الصفحة الأساسية > 4.0 العملانيات > حرب التحرير الشعبية > انتفاضـــــة الأقصــــــى.. مقدمـــــة النـــصر القـــــادم
الحلقة الاولى
جاءت في وقتها المطلوب بدقة وفي اللحظة التاريخية المناسبة، تفجرت على إثر إقدام المجرم شارون على تدنيس حرمة المسجد الأقصى، ثم ولأنها حقيقة تاريخية، وتعبير عن لحظة تجل واستجابة لحاجات التطور التاريخي وإلحاحيته، ولكونها أداة توليد الجديد النوعي من رحم الماضي المتداعي، تطورت بسرعة مذهلة، تحولت من انتفاضة شعبية سلمية، وسائلها الحجر والجسد العاري، والمقاومة الجماعية السلبية، إلى ثورة شعبية مسلحة، تجيد استخدام الوسائل النضالية كافة، وتحسن الربط بينها، وتتقن الاستفادة من التطورات التقنية، وتسخر المعارف والعلوم الإنسانية، فتستحضر خبرات الشعب الأسطوري، دائم الانتفاض، والمتعاقد مع النضال والتضحية منذ قرن ونيف، لكأنه التضحية ذاتها، وبأكثر نماذجها شفافية حققت انخراطاً تفاعلياً بين مختلف فئات الشعب، وقطاعات المجتمع، الفتية والفتيات، الشباب والشابات، الرجال والنساء، الأطفال والشيوخ، المتعلمين والميسورين، كما الفقراء في المدن، وبناة الحياة من أبناء الريف الفلسطيني، وفي أزقة المخيمات، ومن فوق مناضد الدراسة، وشجرة الزيتون المباركة، الشاهد الشامخ على حق العودة والتشبث بالأرض، الزيت مع بقايا النفايات، والأسمدة الكيماوية، أصبحت كما الحجر سلاحاً فتاكاً، عبوات ناسفة متقنة التصنيع، وعالية القدرة على التدمير، وازدادت فعالية المتفجرات الشعبية عندما حولت دبابة (الميركافا 3) فخر الصناعة العسكرية الصهيونية إلى ركام وحطام محترق، "إنها المعجزة" -كما قال عنها قادة العدو- "عبوة مصنعة محلياً تطيح بحلم المؤسسة العسكرية الصهيونية".
وتحولت الأجساد المتفجرة التي قررت عن سابق تصميم ومعرفة في العقيدة العسكرية الفلسطينية، القديمة المتجددة، إلى سلاح نوعي لا يقهر، سلاح أكثر دقة، وأكثر ذكاء ومعرفة، وأقل كلفة، وأكثر فاعلية من الأسلحة التي تنتجها مصانع أمريكا والعدو الصهيوني، وأكثر علماً ومعرفة من العقول الخبيرة التي تدفع أمريكا والصهاينة أثماناً باهظة لشرائها وتجنيدها.
وتجسدت في الانتفاضة وفي أدائها وآليات تطورها وأشكال ارتقائها كل العلوم الاجتماعية والإنسانية والعسكرية، ولم تفلح المراكز والخبرات التي تختص بعلم النفس وعلم الاجتماع والإعلام، وصناعة الإعلان، وأدوات وعلوم صناعة الرأي العام، التي تفردت فيها مؤسسات الإعلام المملوكة للوبيات الصهيونية والمتصهينة، ولا خطط البنتاغون، في توظيف شركات وخبراء العلاقات العامة، وتخصيص مليارات الدولارات، لشراء الذمم والمثقفين، ووسائل الإعلام، في أن تجاري الانتفاضة وإبداعاتها وجديدها الدائم والمستمر، فعجز الجميع عن فك الرموز، وعن فهم ثقافة وفاعلية التراث الكفاحي لهذا الشعب العربي الفلسطيني العظيم، ثقافة التضحية والفداء والشهادة، والاستشهاد، وعن فهم آليات انتظام مجتمع الانتفاضة المقاوم، والقدرة الهائلة على الصمود والاستمرار.
وحققت الانتفاضة تحولاً نوعياً استثنائياً في مسار الصراع العربي-الصهيوني، وشكلت مدخلاً استراتيجياً في آليات العمل المقاوم، وفي إطلاق مرحلة عربية جديدة، قلبت مسار الأمور من الهبوط إلى الصعود، وغيرت المقاييس والمعايير، كسرت المحرمات، واستحضرت قضايا وموضوعات توهم البعض أنها أصبحت في طي النسيان، فقد أعادت الجماهير الشعبية إلى الشارع وإلى السياسة بعد غياب قسري خلال العقود الثلاثة الماضية، والأهم في هذا السياق هو دورها في تجديد الوعي العربي وبداية إطلاق المشروع العربي النهضوي الوحدوي التحرري المقاوم.
