الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > المشروع النهضوي العربي
مقدمـة
بدأت فكرة المشروع النهضوي العربي في التَّبلور منذ العام 1988 في أعقاب انتهاء مركز دراسات الوحدة العربية من إنجاز مشروعه العلمي الكبير الذي حمل اسم: مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي (الذي أصدر المركز دراساته الجزئية والتركيبية) وطرحت توصياتُهُ – في جملةِ ما طرحت – الحاجة إلى مشروعٍ نهضوي. وقد أدرج المركز ضمن مخططه العلمي الموضوعات والقضايا التي تمثل مادةَ المشروع النهضوي كمسائلَ فكرية ذاتِ أولوية في برامج النشر والندوات من أجل توفير مادة علمية يُبْنَى عليها لبلورة رؤيةٍ نهضوية. في الأثناء، كلّف المركز بعض أصدقائه الباحثين تقديمَ مقترحات حول تصوُّر المشروع ومخطَّطه، وتوصَّل بمجموعةٍ منها عُرِضت على مناقشات داخلية في عام 1996. وفي أيار/مايو 1997، عقد المركز حلقة نقاشية في القاهرة حضرها عدد من الباحثين العرب تدارست على مدى يومين مخطط المشروع الأوّلي وأدخلت عليه تعديلات، كما وضعت المخطط الأولي لندوة المشروع الحضاري النهضوي العربي.
وقد عقد المركز هذه الندوة في فاس في العام 2001 وشارك فيها ما يزيد عن المائة باحث من التيارات الفكرية كافة، تناولت بحوثُها ومناقشاتُها – على مدار أربعة أيام – القضايا النهضوية الست التي تشكل أهداف المشروع وهي: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدُّد الحضاري. ونشر المركز الوقائع الكاملة للندوة ضمن كتاب صدر عنه في نهاية العام نفسه.
وشكَّل المركز، عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها، عقدت اجتماعها التمهيدي التشاوري في فاس. وكلَّف المركز باحثيْن بإعداد مقترحات لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة في اجتماع قادم. وقد عُقِد الاجتماع هذا في بيت مِرِي بلبنان في تموز/يوليو 2001، وتناول – خلال يومين من المداولات – مواد المخطط الأولي بالدرس والتدقيق منتهياً إلى إقرار صيغةٍ شبه نهائية له ما لبث المركز أن أقرَّها في صيغةٍ نهائية في آب/أغسطس 2001 مشكِّلاً فريقاً لتحرير فصوله من أعضاء لجنة الصياغة.
وقد أعدَّتِ اللجنةُ الأوراقَ الثمان الخلْفية لنصّ المشروع في ضوء حصيلة ندوة فاس ومُرفقاتٍ أخرى من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض. ثم سمَّى المركز أحد أعضاء لجنة الصياغة منسقاً وكلّفه في صيف العام 2004 بتحرير المسوَّدة الأولى لنصّ المشروع اعتماداً على أوراقه وبحوثه الخلفية ومادة ندوة فاس. وبعد إنجاز المسوَّدة الأولى، دعا المركز إلى عقد اجتماع للجنة الصياغة في القاهرة (تموز/يوليو 2005) لمناقشة المسوّدة حضرهُ خمسَة عشر عضواً من أعضائها الثمانية عشر وبعد يومين من المناقشة، أُحيلت الملاحظات إلى منسق التحرير قصد إدخال التعديلات اللازمة على النصّ. ثم دعيَت لجنةُ الصياغة إلى الاجتماع ثانيةً في القاهرة في تموز/يوليو 2006 لمناقشة المسوَّدة الثانية. غير أن العدوان الصهيوني على لبنان (في حرب تموز 2006) وإغلاق المطار والحصار الذي ضُرِبَ على لبنان حال دون سفر خمسة من أعضائها إلى القاهرة مما اضطر إلى تأجيله لينعقد في شكل ندوة موسعة في بيروت (تشرين الثاني/نوفمبر 2006) دُعيَ إلى المشاركة فيها باحثون من خارج لجنة الصياغة. ثم أدخلَ منسقُ التحرير ثانية التعديلات على مسوَّدة النص لتُعرض المسوَّدة الثالثة بعد ذلك بأشهر على المؤتمر القومي العربي (2007). وبعد تعديلها مرة أخرى في ضوء ملاحظات أعضاء المؤتمر، ها هو نصّ المشروع في مسودته الرابعة قبل النهائية يُعْرَض على الرأي والمناقشة في نطاق أوسع.
لقد حرص مركز دراسات الوحدة العربية، منذ بداية عمله على هذا المشروع، على مشاركة التيارات الفكرية كافة في إنجازه (قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين) حتى يأتي ممثِّلاً نظرةَ الأطياف الفكرية والسياسية كافة بحسبانه مشروعاً للأمة جمعاء لا لفريقٍ منها دون آخر. ولقد كان الجميع مشاركاً في المراحل كافة: من إعداد المقترحات والتصورات، إلى فرق العمل التي ناقشت المخطط وأقرَّته، إلى الباحثين والمشاركين في ندوة فاس، إلى أعضاء لجنة الصياغة وفريق التحرير. وبالروحية نفسِها، يَحْرص المركز على أن يتوّج عمله بعرض نصّ المسوّدة الرابعة هذا على مناقشةٍ أوسع يستفيد من حصيلتها في إعداد نصّها النهائي.
ولهذا الغرض ارتأى المركز إرسال المسودة إلى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية العربية لقراءتها وإبداء الرأي فيها، ونشرها على موقعه الالكتروني لعموم القراء العرب للغاية نفسِها. وهو يأمل في أن يتلقى ملاحظات الجميع للاستفادة منها عند صياغة النص النهائي الذي سيكون جاهزاً في شهر تشرين الثاني/نوفمبر 2008.
الفصل الأول: في ضرورة النهضة
قد تُصاب أمةٌ في لحظةٍ من تاريخها بالكَبْو، فتنتكس حركةُ التراكم والتقدم فيها وربّما تنقلب على الأعقاب، فَتَذْوِي فيها روحُ الإبداع وتسقُط حركتُها في الاجترار، بعد إذْ كانت في قلب صنّاع الحضارة والمدنية والتاريخ. ذلك ما حصل للأمة العربية ومشروعها الإسلامي في تواريخ مختلفة من العصر الوسيط: انقسام الدولة إلى أربعة مراكز (خلافة عباسية في العراق، خلافة فاطمية في مصر، خلافة أموية في الأندلس، خلافة مرابطية في المغرب)، سقوط الخلافة في بغداد، سقوط الأندلس، سيطرة العثمانيين على العالم العربي الوسيط. وقد تُزْمِن لحظةُ الكبو والانتكاس طويلاً فتستغرق عشراتٍ من أجيالها تتباعد الصلةُ بينهم وبين معطيات الحضارة التي تنتسب إليها، فلا تكاد تَعْرِفُ عنها إلاّ اليسير. وذلك أيضاً ما حصل للعرب الذين امتدَّ بهم زمنُ الانحطاط طويلاً إلى حدود القرن التاسع عشر.
