الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الثقافة الجماهيرية > حركات التحرر الوطني في ضوء القانون الدولي
المقدمة:
تبرز مسألة لجوء الشعوب الى حركات التحرر الوطني لتحقيق حقها بتقرير مصيرها ، عبر الدور الذي تلعبه حركات التحرر في المجتمع الدولي و المكانة التي تحتلها في القانون الدولي العام.
إن عودة قضية حركات التحرر الوطني على الساحة الدولية من جديد متعلقة بشكل مباشر بالمتغيرات التي حصلت في هذا المجتمع وذلك من جراء تفكك الإتحاد السوفياتي والخلل الذي نتج عن هذا التفكك في ميزان القوى العالمي، وخاصةً في الصراع القائم بين قوى التحرر في العالم وحلفائها الدول الاشتراكية السابقة والحركات الثورية والتقدمية في العالم الرأسمالي من جهة والإمبريالية من جهة ثانية.
إن تغيير ميزان القوى الدولي لصالح الإمبريالية على الساحة السياسية الدولية لابد له إلا وأن ينعكس على كل القضايا المرتبطة بهذا الصراع، وخاصةً على القانون الدولي العام، مما يطرح من جديد أسئلة عديدة أهمها :
- ما هو الوضع القانوني لهذه الحركات التحررية؟
برز مؤخراً خطاب يطرح إشكالية العلاقة بين المقاومة والإرهاب ، فما هي أهداف هذا الخطاب؟ ولماذا الآن؟
كما إن كل الإشكاليات المتعلقة بموضوع المقاومة وحركات التحرر في ضوء القانون الدولي العام هي إشكاليات لا يمكن عزلها عن الأزمة التي يعاني منها القانون الدولي العام نتيجة الهجمة الأميركية على مبادئه الأساسية .
بدايةً لابد من التأكيد على ان الحديث عن المقاومة وعن حركات التحرر الوطني وعن حق الشعوب في تقرير مصيرها كان لا يمكن ان يحصل لولا وجود الاحتلال والاستيطان ووجود أنظمة عنصرية بطبيعتها، فمبرر وجود حركات التحرر الوطني والمقاومة هو الاحتلال ذاته، فالاحتلال هو الفعل والمقاومة هي ردة فعل، لذلك فإن مقاومة الشعب الفلسطيني وانطوائه تحت راية حر كة التحرر الوطني مرتبطة إرتباطاً مباشراً بالنكبة وبنشوء الكيان الصهيوني وإذا كانت المقاومة الفلسطينية نشأت قبل النكبة إلا ان نشوء هذا الكيان حول مقاومة الشعب الفلسطيني ليس فقط الى مقاومة تعمل الى تحرير الأرض من الاحتلال انما ايضاً الى حركة تحرر وطني تمثل الشعب الفلسطيني بأكمله وحاملة آماله في بناء دولة فلسطينية عليها.
وعليه فإن حق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها باللجوء الى استعمال القوة المسلحة كأسلوب لتحقيق هذا الحق يعتبر أمراً طبيعياً ومشروعاً وخاصةً بعد ان حرّم القانون الدولي العام الإحتلال والعدوان.
وهذا ما جاء به ميثاق الأمم المتحدة في الفقرة الرابعة من المادة الثانية منه التي حرمت ليس فقط استعمال القوة وإنما ايضاً التهديد بها في العلاقات بين الدول.
وقد أكد على ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2625 والمتعلق بإعلان مبادئ القانون الدولي المتعلقة بالعلاقات الودية بين الدول، والذي جاء فيه على أنه واجب على كل دولة "الإمتناع في علاقاتها الدولية عن التهديد في استعمال القوة او استعمالها ضد السلامة الاقليمية او الاستقلال السياسي لأية دولة، او على اي نحو آخر يتنافى مع مقاصد الأمم المتحدة"، كما أن القرار يعتبر أيضاً بأنه "واجب على كل دولة الامتناع عن التهديد باستعمال القوة واستعمالها لخرق الحدود الدولية القائمة لدولة أخرى"، وفيما يتعلق بالاحتلال اعتبر القرار انه " لا يجوز إخضاع إقليم اي دولة للاحتلال العسكري" كما انه " لا يجوز اكتساب اقليم اي دولة من قبل دولة اخرى..".