هذه الانتفاضة ترتكز على تاريخ من الثورات والانتفاضات، تختزن خبرات عملية، وتكشف عن معارف ووعي متقدم لكادراتها وقادتها الميدانيين وجمهورها، انتفاضة تتطور تبعاً للتطورات، عرفت بواقع التجربة أعداءها حق المعرفة، واختبرت أصدقاءها، وأدركت بواقع التجربة العملية أن كل ما يقال وما يجري تحت سقف التفاوض والتسويات، ما هو إلا تقطيع للوقت، وإضاعة للفرص، وتبديد للتضحيات، وتعبير عن انحطاط وتخلف وأوهام عششت في قمة الهرم السياسي الفلسطيني، أوهام ورهانات ولدتها حقبة من أسوأ الحقب التي مرت على الشعب العربي الفلسطيني والأمة العربية، حقبة التضخم المالي، وتكبير الأجهزة على حساب أداة الثورة، حقبة التسلط على الشعب والثورة، حقبة تربع فيها على سدة القيادة والنطق باسم القضية من أغوتهم وأغرتهم فأفرغتهم امتيازات النفط والعلاقات مع الأنظمة، وبناء مؤسسات بيروقراطية وأجهزة أمن ارتزاقية، وشعارات يا وحدنا، والقرار الوطني المستقل، والممثل الشرعي الوحيد، وليس من حق أحد سوى الفلسطينيين تقرير خياراتهم، شعارات روجت تحضيراً للتسوية الموءودة، تسوية أوسلو التي جرى بموجبها التفريط بكل شيء، مقابل سلطة إدارية، أرادوها أن تكون الرصاصة القاتلة في جسد القضية والشعب، ومدخل التحلل من الالتزامات الوطنية والقومية والتخلي عن الحقوق التاريخية، وبوابة تفتح المنطقة العربية والعالم أمام المصالح الصهيونية، وأداة لفرض الهيمنة النهائية على الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته، وتحويله إلى معازل تقدم اليد العاملة الرخيصة والأسواق والمعابر للمنتجات الصهيونية، ومرتعاً لبرجوازية فلسطينية كمبرادورية مرتبطة مصلحياً وأمنياً وسياسياً واجتماعياً بالكيان الصهيوني، وظيفتها تكريسه، وتأييده على حساب الحق في الوطن والاستقلال، وعلى حساب حق العودة للشعب الذي شرد من أرضه، وطرد من وطنه، تحولت الأطر الناشئة بفعل اتفاق أوسلو، إلى مجاميع لمؤسسات ومزارع لزعامات فاسدة ومفسدة تقوم على إدارتها هياكل خاوية لحكم إداري أكثر فساداً وإفساداً.
إن الانتفاضة بما قامت به قطعت المسارات التي أعدت لفلسطين وللمنطقة وللعالم كافة، وغيرت في سيناريوهات فرض السيطرة الأبدية لأمريكا والعدو الصهيوني، فأعادت قلب الهرم، وأطلقت تفاعلات هامة في التاريخ الإنساني والبشري، فتحولت قضية الانتفاضة والشعب الفلسطيني إلى قضية عالمية بامتياز، وكذلك القضايا العربية (العراق وفلسطين)، إلى قضايا مؤسسة في التكوينات السياسية الوطنية لكثير من أمم وشعوب الأرض، وباتت عنواناً وشعاراً للحركة العالمية المناهضة والمقاومة للعولمة الأمريكية ولإسقاط السيطرة الصهيونية، ولرفض العدوانية والحروب والعنصرية.
وفي سياق تطورها وارتقائها حملت واستحضرت إلى جانب قضيتها قضايا الشعوب المختلفة، في التحرر الوطني والاجتماعي، وسيكون لها دور أساسي في إسقاط الهيمنة الأمريكية على بلادنا، وفتحت في جدار النظام العالمي الأمريكي شقوقاً كثيرة، وفجرت تعارضات دولية كامنة قد تقود إلى تناقضات في المستقبل القريب، وأطلقت مرحلة جديدة على مختلف الصعد عالمياً، وداخل دول المعسكر الرأسمالي، حيث ستظهر نتائجها في ظروف لاحقة.
الانتفاضة الحدث الاستراتيجي، لا يمكن التعامل معها على أنها مجرد أمر عابر، أو ردة فعل على حدث بعينه، إنما هي فعل واعٍ نتج عن تراكم واختزان الخبرات، ونتائج التجارب والمعارف، نضجت لحظة تفجرها وتحولها إلى حقيقة مادية ملموسة، أسهمت بضرب حالة الركود والسكون التي سادت في المنطقة لسنوات طويلة، فقد ارتكزت في فاعليتها وفي أدائها وآليات تطورها، إلى خبرات أجيال فلسطينية وعربية دأبت على مواصلة النضال والانتفاضات والمقاومة المفتوحة مع معسكر أعداء الأمة والمشروع الإمبريالي-الصهيوني، وإلى تجربة ظافرة سجلها لبنان في انتصار مقاومته وفي طليعتها حزب الله، على العدو الصهيوني المحتل نفسه، الذي خرج مهزوماً وذليلاً من الجنوب اللبناني دون قيد أو شرط، بدعم قومي، طليعته سورية والثورة الفلسطينية، وبدعم من الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
واختمرت شروط الانتفاضة في بيئة التسوية والمفاوضات، وفي قلب ومجريات تطبيق أوسلو التفريطي، فقد اكتشف الشعب الفلسطيني أن الاتفاقات والمفاوضات عاجزة عن إنجاز الحلول التي بشرت بها، والتي تفرط بـ80% من فلسطين ولا تعيد الشعب الفلسطيني إلى وطنه، ولا تعيد القدس، ولا تحقق سيادة فعلية على أي جزء من فلسطين وفي كل حالاتها ليست سوى مراحل تفريطية، وفرص استفاد منها العدو لتعزيز احتلاله وتهويد فلسطين، فجاءت الانتفاضة كفعل جماعي شعبي متطور، "رغم وجود سلطة متساوقة مع العدو، وغياب قيادة وطنية للانتفاضة، وبالتالي غياب القدرة على إدارة الصراع الذي يتناسب مع هذه الإرادة الشعبية الجماعية". بعد أن اختبر الشعب الفلسطيني كل الوسائل الأخرى وجربها، في انتفاضات سلمية كانت أهمها الانتفاضة الكبرى 1987-1993، في إطار تجربة الثورة المعاصرة التي فجرتها حركة فتح عام 1965، وبينهما تجربة المقاومة السلبية للاحتلال برفضه، وبإسقاط روابط القرى، وإسقاط كل محاولات فرض الحكم الإداري الذاتي، وجرب الفلسطينيون وسائل أخرى مختلفة لم تحقق أية نتائج، كمحاولة الاستفادة من القانون الصهيوني، ومن محاكمه ومؤسساته السياسية وعبر محاولات التجنيس في الخارج والعودة بجنسيات أجنبية، وراهن على التناقضات السياسية في البنية السياسية الصهيونية، وراهن كثيراً على جيوش نظامية عربية، تحمل لـه التحرر والحرية والاستقلال، كما راهنت بعض قياداته التي فرطت بالثوابت الوطنية والقومية على أمريكا ومشاريعها للسلام المزعوم، ومن بعد كل تلك التجارب والمآسي التي عاشها الشعب الفلسطيني، قرر بوعي أن لا بديل عن مواصلة الثورة والمقاومة المسلحة، فكانت انتفاضة الأقصى وتطويرها إلى مقاومة شعبية مسلحة بمنزلة الخيار العملي الواقعي والممكن، والأقل خسارة والأقصر زمناً في إطار الدفاع عن النفس وتحرير الوطن، ودفاعاً عن التاريخ والحضارة والهوية، ودفاعاً عن حاضر ومستقبل أجيالنا.