لكن الفكرة العليا التي صنعتِ الأمةَ وصنعت لها حضارةً وسلطاناً في التاريخ تظل – مع ذلك كله – حيّةً في أذهان قسمٍ ولو قليل من أبنائها، فتدفعه إلى استدعائها باستمرارٍ وإلى الحنين إلى ثمراتها. ثم تدفعه إلى التوسُّل بها مادةً يبني عليها وبها طموحاً أو مشروعاً للنهوض من جديد من أجل اللَّحاق بغيره ممن اقتحم آفاق التاريخ وذهب بعيداً في خيار التقدم والبناء الحضاري. وتلك كانت سيرةَ جيلين من النهضويين العرب في القرن التاسع عشر: من رجال الدولة (منذ محمد علي) ومن المفكرين (منذ رفاعة رافع الطهطاوي)، بَدَتْ لهم أوضاعُ التأخر التاريخي العربي وتحدي المدنية الأوروبية الزاحفة في ركاب الاستعمار بيئةً لإثارة سؤال النهضة في وعيهم. وهو عين ما عبر مشروعُهم الفكري الإصلاحي والتحديثي عنه بجلاء. ثم ما لبث الطموح النهضوي أن أطلَّ مجدَّداً – بعد عثرةٍ في النصف الأول من القرن العشرين – من أرض الكنانة، حين أعلنت ثورة تموز/يوليو1952 مبادءَها الستة، واشتبكت مع الأحلاف الأجنبية و"إسرائيل"، وأطلقت مشروعها التنموي في الداخل، ومشروعها القومي الوحدوي في المحيط العربي، قبل أن تنال منه معطيات حقبة ما بعد حرب العام 1967.
ونحن اليوم، بعد الضربة الموجعة التي أصابت المشروع النهضوي العربي منذ 1967، وبعد احتلال العراق في2003، نجد أنفسنا أمام الأوضاع ذاتها التي عاشتها الأمة غداة الاحتلال الاستعماري لأوطاننا في القرن التاسع عشر وبعد الحرب العالمية الأولى. وإذا كان زحف جيوش نابليون على مصر، واحتلال المشرق العربي وتجزئته بعد الحرب الأولى، وقيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، قد أطلق ثلاثة ردود فكرية وسياسية نهضوية بحجم تلك الأحداث/المنعطفات هي: المشروع الإصلاحي النهضوي في القرن التاسع عشر، والفكر القومي المعاصر بين الثلاثينيات والخمسينيات من القرن الماضي، ثم المشروع القومي الناصري في النصف الثاني من القرن نفسه، فإن لحظة التراجع العربي العام، التي بلغت ذروتها منذ احتلال العراق، ستكون البيئة الموضوعية الطبيعية لمعاودة التطلع إلى الردّ عليها بمشروع نهضوي تستأنف به الأمة مسيرتها نحو الانتماء إلى حركة التاريخ. مشروعٌ تبني فيه على ما سبق من مكتسبات المراحل السابقة، وتضيف إليه أجوبةً تاريخية عن المعضلات الجديدة التي طرحها التطور المعاصر وتحوّلاته الدراماتيكية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي وسنوات العقد الأول من هذا القرن.
1- تراجعٌ عربيّ يدعو إلى استنهاض
دخل الوطن العربي، في العقود الثلاثة الأخيرة، طور تراجعٍ عامّ طال مستوياته كافة: السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية. وقد تفاقمت معطيات ذلك التراجع على نحوٍ لا سابق له بَدَا معه الوضع العربي وكأنه جانحٌ نحو السقوط. مظاهر عديدة تشهد على ذلك التدهور والتراجع:
أولها تداعيات الهزائم العسكرية أمام الأعداء الخارجيين في السياسات الرسمية العربية، وبناء هذه السياسات على قاعدة التسليم بتلك الهزائم كأمر واقع لا على قاعدة التخطيط لمواجهة آثارها، ومَحْو تلك الآثار. وإلى تلك التداعيات يعود تفسير ظواهر سياسية سلبية وبالغة الخطورة في نتائجها مثل التنازل عن الثوابت، والتفريط في الحقوق، واللهاث وراء التسويات المجحفة مع العدو، وإسقاط الخيار الدفاعي، والتمسك الأعمى بالحل الأمريكي لقضايا الصراع العربي – الصهيوني. إن هذا النزوع التفريطي الانهزامي هو الذي قاد الأمة إلى "اتفاقية كامب ديفيد" و"مؤتمر مدريد" و"اتفاق أوسلو" و"اتفاق وادي عربة" واتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني، والتسليم بالاحتلال الأمريكي للعراق والاعتراف بالمؤسسات غير الشرعية التي أقامها وفرضها على العراقيين، وترك الشعب الفلسطيني وحده يواجه القمع الصهيوني والاستيطان والتهويد. ولقد أخذ هذا المنحى السياسةَ العربية الرسمية إلى إسقاط التزاماتها القومية كاملة والتشرنق على فكرة "السلام" مع حسبانه "خياراً استراتيجيّاً وحيداً"!
ومن الجدير بالذكر أن القوى الحية في الأمة قد تمكنت غير مرة من تلقين هؤلاء الأعداء الخارجيين دروساً قاسية بدءاً بحرب الاستنزاف وحرب تشرين الأول/أكتوبر1973، وإذا كانت النخب العربية الحاكمة قد تكفلت لاحقاً بتحويل الإنجازات التي تحققت في هاتين الحربين إلى هزيمة سياسية فإن القوى الحية في الأمة قد واصلت نهجها المقاوم وتمكنت من تحقيق انتصارات عسكرية لافتة كما في إفشال المشروع الصهيوني في لبنان في أعقاب احتلاله في1982، وانتفاضة الحجارة الفلسطينية في نهاية ثمانينات القرن الماضي، وتمكن المقاومة اللبنانية من طرد بقايا القوات الصهيونية عام2000 من الشريط الجنوبي المحتل منذ1978، وإجبار المقاومة الفلسطينية الحكومة الإسرائيلية على إخلاء قطاع غزة وتفكيك مستوطناته في2005، وإلحاق المقاومة اللبنانية للمرة الثانية هزيمة نكراء بالكيان الصهيوني إبان عدوانه على لبنان في2006، وتمكن المقاومة العراقية من تعويق المشروع الأمريكي في العراق والمنطقة بل وتغيير المعادلة السياسية في الساحة الأمريكية.
وإذا كانت هذه الإنجازات كافة تعني أن قوى المقاومة الحية في الأمة ما زالت قادرة على صد موجات التراجع فإنه من الضروري الاعتراف بأن تخلي النظام العربي الرسمي عنها تماماً وتورطه في مواقف سياسية تعزز التراجع ولا تصده، والانقسامات داخل صفوف المقاومة العربية وانهماكها في معارك سياسية لا تخدم غاياتها النهائية، وقوة الفعل المضاد من قوى الهيمنة لهذه المقاومة عوامل أفضت كلها إلى تعويق ترجمة هذه الانتصارات إلى مد قومي شامل يقضي على الهجمة العدوانية التي تتعرض لها الأمة.
وثاني مظاهر التراجع هو التدهور المروّع في معدَّلات النموّ الناجم – أولاً – عن فساد السياسات الاقتصادية الرسمية، وعن الانتقال من الاقتصاد الموجَّه إلى الاقتصاد الحرّ دون ضوابط، وما استتبعه ونجم عنه من بيع ممتلكات الدولة والشعب إلى أفراد خرج أكثرُهُم من رحم بعض فساد القطاع العام والنهب المنظم للثروة وللمالية العامة...، والناجم – ثانياً – عن سياسات الاستدانة وتبعاتها الخطيرة على مالية الدولة، والانصراف المتزايد عن القطاعات الإنتاجية إلى قطاع التجارة والخدمات ومجمل أشكال الاقتصاد الطفيلي ثالثاً، ناهيك عن سوء التدبير للفجوة المتزايدة بين الموارد والسكان وسوء تدبير المال العام والإنفاق على برامج التنمية وهدر الموارد وسوء تدبير برامج تنمية الأسرة.
