الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > المقاومة والاعلام > ثقافة المقاومة في مواجهة ثقافة القوة
قبل الإشارة إلى دور الإعلام في ترسيخ ثقافة المقاومة، والنهوض بها، لا بد من الإشارة إلى أهمية الإعلام كونه اللاعب الرئيس في عملية الاتصال الجماهيري التي توسعت آفاقها، وزادت أبعادها، وتشعبت مجالاتها، مع بدء الثورة المعلوماتية، وتعاظم وسائل الاتصال، والإعلام – حسب رأي أصحاب التخصص- عملية النشر وتقديم المعلومات الصحيحة والحقائق الواضحة، والأخبار الصادقة والموضوعات الدقيقة والوقائع المحددة. ولعل هذا التعريف يعكس الصورة المثالية للإعلام، والتي لا نراها في الإعلام المعاصر، الذي غدا عرضة للتأثر بالمعطيات الداخلية والخارجية، ويتأثر ويختلف تبعاً للتغير التاريخي والجغرافي، وكذلك تغير الزمان والمكان، وهو بذلك يخرج عن صورته المثالية التي وجد من أجلها.
وفي إشارة سريعة حول ما يقدم اليوم على أهم وسائل الاتصال الجماهيرية الواسعة والتي تشمل (الفضائيات العربية، والمواقع الالكترونية)، وما يُطرح من قضايا في وسائل الإعلام المقروءة (صحف ومجلات)، نرى أن بعض الفضائيات العربية وقد أصبحت المطبل والمزمر لثقافة التطبيع والخنوع تحت مسميات عديدة، تأخذ لبوساً ديمقراطياً في الظاهر، واستلابياً في الجوهر، بدءاً من البرامج الحوارية التي تقوم على صياح الديكة، وانتهاء بالفيديو كليب الذي أصبح الظاهرة الأكثر حضوراً، والأكثر شعبية، مروراً ببرامج الأطفال والرسوم المتحركة الوافدة، وتجدر الإشارة إلى أكثر الرسوم المتحركة رواجاً بين الأطفال، وحتى الكبار، وهي أفلام (توم وجيري) التي أصبحت كالخبز والحليب بالنسبة للطفل العربي، يشعر بالفرح والسرور لمتابعتها، لكننا لم نتوقف يوماً عند المعنى البعيد الذي تطرحه. فالقط (توم) هو المغلوب على أمره، و(جيري) هو الفأر المشاكس، وهناك دائماً، كلب رحيم يتوسط باستمرار عند جيري لمسامحة توم، الذي يسجد ويتوسل للفأر جيري حتى يقبل اعتذاره، ويُحسّن علاقته معه ليكون من أصحاب الجنة، وفي تصريح لرئيس شركة "وورنر بروثوس" الشركة المنتجة لأفلام توم وجيري، قال نحن نصنع هذه الصور لنبين حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط، فالفأر جيري صغير وذكي، وهو يدلل على اليهود الإسرائيليين، والقط توم كبير وغبي ويدلل على العرب، ولا يستطيع العيش بدون الفأر لدرجة أنه إذا قتله يحزن عليه، وإذا استدعت الحاجة يتدخل الكلب الرحيم (أمريكا) لإنقاذ الموقف.
أليس هذا قمة الاستهزاء بنا وبعقول أطفالنا!!؟.
إن الصراع الذي تشهده الساحة الدولية المعاصرة، هو صراع حضاري، أهدافه منظومة القيم والمثل والعقيدة، يقوم على النيل من الموروث الاستراتيجي للأمة، فالدول لم تعد قادرة على التحكم في مواردها وإنتاجها، وكذلك التحكم بما تستورده، فقد أصبح كل شيء بمتناول الجميع، ولا تملك الحكومات أو الدول القدرة على إغلاق حدودها لمواجهة الزحف الوافد بدءاً من الأمراض المعدية إلى المخدرات والإرهاب وصولاً إلى الثقافات الوافدة من الاتجاهات كافة، حيث امتدت العولمة لتطال ثقافات الشعوب وموروثها الحضاري والإنساني الذي يشكّل هويتها.
