم فلسطين فإنهم بذلك سيكونون غزاة ولصوصاً، ولذلك فعليهم أن يصروا على أنها (إرتس يسرائيل) وليست فلسطين. وتغيير اسم البلد الذي يغزوه الإنسان الأبيض نمط متكرر، فزيمبابوي أصبحت تُسمى روديسيا، وأراضي فلسطين التي احتُلت بعد عام 1967 أي الضفة الغربية، صار يُطلق عليها اسم يهودا والسامرة.
يهودا والسامرة: يحاول الصهاينة دائماً محو فلسطين من الخرائط ومن الذاكرة، ولذا فهم يشيرون إليها بالمصطلح التوراتي (إرتس يسرائيل). وتسمية (يهودا والسامرة) هي تعبير عن الاتجاه نفسه، فبدلاً من الإشارة إلى الضفة الغربية التي تستدعي إلى الذاكرة الوجود العربي، يستخدم الصهاينة كلمة يهودا للإشارة إلى جنوب الضفة والسامرة (أو شومرون) للإشارة إلى شمالها.
تحرير القدس وتوحيدها: يستخدم الصهاينة هذا المصطلح انطلاقاً من مفهوم أن فلسطين هي (إرتس يسرائيل) وأرض الميعاد والوطن القومي اليهودي، ومن ثم يكون احتلال القدس هو تحرير لها، ويكون ضم القدس الشرقية هو توحيدها.
إعلان استقلال "إسرائيل": ينطلق هذا المصطلح، شأنه شأن المصطلح السابق، من المفهوم الصهيوني المتحيز القائل إن فلسطين هي (إرتس يسرائيل)، ومن ثم يكون العرب غزاة ومحتلين لهذه الأرض. وحينما يحضر اليهود من كل أنحاء العالم فإنهم يقومون بـتحريرها من هؤلاء الغزاة ومن ثم يكون احتلالها هو إعلان استقلالها. وانطلاقاً من هذا المفهوم يمكن الادعاء بأن الصهيونية هي حركة تحرير الشعب اليهودي.
خلق الحقائق الجديدة - خلق حقائق على الأرض: تتواتر عبارة خلق حقائق جديدة أو خلق حقائق على الأرض في عبارات الخطاب الصهيوني. وقد وردت العبارة في أقوال وايزمان وجابوتنسكي وموشيه ديان بعد حرب عام 1967. والعبارة تجسد مفهوماً أساسياً كامناً في الفكر الصهيوني والفكر الإمبريالي عامة، فهو فكر لا يؤمن بأية قيم أخلاقية ولا يحتكم إلى أية منظومات معرفية، وهو فكر دارويني صلب وبراجماتي مرن في ذات الوقت، فبراجماتيته هي مجرد آلية، أي تحقيق الأهداف النهائية بالتدريج وليس دفعة واحدة. والهدف النهائي هو الاستيلاء على كامل أرض فلسطين عن طريق استخدام القوة.
وتتبدى خاصية المراوغة في الخطاب الصهيوني في عبارة خلق حقائق جديدة. فالصهيونية عقيدة تتضمن أطروحتها الأساسية (أن فلسطين هي إرتس يسرائيل، وطن اليهود القومي) مسألة طرد العرب والاستيلاء على أراضيهم وتأسيس دولة يهودية خالصة. ولكن لأسباب عملية عديدة لم يتمكن الصهاينة من الإعلان عن أهدافهم وأعلنوا أنه لا توجد لديهم أية أطماع توسعية، بل وأنهم يرحبون بوجود العرب داخل الدولة الصهيونية، وكأن هذا أمر ممكن بالفعل. ولكنهم كانوا يعلمون أنه حين تتغير موازين القوة وحين تحين اللحظة فبإمكانهم التحرك لتحقيق الأهداف الكامنة (طرد العرب- الاستيلاء على أراضيهم) فيغيرون الوضع القائم ويخلقون حقائق جديدة لدعم الوضع القائم الجديد المبني على العنف، ويتم تعديل الأهداف الصهيونية المعلنة بما يتفق مع الوضع الجديد.
وهذا ما فعله الصهاينة بالضفة الغربية بعد عام 1967، فقبل ذلك التاريخ لم يكن هناك من يتحدث عن ضم الضفة الغربية إلا بعض المتطرفين الذين لا يُؤخذ كلامهم على محمل الجد، إذ كان الهدف المعلن هو العيش في سلام مع العرب داخل حدود 1948. ولكن بعد أن تم ضم الضفة الغربية قام الصهاينة بتكثيف الاستيطان لخلق حقائق جديدة حتى يواجهوا العالم الخارجي بأمر واقع جديد ويتم حينذاك إعادة تعريف السلام، فيصبح الانسحاب من بعض أجزاء الضفة الغربية فحسب وهو الحد الأقصى الممكن.
توغل: حينما يصدر بيان عسكري إسرائيلي يتحدث عن توغل القوات الإسرائيلية في مناطق السلطة الفلسطينية فهو يعني في واقع الأمر إعادة احتلال هذه المناطق والهجوم على الممتلكات والبشر واغتيال بعض القيادات الفلسطينية.
صِدَام: تقول الصحف الإسرائيلية إنه حدث صدام بين القوات الإسرائيلية وبعض الفلسطينيين (وعادةً ما يُوصفون بأنهم إرهابيون). وهو مصطلح يصور المسألة كما لو كانت مواجهةً بين طرفين متعادلين في القوة وليست مواجهة بين شعب صاحب حق يقاوم من جهة، وقوة احتلال مغتصبة من جهة أخرى.
دائرة العنف: يحاول هذا المصطلح مرة أخرى إظهار أن الصراع العربي- الإسرائيلي هو صراع لا يمكن حسمه، فهو بمثابة دائرة ما أن تنتهي حتى تبدأ مرة أخرى، وهي تدور لأسباب غير مفهومة. فليس هناك سبب أو نتيجة. ولأنها دائرة تدور بقوة الدفع الذاتي فلا يمكن أن تتوقف إلا بتدخل قوة خارجية. والصراع كما نراه نحن ليس دائرة عنف وإنما هو ظاهرة مفهومة لها سبب وهو قيام الصهاينة باغتصاب الأرض الفلسطينية، والنتيجة هي أن أصحاب الأرض نظموا أنفسهم وقاوموا المحتل. وهي ليست دائرة تدور إلى ما لا نهاية، فمن معرفتنا بالتاريخ، عادةً ما تنتهي هذه المواجهة بانتصار المستضعفين كما حدث في الجزائر وجنوب أفريقيا واليابان.
آلة المصطلحات الصهيونية: الحكم الذاتي
د. عبد الوهاب المسيري
مفكر - مؤلف الموسوعة الصهيونية
صحيفة الاتحاد الإماراتية 13/5/2003
لا تتوقف آلة المصطلحات الصهيونية عن الدوران، فهي تحاول على الدوام صياغة مصطلحاتٍ تعكس الرؤية الصهيونية وترسخها، وإذا لم يتيسر ذلك فهي تلجأ إلى إضفاء المفهوم الصهيوني على المصطلحات المتداولة بعد إفراغها من أية مضامين مضادة من وجهة النظر الصهيونية. ويتبدى ذلك مثلاً في مصطلح الحكم الذاتي الذي أصبح إحدى الركائز الأساسية في أي حديث عن تسوية النزاع العربي- الصهيوني.
فالصهاينة يدركون أهمية ألا يفقدوا المعركة الإعلامية، وبالتالي فإنهم يتحدثون عن الحكم الذاتي ولكنهم يخلعون على المصطلح مضموناً صهيونياً محدداً ينبع من رؤيتهم للعرب. وثمة اختلاف بين الصهاينة بخصوص مفهوم الحكم الذاتي، فهناك المعتدلون من أعضاء حركة السلام وما يُسمى اليسار الصهيوني الذين يطالبون بالانسحاب من الضفة الغربية وفك المستوطنات، وهناك المتطرفون من أعضاء ما يُسمى اليمين الإسرائيلي الذين يطالبون بالاحتفاظ بكل الأرض التي ضمتها إسرائيل عام 1967. وهناك من يقفون في الوسط بين الطرفين، فيطالبون بالانسحاب من بعض الأراضي الفلسطينية وفك بعض المستوطنات الصغيرة والاحتفاظ بالمستوطنات الكبيرة.
وعلى رغم كل هذه الاختلافات، فمن الضروري ملاحظة نقاط الاتفاق بين هذه التيارات، وهي تتبدى فيما يلي:
1 - يلاحظ أن جميع الصيغ الصهيونية المتطرف منها والمعتدل، اليميني منها واليساري، لا تتوجه البتة لقضية الفلسطينيين الذين طُردوا عام 1948 واستوطنوا سوريا ولبنان والأردن ومصر وأنحاء أخرى متفرقة من أرجاء العالم العربي. ولا تذكر هذه الصيغ قضية الفلسطينيين الذين يطالبون بحقوقهم في حيفا ويافا وعكا وكل بقعة في أرض فلسطين المحتلة، والذين صدرت قرارات من هيئة الأمم لتأكيد حقهم في العودة إلى ديارهم أو في التعويض لمن لا يريد منهم العودة.
2 - لا يتحدث الصهاينة مطلقاً عن الأراضي الواقعة خلف الخط الأخضر، أي فلسطين التي احتُلت عام 1948، والتي خصصها قرار التقسيم للفلسطينيين مثل الجليل وغيرها من المناطق. وهكذا حوَّل الخطاب الصهيوني الخط الأخضر إلى مطلق صهيوني جديد لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وعلينا قبوله والخضوع له.
3 - يُلاحظ أن كل الحلول مبنية على فكرة القسر والخضوع وعلى الفرض القائل بأن أحد الطرفين سيجبر الطرف الآخر على التسليم بوجهة نظره. فالصهاينة يرون أن رؤيتهم للتاريخ هي الرؤية الوحيدة السليمة التي لا يمكن التراجع عنها على مستوى العقيدة حتى لو تم التراجع عنها على مستوى الإجراءات العملية المؤقتة. وقد لخص ذلك الموقف أهارون ياريف بقوله: إن الصهيونية، حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي، اصطدمت بالحركة القومية العربية عامة والحركة القومية الفلسطينية خاصة. ولكنه يضيف على الفور إن أقواله هذه لا تنطوي على تنازل أو استعداد للتنازل عما يعتبره حق اليهود التاريخي في إرتس يسرائيل وفي علاقتهم التاريخية بها.
ومن شأن هذا الموقف المبدئي السائد في صفوف جميع الصهاينة أن يخلق استعداداً كامناً دائماً لدى كل الصهاينة، مهما كان موقعهم على خريطة المتصل الإدراكي السياسي، إلى الانزلاق في نهاية المطاف نحو تغييب العرب وإنكار حقهم في إنشاء دولة حقيقية خاصة بهم إن سنحت الظروف، كما أنه يضفي صفة الشرعية على موقف دعاة "إسرائيل" الكبرى. فالأصل في الموقف الصهيوني هو ابتلاع كل الأرض وتغييب كل العرب والاستثناء هو المرونة والاستعداد للتفاوض بشأن الأرض خارج الخط الأخضر وبشأن الفلسطينيين خارجه.
وفي هذا الإطار ظهر مفهوم الحكم الذاتي الذي يرى أن الحقوق اليهودية في فلسطين مطلقة ولا تقبل النقاش، أما الحقوق الفلسطينية فليست أصيلة، هذا إن تمت الإشارة أصلاً إلى أن ثمة حقوقاً فلسطينية. فالأرض، حسب هذه الرؤية، هي ملك للشعب اليهودي منذ الأزل، ووجود شعب آخر فيها (أي الشعب الفلسطيني) هو من قبيل الصدفة ليس إلا. ومن ثم، فإن أية حقوق تُمنح للفلسطينيين هي من قبيل التسامح الصهيوني أو التكيف العملي مع أمر واقع، وينبغي على الفلسطينيين بالتالي أن يقبلوا بأية صدقات يغدقها عليهم السخاء الصهيوني.
وتعبيراً عن هذا الموقف الصهيوني المبدئي تقرر فصل الشعب الفلسطيني العرضي الزائل عن الأرض الصهيونية الدائمة والأبدية، وأصبح الحديث عن الحكم الذاتي يعني التعامل مع كتلة سكانية وليس مع شعب وأرض، ويهدف إلى منح بعض السكان الذين تصادف وجودهم فيها بعض الحقوق دون أن يكون لهم على هذه الأرض ظل من السيادة. ولهذا، يؤكد الساسة الصهاينة دائماً أن أية سلطة فلسطينية يجب ألا تكون لها أية سلطة على المجال الجوي أو موارد المياه في الأراضي الواقعة تحت إدارتها، وليس من حقها تشكيل جيش فلسطيني. ووفق هذا المفهوم، يتعين على الفلسطينيين أن يعيشوا في مدن وقرى أشبه بالمعازل في المناطق كثيفة السكان، على أن تظل إسرائيل هي وحدها المسؤولة عن الأمن في كل المناطق وتحديد المعابر والشواطئ والطرق الرئيسية. وإذا كان هذا الحكم الذاتي يمنح الفلسطينيين قدراً من الاستقلالية في إدارة بعض أوجه حياتهم، فإن هذه الاستقلالية لا تمتد بأية حال إلى الأرض، إذ تبقى السلطة النهائية والمطلقة في أيدي الصهاينة.
ومع هذا، فلابد من الانتباه إلى أن ثمة فروقاً قد لا تكون جوهرية ولكنها كبيرة بين رؤية حزب العمل ورؤية حزب الليكود للحكم الذاتي، وهي تنبع من تصور كل من الحزبين لوضع "إسرائيل" الدولي والمحلي ومقدرتها على قمع الفلسطينيين وتحقيق الأمن لنفسها. وهذه الفروق تعبر عن نفسها في البرامج السياسية لكلا الحزبين. ولكن من الضروري الانتباه أيضاً إلى أنه عند الانتقال من عالم النظريات والبرامج إلى عالم الممارسة الفعلية فإن نقاط الاتفاق والإجماع تؤكد نفسها على حساب نقاط الاختلاف.
الصهيونية.. الشكل الأخطر للعنصرية
يونس إبراهيم
صحيفة البعث السورية 27/4/2003
إذا كان تاريخ العالم قد عرف أشكالاً مختلفة من العنصرية، فكراً وممارسة، إلا أن الصهيونية تختلف عن تلك الأشكال بكونها الأكثر خطراً، ذلك أنها تجعل مرتكز هذه العنصرية عقيدياً نابعاً من أصول دينية.
إذا كان الخطاب العربي يصف الصهيونية بالعنصرية، فإن ذلك لم يكن على سبيل التجني أو الوصم المختلق، إذ يعاني العرب من الأساليب العنصرية للصهيونية، ويكابدون صنوف ألوان القهر على نحو لم يذكر في أي مشهد من مشاهد التاريخ عبر مراحل السيرورة البشرية، زد على ذلك أن هناك الكثير من الشعوب والأمم في هذا العالم تشاطرنا الرأي في هذا الوصف، وعلى الأخص شعوب أوروبا، لما لها من بعض تجارب مع الحركة الصهيونية.
ومن يقرأ كتاب «المفسدون في الأرض» لمؤلفه حسن ناجي، سوف يقف على تلك المشاهد والصور التي ذكرها المؤلف في كتابه، خصوصاً فرنسا وأسبانيا ورومانيا، وقد أفرد الكثيرون من الكتاب والمفكرين كتباً وبحوثاً خاصة يتحدثون فيها عن العنصرية الصهيونية من خلال دراستهم لأفكارها وممارساتها وتأثيراتها على تلك المجتمعات والأمم التي عاشت بين ظهرانيها، فعاثوا فساداً وجوراً في أرجائها وبين أهليها.
لقد عرف التاريخ أنواعاً من العنصرية كالنازية والفاشية، أو العنصرية التي مارسها البيض في جنوب أفريقيا، أو ناميبيا ضد العرق الأسود، والتي تمثل في موازين الأخلاق أحط ما يمكن أن ينحدر إليه العقل والضمير البشري، ولكن تلك العنصريات كانت ترتكز بكل أبعادها على أسس نفسية، وعلى مصالح سياسية اقتصادية، بخلاف العنصرية الصهيونية المنبثقة من جذور عقيدية مستمدة من أصول دينية.
ولكن بداية لابد من الفصل والتمييز بين التوراة الحقيقية وبين التوراة والتلمود اللذين هما من صناعة الحركة الصهيونية، إذ نجد نصوصاً تفيض بالحقد والكراهية على جميع البشر الذين يعتبرون في نظر هذه العنصرية حيوانات يجب قتلها والتخلص منها، مستندين بذلك، وبحسب ادعائهم، إلى أنهم عندما هاجموا فلسطين وكان فيها سبعة شعوب «الكنعانيون والفرزيون والبيوسيون والجيوشيون...الخ»، وقاموا بقتل هؤلاء الشعوب، فقد فر بعض الأفراد والجماعات الذين يظنون أن أنسالهم وذراريهم ما زالت تتواتر في أصلاب البشرية حتى الآن، لهذا يجب قتل كل ما يمكنهم من هؤلاء الناس، ظناً منهم أنهم قد يكونون من سكان فلسطين القدامى الذين لم يطلهم القتل.
والقاعدة التي ابتدعوها «أنهم شعب الله المختار» افتراء على الله إنما هي من صنع أولئك الأحبار والربانيين، تدليلاً على عنصرية موغلة في الحقد على الآخرين، ولكي يبرروا هذه الفرية التي ابتدعوها على لسان الله، فقد وضعوا النص التالي بعد أن أنبوا إلههم لخلقه خلقاً آخر غيرهم، فأخبرهم، بحسب زعمهم، قائلاً: «إني ندمت لأني خلقت خلقاً آخر غير شعبي، ولكني ما خلقتهم إلا لأحد أمرين: إما ليكونوا خدماً لكم بمنزلة العبيد، وإما ليكونوا بالنسبة لكم كالنعاج وأنتم بالنسبة لهم كالذئاب الخاطفة، أينما وجدتموهم فاقتلوهم».
وتأكيداً على هذه القاعدة فإننا نورد ما قاله الحاخام العنصري عوفيديا يوسيف خلال اجتماع الكنيست الصهيوني في 9/4/2001: «العرب أشرار وملعونون.. اقتلوهم ودمروهم بالصواريخ لأنهم هم الثعابين، يجب إبادتهم»، فاليهود وبحسب المفهوم العنصري للصهيونية، هم وحدهم المقدسون المطهرون، أما الأغيار فهم أنجاس وثنيون تجب محاربتهم والقضاء عليهم، وإذا استحال عليهم ذلك فيجب النظر إليهم نظرة دونية ممتلئة بالازدراء والاحتقار، ولنعاين النص التلمودي التالي فيما يتعلق بالأغيار فيقول: «إن الإسرائيلي معتبر عند الله أفضل من الملائكة، وإذا ضرب أمي (أي أحد الأغيار) إسرائيلياً، فكأنما ضرب العزة الإلهية».
فهل هناك بعد هذا من تطرف وإرهاب واستكبار وعنصرية أوضح وأخطر من ذلك؟.
وقد أضافوا في التلمود أكذوبة أخرى، فجاءت في قمة ما يمكن للإنسان أن يتصور من عنصرية وكره وازدراء للآخرين، إذ ورد النص التالي: «إن الكلب هو أفضل من الأجانب!!»، وقد عللوا ذلك بالذريعة التالية: «إنه مصرح لليهودي أن يطعم الكلب في الأعياد، ومحرم عليه أن يطعم الأجانب، وغير مصرح له أن يعطيهم لحماً، بل يقدم اللحم للكلب لأنه أفضل منهم».
أيعقل أن يحرض الله على القتل، فقد جاء، حسب زعم عنصري باطل، أن الله خاطب اليهود بقوله: «إنكم بمقدار ما تقتلون من الأغيار تكونون قريبين مني!!.. وأن من يقدم ذبيحة بشرية قرباناً للرب، هي مقبولة وأفضل من الذبيحة الحيوانية!».
ومن هنا نجد أن اليهودي مطلوب منه بحسب الأحكام والقواعد التلمودية العنصرية إذا مر بالقرب من مقبرة للأغيار، أن يبصق ويلعن آباء هؤلاء الموتى وأمهاتهم، ولكن الأخطر من هذا كله تلك الفتوى التي قدمها الحاخام شيمون وايزر حاخام القطاع الأوسط لأحد مريديه، الجندي موشيه، الذي يستفتيه فيمن يقتل أيام الحرب، وقد جاء الجواب بالحرف في كتاب "إسرائيل شاحاك": «اعلم يا بني بأنه حسب فتاوى موسى بن ميمون أن شر الأفاعي اسحق دماغها، وأن أفضل الأغيار يجب أن تسحق دماغه كالأفعى، وأما العربي فأفضل شيء تقدمه له هو أن تجعل حربتك تستقر في أمعائه!».
هذه هي بعض النماذج من نصوص عنصرية تنسب إلى الدين اليهودي، تحرض على العنصرية والانغلاق وكره الآخر، وتسوغ القتل والتدمير، وهذا ما يسقط ادعاءات السلام والحرية التي طالما نادى بها القادة الصهاينة، والتي لم تعد تعني الكثير لهم في هذه الحقبة التي يجدون فيها الدعم الكامل، وبلا حدود، من القوة الأعظم، مما جعل قاتلاً سفاحاً مثل شارون يتولى زمام الأمر في "إسرائيل"، معلناً عداءه المطلق للسلام.
الجذور الصهيونية للإرهاب الأمريكي البداية والنهاية
حسني إبراهيم الحايك/ باحث مهندس
1- المقدمة:
إن المضحك والمبكي في عالمنا الحاضر، عالم ما يسمى بالقطب الواحد، الذي تتحكم به طغمة مهووسة من اليمين الأمريكي المتصهين، والذي يخضع كليا لمفاهيم توراتية خرافية فرضت عليه إعلان الحرب على الإسلام، تحت مسميات جديدة منها الإرهاب. مع أن الولايات المتحدة تمارس الإرهاب بكافة أشكاله بموجب مسوغات تشوبها الاستخفاف بعقول البشر، وما يسمى بالحضارة الإنسانية.
أمريكا تعلنها حرباً على الإرهاب. مع أن ظاهرة الإرهاب تعد من أقدم الظواهر التي هددت أمن البشرية على مدار تاريخها، ولعب اليهود دوراً بارزاً في ذلك، من خلال إثارة النعرات وإشعال الفتن والحروب. كما أن الاندفاع نحو اتهام العرب والمسلمين بالإرهاب ومطاردتهم في عقر دارهم، إنما يعود ذلك إلى حقد عنصري مشحون بعداء صهيوني عقائدي متجذر في مجموعة كبيرة من المجتمع الأمريكي.
إن ظاهرة الإرهاب من الظواهر التي يجب محاربتها وخصوصاً الإرهاب الصهيوني المتمثل بشقيه الصهيوني اليهودي والصهيوني المسيحي، مع التمييز بين أعمال الإرهاب الذي لا يعتمد على أسس إنسانية أو أخلاقية، وأعمال المقاومة المشروعة لتحرير الأرض والإنسان، أو الدفاع عن الحقوق الوطنية أو القومية لأي شعب. وهو نضال مشروع في القانون الدولي، بعكس الإرهاب الذي يهدف إلى بث الرعب في نفوس الآخرين، و الذي يؤدي إلى استخدام أعمال العنف ووسائل القتل والبطش والإبادة من دون تمييز ، بهدف ترويع المجتمعات والدول. ويكون لها غالباً دوافع آنية مرضية تخص مصالح المجموعة أو الدول التي تمارسها. كما هو حال الولايات المتحدة و"إسرائيل". فالعوامل الذاتية لا الموضوعية هي التي تتحكم في ضبط مفهوم الإرهاب في هذا العالم أحادي القطبية الظالم.
2 - منطق الإرهاب الأمريكي:
إن أغلب الأدبيات الغربية الصحفية والأكاديمية لا تميز بين حركات التحرر والأعمال الإرهابية، بين إرهاب الدولة كحالة "إسرائيل" والولايات المتحدة، وبين كفاح الشعوب المستضعفة ودفاعها عن ماضيها وحاضرها ومستقبلها. وما يؤكد ذلك المفهوم الغربي الخاطئ، ما كتبه (روبرت كوبر) مستشار رئيس الوزراء البريطاني للشؤون الخارجية تحت عنوان "إعادة تنظيم العالم" مبرراً إرهاب الدولة بقوله: "إن التحديات التي تواجه الدول ما بعد المتقدمة تجعلها تستعمل فكرة ازدواجية المعايير، وتتعامل تلك الدول فيما بينها وفق نظم القوانين الأمنية لكن عندما يتم التعامل مع أكثر الدول تأخراً خارج دائرة الدول فوق المتقدمة، تكون الحاجة إلى التحول إلى الوسائل القاسية للعصور الأولى عبر القوة والهجوم المباغت والخداع، وبكل ما هو ضروري للتعامل مع أولئك الذين يعيشون في عالم القرن التاسع عشر... إننا فيما بيننا نتمسك بالقانون، لكن عندما نعمل في غابة يجب علينا استعمال قوانين الغاب."
وهذا هو منطق الإرهاب الأمريكي التي تقوده الآن إدارة بوش ضد العالم تحت شعارات مختلفة وبإلهامات شيطانية متعددة، ومنظريها دائماً الصهاينة ومرجعهم دائماً ما يسمى بالتوراة. فهذا الصهيوني (صموئيل هنتغتون) الذي أطلق نظريته "صراع الحضارات" والتي تنطلق من نفس المفهوم، والتي تستعدي صانعي القرار في الغرب ضد الحضارة الإسلامية. و نظرية أخرى لفوكوياما "نهاية التاريخ" والتي تمجد الحضارة الغربية وتعتبرها أفضل الحضارات، وأحق الثقافات بالبقاء. وبما أن الثقافة اليهودية انتشرت في أوروبا بعد أن كانت حكراً على بعض الحاخامات، على يد الحركة الإصلاحية التي نادى بها مارتن لوثر، وسادت بعد أن كثر اتباع هذا المذهب، فهذا يعني حسب رأي فوكوياما أن السيادة على العالم ستكون للصهيونية. ونظرية أخرى هي نظرية نهاية عصر الأيديولوجيات التي تبشر بسيادة واحدة، هي سيادة الأيديولوجية الأمريكية على سائر الأيديولوجيات.
3 - الإرهاب على الإسلام:
إنه لا شك إرهاب آخر بلباس عقائدي، فكري، أيديلوجي وثقافي، هدفه القضاء على كل المعتقدات وخصوصاً على الدين الإسلامي. حرب إرهابية عالمية مجرمة (هرمجدون) يقودها بوش على العالم الإسلامي. وكشفت عن ذلك مجلة "موثر جونز" في شهر حزيران 2002 حيث ذكرت: "أن العديد من الدوائر الثقافية الأمريكية المؤثرة، اعتمدت فكرة إشاعة التشكيك في القرآن الكريم من جانب المثقفين الغربيين"، وانتقدت هذه المجلة عدم قيام العالم المسيحي، والإعلام الغربي عقب 11 سبتمبر، بالتشكيك في صحة القرآن الكريم، كحل لإنهاء ما يسمى بالتعصب الإسلامي وإيجاد بدائل له. وقد نجحت هذه الحملة في دفع العديد من الصحف والمجلات الأمريكية والغربية، والعديد من القساوسة المتصهينين للهجوم على الدين الإسلامي، واعتباره (منبع الشر)، الذي يغترف منه (الإرهابيون)، كما عادت القنوات التلفزيونية الأمريكية والمجلات والجرائد لنصب محاكمات للقرآن الكريم والهجوم عليه. والهجوم المجنون على الرسول صلى الله عليه وسلم، والمطالبة بتدمير الكعبة المشرفة. فقد ذكرت مجلة (Israel Insider) :" أن الأمريكيين مثل الإسرائيليين يتميزون من بين الأمم، باحترامهم للحياة البشرية البريئة، وهم لا يستهدفون المدنيين عن قصد وإصرار! وإذا تضرر المدنيون عن غير قصد بسبب العمليات العسكرية تأسفوا على ذلك عن صدق…! ففي مكة يوجد برجان طويلان، في شكل (منارتين شامختين) تحيطان (بعلبة سوداء عريضة)، يعبدها المسلمون، ويتجهون إليها في حجهم المقدس، وإلى هذا الشيء الرمزي يتجه كل المسلمين في صلواتهم ، فلا بد من إقناع المسلمين بشكل لا لبس فيه أنهم لن يجدوا أي قبلة يتجهون إليها حينما يحنون ظهورهم لعبادة (إله الخراب) الذي يعبدونه".
وفي 6/1/2002 ظهر الشيطان الإرهابي الصهيوني (جيري فالويل)، (المعروف عنه إنه كاذب وانتهازي وعائد من أساطير وميثيولوجيات العهد القديم، والذي خدع الشعب الأمريكي حين قال لهم: "إن اليهودي هو بؤبؤ عيني الله ، ومن يؤذي اليهودي كأنه يضع إصبعه في عين الله" والذي قال لهم أيضاً: "لا أعتقد أن في وسع أمريكا أن تدير ظهرها لشعب "إسرائيل" وتبقى في عالم الوجود، والرب يتعامل مع الشعوب بقدر ما تتعامل هذه الشعوب مع اليهود." ليقول: "أنا أعتقد أن محمداً كان إرهابياً وأنه كان رجل عنف ورجل حروب". وأساء زعيم آخر للمسيحية الصهيونية وهو (بات روبرتسون) للرسول صلى الله عليه وسلم حين تحدث في برنامج (هانتي وكولمز) الذي تبثه قناة (فوكس نيوز) حيث اتهم الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه لص وقاطع طريق). وفي الاجتماع السنوي للكنيسة المعمدانية الجنوبية في مدينة (سانت لويس) في ولاية (ميسوري) الأمريكية تحدث قطب آخر من أقطاب المسيحية الصهيونية وهو (جيري فاينر) بافتراءات آثمة في حق النبي صلى الله عليه وسلم. وخدمة لنفس المخطط الشيطاني تحدث القس فرانكلين جراهام واتهم الإسلام بأنه"ديانة شر" حيث قال في 10/11/2002 :" ينبغي علينا الوقوف بوجه هذا الدين الذي يقوم على العنف.. إن إله الإسلام ليس إلهنا، والإسلام دين شرير وحقير".
أستغفر الله العلي القدير، إنني ذكرت عبارات كتبها شياطين الصهاينة الملحدين، وذلك لكشف خططهم الجهنمية الإرهابية وما يخططون له ضد الإسلام والمسلمين وفضح إرهابهم الدموي المهووس. إنهم فئة من الناس اتخذت من الشيطان إلها فعبدته بأسماء مختلفة حسب كتابهم المسمى بالتوراة أو العهد القديم، فهو تارة يسمونه يهوه وتارة يسمونه إله "إسرائيل"، وتارة يسمونه رب الجنود، وتارة يظهرونه ضعيفاً متردداً غير واثق من نفسه يسير حسب أهوائهم الشريرة، ويقوم بأفعال شريرة، وتارة يشركون معه آلهة أخرى كما ورد في كتابهم :" الآن علمت أن الرب أعظم من جميع الآلهة، لأنه في الشيء الذي بغوا به كان عليهم". وتارة يصورونه لاجئاً يسكن خيمة يسير بها أمام شعب "إسرائيل" كما ورد في كتابهم:" وفي تلك الليلة كان كلام الرب إلى ناثان قائلاً: اذهب وقل لعبدي داود هكذا قال الرب. أأنت تبني لي بيتاً لسكناي. لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني "إسرائيل" من مصر إلى هذا اليوم، بل كنت أسير في خيمة وفي مسكن". وتارة جاهل لا يعلم بما يعمل، ويتراجع ويندم عما فعل مثل "رأى الرب فندم على الشر".