أولاً : حق الشعوب بتقرير مصيرها قاعدة آمرة في القانون الدولي jus) cogens )
كل شعوب العالم لجأت في تاريخها الى المقاومة المسلحة بهدف الدفاع عن بلادها وإستقلالها وحريتها.
ان المقاومة المسلحة التي تلجأ اليها الشعوب تعتبر جزءاً اساسياً من الإرث الإنساني العالمي.
إلا ان نضال هذه الشعوب ضد الاستعمار والاحتلال كان ولمدة طويلة يعتبر نزاعاً داخلياً ولا يعتبر صراعاً دولياً، ويعود السبب في ذلك في كون الدول الاستعمارية كانت ترفض الاعتراف لهذه الشعوب بحقها في المقاومة.
لذلك انتظرت الانسانية نهاية الحرب العالمية الثانية حتى ينتزع رجال المقاومة العسكرية حقهم ومكانتهم في القانون الدولي العام.
وذلك مع صدور إتفاقيات جنيف عام 1949 وخاصةً في المادة الرابعة فقرة (ألف) البند الثاني من الاتفاقية الثالثة التي خصصت للمقاومة ورجالها.
ان هذا التحول في القانون الدولي العام يعود السبب الأساسي فيه هو ان بعض الدول الأوروبية الإستعمارية وجدت نفسها تخضع للاحتلال العسكري المباشر لها أثناء الحرب العالمية الثانية بينما كانت في الوقت ذاته تستعمر دول وشعوب أخرى.
هذا بالنسبة الى المقاومة، اما بالنسبة الى حركات التحرر وحق الشعوب بتقرير مصيرها، فإن هذا الحق في الأساس قديم جداً أكدت عليه الثورة الفرنسية عام 1789، وقد جاءت مساهمة لينين في ما بعد لتضيف على هذا المفهوم بعداً نظرياً وعملياً.
إلا ان التطور الأساسي فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها جاء في النضال الذي خاضته هذه الشعوب في القرن الماضي ضدّ الاستعمار بالتضامن مع الدول الاشتراكية وقوى التحرر في العالم، فرض هذا النضال نفسه على صعيد القانون الدولي بإنشاء وضع قانوني خاص لهذا النضال باعتبار النزاع الذي تخوضه حركات التحرر ذو طابع دولي.
فالمؤتمر الدولي المنعقد في طهران عام 1962 بمناسبة عشرين عاماً على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كان قد أوصى بضرورة توسيع إطار تطبيق قانون حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة على كل النزاعات العسكرية. وبعد عامين فقط على هذا المؤتمر طالبت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعطاء إهتمام خاص لحماية المدنيين والمقاتلين أثناء النزاعات العسكرية التي تخوضها حركات التحرر ضد الاحتلال والاستعمار، والذي أدى بدوره الى صدور قرار عن الجمعية العامة عام 1973 يعلن فيه ان النزاعات المسلحة التي تناضل الشعوب فيها ضد الهيمنة الإستعمارية والأجنبية، يجب ان تعتبر نزاعاً مسلحاً دولياً بمفغهوم اتفاقية جنيف 1949.
جاء هذا القرار ليعطي دفعاً قوياً لخبراء القانون الدولي الإنساني الذين صاغوا البروتوكول الأول الإضافي لاتفاقيات جنيف فأحدثوا ثورة في القانون الدولي العام وذلك حين اعتمدوا المادة الأولى من هذا البروتوكول والتي تعتبر بأنه تنطبق على الأوضاع التي نصت عليها المادة الثانية المشتركة لاتفاقيات جنيف.... وان ذلك "يتضمن ... المنازعات المسلحة التي تناضل بها الشعوب ضد التسلط الاستعماري والاحتلال الأجنبي وضد الأنظمة العنصرية وذلك في ممارستها لحق الشعوب في تقرير المصير"، كما كرسه ميثاق الأمم المتحدة والإعلام المتعلق بمبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الودية والتعامل بين الدول طبقاً لميثاق الأمم المتحدة ، وهكذا أصبح النضال الذي تخوضه حركات التحرر نضالاً يطبق به قانون النزاعات العسكرية التي تطبق بين الدول.