وكان لذلك التدهور المروّع كلفته الاجتماعية الكبيرة: البطالة المتزايدة، والتهميش الاجتماعي، والفقر المتفاقم، وتدهور مركز الطبقة الوسطى في المجتمع، وإفراغ الأرياف من ساكنيها وترييف المدن، ثم ما تولَّد عن ذلك من ظواهر كالعنف الاجتماعي، والعنف السياسي، وتحلُّل منظومة القيم، وتفكُّك الأسرة، وخراب النظام التعليمي.
لقد انهار الأمن الاقتصادي والغذائي في الوطن العربي بنتيجة ذلك كلِّه. وفي امتداد انهياره، زحف الفقر ليشمل قطاعاتٍ عريضةً من السكان، وازدادت الفوارق الطبقية بشكل فاحش ومخيف، وارتفعت درجة الاحتقان الاجتماعي الداخلي، وباتت البلاد العربية مرتعاً لأنواعٍ من التناقضات والصراعات الاجتماعية تهدّد بزعزعة استقرارها وتعريض أمنها الاجتماعي للخطر.
وثالثها تزايد وتائر الاستبداد والتسلط في النظم السياسية العربية، وانعكاسهما إهداراً متعاظماً للحريات العامة وحقوق الإنسان. إذ تعاني الحياة السياسية العربية اليوم من انسدادٍ خطير قادت إليه سياسات التسلط واحتكار السياسة والسلطة من قبل نخبةٍ ضيقة أو عائلةٍ أو طائفةٍ أو حزبٍ حاكم، وتهميش سائر التعبيرات السياسية الأخرى، وإطلاق قوى الأمن والاستخبارات في الشؤون العامة، وانتهاك القانون والدستور (إن وُجِد)، وتزوير إرادة الشعب في الانتخابات، وخرق استقلالية القضاء وإخضاعه للسلطة التنفيذية، وتكميم الصحافة بتسليط سيف الرقابة عليها، واحتكار الإعلام السمعيّ – البصري، وفرض أحكام الطوارئ والقوانين الاستثنائية، وإنشاء محاكم غير قانونية لمحاكمة سجناء الرأي، وتجريد المعتقلين من حقوق الدفاع ومن الضمانات القانونية والدستورية للمحاكمة العادلة، والتضييق على حرية البحث العلمي، وانتهاك أبسط الحقوق المدنية كالحق في السفر والتنقل، وحرمان المرأة من حقوقها الطبيعية، وتجاهل مطالب المجتمع والمنظمات المدنية والمعارضة ومواجهتها – في معظم الأحيان – بقسوة. وقد ذهبت الأزمة بالنظام السياسي للدولة العربية إلى حدود تحويل الدولة إلى جزء من أملاك الحاكم على نحو ما تعبر عنه سياسة التوريث وتحويل الجمهوريات إلى ملكيات جديدة مطلقة!
ورابعها تضخُّمُ حالة الانكفاء الكياني للدولة القطرية العربية وتضاؤل أحجام ومستويات الصلة بين الدول العربية. لقد وأدت الدولة القطرية العربية فكرةَ الوحدة العربية لأن المصالح السياسية والطبقية التي يستند إليها النظام السياسيّ فيها والنخب الحاكمة فيه تنامت وترسخت إلى الدرجة التي بات الدفاع عنها، هو الهدف الاستراتيجي الأول لتلك النخب! في المقابل، لم تكن صادقة في صناعة شراكة إقليمية تعاونية – حتى دون مستوى الوحدة – في إطار جامعة الدول العربية، لأن درجة حساسيتها تجاه مسألة السيادة ظلت عالية جدّاً، فَمَنَعَتْهَا من رؤية خيار التعاون والشراكة رؤيةً صحيحة. وإذا كان ما يسمّى بالنظام الإقليمي العربي قد بلغ اليوم نهاية نفقه المسدود مراوحاً في مكانه، فإن الأنكى والأدهى أن علاقات الدول العربية بعضها بعضاً انحدرت إلى دَرَكٍ مخيف: في السياسة كما في الاقتصاد والتجارة، إلى حدٍّ نَكَاد لا نعثر فيه على حالة جوارٍ واحدةٍ حَسَنَة بين دولة ودولة. فَمِنْ مشاكل الحدود، إلى إيواء المعارضين من الطرفين إلى خوف الواحدة منها من تَحَالُفِ الأخرى مع قوى خارجية، إلى غير ذلك من أسباب ذلك التدهور المطَّرد في العلاقات العربية – العربية الذي يدفع بعضها أحياناً إلى القطيعة السياسية والدبلوماسية، بل إلى المجابهة العسكرية!
لكن أخطر ما انتهت إليه أوضاع النظام القطري العربي لم يكن ترسُّخُه وانغلاقُه، بل تَحَلُّلُه وتفتته وبداية انفراط عقده على نحو ما نُعَانيُه في حالات الصومال والعراق والسودان ولبنان، على تفاوتٍ بينها في الدرجة. إن القوى الاستعمارية التي مزقت المشرق العربي إلى دويلات قطرية، باتت تستكثر على العرب حتى تلك الدويلات نفسها متطلعة إلى إعادة تمزيقها كيانيّاً وتفصيلها من جديد على مقاس الطوائف والمذاهب والعشائر والجماعات الإثنية الصغرى، وليس النفخ الخارجي في النزاعات الأهليَة الداخلية وتنمية العصبيات المحلية وتعزيز الانقسام المذهبي، إلا محاولات لدق الإسفين بين القوى الداخلية المكوّنة للجماعة الوطنية، قصد دفعها إلى الاقتتال مَعْبَراً نحو تقسيمٍ وتجزئةٍ جديديْن!
وخامسها الانهيار المروّع للأمن القومي نتيجة عجز القدرة الدفاعية العربية عن صونه وحمايته. كان اختلال التوازن العسكري بين الدول العربية و"إسرائيل" – لصالح الأخيرة – بدايةَ ذلك الانهيار، خاصة بعد إسقاط النخب العربية الحاكمة للخيار العسكري وجنوحها المعيب للتسوية. إِذِ اسْتُبِيحَ الأمنُ القومي في هذا السياق، وبات في وسع إسرائيل أن تزحف بجيوشها إلى لبنان، وأن تقصف المراكز العلمية والصناعية العربية (مفاعل تموز العراقي)، وأن تضرب طائراتُها مقر منظمة التحرير في العمق التونسي وتُنْزِلَ في ذلك العمق فرق اغتيالٍ لتصفية قادة الثورة الفلسطينية (اغتيال الشهيد خليل الوزير: "أبو جهاد")، وأن تمرح طائراتُها في الأجواء اللبنانية وبوارجُها في المياه اللبنانية، وأن تضرب مراكز القوات السورية في لبنان، بل وتقصف العمق السوري...، دون أن تلقى ردّاً. لكن الدرجة الأعلى في ذلك الانهيار، الذي أصاب الأمن القومي العربي، هو التدفق العسكري الواسع للقوات الأمريكية على الجزيرة العربية والخليج منذ التحضير لضرب العراق في العام 1991 وصولاً إلى تدميره والاستقرار في دول منطقة الخليج العربي، انتهاء باحتلال العراق ومحاولة إقامة قواعد دائمة فيه، والتطلع إلى الإخضاع الكامل لسائر دول الدائرة العربية حتى تلك التي تقبل منها بفكرة الأمن المستورد بدل الأمن القومي العربي. ولم يكن ليعدِّل من هذا الانهيار نسبيّاً سوى النجاح في إلحاق ضربات موجعة بالقوى المعادية على نحو ما سبقت الإشارة إليه.
