الصفحة الأساسية > 4.0 العملانيات > حرب التحرير الشعبية > الانتفاضة وحرب العصابات
تعرف حرب العصابات بأنها شكل خاص من أشكال القتال يدور بين قوات نظامية، وبين تشكيلات مسلحة تعمل في سبيل مبدأ أو عقيدة بالاعتماد على الشعب أو جانب منه، وتستهدف تهيئة الظروف الكفيلة بإظهار هذا المبدأ أو هذه العقيدة إلى حيز التطبيق.
وقد بدأ تبلور حرب العصابات بهذا المعنى على يد الإسبان الذين شكلوا من بينهم عصابات مسلحة لمقاومة نابليون وإزعاجه وإنهاكه بعد هزيمة قواتهم النظامية على يديه. وقد ساهمت هذه العصابات الإسبانية فيما بعد مساهمة ملموسة في معاونة ويلنجتون حين دخل بقواته النظامية ضد نابليون في المعركة المعروفة باسم معركة واترلو عام 1815.
وحرب العصابات بهذا المعنى الذي أوضحناه تختلف عن صور أخرى قد تشتبه معها من مثل الحرب الأهلية، والمقاومة الشعبية، والثورة، والعصيان والتمرد.
فالحرب الأهلية هي تلك التي تنشا بين مجموعتين أو مجموعات متكافئة تمت لبلد واحد.
وأما المقاومة الشعبية فهي نوع من الدفاع التلقائي غير المنظم يلجأ إليه الشعب عاطفيا لمقاومة قوات محتلة أو آخذة في الاحتلال، ودون أن ينتهج الشعب في ذلك تنظيما سياسيا معينا.
وأما الثورة فهي حادث سياسي جلل يقلب الأوضاع في دولة معينة ليرتفع بمستوى الواقع إلى مستوى الآمال الوطنية.
أما العصيان والتمرد: فهما هبة مسلحة تتقرر نتيجتها بسرعة.
وهذه ولاشك نماذج لا علاقة لها بحرب العصابات التي نتحدث عنها، والتي يعتبر ماوتسي تونج أول من وضع قوانينها الاستراتيجية في العصر الحديث، بحيث صارت بهذه القوانين ظاهرة من ظواهر الحرب تعادل في أهميتها وخطورتها أنواع الحروب الأخرى.
وللتدليل على أهمية هذا النوع من الحروب، نذكر بالنتائج التي حققتها العصابات الصينية ضد الغزاة اليابانيين، والسوفيتية ضد الألمانيين، والجزائرية ضد الفرنسيين، والفيتنامية ضد الفرنسيين ثم الأمريكيين، وأخيرا قوات حركة موختي باهيتي في بنجالديش ضد القوات الباكستانية.
بل إنه ليس أدل على أهمية هذا النوع من الحروب، من أن دولا كالولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا الاتحادية، وفرنسا، قد استفادت من فكرته بإنشاء قوات تنهج أسلوب رجال العصابات بالرغم مما تملكه هذه الدول من إمكانات التعبئة النظامية.
وعلى أية حال، فسوف نقطع تماما بأهمية هذا النوع من الحروب إذا ما استيقنا أنها ليست صورة مصغرة للحرب التقليدية، وإنما هي حروب مختلفة تماما في قوانينها ومبادئها وكيفية الإعداد لها، وهو ما سيتضح من دراستنا لعناصر هذه الحرب وكيفية الإعداد لها في الفرعين التالين:
الفرع الأول
عناصر حرب العصابات
وسنعمد هنا إلى محاكاة الدراسة في الحرب التقليدية دون أن ينسينا هذا الاختلاف البين في معطيات العناصر في كل من الحربين.
ولعل منشأ هذه المحاكاة أن الحروب مهما تنوعت إنما ترتكز على أربعة عناصر هي: الاستراتيجية التي تتعلق بمجمل عملياتها، والتكتيك الذي يتعلق بأسلوب تنفيذ العمليات في المعارك المختلفة، والتقدم العلمي الذي يحسم كثيرا من مواقفها، وأخيرا الخطة التي هي في حقيقة أمرها، توظيف للعناصر الثلاثة السابقة في زمان ومكان بعينهما.
ونتناول فيما يلي كل عنصر من هذه العناصر في مبحث مستقل.
المبدأ الأول
الاستراتيجية في حرب العصابات
ولما كانت الاستراتيجية تتأثر بالواقع سلبا وإيجابا، وكان الواقع في حرب العصابات يبدأ بمجموعة صغيرة تؤمن بمبدأ أو عقيدة. فليس لهذه المجموعة إلا أن تتسلح بمبادئ استراتيجية معينة تتيح لها التأمين والنماء حتى تأتي اللحظة التي تستطيع فيها حسم الحرب لصالحها، وهذه المبادئ الاستراتيجية هي:
1ـ العمل من خلال تنظيم عقائدي.
2ـ تجنب الحسم العسكري.
3ـ الحرص على الحسم السياسي.
4ـ المرحلية.
5ـ الحرص على التأييد الشعبي.
6ـ العمل على الفوز بالتأييد الدولي المناسب.
ونتناول فيما يلي كل مبدأ من هذه المبادئ.