عن أي إله يتحدثون إنه الشيطان الرجيم الذي حرك غرائزهم المجنونة، فمجدوا الرذيلة، ولعنوا الفضيلة، وقلبوا موازين الأخلاق، حتى غدا التزوير والتدليس والكذب الصفات الملائمة للسياسة العالمية، التي تقودها الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي. ومن ضمن هذا التزوير مصطلح مكافحة الإرهاب. والحقيقة أن القائمين على فكرة مكافحة الإرهاب، هم أنفسهم من زرع كياناتهم الإرهابية على صدور أهلها المسالمين، ولعل إبادة الهنود الحمر في أمريكا، وإبادة الشعب الفلسطيني وطرده من أرضه لأصدق دليل على ذلك. أصبح النعت بالإرهاب من أسلحة العصر الحديث يستخدمها الصهاينة في مخططهم العالمي لمحاربة الإسلام، هذا نفسه منطق الإرهاب الأمريكي الذي تقوده الصهيونية المسيحية.
4- العهد القديم هو سبب الإرهاب العالمي:
المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تتعامل بها الإدارة الأمريكية مع شعوب العالم الأخرى، بل مع الشعب الأمريكي نفسه، فلذلك سنسلط الضوء على الأسباب والخلفيات والدوافع لهذا الإرهاب الأمريكي بشقيه الداخلي والخارجي. ومن أين أتى هذا الحقد على الله ورسله وأنبيائه؟ ومن أين أتت هذه العنصرية والتعصب الصهيوني الأعمى؟ ومن أين أتى هذا الإرهاب على الإسلام والمسلمين؟
يعتقد معظم الباحثين أن ما يسمى التوراة أو العهد القديم هو عصب العنصرية والتعصب والإرهاب الصهيوني بشقيه اليهودي والمسيحي. فالعهد القديم يذخر بأيديولوجية الحرب والإبادة والسحق والإرهاب، والحرب لا تذكر في العهد القديم كحالة دفاعية بل هي النموذج الواضح للإرهاب الحقيقي، من خلال الدعوة لسحق الشعوب وامتلاك أراضي الغير، والسيطرة على مقدرتها، والتحكم بها. والتي تدفع اليهود بالإيمان أنهم شعب الله المختار، والآخرين هم مخلوقات خلقهم الله على هيئة بشر ليليق بهم خدمة "بني إسرائيل".
إن العهد القديم مليء بالنصوص العنصرية التي تصف اليهود بذلك، ومن عداهم هم الأغيار. وفكرة الاختيارية الغير مشروطة تتناقض مع السنة الإلهية كما وردت في القرآن الكريم، حين وصف رب العزة الأمة الإسلامية بالخيرية وجعلها مشروطة بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). أما فكرة الاختيارية التوراتية فقد تحولت إلى مزاعم عنصرية عقيدية تقوم على الاصطفاء والاستثناء والاستعلاء والعداء وإدعاء القداسة، وهذه المزاعم لا يمكن أن تصدر عن رب عادل حكيم. وهذا ما يؤكد أن الاختيارية عند اتباع العهد القديم ما هي إلا الهامات وآيات شيطانية كتبها الحاخامات والفريسيون من اليهود، فمثلاً ورد في (أشعيا 61/5):" أما أنتم فتدعون كهنة الرب.. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمرون." وورد في (يوشع 23/12):" إذا رجعتم ولصقتكم ببقية هؤلاء الشعوب.. فاعلموا يقينا أن الرب إلهكم لا يعود يطرد أولئك الشعوب من أمامكم، فيكونوا لكم فخاً وشركا.. حتى تبيدوا عن تلك الأرض الصالحة التي أعطاكم الرب إلهكم" كما ورد في (العدد 33/55):" إن لم تطردوا أهل الأرض من وجهكم كان من تبقونه منهم كإبرة في عيونكم وكحربة في جنوبكم، ويضايقونكم في الأرض التي أنتم تقيمون بها".
وأمام هذه العنصرية الواضحة، والتي تكرسها الصهيونية. (ألا يكفينا مراهنة على اتفاقيات السلام مع هؤلاء القتلة الإرهابيين الذين تحثهم توراتهم بأن يأخذوا الأرض كلها) ، ويشردوا ويبيدوا الفلسطينيين، كما أباد الأمريكان الهنود الحمر . ولكي نعلم أن في كلا الحالتين كان العهد القديم هو الدافع. ففي منتصف القرن السابع عشر ترسخ لدى المستوطنين الأمريكيين نموذج روحي لما يسمى العهد القديم العبري، فقد أطلق المستعمرون الأوائل لأمريكا على أنفسهم " أطفال إسرائيل" وهم في طريقهم إلى الأرض الموعودة، واحتفلوا بيوم السبت كيوم راحة لهم، وادعت طائفة (المورمونية) وهي من طوائف البروتستانت أنها تاهت في صحراء أمريكا العظيمة، مثلما تاه اليهود في صحراء سيناء، واستقرت أخيراً في الأرض الموعودة في ولاية يوتاه، وغيرت أسم نهر كولورا إلى نهر باشان المذكور في التوراة.
ويؤكد الكاتب حسن الباش ذلك في مقالته (الأنجلوسكسونية عقده المحورية وفلسفة التفوق) حين يقول: "كانت مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأمريكي مشابهة لما جاءت به التوراة في مطاردة العبريين القدماء للكنعانيين في فلسطين حسب ادعائهم. وقد أوجد التشابه في هذه التجربة قناعة وفلسفة ووجداناً متشابها ومشتركاً بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية في العصر الحديث. "وهنا أود أن أنوه بأن قراءة النصوص القديمة لجميع شعوب المنطقة تكشف لنا أن تلك الشعوب الوثنية ومن ضمنها العبرانيون، صنعت آلهة لنفسها، وتلقت وعوداً شبيهة من ما يسمى بآلهتها، شرعت لهم احتلال أراضي الغير (حسب دراسة السيدة فرانسواز سميث أكدها الفيلسوف روجيه جارودي) كما أن هذا يؤكد أن إيمان اليهود وغيرهم من بعض الطوائف المتهودة بالعهد القديم المسمى التوراة، وهو كتاب وثنيّ بسبب إشراك من كتبوه وادعوا بوجود آلهة، أعطوا بعضهم من صفات الخالق ما لا يليق أن تذكر إلى لرب العالمين. و هو ليس الكتاب الذي أنزل على سيدنا موسى عليه السلام، فيكون اليهود بذلك ومعهم المؤمنون بالعهد القديم وثنيون. فكفى مكابرة من بعض علماء الإسلام، الذين يتحاورون تحت شعار حوار الديانات.
كما أسلفنا أن ثقافة التوراة هي ثقافة عنصرية إرهابية تدعوا إلى رفع اليهود فوق القانون البشري، حيث يطبق القانون البشري على جميع الشعوب، لكنه لا يطبق على اليهود. فلذلك نجد في عالم القطب الواحد أن قرارات الأمم المتحدة تطبق على كل بقاع الأرض لكنها لا تطبق على الكيان الصهيوني! فلذلك يقول التلمود (وهو كتاب مؤلف يجمع أقوال حاخامات اليهود الشريرة، ووصايا قادتهم القتلة، وموجهيهم أشباه الشياطين، وهو بشري المصدر إلا أنه له قداسة التوراة في نفوس اتباعه): "من العدل أن يقتل اليهودي كل من ليس يهودياً، لأن من يسفك دم الغرباء يقدم قربانا لله" وهذا ما حدث مثلاً وليس على سبيل الحصر، في جريمة العصر لبشاعتها والتي وردت تفاصيلها على لسان اليهودي موسى أبو العافية أحد المجرمين المشتركين في جريمة ذبح الأب توما الكبوشي في حي اليهود في دمشق سنة1840، والذي ذبح وبعد ذلك قطع إرباً ليرمى في المجاري، بعد أن سحب دمه لاستخدامه في عجين فطير الفصح عند اليهود، حيث اعترف بجريمته وقال: "الدم يوضع في الفطير، ولا يعطي هذا الفطير إلا للأتقياء من اليهود" هذه الجريمة الإرهابية التي هزت مشاعر العالم الإسلامي والمسيحي، وكتب حولها العديد من الكتب كشفت عن الخلفية الإجرامية لليهود والتي كان سببها الخلفية التوراتية الإرهابية لدى الحاخامات المجرمين الذين أمروا بذلك.كما أن تلمود برانايتس (ص 112) يحث اليهود على قتل المسيحيين فيقول: "على اليهود أن لا يفعلوا مع الأغيار لا خيراً ولا شراً وأما مع النصارى فيسفكوا دمهم ويطهروا الأرض منهم.. كنائس المسيحيين كبيوت الضالين ومعابد الأصنام فيجب على اليهود تخريبها، وهذا ما فعلوه بكنائس بعض طوائف المسيحية في الولايات المتحدة بأمثال جيري فالويل وبات روبرتسون، وجيري فاينر وفرانكلين جراهام.
إن التربية الإرهابية عند اتباع العهد القديم تقوم على أن مواجهة أعدائهم تستلزم افتراسهم وشرب دمهم، وعلى هذه المفاهيم تقوم التنشئة العسكرية عندهم، ولها سند من كتابهم حيث ورد في سفر العدد 23/24" هو ذا شعب كلبوه يقوم وكشبل ينهض لا يربض حتى يأكل الفريسة ويشرب دم الصرعى"، كما ورد في العهد القديم: "حين سمع الشعب صوت البوق هتف هتافاً عظيماً فسقط السور في مكانه وصعد ( الشعب) إلى المدينة وذبحوا كل ما في المدينة من رجل وامرأة ومن طفل وشيخ حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف وورد في سفر حزقيال في وصيته لـ"بني إسرائيل":" لا تشفق أعينكم، ولا تعفوا عن الشيخ والشاب والعذراء والطفل والنساء اقتلوا حتى الهلاك." وورد في سفر التكوين "اضرب أهل تلك المدينة بحد السيف بجميع ما فيها حتى بهائمها".
إن هذه النصوص من التوراة والتلمود هي قليل من كثير لا يتسع المجال لذكرها لكنها تعبر عن الأساس العقدي والمنظومة الفكرية الذي تأسس عليها الفكر الإرهابي بشقيه الصهيوني اليهودي، والصهيوني المسيحي. وهي التي تحاول دائماً بدفع هذه التهمة الفعلية عنها وإلصاقها بالإسلام. الذي هو دين رحمة وخير ومحبة وعدل ومساواة للبشرية جمعاء، حيث لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. وهذه الحقائق لم يثبتها ويؤكدها كتاب الإسلام فقط، بل أكدها مؤرخو الغرب ومفكروه وباحثوه من خلال تفاعلات المسلمين مع الشعوب الأخرى، ولعل انتشار الدين الإسلامي في أوروبا وأمريكا لأسطع دليل على ذلك، ويكفي أن نذكر في هذا المضمار الحديث النبوي الشريف، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغزوا باسم الله وفي سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلّوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا..) وأوصى سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه أسامة بن زيد، فقال: "لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا لمأكله".
كان لا بد من كشف الحقائق لفضح التدليس الذي يمارسه اليهود ومن يؤمن بالعهد القديم على العالم، من خلال إيحائهم للناس أن دينهم الذي يمارسونه المنبثق من توراتهم لحالية هو ما انزل على سيدنا موسى عليه السلام في جبل الطور في سيناء. لكن الحقيقة أصبحت واضحة، بعد اختفاء التوراة الحقيقية مع نهاية حكم سيدنا داود وسيدنا سليمان عليهما السلام. وما يسمى كتاب التوراة هو الذي كتبه اليهود بعد مئات السنين من وفاة سيدنا موسى، و هذا هو الكتاب الذي بين أيديهم ما هو إلا رسالة شيطانية أوحى بها الشيطان لأشراره من اليهود بكتابتها، فجاء بدين عجيب، حيث أن إلههم فيه إله عجيب، إله جاهل حيناً (حسب كتابهم) وضعيف حيناً آخر، إله يفضل سكن البيوت بين شعبه، إله إرهابي متعطش للإرهاب وسفك الدماء، وحرق شحوم ضحاياهم. لأنه يحب رائحة الشحوم المحروقة التي تبعث في نفسه السرور والبهجة. وأمام هذه المعطيات فلنتلمس طريقنا لفهم الإرهاب.
5 - ما هو الإرهاب؟
الإرهاب كلمة مشتقة من الفعل أرهب، يقال أرهب أي خوف وفزع، ويلاحظ أن القرآن الكريم لم يذكر مصطلح الإرهاب بهذه الصيغة، إنما ذكر صيغ مختلفة تدل على الخوف والرهبة والتعبد لله رب العالمين وتخويف وترهيب أعداء الله من الكفرة والمشركين، فورد في سورة البقرة: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإيايّ فارهبون) (آية -40). وفي سورة الأنفال ورد :(ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم) (آية-60) وفي سورة الأعراف ورد (واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم) (آية -116). فلذلك الإسلام واضح في موضوع الإرهاب من خلال القرآن الكريم.
أما بالنسبة للإرهاب في الثقافة الغربية، فيرجع استخدام كلمة إرهاب تاريخياً للدلالة على نوع الحكم الذي لجأت إليه الثورة الفرنسية إبان الجمهورية الجاكوبية في عاميّ (1793 -1794) ضد تحالف الملكيين والبرجوازيين المناهضين للثورة الفرنسية. وقد نتج عن إرهاب هذه المرحلة التي يطلق عليها (Regin of Terror) اعتقال ما يزيد على 300 ألف مشتبه وإعدام 17 ألف فرنسي بالإضافة إلى موت الآلاف في السجون بلا محاكمة. ( والمتتبع لهذه المرحلة يعلم دور اليهود والماسونية في هذا الإرهاب. ولعل قبل ذلك كانت محاكم التفتيش في إسبانيا ضد الأقليات الدينية من أهم المحطات الإرهابية في تاريخ الثقافة الغربية. ولعل الحروب الصليبية هي صورة متكاملة لإرهاب الممالك والإمارات الغربية ضد المسلمين، وهذا ما يتغنى به الآن الرئيس الأمريكي جورج بوش حين أعلنها حرباً صليبية للقضاء على ما يسمى (بمحور الشر) والذي أثبتنا في مقدمة بحثنا من هو محور الشر. وقد تبنت قبله بعض الدول الإرهاب كجزء من خطة سياسية للدولة، مثل الكيان الصهيوني، ودولة هتلر النازية في ألمانيا، وحكم موسوليني في إيطاليا، ومعظم الدكتاتوريات المدعومة من أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، حيث تم ممارسة إرهاب الدولة المنظم تحت غطاء أيديولوجي لتحقيق مآرب سياسية واقتصادية وثقافية.
الإرهاب الدولي والعنف السياسي:
يعرف الإرهاب الدولي بأنه نوع من العنف غير المبرر، والغير مشروع بالمقياسين الأخلاقي والقانوني الذي يتخطى الحدود السياسية. ويختلف الإرهاب عن ممارسة العنف السياسي الداخلي التي قد تنتهجه بعض القوى الرافضة لبعض المظالم الاجتماعية أو السياسية أو العرقية أو الأيديولوجية داخل الدولة الواحدة للنيل من السلطة الشرعية أو السلطة المستبدة المفروضة من قوى الهيمنة الخارجية كما يختلف عن نضال الشعوب لنيل حرياتها أو لتحرير أرضها من عدو مغتصب.
إن منطق الاستعمار دفع أعظم دولة في العالم لتمارس الإرهاب الدولي لتحقيق مآرب سياسية وسيطرة دولية تحقيقاً لما يسمى نبوءات توراتية، وبث الرعب والفوضى في العالم. وعندما نصف ما تقوم به الولايات المتحدة اليوم بالإرهاب فإننا لا نقول ذلك جزافاً بل نستند على التعريف الأمريكي ذاته للإرهاب، بحيث يعرف على أنه: "الاستعمال المحسوب للعنف أو التهديد بالعنف للوصول إلى أهداف ذات طابع سياسي أو ديني أو أيديولوجي (أليس هذا ما يحصل الآن مع العراق). إن إدخال العالم في متاهات ما يسمى بحرب الإرهاب المبهم، قد جرت العالم إلى تحديات كبرى وحروب وأزمات لا يمكن التنبؤ بنتائجها. وأدت إلى بروز الكثير من الملفات العالقة والقضايا الساخنة والخلافات المستعصية ليتم حسمها حسماً أحادي الجانب في ظل ما يسمى الحرب على الإرهاب، خدمة لـ"إسرائيل" وللمشروع التوراتي العالمي. كما أججت الحملة الأمريكية الإعلامية والعسكرية إلى زيادة العداء بين الشعوب والدول تحت مفهوم من معنا ومن ضدنا الذي أطلقه بوش، وأوجدت مناخاً مناسباً لنمو الأجنحة القومية المتطرفة في العالم. وراحت الولايات المتحدة بقيادة اليمين المسيحي المتصهين تتصرف بغرور وتيه ضاربه بعرض الحائط بمعاناة وجوع شعوب العالم الثالث. فرفضت مؤخراً محكمة دولية لجرائم الحرب، ورفضت اتفاقاً يحظر استخدام الأسلحة الجرثومية، وانسحبت من معاهدة كيوتو، ومن مؤتمر دوربان، وسعت إلى تفكيك معاهدة الصواريخ البالستية، وأعطت الغطاء والدعم للإرهاب الصهيوني الشاروني ضد الشعب الفلسطيني ومدنه وقراه في الضفة الغربية وقطاع غزة. وتمحورت الأجندة السياسية للتيار اليميني الديني ، داخل الإدارة الأمريكية حول أربعة مبادئ أساسية، على رأسها، رفض العمل الجماعي، وأن يكون العمل الدولي تحت قيادة أمريكية، أو بمبادئ أمريكية وإلا أصبح مرفوضاً، ولعل هذا المبدأ يفسر لنا بوضوح أسباب تحلل إدارة بوش من أغلب الاتفاقات الدولية، التي انضمت إليها الولايات المتحدة سواء بالتوقيع أو بالتصديق أو الموافقة.
أما المبدأ الثاني فيتجسد بإعلاء فكرة الهيمنة الأمريكية ورفض بزوغ أية قوة مضادة ورفض فكرة التعددية القطبية أو التنوع بتوزيع القوة.
أما المبدأ الثالث فهو تعظيم استخدام القوة العسكرية وتقديمها على مختلف الأدوات الأخرى في تنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية وهذا ما حصل في أفغانستان وهذا ما ينتظر حصوله في العراق، فليس غريباً أن نلحظ الآن مثلا إصرار الإدارة الأمريكية على استخدام القوة العسكرية ضد شعب العراق.
أما المبدأ الرابع فهو أن تفرض الولايات المتحدة هيمنتها الفكرية والثقافية على العالم، من خلال التبشير بالقيم الأمريكية، وهو ما يفسر أسباب مطالبتها بعض الدول العربية بتغيير المناهج الدينية وتغيير منظومة القيم داخل هذه المجتمعات بحيث تتواءم مع المنظومة الثقافية الأمريكية.
6 - الإرهاب الأمريكي ضد العراق:
وأمام هذا التحدي المصيري الذي يواجه أمتنا الإسلامية والعربية انشغل حكامنا ومفكرونا ومثقفونا بكيفية دعم الولايات المتحدة في حربها ضد ما يسمى بالإرهاب، لأنه وللأسف انتشر عند بعضهم ثقافة تسمى بثقافة الهمبرغر، وأعجب هؤلاء بالنمط الأمريكي المتصهين أو هادنه البعض خوفاً من جبروته، أو طمعاً عند الآخرين ببعض الامتيازات التي يمكن أن يحصلوا عليها. وأخذوا كغيرهم من التوراتيين يمهدون لإقامة مملكة "إسرائيل" الكبرى، هذا الحلم الذي أخذ بالانهيار تحت ضربات شباب الانتفاضة الفلسطينية. وصمت الجميع عن الإرهاب الأمريكي الفاضح ضد شعوبنا الإسلامية، فقرى كاملة دمرت بأحدث أسلحة الإرهاب الأمريكي وعشرات الآلاف من العائلات شردت بلا مأوى، والآلاف يموتون كل يوم تحت تأثير الحصار والقصف والتجويع في العالم الإسلامي. وهذا هو حال شعب العراق الذي يرهب كل يوم، ويهدد بأسلحة الدمار الشامل، ولا ذنب له سوى أن كتبة التاريخ تناسوا كل الفاتحين والغزاة الذين قدموا إلى أرض فلسطين ولم يذكروا فقط سوى تدمير مملكتا إسرائيل ويهودا في عامي 720 ق.م و856 ق.م. (مع العلم أن هذا التاريخ يتحدث عن تجمع اليهود فقط على جزء يسير من أرض فلسطين يمتد بين صحراء النقب ومرتفعات الجليل في مناطق محدودة، ولم تعمر طويلاً، وتعاقب على حكمها ثلاثة ملوك فقط هم شاؤول، وداود، وسليمان، ثم ما لبثت هذه المملكة الصغيرة أن انقسمت إلى مملكتين أصغر في الشمال وعاصمتها السامرة وهي قرية سبطية الآن، ومملكة يهوذا في الجنوب عاصمتها أورشليم، والتي كانت أيضا قرية صغيرة).
فأرادت الصهيونية المسيحية أن تنتقم من الآشوريين والكلدانيين الذين دمروا مملكتا "إسرائيل" ويهودا، وكان من قدر العراق أن الآشوريين والكلدانيين خرجوا منه. ولأن كل صهيوني مسيحي حتى الرئيس جورج بوش يقرأ في صلاته دائماً: ".. يا بابل المخربة طوبى لمن يجازيك جزاءك الذي جازيتنا، طوبى لمن يمسك أطفالك ويهشم على الصخرة رؤوسهم". إنه إرهاب من نوع جديد تحاكم به الأجيال بعد آلاف السنين على أمر قد فعل قبل آلاف السنين. أكدت ذلك وزيره الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت لمراسلة (سي بي أس) في 11/5/1996 حين سألت سمعنا أن نصف مليون طفل عراقي توفوا حتى الآن، وهذا العدد يفوق بكثير عدد الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما وأنت تعلمين بذلك، فهل يستحقون ذلك ؟ فأجابت أولبرايت:" أنا أعتقد أن الخيار صعب للغاية، ولكن هل يستحقون ذلك أم لا، نعم أنا أعتقد أنهم يستحقون ذلك". (عن ماذا يتحدثون إنه بكل بساطة عن قتل نصف مليون طفل عراقي! أليس هذا إرهاباً دموياً).
7- هدف الإرهاب الأمريكي الصهيوني:
تغلغل اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية في جميع مناهج وأساليب حياتها ومعتقداتها، حتى غدا العهد القديم المسمى بالتوراة أساس المعتقد للمسيحيين الإنجيليين، ويطلق على اتباع هذا المعتقد (المولودون من جديد) وهو معتقد يؤمن به أكثر من نصف المجتمع الأمريكي، وهو ذات صبغة عسكرية سياسية أساسه تعاليم التوراة، ويهدف هذا المعتقد على تجميع اليهود في فلسطين، وبناء الهيكل فوق أنقاض المسجد الأقصى وإشعال حرب كونيه تسمى هرمجدون بين ما يسمى بقوى الخير وما يسمى بقوى الشر، تمهيداً لنزول المسيح ليقيم حسب معتقداتهم الألفية السعيدة. ولعل هذا المخطط الإرهابي الصهيوني والشيطاني أصبح، مكشوفاً، بعد أن تنبه لهذا الخطر الكثير من الكتاب والباحثين في العالم. فتحت عنوان (أي مستقبل لإسرائيل) كتب الوزير اللبناني السابق ميشال اده في صحيفة النهار اللبنانية في 26/1/2003: أن الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية تتعرض الآن لحملات شرسة من جانب اللوبي الصهيوني على كل الصعد. وهي تعاني الأمرين اليوم في الولايات المتحدة من هذه الظاهرة (المسيحانية) ومن تفشي حضورها وبروزه المتفاقم مع مراكز القرار السياسي والإعلامي والاجتماعي الأمريكي. وهي تقاوم بكل ما تملك من إمكانيات هذه المغامرة المدمرة التي يحاول الصهاينة و"المسيحانيون" المندرجون تحت معطفها أن يزجوا بالولايات المتحدة والمسيحيين الأمريكيين والشعب الأمريكي في غمارها، وفي لجة أخطارها الكارثية على العالم".
وصدر كتاب (الأخوة الزائفة) لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي (جاك تيني) الذي أعده على أثر تكليف حكومة كاليفورنيا له لقيادة فريق عمل للتحري عن قوة خفية تسيطر على اقتصاد الولاية. وفي مقدمة كتابه صرخة تقول: "إن هذا الكتاب ليس إلا صرخة لأبناء الولايات المتحدة والغرب والعالم أجمع يحذرهم من الصهيونية التي تسعى للسيطرة على البلاد وتغيير معالمها وتدمير الأمم والقضاء على كافة الأديان.. إنها القوى الصهيونية الخفية التي ورطت أمريكا في الحروب العالمية والحروب الفرعية الأخرى.. والقوى الصهيونية هي التي ستكون السبب في حرب عالمية ثالثة لإخضاع الدول العربية لـ"إسرائيل" وجعلها دويلات قزمه تدور في فلكها.. ولا شك أن هذه المعادلة ستدفع العالم الإسلامي والعالم الغربي المسيحي في مواجهة دينية، وستضرب الكيانات العربية القوية اقتصادياً أو مالياً، وسيعم الفقر كل المنطقة المحيطة بـ"إسرائيل"، هذا بالإضافة لموت أعداد كبيرة من العرب والمسلمين، وفي نفس الوقت تصبح أمريكا منهكة مما يساعد بيوت المال اليهودية من إحكام القبضة عليها وعلى الدول الأوروبية. وبذلك يتوفر لـ"إسرائيل" القوة التي تستخدمها في الوقت المناسب، حيث يضعف العالم كله، ويمكن عندئذ أن تنصب ملكاً يهودياً على العالم (من كارثة الخليج.. إلى المذبحة إلى الحرب العالمية الثالثة.. إلى المجهول.. الأستاذ عادل رمضان) تأكيدا لما ورد في الكتاب المقدس (مزمور .. 149): " ليبتهج بنو صهيون بملكهم.. ليصنعوا نقمة في الأمم وتأديبات في الشعوب لأسر ملوكهم بقيود، وشرفائهم بكبول من حديد، ليجروا بهم الحكم المكتوب".
وورد في المحضر الخامس من بروتوكولات حكماء صهيون: ".. سوف نقود المسيحيين إلى الفوضى العارمة التي تدفعهم إلى مطالبتنا بحكمهم دولياً.." نعم إنه ليس إرهاباً فقط بل مجزرة عالمية ضد الإسلام والمسيحية تقودها الصهيونية اليهودية والصهيونية المسيحية.
8 - أمريكا لا يمكن أن تكون مصدراً للقيم في العالم:
نحن المسلمين والعرب كتب علينا أن لا نموت، ولا تخرب ديارنا، ولا يقتل لنا قتيل إلا بالسلاح الأمريكي، وعجبي ممن يهتف تحيا أمريكا! نجوع لتشبع أمريكا، والمثال الأعلى لمعظمنا الديمقراطية الأمريكية، وحقوق الإنسان الأمريكي والليبرالية الأمريكية. مع أن المجتمع الأمريكي هو مجتمع هش معنوياً وأدبياً وأمنياً، ومن الممكن أن يتعرض للانهيار العام في أية لحظة (وتجربة لوس أنجلوس) شاهد على ذلك. واعتقد أننا لا يمكن أن نفهم الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من مستشار الأمن القومي الأمريكي (زبغينو برجينسكي) في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر الذي ذكر في كتابه "الفوضى" عن مدى التناقض الذي يميز نظرة العالم للولايات المتحدة ونظرة الأمريكيين نفسهم لها حيث قال: "إن العالم قد أصيب بعدوى القيم والصور التي يفرضها الإعلام الأمريكي عليه وهو ما يسمى بالإمبريالية الثقافية، فهل حقا تستحق الولايات المتحدة أن تكون مصدراً للقيم في العالم حتى وإن حازت على مفاتيح القوة الاقتصادية والعسكرية.. إن مستوى التعليم في أمريكا متدن جداً بالمقارنة بالدول الأوروبية وحتى تلك في جنوب شرق آسيا.. هناك 23 مليون أمريكي يعيشون في جهل تام. وإن أحياء الفقراء تتميز بانعدام وجود بنية تحتية تصلح للعيش الآدمي، وقد تشكلت ملامح ثقافة جديدة تسمى "ثقافة المخدرات" على اعتبار أن هذه السموم قد أصبحت نمط الهروب النفسي من المشاكل التي يعانيها الأمريكيون.. والعائلة انهارت كمركز للمجتمع الأمريكي لاستفحال الإباحة الجنسية والشذوذ الذي أدى إلى استشراء "الإيدز"، فضلاً عن الدعاية الهائلة للفساد الأخلاقي من خلال الإعلام المرئي". كما علق المؤرخ الأمريكي (تيد هاير) على تورط الرئيس كلينتون في فضيحة مونيكا ليوينسكي، واستمرار تأييد الرأي العام الأمريكي له على الرغم من ذلك قائلاً: "إن أمة تقبل أن يقودها شخص على هذا القدر من الانحطاط الأخلاقي لا يمكن أن تستمر في تبوأ قيادة هذا العالم".
9- أمريكا بلد قام على الإرهاب:
إن المراقب للتاريخ الأمريكي تصدمه وقائع الطريقة التي تعامل بها الأمريكيون مع شعوب العالم، إذ سرعان ما يكتشف المرء أن لا فرق بين نظرة اليهود إلى الأمميين ونظرة الإنجلوسكسون إليهم. والسبب هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تشكلت بعد اكتشافها من عناصر انكلوسكسونية كان الغالب عليها العرق البريطاني الأبيض الذي يشمل الإنجليز واليهود الغربيين، ورافقت حملات الإرهاب والإبادة ضد الهنود الحمر حملات الاسترقاق من أفريقيا، والتي كان أهم تجارها من البروتستانت واليهود، وجميع الوثائق التاريخية تشير إلى ذلك دون مواربة أو تعصب أو اتهام. وراحت الولايات تتشكل حتى جرت أحداث الحرب الأهلية الأمريكية بين الجنوب والشمال، وانجلت عن تشكل ما يسمى الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع مطلع القرن السابع عشر كان عدد الهنود الحمر في عموم القارتين الأمريكتين أقل من ثماني ملايين، بعد أن كان أكثر من خمسين مليوناً، لنرى حجم الإرهاب الأمريكي ضد الشعوب الأصلية التي سكنت تلك الأرض. لنثبت حجم الإرهاب اللاإنساني الذي قام به المستعمرون الأمريكان لتلك الأرض. ويكفينا أن نذكر أنه في عام 1730 أصدرت الجمعية التشريعية ( البرلمان) الأمريكي لمن يسمون أنفسهم (البروتستانت الأطهار) تشريعاً تبيح عملية الإبادة لمن تبقى من الهنود الحمر، فأصدرت قراراً بتقديم مكافأة مقدارها 40 جنيهاً مقابل كل فروة مسلوخة من رأس هندي أحمر، و40 جنيهاً مقابل أسر كل واحد منهم، وبعد خمسة عشر عاماً ارتفعت المكافأة إلى 100 جنيه و50 جنيه مقابل فروة رأس امرأة أو فروة رأس طفل (هذه هي الحضارة الأمريكية التي يتشدق بها بعض المفكرين).