نجحت الانتفاضة في خلق الكثير الكثير من الحقائق والوقائع الجديدة غير المسبوقة، فاهتز الأمن الصهيوني، وسقطت أسطورة التفوق العسكري والتقني، وانعكست الهجرة إلى الخارج، وتقدمت آليات الاختلال بالتوازن الديمغرافي، وانهار الاقتصاد الصهيوني بجميع قطاعاته، وبدأت انعكاسات الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية تتجلى بأزمات سياسية مفتوحة، وبحالة من القلق والانقسامات، وتصاعد التوترات داخل بنية الكيان الصهيوني وتكتله الهجين، وتولدت مع الانتفاضة والمقاومة الأسطورية مرحلة عربية جديدة، سمتها نهوض حالة عداء عربية شعبية عارمة ترفض قبول الكيان وترفض التطبيع والتعايش معه، تأكيداً لمصداقية ما طرحته حركة فتح في منطلقاتها بأن "الصراع مع هذا المشروع الصهيوني هو صراع تناحري لدى الطرفين ولا أنصاف حلول بينهما".
وانهارت كذلك الرهانات على أميركا-لمن راهنوا عليها-التي توضحت حقيقتها عدواً مباشراً للأمة العربية، وشريكاً أساسياً واستراتيجياً للعدو الصهيوني ودوره العدواني على الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية في إطار الاستراتيجية الأمريكية، الإقليمية والكونية.
وتصاعدت التناقضات بين أطراف النظام الرسمي العربي وفي بنيته، وبينه وبين قطاعات جماهيرية واسعة، وبات بعضه مستهدفاً من قبل المشروع الأمريكي -الصهيوني الذي يفترض أن تغيير هياكل المنطقة وخرائطها بات شرطاً واجباً لتصفية الانتفاضة والمقاومة في فلسطين، من أجل تكريس الهيمنة على الوطن العربي وثرواته وموقعه الاستراتيجي، والعمل بكل الوسائل على تفتيت الدول العربية الرئيسية، كشرط أساسي لبناء شرق أوسط جديد، يكون للكيان الصهيوني الدور القيادي والرئيسي فيه.
لكن الانتفاضة بما هي حقيقة استراتيجية حاكمة للتطورات، نزعت من يد العدو الصهيوني والأمريكي القدرة على المبادرة، والتفرد في صياغة التحولات والتطورات، وجعلت من اليد الصهيونية يداً مكسورة عاجزة عن تحقيق ما تصبو إليه، فأسقطت تكتيكات العدو السياسية واستهلكت المناورات والمبادرات السياسية السلمية والتفاوضية العالمية والعربية، وأعجزت الأدوات العسكرية عن تحقيق أي من أهدافها وسيناريوهاتها.
نجحت الانتفاضة بالتعامل مع كل مرحلة وتطورت بما يناسبها، ونجحت في ابتداع أساليب ووسائل جديدة، أخرجت العدو عن طوره وأفقدته زمام المبادرة، وأصبح الكيان بجيشه، وتجمعه الاستيطاني العنصري مأزوماً وعاجزاً عن توفير الأمن الجماعي والفردي لمستوطنيه، ما أثار عاصفة من النقاشات والدراسات عن مستقبل الكيان؟؟.. هل من إمكانية لاستمراره بعد؟.. أم إنها النهاية المحتومة؟.. هل هناك إمكانية لدولتين؟؟ أم إن البديل الواقعي الوحيد نموذج كتجربة المستوطنين في الجزائر وزيمبابوي؟ أم يكون الحل كنموذج جنوب إفريقيا؟..
وساد إجماع بين صفوف الصهاينة يساراً ويميناً، متديناً وعلمانياً، عسكرياً وسياسياً، باستحالة التعايش، وباستحالة الانتصار على الشعب الفلسطيني، فأخذ خيار التقوقع والانغلاق، والاحتماء خلف جدر إسمنتية وإلكترونية (الجدار الواقي) طريقه بقوة حاملاً معه تغييرات بنيوية تاريخية في دور ووظيفة الكيان الصهيوني الذي أنشئ من أجلها، فبدل أن تكون وظيفته هجومية تطويعية تتحكم في المسارات السياسية للعواصم العربية والإقليمية، بات مشغولاً بأمنه، يعيش حالة دفاعية، يستجدي دعماً أمريكياً وعالمياً، وينشد مساعدات من بعض الأنظمة العربية التي كانت محمية بقوة وقدرات الكيان الصهيوني.
