الصفحة الأساسية > 1.0 اصدارات > حرب المستضعفين
تعريب : محمود سيد الرصاص
مراجعة : المقدم الهيثم الأيوبي
المؤسسة العربية للدراسات و النشر
الفصل الأول
ريح الثورة – الإرادة الشعبية هي مفتاح الاستراتيجية –
المواجهة بين المالكين والمعدمين – أوهام الانتفاضة المضادة –
حرب العصابات كامتداد للسياسة – الثغرات في درع الدول الحديثة
(لقد تجمع أكبر أسطول من الهليكوبتر في التاريخ – ثمان وسبعون طائرة هليكوبتر مسلحة بالصواريخ والرشاشات، وألف من مشاة الاقتحام – فوق قطاع بن كات الذي يسيطر عليه الشيوعيون. وكان يدعم هذا الأسطول أربعة آلاف من القوات الخاصة (رانجرز) والمجموعات المضادة لحرب العصابات. وكان على هذه القوات أن تحاصر أكبر قوة من الثوار الفيتناميين، تضم 1500 – 2000 رجل، كانوا قد هزموا قبل أسبوعين أربع كتائب حكومية في كمين تام الإحكام).
(وكان سر هذه العملية أقل الأسرار كتماناً خلال هذه الحرب. ففي سايغون، أنذر ضباط الاستخبارات المصورين من قبل عدة أيام، والنتيجة: أنه عندما وصلت القوات إلى القطاع كان معظم الثوار قد غادروه).
(التايم 21 آب 1964)
( انتشرت سريتان من الكوماندوس الفيتناميين الجنوبيين في حقل من الأعشاب الطويلة على بعد أربعين كيلومتراً شمالي سايغون، وكان مهمة هاتين السـريتين، تخليص مركز هاجمه رجال العصابات الشيوعيون، وتقدم الجنود بحذر وتوقفوا لاستراحة قصيرة في غابة من أشجار المطاط، ثم اندفعوا إلى حقل مكشوف، وتوجهوا نحو مجموعة من الأكواخ على بعد أربعمائة متر).
(وفجأة انطلقت أصوات أسلحة آلية، فسقط رجال وتفرق آخرون. وانبطح الملازم وليام ريختر، المستشار العسكري الأمريكي، وعندما رفع رأسه رأى الثوار الفيتناميين النظاميين بثيابهم الخضراء يتقدمون لإكمال المجزرة. فوقف على قدميه محاولاً إيجاد ملجأ، فتلقاه ثوار آخرون تحت نيرانهم المتقاطعة، فأصيب في فخذه وسقط، لكنه استطاع متابعة الزحف حتى الدغل. ولقد ساعده الناجون لمدة ستة ساعات، وأخذ يجر نفسه حتى وصل إلى قاعدته في بنه مي ولقد حالفه الحظ إذ مات خمسون من رجال الكوماندوس الحكوميين)،
وفي المعسكر قال الملازم: (لقد تركونا ندخل إلى المصيدة، وأغلقوا بابها وراءنا، ثم قاموا بمجزرتهم، وقد تركناهم يفعلون ذلك بدون حذر).
وقد عقب على ذلك أحد الضباط العظام الأمريكيين بقوله: " إنها القصة ذاتها دوماً "، وذلك حقاً ما يدور في فيتنام يومياً، مع تغيرات في التفاصيل والشدة. مراكز عسكرية تُقتحم، وموظفون يتعرضون للاغتيال، وقرى تحرق. هناك حقيقة حزينة لا بد من ملاحظتها: إن الشيوعين أدنى مرتبة في التسليح والفعالية، لكنهم يهزمون الجيش الفيتنامي الجنوبي المؤلف من أربعمائة ألف رجل، والذي يدعمه ويقوده سبعة عشر ألفاً من المستشارين الأمريكيين، والذي يتلقى عوناً يومياً من الولايات المتحدة الأمريكية يصل إلى مليوني دولار.
ستانلي كرنوف: (عدونا)
ساتردي ايفننغ بوست 22 آب 1964
تلك هي حرب العصابات: حرب المغاورين التي خاضها الأنصار الإسبان ضد جيوش نابليون، والتي أصبحت في زمننا هذا (شبه علم) سياسي عسكري، ونظرية اجتماعية ماركسية – لينينية ، وابتكاراً تكتيكياً في الوقت نفسه. لقد بدلّت علاقات القوى في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، وهي في طريقها إلى تدمير مفاهيم أركان حرب الدول الغربية، والتي أصبح همّها الرئيسي، والذي يتزايد يوماً بعد يوم، أن تفهمه وتكافحه وتحاربه .