ويبدو أن المحرك الأساس في ظل العولمة هو الإعلام، حيث يسعى لتنفيذ خطط العولمة في المجالات كافة، ولا بد من الإشارة إلى شبكةC.N.N) ) الأمريكية، باعتبارها نظام إعلامي متكامل، تبث برامج مختلفة تطال فيها العالم برمته، وإحدى مهامها تسليط الضوء على المناطق الأكثر تخلفاً في العالم، وهي بذلك، وكأنها تقدم المعلومة للدول الكبرى - الاستعمارية - للانتباه إلى هذه المناطق، بغية السيطرة على مواردها الطبيعية وتسخير شعوبها لخدمة مصالحها بأساليب وأشكال مختلفة، وبالتالي نشر برامج العولمة، التي تعتمد على إنتاج متضخم من المعلومات المغلوطة، والأفكار الموروثة من عصور التعصب والحروب الدينية والعنصرية وترسيخها في المجالات الثقافية والاجتماعية والقيمية، لإخراج ثقافة جماهيرية عالمية واحدة هويتها أمريكية صهيونية. موجهة نحو العالم الخارجي، وتحديداً العالمين العربي والإسلامي في محاولة منها لتفريغهما من تراثهما وحضارتهما. فلم تعد وظيفة الإعلام مجرد تغطية الأحداث، وتحليلها بموضوعية، وإنما أصبح صانعاً لها وشريك فيها، يغطي الحدث على قياسه ووفقاً لخدمة أهدافه وأطماعه الاستعمارية والثقافية فبات الإعلام القوة الناعمة في أيدي من يريدون لمواقفهم وآرائهم وسياساتهم أن تسود، وأن تفرض سيطرتها، وتكسب المؤيدين عن طريق الإغراء والترغيب، فحرية الإعلام لم تعد بريئة من عمليات التضليل والتعتيم على الحقائق.
لقد استطاع الإعلام الغربي منذ مطلع التسعينيات أن يضع المسلمين في إطار تصور ذهني عام، بحيث يتم تصنيفهم على أنهم أبناء (ثقافة الجريمة والإرهاب)، كذلك تمكّن الإعلام الغربي أن يجعل من الأصولية مرادفاً للإسلام فقط، ويكفي أن يعلن شخص ما في الغرب بأنه يدين بالإسلام حتى يصبح محلاً للشك والريبة في سلوكه وأفكاره.
كما نجح الإعلام الغربي، والأمريكي على وجه الخصوص، في الخلط بين العقائد الإسلامية من جهة، والحركات السياسية من جهة أخرى، وهذا الخلط غدا المعيار الذي يحكم به، لذلك باتت صناعة الكراهية والخوف موجهة إلى العرب والمسلمين. الذين أصبحوا هدفاً للغضب والتمييز والاعتداء، الأمر الذي أدى إلى تقييد حريتهم، في أكثر البلدان حرية- الولايات المتحدة - وقد ذكرت صحيفة (ميرو إنترناشيونال) الأسبوعية الصادرة في نيويورك، أن عدد المسلمين الذي يحضرون صلاة الجمعة قد انخفض إلى النصف تقريباً، و ترسل الصحيفة باستمرار نصائح للمسلمين المقيمين في أمريكا: ألا يخرجوا إلا على شكل جماعات تفادياً لأي هجوم، وأن يكونوا مستعدين لأي مضايقات أو إساءات، وتحديداً، النساء اللواتي يرتدين الحجاب. وغيرها من الحملات العدائية التي تخدم استراتيجيات، ومصالح بعض القوى، وإعادة ترتيب المنطقة في سياق مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتأتي الكارثة الإعلامية اليوم عبر مناقشة الكونغرس الأمريكي مشروع قانون ينص على معاقبة مالكي الأقمار الصناعية التي تسمح بالبث لبعض الفضائيات العربية التي تقف ضد السياسة الأمريكية في المنطقة، وذكرت مصادر الكونغرس أن التركيز في المرحلة الأولى يتم على قنوات المنار والأقصى والرافدين، في سابقة فريدة وغير معهودة، إذ من المعروف أن واشنطن تدافع عن تسمية التدفق الحر للمعلومات والاتصالات وحرية الإعلام والتعبير، بل تستخدم هذه المفاهيم لشن الحروب ضد ما تسميه الإرهاب، والأكثر غرابة في هذه القضية، قيام الكونغرس، ومن ثم الإدارة الأمريكية، بدور شرطي إعلامي، فإذا تمَّ إقرار المشروع، فإن واشنطن تسمح لنفسها بحق معاقبة أي مالك للأقمار الصناعية سواء كانت دولاً، أو شركات بغض النظر عن الجنسية التي تحملها.