المبدأ الأول: العمل من خلال تنظيم عقائدي
فأول مبدأ من مبادئ الاستراتيجية في حرب العصابات هو إدارة الحرب عن طريق تنظيم سياسي قائد، وقد مر بنا ـ من قبل ـ أن هذا هو الفارق بين حرب العصابات وغيرها من أنواع المقاومة الأخرى.
ولهذا المبدأ مجموعة من الأسباب أهمها: الطبيعة السياسية لحرب العصابات، وحاجة العصابات إلى عنصر الالتزام، فضلا عن اعتمادها التام على مركزية التخطيط.
فأما عن الطبيعة السياسية لحرب العصابات، فقد أوضحنا من قبل أن نواة هذه الحرب هي مجموعة من الرجال باعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل مبدأ سياسي معين وليس من سبيل أمام هذه المجموعة إلا الاعتماد على التوجيه والتثقيف السياسي لتواجه به التفوق المادي المعادي، ولتقنع به رجالها بالتقشف والمثابرة والصمود والمقاومة.
وأما عن حاجة العصابات إلى عنصر الالتزام، فقد ثبت أنه بدون هذا العنصر لا يستطيع قادة العصابات أن يعملوا على جمع الشاردين، وكبح الجامحين، فضلاً عن تقديم المعاونة لمن يحتاج إليها من تشكيلات العصابات المنتشرة هنا وهناك. والطريق الوحيد هو خضوعهم لتنظيم عقائدي قائد، إذ لا يملك رجال العصابات تلك الوسائل التي تمكن الجيوش النظامية من فرض الطاعة بأسلوب الضبط والربط القهري.
وأما عن اعتماد العصابات التام على مركزية التخطيط فأساسه ضمان الفعالية، إذ في مثل حرب كحرب العصابات، يتأتى النصر الكبير من آلاف من الانتصارات الصغيرة، ولا يمكن تحقيق الفعالية لهذه العمليات الصغيرة المتعددة إلا إذا كانت جميعها موظفة ـ بتخطيط مركزي واع ـ لخدمة الهدف النهائي للحرب. ولا يمكن ضمان المركزية في التخطيط إلا إذا خضع الجميع لتنظيم عقائدي قائد.
ولا يختلف المعنى المقصود بالتنظيم العقائدي عن المعنى المشهور للحزب السياسي إلا من ناحية الوسائل فقط، فبينما يتشابهان في كونهما جماعة متحدة من الأفراد تعمل للفوز بالحكم بقصد تنفيذ برنامج سياسي معين، فإنهما يختلفان في الوسائل المتبعة لتحقيق هذا الهدف، حيث تنتهج الأحزاب السياسية الوسائل الديمقراطية، بينما يرى رجال العصابات ألا جدوى إلا بالاعتماد على الوسائل العسكرية. ولعل منشأ هذا الاختلاف في الوسائل راجع إلى أن نظام الحزب السياسي يعتبر وليدا للأنظمة النيابية، وفي هذه الأنظمة يمكن مواجهة التحديات السياسية بالوسائل الديمقراطية، بينما التنظيم العقائدي في حرب العصابات يعد وليدا لنقلة سياسية بعيدة يراد لها أن تكون، وهو مالا يمكن تحقيقه إلا باشتراك الوسائل العسكرية بالطبع.
المبدأ الثاني: تجنب الحسم العسكري
ويقصد بهذا المبدأ تجنب العمل على كسب الحرب بالوسائل العسكرية البحتة، فهذا الأسلوب فضلا، أنه أكبر من طاقة رجال العصابات. فإنه لايتفق وطبيعة هذه الحرب. فحرب العصابات هي حرب السياسة في مواجهة القوة، حرب الالتزام العقائدي في مواجهة التجنيد الإجباري، أي أنها حرب الأضعف في مواجهة الأقوى ماديا، ولا سبيل مع هذا الواقع إلا إذا تجنبنا الحسم العسكري واستبدلناه بالحسم السياسي على ما سيجيء.
ولتجنب الحسم العسكري يعمد رجال العصابات إلى إطالة أمد الحرب بأي ثمن، ولو أدى ذلك إلى التراجع المكاني إذ لا يهم هذا التراجع المكاني مادامت الرقعة السياسية تزداد يوما بعد يوم.
ولإطالة أمد الحرب، ينتهج رجال العصابات عقيدة «الحركية» من الناحية العسكرية، وتعني هذه العقيدة الديناميكية الدائمة، فضلاً عن الفعالية والمبادرة وسرعة اتخاذ القرار في مواجهة الأوضاع المتغيرة. بحيث تظل الحرب سائرة إلى الأمام دوما. فعقيدة الحركية تعني بالنسبة لرجال العصابات الحماية التامة من الفتور وفقدان الحماسة فتزداد قواتهم وقوتهم كل يوم، بينما تعني بالنسبة لعدوهم اليأس الكامل من هذه الحرب التي لا تريد أن تتوقف ولا يبدو لها نهاية ما. وهنا لابد أن يعمل عدوهم على التخلص من هذه الحرب حماية لنفسه من الانتحار السياسي.
وقد تبدو استراتيجية بث اليأس في نفس العدو نوعا من الترف بالنسبة للعسكريين النظاميين، إذ لا يعرف هؤلاء إلا إحدى استراتيجيتين، هما استراتيجيتا الحسم والردع. وتعتمد الأولى على قتال العدو حتى تدميره. بينما تعتمد الثانية على ايجاد القوة الكافية لإرهاب العدو ومنعه من التفكير في الحرب.