لقد أصبحت حرب العصابات الظاهرة السياسية لمنتصف القرن العشرين، كما أنها الريح المرئية للثورة التي تحمل الأمل والخوف إلى قارات ثلاث. وفي اللحظة التي نحرّر فيها هذا الكتاب (1965)، نراها قائمة في حوالي عشرين بلداً، من أنغولا إلى العراق، ومن الأدغال الكونغولية إلى الأكواخ في ضواحي كراكاس. لقد أصبحت الهم الرئيسـي للبنتاغون، ولوكالة الاستخبارات المركزية، ولمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض. وهي تتخذ شكلاً يائساً غالباً ما يكون صامتاً في نصف كُرتنا، في غواتيمالا وفنزويلا وكولومبيا، وتهدد بالانتقال إلى الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وتؤثر بدون شك على فكر المناضلين السود من هارلم حتى أعماق الجنوب (الأمريكي)، كما يبرهن على ذلك استعمال (كوكتيل مولوتوف)، الذي أصبح سائداً في شوارعنا.
إنها تدمر في العالم بقايا الإقطاعيات والاستعمار التقليديين، وتستخدم حالياً قبل كل شيء، ضد الاستعمار الجديد وما يسميه الاصطلاح الماركسـي بالإمبريالية – أي السيطرة الاقتصادية والسياسية (وأحياناً العسكرية)– على الأمم الضعيفة الفقيرة اقتصادياً، من قبل الأمم الغنية القوية و المتطورة تكنولوجيا.
فهي في البلدان النامية تُحرّر الجماهير من قمع الطبقات المميزة والمركنتيلية، وقمع الأوليغارشية، والطغم العسكرية وقد يؤدي ذلك إلى وقوع هذه الجماهير تحت سيطرة الدولة الاشتراكية،
وهي من زاوية ما، سلاح قوي، سيف تحرير وطني وعدل اجتماعي، كما أنها من زاوية أخرى، وسيلة مدمرة وخطرة، تنمو وسط الفوضى والتوتر الاجتماعي والانفجار الاقتصادي والفوضى السياسية، وتحوّل الفلّاحين المسالمين إلى متعصّبين مسلّحين.
إنها تولّد انتماءات جديدة، ومواجهة جديدة للقوى تعادل عملياً الحرب الباردة، وهي متفوّقة عليها. إنها في جوهرها مواجهة بين (من يملكون) ومن (لا يملكون)، بين الأمم الغنية والأمم الفقيرة. إنها تعيد صياغة العالم الذي عرفناه وقد تقرر نتيجتها شكل المستقبل المتوقع وجوهره، ليس فقط على مسارح العمليات الحالية الواسعة والقائمة، بل و في كل مكان أيضاً.
ويمكننا أن نتساءل: ما هي حرب العصابات؟ ماذا نستطيع أن نفعل ضدها... أو معها؟ كيف نضع حداً لها أو كيف نستغلها؟ فهل هي شيء يمكن أن نستعمله على هوانا كأداة سياسية وطنية أو كوسيلة للنصر.
فحسب الكتابات الكثيرة التي ظهرت في غضون أكثر من عشرين عاماً، يمكن أن نطلق عليها اسم: الفترة التالية للاستعمار، يمكن وضع تعريف لحرب العصابات، ولكن هذا التعريف يطرح بدوره أسئلة لا بد من الإجابة عنها.
إن حرب العصابات، بالمعنى الواسع الذي نطلقه عليها، هي حرب ثورية ، تجنّد سكاناً مدنيين أو على الأقل جزءاً من السكان، ضد القوى العسكرية للسلطة الحكومية، القائمة شرعياً أو المغتصبة.
وتختلف الظروف من حالة إلى أخرى، فقد تكون السلطة أجنبية –وتمثل إسرائيل والجزائر مثالين جيدين– أو بالأحرى استعمارية، وبمقابلها كل السكان المحليين، تحت قيادة طليعة من المناضلين .
وفي حالة أخرى – جنوب فيتنام وكوبا مثلاً – نرى أن السلطة محلية، والحكومة مستقلة على الأقل اسمياً، أما المعارضة فهي زمرة سياسية تعارض أيديولوجية النظام وشرعيته.