تلك ظواهر تشهد بالمدى البعيد الذي بلغه التراجع في أداء الوطن العربي في العقود الأخيرة، وسياقاتها العربية التي جرى فيها. لكن هذه السياقات مشدودة بمعطياتٍ دولية وإقليمية تفرض أحكامَها على مجمل الواقع العربي، وتفرض التدهور حالاً متماديةَ الفعل والتأثير في حركة تطوُّره المعاصر.
2- السياق العالمي والإقليمي للتدهور:
في أعقاب الانتكاسة التي منيت بها محاولة النهوض العربي في خمسينات القرن الماضي وستيناته بفعل العدوان الإسرائيلي في1967 بدا لوهلة أن النظام العالمي باقٍ على نموذجه السائد في ذلك الحين، بل لقد بدا في عقد السبعينات أن القوة الأمريكية آخذة في التراجع بفعل الهزيمة العسكرية القاسية في فيتنام وفقدان مواقع مهمة للتأثير والنفوذ كما حدث بعد نجاح الثورة الإيرانية في1979، غير أن السياسة الهجومية للإدارة الأميركية اليمينية الجديدة منذ مطلع الثمانينات استطاعت أن تستعيد تدريجياً القدرة الأميركية على التأثير في الساحة العالمية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه عوامل الوهن الداخلي في الاتحاد السوفيتي تحدث آثارها في كيان القوة العظمى الثانية في قيادة النظام العالمي، وعندما تولى جورباتشوف قيادة الاتحاد السوفيتي في1985 راهن كثير من المحللين على قدرته على وقف تراجع القوة السوفيتية، غير أن خيوط اللعبة أفلتت تماماً من يديه (إذا استبعدنا ما يصر عليه البعض من أنه كان شريكاً في مؤامرة على الاتحاد السوفيتي) وانتهى الأمر باختفاء الاتحاد السوفيتي من خريطة العالم في كانون الأول/ديسمبر1991وحلول خمس عشرة جمهورية مستقلة محله هي كل ما كان الكيان السوفيتي يضمه من جمهوريات فيدرالية. ولقد ورثت روسيا القوة النووية السوفيتية ومعظم عناصر القوة في الكيان المتفكك، غير أن استسلامها التام للمعسكر الرأسمالي في ظل رئاسة يلتسين أفقدها أي تأثير أو نفوذ بالمعايير العالمية، وساعد ذلك دون شك على بلورة وضع عالمي جديد تمثلت أهم معالمه في بروز القيادة الأميركية الأحادية للنظام العالمي، وفقدت الدول المتوسطة والصغرى بذلك عالم القطبية الثنائية الذي وفر لمن يملك الإرادة منها قدراً من حرية الحركة في الساحة الدولية، وأصبح عليها إما أن تقنع بالتبعية المطلقة للولايات المتحدة، أو تحاول الحفاظ على استقلالها أو على الأقل على قدر منه في ظل ظروف عالمية بالغة التعقيد تهدد بضرب كل من يتجاسر على تحدي الإرادة الأميركية، وكان للدول العربية بطبيعة الحال نصيبها الخاص من هذه التداعيات السلبية بسبب فداحة المصالح الأميركية في الوطن العربي وعلى رأسها المصالح النفطية.
ولقد ساد في حينه جدل داخل الوطن العربي وخارجه حول طبيعة تلك التحولات، وانقسمت الآراء في هذا الصدد، فرأى فريق أنها قد أفضت إلى نظام عالمي جديد أحادي القطبية سوف يُقدر له أن يسود التفاعلات الدولية لمرحلة كاملة من مراحل تطور العلاقات الدولية، وذلك بالنظر إلى التفوق الواضح للقوة الأميركية، ووجود مشروع متبلور لقيادة العالم لدى نخبتها الحاكمة، والسلوك الأميركي التدخلي في القضايا الدولية الذي يجعل هذه القيادة أمراً واقعاً. غير أن فريقاً آخر رأى في هذه التحولات وضعاً مؤقتاً، لأن ثمة تنامياً متزايداً لأقطاب عالمية جديدة لعل الصين أبرزها، ولأن المشروع الأميركي لقيادة العالم القائم على الهيمنة هو في حد ذاته مصدر تآكل للقطبية الأحادية بقدر الممانعة الدولية له، ولأن السلوك الأميركي في الشئون الدولية أحدث من الارتباك والفوضى أكثر مما أوجد من التماسك والاستقرار.
مع ذلك فإن الفريقين لم يختلفا على أن اللحظة كانت تشير إلى انفراد أميركي ظاهر بمقاليد القرار في الشئون العالمية، وفي تلك الظروف وقع احتلال العراق في2003، وبدا لوهلة أن الولايات المتحدة تشق طريقها بثبات نحو تحقيق الهيمنة على الوطن العربي، غير أن المقاومة العراقية أوقفت تقدم المشروع الأميركي وبدأت عوامل عالمية أخرى في التبلور على النحو الذي يؤيد وجهة النظر التي تنبأت بعودة قيادة النظام العالمي إلى نموذج التعددية، فواصلت القوة الصينية تقدمها بثبات، واستعادت روسيا الاتحادية في ظل قيادة بوتين مقومات قوتها العسكرية، وتجاوزت محنتها الاقتصادية، وبدأت في تبني سياسة تعكس مصالحها الوطنية بما أفضى إليه ذلك من تعقيدات في العلاقة بينها وبين الولايات المتحدة بصفة خاصة. يضاف إلى ذلك عودة اليسار إلى السلطة في بلدان أميركا اللاتينية عبر صناديق الاقتراع، وإذ رفعت هذه العودة العزلة عن كوبا وفنزويلا أذنت بتحجيم النفوذ الأميركي في القارة اللاتينية التي كانت حديقة شبه خلفية لذلك النفوذ، وبكسر حلقة الإطباق الأميركي على مصائر شعوب وبلدان العالم الثالث وتوسعة رقعة الممانعة الدولية للسياسات العدوانية الأميركية في العالم.
على الصعيد الإقليمي لا شك أن الكيان الصهيوني قد لعب دوره في التدهور الذي ألم بمحاولة النهضة العربية، فقد كان هو الأداة التي وجهت الضربة العسكرية للدولة القائدة لهذه المحاولة في1967، واستطاع هذا الكيان على الرغم من الإنجاز العربي في حرب الاستنزاف عقب عدوان1967، وحرب1973 أن يثابر على سياسته العنصرية التوسعية بسند أميركي مطلق، وفي هذا الإطار حدث الاختراق الإسرائيلي الكبير للأمة العربية بتوقيع معاهدة السلام مع مصر في1979 والأردن في1994، وما تبع ذلك من هرولة غير مبررة من قبل عدد من الدول العربية باتجاه إسرائيل، الأمر الذي عزز الانقسام العربي بشأن سبل المواجهة مع إسرائيل. وعلى الرغم من أن المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية قد حققتا انتصارات لافتة في هذه المواجهة وبصفة خاصة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين فإن غياب ظهير عربي قوي لهما واستشراء الانقسام الداخلي بين فصائل المقاومة الفلسطينية قد مثلا قيداً واضحاً على هذه المقاومة.