ويذّكر هذا الإجراء الأمريكي بحقبة سوداء من التاريخ الأمريكي في مطلع خمسينيات القرن الماضي حين فرضت المكارثية، قيوداً صارمة على حرية الفكر والإبداع داخل الولايات المتحدة ذاتها، ولاحقت أصحاب الآراء الحرة، وزجت ببعضهم في السجون، حتى يقال أن الروائي الأمريكي (إرنست همنغواي) قد انتحر بسبب ملاحقة الأجهزة الأمنية له. وإذا كانت الإدارة الأمريكية والكونغرس قد ذكرا بعض الفضائيات العربية، فإن ذلك لا يمنع من القول، إن لائحة الفضائيات العربية التي لا ترتاح لها واشنطن قد تتسع لتشمل أية فضائية عربية توجه انتقاداً للسياسة الأمريكية، أو تقوم بتغطية أخبار ما يحدث جراء السياسة الأمريكية في العراق وأفغانستان وفلسطين، أو أية دولة أخرى تتورط فيها واشنطن بالحروب وأنواع التدخل في الشؤون الداخلية.
يبدو المشهد الإعلامي العربي اليوم بالغ التركيب والتعقيد، لكن المفارقة التي لا بد من التوقف عندها، والتأمل فيها، وهي أن نظرة الغرب للشعوب العربية هي نظرة رقمية، أي أن العرب هم مجرد أرقام لا قيمة لهم، يلهثون وراء لقمة عيشهم، مقموعون في أوطانهم، لا خيار لهم بتحديد هوية أو انتماء، فهم أتباع لسياسة السلطان ومصالحه، ورغم ذلك نراهم يتوجهون إلى هذه الأرقام، فهناك محطة فضائية أمريكية خاصة للعرب، وأخرى بريطانية، ومحطة روسية، ومحطة فرنسية، وربما كانت آخرها صينية وكورية. هذا الهجوم الأممي على العقل العربي والوعي العربي، يحيلنا إلى جملة من التساؤلات حول الإعلام العربي، والقضايا التي يطرحها، والمبادئ والأفكار التي يكرّسها.
المواطن العربي يعيش في كذبة كبرى حول استقلالية إعلامه، فالإعلام العربي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسلطة المال والسياسة، ومحكوم برمته على التزود بالخبر العالمي من وكالة رويتر التي تسيطر عليها كلياً نخبة تكتل الصناعات الحربية والبترولية إضافة إلى وول ستريت بعد أن انتقل مقرها من لندن إلى نيويورك، أو وكالة الصحافة الفرنسية التي تعنى بشكل خاص بصناعة وتسويق الخبر المتعلق بالقارة الأوروبية، ومناطق النفوذ التقليدية التابعة تاريخياً لتلك الدول، بتنسيق متناغم مع رويتر بشكل يتيح لهما قطع الطريق على أي جهة ثالثة مناوئة لنشاطهما في صناعة الخبر العالمي، وتسويقه لجميع وسائل الإعلام في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الإعلام العربي يعاني من أزمات عديدة تختلف باختلاف رقابة النظام العربي الرسمي ، فهي أزمة حضور، وأزمة مصطلحات، وأزمة رقابة، وأزمة موضوعات، مما جعله إعلاماً ناقصاً، زائفاً، مقصراً، وقد بدا تقصيره واضحاً في كشف نتائج الاستطلاع الذي أجراه أحد أهم مراكز البحوث التابعة للحزب الجمهوري الأمريكيthe Pew Research Center) )خلال شهر تشرين الثاني من العام الماضي، حيث كشفت نتائج الاستطلاع عن أن ثلثي أعضاء مجلس العلاقات الخارجية يرون أن بلادهم تحابي إسرائيل كثيراً على حساب مصالحها الإستراتيجية، وأن نسبة 9% منهم فقط تنظر إلى إسرائيل كدولة حليفة في المقام الأول للولايات المتحدة خلال السنوات القادمة، في مقابل 58% منهم يعتقدون أن الصين ومن بعدها الهند والبرازيل وروسيا، هم من يجب أن يكونوا حلفاء بلادهم في المستقبل، وليس إسرائيل التي أخذت منهم الكثير دون أن تفيدهم بشيء يذكر غير تشويه صورة بلادهم في أذهان معظم شعوب العالم. فقط 26% منهم أعربوا عن تعاطفهم مع الكيان الصهيوني ودعمهم له في عدوانه وصراعه الدموي مع محيطه العربي.