وهنا أيضاً تختلف الحالات، فحرب الثوار الفيتناميين حرب أيديولوجية، اصطبغت بشدة بصراع الطبقات، وبوطنيتها القوية، ورغم أن الشيوعيين هم الذين يقودونها، لكنها تتجاوب ليس فقط مع أماني الذين يرون فيها حرباً ضد الفقر والاستغلال، بل مع أماني الذين تقزّزُوا من فساد الطبقات الحاكمة أيضاً. وهي تجذب الذين لا يريدون أن يتحملوا ديكتاتورية عسكرية، كما تجذب أيضاً كتلة القوميين الفيتناميين (الذين كنا سنسميهم الوطنيين لو كنا في مكانهم)، والذين يرون في الصراع استمراراً للنضال الطويل ضد الاستعمار الفرنسي، الذي حل محله أجانب آخرون هم الأمريكيون، الذين يقومون باسم الحرية والديمقراطية بمساندة وتوجيه الطغم العسكرية الحاكمة المتعاقبة .
وإذا كان لحرب فيتنام جذور أيديولوجية وقومية، فإن الثورة الكوبية لم يكن لها جذور مماثلة مرئية. فلقد بدأت كاحتجاج مثالي (idealistic) لفئة قليلة ذات توجه سياسي غير واضح تماماً – ليبرالية إلى حد ما، اشتراكية نوعاً ما، مصبوغة بالفوضوية الإسبانية – وكاحتجاج ضد الفساد والقمع في دولة بوليسية. ولم تكن نزاعات الطبقات فيها واضحة، كما لم تشكل القومية فيها عاملاً ظاهراً. أما الصدام مع المصالح الأجنبية والإقطاعية، ومعاداة الولايات المتحدة، والبروليتارية المناضلة. والشعارات الماركسية للثورة الكوبية، فقد جاء كتطورات لاحقة، تلت طرد باتيستا ولم تسبقه.
وفي المغرب (1952 – 1956) ركز القوميين من خلال حزب الاستقلال قضيتهم حول الصورة الرمزية للسلطان المنفي محمد سيدي بن يوسف، وأجبروا بن عرفة الذي حل محله على التنازل، وهزوا الحماية الفرنسية. أما في إسرائيل، فقد أعطت الدفعات القوية الدينية والعرقية صفة حرب دينية للنضال في سبيل الاستقلال. وفي كثير من الدول الإفريقية (الكونغو والكاميرون وأنغولا) لعبت خصومات القبائل وطموحاتها دوراً لا يقل أهمية عن دور مقاومة الاستعمار.
القومية، والعدالة الاجتماعية، والعرق، والدين – تحت هذه المعاني المجردة والرمزية، التي تشكل صرخات التجمع للثورات في العشرين سنة الأخيرة – يمكن أن نكتشف لها مبدأ موحداً هو قاسمها المشترك. إنه دفع ثوري، وانبثاق الإرادة الشعبية، وليس لهذا كله صلة قوية مع قضايا الهوية القومية والعرقية، وتقرير المصير، وأشكال الحكم، والعدالة الاجتماعية، التي تشكل الشعارات المألوفة في الانتفاضة السياسية. وليس من المؤكد بأن الحرمانات الاقتصادية تمثل بحد ذاتها العامل المقرر الذي نراه في الانتفاضة السياسية بصورة عامة. ومن المعروف أن العوز والقمع هما من طبيعة الحياة، على كوكبنا، ولقد تحملتها أجيال لا تحصى دون أن تنبس ببنت شفة تقريباً.
إن إرادة التمرد إلى حد يجعلها اليوم شبه كونية، تبدو وكأنها شيء آخر أكثر من الارتكاس ضد الظروف السياسية أو الأوضاع المادية. إنها تعبير على ما يبدو عن وعي قد استيقظ مجدداً، ليس بالنسبة إلى (قضايا) بل بالنسبة إلى (الوجود بالقوة) إنه اكتشاف متنامٍ للإمكانات التي يقدمها الوجود الإنساني، متزامن مع حس متعاظم للطبيعة السببية للكون، وبفضل هذين العاملين يستوحي الأفراد أولاً، ثم الجماعات، فالقوميات، وضعية كاملة الجدة إزاء الحياة.