وفي عام 1763 أمر القائد الأمريكي (البريطاني الأصل) جفري أهرست برمي بطانيات كانت تستخدم في مصحات علاج الجدري إلى الهنود الحمر بهدف نشر المرض بينهم مما أدى إلى انتشار الوباء الذي نتج عنه موت الملايين من الهنود، ونتج عن ذلك شبه إفناء للسكان الأصليين في القارة الأمريكية. إنها حرب جرثومية بكل ما في الكلمة من معنى، ونشر مرض الجدري من أسلحة الحرب الجرثومية وكان أخطر ما فيه أنه لم يكن لهذا المرض أي وجود في القارتين الأمريكتين، يعني ذلك أن هذا المرض لم يكن مستوطناً هناك، ويعني هذا أيضاً أن السكان الأصليين ليس لديهم أية مناعة ضد هذا الوباء الجرثومي. والمجرمون الذين استخدموا هذه الأسلحة الجرثومية يعلمون بأنه سيفتك إلى حد الإبادة بالهنود الحمر ورغم ذلك استخدموه فكانت هذه الحادثة هي أول وأكبر استخدام لأسلحة الدمار الشامل بشكلها الشامل ضد الهنود الحمر، حتى إن القنابل النووية التي أطلقت بعد ذلك بما يزيد عن قرن ونيف على هيروشيما وناكازاكي لم تكن أكثر فتكاً من جرثومة الجدري المستخدمة ضد الهنود، حيث قتل من اليابانيين 5% من عدد ضحايا الهنود في تلك المجزرة. حتى في موضوع استخدامات أسلحة الدمار الشامل لا يسعنا إلا أن نذكر أن أمريكا أكثر من استخدم أسلحة الدمار الشامل في العالم. فهي استخدمت الأسلحة الجرثومية بشكلها الواسع وقتل أكثر من سبعة ملايين هندي أحمر. وأمريكا أكثر من استخدم الأسلحة الكيميائية في الحرب الفيتنامية وقتل مئات آلاف من الفيتناميين وأمريكا أول من استخدم الأسلحة النووية في تاريخ البشرية. وأمريكا أول من صنع الأسلحة الهايدروجينية. وأمريكا أول من صنع الأسلحة النيوترونية.
وبعد شبه فراغ القارة الأمريكية من الهنود الحمر، اضطر الغزاة الإرهابيون إلى البحث عن قرابين بشرية جديدة يكلفونها بتعمير القارة التي أبادوا سكانها. وبعد أن فشلت حملاتهم على شمال أفريقيا، ودفنت أحلامهم وقتل ملوكهم في معارك وادي المخازن بالمغرب، بعد كل ذلك اتجهوا إلى أفريقيا السوداء وبدأت ثاني أفظع جريمة إبادة وتهجير في التاريخ، وهي تجارة الرقيق الأسود بعد اصطيادهم وأسرهم من السواحل الأفريقية في عمليات إجرام خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي أدت بدورها إلى مآسي طالت خمسين مليون أفريقي أسود تم شحنهم من أنحاء القارة الأفريقية وقد هلك معظمهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد، مما لقوا من العذاب والجوع والقهر، حيث تم قتل الكثيرين منهم لمجرد نشوة القتل والتسلي بهم، هل هناك إرهاب أفظع من ذلك؟ والعجيب بالأمر أن أمريكا هي التي أحبطت في مؤتمر دوربان عام 2001 مطالب الأفارقة بالتعويض عما حدث لهم، بل رفضت أن يقدم لهم مجرد اعتذار.
ولعل الدافع وراء ذلك المفاهيم التوراتية فحسب ايالكوت سيموني (245c.n.772) :" كل من سفك دم شخص غير يهودي عمله مقبول عند الله، كمن يقدم قرباناً إليه" لذلك يعتقدون أهم بهذا الإرهاب والقتل والبطش والتشريد والذبح إنما يقدمون قرابين إلى إلههم الذي يدعوهم لفعل ذلك، فكيف يعتذرون عن ذلك.
وفي الحرب العالمية الثانية في معركة واحدة دمرت الطائرات الأمريكية بالقذائف والنابالم الحارق في طلعة جوية واحدة 61 ميلاً مربعاً، وقتلت 100 ألف شخص في عمليات جحيم مستعر شمل طوكيو و46 مدينة يابانية أخرى وكانت نتائجها أفظع من نتائج استخدام الأسلحة النووية، وقبل أن تستخدم أسلحتها النووية فوق مدينتي هيروشيما وناجازاكي، التي حصدت بسببها عشرات الآلاف من الأرواح، بلا أدنى تفريق بين مدني وعسكري، أو رجل وامرأة وطفل. مع أن الكثير من الباحثين أثبت أن اليابان كانت قد وافقت على شروط الاستسلام، قبل استخدام أمريكا للأسلحة النووية ضد الشعب الياباني، ورغم ذلك أصر الإرهابيون المتعطشون لدماء الشعوب على ممارسة هذه الإبادات البشرية الجماعية.
وفي كوريا تدخل الأمريكان لعزل الحكومة الشعبية فيها وأغرقوا البلاد في حروب طاحنة سقط خلالها فوق 100 ألف قتيل. وفي فيتنام أدى التدخل الأمريكي إلى قتل أكثر من مليون شخص، وتؤكد مجلة نيويورك تايمز في مقالة نشرت في 8/10/1997 أن العدد الحقيقي للضحايا الفيتناميين بلغ 3.6 مليون قتيل، وفي بعض التقارير تم إثبات إنه بين عامي 1952-1973، قتل الأمريكيون زهاء عشرة ملايين صينيي وكوري وفيتنامي وروسي وكمبودي, وفي غواتيمالا قتل الجيش الأمريكي أكثر من 150 ألف مزارع في الفترة ما بين 1966و 1986.
وبتواطؤ أمريكا قتل الملايين في مجازر عديدة في فلسطين ولبنان وسوريا ومصر والأردن وإندونيسيا ونيكاراغوا والسلفادور وهندوراس بالأسلحة الأمريكية الفتاكة، والتي منها أسلحة لم تدخل مخازن الجيش الأمريكي، بل صنعت وصدرت إلى بعض الأنظمة المتآمرة والمتعاملة مع الولايات المتحدة لاستعمالها ضد شعوبها. والنصيب الأكبر وجه إلى الكيان الصهيوني الذي يمارس كافة أشكال الإرهاب والقتل والتنكيل والتشريد ضد الشعب الفلسطيني، ولم نسمع أن أمريكا مناصرة الحرية والديمقراطية في العالم قد طالبت بالإرهابيين الدمويين الصهاينة إلى المحاكم الدولية من أمثال بن جوريون، وأشكول، وجولدامئير، وموشي دايان، واسحق رابين، وشيمون بيريز، ونتياهو، وباراك وشارون، وموفاز وغيرهم الكثيرين في هذا الكيان الإرهابي! كما أنها لم تطالب بمحاكمة (سوموزا) في نيكاراغوا و (بينوشيه) في تشيلي و(ماركوس) في الفليبين و(باتيستا) في كوبا و(دييم) في فيتنام و(دوفاليه) في هايتي و(سوهارتو) في أندونيسيا و(فرانكو) في إسبانيا.
وارتكب الأمريكان المجازر البشعة في حرب الخليج الثانية ضد العراق، ويمكن أن نكتفي بما ذكرته صحيفة التايمز البريطانية بعد إعلان وقف إطلاق النار، لتوضيح مدى المجازر والإرهاب الذي ارتكب في العراق حيث جاء فيها:" كانت الحرب نووية بكل معنى الكلمة، وجرى تزويد جنود البحرية والأسطول الأمريكي بأسلحة نووية تكتيكية، لقد أحدثت الأسلحة المتطورة دماراً يشبه الدمار النووي، واستخدمت أمريكا متفجرات الضغط الحراري المسماة (BLU – 82) وهو سلاح زنته 1500 رطل وقادر على إحداث انفجارات دمار نووي حارق لكل شيء في مساحة تبلغ مئات الياردات. وكان مقدار ما ألقي على العراق من اليورانيوم المنضب بأربعين طناً، وألقي من القنابل الحارقة ما بين 60-80 ألف قنبلة قتل بسببها 28 ألف عراقي. وقد سئل كولن باول حينذاك والذي كان رئيساً لأركان الجيش الأمريكي عن عدد القتلى العراقيين فقال: "لست مهتماً به إطلاقاً" لم يكن مهماً عند كولن باول أن مائتي ألف عراقي قتلوا في هذه الحرب. هذه الحرب التي أطلق عليها الأمريكان الحرب النظيفة لأنها تقوم على استراتيجية التصويب العسكري الدقيق باستخدام أجهزة التسلح الإلكتروني! (ما انظف من هذه الأسلحة إلا من يطلقون على أنفسهم الأطهار وأياديهم من إرهابهم ملطخة بدماء الملايين من شعوب العالم)!
والجديد بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكتف بحروبها الإرهابية ضد العالم بل هي التي تدرس الإرهاب في معاهد ومدارس لتخرج الإرهابيين ليتفننوا بتعذيب الناس وقتلهم.
10- أمريكا تصدر الإرهاب إلى العالم:
فقد ذكر الكاتب البريطاني "جورج مونبيوت" في جريدة الجارديان البريطانية في عددها الصادر في 30/10/2001 " أنه يوجد في مدينة "فورت بينينج" بولاية جورجيا معهد خاص لتدريب الإرهابيين يطلق عليه " ويسترن هميسفير للتعاون الأمني (WHISK) وتموله حكومة الرئيس بوش، مشيراً أن ضحايا هذا المعهد يفوق قتلى انفجارات 11 سبتمبر وتفجير السفارتين الأمريكيتين في أفريقيا، وكان يطلق على هذا المعهد "مدرسة الأمريكيين" (SOA). ومن عام 1946 حتى عام 2000 قام هذا المعهد بتدريب أكثر من 60 ألف جندي وشرطي من أمريكا الجنوبية متهمين بأعمال التعذيب والإرهاب في بلادهم، ومن بين هؤلاء الخرجين الكولونيل " بيرون ليما استرادا" المتهم بقتل الأسقف "جوان جيرادي" في جواتيمالا" لأنه كتب تقريراً حول المذابح التي ارتكبتها المخابرات العسكرية برئاسة "استرادا" وبمساعدة اثنين من خريجي هذا المعهد والتي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء.
وفي عام 1993 أعلنت الأمم المتحدة أسماء ضباط الجيش الذين ارتكبوا أكثر مذابح الحرب الأهلية فظاعة في سلفادور، فكان ثلثي هؤلاء الضباط تدربوا في مدرسة (SOA).
وأوضح الكاتب البريطاني أن هذا المعهد قام بتدريب أخطر الضباط الذين ارتكبوا جرائم وحشية ما بين قتل وخطف ومذابح جماعية في دول أمريكا اللاتينية، مثل تشيلي وكولومبيا وهندوراس وبيرو. ويكفي هنا الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان قد حذر أي حكومة تؤوي الإرهابيين وتساعدهم في أعقاب انفجارات 11 سبتمبر، مما قاله آنذاك "إن أي عمل كهذا هو مشاركة لهم في الإرهاب!"
بعد كل هذه الحقائق التي وردت، هل نتجنى على الأمريكيين عندما نذكرهم ببعض ماضيهم المعبر عن حضارتهم وعن ثقافتهم وعن جرائمهم وعن إرهابهم، وعن قتلاهم في أفغانستان، وعشران آلاف المرشحين للقتل في العراق وعن مئات الآلاف الذين سيقتلون في حروب أمريكا القادمة في حربها التوراتية على الإسلام في ما يسمى بحرب الألفية السعيدة!
إن الله يمهل ولا يهمل فهذا الإرهاب الأمريكي المنظم والمدعوم بالعقيدة التوراتية التي تتسلح بها الصهيونية المسيحية ارتدت على الولايات المتحدة الأمريكية بالويلات الداخلية، فإذا الإرهاب الأمريكي الداخلي، أصبح حالة ميئوس منها لا يمكن السيطرة عليه وأصبحت تنذر بتفكيك الولايات المتحدة الأمريكية من الداخل، ولتأكيد ذلك فلنق نظرة عليها من خلال كتابهم ومفكريهم لكي لا نتجنى إن قلنا أن أمريكا بلد الإرهاب.
11- الإرهاب الأمريكي الداخلي:
في دراسة للباحث الاجتماعي الأمريكي " لويل فاكنت" يقول: "وواقع الأمر أن الولايات المتحدة قد اختارت أن تبني لفقرائها بيوت اعتقال وعقاب بدل المستوصفات ودور الحضانة والمدارس. هكذا ومنذ عام 1994 تخطت الموازنة السنوية لدائرة السجون في كاليفورنيا (المسؤولة عن مراكز الاعتقال للمحكومين الذين تتجاوز عقوبتهم السنة الواحدة) الموازنة المخصصة لمختلف فروع جامعة الولاية فقد تقدم الحاكم (بيت ويلسون) عام 1995 بمشروع موازنة يلحظ فيه إلغاء ألف وظيفة في التعليم العالي من أجل تحويلها إلى ثلاثة آلاف وظيفة حارس سجن جديدة. والسبب واضح فمثلاً في 22/8/1999 أعلنت وزارة العدل الأمريكية " أن عدد البالغين المسجونين أو الذين خارج القضبان بكفالة بلغ عام 1998 خمسة ملايين و900 ألف شخص. وتعني هذه الأرقام أن 3 في المائة من الأمريكيين مع نهاية عام 1998 إما يكونوا داخل السجن وإما خارج القضبان بكفالة.
إن ثقافة الجريمة والسجون انتقلت بداعي الثقافة التوراتية الإرهابية في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى المدارس حيث شاعت ظاهرة إطلاق النار على المدرسين والمدرسات وعلى التلامذة بشكل لافت لم يشهد له العالم مثيلاً. فقد تناقلت وسائل الإعلام في مارس 1998 المعلومات التالية: " لاحظ الخبير في علم دراسة الجرائم (رونالد واينر) من الجامعة الأمريكية أن وتيرة العنف لدى الشباب زادت إلى درجة كبيرة بسبب ثقافة الأسلحة النارية. وغلبة العقلية المستوحاة من قانون الشارع أو (التعاليم التوراتية) على الأخلاق والمبادئ الإنسانية. وأظهرت دراسة كشف عنها البيت الأبيض، أن واحدة من كل عشر مدارس رسمية أمريكية شهدت أعمال عنف خطرة عام 1997.
وكتب أحد كبار صحافيي نيويورك متعجباً: " هناك حرب حقيقية في شوارع الولايات المتحدة. ويسقط قتلى بالرصاص ما يقارب 45 ألف شخص كل تسعة عشر شهراً، وهو العدد نفسه الذي سقط خلال تسعة أعوام من حرب فيتنام، هذا يكشف أمراض المجتمع الأمريكي المستعصية، و العنصرية المتفشية في داخله، والتباينات الاجتماعية الواضحة، إن دل هذا على شيء فيدل على تفجر اللحمة الأسرية، وإفلاس النظام التربوي، واستشراء المخدرات، وعن عدم فاعلية النظام القضائي، وعن قوة اللوبيات المدمرة داخل المجتمعات الأمريكية، وخصوصاً اللوبي الصهيوني وهذا يدل أيضاً على الإرهاب الدموي الذي يطال مختلف الشرائح والطبقات. فمثلاً في سنة 1991 قتل الإرهاب الداخلي الأمريكي 38317 شخص وجرح 175 ألف شخص، هذا يعني حصول 105 قتيلاً في اليوم الواحد، ولترجمة هذه الأرقام على الواقع لنفهم نتائج هذا الإرهاب، يكفي أن نقارن طبيعة القتلى بالسلاح بين أمريكا وبعض الدول الأوروبية. ففي سنة 1990 بلغ عدد حالات القتل بأسلحة اليد في الولايات المتحدة فقط 10567 حالة بينما بلغ في بريطانيا 22 حالة وفي السويد 13حالة، وفي استراليا 10 حالات وفي كندا 68 حالة وفي اليابان 87 حالة. وهذا ما دفع الكثير من المحللين الأمريكيين من إطلاق وصفا لهذه الحالة الإرهابية بأنها "حرب حقيقية في كل بيت" أو " الإرهاب على الذات". لذلك صرح بصوت عال (كولمان يونغ) عمدة مدينة شيكاغو الأسود البشرة، الذي رفض بإصرار تجريد مواطنيه من أسلحتهم حيث قال:" قد أكون مجنوناً إذا صادرت الأسلحة، في الحين الذي نحن فيه محاصرون بأناس عدوانيين". مما جعل لجنة أمن منتجات الاستهلاك، التي باشرت عملية إحصاء لحوادث إطلاق النار إلى التوصل إلى نتيجة مفادها أن في الولايات المتحدة وفق التقديرات المختلفة حوالي 200 ألف شخص يصابون بالرصاص سنوياً. بالطبع لا يتضمن هذا الإحصاء عدد الضحايا المجهولة الذين يعالجون بعد إصابتهم بعيداً عن أعين الحكومة الفيدرالية. كما ينتشر في الولايات المتحدة 211 مليون قطعة من الأسلحة النارية، بينها 67 مليون مسدس مختلف الأنواع.
إن السبب المهم للإرهاب الداخلي الأمريكي وحسب الكاتب "جيل ديلافون" الذي أصدر كتاب (violente Ameique) العنف في أمريكا: " ففي نهاية 1994حطم النظام القضائي الأمريكي المتعثر رقماً قياسياً مرعباً بوجود أكثر من مليون شخص من الأمريكيين يتعفنون وراء قضبان السجون، وهو أعلى معدل اعتقالات على سطح هذا الكوكب. مع الإشارة إلى أن ثلاث أرباع المتهمين لا يعتقلون ولا يضعون داخل السجون لأسباب قانونية معينة. والأسوأ من النظام القضائي هو نظام السجون الذي يصنع (مجرمين محترفين) حقيقيين محكومين نهائياً بالعودة إلى الأجرام. فأكثر من 60% من المعتقلين نفذوا بالسابق حكماً بالسجن، وبناء على دراسة أجريت على مستوى الولايات كلها. هناك 108 ألف مجرم تم إيقافهم حوالي 1.9 مليون مرة. هذا يعني أن أمريكا تقبع تحت مسلسل الإرهاب والجريمة الداخلية والمسؤول عنها الشعب الأمريكي بامتياز. وأمريكا متخلفة أكثر من أية دولة عربية أو أية دولة من دول العالم الثالث المتهم بالتخلف. ويكفينا تحاليل وتنظيرات من المتأمركين المتصهينين الذين يستهزئون بشعوبهم ويريدون إقناعها بالتجربة الأمريكية الرائعة، وهذه الأرقام لأكبر دليل على روعة التجربة الأمريكية.
إذن الإرهاب الداخلي مستفحل في جذور المجتمع الأمريكي وفي كل آليات حركته، بل كان ركيزة نشأة هذا البلد كما أسلفنا سابقاً، سواء من خلال الصراعات بين الغزاة البيض فيما بينهم أو صراعهم مع أصحاب الأرض الحقيقيون من الهنود الحمر. إن الغازي الأمريكي أصبح مواطناً أمريكياً بمقدار ما وسع أرضه وقتل أصحابها الحقيقيين، أو من خلال الاضطهاد الشرس ضد الأفارقة والتي ما زالت تغذيه المعتقدات التوراتية والقوانين الأمريكية التي تعتمد على العهد القديم في تشريعاتها. وحسب تقرير رسمي صدر عام 1989 بعنوان (ضحايا العنف في القوانين الأمريكية) تحدث أحد كاتبي التقرير (ليونارد جيفري) عن أن في أمريكا 5500 عصابة مسلحة معروفة تنتشر اليوم، وبعضها منظم وله أفرع في كل الولايات المتحدة. وتقوم هذه العصابات أو الميليشيات بـ 25 ألف عملية قتل في السنة، والقتلى معظمهم من السود، وأخذت هذه الميليشيات تبني دولها وقوانينها الخاصة بها داخل الولايات المتحدة. وهي محمية بكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة، وأكد كثير من المطلعين أنهم يملكون كميات وافرة من أسلحة الدمار الشامل تفوق الخيال. ولعل استخدام الجمرة الخبيثة بعد أحداث 11 سبتمبر داخل الولايات المتحدة الأمريكية والإرباك الذي أصاب المؤسسات الحكومية والاجتماعية من جرائه لدليل ساطع على ذلك. وتم إثبات أن هذه الجمرة الخبيثة المستخدمة هي أمريكية داخلية بحتة صنعت على يد الإرهابيون الأمريكيون. كما لهذه الميليشيات نفوذها الانتخابي والاجتماعي، و هي تمارس العنف الهستيري، وتطمع إلى تجهيز جيشاً من الإرهابيين للزحف على البيت الأبيض وتدمير الحكومة الفيدرالية فيه واحتلال البلاد.
ألم يكن أجدى بحكومة بوش أن تواجه هذا الإرهاب الأمريكي الداخلي ومنظمات الإرهاب الأمريكية المدمرة للاستقرار الداخلي، من أن توجه تهمة الإرهاب للمنظمات الفلسطينية واللبنانية التي تدافع عن حقوقها الوطنية وتريد تحرير أرضها وشعوبها من الاحتلال الإرهاب الصهيوني البغيض. أليس من الواجب الوطني والقومي أن تقوم الحكومة الأمريكية بتنظيف البيت الأمريكي من الإرهاب الداخلي ومن منظمات الإرهاب الأمريكية. وخصوصاً إن الصهيونية المسيحية أفرزت أكثر من ألف ومائتي حركة دينية متطرفة يؤمن أعضائها بنبوءة نهاية العالم أو في ما يسمى بمعركة هرمجدون. وهذه الحركات تنتج أفلاماً سياسية على أنها أفلام دينية، تخدم فكرة دعم "إسرائيل" بوصفها ساحة المواجهة الأخيرة قبل نزول المسيح عليه السلام. مثل فيلم "إسرائيل مفتاح أمريكا إلى النجاة" وفيلم " القدس .د.س" الذي أجمع كل من شاهده على أنه يبعث رسالة واضحة مفادها: " اشكروا الله أرسلوا الذخيرة!"
ولعل فكرة نزول المسيح وارتباطها بنشوب معركة هرمجدون هي التي دفعت بعض هذه الحركات إلى القيام بانتحارات جماعية بهدف التعجيل بعودة المسيح وقيام القيامة كما يعتقدون، ومن هذه المجموعات جماعة (كوكلس كلان) العنصرية، والنازيون الجدد، وحليقوا الرؤوس، وجماعة (دان كورش) الشهيرة التي قاد زعيمها (كورش) اتباعه لانتحار جماعي قبل عدة سنوات بمدينة (أكوا) في ولاية (تكساس) من أجل الإسراع بنهاية العالم. وكذلك (القس جونز) الذي قاد انتحاراً جماعياً لاتباعه أيضا في (جواينا) لنفس السبب. وكان تيموثي مكفاي الذي فجر المبنى الفيدرالي في مدينة اوكلاهوما في 19/4/1995 هو أحد اتباع هذه المنظمة. فكيف تريد أمريكا أن تقنع العالم بصدق نواياها في محاربة ما يسمى بالإرهاب، وبطونها مملوءة بمنظمات الإرهاب الأمريكية. ولكن فاقد الشيء لا يعطيه، ولئن الكذب والتدليس هو عنوان السياسة الأمريكية، ولئن الصهيونية المسيحية تقود العالم إلى الدمار، لذلك وجهت الولايات المتحدة جيوشها وأساطيلها إلى منطقتنا وكانت هذه الحرب المجرمة على الإسلام.
12- منظمات الإرهاب الأمريكي:
أما بالنسبة إلى منظمات الإرهاب الأمريكي. فلها أيديولوجيتها السياسة الخاصة بها، فهي تعتبر أن الحكومة الأمريكية فاسدة وتتألف من مجموعة من اللصوص، مجموعة خائنة باعت نفسها للصهيونية. مجموعة خانت أهداف الثورة الأمريكية، ورهنت الولايات المتحدة للبنوك العالمية، لذلك ينبغي على أفرادها أن يبقوا متأهبين، ومحتفظين بأسلحتهم وأن يطوروا في مختبراتهم أسلحة الدمار الشامل. فأعضاء هذه الميليشيات مقتنعون بوجود مؤامرة كبيرة مدبرة في واشنطن ومن اليهود خاصة، تهدف إلى جلب جحافل من الأمم إلى الأرض الأمريكية ليعملوا أجراء لدى الرؤوس أموال اليهودية. وهذا ما يؤدي بدوره إلى اضطهاد اليد العاملة الأمريكية الأصلية، ومنهم من يدعي أنهم المدافعون الأواخر عن العنصر الأبيض، ومنهم من يؤمن بعودة المسيح المنتظر، بل منهم من آمن بأنه قد نزل فعلاً. صدر تقرير في (USAToDay) في 30/1/1995 يدعي أن في عام 1994 ظهرت ميليشيات في أكثر من 24 ولاية اجتذبـت 50 ألف عضو، ومصدر هذا التقرير المكون من عشر صفحات هو (مكتب الباتف) ويحذر هذا التقرير من هذه الميليشيات (العسكرية المحترفة) والتي تناهض الحكومة الفيدرالية العداء، وتفسر الدستور الأمريكي بالمعنى الحرفي. وتأخذ الوكالات الحكومية المختلفة هذا التحذير على محمل الجد. ويؤكد تقرير صدر عام 1998 عن مركز (ساوترن بوفرتي لوسانتر) المتخصص في مراقبة التحركات المعادية للحكومة الفيدرالية، أن المجموعات التي تحرض على الحقد هي (المنظمات الصهيونية، ومنظمة فروة الرأس، والمدافعون عن تفوق العرق الأبيض، ومنظمة الهوية المسيحية) وارتفعت نسبة الميليشيات ما بين 1996و 1997 إلى 20% .
لم يكن خطر هذه الميليشيات خافياً على الخبراء والمختصين ووسائل الإعلام الأمريكية فأصدرت مجلة التايمز ملفاً كاملاً عن هذه الميليشيات المسلحة في أمريكا، وأوردت أسماء أخطر عشرين منظمة تنتشر في أنحاء الولايات المتحدة. ويقول ميتشيل هاميرز أحد خبراء الجامعة الأمريكية في واشنطن: "إن الإرهاب الداخلي يشكل تهديداً متزايداً وهو أكثر تنظيماً في أوساط الميليشيات.. إنهم لا يستعملون فقط قنابل بسيطة كتلك التي استخدمت في اوكلاهوما سيتي، ولكن مخازنهم تتضمن أسلحة دمار أكثر تطوراً من الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية المعروفة. وفي جلسة خاصة للكونجرس الأمريكي في مايو من عام 1995 حذر ثلاثة من كبار المسؤولين الأمريكيين من تعاظم خطر الإرهاب المحلي مشيرين إلى أن الرعايا الأمريكان أصبحوا يواجهون خطر الإرهاب المحلي أكثر من الإرهاب الخارجي المدعوم خارجياً.
فالميليشيات تفتك بأمريكا بضراوة السرطان مثل بلوووس وكريبس اللتان أنشئتا منذ أكثر من ثلاثين سنة في كاليفورنيا، ولهما اليوم وكلاء في 32 ولاية و113 مدينة. ففي عام 1985 في قطاع لوس انجلس وحدة كان يوجد 400 منظمة إرهابية، وأصبح العدد في عام 1990 ما يقرب 800 منظمة إرهابية تضم 90 ألف عضو. وتوسعت هذه المنظمات الإرهابية انطلاقاً من شيكاغو باتجاه مينابوليس وامتدت هذه الميليشيات حتى إلى المدن الصغيرة في أواسط الغرب، فمثلاً بين 1990 -1993 في مدينة (ويشيتا) من ولاية (كانساس) التي يقطنها 300 ألف نسمة أحصيّ 90 منظمة إرهابية، وأصبح شعار (أطلق النار عشوائياً من السيارة، أمراً شائعاً). وامتدت هذه الميليشيات إلى قلب أمريكا بعد أن كانت محصورة ولمدة طويلة في المدن الكبرى، فوصلت إلى مدن (أوماها) و(اوكلاهوماسيتي) و (كانساس سيتي).
وما يثير العجب عند هؤلاء الميليشيات أن الندم معدوم لدى ارهابيها وخصوصا القتلة من الشباب والطلاب وحسب تقرير لمؤسسة (يو أس نيوز أند وارد ريبورت) الصادر في 8/11/1993ورد الآتي: " أن في كل يوم دراسة يندس في محفظات الكتب 720 ألف مسدس. وفي الصفوف العالية من بين كل خمسة تلامذة، هناك تلميذ يحمل سلاحاً. لقد كانت المدرسة لفترة طويلة الملجأ الأخير للسلام تجاه العنف والإرهاب الداخلي، وتجاه عنف الأسرة، ولكنها لم تعد بمنأى عنه، وفي كل سنة، يقترف ما يقرب من ثلاثة ملايين عمل إجرامي من كل الأنواع من السرقة إلى الاغتصاب إلى القتل." كما ينشر إعلانات في صحافة أمريكا الكبرى والمحلية على حد سواء يرد فيها عبارات:" يجب ألا نسمح للحكومة بإدارة شئوننا وحياتنا.. يجب أن نعود إلى أيام الثورة الأمريكية الأولى.. نحن الثوريون الأمريكيون" ثم يردف الإعلان بالطريقة الأمريكية النمطية: "تعالوا مع أسلحتكم".