في السياق الإقليمي أيضاً أخفق النظام العربي في التوصل إلى معادلة صحيحة للعلاقة مع جارتيه الآسيوتين الكبيرتين إيران وتركيا. في البدء كانت إيران الشاهنشاهية جزءاً لا يتجزأ من المشروع الأميركي المناهض لآمال الأمة وغاياتها، وعندما نجحت الثورة الإيرانية في1979 تبادلت إيران الأدوار مع عرب المد القومي في ستينات القرن العشرين، غير أن التشدد القومي الواضح للثورة الإيرانية والتناقض بين مشروعها "الإسلامي" وبين النظم العربية عامة والخليجية خاصة أوجد احتقاناً في العلاقات العربية-الإيرانية بلغ ذروته بانفجار الحرب العراقية-الإيرانية (1980-1988) لتكون أطول حرب نظامية يشهدها العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد كان لتلك الحرب أسوأ الآثار في تدمير مقومات القوة العربية، وتعثر مسيرة الأمة على طريق التنمية. وبين دور إيراني في العراق مرفوض عربياً، وإمكانات عمل عربي-إيراني مشترك لمواجهة محاولات الهيمنة الصهيوأمريكية ما زال النظام العربي غير قادر على أن يجد المعادلة الصحيحة لعلاقته بإيران على النحو الذي يعظم القواسم المشتركة ويحفظ المصالح العربية في آن واحد.
وبالنسبة لتركيا فشل النموذج التركي الذي أيده الغرب، وبصفة خاصة الولايات المتحدة لتحقيق نهضة إقليمية في الشرق الأوسط في أن يحصل على قبول من جانب النخب السياسية في الوطن العربي لأسباب كثيرة منها العامل التاريخي، ومنها أيضاً طبيعة العلاقة بين تركيا كدولة أطلنطية وبين الولايات المتحدة التي لعبت دوراً رئيسياً في وأد مشروع النهضة العربية في خمسينات القرن الماضي وستيناته، ويضاف إلى ذلك عوامل التوتر في العلاقات العربية-التركية بخصوص قضايا حيوية كالمياه ولواء الاسكندرونة والعلاقات التركية-الإسرائيلية، ومع ذلك فإن التطورات الداخلية في تركيا في العقود الأخيرة وانكشاف حقيقة الرغبة الغربية في عدم قبول تركيا دولة ناهضة في مجتمع الدول الغربية المتقدمة قد ولدا توجهات جديدة في السياسة التركية تجاه الوطن العربي ضيقت نسبياً من مساحات الخلاف أو لنقل على الأقل أنها أوجدت آلية رشيدة لإدارة الخلافات وتعظيم القواسم المشتركة في العلاقات العربية-التركية.
وعلى صعيد القارة الأفريقية أخفق النظام العربي في تحقيق علاقات تعاونية مستقرة مع الجانب الأفريقي تجعل من الطرفين حليفين في السعي نحو النهضة والتصدي لمحاولات الهيمنة. كان للنظام العربي في مرحلة المد القومي في خمسينات القرن الماضي وستيناته دوره الفاعل في معارك التحرر الأفريقية، غير أن هذا الدور واجه دوماً عقبة التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، وعلى الرغم مما بدا أن التعاون العربي-الأفريقي قد بلغ ذروته بعقد القمة العربية-الأفريقية في آذار/مارس1977 إلا أن الآمال المعقودة على هذا التعاون سرعان ما انحسرت مع بداية الانقسام العربي حول التسوية مع إسرائيل في السنة نفسها، ومع تفاقم الانقسام العربي واستمرار النشاط الإسرائيلي ودخول قوى عالمية جديدة على رأسها الولايات المتحدة والصين إلى ساحة التنافس داخل القارة الأفريقية بدا أن الحضور العربي في أفريقيا أضعف من أن يولد تعاضداً عربياً-أفريقياً من أجل نهضة شاملة.
ويعني ما سبق أن السياق العالمي والإقليمي لمحاولات النهضة العربية لم يكن دوماً مواتياً أو غير موات، فقد بقي قدر من حرية الحركة في النظام العالمي عقب هزيمة1967، لكن النظام العربي لم يحسن استغلاله دوماً، وعندما تحولت قيادة النظام العالمي إلى نموذج الأحادية القطبية واجه النظام العربي واحدة من أسوأ مراحله، ويكفي أن احتلال العراق قد تم أثناءها، غير أن هذا النظام بسبب عوامل الضعف الداخلي فيه بدا حتى الآن غير قادر على الاستفادة من التطورات العالمية المواتية التي بدأت قسماتها تتضح في أعقاب احتلال العراق والصحوة الروسية والتقدم الصيني المطرد، ويعني هذا أنه ما لم تحدث تحولات داخلية مواتية في النظام العربي فإن التطورات العالمية باتجاه العودة إلى تعددية القيادة في النظام العالمي لن يكون لها أثر يذكر على مسيرة نهضته، والأمر نفسه ينطبق على السياق الإقليمي فقد كان بمقدور النظام العربي أن يستثمر على نحو أفضل ما حققه من إنجازات في صراعه مع الكيان الصهيوني، والقواسم المشتركة مع الثورة الإيرانية والسياسة التركية والبلدان الأفريقية، غير أن هذا النظام ظل غير قادر على إيجاد المعادلة الصحيحة في مجمل علاقاته الإقليمية.
3- غياب مشروع نهضوي معاصر
تلك سمات البيئة الإقليمية والدولية، والفرص والهوامش المتاحة أمام الشعوب غير الغربية للنهضة والتقدم. فما الذي يمنع الوطن العربي من استثمار تلك الفرص وتوقي المخاطر؟ الجوابُ هو غياب مشروعٍ نهضويٍّ عربيٍّ معاصر يتطلع إلى إنجاز حلقات التوحيد القومي والتنمية والاستقلال والتقدم. أما أسباب هذا الغياب، فَلَها تاريخ.
بدأ العرب مشروعَ نهضتهم الفكرية والسياسية مبكراً نسبيّاً. أدركوا المغزى العميق لحملة بونابارت واحتلال الجزائر: نهايةُ مَدَنِيَّةٍ وبدايةُ أخرى. ولم يتأخروا في الردّ على تحدّي ذلك التحوُّل الجديد الذي أَحْدَثَهُ قيام المدنيَّة الأوروبية الحديثة، فجاء الردّ استجابةً. نعم، قاوموا الغزوة الكولونيالية بإباء، لكنهم تنبَّهوا إلى ما في أوروبا من مصادر قوة: العلم والصناعة والتنظيم العقلاني للإدارة والدولة والقوة العسكرية الحديثة... إلخ، واجتهدوا في الأخذ بأسبابها وفي تأصيلها.