وهاتان الاستراتيجيتان وإن كانتا تناسبان الجيوش النظامية وما تملكه من إمكانات التعبئة الإدارية، إلا أنهما لا تناسبان قدرات رجال العصابات كما لا يخفى.
المبدأ الثالث: الحرص على الحسم السياسي
وبينما ينبذ رجال العصابات فكرة الحسم العسكري، ولا يرون الحلول النابعة منها إلا حلولا نابعة من فقدان الصبر وتعجل الواقع، فإنهم يحرصون تماما على الحسم السياسي، ويستخدمون في سبيله كل وسائلهم المتاحة.
ويعني هذا المبدأ مداومة الضغط السياسي على العدو حتى لا يجد مفرا من التسليم بمطالب العصابات السياسية.
وتنحصر مبررات هذا المبدأ في تسليم رجال العصابات بعدم جدوى الوسائل العسكرية وحدها، فضلا عن اقتناعهم التام بأنهم لا يحاربون من أجل غزو مادي، وإنما من أجل تحرير سياسي وفتح عقائدي، ولهذا فإن الحرب بالنسبة لهم تنتهي مع العدو حالما يسلم لهم بأهدافهم السياسية، ويترك لهم حرية العمل على نشرها وتطبيقها.
وأما وسائل تحقيق هذا المبدأ، فأولها تحليل الموقف السياسي العام بدقة، وتحديد عوامل الإيجاب والسلب فيه، ثم العمل على توظيف العوامل الإيجابية وتحييد العوامل السلبية لخدمة الأهداف السياسية المطلوبة. ويراعى في تحليل الموقف السياسي دراسة الأوضاع السياسية المحلية والدولية، كما تدخل في دراسة العوامل السياسية الإيجابية والسلبية دراسة العقائد السياسية لدى كل من الطرفين، وكذا دراسة مدى إيمان الأنصار خاصة، والشعب عامة، بهذه العقائد السياسية، فضلا عن مدى تحالف هذه العقائد مع كل من المستقبل وقواعد اللعبة الدولية. فالإضافة إلى مدى استعداد كل طرف للصمود في سبيلها ومن أجلها أطول مدة مطلوبة.
المبدأ الرابع: المرحلية
فحرب العصابات تنقسم من الناحية الاستراتيجية إلى ثلاث مراحل هي: المرحلة الدفاعية البحتة، ومرحلة التوازن، ومرحلة الحسم السياسي.
وتبدأ المرحلة الدفاعية من اللحظة التي يقوم فيها رجال العصابات بتشكيل الجماعات المسلحة، وتستمر طالما كان عدد الرجال قليلا، وطالما كان التأييد الشعبي لا يزيد عن نواة في صدور بعض المشايعين.
وسر تسمية هذه المرحلة بالدفاعية البحتة أن الطابع العام للعمليات في هذه المرحلة يكون هو الدفاع ضد ضربات القوات النظامية التي ستقوم بها ضد رجال العصابات فور الإحساس بوجود تنظيمهم العصابي المعاكس.
ويحرص رجال العصابات في هذه المرحلة على الصمود أطول مدة ممكنة، إذ إن هذا الصمود هو طريقهم إلى تنمية التأييد الشعبي، وزيادة التشكيلات المسلحة التي تأتمر بأوامرهم.
وأما مرحلة التوازن فهي تلك المرحلة التي تبدأ بتوفر العدد الكافي من التشكيلات القادرة على مبادلة العدو بالضربات، وتنتهي بوصول العدو إلى درجة التجمد.
ويستهدف رجال العصابات من هذه المرحلة تنشيط المعارضة السياسية في مواجهة الحكومة العادية، إذ يؤدي تنشيط هذه المعارضة إلى إرهاق هذه الحكومة في إيجاد التبرير الكافي للاستمرار في هذه الحرب التي تتزايد أعباؤها المالية يوما بعد يوم كما تتزايد خسائرها البشرية بغير ما نتيجة تبدو في الأفق، وحين ترى هذه الحكومة أنها عاجزة عن تبرير الاستمرار في مثل هذه الحرب، وبالتالي آخذة في الانتحار سياسيا أمام معارضيها فإنها لا بد أن تصدر لقواتها الأمر بالتجمد.
وطريق العصابات لتحقيق النتيجة المرجوة من هذه المرحلة هو القيام بالهجمات اليومية القاسية التي تجبر العدو على تشتيت قواته على طول المواجهات الواسعة، والأعراض النائية، كما تجبره على زيادة تعبئة موارده في بئر مسحور.
وأما المرحلة الثالثة، مرحلة الهجوم العام المضاد والحسم السياسي، فهي تلك المرحلة التي تبدأ بوصول العصابات إلى مرحلة تستطيع فيها تشكيل قوات نظامية قادرة على خوض حرب المواقع. فبهذه النواة النظامية يعمد رجال العصابات إلى شن معركة عسكرية ذات تأثير معنوي فاصل لإجبار العدو على إنهاء الحرب لصالحهم.
وتعتبر هذه المرحلة الأخيرة من أهم مراحل حرب العصابات، فبعد أن تنتهي الكباش في مرحلة التوازن إلى التناطح الواقف المتجمد، لابد من حركة سريعة وقوية يقوم بها رجال العصابات للإيقاع بالعدو الذي أنهكه التعب وأرهقه حتى وصل إلى مرحلة التجمد.