وهذه الميليشيات تنتشر في شتى بقاع الولايات المتحدة الأميركية ولها أنصارها الذين يشكلون فكرهم الغريب والمختلف، ولكل ميليشيا منطقة نفوذ. وتحترم الميليشيات فيما بينها مناطق نفوذها. ورغم أنه لا توجد مؤشرات تدل على نوع من الوحدة في الهدف أو الرؤية بين هذه الميليشيات، فإنه من المؤكد أن ثمة خلفيات مشتركة أدت إلى تكون مثل هذه البؤر الفكرية المسلحة بالعداء على النمط الأمريكي في إدارة شؤونه. وتعكس قيم هذه التنظيمات مزيجاً غريباً من الدين المسيحي (لبعض المذاهب)، وتقديس الحرية الفردية للمواطن, والقيم العسكرية، وخاصة حرية اقتناء وحيازة الأسلحة النارية، والخوف من السلطة المركزية. لذلك فإن الطابع العقائدي الغالب على هذه التنظيمات هو الطابع اليميني، الذي يصل في أحيان كثيرة إلى الشوفينية، والعنصرية، والحقد على كل ما هو غير أبيض أو مسيحي. ويوجد بين أعضاء هذه الميليشيات مجموعة من العلماء وأساتذة الجامعات ومثقفين بارزين ومحاميين وأطباء، بالإضافة إلى ضباط متقاعدين من ذوي الأوسمة الرفيعة في القوات المسلحة الأمريكية. ويعتبر بعض أعضاء هذه الميليشيات أنفسهم في حالة حرب مع السلطة الاتحادية، وهم يرفضون دفع الضرائب. أما المتطرفون منهم فيؤمنون بوجود مؤامرة تشارك فيها الحكومة الاتحادية، والمصارف اليهودية العالمية والأمم المتحدة، وغيرها من القوى المعادية للمسيحية. تهدف لإقامة حكومة عالمية أو ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، ويدعي هؤلاء أنهم يملكون معلومات ووثائق تثبت صحة ما يدعون.
ومن أهم الميليشيات الأمريكية:
ميليشيا ولاية اريزونا واسمها الرسمي (منظمة أبناء الحرية)، ومن أهداف هذه الميليشيا فصل ولاية اريزونا عن الولايات المتحدة.
ميليشيا ولاية كولورادو اسمها الرسمي (حراس الحريات الأمريكية) ولهذه الميليشيا جريدة ودار نشر من مطبوعاتها النظام العالمي الجديد، وترسل هذه الميليشيا مستشارين عسكريين لمساعدة الميليشيات في الولايات الأخرى، وتحمل هذه الميليشيا اليهود مسؤولية فساد النظام البنكي العالمي.
ميليشيا ولاية فلوريدا تتكون هذه الميليشيا من 6 ميليشيات فرعية ولها جنود في كل مقاطعة ومدينة في ولاية فلوريدا، ولها جيش وجهاز حكومي وجهاز قضائي على رأسه المحكمة الدستورية التي أرسلت أخيراً أوامر إلى المسؤولين في المقاطعة لإطاعة قوانينها.
ميليشيا ولاية ايداهو الذي من قادتها الكابتن (صمويل شيرود) الذي يقول:"ستشهد أمريكا الحرب الأهلية مرة أخرى. ونحن هنا في ولاية ايداهو سنبدأ بالهجوم على مبنى برلمان الولاية ونقتل كل النواب رميا بالرصاص.
ميليشيا ولاية انديانا، ترأس هذه الميليشيا جنرالة سابقة بالجيش الأميركي تدعى (ليندا طومسون)، وعندها مكتب محاماة في انديانابوليس عاصمة الولاية، وهي تدعو للهجوم على الكونغرس واعتقال أعضاء الكونغرس وتدميرهم.
ميليشيا ولاية ميتشيجان، اشتهرت هذه الميليشيا بسبب أن منفذي الهجوم على المبنى الفيدرالي عام 1995 في اوكلاهوما هم من أعضائها، وهي من أقوى الميليشيات أكثرها عدداً من أقوال زعيمها (القس نورمان) :" سيذهب الآلاف من جنودنا بملابسهم العسكرية، وكامل أسلحتهم لتقديم إنذار إلى الرئيس الأمريكي وهذه ستكون بداية الثورة الأمريكية الثانية.
ميليشيا ولاية ميسوري: لهذه الميليشيا فروع في خمس مقاطعات وهي ترشح أعضائها في الانتخابات المحلية لعُمُدْ المدن واللجان التعليمية.
ميليشيا ولاية مونتانا، وهي واحدة من أكبر الميليشيات الأمريكية، وتملك هذه الميليشيا دبابات وعربات مصفحة، ومدافع مضادة للدبابات، وتتدرب على حرب العصابات، وتطالب هذه الميليشيا بفصل الولاية عن باقي الولايات، وتصدر هذه الميليشيا مجلات وجرائد تتحدث عن عظمة الجنس الآري.
ميليشيا ولاية نيوهاميشير، تعتمد هذه الميليشيا على الأسلحة الفردية، واستراتيجيتها العسكرية تقوم على حرب العصابات، وتدعوا إلى المواجهة المباشرة مع القوات الحكومية. ويوجد كذلك ميليشيات صغيرة لا يتسع المجال لذكرها لكنها تشكل حالة ضاغطة على النظام الفيدرالي الأمريكي، وتهدد بتفجير الوحدة الداخلية وتفكيك الولايات المتحدة.
13- الإرهاب الأمريكي بداية نهاية الولايات المتحدة:
قبل أن انهي بحثي هذا الذي تم فيه إثبات مدى جبروت الإرهاب الأمريكي الدموي ضد العالم وخلفيتهم الإرهابية التوراتية، يجب أن نؤكد أن العالم لن يكون كما تريده الصهيونية بشقيها اليهودي والمسيحي، وأن العالم دائماً ينبذ الأشرار. وكثيرين من الاستبداديين لفظوا إلى مزابل التاريخ، فأمريكا لن تكون القطب الأوحد، والصهيونية لن تحقق أهدافها وزوال جبروتها وظلمها وإرهابها قادم بإذن الله، وانهيار أمريكا قادم ومن داخلها. ويكفي أن اذكر ما كتبه مستشار الأمن القومي الأمريكي زيغنو بريجنسكي في كتابه (الفوضى) وهو أحد أركان اليمين الأمريكي، كما لا يمكن لأحد أن يتهمه بأنه إرهابي إسلامي يخطط لتدمير الولايات المتحدة الأمريكية حيث يؤكد أن هناك عوامل كثيرة تمنع الولايات المتحدة الأمريكية من تحقيق حلمها في الهيمنة على قرار العالم وهي:
المديونية التي جلبت ديناً قومياً تراكمياً يتجاوز 4 تريليون دولار (وحسب إحصاءات مؤسسة فيجي الأمريكية تجاوزت هذه المديونية 13 تريليون دولار. وقيمة الفوائد على هذه الديون تفوق الدخل القومي الأمريكي). وهذا لوحده يكفي ليهدد أمريكا بالانهيار في أي لحظة.
العجز التجاري الذي يرغم أمريكا، وهي الدائنة الأولى في العالم على استقراض المال مما يهدد قطاعات الإنتاج والعمل الرئيسية بالانهيار ويساهم في البطالة.
وضع العناية الصحية سيئ جداً وهي غير متكافئة في الولايات والمناطق المختلفة، فهناك الملايين من الأمريكيين لا يحظون بالعناية الصحية.
التعليم الثانوي متدني جداً حيث يعاني الشباب الأمريكي من سوء التعليم بالمقارنة مع معظم الشباب الأوروبي أو الياباني، وهذا يؤدي إلى جهل 23 مليون أمريكي.
تدهور البنية التحتية الاجتماعية، وتعفن الريف الذي ينطبق على غالبية المدن الأمريكية الرئيسية، ذات الأحياء الفقيرة من الطراز الموجود في أفقر بلدان العالم الثالث.
كثرة الإباحة الجنسية التي تهدد الحياة الأمريكية ومركزية العائلة من خلال استفحال ما يعرف بعائلة الأب الواحد. وهذا بطبيعته يؤدي إلى إضعاف اللحمة الاجتماعية وتفكك الأسرة.
انتشار الأمراض الجنسية الفتاكة التي هي بحالة تصاعدية كل سنة.
الدعاية الهائلة للإفساد الأخلاقي، وتشريع القوانين لحماية الشاذين أخلاقياً من خلال الإعلام المرئي والمكتوب.
كثرة الميليشيات التي تحارب الحكومة الفدرالية، والتي تطالب بالانفصال عن الولايات المتحدة.
توريط الولايات المتحدة في حروب خارجية حيث لا تستطيع الموازنة الأمريكية ولا الشعب الأمريكي تحمل نفقاتها.
وإذا أضفنا إلى ما ذكرناه سالفاً ما يخطط له المهووسين في الإدارة الأمريكية والمدعومين من الصهاينة بشقيها. من حروب ضد الإسلام والعالم، نجد أنفسنا أمام دولة تجلس على فوهة بركان ممكن أن ينفجر في أية لحظة، هذا يدفع العالم للتوحد ضد هؤلاء المجرمين الذي أعلنوها حرباً لتدمير البشرية تحت اسم هرمجدون، أو حرب ما يسمى بقوى الخير ضد قوى الشر. زيادة على ذلك انتشار ثقافة الجريمة وثقافة المخدرات وكثرة عبدة الشيطان وثقافة الشواذ. والمجتمعات التي تحتوي على مثل هذه الثقافات لا يمكن أن تستمر كما لا يمكن أن تسود العالم ومصيرها إلى الهاوية. وبناءً على ذلك لا يمكن لأمريكا أن تكون شرطياً أو مصرفة لشؤون العالم، كما لا يمكن لها أخلاقياً وأدبياً وثقافياً ودينياً أن تتهم أحداً أو منظمة أو دولة بالإرهاب لأنها بلد الإرهاب الأعظم، ومصدر الإرهاب العالمي، وداعمة أكبر دولة إرهابية في العالم "إسرائيل".
المراجع:
1 - الكتب:
دار النفائس النشاط السري اليهودي 1990 غازي محمد فريج
دار النفائس انتحار شمشون 1993 مهندس حسني الحايك
دار النفائس ويلات العولمة 2002 دكتور أسعد السحمراني
المكتب الإسلامي جذور البلاء 1988 عبد الله التل
دار النفائس الاستغلال الديني في الصراع السياسي 2000 محمد السماك
مؤسسة الرسالة "إسرائيل" الخطر والمخادعة 1998 د. نعمات عبد الرازق السامرئي
دار الرشيد من يحكم أمريكا فعلاً 1991 الدكتور يحيى العريض
2 - المقالات:
إسلام أونلاين الإرهاب صناعة أمريكية 9/12/2001
الوطن أمثال بن لادن أمريكيون 8/6/2002
آفاق عربية انهيار أمريكا 7/11/2002
المقاومة نت جذور المرتكزات الفكرية للإرهاب الصهيوني طلال الخالدي
الجارديان الحكومة الأمريكية تصنع الإرهابيين جورج مونبيوت 30/10/2001
الأهرام أحداث سبتمبر الأمريكية أحمد نافع
مجلة أقلام الثقافية "إسرائيل" الكبرى عادل رمضان
المركز الفلسطيني للإعلام أمريكا و"إسرائيل" وحرب الإرهاب لواء صلاح الدين سليم محمد
الصبار قانون الإرهاب يضرب حقوق الإنسان الأمريكي عدد 146
الإنجلوساكسونية ـ عقدة المحورية وفلسفة التفوق حسن الباش qudsway.com
البيان ضحايا أسطورة " كواتز كواتل أعداد الحسن المختار
العنصرية والسكان الأصوليون ريغو بيرتا مينشوتوم (المؤتمر العالمي لمكافحة العنصرية والتمييز وكرة الأجانب دربان) www.un.org -
شبكة الإنترنت للإعلام العربي إرهاب الإمبراطورية الأمريكية 20/6/2002
شبكة المعلومات العربية محيط الصهيونية المسيحية ترسم السياسة الأمريكية عمرو سليم
التوراة الميثولوجيا المؤسسة للعنف عبد الغني عماد. Www.moqawama.tv -
هكذا يربي الإسرائيليون أبناءهم
رام الله ـ أشرف سلفيتي
صحيفة البيان الإماراتية 5/2/2003
أقامت "إسرائيل" ومعها الصهيونية العالمية الدنيا ولم تقعدها قبل شهور من أجل مسلسل تلفزيوني قالت: إنه يتسبب في كراهية الأطفال المصريين لـ"إسرائيل".كيف إذن يربي الإسرائيليون أبناءهم؟ هل يلقنونهم دروس حب العرب؟!
سوانا صفر
"لقد علموك منذ أن كنت صغيراً فن الحرب وزرعوا فيك مشاعر التعصب والحقد على العرب، وأرادوا لك أن تحقد بكل ما أوتيت من قوة على العرب الذين أعدوك لمحاربتهم، لكي لا ترتجف يداك عندما تضغط على الزناد، وعندما دخلت المدرسة الابتدائية كان هناك من قرر بعد اثنتي عشرة سنة أنك ستكون جندياً، لذلك ستتركز تربيتك منذ الآن على تعلم الحرب، وبدأ ذلك بتنمية مشاعر التفوق القومي فيك مع ما لك من رصيد في ماضيك من إهانة لقيم الشعب الآخر. «نحن فقط.. وسوانا صفر» هذا ما استنتجته بحق من مادة التدريس» وهذا الشيء في مجال السياسة معناه «لنا كل البلاد ومن سوانا لا وجود لهم ما اتفه العرب: - هكذا بدو في عينيك بالقياس الى كل هذا المجد.
وعندما بلغت سن الرشد علموك عن الطبيعة السيئة للعربي الذي لا يفهم إلا لغة القوة والقسوة، والمستعد دائماً أن يقضي عليك بلا رحمة فرددت وراءهم عبارة حكمائنا «الذي ينوي قتلك سارع إلى قتله» لأنه لا يوجد لك خيار طبعاً. لهذا فإن السلام سيأتي فقط بعد أن ننتصر على العرب في الحرب لأنهم لا يفهمون إلا لغة القوة».
كلمات المحامية الإسرائيلية (فيليتسيا لانغر) مخاطبة الشباب اليهودي الذي يهدم بيوت العرب في الأراضي المحتلة معبرة بذلك وبصدق عن واقع التربية الصهيونية في "إسرائيل".
سموم
في العام 1946 زارت فلسطين لجنة تحقيق إنجليزية أميركية لتتحقق حول أساليب التربية الصهيونية وخلصت من التحريات التي أجرتها بأن المدارس اليهودية، و هي تحت اشراف الطائفة اليهودية وتدار بأموالها، قد أصبحت مشبعة بروح قومية ملتهبة، وغدت وسائل فعالة بالغة الأثر لبث روح القومية العبرية العدوانية. وفي العام 1959 وجه المجلس الأميركي لليهودية في مؤتمره السنوي الخامس عشر المؤسسات التعليمية اليهودية لتجرد مناهجها من الطابع الصهيوني والقومية اليهودية المتطرفة التي تنادي بها الصهيونية.
وخلال مناقشات الكنيست في العام 1975 وصف النائب (مائير فلنر) التربية الصهيونية في "إسرائيل" بقوله: «إن التربية الصهيونية في "إسرائيل" تسعى إلى ترسيخ مشاعر التعالي القومي والعنصرية -ومعاداة العرب- والروح العسكرية وانكار حقوق الآخرين.. إن كل سياسة الحكومة الإسرائيلية غير إنسانية، بما في ذلك سياستها تجاه تربية أولادنا.
وتحت عنوان «سموم من الغلاف إلى الغلاف» كتب الإسرائيلي (رامي ليبنه) مراجعة لكتاب «استقلال إسرائيل» الذي عد أساسياً لتدريس التاريخ كنموذج واحد من جملة الكتب المدرسية في "إسرائيل". ولكثرة التحريف والتزييف الذي وجده فيه كتب قائلاً: «هناك طريق واحد لتفهم السبب الذي يجعل من أبناء البلاد الطيبين لاذعين إلى هذا الحد. هناك إمكانية مجربة للوقوف على دوافع التشوه النفساني الكبير الذي يعاني منه الكثيرون من شباب المستقبل. ببساطة يجب أن نفتح دفاتر الرسم لنرى الموضوع الذي رسموا فيه الدرس الأخير. ولا شك أن هذه المتفجرات «الكتب» التي يحملها الأولاد في حقائبهم والتي خصصت لنسف كل امكانية تفاهم يهودي عربي تشير إلى وجه تطور الجيل الناشئ، ويجب أن نطلع على هذه الأمور حتى لا نفاجأ في المستقبل من الظواهر الوحشية التي تنشأ نتيجة لهذه الكميات الضخمة من السموم.
أما (تسفي ادار) عميد كلية الآداب السابق في الجامعة العبرية، فيقول: بينما تقوم التربية القومية على أساس التربية الإنسانية الواسعة الشاملة فإن خطة التوعية اليهودية تسعى إلى خصوصية الشعب اليهودي ونتيجة لذلك تشوه التربية اليهودية وتتحول إلى تربية من أجل خلق التعصب القومي بتربية شوفونية عدوانية موجهة وهذا يتناقض مع جوهر التربية.
واعتبر الأديب الإسرائيلي (يزها سيملانسكي) أسلوب التربية الصهيونية خليطاً من الضغط والإغراء بهدف الحصول على تغيير مقصود في الإنسان لأن هذا التعليم الموجه ليس إلا عمليات غسيل دماغ كريهة وإرغاماً وإغراء على إغلاق العقول.
مقاطع التلمود
يقول الدكتور إبراهيم أبو جابر رئيس مركز الدراسات المعاصرة في مدينة أم الفحم إن الديانة اليهودية تعتبر مصدراً مهماً من مصادر الفلسفة التربوية عند اليهود، إذ اعتمدت التربية اعتماداً كبيراً على الدين في سبيل تشكيل أجيال متشبعة بتعاليم التوراة والتلمود، ومن أجل ترسيخ مفاهيم معينة في نفوس الناشئة اليهود. و يضيف: تهدف التربية الدينية إلى تربية الطفل جسدياً واجتماعياً وانفعالياً وعقلياً عن طريق قصص من التوراة وأسفارها. وفي هذا يقول حاييم وايزمن أول رئيس لدولة "إسرائيل": «عندما بلغت ما لا غنى عنه لأي طفل يهودي، وخلال السنوات التي قضيتها في مدارس الدين تلك، كان عليّ أن أدرس أشياء من أصول الديانة اليهودية، والذي ملك عليّ قلبي هو سفر الأنبياء».
وما يمكن ملاحظته وفقاً لأبي جابر هو الاهتمام الكبير بتدريس المواد الدينية في جميع مراحل التعليم لأبناء اليهود أينما وجدوا، حيث تأتي مادتا التوراة والتلمود في مقدمة الدراسات، وتعتبر المادتان أساساً وإطاراً للغايات التربوية، حيث يقول (مائير بار إيلان) أحد مفكري التربية اليهودية: «إن روح التلمود ومعرفة عامة شرائعه وآدابه يجب أن تكون جزءاً من دراسة كل يهودي متعلم، حتى وإن لم يكن سيجعل من حقل الدراسة هذا مجالاً للعمل، والأمر شبيه بتعليم الفيزياء والرياضيات. فمع أنه ليس كل تلميذ يتخصص فيهما، ولا يستخدم جميع ما يتعلمه فيهما في حياته العملية، إلا أنهما ضروريتان له، كذلك بالنسبة للتلمود يجب أن يحفظ كل تلميذ مقاطع معينة منه وأن يتشرب روحها».
وقد أصدر الباحث الإسرائيلي الدكتور (ايلي فودا) مؤخراً دراسة تتقصى الخلفية والبعد العنصريين في الكتب المدرسية الإسرائيلية المعتمدة في المراحل الابتدائية والاعدادية والثانوية.
هذه الدراسة التي صدرت عن الجامعة العبرية في مدينة القدس، غطت 60 كتاباً مدرسياً على مدار الأربعين سنة الماضية، وتستغرق في التحريض العنصري ضد العرب وتقذفهم بالتهم نفسها التي كان اليهود يقذفون بها في القرون الوسطى في أوروبا والتي شهدت مرحلة ما يسمى بمحاكم التفتيش التي طاولت اليهود حصراً.
الباحث الدكتور (ايلي فودا)، ضمّن دراسته تحليلاً عميقاً وموثقاً للكتب التعليمية الإسرائيلية، والتي يصفها بأنها قادت إلى تكوين أفكار مسبقة عن العربي الموصوف في الكتب بأنه «غشاش» و«متخلف» و«لص»، يستحيل التعايش معه. وتقول الدراسة: إن مناهج التعليم الإسرائيلية تمحورت فقط حول تاريخ «أرض إسرائيل» والصراع مع العرب من منظور محدد لا يستعمل سوى مصطلحات القاموس السياسي الإسرائيلي، وقد وضعت هذه الكتب وفقاً لمناهج شرعها مؤلفون يجهلون كل شيء عن العرب تقريباً، ولذلك تتضمن الكتب التعليمية تلك حقائق مشوهة ومزورة في أحيان كثيرة، ليس بسبب الخضوع مسبقاً للأيديولوجيا السياسية بل نتيجة انعدام المعرفة بالحياة العربية والإسلامية وبالمكونات التاريخية للمنطقة.
ويورد الباحث الإسرائيلي الدكتور (ايلي فودا) 12 قصة يعتبرها محطات بارزة في التكوين التربوي الذي اعتمدته "إسرائيل" في كتب التاريخ، ويدعم الباحث دراسته بنصوص وصور ورسوم للكاريكاتير تظهر كيفية اخضاع التاريخ لـ «السياسة الإسرائيلية» وبحيث تظهر هذه النماذج عمق النظرة العنصرية إلى العرب، وبصورة يشير فيها المؤلف ألى أن الفتاة الإسرائيلية «تاتيانا سوسكين» التي أساءت في العام 1997 عبر رسومات بذيئة إلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ليست حالة استثنائية أو هامشية في المجتمع الإسرائيلي، بل هي إفراز طبيعي للحقن العنصري الذي قامت عليه "إسرائيل".
وتظهر الدراسة كيف أن العربي يتميز بالظلم والعدوان، وأن اليهود ضحية، ومعظم هذه الكتب تركز كثيراً على انتصار الأقلية الإسرائيلية على الأكثرية العربية في جوار فلسطين، وأما تشريد الفلسطينيين من أراضيهم في العام 1948، فلا يوجد له أثر في الكتب التعليمية الإسرائيلية.
وتقول الدراسة، إن "إسرائيل" عملت على صناعة تربوية كاملة هدفها الفصل بين تاريخ ممنوع وتاريخ مسموح، وذلك في سياق بناء الشخصية الإسرائيلية، وبشكل غدت معه الكتب المدرسية عارية من الحقائق العلمية ومستغرقة بالميتولوجيا، وقد استصلحت كتب التاريخ أساطير ورموزاً أخذت من الذاكرة اليهودية الجمعية، وساعدت في إيجاد صورة للماضي وتدوينها والتعامل معها كحقيقة تلبي احتياجات الحاضر.
ويقتبس المؤلف ما ورد في منشورات وزارة التعليم الإسرائيلية في العام 1985 حول الغاية من تعليم التاريخ وجاء «أن الهدف الأعلى من تعلم التاريخ تنمية مشاعر التضامن الوطني»، ومن خلال ذلك جردت كتب التاريخ الإسرائيلية العرب والمسلمين من كل نزعة إنسانية وإيجابية.
شطب آية من القرآن الكريم!
يستغرب أحمد اكتيلات مدرس التربية الإسلامية في مدرسة دبورية الثانوية من المفارقة الحاصلة بالنسبة لتدريس الدين في الثانويات العربية إذ أن تعليم الدين اليهودي مطلب اجباري للطلاب العرب في حين أن الدين الإسلامي لا يعرض في المدارس اليهودية ولو اختيارياً. ويضيف أن مضمون مناهج الدين الإسلامي التي وضعتها وزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية للعرب المسلمين في "إسرائيل" منفر للطلاب لأنها فقط تركز على التكاليف والعبادات وهي الأمور الثقيلة على النفس ولا ترغب وتحبب الطلاب بالدين مثل الحديث عن الجنة والثواب.
كما أن كتب الدين الإسلامي لا تتضمن الآيات التي تتحدث عن اليهود ففي العام 1989 وردت آية «مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً...» من سورة الجمعة في كتاب الدين الإسلامي فأمرت الوزارة بشطب الآية من الكتاب وهكذا كان. وحتى علامة الدين الإسلامي في التوجيهي لها شروط خاصة.
ويخلص المحامي أسامة حلبي إلى أن الواقع يثبت أن برامج التعليم في المدارس العربية لم تخرج عن نطاق أهداف التعليم الرسمي كما حددتها المادة الثانية من قانون التعليم الرسمي في "إسرائيل"، والادعاء القديم بوجود تمييز مقصود ضد المواطنين العرب في مناهج التعليم ومحتوياتها ما زال صحيحاً. فمراجعة هذه النماذج تقود إلى نتيجة أنها تتجاهل المطالب والحاجات الحقيقية للمواطنين العرب كأبناء أقلية لها تراثها وانتماؤها القومي. فهي تشتمل على تدريس تاريخ الشعب اليهودي القديم والحديث بصورة موسعة، بما في ذلك تاريخ الحركة الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين في حين أفرغت موضوعات التاريخ والأدب العربي من كل العناصر والرموز التي تعطي الطالب العربي شعور الاعتزاز بتراثه وتاريخه وانتمائه القومي. ولا تنكر وزارة المعارف والثقافة أن السبب هو خشيتها أن تثير هذه الموضوعات والعناصر والرموز الشعور القومي لدى المواطنين العرب.
إنتاج الإرهاب
«إن جميع الجنود ممن يؤدون الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة أولئك الشباب الذين يسكنون "أور يهودا" حيث عمليات إحراق العمال العرب إن ذلك كله نتاج مدرستنا نتاج البرامج التعليمية نتاج التربية الرسمية وغير الرسمية ولكن للتربية الرسمية نصيب الأسد في ذلك. إذ لم ترد كلمة واحدة في البرنامج التعليمي لليهود حول التطلع للسلام بين "إسرائيل" وجاراتها فمثلاً من منا يذكر كتاباً واحداً في الجغرافيا فيه اسم جبل باللغة العربية لا وجود لها على الإطلاق الطلاب يتعلمون ذلك، وكأنه خلق هكذا الأسماء العربية لا وجود لها على الإطلاق أنا لا أتكلم عن قرى عربية تم محوها... لا يذكرونها قطعاً، هل هذه تربية؟ وماذا يعني كل هذا؟ لا توجد في الصفوف إطلاقاً، خرائط تشمل الخط الأخضر أرض "إسرائيل" الكاملة في جميع الخرائط بما فيها القدس والجولان والضفة الغربية وقطاع غزة كجزء من دولة "إسرائيل"».
هذا ما قالته الدكتورة الإسرائيلية (تسيبورا شاروني) مخاطبة جمهور الحضور ضمن يوم دراسي عن التوجه القومي في برامج التدريس في المدرسة العبرية.
الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية
عمر كيلاني
صحيفة تشرين الأسبوعية: 23 كانون الأول 2002
يؤكد د.رشاد الشامي في مقدمة كتابه (الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية) أن المجتمع الإسرائيلي بحكم ظروف تكوينه منذ بداية الصهيونية في العصر الحديث أفرز نمطاً يهودياً عدوانياً ألقى بظلاله على مجمل السلوك العام لكل من ينتمي لهذا المجتمع.
وقد استعرض في فصول الكتاب الخمسة، الأطر التي تكونت فيها هذه الشخصية: أطر الانعزالية الجيتوية، والانعزالية الصهيونية، والجيتوية الإسرائيلية، كما استعرض بعض السمات الأساسية للشخصية اليهودية الاسرائيلية وجذور ودوافع روحها العدوانية تجاه العرب، مؤكداً أن الجيتو والصهيونية هما وجهان لعملة واحدة هي الانعزال اليهودي عن شعوب العالم والحياة داخل إطار وبناء عقائدي وتاريخي وسيكولوجي واجتماعي واقتصادي منفرد عن سائر الشعوب.
وهكذا تم خلق «إسرائيل» لأكبر جيتو يهودي في التاريخ والمكونة من خمس مجموعات هي: اليهود الاشكناز، والسفارديم، والصباريم، واليهود الروس، ويهود الفلاشا، ولذلك لا يمكن التحدث عن شخصية يهودية إسرائيلية واحدة. ويرى الكاتب أن شخصية الصبار (أي اليهود الاشكناز الذين ولدوا في «إسرائيل») تقدم مثالاً فريداً عن الكيفية التي يمكن بها للأيديولوجيا أن توجه كل شيء في حياة الإنسان وأن تتدخل في عمل الطبيعة وخصائصها في نمو الكائن البشري. فإذا كان هدف الايديولوجيا هو التغيير فإن الايديولوجيا الصهيونية ثم الايديولوجيا الإسرائيلية قد نجحت إلى حد كبير في تغيير شخصية اليهودي من اليهودي الجيتوي الى اليهودي العدواني. ويشير المؤلف إلى نوعين من الحقائق المدمرة للخصائص النفسية للشخصية الصبارية خاصة والإسرائيلية عامة:
الأول: حقائق خارجية لعل أهمها وجود شعب غير يهودي في فلسطين.
الثاني: حقائق متعلقة بحياة الإسرائيلي ذاته حيث عليه أن يقتل ويحتقر العواطف ويعتمد على القوة والغزو ليجني الأمان ويعيش في جيتو كبير منقسم بين اشكنازي وسفاردي.
ويخلص الكاتب من توصيفه لخصائص الشخصية اليهودية الإسرائيلية إلى القول: أن الفكر الصهيوني المعاصر يحرص على الاحتفاظ بعنصر رئيس من عناصر التكوين السيكولوجي الإسرائيلي المعاصر وهو أنه لا مكان في ذلك التكوين ليهودي منتصر، بل هناك فقط مكان ليهودي يرد اعتداء، او يستعد لحماية نفسه من اعتداء، وإذا لم يكن هناك في الواقع ثمة اعتداء أو تهديد باعتداء، عندئذ يكون من المحتم الايهام بكل ذلك حتى تذوي سريعاً صورة انتصار اليهودي ولتحل محلها صورة مخافة اعتداء العرب.
ويحصر د. الشامي جذور ودوافع العدوانية لدى الشخصية اليهودية الإسرائيلية تجاه العرب في العوامل التالية:
1 - استلهام الروح العدوانية في التراث الديني اليهودي. فالتطرف الديني والعنصري في النظرة الصهيونية الجديدة تجاه غير اليهودي يعكس دمجاً فكرياً بين القومية المعادية للأجانب وبين التطرف الديني الضيق.
2 - استلهام تقاليد الروح العدوانية في الفكر والسلوك الصهيوني، فالصهيونية فكراً وسلوكاً موبوءة بالتعصب العنصري والديني، والعنف هو الأداة التي يتوسل بها الصهاينة لإعادة صياغة شخصية اليهودي وقد جعلت الصهيونية من اللحم والدم العربي معهداً لتخريج خبراء القتل المجاني.
3 - الفزع من ذكريات الأحداث النازية.
4 - تمجيد القوة الاسبارطية كمثل أعلى.
5 - عسكرة المجتمع الإسرائيلي.
6 - الرفض العربي للوجود الإسرائيلي. فالإسرائيلي الذي اصطبغ بالروح العدوانية النابعة من عدم إحساسه بالأمان والذي يصرخ دوماً من أنه مهدد بالإبادة على يد جيرانه العرب، إنما تتحكم فيه تلك العقدة العدوانية (عقدة ديموتليس) وهي التي تجعله لا يستسلم بسهولة لسلم أبدي أو طويل المدى، ذلك لأن الحرب هي التي تخلق بينه وبين سائر أفراد جماعته روح التماسك والتلاحم وهي التي تذيب التناقضات الداخلية.