والأثر الناجم عن هذا الوعي الفجائي، هو أن يظهر في المناطق من العالم المسماة (نامية) رغبة ملحة في التغيرات الجذرية القائمة على إدراك جديد بسيط، بأن شروط الوجود، المعتبرة حتى الآن كشروط لا تتبدل، يمكن في الواقع أن تتغير.
وهكذا تصبح التحديدات المقبولة مسبقاً غير محتملة، وتفتح إمكانية التعديلات الوشيكة الوقوع آفاقاً لم يكن التفكير فيها وارداً حتى الآن، وتولّد الرغبة للفعل، وكأن الجميع يقولون في وقت واحد في كل مكان : "هذا ما يمكن أن نكونه أو ما نحصل عليه، شريطة أن نعمل، ماذا ننتظر إذا؟ فلنفعل".
وعلى كل حال، فإن ذلك يمثل الحالة النفسية للتأثير الحديث، لرجل العصابات، مهما كانت شعاراته أو قضيته. وسلاحه السري، بغض النظر عن كل مسألة استراتيجية أو تكتيكية أو تقنية، ليس سوى القدرة على الإيحاء بهذه الحالة الفكرية إلى الآخرين. وليست الهزيمة العسكرية للعدو، أو قلب الحكومة، إلا أهدافاً ثانوية في هذا الاتجاه، ستأتي فيما بعد. إن الجهد الرئيسي لحرب العصابات هو أن تثير تمرد السكان، الذين لا يمكن لأية حكومة أن تدوم طويلاً دون موافقتهم.
فرجل العصابات مهدم للنظام القائم، لأنه ينشر الأفكار الثورية ، وتعطي أفعاله قوة إلى عقيدته ، وتُبيّن السبيل نحو التغير الجذري، ومن الخطأ أن نعتبره منفصلاً عن مرقد استنبات الثورة. إنه يُخلق من المناخ السياسي الذي تصبح فيه الثورة ممكنة، ويمثل هذا المناخ التعبير وعنصر الاستقطاب للإرادة الشعبية في مثل هذا التغيير .
إن فهم رجل العصابات يجنبنا مصيدتيْن كبيرتيْن، وغُموضَيْن خطيريْن، يبدو أن اختصاصيي مقاومة الانتفاضة يقعون فيهما بسهولة.
وتتمثل المصيدة الأولى في (نظرية التآمر) التي تعتبر أن فكرة الثورة هي نتيجة (مشوهة عادة) لوسيلة التلقيح الصناعي، وأن نواة حرب العصابات وهي العنصر المُخْصِب في هذا المجال، تتألف من أشخاص هامشيين، ومتآمرين، وسياسيين زارعي قلاقل – وبلغة أخرى عناصر هامشية، تتواجد نوعاً ما منفصلة عن وسطها الاجتماعي، وتوجهه نحو غايات غامضة وخطرة.
والمصيدة الثانية هي سفسطة الطريقة، المغذاة – على الأقل حديثاً – من قبل معظم العسكريين الأمريكيين من أنصار الفكرة القديمة القائلة بأن حرب العصابات هي قبل كل شيء مسألة تكتيك وتقنية، يلجأ إليها أولئك الذين يمكن أن يحتاجوا لاستعمالها في كل مواقف الحرب غير النظامية.
فالخطأ الأول صلف وساذج في الوقت نفسه، ونراه يتردد في بلاغة الليبرالية الغربية، مُبيّناً الديمقراطية السياسية (أي الانتخابات الحرة) وكأنها الشيء المرغوب فيه. ومتجاهلاً أهمية الثقة في القرارات الشعبية، ومفترضاً ضمناً أن عناصر الجماهير بلهاء وشديدة الجهل والانفعال، لدرجة لا تسمح لها بأن تفكر بمفردها، أو أن تكون لها الإرادة الحرة أو القدرة على شن حرب ثورية.
وكنتيجة لهذين الخطأين، تفسر الثورة القائمة فعلاً، على أنها نتيجة ألاعيب عناصر مشبوهة أداتها رجال العصابات المستغفلون وعناصر من المتطوعين التابعين لقوة أجنبية، أو المعتنقين على الأقل لفلسفة سياسية أجنبية .