وهذه المراحل الثلاث، وإن كانت ملحوظة في كل حرب للعصابات، إلا أن الواقع المتشابك لا يسير دائما بهذا التبسيط النظري السهل. ولهذا يحرص رجال العصابات على التمسك بالمرونة التامة لمواجهة الواقع المتشابك وتحويله لصالحهم، فمثلا إذا استطاع العدو أن يكسر هجوم العصابات العام في مرحلة الحسم فإن رجال العصابات يعودون من فورهم إلى مرحلة التوازن، واذا استطاع العدو أن يعاود نشاطه بدفعة جديدة رغم توقفه في مرحلة التجمد فإن رجال العصابات يعودون فورا إلى المرحلة الدفاعية البحتة، وهكذا حتى يقتنع العدو بأنه أمام حرب لانهاية لها إلا إذا تنازل عن عناده السياسي، وسلم لرجال العصابات بمطالبهم.
المبدأ الخامس: الحرص على التأييد الشعبي
وبالنسبة للتأييد الشعبي، فلا يمكن لحرب العصابات أن تقوم ضد إرادة شعبية، أو حتى في ظل لامبالاة شعبية فالتأييد الشعبي هو الحليف الطبيعي لقوات العصابات، ولهذا أجمع مفكرو العصابات على ضرورة الحصول على المساندة الشعبية حتى تنجح حرب العصابات.
وأساس هذا المبدأ أمران : أولهما، احتياج العصابات إلى هذا التأييد الشعبي لتعويض التفوق المادي المعادي، إذ يتيح هذا التأييد ـ فضلاً عن إمكانية النماء ـ الاندساس والتخفي بين السكان المحليين، والحصول منهم على المؤن اللازمة للاستمرار. وثانيهما، أن حرب العصابات ـكما أوضحنا في حينه ـ تعتبر حرباً سياسية يسعى بها رجالها لتنفيذ برنامج سياسي معين، وجميع البرامج السياسية ـ كما هو معروف ـ تحتاج بجوار القيادة والحزب السياسي إلى قاعدة شعبية عريضة ينفذ بها ومن أجلها البرنامج السياسي الموضوع.
وطريق العصابات للحصول على التأييد الشعبي معروف، وينجح بأمرين:
1ـ المعرفة الأفضل بالشعب: طبيعته، قيمه، حاجاته الأساسية، دواعي سخطه، ثم توظيف كل ذلك للحصول على تأييده.
2ـ انتهاج المبدأ السياسي الذي يلقىـ في لوحته العامة على الأقل ـ قبولا من القاعدة العريضة للشعب.
المبدأ السادس: العمل على الفوز بالتأييد الدولي المناسب
فلابد لرجال العصابات من تأييد دولي مناسب يتيح لهم التمتع بعمق سياسي أرحب، كما يتيح لهم التطلع إلى مستقبل أفضل. خصوصا وأننا نفترض أن رجال العصابات يحاربون عدوا ينتظم رجاله في دولة، وهذه الدولة لابد أن تستجيب لرجال العصابات إذا ما أحسن الضغط عليها بواسطة الدول الأخرى.
وللحصول على التأييد الدولي، يعمد رجال العصابات إلى وسائل متنوعة، مثل: إنشاء حكومة مؤقتة، أو فتح مكاتب سياسية في الدول المختلفة، فضلا عن استدرار العطف والتأييد في المحافل الدولية المتعددة.
ومن العصابات التي انتهجت أسلوب الحكومة المؤقتة العصابات الجزائرية والفيتنامية، كما أن هذه العصابات نفسها كانت قد فتحت لنفسها مكاتب متعددة، وحولتها فيما بعد إلى سفارات لها في الدول التي وافقت على فتحها لديها.
ويعتبر اعتراف الدول المختلفة بمشروعية الأهداف التي يسعى إليها رجال العصابات، فضلا عن حقهم في العيش في ظلها، مطمعا يسعى إليه رجال العصابات بمهمة لا تعرف الكلل.
* الفرع الثاني
التكتيك في حرب العصابات
ويتخذ التكتيك في حرب العصابات شكلين رئيسيين، هما الكمين والإغارة، ورغم تباين الكمين والإغارة في بعض التفصيلات الفنية، إلا أن كلا منهما يخضع لقواعد عامة لابد من مراعاتها في تكتيك العصابات أيا كان الشكل المتخذ فيه.
وسنشير فيما يلي إلى القواعد العامة التي تحكم تكتيك العصابات ثم نتناول بعد ذلك كلا من الكمين والإغارة.
أولا: القواعد العامة التي تحكم تكتيك العصابات
وهذه القواعد هي :
ـ الهدف التكتيكي هو المقاومة لا تحقيق النصر، ولذا يجب ترك العناد والإصرار إلا عند عدم التمكن من الفرار فحسب، ولهذا قال ماوتسي تونغ:«على رجال العصابات أن يكونوا خبراء في الفرار».
ـ يجب الحذر دائماً من حصار العدو، والتملص فوراً من القتال عند بادرة ذلك.
ـ يراعى في الهجوم الحذر التام، مع مراعاة الضجة في الشرق والهجوم في الغرب.
ـ يجب الاعتماد التام على التخفي بالاندساس والاختلاط بالسكان المحليين.