الانتفاضة-الثورة تحولت عملياً إلى العنصر الاستراتيجي المحرك للتطورات في البنى العربية والإقليمية والدولية، فأعادت صياغة وطرح قضية فلسطين على حقيقتها، بأنها قضية وطنية قومية اجتماعية إنسانية عربية وإسلامية وعالمية، وبأنها قضية شعب اغتصبت أرضه، واحتل وطنه، وشرد منه، وأعادت الانتفاضة تعريف الحركة الصهيونية، على أنها حركة عنصرية استعمارية إحلالية، تقوم على التمييز العنصري والعدوان، وتهجير شعب لاحتلال أرضه، وكشفت بشكل قاطع طبيعة "الدولة" الصهيونية ونفاق قادتها والمروجين لها، باعتبارها "دولة" تمييز عنصري بامتياز، وثكنة عسكرية لها" دولة" تمارس الإرهاب وارتكاب المجازر، ويقوم على إدارتها قتلة ومجرمون تجب محاكمتهم دولياً.
ومع قدرة الانتفاضة على تجاوز الكثير من الأفخاخ من <<تقرير لجنة ميتشيل>>، و<<خطة تينت>>، والمبادرات العربية، إلى <<خارطة الطريق>>، واستمرارها متقدة، فقد نجحت في تحقيق الإنجاز أو النصر الثالث للأمة العربية في إطار صراعها مع العدو الصهيوني، فإذا كانت حرب تشرين1973 قد كسرت نظرية الحدود الآمنة، والمقاومة اللبنانية قد فرضت على الكيان الصهيوني ولأول مرة الانكفاء القسري عن أرض عربية محتلة دون قيد أو شرط، وأفقدته خاصية "التشبث بالهدف" فإن الانتفاضة المباركة أسقطت آخر قلاعه ونظرياته الأمنية تلك التي أطلق عليها <<العمق الاستراتيجي الآمن>> بحيث أصبحت كل فلسطين ساحة مواجهة موحدة أرضاً وشعباً، وجعلت أمن الشق اليهودي من المشروع الصهيوني هباءً، حيث أطاحت به الانتفاضة فأكدت ما كان يردده أبناء فلسطين على مر سنوات الصراع والكفاح، أن فلسطين لن تكون للصهاينة أرض اللبن والعسل، كما صورتها الدعاية الصهيونية، بل ستكون مقبرة للغزاة كما كانت لكل الغزاة عبر التاريخ، وجنة فقط لشعبها العربي الفلسطيني ولأمته العربية والإسلامية. لا سيما وأن الانتفاضة الباسلة وهي تواصل مشوار المقاومة والكفاح لا تدافع فقط عن عروبة فلسطين بل عن الأمة كلها وفي المقدمة منها العراق الشقيق الذي يتعرض لحملة أمريكية-غربية تستهدف تقسيمه لإخضاعه وربطه بالمصالح الإمبريالية، كما تستهدف تفريغه من رصيده من العلماء والخبراء لمنع أي نهضة علمية وامتلاك أي قطر من أقطار الأمة لأي أسلحة استراتيجية، لأن بمقدور ذلك أن يؤهلها لأن تكون في موقع يتناقض مع مصالح الأعداء الإمبرياليين والصهاينة في نهب ثروات أمتنا وفي المقدمة منها النفط، لأن امتلاكها لمثل هذا السلاح الاستراتيجي سيمكنها من الدفاع عن هذه الثروات.
لاشك أن الانتفاضة وهي تخوض غمار حرب التحرير الوطنية، تتكبد الخسائر الكبيرة، لكننا ندرك أن هذه الخسائر هي إتاوة للتاريخ وضريبة التحرر، لأن شعبنا يدرك بعمق وبوعي عالٍ أنه مهما بلغت الخسائر على درب تحرير فلسطين، فإنها تبقى أقل خسارة بما لا يقاس، من التنازل أو التفريط بذرة تراب من أرضنا المقدسة، أو الاعتراف بالغزاة الصهاينة المستعمرين العنصريين الذين يطمحون إلى تهويد فلسطين ومقدساتها.
ولا يضير الانتفاضة وشعبنا المبدع الخلاق، ما يتعرضان لـه من تشويش ومحاولة تشكيك وتحريض الكمبرادور السياسي والثقافي والاقتصادي الفلسطيني، الذي اندمجت مصالحه مع مصالح العدو الصهيوني تحت يافطة تهديد إنجازات أوسلو؟!! كلام لا يحتاج إلى مناقشة فهو يدين نفسه بنفسه.
في الجهد المتواضع المبذول لإعداد هذا الكتاب، محاولة لمواكبة حركة الشعب، وإبراز إنجازاته، والتعريف بحقوقه وثورته وانتفاضته، وإشهار تجلياتها الوطنية والقومية، والكشف عن إبداعاته النضالية والتعريف بمدرسته الكفاحية الجهادية، التي تقارب في أدائها وإنجازاتها، وفي القدرة على التحمل والتفاعل مع مختلف صنوف القهر والقتل والتدمير والاضطهاد حد المعجزات.
هذا الكتاب وغيره من المحاولات، تؤكد على أن دماء الشهداء، وأنين الجرحى، وصمود المعتقلين، وعذابات الأمهات، وصرخات الأطفال، لا يمكن أن يحيط بقدرتها وبإبداعاتها وبنتائجها كتاب، ولا مجلدات، فحركات الشعوب وتضحياتها لا ثمن يوازيها، ولا عمل يرتقي إلى مستواها، سوى نيل الحرية والاستقلال، وإنجاز التحرير والعودة المظفرة إلى أرض الآباء والأجداد والتنعم بخيراتها وبمناخها، وتنشق عبيرها مع نسائم روضها وجبالها الشامخة وبحرها الجميل.