بدأ محمد علي باشا تجربته في الإصلاحات متأثراً بفرنسا. كان ذلك قبل أن تبدأ الدولة العثمانية تجربة "التنظيمات" بعقود. ولقد طبعت محاولاتُه تلك سائرَ المحاولات الإصلاحية التي أعقبت الأولى في القرن التاسع عشر. ومَن يستعيد اليوم معطيات التجربة الإصلاحية العربية على ذلك العهد – مع محمد علي وإبراهيم باشا في مصر وأحمد الباي في تونس ومحمد الرابع والحسن الأول في المغرب – يَلْحَظ ما بينها من جوامعَ ومُشْتَرَكَات على صعيد "جدول أعمالها": تحديث الجيش وتطوير هيكله النّظاميّ، الإصلاح المالي والجبائي، الإصلاح الإداري، تطوير النظم التعليمية وإرسال بِعْثَاتِ الطلبة إلى أوروبا للتكوين، إصلاح نظام العلوم الدينية في جامعات الأزهر والزيتونة والقرويين، إقامة أَنْوِيَةِ صناعاتٍ وطنية... إلخ. وربَّما تفرَّدتْ مصر منها بهاجسٍ صناعيّ أكبر. جسده تصدي محمد علي لمنافسة الصناعة الأوروبية وإنشائه نظاماً احتكارياً مول من عائده إنشاء صناعة حديثة لهذا الغرض فاستورد الآلات والفنيين من أوروبا وأنشأ معامل عديدة وأرسل البعوث الفنية والعملية لأوروبا للتزود بالمعارف الحديثة وأصاب في هذا كله نجاحاً لافتا.
كان لهذا المشروع النهضوي وجْهٌ فكري رافَقَ المشروع السياسي وأسَّسَ له شرعيته. وهو كناية عن التراث الفكري الإصلاحي الإسلامي والتراث التنويري الحداثي في القرن التاسع عشر: التراث الذي دارت موضوعاته حول التّرقي والتّمدن والإصلاح والحرية، وساهم في صَوْغِ نصوصه الكبرى مفكرون كثر من التيارين الإسلامي والليبرالي (الطهطاوي، خير الدين التونسي، محمد عبده، عبد الرحمن الكواكبي، عبد الله النديم، أحمد فارس الشدياق، أديب إسحق، فرح أنطون...). وليس من شك في أن وجود مشروع سياسيٍّ نهضويٍّ حينَها وفَّرَ شرطاً تاريخيّاً لنمّو هذا التراث الفكريّ النهضويّ؛ وكما أن وجود الأول حينها كان في حاجة إلى الثاني: يبرره ويؤسس له المشروعية فإن الثاني كان بحاجة إلى الأول ليستلهمه فيما يدعو إليه، ولم يكن عبثاً أن طلباً متزايداً على النخبة الإصلاحية سيرتفع كثيراً بارتفاع معدَّل الانغماس السياسي في عملية الإصلاح، وأن بعض رموز النهضة الفكرية أُوكِلَتْ إليهم وظائف كبيرة في الدولة.
ولقد دَشَّنَتِ الثورةُ المصرية (23 تموز/يوليو 1952) طوراً نهضويّاً جديداً حين أطلقت مبادئها الستة ومشروعَها التنمويَّ والاستقلاليَّ والوحدويّ. فقد أحدثت مكتسباتُها استنهاضاً لا سابق له لكل قوى الأمة وطموحاتها التحررية والقومية. ومن يستعيد اليوم معطيات البرنامج الناصري، والمكتسبات التي تحققت في إطاره، يدرك إلى أيّ مدًى شقَّ ذلك المشروع طريقه إلى النهضة. وتقتضي الأمانة أن يقال إن هذا البرنامج قد نهل من برامجَ سابقة عليه لمفكرين عروبيين وقوى سياسية قومية عربية رائدة.
استند المشروع الناصري إلى رؤية برنامجية لعملية النهوض الوطني والقومي شملت المجالات كافة: توجهت في الداخل المصري إلى تحقيق الإصلاح الزراعي وإعادة تحديد ملكية الأرض وتوزيعها على الفلاحين الصغار، وتحديد الإيجارات للأراضي الزراعية واستصلاح الأراضي وتنمية مساحاتها، وإعادة تنظيم تدفق الثروة المائية وتوزيعها ببناء السدّ العالي. وتوجهت إلى التصنيع والتصنيع الثقيل أو إلى إنتاج أدوات الإنتاج فضلاً عن تنمية صناعة النسيج. وأمَّمت شركة قناة السويس والبنوك والمصارف والشركات الكبرى المملوكة للأجانب أو لقوى الرأسمال الخاص وأخضعتها لملكية الدولة، ونمَّت القطاع العام. ثم قدمت مساهمةً رائدة في تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص والحدّ من الفوارق بين الطبقات بإنصاف فئات الكادحين في حقوقهم الاجتماعية. وقبل ذلك كله، أنجزت مهمة الاستقلال الوطني الكامل من خلال حمل بريطانيا على الجلاء.
أما على الصعيد القوميّ، فقادت مصر الناصرية المعركة ضد الأحلاف الأجنبية، ووضعت قضية فلسطين والصراع العربي – الصهيوني في قلب أولويات سياستها الخارجية، فخاضت حربين ضدّ إسرائيل، ورعت مشروع إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، ودعمت فصائل المقاومة بالمال والسلاح والقرار السياسي، وفكت طوق الحصار والقتل عن مقاتليها في الأردن صيف العام 1970، وقدمت الدعم للحركات الوطنية في المغرب العربي وللثورة الجزائرية خاصة، ناهيك باليمن وحركة التحرر الوطني في أفريقيا. ورعت ميلاد حركة عدم الانحياز في العالم الثالث، وأطلقت أول تجربة وحدوية عربية (الوحدة المصرية – السورية). وأسَّست فكرة التضامن العربي، في إطار جامعة الدول العربية، على قاعدة التمسك بالثوابت القومية وعدم التفريط فيها.
ولقد كان لهذا المشروع النهضويّ الذي حملته الناصرية في النطاقين الوطنيّ والقوميّ وقطعت فيه أشواطاً، تأثيراتٍ بالغةٌ في مجمل الوضعِ العربيِّ: الشعبيِّ والرسميّ. فبقدر ما حَمَل الفكرةَ القوميَّةَ النهضويَّةَ إلى الآفاق الرحبة وكرَّسها في الرأي العام واسْتَوْلَدَ جمهورَها العربيّ، بقدر ما قدَّم مثالاً مرجعيّاً لتجارب عربية أخرى في الجزائر والعراق وسوريا جرَّبت أن تنسج على منواله.
لكن هذه اللحظة النهضوية الثانية، التي أطلقتها الناصرية في فجر النصف الثاني من القرن الماضي، سرعان ما ستتعرض للانتكاس ابتداء من حرب العام 1967، وخاصة بعد رحيل عبد الناصر والانقلاب على مشروعه في مصر وبَقية البلاد العربية منذ عقد السبعينيات من القرن العشرين الماضي.
4- من أجل البناء على مكتسبات وتراكمات مشاريع النهضة السابقة
إذا كانت فكرةُ النهضة قد وُئِدَتْ وأجْهِضَتْ تجربتان منها (في مطلع القرن العشرين وفي نصفه الثاني)، فليس ذلك خاتمةُ المطاف. بل من الواجب التحرر من النظرة العدمية وإعادة قراءة التجربتين في ممكناتهما التاريخية، وفي أفق البناء على ما أنجزتاه من مكتسباتٍ للانطلاق بمشروعٍ نهضويٍّ جديد يستأنف ما بدأته التجاربُ السابقة. ونقطةُ الانطلاق في هذا الجَهْد هي النظر بعين النقد لمجمل العوامل والأسباب التي أخذت تجربتيْ النهضة العربية إلى الإخفاق.