نتائج استطلاع بهذا الحجم وبهذه النوعية غير المسبوقة، وتجرى في أعلى هيئة استشارية أمريكية، تمر من فوق الإعلام العربي كغيمة عابرة، دون أن تحرك همة أي من مراسلي الصحف أو الفضائيات المقيمين في واشنطن لإجراء مقابلات مع العديد من أعضاء المجلس الذين أبدوا تلك الآراء الصاخبة بشكل يكسر طوق الاحتكار الذي تنفرد به وكالات الأنباء الغربية التي تجاهلت نتائج ذلك الاستطلاع وعمدت إلى وأده في مكانه. وهذا الاستطلاع لا يبرهن على أزمة الإعلام العربي فقط، بل هو أزمة تتعلق بالإعلام الغربي بشكل عام، لأن الوكالات المعتمدة لا تورد إلا الأنباء التي تتماشى ومصالح صناع القرار الغربي.
وبعيداً عن الإعلام الغربي ورؤوس الأموال والشركات المسيطرة عليه، لا بد من الإشارة إلى اجتماع وزراء الإعلام العرب، الذي عقد قبل عشر سنوات، و كان من ضمن مقرراته، الدعوة لإطلاق قناة عربية مشتركة، موجه لمخاطبة الغرب. ولكن وبعد مرور هذه السنوات لم تر هذه الفضائية النور، وحجتهم في ذلك التمويل والدعم، فهل عجزت الحكومات العربية عن تأمين الدعم اللازم لإطلاق هذه القناة، في الوقت الذي نرى فيه رجال أعمال، ورجال دين، يطلقون في كل يوم قناة فضائية خاصة، وعدم اتفاقهم – وزراء الإعلام- على إطلاق هذه الفضائية، لم يمنعهم من الاتفاق على إقرار وثيقة وزراء الإعلام العرب التي تنص على الحد من حرية الكتابة، وحرية التعبير، وتعرض الصحفي للمساءلة، والاعتقال في حال مخالفته لبنود الاتفاقية. لكن قناة الجزيرة، وقناة المنار خرجتا من سرب مقررات الإعلام الرسمي العربي، البعيدتان كل البعد عن مخالب الرقابة والمنع، فاستقطبتا شريحة واسعة من المشاهدين في مختلف دول العالم، بل أصبحتا المصدر الرئيس للمعلومات والتعاطي مع القضايا السياسية والعربية، ويكفي أن كاميرا قناة المنار كانت رفيقة البندقية المقاومة، والتي من خلالها أدرك العدو أن معركته مع حزب الله هي معركة تشكيل للنفس من خلال الصورة، وليس من خلال البندقية. كما وتمنع قوات الاحتلال الإسرائيلي الأسرى الفلسطينيين من مشاهدة قناة الجزيرة منذ أكثر من عام، وكذلك كان السباق بين القناتين لنقل ما يجري في فلسطين، وبخاصة، خلال العدوان الصهيوني على غزة، ومتابعة شؤون القدس والأقصى.
أما فيما يخص المصطلحات، فهذا أمر آخر، فالشهيد غدا قتيلاً، والعملية الفدائية/ عملية إرهابية، والاحتلال الإسرائيلي/ دولة إسرائيل، المقاومة/ الإرهاب، الحصار/ حماية الحدود....
ولا يجادل أحد من العاملين في الإعلام، أن الإعلام هو عملية إبداعية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة والأفكار والمواقف، سواء كانت تلك مواقف المشتغلين به، أو مواقف القوى المسيطرة، أو مواقف الجهات الداعمة والممولة له.