ـ يجب أن تكون قواعد الانطلاق محصنة تحصينا طبيعيا، ومجهزة هندسيا للدفاع عنها عند اللزوم، كما يجب فضلا عن ذلك أن تكون متمتعة بممرات خفية سهلة للفرار.
ـ يراعى عدم ترك أية آثار عند الانتقال أو التوقف للراحات.
ـ يجب القيام ببث قواعد صغيرة حسنة الإخفاء حول منطقة الأهداف قبل الهجوم عليها حتى يمكن استخدام هذه القواعد في إخفاء المصابين توطئة لنقلهم إلى مناطق أكثر أمنا.
ـ تحل مسائل الإعاشة والذخيرة باستخدام مخازن صغيرة مخفاة لا يعرف طريقها إلا عدد محدود، وتوضع المواد المطلوب تخزينها في أوعية من البلاستيك أو الصفيح أو الزجاج حتى لا يفسد بالمياه والرطوبة.
ـ يراعى السرية التامة، فخطط التحرك، وقواعد الانطلاق الفرعية والتبادلية، فضلا عن الرئيسية بالطبع، لا يجب أن يعرفها إلا نفر قليل.
ـ يراعى تجنب النمطية والتكرار عند تنفيذ العمليات التكتيكية المختلفة.
ـ الاندفاع والتهور مرفوضان تماما في تكتيك العصابات.
ـ المفاجأة والسرعة والحسم، أمور مهمة في تكتيك العصابات.
ـ يفضل مهاجمة العدو وهو في حالة التحرك، لسهولة الإيقاع به في هذه الحالة.
ـ يفضل الهجوم على المنشآت المنعزلة لأثرها السيكلوجي، فضلا عما تؤدي إليه من إجبار العدو على الانتشار وتوزيع قواته، بالإضافة إلى توفر المؤن والسلاح بها بكميات كبيرة نسبيا.
ـ يجب سحب أسلحة ووثائق القتلى من رجال العصابات.
ـ يجب أن يعتمد رجال العصابات على جهودهم الذاتية للتعيش، فيتفرقون للحياة ويجتمعون للقتال.
ثانيا: الكمين
والكمين ـ كتكتيك قتالي ـ تعرفه القوات النظامية كذلك، بل وتستخدمه القوات الخاصة بكثرة في الجيوش النظامية وذلك بغرض الحصول على أسير أو وثائق.
ولا يختلف الكمين سواء لدى رجال العصابات أو لدى القوات النظامية في أسسه الفنية، إلا أن الكمين عند رجال العصابات ينفرد بميزات معينة أهمها، الاعتماد على الدعم المحلي للسكان في الإخفاء والتمويه والانسحاب وتكديس الأسلحة والمعدات المطلوبة، وكذا تعويض الإمكانيات المادية المطلوبة بالروح المعنوية العالية والذكاء المحلي.
ويقصد بالكمين، الاختفاء في موقع جيد ينتظر تقدم العدو تحت سيطرته، حيث تقتحمه قوات الكمين بغرض إبادة العدو أو الحصول منه على أسرى أو وثائق أو أسلحة أو معدات، فضلا عن إزعاج العدو وإثارته وإرهابه بالطبع.
ولنجاح الكمين بهذا المعنى، تعمد قوات العصابات إلى تقسيم الكمين إلى ثلاث مجموعات، هي مجموعات الملاحظة، والاقتحام، والوقاية وستر الانسحاب.
ويرى أرنستو شي جيفارا أن من الممكن أن يتم الكمين بطريقة أخرى سماها هو « الرقصة الموسيقية » وفيها ينقسم رجال الكمين إلى أربع مجموعات تحتل كل منها اتجاها جغرافيا معينا وتقبع فيه انتظارا للعدو. فاذا ما جاء العدو وتوسط هذه المجموعات عمدت إحداها إلى إطلاق النار عليه، فإذا ما هجم عليها: انسحبت هي من أمامه بينما تطلق مجموعة أخرى النار عليه، وهكذا تتبادله المجموعات الأربع هجوما وانسحابا حتى تنهار روحه المعنوية ويتجمد في مكانه ثم يقع فريسة سهلة للكمين في النهاية.
ولا يهم الوقت في تنفيذ هذه المناورة، فقد يكون ليلاً أو نهاراً، إلا أنه يراعي تقصير الأبعاد فيما لو نفذت هذه المناورة ليلا.
كما يرى كل من ماوتسي تونغ، والجنرال نيجوين فوق جياب قائد جيش التحرير الفيتنامي ـ فيما سبق ـ أن من الممكن تنفيذ الكمين بطريقة مركبة يطوق فيها العدو مجموعة صغيرة ثم يكتشف بعد فوات الأوان أنه كان خاضعا لخدعة ماكرة حيث تكون مجموعات كبيرة قد طوقته هو أيضا.
ولا تعليق لنا على هذه الطرق، فكلها صالحة للتطبيق إذا ما روعي فيها تجنب النمطية والتكرار والبلادة في التنفيذ.
ثالثا : الإغارة
والفارق الفني بين الكمين والإغارة يكمن في أن الكمين انتظار وترقب في موقع جيد، بينما الإغارة تقدم مدروس إلى هدف مختار بعناية.