وإذا أخذنا الأمور على مستوى السذاجة، فذلك يفترض أن الناس لا يختارون الطريق الثوري بملء إرادتهم، كلا، وبالتأكيد عندما تكون الثورة المعينة لا تتوافق مع التقاليد والمثل العزيزة على الأمريكيين. وفي هذا الموضوع لنسمع ما يقوله الرئيس ايزنهاور: "يجب أن نُعْلمهم (يقصد الفيتناميين) بما يجري، وأن نقول لهم كم هو هام بالنسبة إليهم أن يكونوا إلى جانبنا، وعندها سيريدون اختيار النصر" .
وللأسف إن النصر الذي يبدو أنهم اختاروه لم يكن ما اقترحه الرئيس ايزنهاور!.
إن معظم واضعي السياسة الخارجية الأمريكية، والمختصين بذلك العلم السياسي – العسكري الجديد عن الانتفاضة المضادة (نظرية الثورة المضادة) يبدو أنهم أشدّ صدفا من ايزنهاور وتذكر تصريحاتهم بأن كل الثورات الحديثة هي أو يمكن أن تصبح، صراعات بين (نظامين) عالميين: الشيوعيين من جهة، والأمريكيين وحلفاؤهم من جهة أخرى، أما الأشخاص المعنيون مباشرة، فليسوا إلا أحجار شطرنج، يُحرّكهم هذا المعسكر أو ذاك.
ويجد الأمريكيون أنفسهم (الأجانب) الأكثر تكراراً في كل المواقف الثورية ( فيتنام، كوبا، إيران، غواتيمالا، البرازيل، الكونغو، فنزويلا... إلخ). فليس من المدهش إذا، وبحسب سيكولوجية الحرب الباردة، أن نفتش عن مُعارضينا الروس أو الصينيين في منطقة النزاع، وعندما نجدهم أو يخيل إلينا وجودهم، نُلبسهم الدور الرئيسي. وهكذا نرزح تحت عبء لا معقولية غريبة، تبدو فيه إمكانياتنا للملاحظة معدومة.
إن الخلاصة التالية من المقال المعنون (مرافعة عن الواقعية في جنوبي شرقي آسيا لروجر هيلسمان)، الذي كان مديراً لشؤون الشرق الأقصى في وزارة الخارجية الأمريكية، هي خلاصة نموذجية في هذا الصدد:
(إن كل تحليل للموقف في جنوبي فيتنام، يجب أن ينطلق على الأرجح من حقيقة أننا لا نخوض فيه حرباً حقيقة. فالمشكلة سياسية أكثر منها عسكرية، مع أعمال من الإرهاب وليس مع معارك. فمن مجموع السكان البالغ أربعة عشر مليون نسمة، لم يجنّد الفييتكونغ إلا ثمانية وعشرين ألفاً إلى أربعة وثلاثين ألفاً من رجال العصابات النظاميين، بالإضافة إلى ستين ألفاً وحتى ثمانين ألفاً من المساعدين المؤقتين. وتشبه الحملة الصراع ضد عصابات المجرمين في الثلاثينيات، أو ضد الشبان الإرهابيين في نيويورك حالياً، أكثر مما تشبه حرب كوريا أو الحرب العالمية الثانية. وبشكل إيجابي جداً، فإن مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) لديه من التجربة ليعالج هذه المشكلة أكثر مما لدى القوات المسلحة).
( مجلة نيويورك تايمز، 23 آب 1964 )
وبدون أن نحسب حساباً إلى سخف المقارنات – الشبان الإرهابيون – فإنه من الواضح بأن هذا التحليل يتضمن نقاط ضعف خطرة في مجالي الملاحظة والتفسير.
فمن مجموع السكان البالغ أربعة عشر إلى ستة عشر مليوناً، لم يضم الفيتكونغ ثمانية وعشرين ألفاً من رجال العصابات بل ضموا ما لا يزيد عن ثمانية وعشرين ألفاً كحد أقصى، ولكن القرار الذي اتخذه الرئيس جونسون بقصف شمالي فيتنام في بداية العام 1965، يبيّن لنا بوضوح أهمية هذه القوة.
ونذكر على سبيل المقارنة، إن رجال عصابات فيديل كاسترو والمقاتلين في جزيرة تضم سبعة ملايين نسمة تقريباً، لم يزيدوا أبداً عن ألف وخمسمائة رجل مسلح. ومع ذلك، وفي كانون ثاني 1958، عندما شطرت معركة مدينة سانتا كلارا الفاصلة البلاد إلى قسمين، فإن المدينة – كلها ما عدا الحامية العسكرية – ألفت نفسها غارقة في النزاع. وعندما هرب باتيستا من البلاد في آخر يوم من السنة، أعلن كل سكان كوبا عملياً انضمامهم إلى النصر المكتسب. وبدا وكأن الثوار لم يكونوا معزولين بل كان البلد كله معهم .