ونحن هنا، نقف أمام ثلاثة أنواع من الإعلام:
أولهما: الإعلام الملتزم بقضايا الأمة وأسئلتها المصيرية، وهو إعلام محاصر بشكل أو بآخر بتهم الغوغائية وإثارة الفتن، وهو متهم بتبني لغة خشبية، أو بتجاوز المهنية لمصلحة الإثارة. وربما من المفيد الإشارة إلى قناة المنار التي أثبتت نجاحاً لا مثيل له إبان عدوان تموز في العام 2006، حيث تحولت إلى مصدر موثوق للأخبار، فاتجهت الأنظار والأسماع إليها، وأخذت عنها وسائل إعلام عربية وغربية، بل إن تلك الحرب شهدت تحولاً مهماً في تقديم النموذج، فبعد أن اعتاد الإسرائيليون عقوداً على الفخر بأن العربي يستمع لإذاعة إسرائيل باللغة العربية ليعرف أخبار وطنه، اضطروا في هذه الحرب أن يتابعوا هم أنفسهم أخبار قناة المنار ليسمعوا أخبار جيشهم، وما حقق من إنجازات في أرض المعركة، حتى أن امرأة إسرائيلية صرّحت إلى أنها تتابع قناة المنار وتصدق كل ما يبث فيها، وأنها تصدق سماحة السيد حسن نصر الله ولا تصدق أولمرت وليفني وباراك.
إن المصداقية التي تتمتع بها هذه القناة، والدور الذي تلعبه في ترسيخ ثقافة المقاومة، والأخلاق الإنسانية النبيلة، وفضح الممارسات الصهيوأمريكية في العالم، والمنطقة العربية على وجه الخصوص، هذه الأمور وغيرها دفعت بأعضاء الكونغرس الأمريكي لاتخاذ قرار بمنع بث هذه القناة، ووضعها على لائحة الإرهاب. وإن اتخاذ مثل هذا القرار لم يأت عبثاً، بل سبقه استطلاعات رأي ودراسات وأبحاث حول الفعل المؤثر الذي تقوم به، الذي لا يتناسب مع توجهاتهم في المنطقة.
وثانيهما: الإعلام المنخرط بمشاريع تغريب المنطقة، أو تغييب وعي أبنائها تحت ستار الترفيه، أو الانشغال بالفضائح وأخبار النجوم، على حساب الأسئلة الكبرى، والقضايا المصيرية، ويمارس دوراً تضليلياً إلى حد بعيد، عبر مواقف ثقافية وفكرية تكرّس الهزيمة في النفسية العربية، وتسلب منها مجرد التطلع إلى المقاومة والتفكير فيها، ففي الوقت الذي أعلنت فيه إحدى القنوات العربية أن الجيش الإسرائيلي استطاع أن يدخل ويحتل بنت جبيل في الجنوب اللبناني أثناء حرب تموز، كانت القناة الأولى الإسرائيلية تجري لقاء مع قائد عمليات الشمال ينفي فيه دخولهم إليها مشيراً إلى أن هناك شياطين وعفاريت تخرج منها.
وثالثهما: الإعلام الحيادي ــ الحياد هنا مسألة نسبية ــ وهو الإعلام الذي ينقل الحدث كما هو دون تعليق أو انحياز لطرف على حساب الطرف الآخر، بل يسعى لمعالجة القصة الإخبارية بطريقة سهلة ومسلية، أو معمقة ومثيرة لاهتمامه، وتشمل انتقاء المعلومات والألفاظ المناسبة، وإن المنادين بالحياد يغفلون عن قصد، أو ربما دون قصد عن حوادث شهيرة لم يقف فيها قادة الإعلام الغربي على الحياد حينما تعرضت مصالحهم للخطر، وفي هذا يشير الكاتب البريطاني روبرت فيسك، أن وسائل الإعلام الغربية تمنع مراسليها من الإشارة إلى أن إسرائيل احتلت الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 عند وضع خلفيات لقصصهم المتعلقة بالصراع الدائر في المنطقة. وكذلك الأمر عندما قررت أمريكا غزو العراق.