ففي الإغارة تتقدم القوة المغيرة مراعية الاختفاء التام على طريق تقدمها نحو الهدف المختار من قبل، ئم تقوم هذه القوة باقتحام هذا الهدف بالأسلوب الذي يناسب المعلومات عنه.
وبالطبع فإن الهدف العام لكل إغارة، هو إزعاج العدو وإرهاقه وإرهابه، إلا أن لكل إغارة أهدافا خاصة أخرى قد تكون الحصول على الأسرى أو الوثائق أو الأسلحة أو المؤن أو المعدات أو حتى مجرد تدمير الغرض المستهدف ونسفه.
وجدير بالذكر إن الانسحاب في الإغارة يعتبر من أهم مراحلها، فالعدو لن يبخل بالمطاردة اللازمة إذا ما تيسرت له طرقها، بينما لا تتمتع القوة المغيرة بأي ستارات من النيران الثقيلة لأن هذا البذخ لا يتوافر لرجال العصابات غالبا، ولهذا يعمد رجال العصابات إلى تعويض ذلك بالانسحاب من الطرق الوعرة الصعبة، مع تلغيم هذه الطرق بالإشراك الخداعية الصغيرة التي تعوق تقدم العدو خلف القوات المنسحبة.
وفي ختام الكمين والإغارة نذكر بأن كلا منهما قد يجري تنفيذه من قواعد مبثوثة بين تشكيلات العدو، كما قد يجري تنفيذه بأسلوب التسرب والانتشار داخل خطوط العدو.
* الفرع الثالث
التقدم العلمي
وبديهي أن رجال العصابات وقد ذكرنا من حالهم ما يدل على تواضعه التام، لا يستطيعون إلى التقدم العلمي سبيلا، فأنى لهم البيئة العلمية التي تستطيع تنمية واستعمار العقول العلمية؟ إن هذه البيئة تتطلب إمكانيات يقصر عنها رجال العصابات، فالفقر والتقدم العلمي ضدان لا يجتمعان بأدنى تأمل.
ورغم وضوح القاعدة السابقة في ذهن رجال العصابات، فإنهم لا يألون جهدا في التمتع بالتقدم العلمي وآثاره حتى ولو من قبيل إثبات الذات وإراحة الضمير، ولهذا تراهم يتلهفون أيما تلهف إلى الأدوات الفنية من مثل الراديو والرادار واللاسلكي والمواصلات الخطية لما تعطيه هذه الأدوات من إمكانيات رحيبة في العمل الحربي.
بل إن رجال العصابات يحاولون تصنيع هذه الأدوات أو مثيلها بالإمكانيات المحلية المتواضعة التي يملكونها. وفضلا عن ذلك فإنهم يعمدون إلى الذؤابة من أسلحة وأدوات العدو فيستولون عليها، أولا ليستفيدوا بها، وثانيا لإهانة جنود العدو وإشعارهم بأنهم لا يزيدون عن أن يكونوا حمالة لأعقد الأسلحة والمعدات.
وبالإضافة إلى هذه الطرق، فإن رجال العصابات يرحبون دائما بكل معاونة صديقة تتيح لهم تقليل الفجوة العلمية بينهم وبين عدوهم.
ويتضح مما تقدم أن عنصر التقدم العلمي يعد من أضعف عناصر الحرب في حرب العصابات، إلا أن المشاهد أن رجال العصابات لا يبخلون في سبيل تعويضه بأي ثمن حتى ولو كان هذا الثمن هو الدم.
الفرع الرابع
الخطة في حرب العصابات
وقد أوضحنا من قبل أن الخطة العسكرية تعتمد على أركان أربعة، هي الهدف والطاقة، الأسلوب، والتوازن المطلوب في مرحلة المفاوضات.
ونتناول فيما يلي كل عنصر من هذه العناصر:
أولا : الهدف
ولحرب العصابات هدف واحد، هو الحصول على نصر سياسي كبير من آلاف من الانتصارات العسكرية الصغيرة فليس بوسع رجال العصابات أن يتجهوا مباشرة إلى مركز الثقل المعادي إذ أن إمكانيتهم الواقعية تقصر دائما عن هذا البذخ.
ولا يخفي رجال العصابات فكرتهم الاستراتيجية في هذا الهدف، فهم يرون أن هذا الهدف هو السبيل الممكن والوحيد لتعميق السلبيات التي تلحق بالجيوش الإدارية وتحييد الإيجابيات التي تتمتع بها. ويوضحون ذلك بقولهم إن للجيوش الإدارية إيجابيات أربع هي: القوة البشرية المدربة، والتسليح، والشئون الإدارية والتنظيم. وسلبيات ثلاث هي: الوقت، والروح المعنوية، وموانع مسرح العمليات. ويرى رجال العصابات أن السبيل إلى تحييد الإيجابيات وتعميق السلبيات هو الحرب الطويلة الأمد التي تعتمد على أسلوب اللذغات الصغيرة التي تكون في مجموعها جرحا غائرا في الجبهة السياسية للعدو.
ويتسلح رجال العصابات في سبيل تحقيق هدفهم السابق بالصبر التام، ولا يقبلون مطلقا أي اقتراحات تنبع من فقدان الصبر أو تعجل الحسم العسكري.