والكتاب يستعرض ذلك على مدار أحد عشر فصلاً، كما يتضمن خاتمة من استخلاصات ومهام أراها ضرورية، وتندرج في باب التأكيد على إنجازات الانتفاضة، والإمكانيات المتوفرة للارتقاء أكثر فأكثر بفاعلتيها حتى تحقيق الهدف المرحلي الراهن المتمثل بطرد الاحتلال وكنسه عن الضفة الغربية والقطاع، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس وتجسيد حق العودة، دون قيد أو شرط، ودون التنازل عن أي حق من كامل حقوقنا التاريخية في فلسطين.
انتفاضة الأقصى.. جدلية الانتفاضة والنهضة..
في خضم محاولات البحث عن مخرج لأزمة الواقع العربي المتردي في بؤسه، المتهالك في بنائه، حد التداعي، في أعقاب حرب الخليج الثانية، تركزت الأنظار، وتقاطعت الأفكار عند ضرورة الدعوة إلى إطلاق وبلورة مشروع نهضوي عربي جديد، يجابه التحدي الصهيوني، ويعيد الأمة إلى مسرح السياسة العالمية كذات حية وفاعلة، بدل أن تكون أسيرة لمخططات جهد الفكر الأمريكي-الصهيوني على مدى عقود الصراع المحتدم، ليتسنى لـه لفظ الفردية خارج التاريخ والوجود، بحيث تتحول الجغرافيا السياسية الحالية للوطن العربي إلى كيانات طائفية ومذهبية، وإثنية، وقبلية، متناثرة متنافرة، متصارعة، تكون متماهية في الطبيعة، والهوية، مع الكيان الصهيوني، بحيث لا تجد فكاكاً من حتمية التمحور حول الكيان الصهيوني، وتحقق لـه غايته المرجوة في التحول من كيان طارئ على الجغرافيا والتاريخ إلى كيان أصيل في الجغرافيا والتاريخ، وتصبح جغرافيتنا العربية طوع بنان خرافاته، وأساطيره التوراتية والتلمودية؟!، ومن ثم يصبح مصير العالم بيد الصهيونية، وهذه حقيقة التفت إليها مبكراً ومنذ البدايات الأولى للمشروع الصهيوني، المفكر العربي نجيب عازوري عام 1905 في كتابه" يقظة الأمة العربية" حين قال: "إن ظاهرتين هامتين متشابكتي الطبيعة، بيد أنهما متعارضتان، لم تجذبا انتباه أحد حتى الآن، تتفتحان في هذه الآونة في تركيا الآسيوية، أعني يقظة الأمة العربية، وجهد اليهود الخفي لإعادة تكوين مملكة (إسرائيل) القديمة على نطاق واسع، ومصير هاتين الحركتين هو أن تتعاركا باستمرار حتى تنتصر إحداهما على الأخرى، وبالنتيجة النهائية لهذا الصراع بين هذين الشعبين اللذين يمثلان مبدأين متضاربين، يتعلق مصير العالم بأجمعه"(1). وترديدنا لهذه المقولة، لا يحجب أبداً ملاحظاتنا عليها، وهي أنها لم تكشف عن الجوهر الحقيقي للصهيونية فحسب، بل وساوت بينها وبين اليقظة العربية من حيث الطبيعة، إذ لم تر أن" يقظة الأمة العربية" ما هي إلا شكل من أشكال حركة التحرر السياسية والاجتماعية في مواجهة الاستعمار، والحركة الصهيونية كشكل من أشكال الوجود الاستعماري في المنطقة العربية(2)، ولعل هذا ما يفرض علينا تثبيت رؤيتنا وفهمنا لمعنى النهضة المقصود، سواء في بعده المعجمي أو الاصطلاحي التاريخي، أو في تنوع تجلياتها الموضوعية، بتنوع الخبرات التاريخية، إنها التغيير الكياني الجذري الشامل النابع أساساً من الذات المجتمعية(3).
وعلى الرغم مما آثاره وما زال يثيره فيض النقاش والجدل المحتدم حول ضرورة إطلاق وبلورة المشروع النهضوي العربي الجدي من ارتياح، كونه يعبر عن وعي تاريخي بدأ يظهر برفض الخضوع والاستسلام للقدر الأمريكي-الصهيوني، ويعبر عن نزعة الانعتاق والتحرر منه، إلا أنه بقي محصوراً في فضاء الفكر والثقافة، وجمهور المثقفين، ولم يجد لـه مسرباً إلى حامله الاجتماعي (قوى الأمة)، ليوفر لـه نقطة انطلاق، ولحظة تأسيس فعلية، تضع المشروع النهضوي على سكة الإقلاع، وتزيح من سوق التداول المخططات المضادة، الشرق الأوسط الجديد، المثلث الذهبي، وتقضي تنحية الكمبرادور الثقافي في الوطن العربي إلى زوايا النسيان والموت المعنوي، إذ لا يستقيم أبداً وجود هؤلاء مع تحفز الأمة للنهوض لما مارسوه، ويمارسونه من أدوار في خدمة المعسكر المعادي، من خلال إشاعة ثقافة الاستسلام والتطبيع، وإخضاع الأمة لمقولات المعسكر الإمبريالي-الصهيوني، ومن ثم الدعوة إلى التعامل مع الواقع القائم كقدر لا راد له، وبالتالي ضرورة التخلي عن الأحلام الوطنية والقومية، كونها أحلام لا مكان لها في "النظام العالمي الجديد" ولا خيار إلا أن نقبل وفق رؤيتهم، بما يمنحه النظام الأمريكي المعولم.