الإعلام الرسمي المرتبط بالأنظمة، هو إعلام دولة بامتياز يهدف للدفاع عن الأيديولوجية المغلقة للسلطة بوصفها إيديولوجية مذهب أو قبيلة أو حزب أو عائلة غير منفتح على الإعلام غير المطابق له. فما عاد خافياً على أحد سيطرة أجهزة الدولة على منابر الإعلام من جهة، وسيطرة السلطات المهيمنة على الأقمار الصناعية، وتحكّمها بعملية البث من جهة أخرى. حيث أضحت المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي تابعة للفئات السياسية الحاكمة، المرتبطة إلى حد كبير بالسياسة الغربية التي تساندها في استتباب حكمها، وبقائها في السلطة. خادمة لأغراضها، تسعى لتحويل الفكر إلى إيديولوجية، والثقافة إلى إعلام وإعلان، والسياسة إلى حرب، وتمجيد فضائل الحاكم العربي، ورغم النداءات العديدة المطالبة بدمرقطة الإعلام، إلا أنها اعتبرت مجرد أصوات تسعى لتخريب الإعلام وانحيازه لسلطة الغرب وإعلامه!!.
إن المجال السياسي المتخلف، أو النسق السياسي المغلق، أدى إلى تشظي وتناثر قوة المجتمع وطاقته، وبالتالي إلى موت الإعلام الحر. مما أنتج خطاباً يتأرجح بين تصديق النظام الرسمي العربي، وتكذيب المعارضة والمنظمات الدولية المدافعة عن حقوق الإنسان، الأمر الذي لم يترك مساحة للاختيار الذي هو أهم صورة من صور الحرية.
في ظل هذه التجاذبات كيف يمكننا تكريس ثقافة المقاومة في الإعلام:
أولاً: التمسك بالهوية القومية: كان موضوع الغزو الثقافي الغربي من ضمن الاختلافات والإشكاليات الجوهرية في طروحات القوى والأحزاب السياسية العربية، وكان القوميون العرب والإسلاميون يحذرون من خطر هذا الغزو الذي كان الإعلام وسيلته الأولى، بحيث استطاع زراعة وإنبات بذور الاغتراب داخل الفرد، وحصد منها الانكفاء والتشبث بالرأي الشخصي بدلاً من سيادة الروح الجماعية، الأمر الذي كان من أسوأ نتائجه، تنافر الدول العربية عن بعضها، ليس على مستوى الأنظمة السياسية وحسب، بل على مستوى الشعوب والأفراد، وتراجعت القدرات الاقتصادية والعلمية، ورحلت الثروات إلى المصارف المالية الكبرى التي تدعم الإمبريالية في سياستها الاستلابية في المنطقة. وإذا كنا نؤمن بالمقاومة العسكرية لمواجهة المحتلين وتحرير الأرض، لا بد من الإيمان أيضاً، بدور الإعلام الإيجابي في تنمية الانتماء القومي العربي الإسلامي والوعي المعاصر للفكر القومي وضروراته في بناء الثقة بين الفرد العربي وأهداف أمته.
ولكننا نجد الإعلام العربي اليوم في أسوأ حالاته، فهو إعلام مجزأ، فاقد للمقومات القومية وروح الهوية والانتماء، وفاقد أيضاً، لخطط إستراتيجية ذات أهداف محددة، إعلام ببغائي يردد ما يأتيه من الإعلام الغربي، يعكس حالة التشرذم التي يعيشها النظام العربي، والمتضرر الأول هو المواطن العربي الذي ازداد في السنوات الأخيرة توتره وقلقه وانفصاله عن هويته وانتمائه القومي والوطني، وغدا أكثر بعداً عن نظامه الرسمي الذي لا يلبي طموحاته.
إن الحفاظ على الهوية، وبناء الذات القومية، يشكل الحصن المنيع للإبقاء على نظم وثقافة المقاومة، التي تحمي الوجود العربي ومقدراته واستقلاله وحريته.