وهكذا وضع مبدأ حق الشعوب بتقرير مصيرها في إطاره العملي والقانوني، بحيث لم يعد مبدأً من مبادئ القانون الدولي فقط بل أيضاً حقاً يجب ممارسته عبر حركات التحرر الوطني.
يكتسب هذا التطور أهمية قصوى في القانون الدولي العام حيث انه شرّع لحركات التحرر باللجوء الى القوة المسلحة كأسلوب من أجل تحقيق أهدافها، كحالة مستقلة في القانون الدولي العام، كما هو الحال مع حق الدفاع عن النفس (المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة) وحق استعمال القوة من قبل مجلس الأمن (الفصل السابع)، ان هذا الحق أصبح حقاً أساسياً في القانون الدولي وله القوة الإلزامية القصوى. ويبرز ذلك من خلال:
1. ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات الدولية وخاصةً الفقرة الثانية من المادة الأولى من الميثاق التي تحدد من أهداف منظمة الأمم المتحدة تطوير العلاقات والصداقة بين الدول: (إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام.) والمادة 55 منه والتي أكدت على هذا النص بنص مماثل.
الفقرة الأولى من المادة الأولى من العهدين الدوليين متعلقان بحقوق الانسان والذين نصا على انه كل الشعوب لها الحق في تقرير مصيرها.
2. في ممارسات الأمم المتحدة، هناك الكثير من القرارات التي اتخذتها المنظمة الدولية واعتمدت بشكل شبه إجماع ونذكر منها قرار 1514 عام 1960 وكذلك قرار 3103 عام 1978، الذي اعتبر ان كفاح الشعوب لتقرير مصيرها هو كفاحاً مشروعاً يتفق مع مبادئ القانون الدولي العام.
3. قرارات وممارسات المنظمات الإقليمية، والمؤتمرات الدولية نذكر من اهمها إعلان الجزائر،الذي أعلن عن الإعلان العالمي لحق الشعوب وذلك عام 1976.
4. قرارات محكمة العدل الدولية التي أكدت على هذا المبدأ في أكثر من حكم نذكر منها قضية الصحراء الغربية وقضية ناميبيا وقضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة الأميركية، في المحكمة لم تؤكد فقط على هذا المبدأ بل اعتبرته حقاً من القواعد الآمرة من قواعد القانون الدولي العام.
بالرغم من ان حركات التحرر الوطني كما سبق وأشرنا بأنها قديمة جداً إلا إن اعتبار النزاع الذي تخوضه حركات التحرر نزاعاً دولياً جاء متأخراً في القانون الدولي العام .
فيما بعد تطور القانون الدولي بشكل سريع في حماية حركات التحرر حيث انه لم يكتفِ بالاعتراف بحق الشعوب بتقرير مصيرها وإنما أيضاً حرّم انتهاك هذا الحق وذلك بعد ان اعتبر قرار 3103 للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1972 بأن كل محاولة لقمع حق الشعوب بتقرير مصيرها تعتبر أمراً يتعارض مع ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي العام ، وقد أكد المشروع المتعلق بمسؤوليات الدول، الذي اتخذته لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة ، في مادته التاسعة عشر ان انتهاك حق الشعوب في تقرير مصيرها جريمة دولية.
ثانياً ً : راهنية نضال حركات التحرر والخطر المحدق في القانون الدولي العام
استغلت الولايات المتحدة الأميركية تفكك الإتحاد السوفياتي لكي تهدم كل الإنجازات التي فرضتها نضالات الشعوب في مرحلة ما سمي بالحرب الباردة، مستغلةً أيضاً هجمات 11 أيلول، لتشن حرب على حركات التحرربإسم محاربة الإرهاب وذلك بالضغط على المجتمع الدولي وعلى هيئات الأمم المتحدة وخاصةً مجلس الأمن.