وهكذا بدل أن تقرأ الهزائم والنكسات بمنطق التاريخ، حيث هي من طبائعه، تغدو هي النهاية، وهو أمر يدحضه-بالطبع-التاريخ الإنساني، والتاريخ العربي، إذ لا يمكن أن تتحول حادثة طارئة أو مرحلية، إلى حقيقة ثابتة، مهما كانت قوتها على الواقع، فندوب الأحداث والمآسي على جسد التاريخ لا يمكن أن تصادر الزمن الآتي، وكأنها خاتمة، أو نهاية التاريخ، إذ إن موجات الفعل الإنساني تحطم هذه النهايات وتتجاوزها، وتفتح التاريخ إلى آفاق، واحتمالات، تفوق في بعض الأحيان تصور أكثر المتفائلين به، وتجعله دائماً وأبداً إمكانية تنتظر الفعل البشري الحي، لكي تتكرس واقعاً، والتاريخ الإنساني مليء بالأمثلة والشواهد الدالة على نكبات أمم وشعوب على يد المستعمرين، لكنها أقصت سطوة الفكر القدري للاستعمار الذي يشل إرادتها، وقبضت على زمام المستقبل، لأنه الأهم، حسب قول الفيلسوف الألماني فيخته: "الغد أهم من اليوم، لا سيما أن زمام اليوم قد خرج من أيدينا، وما نملكه الآن هو الغد وحده، فيجب علينا أن نبذل كل ما نستطيع من جهد لتحسين هذا الغد، وفي هذا الصدد أسترشد بقول هنري فرينان، أحد قادة المقاومة الفرنسية البارزين:"إن حكومة بيتان كانت ظرفاً ساد فيه الجنون، لقد هزمنا عسكرياً أمام الألمان، إن ذلك صحيح لسوء الحظ، لكنه ليس سبباً كافياً يدعونا لأن نقبل كحقيقة ثابتة ما هو حادثة عرضية، لقد كان قبول التعامل مع ألمانيا هو الهزيمة ذاتها، السلاح ينهزم، وهنا (الحادثة)، وإذا انهزمت الإرادة فهناك النهاية(4)"، بذلك تحررت فرنسا، وكان وراء ذلك حلم، المشروع القادر على تصور المستقبل، وبالتالي طلب الممكن كله، إذا وضعت الإرادة كلها في خدمته، وذلك هو جوهر المشروع السياسي(5)، وليس المثل الفرنسي وحده ما يحضرني، فهناك مثل ينطوي على صورة أكثر مقاربة لواقعنا العربي الراهن، سواء في سيادة التشتت والتجزئة، أو لجهة الوقوع تحت الاحتلال، من غير أن نغفل الاختلاف في السياقات التاريخية وطبيعة الصراعات، وهذا المثل هو حال ألمانيا مطلع القرن التاسع عشر، حيث كان وجود ألمانيا كأمة وكيان موضوع تساؤل، حتى إن أحد الكتاب قال:" ما هي ألمانيا؟.. وأين هي؟".. ليجيب:" إنها خيال واهٍ لا وجود لـه إلا في عالم الأحلام، التي يتغنى بها الفلاسفة ويتغنى بها الشعراء"، ويبدو أن تلك النظرة اللاتاريخية سقط فيها أكبر الفلاسفة الألمان آنذاك فريدريك هيغل حينما قال في أعقاب هزيمة ألمانيا على يد جيوش نابليون بونابرت في معركة(يينا-1806) بـ(نهاية التاريخ) فقد كانت ألمانيا آنذاك، وبالتحديد في العقد الأخير من القرن الثامن عشر مقسمة إلى(360) وحدة سياسية مستقلة بعضها عن بعض، استقلالاً مطلقاً، نزل العدد إلى 248 عام 1803 وإلى 39 عام 1805 ثم إلى 25 عام 1871 وذلك قبل أن تصل إلى وحدتها، وفي الوقت نفسه كانت أشقى ضحايا حروب نابليون، ففي موقعة يينا 1806 هزم بروسيا وفرض عليها شروطاً قاسية، وفصل أكثر من 50% من أرضها، وفرض عليها رقابة مالية باهظة، ومرهقة، ورقابة عسكرية صارمة، حتى إنه اشترط على بروسيا في معاهدة (تالزيت 1807) ألا يزيد عدد أفراد جيشها عن 242 ألف جندي، كما احتفظ لنفسه بحق مراقبة الجيش المذكور للتأكد من مراعاة هذه الشروط، كما جعل من ألمانيا الشمالية قاعدة للاستعدادات العسكرية التي كان يقوم بها لغزو روسيا، فضلاً عن تجنيده عدد كبير من الألمان استخدمهم في حروبه، وقد بلغ عدد من جندهم نابليون مئات الألوف، ويقدر عدد الضحايا منهم بأكثر من 150 ألف جندي(6)، وثمة شعوب أخرى أيضاً عانت من الظروف نفسها، وقدمت الكثير للتخلص من نير الاحتلال، وتجاوز مآسيها، ففي الحرب العالمية الثانية مثلاً وقعت اليونان في قبضة الاحتلال النازي، وعاشت مأساة على الصعد كافة الوطنية والاجتماعية، حتى إنه كان يجمع صباح كل يوم 100 جثة من شوارع أثينا من ضحايا سياسة التجويع الألمانية(7)، وحسبنا ثورة الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، فهذه الثورة التقطت هزيمة المستعمرين في (ديان بيان فو) على يد الثوار الفيتناميين، التي أظهرت أن هزيمة فرنسا ممكنة، وبالطبع حولوا هذه الإمكانية إلى واقع، ولم تتمكن سلسلة المجازر الفرنسية من مصادرة هذه الإمكانية وتحقيق الانتصار دون التنازل عن ذرة من تراب الجزائر الممزوج بدماء مليون ونصف مليون شهيد جزائري فترة الثورة من عام 1954-1962 ودماء الملايين الثمانية طوال عهود الاستعمار الفرنسي، وتحررت الجزائر، تلك الحقائق ربما تختزلها عبارة السياسي الإنكليزي العجوز الراحل ونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية: "إنني اعتقد أن الأمم التي تقع دفاعاً عن أوطانها تنهض مرة أخرى، وأما الأمم التي تستسلم فلن تقوم لها قائمة".