وإذا كانت الصهيونية في مراحلها الأولى قد سعت إلى تحويل الاستقطاب الصهيوني إلى كيان عضوي من منطقة الشرق العربي فإن الرفض العربي قد حال دون هذا، ووضع الكيان الصهيوني في مأزق لم تحسب الصهيونية حسابه، وهو تحويله إلى جزيرة معزولة داخل المنطقة محوطة بمشاعر العداء والكراهية من العرب، مما سحب من تحت أقدامها إمكانية الخروج من مأزق اليهودية التاريخي الذي يتجلى في رفض المجتمعات لليهود. لقد رفضهم المجتمع المسيحي في الغرب كأفراد ورفضهم العالم العربي كدولة، مما كثف في الوجدان الإسرائيلي الاحساس بمشاعر العداء ذات الجذور التاريخية من الانحياز تجاهه، وهو ما يسبب لهم تمزقاً نفسياً عميقاً.
7 - الطابع الامبريالي لـ«إسرائيل». فاستمرار الوجود الإسرائيلي والروح العدوانية التوسعية لـ«إسرائيل» يعتمد كلياً على قيامها بدور إمبريالي بالنيابة عن الولايات المتحدة الاميركية. فهي تتلقى المساعدات العسكرية المالية والاقتصادية الأميركية مقابل الحرب التي تشنها إزاء أي بادرة عربية لا تتسق مع المخطط الصهيوني التوسعي التسلطي من ناحية ومع المصالح الإمبريالية في المنطقة العربية من ناحية أخرى.
8 - الاحساس بحتمية الحروب للوجود الإسرائيلي. فالحروب هي بمنزلة أسطورة مغلقة تدخل في إطار البنية العامة للعقيدة الصهيونية شأنها في ذلك شأن سائر الأساطير المغلقة التي يتعامل معها الفكر الصهيوني الغيبي، مثل أسطورة أرض الميعاد والشعب المختار. وقد أصبحت الحروب بمنزلة تجسيد ومتنفس حتمي وضروري للروح العدوانية لدى الشخصية اليهودية الإسرائيلية مهما حاولت العقيدة الصهيونية أو الإمبريالية الإسرائيلية أن تلبسها من أردية الشرعية المختلفة.
وإذا كان الاحساس بحتمية الحرب هو سياج لم يعد يجد الإنسان الإسرائيلي منه مفراً، فإن الوجه الآخر للعملة، وهو السلام، أصبح يشكل هو الآخر كابوساً مخيفاً لا يستطيع تصور وجوده لأن ما قر في الوجدان الإسرائيلي هو أن الحرب هي الحياة وأن السلام هو الطريق الى الزوال. ومن هنا جاء ذلك الفزع الذي يعيشه الإسرائيلي مع فكرة السلام. فالحقيقة الثابتة التي تحكم المجتمع الإسرائيلي وستظل تحكمه هي أن الخوف من السلام سيظل مسيطراً على الإنسان الإسرائيلي. فالشخصية الإسرائيلية بالرغم من نزوعها أحياناً للسلام تظل بشكل مستمر في حاجة إلى الشخصية القوية التي تختزن في داخلها كل مقومات العدوانية والقسوة لأنها هي الدرع الوحيدة التي يثقون بقدرتها على الدفاع عن وجودهم، ومن هنا كان هذا التنازع الرهيب في الشخصية الإسرائيلية بين الرغبة في السلام والخوف منه. وفي هذا الاطار يبرز تقويمان يقودان إلى نتيجة واحدة بالنسبة لاتجاهات «إسرائيل» تجاه الاحساس بحتمية الحرب:
الأول: يرى أن قادة «إسرائيل» المعاصرين قد تعرضوا لتجربة الحكم النازي ومازال هذا الجيل يفكر من زاوية الفلسفة العنصرية. ومن ثم فهو يتسم بالتطرف. لكن الجيل الجديد ليس مصطبغاً بصبغة الماضي وسوف يكون أقل تطرفاً حين يتولى السلطة، ومن ثم فإن كل شيء سوف يتغير في اتجاه مطرد نحو السعي إلى السلام مع العرب.
الثاني: يرى أن الجيل الجديد هو جيل أشد تطرفاً من الجيل القديم الذي كان يتسم بالتسامح لأنهم اجتازوا تجربة العيش مع العرب والشعوب الأخرى، ولكنه يلقن تلقيناً مطرداً، ومن هنا فسوف يظهر نمط جديد من اليهود أشد تطرفاً ونزوعاً للعنصرية، ومن ثم فإن الموقف سيزداد سوءاً بمرور الوقت.
صهيونية ضد اليهود واليهودية
د. عبد الوهاب المسيري
مفكر - مؤلف الموسوعة الصهيونية
صحيفة الاتحاد 19/1/2003
في إطار سعيهم للحصول على الشرعية والتأييد الجماهيري في أوساط الجماعات اليهودية في أوروبا، حاول رواد الحركة الصهيونية إضفاء صبغةٍ دينية على الأفكار الصهيونية، بحيث تبدو وكأنها امتداد لليهودية وليست نقيضاً لها. ومن جهةٍ أخرى، حاول هؤلاء الرواد استغلال مشاعر المعاناة والإحباط لدى الجماهير اليهودية، والتي ساهمت في تفاقمها جملة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المرتبطة بعملية التحديث والتحول الرأسمالي في أوروبا.
وهكذا، لجأت الصهيونية إلى تبني الرموز والأفكار الدينية المألوفة، فصورَّت مسعاها الاستعماري باعتباره تحقيقاً لوعدٍ إلهي، ومن ثم أضفت عليه صفة القداسة والحتمية، ووظفت المقولات التوراتية عن الشعب اليهودي المختار وعن العودة إلى صهيون كمسوِّغاتٍ للمشروع الصهيوني المتمثل في اغتصاب فلسطين وإقامة كيانٍ قوميٍ يهودي فيها يكون بمثابة قاعدةٍ لخدمة مصالح القوى الاستعمارية الكبرى. وفي الوقت نفسه، قدمت الصهيونية نفسها باعتبارها حركةً لإنقاذ اليهود واليهودية من التشويه الذي لحق بهم وبها في الشتات، ومن الاضطهاد الذي تكابده الجماعات اليهودية على أيدي غير اليهود.
ومع ذلك، فمن الواضح أن المنطلقات النظرية للصهيونية والحلول التي اقترحتها لحل ما عُرف باسم المسألة اليهودية في أوروبا شكلت نقاط التقاءٍ مع نزعات معاداة اليهود، بل وتطور هذا التطابق في بعض الأحيان إلى تعاونٍ عملي وثيق، كما هو الحال في ظل الحكم النازي لألمانيا.
وتتواتر عبارات العداء لليهود واليهودية في كتابات الرواد الصهاينة وتصريحاتهم، فعلى سبيل المثال، يرى (موسى هس) أن العقيدة اليهودية كارثة لا مفر منها، ولذا فعلى اليهودي أن يتحمل نير مملكة السماء حتى النهاية. ويذهب هس إلى القول باستحالة اندماج الجماعات اليهودية في الشعوب الأوروبية لأنهم يشكلون شعباً منبوذاً ومُحتقراً ومُشتتاً، شعباً هبط إلى مرتبة الطفيليات التي تعتمد في غذائها على الغير، شعباً ميتاً لا حياة له.
وكان هرتزل يؤكد على أن رؤيته الصهيونية ليست لها أية مرجعيةٍ دينية، ويجاهر قائلاً: إنني لا أخضع لأي وازع ديني، وقد تعمَّد هرتزل انتهاك الشعائر الدينية اليهودية حين زار مدينة القدس، لكي يؤكد أن حركته لا تنبع من أية منطلقاتٍ دينية تقليدية. ولا يخفي هرتزل الترابط الحتمي بين الصهيونية ومعاداة اليهود في العصر الحديث، فهو يشير في مذكراته إلى أنه كان متفقاً مع صديقه (ماكس نوردو) على أن معاداة السامية هي وحدها التي جعلت منهما يهوديين. وفي موضعٍ آخر يؤكد أن وجود هذا العداء أمر ضروري للمشروع الصهيوني، باعتباره البخار المحرك لانطلاقه.
ولم يتورع (ماكس نوردو)، الذي خلف هرتزل في زعامة المنظمة الصهيونية، عن إعلان إلحاده والتعبير عن شعوره بالاشمئزاز من المبادئ الأخلاقية والفلسفية التي ساقتها التوراة، فكان يرى أن التوراة طفولية بوصفها فلسفة، ومقززة بوصفها نظاماً أخلاقياً. كما تنبأ نوردو بأنه سيأتي يوم يحل فيه كتاب هرتزل دولة اليهود محل التوراة، باعتباره كتاباً مقدساً، وهو يتفق مع هرتزل في أن معاداة اليهود ظاهرة طبيعية وعادلة.
أما (دافيد بن جوريون)، فكان يرى أن التوراة ليست سوى كتابٍ للحكايات والمأثورات الشعبية، وأن الجيش هو خير مفسر للتوراة، بل ومضى إلى أبعد من ذلك مؤكداً أن الحياة لو تُركت للحاخامات لظل اليهود حتى الآن كلاباً ضالة في كل مكان يضربهم الناس بالأقدام، ولم يقف بن جوريون عند طرح هذه الأفكار بل عمل على تحويلها إلى واقعٍ ملموس في أوساط المستوطنين الأوائل، كما أصر على عقد قرانه في حفلٍ مدني في نيويورك، وظل لفترةٍ طويلة يرفض من حيث المبدأ إتمام الزواج وفقاً للشعائر الدينية.
ويشير الكاتب الصهيوني (ريتشارد كروسمان)، في كتابه أمة تُبعث من جديد: "إسرائيل" في رؤية وايزمان وبيغن وبن جوريون (1969)، إلى أن صداقته مع (حاييم وايزمان)، أول رئيس لدولة "إسرائيل"، لم تبدأ إلا عندما اعترف له بأنه معادٍ للسامية بالطبع، وقد علق وايزمان على ذلك مؤكداً أنه لو قال كروسمان غير ذلك لكان إما يكذب على نفسه أو على الآخرين. أما وايزمان نفسه فكان يتلذذ بمضايقة الحاخامات بإصراره على تناول الطعام غير المباح شرعاً، حسبما روى كروسمان في كتابه.
وكان الكاتب الصهيوني (جوزيف برينر) أكثر وضوحاً في عدائه لما سماه الشخصية اليهودية المريضة، وتبدو الأوصاف التي يطلقها على اليهود متطابقةً إلى حدٍ بعيدٍ مع ما يردده أشد المعادين لليهود. فهو يقول، مثلاً: "إن مهمتنا الآن أن نعترف بوضاعتنا منذ بدء التاريخ حتى يومنا هذا، وبكل نقائص شخصيتنا." واليهود في نظره يودون الحياة كالنمل والكلاب أو كالكلاب والمرابين، فهم شعب لا يعرف سوى الأنين والاختفاء حتى تهدأ العاصفة، يدير ظهره لإخوانه الفقراء، ويكدس دراهمه، ويتجول بين الأغيار ليؤمن معيشته بينهم، ثم يقضي نهاره يشكو من سوء معاملتهم له.
والملاحظ أن الرؤية الصهيونية، التي تعكسها تلك الكتابات والأقوال، تستند إلى الأسس نفسها التي تقوم عليها نزعات معاداة اليهود واليهودية، فنقطة الانطلاق الأساسية عند الطرفين هي أن ثمة طبيعة يهودية تميز اليهود عن غيرهم من البشر، وهي طبيعة ثابتة لم يطرأ عليها أي تغيير على مر التاريخ، ولا تختلف باختلاف السياق الحضاري والثقافي الذي يتواجد فيه اليهودي، أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي الذي يتبوؤه. ومن ثم فلا فرق بين يهود اليمن في القرن الثامن عشر، مثلاً، ويهود الولايات المتحدة الأميركية في أواخر القرن العشرين، أو بين عنصري إرهابي مثل (مناحم بيجين) ومفكر مناهض للصهيونية مثل (ناعوم تشومسكي). ويؤدي ذلك بدوره إلى الحديث عن وحدة يهودية تشمل كل الجماعات اليهودية في كل زمانٍ ومكانٍ.
وبالمثل، فإن ثمة تاريخاً يهودياً مستقلاً عن تاريخ البشرية، وهو تاريخ متصل يسير على وتيرةٍ واحدةٍ ولا يعرف الانقطاع، وجوهره هو تفرد اليهود، من جهةٍ، والعداء الأزلي الذي يكنه الأغيار لهم، من جهةٍ أخرى. وأمام وضعٍ كهذا، يصبح اندماج هؤلاء اليهود في مجتمعاتهم مستحيلاً، ويصبح من الضروري التخلص منهم إما بعزلهم خلف أسوار الأحياء المغلقة (الجيتو)، وإما بتهجيرهم إلى أرضٍ ما خارج أوطانهم، حتى وإن استدعى ذلك اقتلاع أصحاب هذه الأرض الأصليين، وإما بالقضاء عليهم فعلياً كما هو الحال في التجربة النازية.
وهكذا، فإن كلاً من الرؤية الصهيونية والنزعة المعادية لليهود تبدأ من نفي التاريخ وإلغاء الزمان والمكان، وتنتهي إلى نفي اليهود وإلغاء وجودهم.
الليكود والعمل من الاستقطاب التاريخي الحاد إلى التناغم والتكامل
محمد جمال باروت/كاتب سوري
المصدر: صحيفة الوطن السعودية 10 تشرين الثاني (نوفمبر) 2002
ترتد جذور الفرق الراهن بين تكتل الليكود وحزب العمل في "إسرائيل" إلى الاستقطاب التاريخي الحاد بين الصهيونية العمالية (اليسارية) التي قبلت إقامة الدولة في حدود الرقعة الانتدابية البريطانية على فلسطين، وبين الصهيونية التصحيحية (اليمينية) التي تمسكت بمبدأ إقامة الدولة على كل ما يسمى صهيونياً بـ" أرض إسرائيل" ومن هنا لم تنظر الصهيونية التصحيحية إلى تقبل الصهيونية العمالية للانتداب البريطاني على فلسطين والأردن في عام 1922م، والعمل على بناء الدولة_ مرحلياً_ في حدود الرقعة الانتدابية البريطانية على فلسطين دون الأردن، إلا كاعترافٍ صهيونيٍٍ بتقسيم بريطانيا لما يسمى صهيونياً بـ" أرض إسرائيل"، إلى منطقة الوطن القومي اليهودي في فلسطين وإمارة شرق الأردن العربية، يفرّط بالحق اليهودي المزعوم في الضفة الشرقية ( تقريباً الأردن الحالي). ومن هنا عُدَّ وصول الليكود إلى الحكم لأول مرة في انتخابات عام 1977م بمثابة انقلابٍ أيديولوجيٍ- سياسيٍ في "إسرائيل" نقل السلطة من اليسار الذي تولى عملية بناء الدولة وتأسيسها إلى اليمين.
إن الليكود يقول دوماً في معرض منافسته مع حزب العمل إن حكومته في عهد بيجن تلميذ مؤسس الصهيونية التصحيحية اليمينية جابوتنسكي، هي أول من أبرم اتفاقية سلام بين "إسرائيل" وأكبر دولة عربية هي مصر. لكن إذا ما تفحصنا في أمر تلك الاتفاقية، نجد أن تيار بيجن لا يَعدُّ سيناء في إطار" أرض إسرائيل"، و بهذا المعنى لم يخرج اليمين عن التزامه العقائدي بـ" أرض إسرائيل" من جهة أولى كما يفسر من جهة ثانية رفض بيجن بشكلٍ حازم لأي حلٍ في الضفة الغربية يتخطى حدود الحكم الذاتي.
ومن هنا درج الليكود على وصف الضفة الغربية بـ" المناطق المحرّرة"، بقدر ما درج حزب العمل على وصفها بـ" المناطق المدارة". ولقد أخذ الحل الإسرائيلي لـ" المشكلة الفلسطينية" يتبلور بين خيار الليكود في الحكم الذاتي وتصور حزب العمل في الخيار الأردني ثم في دولة فلسطينية. وصحيح أن بعض التيارات اليسارية الصهيونية قد برّرت قيام دولة فلسطينية على أساس حق الشعب الفلسطيني بدولةٍ مستقلة له، إلا أن الدقة تتمثل في أن حزب العمل الذي عَدَّ نفسه مركز اليسار الإسرائيلي قد عَدَّ قيام دولة فلسطينية عبر عملية تفاوضية انتقالية شرطاً لابد منه للحفاظ على الطبيعة اليهودية للدولة، ومن هنا رفض الضم السيادي للضفة على اعتبار أن ذلك سيؤدي إلى تحويل دولة "إسرائيل" إلى دولة ثنائية القومية.
إن الدولة الفلسطينية بهذا المعنى الذي طرحه حزب العمل تمثل حاجةً كيانيةً إسرائيليةً بدرجةٍ أولى، غير أنها لم تدخل في الأجندة المستقبلية فعلياً إلا بتأثير الانتفاضة الفلسطينية الأم، التي كان اتفاق أوسلو في عدد من الوجوه ثمرةً لها على الرغم من كل ما قيل عن هذه الثمرة" العجفاء".
ما يهمنا هنا في ميدان تحليل الفروق الجوهرية بين الليكود والعمل حول المسألة الفلسطينية، هو أن الاستقطاب التاريخي الحاد بينهما في حياة التجمع الاستيطاني (الييشوف اليهودي) خلال مرحلة الانتداب وبعد قيام الدولة، قد بات يتقلص بمعدلاتٍ متسارعة بعد إبرام أولى اتفاقيات السلام الإسرائيلية- العربية مع مصر، وهي الاتفاقية المعروفة بكامب ديفيد. إذ بات حل المسألة الفلسطينية يدخل في إطار ما يعرف بـ" الإجماع القومي" . ومن هنا حرص إسحق رابين آخر زعيمٍ تاريخيٍ حقيقيٍ لحزب العمل قبل انتخابات عام 1992م على أن يجيب عن سؤال يتعلق بسياسته تجاه مسألة السلام بعد احتمال فوزه في الانتخابات، بأنه امتداد لبيجن. وينطبق ذلك على اليمين نفسه إذ حرص بنيامين نتنياهو الليكودي عشية معركته الانتخابية مع بيريز العمالي بأنه سيواصل سياسة بيجن وبن جوريون. وربما يفسر ذلك حرص شاؤول موفاز عشية معركة الانتخابات التمهيدية الأخيرة في الليكود أن يلقي خطاباً مليئاً بالاقتباسات من بن جوريون العمالي اليساري.
لقد نشأت حال إسرائيلية فريدة قلما نجدها في أشكال الاجتماع السياسي الأخرى، وهي الحال التي يتبادل فيها مركزا اليمين واليسار التكامل من داخل الصراع. ويعني ذلك أن الاستقطاب التاريخي الحاد بين العماليين والليكوديين قد أخذ ينحل بشكلٍ متسارعٍ لمصلحة التكامل والتداخل. إن هذا التكامل هو ما يترجم في "إسرائيل" مؤسساتياً تحت اسم حكومة" الوحدة الوطنية". لكن تقلص الاستقطاب إلى تكامل، لم يستكمل دورته إلا في مرحلة حكومة الوحدة الوطنية الأخيرة المنهارة بزعامة شارون (ينحدر بالمناسبة من أصولٍ عمالية يسارية) وبن أليعازر ( ينحدر من أصول يمينية) إذ تحول العمل بالفعل في ظل الحكومة السابقة إلى مجرد ظلٍ ذيليٍ لليكود في سياسته الفلسطينية.
إن فرضيتنا تكمن في أن الانتفاضة الفلسطينية قد أدت إلى انهيار ما يسمى بمعسكر السلام الإسرائيلي، لمصلحة العودة بشكلٍ هيستيريٍ جماعيٍ إلى ينابيع الصهيونية التصحيحية اليمينية، وخططها الفظة في الترانسفير أو إعادة الاحتلال الكامل أو الفصل، غير أن هذه الفرضية لا تفهم على مستوى السياسة الإسرائيلية الفلسطينية إلا في ضوء التكامل بينهما الذي حل مكان الاستقطاب، والذي سبق لكل من رابين ونتيناهو أن عبرا عنه، ووجد صدى له في خطاب موفاز الأخير.
إن الترسيمة العربية التي تنكر أي فارقٍ بين الليكود وبين العمل، لم تترسخ كما ترسخت خلال الشراكة الأخيرة بينهما في حكومة شارون. ومن هنا عَدَّ يسار ووسط حزب العمل انتخاب متسناع على أنه نوع من استعادة هوية العمل المميزة التي طمسها تحالفه مع الليكود. لكننا نجد في المقابل الليكودي أن مركز الليكود قد صعّد البراغماتي شارون الذي يقول بدولة فلسطينية وليس نتنياهو المدعوم من زعامة الليكود الأيديولوجية التي تتمسك بالحكم الذاتي.
بكلامٍ آخر صعّد كل من حزب العمل والليكود" وسطه" إلى الزعامة. ولأول مرة يمرر شارون بطريقة براغماتية تأكيد مندوبه في الأمم المتحدة في الأسبوع ما قبل الماضي على قبول خريطة الطريق المبنية على رؤية بوش لدولة فلسطينية إلى جانب دولة "إسرائيل"، غير أنه لا يوجد جديد حقيقي هنا خارج المراوغة، إذ سبق لشارون أن أكد أكثر من مرة أن دولة فلسطينية ستقام في نهاية المطاف، لكنه يستثمر ذلك هنا لتوجيه رسالتين مزدوجتين على ما يبدو، الأولى إلى واشنطن التي ينتظر منها ضمانات الأربعة عشر مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي المنهك، والثانية إلى حزب العمل وتحديداً إلى يمينه ونسبة الـ56 بالمائة منه التي تقول آخر الاستطلاعات إنها تضغط منذ الآن على متسناع كي يخفف مما يوصف بتصريحات "يساريةٍ"، وذلك بهدف استقطاب جمهوره، وجر الحزب مرةً ثانيةً إلى حكومة وحدة وطنية تؤمن لشارون" إجماعاً قومياً".
أما دولة شارون الفلسطينية فهي منذ الآن ليست أكثر من الحكم الذاتي الليكودي التقليدي لكن بمرتبة دولة مفككة الأوصال ومنزوعة السلاح والسيادة من الناحية الفعلية، وذلك على أربعين بالمائة من الضفة الغربية وثلاثة أرباع قطاع غزة.
بكلامٍ آخر إن كلاً من شارون الذي تغلب على مركز الزعامة الأيديولوجية لليكود ومرشحها نتنياهو، ومتسناع الذي تغلب على يمين العمل ممثلاً ببن أليعازر، يسعيان إلى كسب ما يسمى في "إسرائيل"، الوسط، الذي تقدره الكاتبة الإسرائيلية (تانيا راينهارت) بأنه يشكل ثلث الناخبين، وأن ثلث هذا الثلث غير أيديولوجي بمعنى أنه يريد الهدوء. شارون مدجج بتكتله ذي الـ310 آلاف عضو ومتسناع يتقدم بحزب يجهد لاستعادة هويته المميزة عن الليكود بعضوية لا تتجاوز الـ110 آلاف عضو، لأسباب انتخابية وليس سلامية مع الفلسطينيين. ومن هنا فإن طرح شارون للدولة الفلسطينية وتأييده (على طريقته) لخريطة الطريق سيحاول اجتذاب الوسط وقطع الطريق على برنامج متسناع الذي يستند إلى هوية حزب مشروخ لم يتخلص بعد من تضعضعه. فالفارق التاريخي بين الليكود والعمل قد تهاوى إلى درجةٍ كبيرة، بشكلٍ يمكن فيه القول إن هناك فرقاً بينهما لكنه فرق في الفروع وليس في الأصول، وفرق بين سياسة" القبضة اللطيفة" وسياسة" القبضة الغليظة"، وإن قضية السلام لا تعدو حتى هذه اللحظة أن تكون أكثر من ورقةٍ انتخابية داخلية، يبدو أن عرب الداخل لم يعودوا منخدعين بها كما انخدعوا بها في عام 1999م حين صوّتوا لباراك.
ماذا يقول تلمود اليهود
عن المسيح والمسيحيين ومقدساتهم وإنجيلهم ?!
بقلم د. مشرح علي أحمد علي
كلية أصول الدين والدعوة / جامعة الأزهر – المنصورة
آفاق عربية المصرية
لا غرابة ولا عجب فيما قام به جيش الاحتلال الصهيوني من حصار وتدنيس لكنيسة المهد في بيت لحم بفلسطين, فهذا أمر أقرته العقيدة التلمودية اليهودية, حيث يعتبر اليهود الكنائس المسيحية بمثابة بيوت للباطل, وأماكن للقاذورات, لذلك يجب هدمها وتخريبها. وليس هذا قولاً نلقيه على عواهنه دون سند أو دليل. ودليلنا هو الدراسة العالمية التي وضعها الأب الكاهن «آي . بي. برانايتس» العالم الكاثوليكي اللاهوتي القدير في العبرية, والذي كان عضوًا في هيئة تدريس جامعة الروم الكاثوليك للأكاديمية الإمبراطورية في مدينة «سانت بطرسبرج» عاصمة روسيا القيصرية. وهذه الدراسة بعنوان «فضح التلمود - تعاليم الحاخامين السرية», وقد قام بترجمة هذه الدراسة الأستاذ الفاضل «زهدي الفاتح» وقامت بنشرها دار النفائس - بيروت.
هذا, ولا يغيب عن البال أن التلمود هو المصدر الثاني من المصادر المقدسة عند اليهود, حيث يتوسط العهد القديم وبروتوكولات حكماء صهيون.
والتلمود هو اسم مأخوذ من كلمة لامود LAMOD العبرية, ومعناها تعاليم, إذن فالتلمود هو الكتاب الذي يحتوي علي التعاليم اليهودية, وهو الذي يفسرها ويبسطها. ويعتبر اليهود التلمود - من قديم الزمان - كتابًا منزلاً مثل التوراة, ويرون أن الله أعطى موسى التوراة على طور سيناء مدونة, ولكنه أرسل على يده التلمود شفاهًا.. هكذا يدّعون . ولا يقنع اليهود بهذه المكانة للتلمود, بل يضعون هذه الروايات الشفهية في منزلة أسمى من التوراة. فقد جاء في التلمود: «من احتقر أقوال الحاخامات استحق الموت أكثر ممن احتقر أقوال التوراة, ولا خلاص لمن ترك تعاليم التلمود واشتغل بالتوراة فقط, لأن أقوال علماء التلمود أفضل مما جاء في شريعة موسى». وقام الحاخام «روسكي» المشهور: «التفت يا بني إلى أقوال الحاخامات أكثر من التفاتك إلى شريعة موسى». وجاء في التلمود: «إذا خالف أحد اليهود أقوال الحاخامات يعاقب أشد العقاب, لأن الذي يخالف شريعة موسى خطيئته مغفورة, أما من يخالف التلمود فيعاقب بالقتل».
وبعد هذه المقدمة, فلنرجع إلي هذه الدراسة القيمة, التي من خلالها يتضح لنا موقف اليهود من المقدسات المسيحية.
أولاً: ما يتعلق بأسماء يسوع المسيح «عليه السلام» :
1- الاسم الأصلي للمسيح في اللغة العبرية هو «جيشوا هانوتسري Jeschua Hanotsri» أي يسوع الناصري, وقد دُعي بالناصري نسبة إلي مدينة الناصرة التي عاش فيها.. وهكذا فإن التلمود يدعو المسيحيين أيضا بالعبرية «نوتسريم Notsrim» أي الناصريون.
2- وبما أن كلمة «جيشوا Jeschua» تعني المنقذ أو المخلص Savior, فإن اسم يسوع الأصلي قلما يظهر في الكتب التلمودية. وهو يختصر دائمًا باسم «جيشو Jeschua» الذي اقتبس - بحقد - في الواقع من تركيب الأحرف الأولي للكلمات الثلاث: «إيماش شيمو فيزيكرو Immach Schemo Vezikro» أي ليمح اسمه وذكره.
2-ىوعلي سبيل التحقير والازدراء يدعى يسوع أيضًا «نجار بار نجار» أي نجار بن نجار.. كذلك يدعى «بن شارش إيتيم Ben Charsch eraim» أي ابن الحطاب.
ثانيًا: حياة المسيح «عليه السلام» :
1- يقول التلمود : «إن يسوع المسيح كان ابنًا غير شرعي, حملته أمه خلال فترة الحيض من العسكري بانديرا بمباشرة الزنا».
2- جاء في التلمود : «إن المسيح كان ساحرًا ووثنيًا».
3- جاء في التلمود: «إن يسوع الناصري موجود في لجات الجحيم بين الزفت والقار».
4- جاء في التلمود: «لقد ضلل يسوع, وأفسد إسرائيل وهدمها».
ثالثا: تعاليم المسيح «عليه السلام»
1- جاء في التلمود: « الناصري هو الذي يتبع تعاليم كاذبة, يبتدعها رجل يدعو إلي العبادة في اليوم الأول التالي للسبت».
2- جاء في التلمود: «إن تعاليم يسوع كفر, وتلميذه يعقوب كافر, وإن الأناجيل كتب الكافرين».
3- الكتب الإنجيلية تدعى «آآفون غيلانيون Aavon gilaion» أي كتب الخطيئة والشر.
رابعاً: الأسماء التي يطلقها التلمود علي المسيحيين.
1- أبهوداه زاراه Abhodah Zarah أي عبدة الأوثان.
2- آكوم Akum استخرجت هذه الكلمة من الأحرف الأولي للكلمات التالية: أوبدي كوخابكيم ومازالوث - أي عبدة النجوم والكواكب.
3- أوبدي إيليليم Obhde Elilim أي خدام الأوثان.
4- مينيم Minim أي المهرطقون.
5- نوخريم Nokhrim أي الأجانب , الأغراب.
خامسًا: ما يقوله التلمود عن الكنائس
1- جاء في التلمود: «إن الكنائس النصرانية بمقام قاذورات, وإن الواعظين فيها أشبه بالكلاب النابحة».
2- جاء في التلمود: «كنائس المسيحيين كبيوت الضالين ومعابد الأصنام, فيجب علي اليهود تخريبها».
3- يدعي مكان العبادة المسيحية:
أ - بث تيفلاه Beth Tiflah أي بيت الباطل والحماقة..
ب- بث أبهوداه زاراه Abhodah Zarah أي بيت الوثنية.
ج- بث هاتوراف شيل ليتسيم Beth Hatturaph Letsim أي بيت ضحك الشيطان.
4- جاء في التلمود: «ليس محرمًا فقط على اليهودي الدخول إلي كنيسة مسيحية, بل حرام عليه الاقتراب منها أيضًا, إلا تحت ظروف معينة».
سادسًا: ما يقوله التلمود عن القديسيين المسيحيين :
الكلمة العبرية هي «كيدوشيم Kedoschim» واليهود يدعونهم «كيديدشيم Kidedchim» «سينادوس Cinaedos» أي الرجال المخنثون. أما القديسات فيدعونهن «كيديشوت Kedeschoth» أي المومسات.
سابعًا: ما يقوله التلمود عن المسيحيين :
1- وثنيون وهراطقة وعبدة أصنام.
2- المسيحيون أسوأ من الأتراك «المسلمين».
3- القتلة: فقد جاء في التلمود: «على الإسرائيلي ألا يرافق آكوما «مسحيين» لأنهم مدمنو إراقة الدماء».