ثانيا: الطاقة
وبينما تحسب الطاقة في الجيوش الإدارية بطريقة مادية كما سبق (القوة البشرية المدربة + التسليح + الشئون الإدارية + التنظيم) ناقص (موانع مسرح العمليات + طول الوقت + الروح المعنوية المنخفضة) فإن طاقة القوات في حرب العصابات تقاس بطريقة معنوية هي (الحافز السياسي + التأييد الشعبي + التأييد الدولي). ولهذا ففي وسع عدد محدود نسبيا من رجال العصابات ـ إذا ما تمتعوا بالحافز السياسي القوي، والتأييد الشعبي المناسب، والتأييد الخارجي الملموس ـ في وسعهم، أن يشنوا حربا للعصابات لا سبيل إلى إيقافها أو هزيمتها، خصوصا إذا ما تجاوزت المرحلة الدفاعية البحتة (مرحلة التشكيل)، وخصوصا إذا روعي في حسبان الطاقة استبعاد أصحاب الحماسة الهشة والرجال الذين من ورق، فضلا عن أخذ الخيانة والخونة في الحسبان.
ثالثا : الأسلوب
وبالنظر إلى أن رجال العصابات يحسبون قوتهم بطريقة معنوية ـ كما سبق ـ كما أنهم يقدرون لهذه القوة أن تنمو وتتزايد مع استمرار المعارك، فإنهم لذلك ينبذون تماما أسلوب المعارك الفاصلة التي تؤدي في النهاية إلى مركز الثقل المعادي، ذلك أن هذا الأسلوب، وإن كان متناسبا مع الحروب الإدارية التي تتميز بتوفر الإمكانيات المادية القتالية، إلا أنه لا يتناسب مع حرب العصابات لكونها حربا معنوية لامادية، سياسية لا إدارية، ولهذا يستبدل رجال العصابات أسلوب المعارك الفاصلة بأسلوب المعارك الصغيرة المتعددة التي ـ تعبر تماما عن العلاقة المتميزة بين الهجوم والدفاع في حرب العصابات، تلك العلاقة التي يشرحونها بقولهم: « إن حرب العصابات تخاض استراتيجيا بالدفاع وعلى الخطوط الخارجية، وتكتيكيا بالهجوم وعلى الخطوط الداخلية ».
ويبرر رجال العصابات هذا الأسلوب بالمبررات ا لتالية:
ـ يتفق هذا الأسلوب مع مبدأ إطالة أمد الحرب إلى أقصى حد ممكن.
ـ كما أنه يتناسب مع فكرة تحرير الأفراد لا الأراضي إذ إن ما يهم رجال العصابات هو ازدياد التأييد الشعبي يوما بعد يوم، ولو على حساب التراجع المكاني.
ـ يساعد هذا الأسلوب على حماية القوة البشرية لرجال العصابات، بينما يؤدي إلى إنزال أفدح الخسائر بقوات العدو.
ـ يمكن هذا الأسلوب رجال العصابات من تطوير حربهم من البسيط إلى المركب بالتوازي مع نمو تشكيلاتهم المسلحة.
ـ يسمح هذا الأسلوب ببناء القوات ماديا وسياسيا أثناء القتال.
ـ وأخيرا، يتفق هذا الأسلوب مع فكرة الاعتماد على النفس.
رابعا : وضع القوات في مرحلة المفاوضات.
واستطرادا مع فكرة الحرب السياسية، فإن رجال العصابات لا يدخلون مرحلة المفاوضات إلا بعد تحقيق التوازن السياسي لقواتهم، ذلك أنه إذا كان المهم في الحروب التقليدية أن ندخل مرحلة المفاوضات السياسية بقوات متوازنة ماديا، فإن المهم في حرب العصابات أن يدخل رجالها المفاوضات بقوات متوازنة سياسيا.
ويقيس رجال العصابات توازنهم السياسي بما يلي:
ـ تحرير غالبية السكان سياسيا.
ـ توفر بعض التشكيلات النظامية القادرة على خوض بعض المعارك المعنوية الفاصلة، مثل معركة ديان بيان في عام 1954 في فيتنام الجنوبية .
ـ تأييد غالبية الدول لرجال العصابات في الأهداف السياسية التي يستهدفونها.
فإذا أحس رجال العصابات بتوافر هذه العناصر الثلاثة، فإنهم لا يترددون في دخول مرحلة المفاوضات معتمدين على توازنهم السياسي هذا لتحقيق النجاح في هذه المفاوضات.
الإعداد لحرب العصابات
تمهيد:
تحتاج حرب العصابات إلى إعداد من نوع خاص، يرجع ذلك إلى أن نقطة البدء في حرب العصابات هي مجموعة من الرجال المؤمنين بمبدأ، والذين لا يملكون من أسباب القوة إلا فيض هذا المبدأ على ذواتهم فقط. هم لهذا يبدؤون من الصفر للإعداد لحرب العصابات، يقومون بإعداد التشكيلات المسلحة، وتهيئة المناخ السكاني والطموغرافي للعمل، فضلا عن توفير الحد الأدنى اللازم من العتاد والمؤن والأسلحة والذخيرة.
ونتناول فيما يلي كيفية الإعداد لكل جانب من هذه الجوانب.
المبحث الأول
إعداد التشكيلات المسلحة
ويمر إعداد هذه التشكيلات بعدة مراحل، هي التجنيد، والانتقاء، والتوزيع، والتدريب.