ومثل أحلام الأمم والشعوب، كان حلمنا، فمن رحمه ولدت وانبثقت نقطة الانطلاق، ولحظة التأسيس الفعلية للمشروع النهضوي العربي الجديد، وراحت ترتسم معالم تجسدها واقعاً معاشاً، وذلك بانتفاضة الأقصى المباركة، ومقدمها الانتصار اللبناني العظيم في الرابع والعشرين من أيار العام 2000، قبل أربعة أشهر وبضعة أيام من اندلاع الانتفاضة المباركة يوم الثامن والعشرين من أيلول العام ذاته، حيث أعادت عبقرية الشعب الفلسطيني المستندة إلى إرث كفاحي ملحمي على مدار قرن ونيف، منذ أن وطأت الغزوة الصهيونية أرض فلسطين، وإلى وعي جمعي، أيضاً، يكتنز تجارب الأمة عبر تاريخها، أعادت البعد التحرري للمشروع النهضوي العربي الجديد، إذ بدون أن يتحقق هذا البعد، لا يكون ثمة مجال للنهضة فكراً وفعلاً، كما تتوقف الجدلية الحاكمة للتاريخ العربي، جدلية السقوط والصعود، عند حدها الأول، فالاستعمار دائماً هو المجهض لكل مشاريعنا النهضوية وفي اللحظة التي نتحرر منه ينهض مشروعنا النهضوي العربي الجديد، وعلى سبيل المثال، أجهضت حملة نابليون بونابرت على مصر خلال أعوام1798-1801 نهضة جنينية ذات جذور تراثية، ومجتمعية، وعلاقات اقتصادية متنامية تتسم بالطابع الرأسمالي التجاري، تمتد من المستوى الداخلي إلى المستوى الخارجي الدولي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، كما كانت تتسم بتوجهات ثقافية، أخذ يتنامى فيها طابع الاستنارة العقلية، ويرى الأستاذ محمود أمين العالم أن النهضة التي تحققت في مرحلة محمد علي فيما بعد بمستوى أو بآخر، ما كان لها أن تنجح بفضل ما تركته الحملة الفرنسية وراءها من أثار حضارية أو باستحضار محمد علي لبعض الخبراء الغربيين، أو بإرساله لبعض الدارسين إلى أوروبا، ما لم تكن هناك جذور نهضوية جنينية اقتصادية، واجتماعية، وثقافية، استندت إليها هذه النهضة، بل لعل محمد علي نفسه ما كان يمكن أن يتولى حكم مصر، بغير اختيار مختلف القوى في المجتمع المصري آنذاك من شيوخ وعلماء وتجار وأعيان وقوى شعبية، كانت تمثل قوى النهضة الكامنة والنشطة معاً، والتي ما أكثر ما قاومت الحملة الفرنسية، بل وفرضت محمد علي على الباب العثماني، تعبيراً عن مصالحها، واستقواء به في معركتها ضد المماليك(8)، وكانت العوامل الأساسية في إجهاض النهضة الجنينية ثلاثة هي:
الخسارة البشرية الكبيرة التي منيت بها مصر جراء حملة نابليون، حيث قدرت بـ(300ألف شهيد)(9).
تقطع حبال العلاقات الاقتصادية الممتدة من المستوى المحلي إلى المستوى الخارجي في منطقة البحر الأبيض المتوسط، من جراء الحصار البري والبحري الذي فرضه الأسطول البريطاني والدولة العثمانية.
الغرامات المالية الباهظة التي استنزفت السيولة المالية لدى
المصريين(10).
إذ لولا تحرر مصر من الحملة الفرنسية، ونجاح المقاومة الشعبية المصرية لاحقاً في إلحاق الهزيمة بقوات الاحتلال البريطاني في معركة رشيد عام 1807، لما تحققت النهضة المصرية في عهد محمد علي، وهذا ما ثبت بالدليل القاطع لاحقاً، إذ أجهضت هذه النهضة حينما ألحقت قوات التحالف الاستعماري الغربي الهزيمة بمصر عام 1840.
وحتى النهضة الثانية، المعاصرة، بقيادة جمال عبد الناصر، أو ما عرف بالمشروع الناصري، فقد ولدت في سياق الصراع مع الاستعمار، وأخذت تتكرس مع طرده من الأرض المصرية، ومثلما جرى سابقاً حيث تمت الإطاحة بهذه التجربة من قبل الاستعمار الغربي عبر وكيله في المنطقة الكيان الصهيوني واستطالاته المحلية قوى الردة الساداتية!. والشعب الفلسطيني يعيد تأكيد وإنتاج تلك البداهة التاريخية، حيث إن المقاومة هي اللحظة المؤسسة الفعلية أو نقطة الانطلاق الحقيقية للمشروع النهضوي العربي، واللحظة المتدفقة، اللحظة التي تطيح بالحطام الذي عشناه عقوداً طويلة.