ثانياً: التأكيد على وحدة الأهداف والرؤى:
ينبغي أن يسهم الإعلام العربي في تعريف العربي والمسلم في أي مكان من العالم، بقضاياه وما يتعرض له دينه من تشويه، وأن تعمل البرامج الإعلامية على التصدي للتحديات الإعلامية المعادية، وذلك عن طريق إعادة النظر فيما يقدم ويطرح من أعمال لتكون أكثر تأثيراً من الإعلام الغربي، وذلك من خلال ما يقدم على الشاشة الصغيرة، كونها أكثر أنواع الميديا تأثيراً في الجمهور، وأكثرها تواصلاً وحضوراً، من أجل تبرئة العرب والمسلمين من الاتهامات الظالمة والمجحفة، والتصدي لأخطر الهجمات والمخططات التفتيتية الطائفية والأثنية والثقافية التي يتعرض لها، والتي جاءت مع استراتيجيات المستعمرين الجدد المطالبين بشرق أوسط جديد، وإعادة الصورة الحضارية الحية والمشرقة للعرب والمسلمين من هنا، تكمن حاجتنا إلى إعلام موجه إلى الغرب، نخاطبه بلغته ومفاهيمه وأساليبه الجذابة، واستخدام التقنيات الحديثة، لإيصال الفكرة العربية الإسلامية الشاملة، والتصدي للتحديات الإعلامية المعادية ليس للغرب، وإنما للمسلمين أنفسهم، ولا يمكننا النجاح في ذلك إلا بتمسكنا بإعلام وثقافة المقاومة، التي تكرس الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين، بدلاً من أن نظل ندور في فلك استراتيجيات صناعة العدو التي يصنعها الغرب، وتكبد الأمة العربية والإسلامية خسائر حضارية وإنسانية.
ثالثاً: التصدي للإعلام العابر(الترفيهي) وبيان مخاطره:
تُطرح المقاومة في الإعلام الغربي، وفي بعض القنوات الإعلامية العربية على أنها إيديولوجيات طائفية ومذهبية، والمذهبية فعل تفكيك، وهي بذلك تتناقض مع المقاومة التي هي فعل تجميع خلاق، هذا التناقض سهّل على أمريكا، والغرب عموماً، طرح آلية جديدة لتفكيك الأمة العربية والإسلامية، وهي تفكيك المقاومة بالمقاومة، التي تتمثل في منافسة إعلام الترفيه والتسطيح وتغييب الوعي والإرادة.
إن قنوات الترفيه والتسلية هي السلاح الأول في مواجهة الإعلام المقاوم، ويمكن ملاحظة عشرات القنوات الفضائية الخاصة بالأفلام والمسلسلات والفيديو كليب، وقنوات خاصة بالرسائل القصيرة والمسابقات التي بلغ حجم الاتصال بها ما يفوق أربعة مليارات دولار سنوياً.
أما السلاح الثاني الذي يواجه الإعلام المقاوم، فيكّمن في مشاريع الإعلام الإقليمية التي انشغلت بالفضائح والجرائم والمشكلات الفردية لنجوم الفن والرياضة متناسية القضايا المصيرية والأسئلة الأساسية التي تؤثر على بناء المجتمع، ومستقبل الأمة، وإن تناسيها وتجاهلها يعني تغييب وعي المواطن، وبالتالي تغييب الحقائق الكبرى، وتهميش الأسئلة المصيرية لحساب المصالح التجارية خارجية كانت أم داخلية.
رابعاً: ثقافة المقاومة وحضورها في الإعلام: إن ما صنعته المقاومة منذ التحرير الأول للجنوب، وامتداداً إلى نصر تموز ليس انتصاراً لتحرير محيط جغرافي، وإنما هو انتصار للنفس الإنسانية، وإعادة الاعتبار للإنسان العربي في لبنان، وفي كل جزء من الأرض العربية، فكان بحق انتصار الجماهير العربية الأول في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، الذي أحرزته المقاومة اللبنانية، - تلك المقاومة التي كانت باتجاه آخر، صمام الأمان للحياة السياسية اللبنانية، من خلال ثقافتها التوحيدية في العلاقة مع شرائح القوى السياسية المختلفة - فجعلت الإنسان العربي بشكل عام، أن يشعر بذاته الفاعلة من خلال ثقافته (ثقافة المقاومة)، التي لا تزال، بشكل أو بآخر، بحاجة إلى بلورة من خلال ولوجها لقضايا شائكة لا نزال نعاني من خلفياتها التاريخية التقسيمية، التي وإن استخدمت بعقل منفتح، وسلوك متسامح تفتح لأبعاد جديدة تساهم في بناء الإنسان الجديد.