4- الزناة: فقد جاء في التلمود: «غير مسموح اقتراب حيوانات اليهود من «الجويم» - غير اليهود - لأنه يشك في أن يضاجعوها, وغير مسموح للنساء معايشتها لأنهن شبقات».
5- نجسون: يشبهون الروث والغائط.
6- ليسوا كالبشر, بل هم بهائم وحيوانات.
7- أسوأ من الحيوانات - يتناسلون كالبهائم.
8- أبناء الشيطان - أرواح المسيحيين هي أرواح شريرة.
9- إلي الجحيم يذهبون بعد الممات.
10- جاء في التلمود: «إن قتل المسيحي من الأمور المأمور بها, وإن العهد مع مسيحي لا يكون عهدًا صحيحًا يلتزم اليهودي القيام به, وإنه من الواجب دينًا أن يلعن اليهودي ثلاث مرات رؤساء المذهب النصراني, وجميع الملوك الذين يتظاهرون بالعداوة ضد بني إسرائيل».
11- وأخيرًا يأمر التلمود أتباعه بقتل المسيحيين دون رحمة, ففي «أبهوداه زاراه» أي الكتاب الخاص بالوثنية ص 612 نقرأ: «يجب إلقاء المهرطقين والخونة والمرتدين في البئر, والامتناع عن إنقاذهم».
وبعد» فإننا نكتفي بهذا القدر من الأوامر التلمودية, والقوانين الأخلاقية, التي فسر بها كهنة اليهود توراتهم, تفسيرًا يتناسب والحقد الذي يأكل قلوبهم, والقسوة الموروثة, والأنانية البشعة, والفوضي العقلية التي لا مثيل لها بين شعوب الأرض, والتي لا تقيم وزنًا للمقدسات المسيحية أو الإسلامية, انطلاقًا من أسطورة «شعب الله المختار» عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
بقي أن يعلم القارئ أن الأب «برانايتس» مؤلف هذا العمل القيم قد دفع حياته ثمنًا باهظًا , جزاء ما كشف من مكنون هذه التعاليم السرية والإجرامية, حيث اغتاله اليهود في بداية الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917.
والسؤال الذي نريد أن نطرحه الآن: ما رأي المسيحيين في هذه التعاليم التي ذكرناها آنفًا? ولماذا يصم الغرب المسيحي أذنيه, ويغمض عينيه عما يحدث من حصار وتدنيس وتخريب لكنيسة المهد? فضلاً عما يحدث للإخوة الفلسطينيين من إبادة جماعية? ولماذا يقف العالم صامتًا, وكذلك المنظمات الدولية - وخاصة منظمة اليونسكو - علي ما يقوم به جيش الاحتلال الصهيوني من هدم للكنائس والمساجد الأثرية , بينما قامت الدنيا ولم تقعد, وانتفضت منظمة اليونسكو وملأت الدنيا صراخًا وعويلاً حينما أقدمت حركة طالبان علي هدم تماثيل بوذا, بحجة أنها تراث إنساني?! أليست الكنائس والمساجد الأثرية أيضًا من التراث الإنساني?? أم أن دولة الكيان الصهيوني فوق القانون تفعل ما تشاء??
نعم» إنها فوق القانون, لأنها ربيبة وصنيعة الشيطان الأكبر وأم الإرهاب «أمريكا» التي تدافع عنها في المحافل الدولية, وتستخدم حق الفيتو «النقض» حماية لها من الأخطار, وتمدها بالسلاح والمال, بل وتشترك معها في الجريمة النكراء, لإبادة شعب أعزل, لا يملك إلا عقيدته وإرادته القوية, وجهاده وصموده الرائع, لتحقيق النصر, وسحق ودحر حفدة القردة والخنازير وحثالة البشر, وقتلة الأنبياء.
الدوافع والغايات للإرهاب الصهيوني
تأكيد الوجود وتوفير عنصر الأمن
مفهوم الأمن الإسرائيلي وأهدافه:
كثيراً ما يربط الإسرائيليون بين الحدود والأمن، ويطالبوا بحدود آمنة، أي أنهم يريدون حدوداً لتأمين سلامتهم .
من المعروف أن أية دولة تشتمل على ثلاثة ركائز أساسية : إقليم: شعب: ونظام سياسي، وأن مهمة الأمن القومي هي تأمين ورعاية هذه الركائز الثلاث، فالأمن القومي لأي دولة يعرف بأنه دفاع ووقاية ضد أخطار داخلية أو خارجية مثل وقوع الدولة تحت سيطرة دولة أو معسكر أجنبي نتيجة لضعف أو انهيار داخلي أو ضغوط خارجية، ولكن نظرية الأمن الإسرائيلية تتخطى مثل هذه التعريفات والحدود كما قال بن غوريون ((إن أمن الدولة ليس قضية حماية الاستقلال أو الأراضي أو الحدود أو السيادة، إنما هي قضية البقاء على قيد الحياة))، أي أن المفهوم الإسرائيلي للأمن يعني بقاء إسرائيل والشعب اليهودي ككل، ومن هنا نجد أن تعبير الأمن يشكل محوراً ومبرراً لكثير من المبادئ أو الأنشطة الإسرائيلية، ويرجع تعاظم مفهوم الأمن من وجهة النظر الإسرائيلية إلى عاملين أساسيين (1):
العامل الأول: وهو نابع من العقلية الإسرائيلية ذاتها إذ أن هذه العقلية قد تشكلت داخل إطار الدائرة الدينية والتي تستمد مقوماتها من التوراة والتلمود وكلاهما مليء بأماني الأمن سواء في شكل عقيدة الخلاص أو في شكل قصص تحكي عن سيادة بني إسرائيل وتحطيم سواهم من البشر، والدائرة الثانية هي الدائرة الاجتماعية التي عاش اليهود في إطارها فترات طويلة يعانون من الاضطهاد والعزلة مما أدى إلى غرس الخوف والقلق في نفوس اليهود بصفة مستمرة .
فمنذ تشتت اليهود في بقاع العالم واضطهادهم في المجتمعات التي يعيشون فيها، تميزت حياتهم بالشعور العميق بعدم الاستقرار حيث عاشوا في مجتمعات مغلقة "الجيتو" وحاولوا أن يجدوا أمنهم في تكوين وحدات لحراسة أحياء "الجيتو" وفي تنظيم قوى داخلها تمارس سلطة الحفاظ على الأمن .
العامل الثاني: وهو ناشئ عن الوضعية والكيفية التي أقيمت بها إسرائيل وقد زرعت إسرائيل في المنطقة دون رغبة أهل البلاد، ومن ثم فهي تشكل عنصراً غريباً في الجسد العربي الذي سيعمل على لفظه بصفة مستمرة، كما أن إسرائيل قد أقيمت مستندة على ركيزتين أساسيتين هما التأكيد الخارجي والقوى المسلحة ومع بدء تنفيذ الاتجاه العملي للصهيونية "الاستيطان" اتخذ تحقيق الأمن الشكل التالي:
الوقاية الذاتية والأمن، وقد عبر عنه أسلوبهم في الدفاع عن المستعمرات الاستيطانية بإقامة مستعمرات حصينة وإنشاء عناصر لحراسة المستعمرات والعناصر العسكرية الأخرى .
إضفاء طابع المشروعية على الاستعمار الاستيطاني، وذلك بالعمل على أن يكفل لنشاطها الاستعماري في فلسطين عنصر القبول والإقرار الدولي وكسب التأييد الأممي .
وعلى ذلك نجد أن مطلب الأمن يعتبر مطلباً فردياً لليهود وكذا مطلباً جماعياً على مستوى الدولة لتأمين بقائه كجسم غريب زرع قهراً في المنطقة .
ويمكن تحديد أهداف الأمن القومي الإسرائيلي من وجهة النظر الإسرائيلية في تأمين وجود وكيان دولة إسرائيل والعمل على تطويع الإرادة العربية بقبول الوجود الإسرائيلي قسراً أو طواعية، وخلق الظروف المناسبة لتحقيق غاية الصهيونية في إقامة دولة تضم معظم يهود العالم داخل الرقعة التي يطلق عليها الحدود التاريخية لأرض إسرائيل .
سياسة إسرائيل لتحقيق الأمن
تتحدد سياسة إسرائيل لتحقيق الأمن على عدة عوامل منها (2):
خصائص وسمات العقلية الإسرائيلية والتي يحتل العنف مكانة كبيرة منها .
أسلوب إقامة الدولة الذي يستند على الدعم الخارجي وإقرار الأمر الواقع وخاصة باستخدام القوة .
رفض العرب قبول الوجود الإسرائيلي .
خصائص إسرائيل كدولة والتي يشوبها العديد من نقاط الضعف السياسية والاجتماعية والاقتصادية والبشرية بالإضافة إلى طبيعة إسرائيل كدولة عسكرية .
التطلعات والأطماع الإسرائيلية في مجال استكمال تنفيذ المخططات الصهيونية سعياً إلى تحقيق الغاية الصهيونية وما يتطلبه ذلك من ضرورة خلق الظروف المناسبة لتحقيق هذه الغاية، وخاصة بالنسبة لما يسمى بالمجال الحيوي للعمل وكذا في مجالات القوى البشرية الإسرائيلية .
ويمكن تلخيص اتجاهات إسرائيل لتحقيق الأمن فيها يلي:-
• إلقاء العبء الرئيسي في تحقيق أهداف الأمن الإسرائيلي على السياسة العسكرية .
• البحث عن حليف "دولة كبرى" تقوم بضمان أمن إسرائيل وتكفل الدعم السياسي والاقتصادي والعسكري لها .
• العمل على تطوير القدرة الاقتصادية لإسرائيل خاصة في مجال الصناعة ودعم القاعدة التكنولوجية الإسرائيلية والعمل وعلى دعم العلاقات الاقتصادية.
• العمل على زيادة الهجرة اليهودية إلى إسرائيل بصفة مضطردة .
• إنشاء وتدعيم رأس جسر يربط إسرائيل بالدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية .
• العمل على إضعاف القوة العربية وخاصة في المجالات العسكرية وكذا العمل على تفتيت التضامن العربي .
• انتهاز أي فرصة قد تؤدي إلى اتصال مباشر مع الدول العربية .
• التوسع الإقليمي في السيطرة على خطوط الاستراتيجية التي تمثل المعاقل الدفاعية عن المنطقة، والاستيلاء على موارد الثروة الطبيعية والأراضي الخصبة (3).
نستنتج أن جوهر الأمن الإسرائيلي قد اصطبغ بمفاهيم وقيم عسكرية بالشكل الذي يجعلنا نقول أن الأمن من وجهة النظر الإسرائيلية خلال المرحلة فيما بين قيام إسرائيل وحتى قبول وجودها في المنطقة، كجزء عضوي فيها هو أمن عسكري .
المبادئ الأساسية للأمن الإسرائيلي
يمكن بلورة المبادئ الأساسية للأمن العسكري من وجهة النظر الإسرائيلية في الآتي(4):
العمل على توفير تفوق عسكري إسرائيلي على الدول العربية والعمل على إضعاف العرب وتفتيت قوتهم .
اتباع سياسية عسكرية رادعة تجاه التهديد العسكري العربي في الداخل أو الخارج، وكذا العمل على منع وإحباط اختراق وتوغل القوات العربية إلى عمق إسرائيل.
المناداة بالضمانات الجغرافية والتأمين الجغرافي العسكري وذلك بالعمل على توفير حدود تتلاءم ومتطلبات العمل العسكري (دفاعي وهجومي).
وخلاصة القول نجد أن مفهوم وجوهر الأمن الإسرائيلي يعتمد أساساً على مفاهيم وضوابط عسكرية، وقد استتبع ذلك بظهور بعض المصطلحات العسكرية المتعلقة بالحدود مثل الحدود الآمنة والحدود التي يمكن الدفاع عنها، والحدود الرادعة، وكل هذه المصطلحات ما هي إلى مرادفات لمدلول واحد وهو الحدود العسكرية التي تتمشى ومتطلبات العمل العسكري .
تعتبر حجة إسرائيل المكافحة من أجل العيش من الدعامات الأساسية للإعلام الصهيوني، وهي من الدعامات حديثة العهد، حيث تستعمل هذه الحجة من أجل تبرير كافة اعتداءات إسرائيل وحروبها ضد العرب، فكل ما تقوم به إسرائيل من اعتداءات هو مبرر ما دامت إسرائيل تكافح من أجل العيش أو ما يسمى بـ(SURVIVAL)، وتضع إسرائيل نفسها في صورة المهددة من قبل العرب باستمرار، وهي تكافح من أجل وجودها، فحروب إسرائيل تصور وتبرر على أنها حروب وقائية أو دفاعية، وحتى ضرب المفاعل النووي العراقي في حزيران /1981 جاء لأسباب أمنية لأنه يهدد وجودها. وضمن نفس المقولة تبرز نظرية الأمن الإسرائيلية، فهي تصادر الأراضي وتبني المستوطنات داخل الأراضي المحتلة لأسباب أمنية. وبالرغم من أن إسرائيل تمتلك قوة عسكرية ضاربة في الشرق الأوسط، وتمتلك الأسلحة المكافحة من أجل العيش ضمن محيط عربي معاد ومتفوق عليها بالعدد والعدة .
وإسرائيل هذه المكافحة من أجل العيش بحاجة إلى ضمانات دولية لحماية وجودها، وهي تريد أن تستغني عن تلك الضمانات، لأنها تريد الاعتماد على قواها الذاتية لحماية نفسها كما صرح بذلك مراراً زعماء اليهود (5).
والجدير بالذكر أن الإعلام الصهيوني لا يطرح نظرية الأمن في طروحاته ومخاطبته للرأي العام الدولي، لأن طرح نظرية الأمن تصورها على أنها دولة توسعية أو دولة عظمى .
ولهذا فهم يتحاشون التحدث عن ذلك، وكل ما يمارسونه ضمن نظرية الأمن يقع تحت شعار إسرائيل المكافحة من أجل العيش والبقاء، فإن كل ما تقوم به من أعمال عدوانية وتوسعية ما هو إلا للمحافظة على بقاءها وعيشها، وهذا طرح إعلامي ذكي يستطيع أن يستقطب حوله العطف والتأييد بالرغم من الممارسات العدوانية والتوسعية والحروب الوقائية .
المطامع في التوسع وامتداد رقعة الأرض (حدود الدولة)
إن المعتقدات التي يؤمن بها اليهود تقوم على أساس أن اليهود هم شعب الله المختار وأن الله قد أعطاهم أرض الميعاد ووعدهم بملكوت العالم، وأن قاعدة هذا الملك هي أرض الميعاد ولن تتم النبوءات إلا بعد أن يستتب الأمر لليهود على الأرض اليهودية وقد لخصوا مطامعهم في تعاليم التلمود بما يلي:
• الأرض كل الأرض ميراث لبني إسرائيل.
• أن كل شريعة غير شريعة بني إسرائيل فاسدة.
• أن كل سلطة إلى وجه الأرض غير سلطتهم فهي مغتصبة .
• أن الرب حرم عليهم الشفقة والرحمة (6).
ومن الحجج الصهيونية، الأكثر استعمالاً من قبل الدعاية الصهيونية، وخصوصاً بعد تأسيس الدولة الصهيونية، حجة "إسرائيل الصغيرة" أو إسرائيل ذات المساحة الصغيرة هذا إذا ما قورنت بالمساحات الشاسعة التي يسكنها العرب، من المحيط إلى الخليج، يقول المنطق الصهيوني مخاطباً العرب :لماذا لا يتنازل العرب عن هذه القطعة الصغيرة من الأرض لليهود المساكين الناجين من معسكرات الاعتقال النازية، وضمن هذا المنطق الصهيوني، ما دام كل العرب عرباً فلماذا لا يحلون مشكلة اللاجئين العرب ويستوعبونهم في هذه البلاد العربية الواسعة؟؟ (7).
حدود إسرائيل من وجهة نظر الديانة اليهودية:
كان العامل الديني أحد أهم الركائز التي استند عليها اليهود في مطالبهم للاستيلاء على أرض فلسطين، وقد ارتبطت هذه المطالب بما يسمى بالوعود الإلهية لهم في امتلاك الأرض المقدسة بوصفهم الشعب المختار، فالتوراة والتلمود هما مصدر العقيدة اليهودية التي كانت فكرة الخلاص والعودة بمثابة أهم عناصر تلك العقيدة .
ولعل أبرز الدلالات التي تشير إلى مكانة المعتقدات الدينية المتعلقة بالأرض، عندما وقف الحاخام الإسرائيلي موشي غوريون، حاخام الدفاع الإسرائيلي في أعقاب العدوان الإسرائيلي في يونيو / حزيران /1968، قائلاً: ((إن حروب إسرائيل الثلاث مع العرب في السنوات 48، 56، 1967، إنما هي حروب مقدسة، إذ دارت أولها لتحرير أرض إسرائيل واشتعلت الثانية لتثبيت أركان دولة إسرائيل، أما الثالثة، فقد كانت لتحقيق كلمات أنبياء إسرائيل)) (8).
ويستند اليهود في ادعاءاتهم بحقهم في امتلاك العديد من الأرض العربية إلى بعض النصوص التي وردت في التوراة، والتي تحتوي من وجهة نظرهم على عدد من الوعود والتشريعات الإلهية التي تكسبهم الحق الأبدي في امتلاك تلك الأراضي، منها وعود لسيدنا إبراهيم جاءت بسفر التكوين ولسيدنا اسحق ولسيدنا يعقوب . . ) ويبرز من النصوص الواردة بالكتاب حول الوعود الإلهية بخصوص الأرض التي يقولون أن الله قد وعدهم بها، عدم وجود حدود ثابتة لتلك الأرض، بل أن هناك اختلافات كثيرة وتباين واضح في حجمها، فنجد أن أحد النصوص يشير إلى أن تلك الأرض عبارة عن جزء صغير من منطقة نابلس، بينما تشير بعض النصوص الأخرى إلى أن تلك المنطقة تشتمل على الرقعة المحصورة بين نهر الفرات ونهر مصر .
وتجدر الإشارة إلى أن التلمود يعتبر من أهم المصادر اليهودية التي تحتوي على الشروحات والتفسيرات المتعلقة بحدود إسرائيل، ومن الملاحظ أيضاً أن التفسيرات المتعلقة بحدود إسرائيل قد تزايدت بشكل كبير نسبياً خلال الفترات التي سبقت وواكبت ظهور وتطور الحركة الصهيونية (9).
وفي المجال الديني نجد أن التلمود قد حاول تحديد الرقعة التي يدعون أنها أرض إسرائيل مع مراعاة إضفاء مرونة كبيرة على المطالب الإقليمية اليهودية حيث تعكس تلك المرونة الفكر التوسعي للإسرائيليين، فقد ربط التلمود إلى حد كبير بين موضوع حجم الرقعة المطلوب الاستيلاء عليها وبين حجم القوى البشرية لإسرائيل، مع الإشارة إلى ضرورة إجراء التوسع الإقليمي بشكل تدريجي بما يتمشى وتزايد السكان اليهود، حتى أنه شبه حدود إسرائيل بجلد الغزال الذي لديه المرونة للاتساع بحيث يمكنه أن يستوعب لحمه وعظامه، ومن خلال النصوص في التوراة وتلك التفسيرات التلمودية وتفسيرات الربانيين أو العلمانيين، نجد أن حدود الأرض التي يعني بها اليهود ليست ذات تحديد واحد ثابت، بل هناك اختلافاً حول تحديد ماهية هذه الحدود، إلا أنه يمكن القول بأنه هناك حد أدنى لهذه الحدود، وحد أقصى، والانتقال بينها يرتبط بعدة عوامل دينية ومادية تتوقف على مدى إطاعة اليهود لتعاليم الرب، وتطور الموقف البشري لليهود، وكذا موقف السكان الأصليين الذين يسكنون الأرض المطلوب الاستيلاء عليها .
ويشتمل الحد الأدنى لحدود إسرائيل من وجهة نظر الديانة اليهودية على المنطقة من دان شمالاً إلى بئر السبع جنوباً، وتحتوي كذلك على ضفتي الأردن حيث تحدها من الشرق بادية الشام وفي الغرب البحر الأبيض المتوسط، وتشير المراجع اليهودية إلى أن تلك المنطقة تشمل أرض كنعان التي حددت في معاهدة السلام بين رمسيس الثاني والحيثيين في سنة 1270 ق.م (10)، وكذا الأراضي التي تركزت عليها معظم الوعود الإلهية، بالإضافة إلى أنها تضم كافة الأراضي التي خصصتها التوراة لأسباط إسرائيل، ويمكن القول أن الحد الأدنى من الحدود من وجهة النظر الدينية يشتمل على المنطقة التي يحدها شمالاً صيدا على البحر الأبيض، ومنها إلى دان بمنابع نهر الأردن، وفي الشمال الشرقي تحتوي في داخليتها على هضبة الجولان حتى مشارف دمشق وفي الشرق الصحراء العربية حتى نهر الأردن (في منتصف البحر الميت) وفي الجنوب بئر السبع وصحراء النقب وفي الغرب البحر الأبيض المتوسط .
أما الحد الأقصى لهذه الحدود فيشتمل على المنطقة التي يحدها من الغرب البحر الأبيض المتوسط، وفي الجنوب الغربي وادي العريش وصحراء سيناء، وفي الجنوب خليج العقبة، وفي الشرق وادي عربة ثم اعتبار من نهر الأرنون الصحراء العربية (شرق الأردن) وامتدادها شمالاً وفي الشمال الشرقي والشمال نهر الفرات حتى صيدا على البحر الأبيض .
وإذا ما أردنا أن نلخص التصورات لحدود إسرائيل من وجهة النظر الدينية بوجه عام فإننا نجد أن تلك الحدود تشتمل على الآتي (11):
الحدود الغربية:
في الغرب البحر الأبيض المتوسط، وفي الجنوب الغربي وادي العريش، إلا أن بعض التفسيرات التي وردت على لسان بعض المتدينين اليهود تشير إلى أن هذا الحد هو نهر النيل وذلك استناداً إلى سفر التكوين الإصحاح 15، من أن الحد الغربي هو نهر مصر، إلا أن هذا التفسير يعتبر تفسيراً نادراً، وأن التفسير الذي يشير إلى أن الحد الغربي هو وادي العريش يعتبر أكثر شيوعاً .
الحدود الشرقية:
ليس هناك خلاف حول الحد الشرقي للمنطقة التي يعتبرونها أرض الميعاد، حيث تضم تلك المنطقة شرق الأردن حتى بادية الشام .
الحدود الشمالية:
هناك حدان للحدود الشمالية، أحدهما حد أدنى ويشتمل على الجولان وجبل الشيخ ومرتفعات لبنان حتى صيدا، وبذلك تدخل المرتفعات السورية واللبنانية داخل حدود إسرائيل من وجهة نظر الديانة اليهودية، أما الحد الأقصى للحدود الشمالية فيصل بتلك الحدود حتى نهر الفرات .
الحدود الجنوبية:
هناك أيضاً حدان، الحد الأول هو الحد الأدنى، ويصل إلى بئر السبع والنقب أما الحد الثاني فيصل إلى خليج العقبة .
ومن أبرز النقاط التي وردت بالتوراة عن التشريعات والتوجيهات اليهودية بخصوص الاستيلاء والسيطرة على الأرض، تلك النقاط التي تحث الإسرائيليين للاستيلاء على تلك الأراضي بشكل مرحلي وتدريجي مع التأكيد على ضرورة طرد السكان الأصليين وعدم توقيع أي اتفاقات مع هؤلاء السكان، كما تشير التعاليم اليهودية إلى ضرورة جعل ملكية اليهود للأرض ملكية عامة ويحظر بيعها بعد ذلك مرة أخرى لغير اليهود – كما جاء في الكتاب المقدس- صفر الخروج 32:29:22.
وعندما يتكلم اليهود عن الحق التاريخي والحدود التاريخية فهم يقصدون بذلك إعادة بعث مملكة داوود وسليمان، ومن ثم فإن الحدود التاريخية في المفهوم الإسرائيلي تعني حدود مملكة داوود وسليمان .
كان البعض يقسم مملكة داوود وسليمان إلى قسمين (12):
الحدود التاريخية:
هي الحدود التي كانت تحت السيطرة المباشرة لإسرائيل خلال حكم داوود وسليمان وهي تشتمل على المنطقة المحصورة بين صيدا على البحر الأبيض وحتى جنوب دمشق ثم في الشرق من جنوب دمشق/ شرق عمان / شرق معان/ شرق العقبة على خليج العقبة وفي الغرب الخط الواصل من جنوب رأس النقب على خليج العقبة وحتى شرق مدينة العريش .
الحدود المثالية:
وتشتمل على أرض كنعان والمناطق الأخرى التي كان قد أخضعها داوود وسليمان، وتشمل المنطقة من الفرات حتى وادي العريش .
الصهيونية وحدود الدولة اليهودية:
استهدفت الصهيونية السياسية النهوض باليهود إلى مستوى شعب، وإضفاء صفة القومية على هذا الشعب، ثم إنشاء الدولة اليهودية لتمارس سيادتها على الوطن اليهودي وعلى الشعب اليهودي، بمعنى أن الصهيونية أرادت إنشاء الدولة اليهودية سواء كان هناك اضطهاد قائم يعترض له اليهود، أو لم يكن هناك اضطهاد على الإطلاق، فالاضطهاد كان بمثابة ورقة رابحة اتخذتها الصهيونية السياسية للترويج كحركتها .
ولم تتأثر الحركة الصهيونية بالاستعمار في كونه سياسة يحتذى بها فحسب، بل إن الصهيونية خلال مراحلها المختلفة قد عملت على أن توائم اتجاهات عملها لخدمة الاستعمار وإيجاد مصالح مشتركة بينها وبينه ومن ثم يمكن أن تحصل على تأييد ودعم الدول الاستعمارية للحركة الصهيونية .
وتأثر الفكر الصهيوني في تطوره في مجال الحدود بعدة عوامل أهمها ما يلي:
غاية الحركة الصهيونية.
النواحي الاقتصادية والبشرية التي تؤثر على النشاط الاستعماري الصهيوني بالإقليم أو المنطقة المراد الاستيلاء عليها .
مدى تأثير النواحي الدينية المتعلقة بالأرض، على سير الحركة الصهيونية.
طبيعة العلاقات السياسية والاقتصادية للحركة الصهيونية والدول الاستعمارية ومدى توفر المصالح المشتركة فيما بينهم .
مدى تأثير وفاعلية المقاومة العربية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني .
وقد قامت الحركة الصهيونية السياسية على أساس مقتضاه الإيمان بأن اليهودية ليست مجرد ديانة وإنما حركة علمانية أساساً، وهي تعتبر الجواب على النزعة اللاسامية وعلى دعوة الاندماج، وترى أن اليهود يشكلون عنصراً متميزاً بجنسه وثقافته وتاريخه ومن ثم فهم يكونون شعباً له الحق في تكوين دولة .
الفكر الصهيوني تجاه حدود الدولة خلال المرحلة 1898-1922:
في نشاط زعماء الفكر الصهيوني خلال هذه المرحلة سواء في مجال التحرك السياسي الصهيوني أو ما نشر من أفكار صهيونية تتعلق بالمطالب الإقليمية للصهيونية المتعلقة بآمال الصهيونية في مجال حدود الدولة اليهودية المرتجاة نجد أن مخلص الفكر الصهيوني في هذا الصدد تضمن مطالب الجناح الأرثوذكسي المتدين داخل الحركة الصهيونية تشير إلى أن المتدينين تطلعوا إلى الحدود المثالية التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس ((من نهر مصر إلى نهر الفرات) بينما طالب العلمانيون بالرقعة التاريخية الأصغر من (دان إلى بئر السبع) ولم يكتفوا بذلك بل أضافوا إلى هذه الرقعة تلك المناطق التي تؤمن للبلاد مرتكزات اقتصادية عصرية، ومقومات الدفاع العسكري (13) .
وعلى ذلك حاولوا ضم مساحات صحراوية في الجنوب والشرق باعتبارها منطلقاً لغزوات ضد البلاد في الماضي، وحملتهم اعتبارات الأمن على التطلع صوب وادي البقاع شمالاً، لأنه يشكل مدخلاً إلى فلسطين بين منحدرات جبال لبنان وجبل حرمون، ثم أملت عليهم الحاجات العسكرية ضم حوران ووادي اليرموك لأنها سهلت في الماضي دخول الغزاة إلى سهول فلسطين الشمالية، (سهول عكا) (مرج بني عامر)، مما أدى إلى شطر الدولة اليهودية إلى نصفين وفصل الجليل عن المنطقة اليهودية .
وطالب زعماء الحركة الصهيونية سنة 1917-1921 أن يحد البلاد: البحر المتوسط غرباً ومنحدرات لبنان ومنابع الأردن وذروة سفح حرمون شمالاً وبادية الشام شرقاً وفي الجنوب أرادوا الوصول إلى خليج العقبة، كما توقعوا الوصل إلى اتفاق ودي مع بريطانيا لضم منطقة العريش في شبه جزيرة سيناء إلى الوطن القومي ورغم تعدد وتباين المطالب الصهيونية بخصوص الحدود، يمكن القول أن المطلب الأساسي الذي ركز عليه زعماء الصهيونية قد وضع على أسس استراتيجية سياسية واقتصادية وعسكرية يضم: الحد الشمالي الخط من صيدا على البحر الأبيض المتوسط حتى جنوب دمشق حوالي 20 كم .
الحد الشرقي خط سكة حديد الحجاز .
((الحدود الشرقية لوادي الأردن حتى العقبة))
في الجنوب خليج العقبة .
في الغرب الخط الواصل فيما بين شرقي العريش حتى خليج العقبة .
ولكن نظراً للظروف السياسية الدولية والإقليمية بدأ قادة الصهيونية في تبني مبدأ المرحلية مع ضرورة الحفاظ على الهدف النهائي، ولعل من أبرز المؤمنين بهذا المبدأ خلال هذه الفترة هو حاييم وايزمان، إذ يستنتج من منهاج هرتزل وايزمان – سير الصهيونية على مبدأ ((خذ ما تستطيع الحصول عليه دون أن تتخلى عن أي هدف من أهدافك، أو اعمل على أساس الاستفادة من كل ما تحصل عليه لتحقيق أهدافك القريبة والبعيدة على حد السواء)).
الفكر الصهيوني في مجال حدود الدولة اليهودية خلال الفترة من 1939-1948 :
رغم القلة النسبية في حجم تصريحات قادة الصهيونية خلال هذه الفترة عن موضوع الحدود، إلا أن ما أعلنه بلتمور عام 1942 يعتبر أول إشارة رسمية وصريحة لمطالب الصهيونية في إقامة دولة يهودية، ومن الملاحظ خلال هذه الفترة أن قادة الصهيونية قد عبروا في عدة مناسبات بشكل مباشر أو غير مباشر عن حدود الدولة التي يريدونها، ويتلخص مطلب الصهيونية في إقامة دولة يهودية في فلسطين التي تضم غرب الأردن وشرقه ومرتفعات لبنان والمرتفعات السورية على الوجه التالي: في الغرب البحر الأبيض المتوسط، في الجنوب الغربي الخط رفح – خليج العقبة، في الجنوب خليج العقبة، وفي الشرق الصحراء العربية (شرق خط سكة حديد الحجاز) وفي الشمال الحد العام صيدا – جنوب دمشق مباشرة (مشارف دمشق) (14) .