أ- تحليل أسباب وعوامل إخفاق مشاريع النهضة السابقة:
لقد انتهت تجربة النهضة الأولى، التي انطلقت منذ محمد علي وحتى "الثورة العربية" أثناء الحرب العالمية الأولى، إلى ما انتهت إليه من إخفاق نتيجة جملةٍ من العوامل السياسية والفكرية نرصد منها ثلاثة رئيسَة:
أول هذه العوامل هو فشل فكرة "الثورة العربية" وتجربتها، واصطدامها بزيف الوعود البريطانية بدعم قيام الدولة العربية في حال تحالفت الحركة العربية مع بريطانيا في الحرب ضد تركيا. وبدل أن تقوم الدولة العربية، سقطت الأقاليم العربية في المشرق العربي – الواحدة تلو الأخرى – في قبضة الاحتلال الاستعماري: البريطاني والفرنسي. قبلها، كانت أقطارٌ عربية كبيرة قد سقطت تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي: الجزائر في مطلع ثلاثينيات القرن الـتاسع عشر، مصر وتونس في مطلع ثمانينيات القرن نفسه، وليبيا في العام 1911، والمغرب في العام 1912. ولقد أنهى احتلال هذه البلدان تجربة النهضة التي بدأها محمد علي والباي ومحمد الرابع إلى حين، وأعاد المحاولة إلى نقطة الصفر.
وثانيها ما أعقب سقوط المنطقة في قبضة الاحتلالِ الأجنبيِّ من عملية تمزيقٍ كيانيٍّ لأوصالها الجغرافية والبشرية على نحوٍ قاد إلى تجزئتها وإلى استيلاد دويلاتٍ قطرية قوامُها تكويناتٍ عصبوية: طائفية ومذهبية وعشائرية مُنْتَزَعَة من بنية الجماعة الوطنية الجامعة ومقذوفاً بها إلى علاقاتٍ أخرى اجتماعية – سياسية لا ترى نفسها فيها إلاّ بوصفها أقليات منغلقة على عصبياتها. وهكذا انتقلتِ المنطقةُ من طُوبَى النهضة والتقدم، التي بَدَأَتْها في القرن التاسع عشر، إلى حيث تعيش مسألةً كيانية أسوأَ حتى من تلك التي عاشتها إبَّان سياسة التتريك حين انْفَلَتَتِ النزعةُ الطُّورانية من عِقَالها.
وثالثها تراجُعُ الفكر الاجتهادي الإصلاحي، منذ مطلع القرن العشرين، بعد غياب محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وانقلاب محمد رشيد رضا على الإصلاحية الإسلامية، في عشرينيات القرن الماضي، مع بداية تنظيره لدولة الخلافة على حساب الدولة الوطنية. ولقد طال هذا التراجع الفكر الليبراليَّ ذاتَه أمام هجوم الفكر المحافظ: ومحاكمة كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي" وكتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرَّازق مثالٌ لذلك الهجوم.
لم يكن المنحى العام الانحداري الذي شهدته السياسة والثقافة في البلاد العربية، بين الحربين، ليُسقِط من الاعتبار حقائقَ أخرى من قبيل انبعاث بعض مظاهر التفكير الإصلاحي مع عبد الحميد بن باديس وعلال الفاسي والشيخ الثعالبي وعبد الرزاق السنهوري ومحمود شلتوت، ومن قبيل توحيد مناطق عربية في دولة موحَّدة كما فعل ذلك الملك عبد العزيز آل سعود حين وَحَّد أقاليم الجزيرة العربية وأسَّس المملكة العربية السعودية، كما من قبيل قيام حركات وطنية استقلالية في معظم البلاد العربية ردّاً على الغزوة الكولونيالية الخارجية. لكن المناخ العام كان مناخ تراجعٍ لفكرة النهضة وإرادتها.
أما المشروع النهضوي الثاني - الذي قادته مصر الناصرية – فتعرَّض للانتكاس لجملة أسبابٍ وعوامل لعلّ أهمها:
أولها أنه جُوبِهَ مجابهةً حادة من طرف القوى الامبريالية والصهيونية التي نجحت في إلحاق ضربتين موجعتين به هما: الانفصال في أيلول/سبتمبر1961 وعدوان حزيران/يونيو1967. وهو في هذا يشبه مشروع محمد علي وإبراهيم باشا. كلاهما لم يبدأ سقوطه من الداخل (وإن كان ذلك الداخل غيرَ مُجَهَّزٍ بمؤسسات تحميه)، وإنما بضربة عسكرية من الخارج: من فرنسا وبريطانيا المتحالفتين مع غريمهما العثماني في حالة محمد علي، ومن أمريكا و"إسرائيل" في حالة عبد الناصر.
وثانيها تأجيلُه مطلب الديمقراطية واعتبارها دون قضية التنمية أولوية، وبالتالي استبعادُهُ قطاعاتٍ واسعةً من الشعب من المشاركة السياسية وإدارة المشروع نفسه.
وثالثها قيامُه على كاريزما الزعيم وغياب نظام المؤسسات، الأمر الذي ذهب بالمشروع بعد رحيل صاحبه وسهَّل الانقلاب عليه، بل لقد سهل حدوث انتكاسات مهمة حتى قبل ذلك الرحيل كما في تجربة الوحدة المصرية-السورية (1958-1961).
ورابعها الدعم الكثيف الذي تلقته قوى الثورة المضادة والنخب الرجعية من أمريكا للانقضاض على ذلك الميراث النهضوي وإعادة جدولة الأولويات: الصلح مع أمريكا و"إسرائيل"، والرأسمالية المتوحشة العالمية وقواها في الداخل، والتمسك بالدولة القطرية كمقدَّس سياسي. والأنكى أن بعض تلك القوى والنخب خرج من رحم الثورة نفسها!
وخامسها أن الصراع الذي نشب بينه وبين قوى الإسلام السياسي واليسار لم يُمكِّن من استيلادِ تحالفٍ عريض يضم سائر القوى ذات التمثيل الأصيل والفعالية السياسية تحمل ذلك المشروع وتنهض بمهمة تحقيقه.
لقد أرهقته تناقضاتُه الداخلية لا شك. لكن الضربة القاضية التي أطاحت به كانت من الخارج. وهو عينُه ما تكرَّر مع العراق بعد قرابة ثلث القرن. وفي ذلك ما يعني أن القوى الامبريالية والصهيونية تقف مترصدة كل محاولة عربية للنهضة وتجهِّز النفس لإسقاطها في المهد مستعملةً لذلك الوسائل كافة.
ب- تعظيم عوامل القوة في تلك المشاريع وإعادة تثميرها
إن المآلات التي آلت إليها تجارب النهضة السابقة لا ينبغي أن تحجب عنّا ما راكمته من مكتسبات، وما كان فيها من عوامل قوة تحتاج اليوم إلى استعادةٍ وتطوير، وإلى استدخالٍ لها في مشروع جديد. إن أحداً لا يملك اليوم أن يجحد حقيقة أن الحقبة الليبرالية بين الحربين نَبَّهَتْنَا – ولو متأخرين – إلى أهمية مسائل مثل الحرية والدستور والتمثيل النيابي. وأن الحقبة القومية تمثلت تمثُّلاً خلاَّقاً مطالب الوحدة القومية والاستقلال الوطني والقومي والتنمية المستقلة. وأن التيار اليساري قدَّم مساهمة رائدة في بناء رؤية نظرية لمسألة الاشتراكية والتوزيع العادل للثروة. وأن التيار الإسلامي قدَّم رديفاً لها في تشديده على مسائل الهوية والثقافة والجماعة والتنبيه إلى أهميتها. والمطلوب اليوم هو تعظيم تلك المكتسبات من خلال تطويرها واستدماجها في مشروع نهضوي واحد يعيد إقامة علاقات التلازم والترابط بينها بدل علاقات التنافر والتضاد.