ونشير فيما يلي إلى معنى كل مرحلة من هذه المراحل:
أولا : مرحلة التجنيد
وفي هذه المرحلة تقوم المجموعة الأولى من رجال العصابات (قادة الحزب السياسي القائد ) ببث دعوتها السياسية لدى أقرب الناس فكريا إليها، مستهدفة بذلك استقطابهم إلى تشكيلات العصابات. ويلي ذلك إرسال هؤلاء الأفراد المنضمين في مجموعات صغيرة إلى المناطق المجاورة لحث السكان على التطوع في حرب العصابات معتمدين في ذلك على استغلال بعض الاعتبارات لا ذكاء الروح التطوعية بين السكان. ومن أمثلة هذه الاعتبارات الاعتبار القومي في حالة ما إذا كانت الحرب ستنشب ضد عدو محتل أو آخذ في الاحتلال، واعتبار الظلم الاجتماعي وفساد جهة الإدارة إذا كانت الحرب ستنشب ضد حكومة ظالمة أو غاشمة.
والمتأمل، يرى في سلوك العصابات على النحو السابق نوعا من أنواع التآمر، ويعترف رجال العصابات بذلك، ويبررون مسلكهم بالاحتكام إلى الشعب ليقول كلمته في إسباغ الشرعية على عقيدتهم السياسية، وباعتبار أن شرعية الثورات في نجاحها وقبولها من الشعب.
ثانيا : مرحلة الانتقاء والتوزيع
وفي هذه المرحلة يتم إجراء الاختبارات اللازمة لفرز المتطوعين على أسس موضوعية، ثم توزيعهم توزيعا مناسبا لإمكانياتهم الفكرية والجثمانية والنفسية. ولا مجال في هذه المرحلة للوساطات أو العوامل الشخصية، فرجل العصابات المتطوع لا يعمل إلا في ظل الرضا التام والشعور بالاقتناع.
وتتسم توزيعات العصابات بالبساطة، فهي لا تزيد عن درجتين (قائد عسكري وقائد سياسي + مجموعة رجال في الوحدات الأولية، أو مجموعة وحدات أولية في الوحدات المركبة).
ثالثا: مرحلة التدريب
ونبدأ هذه المرحلة فور نهاية المرحلة السابقة، ولاشك أن مرحلة التدريب تعد من أصعب وأخطر مراحل الإعداد لحرب العصابات. فأما أنها أصعب، فذلك يرجع إلى افتقار العصابات التقليدي للمدربين المهرة، وأما أنها أخطر فذلك يرجع إلى صعوبة إجراء التدريبات العسكرية أو حتى شبه العسكرية دون أن يحس بها العدو النظامي ويسرع باجتثاثها والعصابات لم تزل بعد هشة.
ولا يتدرب رجال العصابات على نمط واحد، بل هم يتدربون وفقا للمهام المنتظرة ودور كل واحد منهم فيها، فهناك من يتدرب على القتال والعنف، وهناك من يتدرب على الاغتيال والتخريب، وهناك من يتدرب على معاونة القوات النظامية الصديقة إذا كان منتظرا اشتراكها في الحرب. وأخيرا فهناك من يتدرب على أعمال الإعاشة والشئون الإدارية وتوصيل المعلومات والأوامر.
المبحث الثاني
تهيئة المناخ السكاني والطبوغرافي
أولا : تهيئة المناخ السكاني
ويقصد بتهيئة المناخ السكاني هنا. تعويد القطاع العريض من السكان المحليين على التعاطف مع رجال العصابات، سواء بأدنى درجات التعاطف، وهي عدم الإبلاغ عنهم، أو بأعلى هذه الدرجات وهي تموينهم، وإخفاؤهم، وتضليل القوات المعادية عنهم.
ويتم تعويد السكان على هذا التعاطف، أولا بالعمل السياسي النشط، وثانيا بالحرص التام على السلوك المثالي في التعامل مع هؤلاء السكان، وثالثا بإنزال العقاب الصارم بالخونة من هؤلاء السكان.
ثانيا : الإعداد الطبوغرافي
ولا يعتمد رجال العصابات كثيرا في هذا المجال عل الخرائط أو أساليب الاستطلاع والمساحة التي لا قبل لهم بإمكانياتها، وإنما يعتمدون على استكفاء بعض الرجال الذين يحفظون الطرق والدروب والمسافات عن ظهر قلب. كما يعتمدون في تقدير المسافات قبل وأثناء الاشتباكات على أسلوب التقدير بالنظر..
وبالطبع فإن رجال العصابات لا يمانعون إذا ما توافرت لهم أساليب أكثر دقة من ذلك.
المبحث الثالث
توفير القدر الأولى اللازم للإعاشة والقتال
وفي هذا المجال يعتمد رجال العصابات على وسائل عدة، أهمها تخزين بعض المؤن والمعدات والأسلحة في مخازن صغيرة لا يعرفها إلا نفر قليل، ومسلحة بالإخفاء والتمويه اللازمين، فضلا عن تهيئتها لحماية المخزون من التلف والفساد.
وينتهج رجال العصابات أسلوب التقتير التام في الاستهلاك من هذا المخزون، خصوصا في المراحل الأولية، إذ لاشك أن وقتا سيمر قبل أن تعمل القنوات المحلية والخارجية على تعويضهم بالمؤن والعتاد والسلاح.
4 من الزوار الآن
916835 مشتركو المجلة شكرا