تميزت هذه المرحلة باتباع قادة الصهيونية سياسة مرنة تجاه موضوع الحدود، بمعنى العمل على إيجاد كيان سياسي لدولة يهودية بغض النظر عن حجمها، يعترف بها دولياً على أن يتم توسيع نطاق حدود هذه الدولة مستقبلاً .
ويبرز ذلك بشكل واضح في تصريحات المسؤولين الصهيونيين ومواقف الحركة الصهيونية أثناء مشروع التقسيم .
كما ركزت الصهيونية خلال هذه المرحلة في الحصول على أكبر رقعة طولية من فلسطين بحيث تشمل المناطق الجغرافية المختلفة من فلسطين (من منابع نهر الأردن حتى النقب) وكذا تركيز الاستيطان حول مصادرة المياه وفي المناطق الخصبة بالإضافة إلى المراكز الاستراتيجية التي تتحكم في اقتصاديات فلسطين وكذا ذات الأهمية العسكرية .
الفكر الإسرائيلي في مجال الحدود خلال الفترة من سنة 1950-1953:
يمكن تلخيص الفكر الإسرائيلي المتعلق بالحدود خلال تلك الفترة فيما يلي:
إعراب المتدينين في إسرائيل عن تخليهم لحدود إسرائيل والتي تضم المنطقة من الفرات إلى النيل .
إعراب المسؤولين الإسرائيليين عن أن إقامة إسرائيل لا تؤثر على الحدود التاريخية مع بروز أداء العسكريين في مجال الحدود والتي تشير إلى تطلعهم إلى ما يسمى بالحدود التاريخية، وكذا إعراب المسؤولين الإسرائيليين عن عدم تطلع الصهيونية أو إسرائيل نحو النيل أو الفرات .
ولكن الاهتمام يتركز نحو الحدود الشمالية وخاصة منابع نهر الأردن والليطاني وكذا الضفة الشرقية لنهر الأردن .
اعتبار إسرائيل خطوط الهدنة بمثابة حدود لإسرائيل خلال تلك المرحلة مع الإشارة إلى أن قرار التقسيم أصبح لا وجود له .
اهتمام إسرائيل بالاستيلاء على المناطق المنزوعة السلاح تجاه الجبهة المصرية والسورية وإتباعه لأسلوب فرض الأمر الواقع على المناطق التي يتم الاستيلاء عليها .
الإشارة إلى أن الدولة اليهودية يجب أن تتسع ليهود العالم .
الفكر الإسرائيلي في مجال الحدود خلال الفترة من 1954-1956:
من خلال النشاط الإسرائيلي في المجالات المتعددة سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية ومحاولة الربط بين هذه الأنشطة وبين أفكار إسرائيل المتعلقة بموضوع الحدود نلاحظ ما يلي :(15)
التركيز على دعم الحدود على خطوط الهدنة سواء من الناحية السياسية أو العسكرية .
الاستيلاء على المناطق منزوعة السلاح والتمسك بها .
العمل على إضفاء الصفة الدولية على قرارها بجعل القدس عاصمة لها وذلك بنقل وزارة الخارجية إليها .
تعدد التصريحات التي تشير إلى الصعوبات التي تخلقها الحدود القائمة لإسرائيل نتيجة لصغر المساحة وطول خطوط المواجهة، وما يترتب على ذلك من صعوبات عسكرية وأمنية .
رفض المسؤولين الإسرائيليين لأي نشاط سياسي قد يؤدي إلى طرح موضوع حدود تقسيم سنة 1947 مهما كانت نتيجة هذا النشاط
تزايد التطلعات الإسرائيلية نحو مصادر المياه تجاه الحدود الشمالية وخاصة منابع الأردن، مع الإشارة إلى أهمية السيطرة على تلك المصادر حيث تعتبر مصادر المياه من الأهداف القومية .
بدء الاهتمام بالنقب والإشارة إلى أهميته الاستراتيجية، سواء السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، وبدء ظهور تصريحات إسرائيلية تشير إلى تزايد الاهتمام نحو الجنوب لفتح الملاحة في خليج العقبة .
تأكيد إسرائيل لمطالبها في قطاع غزة والضفة الغربية لنهر الأردن .
استمرار تردد بعض الآراء التي تشير لحدود إسرائيل التاريخية والمطالبة بها بما في ذلك الضفة الشرقية لنهر الأردن .
اهتمام إسرائيل بإيجاد مصالح اقتصادية مشتركة وخاصة في مجال استثمار المياه، وما يحققه ذلك من إيجاد جسر يمكن من مد النفوذ والنشاط الإسرائيلي صوب مصادر المياه (الأردن والليطاني) .
إبراز إسرائيل للصعوبات الناتجة عن وجود جاليات عربية داخل إسرائيل.
الفكر الإسرائيلي وحدود الدولة سنة 66 – يونيو / حزيران سنة 1967:
شهدت هذه المرحلة من وجهة النظر الإسرائيلية عدة صعوبات، لا شك كان لها أثر كبير في اتجاهات السياسة الإسرائيلية بوجه عام، وبالتالي كان لها أثر بشكل غير مباشر على الأفكار المتعلقة بالحدود، منذ بدء تلك المرحلة وإسرائيل تعاني من تدهور اقتصادي، ثم جاء انتهاء اتفاقية التعويضات الألمانية لتزيد من صعوبة الموقف الاقتصادي، وقد أدى تدهور الموقف الاقتصادي وازدياد البطالة إلى حدوث انخفاض في الهجرة اليهودية الواردة وزيادة الهجرة المعاكسة، وكان لتفاعل هذه العوامل مع بعضها إلى جانب ما يعانيه المجتمع الإسرائيلي حينذاك من صعوبات أثر كبير في دفع القيادة الإسرائيلية للتفكير والبحث عن مخرج يمكنها من الخروج من هذه الأزمة الاقتصادية، ويزيد تدفق رؤوس الأموال إلى إسرائيل سواء عن طريق الهجرة أو الإعانات أو ما شابه ذلك، وجاء المخرج الذي استقر رأي القيادة الإسرائيلية عليه هو شن الحرب في يونيو 1967 والتي جاءت بمثابة نهاية لهه المرحلة وبداية لمرحلة جديدة .
وعن نشاط إسرائيل المتعلق بأفكارها تجاه الحدود خلال تلك المرحلة، فقد أشار بن غوريون إلى أنه عندما سافر في 13 يونيو/ حزيران سنة 1966 وقابل الجنرال ديغول سأله الأخير عن أحلامه حول حدود إسرائيل، وطمأنه ديغول بأنه لن يخبر أحداً عما سيقوله، فأجابه بن غوريون بقوله ((لو أنك سألتني هذا السؤال قبل 25 سنة لقلت: أريد للدولة أن تمتد على ضفتي الأردن وتمتد حتى نهر الليطاني في لبنان، ولكن الآن فإنني مهتم بالهجرة والسلام، ونحن مقتنعون بحدودنا ولا نريد ان يعرض شعبنا للخطر، ونريد مهاجرين)) (16) .
الفكر الإسرائيلي وحدود الدولة خلال المرحلة 1967 – 1973 :
كان العدوان الإسرائيلي على مصر وسوريا والأردن في 5 يونيو / حزيران 1967 بداية لمرحلة جديدة خططت لها إسرائيل منذ فترات غير قصيرة، وتعتبر الفترة من يونيو / حزيران 1967 وحتى 5 أكتوبر / تشرين أول 973 من أهم الفترات لدارسة الفكر الإسرائيلي المتعلق بالحدود، وتعتبر تلك الفترة بمثابة قاموس للأفكار والمصطلحات الصهيونية والتلمودية المتعلق بحدود الدولة اليهودية .
فقد حفلت هذه الفترة بالأفكار والأحاديث والأنشطة لرسم الحدود الإسرائيلية وإن تباينت واختلفت الآراء والأفكار الإسرائيلية، إلا أنه كان هناك أمران لم يحدث فيهما خلاف داخل إسرائيل، ضرورة توسيع حدود الدولة عما كانت عليه قبل حرب يونيو / حزيران سنة 1967 .
ثانيهما: ضرورة إقرار الأمر الواقع في المناطق التي لا خلاف في العمل على احتوائها، وذلك بالمضي بخطى واسعة في استيطان تلك المناطق، أي أنه كان هناك حد أدنى للرقعة المطلوب الاستيلاء عليها ويتفق عليها الجميع تقريباً، أما الحد الأقصى وأسلوب الحوار وحل المشاكل الأخرى فقط كانت مثاراً للجدل وكان هناك اختلافات بين وجهات النظر الإسرائيلية المختلفة .
والجدير بالذكر أن الأفكار الإسرائيلية التي طرحت خلال هذه المرحلة عن أسلوب معالجة النزاع العربي الإسرائيلي بوجه عام وموضوع الحدود بشكل خاص ارتبطت بالتطورات التي طرأت على الموقف العام سواء من الناحية السياسية أو العسكرية .
يمكن تلخيص المعالم الأساسية بخصوص الحدود فيما يلي: (17)
هناك إجماع إسرائيلي على عدم العودة إلى حدود ما قبل حرب يونيو سنة 1967 .
تعددت وجهات النظر الإسرائيلية حول المطالب الإقليمية والمناطق التي تريد ضمها إلى أن هناك اتفاق على الآتي:
• عدم الإفصاح عن المناطق المطلوبة، مع استخدام الأراضي كوسيلة ضغط في تسوية مشكلة الشرق الأوسط .
• هناك اتفاق على المناطق الأساسية للأراضي المطلوب التمسك بها، وتشمل الضفة الغربية لنهر الأردن والجولان وقطاع غزة وشرم الشيخ وطريق ساحلي فيما بين شرم الشيخ وإيلات، بالإضافة إلى القدس (مع إمكان إعطاء حرية الإشراف الديني للمسلمين على الأماكن المقدسة الإسلامية) .
• اتفق على عدم تحديد الحد الأقصى للمناطق المطلوبة على أن يتحدد حجم هذه المناطق بناء على ظروف الموقف .
• الاعتماد على سياسة إقرار الأمر الواقع بواسطة الاستيطان مع عدم اتخاذ أي إجراءات قانونية أو سياسية تتعلق بضم المناطق المطلوبة .
يشكل حجم الجاليات العربية في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة صعوبات لإسرائيل في إتمام هذا الضم إذ لا تريد إسرائيل الضم الفوري لهذه المناطق خوفاً من العوامل الديمغرافية وترى عدم طرد هؤلاء السكان بشكل جماعي وسريع، خوفاً من ردود الفعل ا لناتجة عن هذا الإجراء .
تعتبر نقطة الخلاف الأساسية بين وجهات النظر الإسرائيلية في كيفية هضم واستيعاب المناطق المطلوب الاستيلاء عليها خاصة الضفة الغربية وقطاع غزة وكان الاتجاه السائد هو قيام إسرائيل بتنفيذ مخطط يشتمل على مزيج من وثيقة جاليلي ومشروع آلون وأفكار ديان حيث يمكن استنتاج ملامح الفكر الإسرائيلي فيما يلي:
• العمل على عزل الضفة الغربية للأردن بإقامة حاجز بشري وحاجز من المستعمرات .
• فصل قطاع غزة عن مصر بإقامة سلسلة من المستعمرات في منطقة رفح .
• عزل الجزء الغربي من مرتفعات الجولان بإقامة حزام من المستعمرات في المناطق المرتفعة والتي كانت تشرف وتسيطر على السهول الغربية للجولان .
• ربط هذه المناطق بشبكة الخدمات الإسرائيلية .
• منع عودة أي من لاجئين إلى تلك المناطق .
• تنمية الإمكانيات ا لاقتصادية لهذه المناطق وإعطاء حد من الحرية الاقتصادية لهم على أن يكون ذلك في إطار الخطة الاقتصادية العامة لإسرائيل .
• إعطاء هذه المناطق قدراً من الحكم الذاتي في النواحي الإدارية والاجتماعية.
• عدم الضم الفوري لهذه المناطق والتركيز على إيجاد علاقات ودية مع العرب وخلق فرص عمل لهم بما يمكن مستقبلاً من هضمهم .
• إسراع إسرائيل واهتمامها بزيادة الهجرة اليهودية إليها حتى يمكن خلق الظروف الديمغرافية المناسبة، والتي يمكن من ضم الأجزاء المطلوبة، مع إعطاء عناية خاصة لليهود السوفييت .
• بروز الحديث عما يسمى بالحدود الآمنة والحدود الدفاعية والتي يمكن الدفاع عنها، وكذا ما يسمى بالحدود الرادعة، أي ربط موضوع الحدود ربطاً مباشراً بالمتطلبات العسكرية .
رغم تركيز إسرائيل خلال تلك الفترة على المناطق المحتلة خلال حرب يونيو 1967 إلا أنها لم تنس اهتمامها بالضفة الشرقية لنهر الأردن، ويبرز ذلك في حديث وأفكار المسؤولين الإسرائيليين في مجال التطلع نحو إقامة اتحادات فدرالية وكونفدرالية مع الأردن .
نلاحظ أن تصور الفكر الإسرائيلي للحدود خلال تلك المرحلة يسير كما يلي:-
• الحد الغربي هو البحر الأبيض المتوسط .
• الحد الشرقي للحدود يمر بخط المرتفعات بهضبة الجولان والذي يمتد تقريباً من جبل الشيخ حتى شرق فيق ومنها إلى مجرى نهر اليرموك ثم عند الخط على امتداد نهر الأردن فالبحر الميت فوادي عربة ثم إيلات.
• والحد الأدنى الغربي يمتد في خط من شرقي العريش حتى رأس النقب ومنها إلى خليج العقبة .
• في الجنوب خليج العقبة ثم قطاع ساحلي في إيلات حتى شرم الشيخ .
• في الشمال لا تغير في الخطوط القائمة على حدود لبنان .
الفكر الإسرائيلي في مجال حدود الدولة خلال المرحلة من أكتوبر 1973 وحتى أغسطس 1975 :
يمكن تلخيص أبرز معالم الفكر الإسرائيلي في مجال حدود الدولة خلال هذه المرحلة والتي توقف عندها التوسع حتى يومنا هذا، فيما يلي (18) :
• ظهور مرونة نسبية في مجال الانسحاب (في إطار اتفاقيات السلام) بالمقارنة مع المرحلة السابقة بوجه عام.
• ظهور مرونة نسبية في مجال عدم التشبث والانسحاب من سيناء والجولان نسبياً (مع تركيز الاهتمام على الميول الغربية لمرتفعات الجولان والمناطق التي كانت منزوعة السلاح في الماضي).
• استمرار الاهتمام بالضفة الغربية وقطاع غزة مع بروز الآتي :-
• استمرار العمل على عزل قطاع عزة عن سيناء وتطويق الضفة الغربية بخط من المستعمرات في غور الأردن .
• عدم اتخاذ إجراءات عملية لضم قطاع غزة أو الضفة الغربية للأردن .
• الاهتمام بتطوير إمكانيات قطاع غزة في مجال استيعاب اللاجئين .
• الاهتمام بتنمية إمكانيات قطاع غزة والضفة الغربية من الناحية الاقتصادية وربط اقتصادياتها بالاقتصاد الإسرائيلي .
• معاودة إسرائيل طرح فكرة الاتحاد الفيدرالي مع الضفة الغربية للأردن، ورفض فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة .
• حدوث تغيير نسبي في الأسلوب المطروح للسيطرة على شرم الشيخ بالمقارنة مع المرحلة السابقة .
• استمرار تمسك إسرائيل بما يسمى بالحدود الآمنة وعدم العودة لحدود سنة 1967 .
في خاتمة بحثنا عن الفكر الإسرائيلي وحدود الدولة، نجد أن موضوع الحدود الإسرائيلية يكتنفه الغموض نتيجة لحرص الإسرائيليين على سرية الهدف، وتجنباً لحدوث أي ردود فعل قد تؤثر على أنشطتهم لتحقيق أهدافهم وغايتهم الإقليمية، كما إننا نجد أن الصهيونية وإسرائيل قد بنت تصورها للإقليم والحدود التي تريدها بما يتمشى وتطلعاتها لاحتلال مكانة بارزة ودور ريادي في المنطقة .
وقد خططت الصهيونية وإسرائيل للوصول إلى الحدود التي توفر تلك المطالب الإقليمية في إطار سياسة مخططة بعيدة المدى، يتم تنفيذها بواسطة استراتيجية مرحلية، أساسها الحفاظ على الهدف النهائي في الوصول إلى تلك الحدود مع اتباع أقصى قدر من المرونة التكتيكية بما يتمشى وطبيعة الموقف خلال مراحل العمل المختلفة، لتحقيق أكبر مكاسب إقليمية بأقل تكاليف ممكنة .
وتحقيقاً للأهداف الإسرائيلية النهائية المتعلقة بالحدود، طالعتنا إسرائيل بالعديد من المبررات والأسانيد التي يتراءى لها أنه يمكن بواسطتها خلق القناعة والقبول الدولي في المطالبة بالإقليم الذي تبتغيه فأخذت تردد بعض الأسانيد الدينية لمطالبها الإقليمية وادعاءات تاريخية فيما أسمته بأرض الآباء، وكذا مبررات اقتصادية واستعمارية تحددت معالمها في إطار المطالب الإقليمية للصهيونية السياسية، ثم المبررات العسكرية التي أطلقت عليها المطالب الأمنية لإسرائيل أو ما يسمى بالحدود الآمنة، والجدير بالذكر أن مضمون كل تلك المطالب الإقليمية سواء دينية أو تاريخية أو عسكرية عبارة عن أضواء يمكن بواسطتها تحديد الرقعة التي تبتغي إسرائيل الاستيلاء عليها لتكون حدوداً لها في المستقبل والتي ترفض حالياً تحديدها وتوضيحها، وكل ما تقوله في هذا الموضوع ((أنه حتى الآن لم يكن لها أي حدود منذ إقامتها)) (19).
كما أنها تستخدم الأراضي المحتلة كعنصر ضغط على مسرح الصراع السياسي العربي – الإسرائيلي .
القاعدة الاقتصادية
تهدف التلمودية الصهيونية إلى السيطرة العالمية عن طريق امتلاك مقدرات الشعوب والأمم، ويعتبر الربا هو مدخلها الأول لذلك، فهو المدخل الحقيقي للسيطرة التلمودية الصهيونية على العالمين الرأسمالي والشيوعي، ويعد الذهب الذي يحتكره اليهود أقوى الأسلحة لإثارة الرأي العام وإفساد المجتمعات والقضاء على الضمائر والأديان والقوميات ونظام الأسر، وعن طريق المال يسيطر اليهود على الإعلام والفكر وفي عديد من أنحاء الغرب (أوروبا وأمريكا) يملك اليهود المؤسسات التجارية والأسواق، ولهم نفوذ قوي ومؤثر على الصحافة والتلفزيون، ودعاة المذهب الرأسمالي وعلى رأسهم (آدم سميث) يهودي، ودعاة الماركسية الشيوعية وعلى رأسهم (ماركس) يهود (20) .
ولرفضهم العمل اليدوي، لعب اليهود دور التاجر والمرابي والوسيط على مدى التاريخ وتلك هي مهمتهم الرئيسية التي جردوا أنفسهم لها في سبيل السيطرة على الذهب والتعامل الاقتصادي، وذلك هو مطمحهم الأكبر، وتكاد تكون مخططاتهم ومشروعاتهم كلها موجهة لخدمة هذا الهدف .
ولما كان الربا هو المدخل الطبيعي لهذا المخطط كله فقط كان التركيز شديداً على فتح الباب أمام إغراء الربا بالاستدانة والإسراف، وكان لا بد من تبرير هذه المفاهيم وإغراء الأمم والشعوب بها حتى تندفع إليها، وقد استطاعت اليهودية التلمودية فعلاً محاصرة المجتمع الغربي والسيطرة عليه ونقله من مفاهيم المسيحية التي تحرم الربا والحرب والفساد إلى الاندفاع شوطاً بعيداً في السيطرة الاستعمارية والإبادة وقتل الأبرياء والسيطرة على مقدرات الأمم على النحو الذي عرفه تاريخ العلاقات بين الغرب وعالم الإسلام في القرنين الماضيين .
وكانت التلمودية هي التي أفسدت تفسيرات الدين والفكر (وهوّدت) الحضارة الغربية من حيث الحروب والاستعمار والربا .
وكان هذا هو عمل التلمودية الدائب في نشر مفاهيمها وأيديولوجيتها وبثها في الفكر والمجتمع وتمويلها إلى مذاهب وأيديولوجيات والسيطرة برجالها ودعاتها وأتباعها على قيادات العالم والأمم (21) .
الهوامش
1. عادل محمود رياض: الفكر الإسرائيلي وحدود الدولة، معهد البحوث والدارسات العربية، جامعة الدول العربية، ودار النهضة العربية (بيروت)، 1989، ص 263.
2. المصدر السابق، ص 265 .
3. المصدر السابق، ص 266-267 .
4. المصدر السابق، ص 267 .
5. محمود اللبدي، المنطلقات الأساسية في الفكر الإعلامي الصهيوني، ودراسات إعلامية، 1982، ص 43-44 .
6. أنور الجندي، مصدر سابق، ص 62 .
7. محمود اللبدي، ص 35 .
8. عادل محمود رياض، مصدر سابق، ص 19 – 25 .
9. المصدر السابق .
10. المصدر السابق، نقلاً عن دائرة المعارف اليهودية، الجزء الثاني، ص 112 .
11. المصدر السابق، نقلاً عن دائرة المعارف اليهودية، 1972، الجزء التاسع، ص 112 .
12. المصدر السابق .
13. المصدر السابق، ص 85 .
14. المصدر السابق، ص 117 .
15. المصدر السابق، ص 129 .
16. المصدر السابق، ص 152، نقلاً عن :
17. Michael Barzohar, The armed prophet: A Biography of Ben Grunion, London, p. 144.
18. المصدر السابق، ص 156 .
19. المصدر السابق، ص 259 .
20. المصدر السابق، ص 287-289 .
21. أنور الجندي، مصدر سابق، ص 141 .
22. المصدر السابق، ص 113 .
الإرهاب الصهيوني والمجازر بحق الشعب الفلسطيني
إمعاناً في تطوير الوسائل الصهيونية لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه كما أشرنا سابقاً، وتمشياً مع العقيدة الصهيونية المتعطشة أبداً للدماء وإزهاق أرواح الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ ومدنيين عزل. فقد مارست العصابات الإرهابية الصهيونية بحق الفلسطينيين أبشع صور التنكيل، ودأبت تلك الزمر الإرهابية على اقتحام القرى العربية وسفك دماء أهلها بدم بارد لكي ينزحوا، ومن تله أخبار تلك المجازر عن أرضهم، كما قاموا بنسف العديد من الدوائر العامة والباصات والأسواق، والوقوف بجلاء على تلك المحطات الدموية في تاريخ الكيان الصهيوني فإننا سنتناول في هذا الفصل أبرز المذابح التي قام بها الصهاينة ضد المدن والقرى الفلسطينية .
مذبحة بلد الشيخ:
على أثر شجار بين عمال فلسطينيين وصهاينة في شركة مصفاة بترول حيفا أدى إلى قتل عدد من الفلسطينيين وجرح وقتل ستين صهيونياً، وكان قسم كبير من العمال العرب الفلسطينيين يقطنون في بلدة الشيخ وحواسه الواقعتين في الجنوب الشرقي من حيفا، لذلك خطط الصهاينة للانتقام لقتلاهم في المصفاة بمهاجمة بلدتي الشيخ وحواسه (1) .
عشية 30-31 يناير/ كانون الثاني 1947 أغارت قوة مختلطة من الكتيبة الأولى للبالماخ ولواء كارميلي (تقدر بحوالي 150 إلى 200 صهيوني إرهابي)، تحت قيادة حاييم أفينوعام (2)، وقد ركزوا هجومهم على أطراف بلدة الشيخ وحواسه، وفاجأ الصهاينة البيوت النائية في الأطراف وقذفوها بالقنابل اليدوية ودخلوا على السكان النائمين وهم يطلقون نيران رشاشاتهم (3)، وقد أسفر ذلك الهجوم الإرهابي عن استشهاد ما يقارب ستين مواطناً داخل منازلهم معظمهم من النساء والشيوخ والأطفال (4)، وقد استمر الهجوم ساعة، انسحب إثرها الصهيونيون في الساعة الثانية صباحاً بعد أن هاجموا (5) العديد من البيوت المسالمة، وقد جاء في تقرير كتبه قائد تلك العملية الإرهابية (تسللت الوحدات المهاجمة إلى داخل البلدة، وأخذت تعمل داخل المنازل، ولم يكن ممكناً، بسبب النيران التي أطلقت داخل الغرف، تجنب إصابة النساء والأطفال)) (6) .
مذبحة دير ياسين:
بدأت قوات العصابات الصهيونية اتسل والأرغون والهاجاناه مزودة بالاستراتيجية الإرهابية الصهيونية القائمة على قتل المدنيين لتحقيق أمانيهم، بالتسلل إلى القرية ليلة 9/4/1948 بهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وذلك بذبح سكان القرية وتدمير منازلها وحرقها على سكانها وهم في غفلة من ذلك، ولم ينج من تلك المذبحة الإرهابية البشعة إلا القليل من السكان ليرووا للعالم بأسره مدى الهمجية التي وصلت لها الصهيونية، فقد بدأ الهجوم والأطفال نيام في أحضان أمهاتهم وآبائهم، وقاتل العرب كما يقول مناحيم بيغن في حديثه عن المذبحة، دفاعاً عن بيوتهم ونسائهم وأطفالهم بقوة))، فكان القتال يدور من بيت إلى بيت، وكان اليهود كلما احتلوا بيتاً فجروه، ثم وجهوا نداء للسكان بوجوب الهروب أو ملاقاة الموت، وصدق الناس النداء فخرجوا مذعورين يطلبون النجاة لأطفالهم ونسائهم، فما كان من عصابات شتيرن والأرغون إلا أن سارعت، بحصد من وقع في مرمى أسلحتهم، وبعد ذلك أخذ الإرهابيون يلقون القنابل داخل البيوت ليدمروها على من فيها، في صورة همجية قل ما شهدت مثلها البشرية إلا من حثالات البشر، وكانت الأوامر تقضي بتدمير كل بيت، وسار خلف المتفجرات إرهابيو الأرغون وشتيرن فقتلوا كل من وجدوا حياً، واستمر التفجير بهذه الهمجية حتى ساعات الظهر من يوم 10/4/1948 (7)، ثم جمعوا من بقي على قيد الحياة من المدنيين وأوقفوهم بجانب الجدران والزوايا وأطلقوا النار عليهم (8)، وأخرج من داخل المنازل نحو خمسة وعشرون رجلاً، نقلوا في سيارة شحن، واقتيدوا في جولة انتصار، في حي محانيه يهودا وزخرون يوسف، وفي نهاية الجولة، أحضروا إلى مقلع للحجارة يقع بين تحوعات شاؤول ودير ياسين، وأطلق عليهم الرصاص بدم بارد، ثم أصعد (محاربو) اتسل وليحي النساء والأطفال، الذين استطاعوا البقاء على قيد الحياة إلى سيارة شحن ونقلوهم إلى بوابة مندلباوم (8)، ثم جاءت وحدة من الهاجاناه، فحفرت قبراً جماعياً دفنت فيه مائتين وخمسين جثة عربية أكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ (9) .
وتصف إحدى الناجيات من تلك المجزرة واسمها حليمة عيد ما حدث لأختها فتقول إنها ((شاهدت جندياً يمسك بشقيقتها صالحة الحبلى في شهرها التاسع وهو يصوب رشاشه إلى عنقها ثم يفرغ رصاصة في جسدها، ثم يتحول إلى جزار فيمسك سكين ويشق بطنها ليخرج الطفل مذبوحاً بسكين النازي الأثيم)) (10)، وفي موقع آخر في القرية شاهدت الفتاة حنة خليل، رجلاً يستل سكيناً كبيرة ويشق بها من الرأس إلى القدم، جسم جارتنا جميلة حبش، ثم يقتل بالطريقة ذاتها على عتبة المنزل جارنا فتحي (11). كما تصف صفية وهي امرأة في الأربعين، كيف فوجئت برجل قد فتح سرواله وانقض عليها: رحت أصرخ وأولول، وحولي النساء يكرهن على مصيري ذاته، وبعد ذلك، انتزعوا ثيابنا وجردونا منها ليلامسوا نهودنا وأجسامنا بحركات لا توصف (12) وقد عمد بعض الجنود إلى قطاع آذان النساء للاستيلاء على بعض الحلي الصغيرة (13) .
وبعد تسرب أخبار المجزرة حاولت بعثة من الصليب الأحمر زيارة القرية، ولم يسمح لها بزيارة الموقع إلا بعد يوم من طلبهم، وحاول الصهاينة أن يخفوا آثار جريمتهم، فجمعوا ما استطاعوا جمعه من أشلاء الضحايا وألقوها في بئر القرية وأقفلوا باب البئر، وحاولوا تغيير معالم المكان، حتى لا يعثر عليه مندوب الصليب الأحمر، لكنه استطاع معرفة مكان البشر ووجد فيه مائة وخمسين جثة مشوهة، لنساء وأطفال وشيوخ، وفضلاً عن الجثث التي وجدت في البئر دفنت عشرات الجثث في قبور جماعية في حين بقيت عشرات أخرى مبعثرة في زوايا الطرقات وخرائب البيوت (14) .
وقد كتب بعدها رئيس عصابة الهاجاناه الإرهابية التي شاركت في دفن المدنيين الفلسطينيين قائلاً ((إن جماعته لم يقوموا بعمل عسكري ضد مسلحين ليشيعوا الخوف من الإرهاب بين العرب، ولذلك اختاروا قرية مسالمة عزلاء وخالية من السلاح، وقاموا بعمليتهم متقصدين إشاعة الإرهاب بين العرب وحملهم على الفرار)) ) (15) .
مذبحة قبية:
تعرضت هذه القرية ليلة 14-15/10/1953 لعدوان (إسرائيلي) وحشي نفذته وحدات من الجيش النظامي وفق خطة معدة مسبقاً، واستخدمت فيه مختلف أنواع الأسلحة، في مساء يوم 14/10 تحركت قوة عسكرية إسرائيلية تقدر بنحو 600 جندي (صهيوني) نحو القرية وطوقتها وعزلتها عن سائر القرى العربية، وقد بدأ الهجوم بقصف مدفعي مركز وكثيف على مساكن القرية دون تمييز استمر حتى وصول القوة الرئيسية إلى تخوم القرية في حين توجهت قوات أخرى إلى القرى العربية المجاورة مثل شقبا وبدرس ونعلين لمشاغلتها ومنع تحرك أية نجدة نحو قبية، كما زرعت الألغام على مختلف الطرق، بحيث عزلت القرية تماماً، وفي الوقت الذي كانت وحدات المشاة الإسرائيلية تهاجم السكان وتقتلهم كانت وحدات المهندسين العسكريين، تضع شحنات متفجرة حول بعض منازل القرية وتفجرها بسكانها تحت حماية المشاة الذين كانوا يلقون النار على كل من يحاول الفرار من المنازل المعدة للتفجير. وقد استمرت هذه الأعمال الوحشية حتى الساعة الرابعة من صباح 15/10/1953 حين انسحبت قوات العدو إلى نقاط انطلاقها (16)، وشوهد منظر، بقيت ذكراه عالقة في الأذهان، وهو منظر امرأة عربية جالسة على كومة من الأنقاض، وقد أرسلت نظرة تائهة إلى السماء، إذ برزت من تحت الأنقاض أيد وأرجل صغيرة وهي أشلاء أولادها الستة، بينما كانت جثة زوجها ممزقة بالرصاص ملقاة في الطريق المواجهة لها (17).