5- في المشروع النهضوي العربي الذي نريدُه
المشروع النهضوي الذي تتطلع إليه الأمة اليوم هو المشروع الذي ترى في مرآتِه مسْتَقْبَلَها. وهو إذ يُفْصِح عن تطلعاتها إلى واقعٍ تكون فيه مشارِكةً في التاريخ وذاتَ دورٍ فيه مناسبٍ لصورتها عن نفسها كأمةٍ ذات رصيد تاريخيّ، فهو يستوعب كافة الأهداف والمطالب التي حملتها ستة أجيال عربية – في العهد الحديث والمعاصر – وناضلت من أجل إنجازها (فنجحت في بعضها وأخفقت في أغلبها)؛ لكنه يعيد بناء الصلات والعلائق بينها بشكل جديد.
أ- طبيعةُ المشروع النهضوي وأهدافُه
يبرّرُ فكرةَ مشروعٍ نهضوي عربي ما تعانيه الأمّة من ضَعْفٍ ووهن في أوضاعها، ومن ضياع وذهول في الرؤية إلى ما ينهمر عليها من نكبات وتراجعات. وحين تكون الأمة بهذا الحجم من التراجع والضياع والتِّيه على الرغم مما تضمه من قوى حية، تحتاج إلى بوصلة تهتدي بها وترشِّد بها فاعليتََها. وليس غير مشروعٍ شاملٍ واستراتيجي، مثل المشروع النهضوي، يقدم لها – وللقوى الحية فيها – مثل تلك البوصلة.
يمثل المشروع النهضوي هذا ردّاً على معضلات ستّ فرضت نفسها على الواقع العربي وعلى العقل العربي منذ قرنين: الاحتلال، والتجزئة، والتخلف، والاستغلال، والاستبداد، والتأخر التاريخي. الاستقلال الوطني والقومي هو الجواب التاريخي عن حالة الاحتلال. والوحدة القومية هي الردّ الاستراتيجي على التجزئة الكيانية التي باتت هي الأخرى مهددة بتجزئة دون قطرية. والتنمية المستقلة هي بديل التخلف والتنمية القاصرة في ظل العولمة. والعدالة الاجتماعية هي نقيض الاستغلال والفوارق الطبقية الفاحشة التي تعمقت في ظل محاولات فرض نموذج ليبرالي بدعوى تحقيق الكفاءة الاقتصادية. والديمقراطية هي السبيل الوحيد لمشاركة الأمة في صنع مستقبلها. والتجدد الحضاري هو الحلّ لمعضلة التأخُّر التاريخي والانحطاط. هي أهدافٌ ستة – إذن – تلك التي تؤسّس المشروع النهضوي العربي وتَحْمل على الحاجة إليه.
ومن النافل القول إنها ليست أهدافاً جديدة، ولا بدأ الانتباه إليها مع ميلاد فكرة المشروع النهضوي اليوم. بل لاَزَمَتْ مسيرة الفكر السياسي والعمل السياسي العربيَّيْن منذ القرن التاسع عشر، وخاصة منذ الحرب العالمية الأولى. لكنها – أبداً – لم تتبلور كأهداف كاملة مترابطة إلا في المشروع النهضوي، وإن كانت الأمانة تقتضي الاعتراف بأن شكلاً من أشكال الترابط بينها تَبَلْوَرَ في برنامج الثورة المصرية على نحو ما عبَّر عنه "الميثاق" أبلغ تعبير، فقبل المشروع النهضوي كانت كل نخبة فكرية وسياسية تشتغل تحت عنوانِ هدفٍ بعينه دون سواه: كانت الوحدة هدف النخب القومية الأساس (أضاف إليها عبد الناصر الاستقلال والتنمية). وكانت العدالة الاجتماعية الهدف الرئيس للنخب اليساريـة. والحريـة (الديمقراطية) هدف النخب الليبرالية. وحفظ الهوية من التبديد هدف النخب الإسلامية. وكل واحدة من هذه النخب تحسب الهدفَ، الذي أقامتْ عليه مشروعَهَا الفكريَّ والسياسيَّ، المفتاحَ الوحيد للجواب عن معضلات الواقع العربي غير آبهةٍ بغيره من الأهداف.
لم تكن جميعُها على خطإ في تبنّيها تلك الأهداف، فهي أهداف صحيحة وموضوعية تفرضها أحوال الواقع العربي. لكن الخطأ كان في التعامل معها كأهداف متمايزة ومنفصلة ومتعارضة. وعلى ذلك، يمثل المشروع النهضوي العربي تصحيحاً وتصويباً لتلك الرؤية وإعادةَ بناءٍ وصياغةٍ للعلاقة بين تلك الأهداف.
ب- شكل العلاقة بين عناصر المشروع النهضوي
المشروع النهضوي الذي نريدهُ منظومةٌ مترابطةٌ من الأهداف تتصل الواحدةُ منها بالأخرى اتصالَ تلازُمٍ وتَمَاهٍ. وكما في كل منظومة، لا يَقْبَلُ العنصُر الواحد من المشروع النهضوي عزلاً أو فصلاً أو مركزيةً دون تغيير مجمل المنظومة والمعنى العميق الذي يؤسِّسُها. فالعناصر جميعُها مترابطة ويقوم بينها تحديدٌ متبادَل، ولا يمكن إدراكُها إلاّ في منظوميَّتِهَا. وترجَمةُ هذه الرؤية سياسيّاً أن المشروع النهضوي هذا لا يَقْبَل النَظرَ إليه بمنطق الأولويات، لأن هذا المنطق هو – بالذات – الذي كان مسؤولاً، في ما مضى، عن اعتماد هدفٍ معيّن أو أهدافٍ بعينها على حساب أخرى.
تعني منظوميّةُ المشروع النهضوي احترامَ كُلّيته، والإعراضَ عن كل مقاربةٍ له بمقتضى فكرة الأفضلية، وعدم المقايضة بين عناصره وأهدافه: تلك التي أوقعت مشاريع النهضة السابقة في تناقضاتٍ ذاتية ذهبت بوهجها الثوري وأساءت – في بعض الأحيان – إلى صورتها وشرعيتها. إنه المشروع الذي ينبغي إدراكه بوصفه هدفاً واحداً لا يقبل التجزئة وإن كان يقبل التمرحل الموضوعي. وفي هذا السياق ينبغي أن تتكاتف جهود كافة القوى الحية المؤمنة به للنضال من أجله في إطار حلفٍ عريض ("كتلة تاريخية") يكون المشروعُ إياهُ برنامجَها ومرجعَها.
فَلْتَخُضِ الأمةُ إذن، وقواها الاجتماعيةُ والسياسيةُ والثقافيةُ الحيّةُ، معركةَ تحقيق هذا المشروع النهضويّ العربيِّ وأهدافه التاريخية الكبرى، بعزيمةٍ على قدرِ مستوى التحدّي: مستلهمةً ميراثَها الحضاريّ العظيم وسوابق التاريخ وتراكماته. وهذه رؤية للنهضة نضعها تحت تصرُّف معركة الأمة من أجل ذلك الهدف الكبير.
6 من الزوار الآن
917330 مشتركو المجلة شكرا