إنه من الأكيد بأن هذه الأحداث لم تغيّر في شرعية نضال حركات التحرر ولا في شرعية المقاومة المسلحة لإزالة الإحتلال والإستعمار والأنظمة العنصرية، كون ان حركات التحرر والمقاومة لهما أهداف مختلفة تماماً عن المنظمات الإرهابية وكذلك أسلوب نضال مختلف بطبيعته أيضاً. فكما سبق وأشرنا بأن حركات التحرر لها أهداف تمثيل شعبها الذي يسمو الى الحرية والإستقلال وبناء الدولة وتحقيق الكرامة وحقوق الإنسان عبر إزالة الاستعمار والإستيطان والإحتلال والقضاء على العنصرية وأنظمتها .. ، وبالتالي فإن هجمات 11 أيلول الإرهابية لن تغيّر شيئاً في الطبيعة القانونية لحركات التحرر الوطني.
إن الخطر الحقيقي المحدق في القانون الدولي العام هو الهجوم الذي تشنه الإمبريالية الأميركية على هذا القانون، حيث إن المبادئ الأساسية التي يقوم عليها القانون الدولي العام والتي ترسخت بعد نشوء الإتحاد السوفياتي والذي شكّل قوة مناهضة للإمبريالية وداعمة لدول العالم الثالث، وداعمة لنضال الشعوب في العالم، كل ذلك أرسى مبادئ مهمة وتقدمية للقانون الدولي العام ترجمت في ميثاق الأمم المتحدة، ففي القرن الماضي كان القانون الدولي يستثني دول العالم الثالث (لأنها لم تكن موجودة أصلاً) والقانون الدولي كان يرعى العلاقة بين الدول الكبرى فقط أما الدول التي ننتمي إليها نحن الآن، فكانت تنعت بـ"الآخرين".
إن عدم العدالة والإستغلال الحاصلان على مستوى العلاقات الدولية وخاصةً نشوء الكيان الصهيوني وجرائمه المستمرة بحق شعبنا العربي في فلسطين المحتلة ولبنان، كل ذلك دفع البعض لرفض القانون الدولي العام كونه لا يحقق شيئاً ولا يفعل شيئاً ضد العدوان الإمبريالي.
نحن نعتقد بأنه يجب الدفاع عن هذا القانون وعن مبادئه كون هذه المبادئ جاءت لصالح الشعوب والمشكلة ليست فيها إنما في التطبيق الخاضع لميزان القوى السياسي، نذكر على سبيل المثال بعض هذه المبادئ التي يقوم عليها القانون الدولي العام: إحترام السيادة، عدم التدخل في الشؤون الداخلية، الحل السلمي لكل الخلافات الحاصلة بين الدول، عدم اللجوء الى القوة او التهديد بها، المساواة بين الدول، التعاون بين الشعوب في المجالات كافة، حق الدفاع عن النفس، حق الشعوب في تقرير مصيرها..الخ.
هل يجب الدفاع عن هذه المبادئ بالحفاظ عنها ام مهاجمتها؟
طبعاً انها مبادئ نبيلة تختزن نضالات الشعوب وتضحياتها و يجب التمسك بها، هل يمكن تصور العالم بدون هذه المبادئ؟ وبالتالي هل يمكن تصور العالم بدون الأمم المتحدة ومن سيستفيد من ذلك؟
ان الولايات المتحدة الأميركية تشن حرباً على هذه المبادئ وعلى هذا القانون، فهل نشنه معها؟
إن المجرم يحاول أن يجعلنا نصب غضبنا على القانون بدلاً من ان نصبه عليه، هذا ما تفعله الولايات المتحدة الأميركية.
لذلك، إن قضية الدفاع عن حركات التحرر الوطني وعن المقاومة والدفاع عن القانون الدولي العام، أصبحت قضية يجب أن نناضل من أجلها.
د. حسن جوني
8 من الزوار الآن
916820 مشتركو المجلة شكرا