وقد نجم عن ذلك الهجومي الإرهابي الوحشي تدمير 56 منزلاً ومسجد القرية ومدرستها وخزان المياه الذي يغذيها بالماء واستشهد 67 مواطناً من سكانها رجالاً ونساءً وسقط عدد كبير من الجرحى (18) .
وقد ذكر الإرهابي آرييل شارون قائد الوحدة (101) التي قامت بالعدوان الإرهابي أن أوامر قادته كانت واضحة بشأن تعاملهم مع سكان القرية بقوله ((كانت هذه الأوامر واضحة تماماً يجب أن تكون قبية أمثولة ومثالاً))(19) .
مذبحة كفر قاسم
((لم تبدأ مجزرة كفر قاسم في 29 أكتوبر / تشرين أول 56 بل قبل ذلك بزمن طويل، لقد بدأت حين وقعت مجزرة دير ياسين عام 1948)) هكذا علق عضو الكنيست الإسرائيلي أوري أفنيري (20) على تلك المذبحة البشعة التي راح ضحيتها العديد من المدنيين المسالمين، لا لذنب اقترفوه سوى تصميمهم على البقاء في أرضهم وعدم تركها للصهاينة يفعلوا بها ما فعلوه بشقيقتها القرى الفلسطينية من هدم المنازل وبناء مستعمرات وإحلال اليهود مكان السكان الفلسطينيين.
في الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم 29/10/1956 استدعى رقيب من حرس الحدود مختار قرية كفر قاسم وديع أحمد صرصور وأبلغه فرض منع التجول وطلب منه إعلام أهالي القرية بذلك، فقال له المختار أن هناك 400 من الأهالي في العمل خارج القرية ولن تكون مدة نصف الساعة الباقية كافية لإبلاغهم، فوعد الرقيب أن يدع جميع العائدين من العمل (يمرون على مسؤوليته ومسؤولية الحكومة) (21)، غير أن ذلك تناقض مع أوامر الملازم غبرائيل داهان لسريته الموكلة بقرية كفر قاسم والتي أمر فيها بأن يكون (إطلاق النار بهدف القتل هو الأسلوب ضد كل من يكون خارج بيته بعد الساعة الخامسة مساء وبدون تمييز بين النساء والأطفال والرجال والعائدين إلى قراهم، وإن هذا عمل مشروع)) (22) .
وفي الساعة الخامسة تماماً بدأت المذبحة عند طرف القرية الغربي، فقد وقفت فرقة من حرس الحدود في انتظار العمال العائدين من عملهم في سيارات الشحن، ووسائل النقل الأخرى، وكان أول من وصل أربعة عمال يركبون دراجاتهم، وقد تحدث العامل سمير بدير من سكان قرية كفر قاسم بما يلي: ((وصلت إلى مدخل القرية بجوار المدرسة مع ثلاثة عمال آخرين على دراجاتنا، وكانت الساعة الخامسة إلا خمس دقائق، فأوقفتنا فرقة من حرس الحدود يركب أعضاؤها سياراتهم، ويبلغ عددهم اثني عشر شرطياً وضابطاً، قال العمال "شالوم" للضابط الذي سألهم، هل أنتم مبسوطون؟ فأجاب العمال نعم، وفي الحال نزل رجال الشرطة من السيارة، وأمروا العمال بالوقوف، وأعطى الضابط أمره: (احصدوهم) وحال قيام الشرطة بإطلاق النار ارتميت على الأرض وتدحرجت إلى حفرة مجاورة قرب الشارع، لكني لم أصب، وأوهمت الشرطة بأني قد قتلت، واستمرت الشرطة في إطلاق النار على العمال الذين سقطوا .
وعندما قال لهم الضابط: يكفي لقد قتلوا فخسارة فيهم الرصاص، وبعدها وصلت إلى المكان عربة وعليها ثلاثة عمال، فأوقفت الشرطة هذه العربة وأطلقت الرصاص على العمال فقتلتهم فوراً، وابتعد رجال الشرطة عن المكان عشرات الأمتار تاركين وراءهم جثث القتلى من العمال على الشارع وتمركزوا في موقع جديد من الشارع المؤدي إلى القرية، وقد وصل عمال آخرون على دراجاتهم فوقفت وأخذت أعدو نحو القرية، عندما أطلقت الشرطة رصاص علي، لكنني لم أصب، واختبأت في أحد البيوت)) (23) .
وتوالت أفواج العاملين بالعودة إلى القرية وهم لا يعلمون عما يحدث هناك ولا المصير الذي ينتظرهم على يد إرهابيي الجيش الصهيوني، وحين انتهت تصفية الموجة السادسة منهم وكان عدد الضحايا فيها 15 شهيداً قام الملازم دهان الذي كان يسارع في عمليات القتل ويطلع أثناء تجواله في سيارة الجيب على كل ما يجري بإبلاغ قيادته بذلك قائلاً (ناقص 15 عربياً) ثم أتبعه بنداء آخر بعد أن سقط ضحايا الفوج السابع وعددهم عشرة شهداء وقال فيه: ((من الصعب عدهم)) فالتقط النداءين النقيب ليفي وحولهما إلى قائد الوحدة ملينكي فأصدر هذا أوامره بإيقاف إطلاق النار حالاً والتصرف باعتدال، وحين وصل هذا الأمر إلى الملازم دهان كان عدد الشهداء قد وصل إلى 48 شهيداً سقطوا خلال مدة لا تتجاوز الساعة، أي قبل السادسة مساء (24)، وفي عملية إجرامية أخرى تم قتل 15 امرأة دفعة واحدة، وبينهن عجوز تبلغ من العمر 65 عاماً، وثلاث فتيات تبلغ أعمارهن ما بين 12-14 عاماً (25) .
ولم تكن رشاشات الجيش الصهيوني تميز بين طفل وامرأة وعجوز ورجل، وبرغم أن هؤلاء كانوا جميعاً مدنيين مسالمين عائدين إلى بيوتهم من العمل غير أن ذلك لم يكن كافياً لمنع الحقد الصهيوني من التعبير عن نفسه بإراقة دم الشعب الفلسطيني على أيديهم، ويبدو أن ذلك في شرعتهم شرف يعمل الجميع على نيله أي أن يلطخ يديه بدم عربي (26) .
وبعد الانتهاء من تلك المجزرة الإرهابية قام أفراد شرطة حرس الحدود بجمع جثث الشهداء الـ49 وحملوها على سيارة شاحنة، وقذفوا بها في حرش يقع قرب مركز شرطة المستوطنة الصهيونية في رأس العين، ثم دفنت الجثث هناك بشكل مؤقت، وبعد يومين قرروا دفن الشهداء في مقبرة القرية، ولكي يتم تشخيصهم، بحثوا عن أحد وجهاء القرية فوقع اختيارهم على السيد ذياب عبد أحمد الذي أصيب ابنه ناجي بجرح طفيف، وطلبوا منه مرافقتهم لتشخيص الضحايا، فذهب معهم ورفع الجثة الأولى بين يديه، وكانت جثة ابنه الثاني واسمه موسى، وقد تم تشخيص 47 جثة وبقيت جثتان لامرأتين، لم ينجح أحد في التعرف عليهما، بسبب شدة التشويه (27) .
وبعد سنتين، في 10 أكتوبر / تشرين الأول 1958 حكم على الحرس المسؤولين عن المجزرة بالسجن فترات تتراوح بين سبع سنين وسبع عشرة سنة، تعاطف الرأي العام الإسرائيلي مع المحكومين فأطلق سراحهم جميعاً في بداية 1960، وعين ثاني أكبر الضباط الموجودين وقت المجزرة، وهو الملازم جبرائيل دهان، "مسؤولاً عن الشؤون العربية" في قضاء الرملة المجاور في سبتمبر / أيلول 1960 على الرغم من أنه كان قد حكم عليه قبل عامين بالسجن خمس عشرة سنة لاشتراكه بالمباشر (28) في قتل المواطنين الأبرياء.
مذبحة مدينة غزة:
مساء يوم الخميس 5 أبريل/ نيسان 1956 قامت سلطات الاحتلال الصهيوني بإطلاق النار من مدافع مورتر عيار 120 ملم على مدينة غزة، وقد ركز القصف على وسط المدينة المكتظ بالسكان المدنيين الذين كانوا يمارسون أعمالهم المعتادة (29)، وقد تركز القصف على شارع المختار وميدان فلسطين والشوارع المجاورة ومنطقة الشجاعية (30). وقد قتل نتيجة تلك المجزرة الإرهابية التي اقترفتها عصابات الجيش الصهيوني بحق الشعب الفلسطيني ستة وخمسون وجرح مائة وثلاثة أشخاص بين رجل وامرأة وطفل، وقد توفي في وقت لاحق بعض الجرحى فارتفع رقم القتلى إلى ستين قتيلاً من المدنيين، منهم 27 سيدة و 29 رجلاً و4 أطفال (31) .
مذبحة مخيم صبرا وشاتيلا:
من خلال متابعة الأحداث التي قادت إلى قيام مجموعة إرهابية متطرفة من قوات الكتائب اللبنانية وقوات من الجيش الصهيوني بمجازر بحق الفلسطينيين، فمنذ بداية الغزو الصهيوني للبنان، والصهاينة وعملاؤهم يستهدفون استئصال الوجود الفلسطيني في لبنان، وقد دلت على ذلك مجازر لم يسمع عنها العالم كثيراً ارتكبتها القوات الإسرائيلية والميليشيات التابعة لها في المخيمات الفلسطينية في جنوب لبنان (الرشيدية، عين الحلوة، والمية مية وغيرها) (32)، وقد كانت المجزرة نتيجة عملية حسابية طويلة نفذتها فرق من القوات اللبنانية بقيادة إلياس حبيقة رئيس جهاز المخابرات الكتائبي وبموافقة من وزير الدفاع الصهيوني أرئيل شارون وقائد المنطقة الشمالية الجنرال أمير دوري، وكان ضباط إسرائيليون رفيعوا المستوى قد خططوا منذ مدة لتمكين القوات اللبنانية من الدخول إلى مخيمات الفلسطينيين بعد الانتهاء من حصار بيروت الغربية (33) .
قبل بدأ المجزرة بيومين عقدت اجتماعات تخطيط وترتيب بين الإرهابي شارون ورفيقه إيتان. . مساء 14 سبتمبر / أيلول للتخطيط لاقتحام المخيمين من قبل القوات الكتائبية، وفجر الأربعاء 15 سبتمبر / أيلول اقتحمت – إسرائيل – بيروت الغربية وطوقت المخيمات، وعقد اجتماع عال في صباح الخميس 16 سبتمبر/ أيلول 1982 مثل –إسرائيل- فيها الجنرال أمير دوري القائد الأعلى لقوات الشمال، وقد كلف بتنفيذها إيلي حبيقة من كبار المسؤولين الأمنيين في القوات اللبنانية، وتم ذلك بحضور فادي أفرام قائد القوات اللبنانية (34) .
بدأت عملية اقتحام المخيمين قبل غروب شمس يوم الخميس 16 سبتمبر/ أيلول (35)، واستمرت المجزرة حوالي 36 ساعة، حيث كان الجيش الإسرائيلي يحاصر المخيمين، وقد وفرت القوات الصهيونية للقتلة كل الدعم والمساعدات والتسهيلات اللازمة لتنفيذ جريمتهم المروعة، فقد زودتهم بالجرافات والبلدوزرات وبالصور والخرائط اللازمة، وأطلقت القنابل المضيئة في سماء المنطقة لتحول الليل إلى نهار حتى لا يستطيع أحد من الفلسطينيين الإفلات من قبضة الموت، والذين حاولوا الهرب من النساء والشيوخ والأطفال أعادهم جنود إسرائيل إلى داخل المخيم ليواجهوا مصيرهم (36) .
وفي ظهيرة يوم الجمعة اليوم الثاني للمجزرة الإرهابية بدأت قوات الكتائب تتلقى بموافقة الجيش الإسرائيلي ذخيرة جديدة واستبدلت القوة الموجودة في المخيمات بقوات جديدة ونشيطة بموافقة الجيش الإسرائيلي أيضاً (37) .
صباح يوم السبت 18/9/1982 كانت المجزرة قد بلغت ذروتها وتمت إبادة آلاف من أبناء مخيمي صبرا وشاتيلا، وبدأ تسرب المعلومات عن المجزرة بعد هروب عدد من المدنيين من الأطفال والنساء إلى مستشفى غزة في مخيم شاتيلا حيث أبلغوا الأطباء بالخبر ووصلت أنباء المذبحة إلى بعض الصحافيين الأجانب صباح الجمعة 17 سبتمبر/ أيلول (38) .
ويروي أحد الصحافيين الذين دخلوا المخيم بعد المذبحة ما شاهده فيقول: ((كانت جثث الفلسطينيين ملقاة في مجموعات بين أنقاض مخيم شاتيلا، وكان من المستحيل الحصول على رقم محدد لعدد الضحايا لكن العدد قد يزيد عن ألف قتيل، كما أن بعض الرجال الذين أعدموا صفوا أمام أحد الجدران، وأن الجرافات استخدمت في محاولة دفن الجثث وإخفاء معالم المذبحة لكن أيدي وأرجل القتلى كانت تظهر بين الأنقاض (39).
يقول حسن سلامة – 57 سنة – الذي قتل شقيقه البالغ من العمر ثمانين عاماً في تلك المذبحة، جاءوا في ثلاثين شاحنة ضخمة من الجبال، وفي البداية يقتلوا الناس بالسكاكين حتى لا يحدثوا أي صوت، وفي يوم الجمعة كانت هنالك قناصة في شوارع مخيم شاتيلا يقتلون أي شخص يعبر الشارع، بعد ظهر يوم الجمعة بدأ المسلحون في دخول البيوت يطلقون النار على الرجال والنساء والأطفال ثم أخذوا ينسفون البيوت ليحيلوها إلى أنقاض. (40)
يذكر الكاتب أمنون كابليوك في كتابه مأساة طفلة فلسطينية واجهت كباقي أطفال المخيم تلك المذبحة البشعة فيقول ((فلسطينية عمرها 13 سنة وهي الناجية الوحيدة من عائلتها (قتل والدها ووالدتها وجدها، وكل اخوتها وأخواتها)،روت لضابط لبناني، بقينا في الملجأ حتى ساعة متأخرة جداً، ليل الخميس، ثم قررت أن أغادر الملجأ مع رفيقتي، لأننا لم نعد نقدر على التنفس، وفجأة، رأينا الناس وهم يرفعون أعلاماً ومحارم بيضاء وتقدموا من الكتائبيين قائلاً: ((نحن مع السلام والوفاق)) فقتلوهم على الفور، كانت النساء تعول وتصرخ وتتضرع، أما أنا فركضت إلى بيتنا وتمددت في المغطس، ورأيتهم يقتادون ناساً من جيراننا ويطلقون عليهم النار، وحاولت أن أقف على الشباك وأنظر إلى الخارج إلا أن أحد الكتائبيين أبصرني وأطلق النار عليّ، فقعدت في المغطس وبقيت فيه خمس ساعات، وعندما خرجت امسكوني ورموني مع الآخرين، وسألني أحدهم إذا كنت فلسطينية، قلت نعم، قال تريدين احتلال لبنان ؟ قلت لا ، نحن على استعداد للرحيل من هنا: وكان إلى جانبي ابن أختي، وهو رضيع عمره تسعة أشهر، وكان يبكي ويصرخ دون توقف مما أغضب أحد العناصر، وأطلق عليه رصاص واحدة، أجهشت بالبكاء، وقلت له أن هذا الطفل كل ما بقي من عائلتي، فزاد هياج الكتائبي وأمسك بالطفل وفسخه شقين (41) .
واستمرت المذبحة حتى ظهر السبت 18 سبتمبر / أيلول وقد قتل فيها ما بين 3000 – 3500 مدنياً فلسطينياً ولبنانياً معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ (42) .
مذبحة الأقصى:
امتداداً في السياسة الصهيونية القائمة على السيطرة على مدينة القدس وتفريغها من أهلها، من خلال العديد من الوسائل، وفي مقدمتها سياسة الإرهاب الصهيوني وسفك دماء الشعب الفلسطيني وهي السياسة التي لجأت إليها في مرات عديدة كما مر، أقدمت السلطات الصهيونية في يوم الأثنين 8/10/1990 على اقتراف تلك المذبحة البشعة بحق المصلين الفلسطينيين .
قبل أحداث المجزرة بأيام محدودة أعلنت فئة (أمناء الهيكل) في بيان وزعته على وسائل الإعلام بمناسبة عيد لهم يسمونه "عيد العرش" أنها تنوي القيام بمسيرة إلى جبل الهيكل، على حد زعمهم، وقد دعا البيان اليهود للمشاركة في هذه المسيرة لأنها ستكون حاسمة وذلك لوضع حجر الأساس لما يسمى الهيكل الثالث، كما وأعلن مؤسس هذه الجماعة "جورشون سلمون" أن ((الاحتلال العربي والإسلامي لمنطقة الهيكل لا بد أن ينتهي ولا بد أن يجدد اليهود صلتهم العميقة بالمنطقة المقدسة)) وكانت المسيرة التي شارك فيها 200 ألف يهودي اتجهوا إلى الأقصى لوضع ما يسمى حجر الأساس للهيكل المزعوم (43)، في ذات الطريق المؤدية إلى القدس منذ الساعة العاشرة صباحاً، أي قبل بدء المذبحة بنصف ساعة وذلك بهدف منع الفلسطينيين من الوصول إليها، كما قامت بإغلاق أبواب المسجد نفسه ومنعت أهل القدس من دخوله، ولكن كان قد تجمع الآلاف داخل المسجد قبل تلك الساعة بناء على دعوات ونداءات من خطيب المسجد والتيار الإسلامي لحماية المسجد ومنع أمناء جبل الهيكل من اقتحامه وربما بسط السيادة اليهودية عليه (44).
عند تصدي المصلين المسلمين للجماعة الصهيونية لمنعهم من وضع حجر هيكلهم المزعوم، بدأت قوات الاحتلال الصهيونية بتنفيذ المذبحة باستخدام كل الأسلحة المتوفرة بحوزتها من قنابل الغازات السامة، وأسلحة أوتوماتيكية، وطائرات عسكرية مروحية، ولجأ الجنود ورجال المخابرات والمستوطنين إلى إطلاق الذخيرة الحية القاتلة على شكل صليات رشاشة متواصلة، أطلقت من كافة الاتجاهات، وبصورة منسقة مخططة جيداً، مما أدى إلى حشر آلاف المصلين الفلسطينيين من مختلف الأجناس والأعمار في مصيدة موت وذبح جماعي، مما أسفر بالتالي عن سقوط 22 شهيداً فلسطينياً وإصابة 850 آخرين بجروح مختلفة (45). وقد راح الجنود الإسرائيليون يطلقون الرصاص، عند الساعة 10,30وتوقفوا عن إطلاق النار بعد 35 دقيقة، وأطلقوا النار على جموع الفلسطينيين بشكل عشوائي وبدم بارد، ولاحقوا الفلسطينيين بالعصي والبنادق (46) . وتذكر الممرضة فاطمة أبو خضير التي أصيبت برصاصة حطمت رسغ يدها ((دخلنا بسيارة الإسعاف إلى باحة الأقصى، فشاهدت عدداً كبيراً من المصابين ساقطين على الأرض، ثم رأيت كثيراً من الجنود، مئات الجنود على مسافة 30 متراً من سيارة الإسعاف، يجلسون على ركبة ونصف على طريقة القناصين، وأسلحتهم كانت موجهة إلى داخل سيارة الإسعاف وبعد ذلك لم أستطع رؤية شيء))(47) .
وقد وصفت وكالات الأنباء ساحة المسجد الأقصى المبارك بعد تلك المذبحة البشعة بحق المصلين المسالمين قائلة أن الدماء غطت ((مسافة المائتي متر بين قبة الصخرة والمسجد الأقصى، وسالت الدماء في كل مكان على الأدراج الواسعة ولطخت البلاط الأبيض على امتداد ساحة الحرم الواسعة وعلى أبواب المسجدين، ورسمت على حيطان المسجدين خطوطاً طويلة قانية نزفتها أياد مدماة وخضبت الدماء ملفات البيابس بين سبع المسعضاء وبدا الجرحى والناجون يسعفون والصحافيون والجنود الإسرائيليين كأنهم يسبحون في الدماء (48) .
ويروي الدكتور محمد أبو عايلة ما حدث له ولأحد المصابين الذي حاول إسعافه من جراحه وكيف أن بهجة الصهاينة برؤية لون الدم الفلسطيني المراق في ساحات المسجد المقدس قد أعمت عيونهم ولم يميزوا بين شيخ وطفل وبين رجل وامرأة وبين مصاب ومعالج، فيقول ((خرجت من سيارة الإسعاف حاملاً حقيبة الإسعافات الأولية، وكنت أرتدي اللباس الأبيض)) وقد شاهدني الجنود وعرفوا أنني طبيب، وعندما وصلت إلى المصاب الأول الذي كان بقربي لأسعفه، انحنيت عليه لمعالجته، أصبت بثلاث رصاصات في ظهري في منطقة الكلي، وفي هذه اللحظة استشهد أحد المصابين، وكان يمكن إنقاذه لو لم أصب)) (49) وقد كانت معظم الإصابات بالرأس والقلب(50) .
وفي مهزلة صهيونية لتبرئ ما اقترفته أيديهم الملطخة بالدماء الفلسطينية والعربية، سارع الإرهابي اسحق شامير رئيس وزراء الكيان الصهيوني إلى تشكيل لجنة لتقصي الحقائق، أطلق عليها اسم "لجنة زامير" نسبة إلى رئيسها تعفي زامير رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي سابقاً، وجاءت نتيجة ذلك التحقيق على لسان رئيس المكتب الإعلامي لحكومة الاحتلال "يوشي ألمرت" الذي قال ((إن التقرير يثبت بوضوح المسؤولية والخطأ في التصعيد من قبل آلاف المتطرفين المسلمين الذين كانوا يهاجمون المكان المقدس للشعب اليهودي)) (51) .
مذبحة الخليل
بينما كان المصلون في الحرم الإبراهيمي الشريف في مدينة الخليل، ركعاً سجداً بين يدي الله مولين وجوههم شطر بيت الله الحرام وفي صلاة فجر الجمعة 25/2/1994، وقبل أن ينتهوا من السجود، بدأت زخات من الرصاص الصهيوني الغادر تنهال عليهم من كل صوب لتوقع أكثر من 350 مصلياً مسالماً ما بين قتيل وجريح، هنا بدأ الفصل الثاني من تلك المجزرة الإرهابية على يد المستوطن الإرهابي باروخ غولدشتاين ومعاونيه، وقد بدأ الفصل الأول من تلك المذبحة منذ صلاة العشاء يوم الخميس، عندما منع الجنود والمستوطنين المصلين المسلمين من دخول الحرم لأداء صلاة العشاء، بدعوى أن اليوم عيد "البوريم" الخاص بهم، وقد تجمع المستوطنين الإرهابيين في ساحات الحرم الخارجية، وبدأوا بإطلاق الألعاب النارية باتجاه المصلين، وبعد فترة سمحت لهم قوات الاحتلال بالدخول إلى داخل الحرم الشريف على شكل مجموعات، وعند الساعة العاشرة مساءً طلب من المصلين المسلمين مغادرة الحرم، وقد اعتدى جنود الاحتلال الصهاينة بالضرب على العديد من المصلين أثناء مغادرة المسجد .
ويقول حاتم قفيشة وهو أحد الشهود على الجريمة الصهيونية ((في الساعة 5,20 فجر اليوم، وكان الجميع وقوفاً وخلعت حذائي، وكان رجل كبير السن يرتدي زياً عسكرياً يجري وهو يحمل سلاحاً ضخماً مشحوناً بالذخيرة، وفوجئت بدخوله المسجد أثناء الصلاة، وفتح النار، إلا أنني لذت بالفرار وطلبت من الجندي الذي يحرس المنطقة بالتدخل إلا أنه أوسعني ضرباً ثم غادرت منطقة المسجد (52) .
ويقول شهود عيان نجوا من المجزرة ((سمعنا صوت انفجار مكتوم، تلاها أزيز رصاص كان يغطي المكان فوق رؤوس المصلين، ويضيف طلال أبو سنينه الذي أصيب بعيار ناري في الكتف وآخر في الكتف الأيسر شاهدت مستوطناً يستتر خلف أحد الأعمدة وهو يطلق النار على المصلين من بندقيته فيما وقف مستوطن آخر بجانبه يحشو له بندقية أخرى لتكون جاهزة للعمل))(53)، ويقول محمد ساري أحد المصلين ((إن المصلين اعتادوا على حضور صلاة فجر يوم الجمعة بأعداد كبيرة، وقدر عدد المصلين الذين تواجدوا خلال الصلاة، بنحو 500 مصلي، وأضاف قائلاً نادى المؤذن لقيام الصلاة، ثم ركعنا وسجدنا السجدة الأولى، وفجأة سمعنا صوت إطلاق نار كثيف من الخلف، وعندما أدرت وجهي باتجاه الصوت، شاهدت جندياً يرتدي الزي العسكري الكامل، ويضع على أذنيه سماعاته، ويحمل رشاشاً سريع الطلقات وهو يواصل إطلاق النار باتجاه المصلين (54) . وقد أصيب ساري بساقيه عندما حاول الوقوف، وخلال هذه الفترة تمكن عدد من الشبان من الوصول إلى مطلق النار وحماية من في المسجد بأجسادهم وفي لحظات كان غولدشتاين قد أصبح صريعاً بين أيدي الشبان (55) وبسبب غزارة النيران فقد تحول المسجد إلى ما يشبه المسلخ وملأت برك الدماء المسجد من الداخل. ويصف محمد سليمان أبو صالح أحد خدام الحرم الإبراهيمي المشهد الإرهابي في داخل الحرم فيقول أن الإرهابي كان يحاول قتل أكبر عدد وتناثرت الجثث على أرضية المسجد وتلطخت بالدماء. حاول مصلون كانوا ساجدين في ذلك الوقت الهرب هلعاً ووقع بعضهم على الأرض، ويضيف صحت بأعلى صوتي للجنود كي يأتوا ويوقفوه إلا أنهم لاذوا بالفرار وغير المسلح خزنة البندقية مرة واحدة على الأقل وقتل سبعة أشخاص على الأقل مرة واحدة بعد أن تناثرت محتويات مخهم على الأرض، وظل يطلق النار عشر دقائق ولم يتدخل الجيش حتى انتهت المذبحة (56) . ويقول الشيخ إبراهيم عابدين إمام الحرم أن الرصاص كان يأتي من عدة أماكن، إنه حمام دم حقيقي، وكان رد فعل الجنود الإسرائيليين بطيئاً جداً وإنهم أخّروا وصول سيارات الإسعاف (57). ولم تتوقف تلك المجزرة الإرهابية عند مقتل الإرهابي غولدشتاين، إذ تدفق الجنود إلى المسجد عندما توقف إطلاق النار، ويؤكد من شهد المجزرة أن الجنود ومعهم عدد من المستوطنين فتحوا نيران أسلحتهم على الذين تجمهروا حول غولدشتاين فلم ينج منهم أحد، فكانت المجزرة الثانية، وفي الخارج فتح الجنود النار على النجدة التي وصلت إلى المسجد لإسعاف الجرحى فكانت المجزرة الثالثة التي لم تتوقف إذ لحق الجنود بالمصابين ومسعفيهم حتى أبواب المستشفيات فقتلوا المزيد، كما لحقت قوات أخرى الشهداء ومشيعيهم حتى أبواب القبور فقتلوا عدداً آخر، وقد أسفرت تلك المذبحة البشعة بحق المصلين عن استشهاد ما يزيد 24 شهيداً، وجرح المئات .
مذبحة قانا:
لم تقتصر عمليات التطهير العرقي التي قام بها الجيش الإرهابي الصهيوني بحق المدنيين الفلسطينيين وإنما تعدى ذلك ليشمل المدنيين اللبنانيين في جنوب لبنان .
قامت القوات الصهيونية في محاولة منها لكسر شوكة حزب الله اللبناني بعملية عسكرية على جنوب لبنان، وانطلاقاً من العقلية الإرهابية الدموية الصهيونية المرتكزة على أن ((ممارسة الضغط على المواطنين اللبنانيين، سيؤدي عملياً إلى ممارسة ضغط شامل وكلي، وعندها تضطر منظمة حزب الله لوقف إطلاق النار)) (59) . وبناء على ذلك فقد أقدمت القوات الصهيونية إلى قصف الملجأ الذي كان يؤوي نحو خمسمائة لبنانياً معظمه من الأطفال والشيوخ والنساء المهجرين بسبب الغارات الإسرائيلية من قراهم القريبة ممن عجزوا عن الوصول إلى بيروت إلى قتل نحو 109 مدنيين لبنانيين وإصابة 116 آخرين بجروح جراح معظمهم خطيرة، وقد استخدمت القوات الإسرائيلية ما بين 5 إلى 6 قذائف متطورة مصممة للانفجار فوق الهدف لإحداث أكبر عدد ممكن من الإصابات في قصف الملجأ الذي أثبتت التحقيقات الدولية أن القوات الإسرائيلية قصفته عن عمد (60) .
ويقول علي أحد المصابين ((هربت صباحاً مع صديقين والتجأت إلى قوات الطوارئ في قانا ومعي وزوجتي وأولادي الأربعة، أدخلونا إلى ملجأ فيه نحو خمسين شخصاً، فجأة دوى القصف، قذيفة أولى ثم ثانية سقطت بالقرب من الملجأ، وفيما نحن نحاول الخروج أصابت قذيفة مباشرة الملجأ، لا أعرف ما حل بزوجتي وأولادي)) (61)، وبكى فادي جابر وهو يحكي مشاهد رآها بعد أن سقطت القذائف الإسرائيلية على النازحين في قاعدة قوات حفظ السلام الفيجية التابعة للأمم المتحدة وقال ((سمعت أشخاصاً يهتفون الله أكبر، وسقطت امرأة مغشياً عليها لذلك مددت يدي لأتحرى ما حدث لها فسقط مخها بين يدي (62). أما سعد الله بلهاس الذي أصيب بشظية في المذبحة الصهيونية، فيقول ((في ثانية واحدة فقدت كل شيء، أولادي وأحفادي، فقدت 14 منهم بالإضافة إلى زوجتي، لا أرغب في الحياة بعد الآن، أبلغوا الأطباء بأن يتركوني أموت)) (63) .
9 من الزوار الآن
916811 مشتركو المجلة شكرا