لقد جاءت اللحظة، وما علينا إلا أن نمسك بها، ونجعل منها أفقاً مفتوحاً، يتدفق باتجاه فلسطين العربية الحرة، لأن الانتفاضة والنضال من أجل تحرير فلسطين هي بحق المدخل إلى المشروع النهضوي العربي. فهي مفتاح المستقبل العربي، ودون نصرتها ودفعها نحو تحقيق أهدافها في كنس الاحتلال وطرده من أرض فلسطين، نكون قد سلمنا بالقدر الأمريكي-الصهيوني، وضيعنا فرصة هي أعظم ما جادت به عبقرية الشعب الفلسطيني في نضاله لتحرير وطنه وخدمة أمته، لتستعيد دورها على مسرح السياسة الإنسانية، نقول ذلك ونؤكد عليه، لا من باب الشكوى، ولا توسلاً، لكن تذكيراً بوحدة المصير، وبمكانة الشعب الفلسطيني كخندق متقدم في الدفاع عن الأمة وجوداً وآمالاً ومستقبلاً، وبالتالي قرعاً لجدار الخزان العربي الذي سبق أن قرعه شاعرنا الشهيد عبد الرحيم محمود عام 1935 في هذه الأبيات مخاطباً الأمير سعود بن عبد العزيز ولي العهد السعودي آنذاك حين زار فلسطين في آب 1935 حيث قال وهي أروع ما كتب:
ضمت على الشكوى المريرة أضلعه
يا ذا الأمير أمام عينيك شاعر
أم جئت من قبل الضيـاع تودعـه
المسجد الأقصى أجئت تزوره
دمـع لنـا يهمي وخـد نقرعـه
وغداً وما أدناه لا يبقى سوى
بالطبع هناك مدرسة تحاول أن تجعل من العامل الذاتي العربي، بما فيه من تأخر وتخلف، العامل الأساسي وراء فشل المحاولات النهضوية العربية سواء في تجربة محمد علي، أو جمال عبد الناصر، وتنحي العامل الخارجي وتجعله عاملاً ثانوياً، في أفضل الأحوال، لكنها في العموم تعتبر الاستعمار هو من أيقظنا من سباتنا، وهز تأخرنا، وهي تسترشد في دعم رأيها بالتجربة النهضوية في اليابان، التي بدأت مع تجربة محمد علي، وكيف واصلت طريقها ووصلت إلى أهدافها، ويقيني أن ذلك ليس بالمثل الصالح، فالتجربة اليابانية حالة فريدة، ووحيدة تدرس لذاتها، ولا شيء غير ذلك على الإطلاق لأسباب كثيرة يبينها ما يلي(12):
1- اليابان جغرافياً على حافة الدنيا، بعيدة عن قلب العالم، ومحاطة بالبحر، فهي بعيدة وآمنة، أما مصر فهي على قارعة الطريق إذا جاز التعبير.
2- نتيجة لهذا الوضع الجغرافي لم تصطدم اليابان بمواقع السيطرة المؤثرة في التاريخ البعيد، ولا في التاريخ الأقرب منه، وأما مصر والعرب، فقد كانوا على طريق الغزوات، والحملات، والاصطدام المباشر بكل وسائل الصدام على مر العصور.
3- إن اليابان، نتيجة ما سبق، كان لديها "الوقت" كانت لديها الفرصة لنمو لا تعوقه عوائق، ولا تعترضه أسباب من خارجها، على النقيض من مصر والعرب.
4- إن اليابان عندما أرغمت على فتح أبوابها للتجارة أمام سفن "الكوماندوربوي" لم تقتحم بالكامل، ولا استبيح كامل ترابها، وتراثها، بل أرغمت على أن تفتح الأبواب، وقد فتحت الأبواب وهناك فارق كبير بين باب مفتوح، وباب مقتحم، مصر والعرب تعرضوا للاقتحام.
5- إن التراكم الاقتصادي الياباني، وحتى التراكم الثقافي والفني لم يتعرض لتزييف مستمر متصل مثل الذي تعرضت لـه الأمة العربية، وإنما بقي لليابان ما صنعه شعبها اقتصادياً وثقافياً وفنياً، فلم يكن هناك انقطاع ولا كانت هناك عزلة.
6- إن المجتمع الياباني لم يخترق فكرياً وسياسياً، كما حدث لمجتمعاتنا وكلها مخترقة إلى صميمها.
7- إن المجتمع الياباني كانت لـه حرية الاختيار المفتوح سواء في الأفكار والاجتهادات، والنقل والتطوير والتقليد والتجديد دون عوائق أو روادع، مثلاً إن نظم التعليم الحديث في اليابان لم تعرض على المجتمع الياباني، ولا تولى وضعها لـه غريب، كما حدث في مصر، حيث وضع إنجليزي هو المستر<<أنلوب>> نظام تعليم ما لبث أن امتدت مؤثراته من مصر إلى بقية الأمة العربية.
ابو خالد العملة
المصادر:
1-محاولة في قراءة عصر النهضة، د. أحمد برقاوي، دار الرواد، ط 1988، ص 118.
2-المصدر نفسه.
3- مجلة النهج، العدد (ربيع 1988)، محمود أمين العالم، إمكانيات الانتقال إلى نهضة ثالثة.
4-السفير(1-11-2001)، السياسة بين الحلم والإرادة محمد حسنين هيكل.
5- المصدر نفسه.
6-محاضرات في نشوء الفكرة القومية، ساطع الحصري.
7-الماركسية وحرب العصابات، ترجمة ماهر كيالي، إبراهيم العابد، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 2، لبنان 1987، ص 116.
8- النهج، مصدر سبق ذكره.
9-العربي المصرية، العدد 253(16-2-1998) جلال عارف.
10-لمزيد من الاطلاع، راجع مجلة الهلال المصرية، ل 2، 1998، مصر عام 1790 يوسف جريس.
11- نقلاً عن يوميات أكرم زعتر، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ط1، سنة 1980، ص5 .
12-زيارة جديدة للتاريخ، محمد حسنين هيكل، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط2 1985، ص34 -35-36.
5 من الزوار الآن
916830 مشتركو المجلة شكرا