لقد مكنت ثقافة المقاومة الإنسان العربي، وأعطته الفرصة ليكون مبدعاً وقادراً، ليس في ساحة المعركة، وإنما في الفكر والأدب والفن والثقافة، وقبل كل هذا، مكنته من امتلاك الذات، والانتماء الحر والواعي لوطنه وثقافته. لذلك فإن دور المفكرين اليوم، والعاملين في المجال الإعلامي مع اختلاف انتماءاتهم والمنابر التي يعملون بها، هم مطالبون بدعم ثقافة المقاومة، وبتشكيل فرق للدعاية والإعلام لتأمين الدعم المادي والمعنوي. وتهيئة عقول الشباب العربي للتركيز في حركتهم الفكرية ونشاطاتهم الاجتماعية على المبدأ الأساس في حياة هذه الأمة، وهو طرد المحتلين، وإعادة الاعتبار لقضية العرب المشتركة فلسطين المحتلة. والدفاع عن مصالح الأمة في وجه أعدائها.
تجارب جادة لدعم المقاومة وثقافتها
في سياق عملية إجرائية لفرض القيود على المنابر الإعلامية وتحكم مصالح رؤوس الأموال برزت دعوات جادة لدعم المقاومة وثقافتها من خلال إطلاق أعمال درامية، وأفلام سينمائية، فرضت عليها القيود الرقابية، إلا أنها استطاعت أن تنفذ إلى المشاهد العربي عبر القنوات الملتزمة، وعبر مشاركتها في المهرجانات العربية والدولية، وتجدر الإشارة هنا، إلى فيلم كرتون يتحدث عن حلم العودة إلى فلسطين، بعنوان ( حلم الزيتون) وهو أول فيلم كرتون عربي بطلته امرأة فلسطينية اسمها مريم، يحكي الفيلم قصة نزوحها إبان نكبة 1948، ويتابع حياتها بعد أن تصبح جدة، تبحث مع أحفادها عن مفتاح بيتها الذي ضيعته، إلا أن مريم وبعد مغامرات مشوقة، تعثر على المفتاح، وتعود إلى البيت والأرض لتحقق حلمها وتغرس فيه شتلة زيتون.
يمتاز الفيلم عن غيره من الأعمال ليس بالتأكيد على حق العودة، وإنما بالعودة الحقيقية. وقد تمَّت دبلجته إلى الإنكليزية والتركية، وعرض في أكثر من مهرجان.
فهل ستتاح الفرصة لهذا الفيلم أن يعرض على القنوات الفضائية مسبوقاً بحملة دعائية وإعلانية أسوة بغيره من الأفلام، ويكون مقدمة لغيره من الأفلام، وأن يحتل موقعاً ينازع فيه جيري.
أما الأعمال السينمائية والدرامية، فيبدو أن أنظار المهتمين بثقافة المقاومة تتجه نحو استفاقة عربية درامية للدور الجوهري للإعلام في نشر القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من التجارب الدرامية التي أنتجت خلال السنوات الأخيرة، إلا أنها لا تزال مجرد تجارب مبعثرة، وحتى إذا رأت النور فلا تقبل عليها أكثر من قناة فضائية أو اثنتين، رغم ترشحها لتحقيق نسبة عالية من المشاهدة، لما يكنه المشاهد العربي من مشاعر خاصة للقضية الفلسطينية، وبالإشارة إلى مسلسل الاجتياح الذي أعلنت عنه أكثر من قناة عربية، إلا أنه لم يتمَّ عرضه، وبقيت الأسباب مجهولة لحين حصوله على جائزة عالمية، حيث تمَّ عرضه بعد الاحتفاء به في الغرب!!.
وفي مقابل ذلك نرى أن إسرائيل تجند ميزانيات ضخمة، وأسطولاً إعلامياً، تتزعمه كبرى إمبراطوريات الإنتاج السينمائي والتلفزيوني في العالم، بدءاً من هوليوود وصولاً إلى روبرت مردوخ أحد أباطرة الإعلام في العالم، الذي يعشق الصهيونية، وملتزم بكافة توجهاتها ومبادئها. فأين الميزانية التي توظفها الحكومات العربية، وجامعة الدول العربية لدعم الإعلام الذي يتبنى القضية الفلسطينية، ومن هو الثري العربي الذي يعشق القضية الفلسطينية وملتزم بحق الشعب الفلسطيني بأرضه وتراثه،ومستعد لتوظيف أمواله في خدمة القضية؟؟!.
اعداد: أ. عزيزة السبيني
9 من الزوار الآن
916820 مشتركو المجلة شكرا