أما عن الركيزة الشعبية التي يتمتع بها الفيتكونغ في جنوبي فيتنام، فإن هيلسمان نفسه يعترف قائلاً: "في الأغلبية الساحقة يتطوع الفيتكونغ في الجنوب، ويأتيهم منه الغذاء والكساء، ويقتطعون منها (ضرائب) حتى يستجلبوا مؤناً أخرى عن طريق كمبوديا".
وعن الموضوع نفسه كتب وولتر ليبمان في نيويورك هيرالد تريبيون في نيسان 1964 : "إن الحقيقة التي تخفى على الشعب الأمريكي، هو أنه ليس لحكومة سايغون سلطة إلا على ثلث السكان، وهي لا تمارس رقابة (حتى خلال النهار) إلا على ربع أراضي البلاد، على أكبر تقدير".
ومن المتوجب أن يكون واضحاً، بأن الجيش الفيتنامي الجنوبي المؤلف من أربعمائة ألف رجل، تساعده فرقتان من (المستشارين العسكريين الأمريكيين). وأرماداً من المطاردات وقاذفات القنابل وطائرات الهيلكوبتر، ودعم مالي يومي يعادل زُهاء مليوني دولار يوميا، لا يستطيع هذا الجيش قمع الانتفاضة. فالمسألة إذا ليست قضية (شبان إرهابيين). أما الخطأ الناجم عن الاعتقاد بأن ثورة الفيتكونغ هي من عمل قلة متعصبة موجهة من الخارج، فإنه لا يستطيع الصمود أكثر من خطأ (الشبان الإرهابيين). ولا تزال واشنطن تدْعم هذا الخطأ لأسباب سنراها فيما بعد.
هل يمكن استخدام تكتيك حرب العصابات ضدها بنجاح؟ يجب أن نجيب بالنفي حتى لا نقع في مغالطة منطقية للطريقة، فأولئك الذين يقاتلون الهنود الحمر لا ينقلبون إلى هنود حمر إذا سلخوا فروات الرؤوس. كما أن الزي المبرقش بلون الغابات لا يحول مشاة البحرية الأمريكيين (المارينز) إلى (رجال عصابات) .
وقد أثبتت تجارب الحرب العالمية الثانية وما تلاها من نزاعات، بأن جنود الكوماندوس ليسوا (رجال عصابات)، وكذلك أولئك الذين يُهيئون الآن فيما يسمى مدارس الحرب المضادة لحرب العصابات، مع أنه يُدرَّس فيها التقنيات المميزة لحرب العصابات، كالهجمات الليلية والكمائن، والإغارات البعيدة عن القواعد العسكرية... إلخ.
إن هذه التقنيات قديمة قدم الحرب نفسها ويمكننا أن نتصور بأنها استعملت من قبل رجال (كرومانيون) ضد رجال أواخر العصر النياندارتالي، كما استعملته (البروتون) ضد ليجيونات يوليوس قيصر، وهي ما زالت مستعملة من قبل متوحشي غابات كولومبيا، ومن قبل صيادي الرؤوس الباقين على قيد الحياة في غينيا الجديدة.
وليس صيادو الرؤوس (رجال العصابات). ومن السهل تمييز ذلك فعندما نتكلم عن رجال العصابات، يتداعى في أفكارنا معنى النصير السياسي، فهو مدني مسلح، وسلاحه الرئيسـي ليس البندقية أو الساطور، بل علاقته مع الجماعة، مع الأمة التي يقاتل ضمنها و في سبيلها. والانتفاضة أو حرب العصابات، عبارة عن فعل يحث على تغيرات اجتماعية و سياسيّة جذرية إنها وجه الثورة وذراعها الأيمن . أمّا التمرّد المضاد فهو شكل من الثورة المضادة، أي الطريقة التي تتم بها مقاومة الثورة، إنهما وجهان لعملة واحدة، ومن الضروري ألا نخلط بينهما، أو بين عواملهما، بسبب تماثلهما.
وبسبب الطبيعة السياسية للصراع، وتفاوت الوسائل التي بحوزة المعسكرين، وخاصة بسبب التناقض التام لأهدافهما السياسية، فإن التكتيكات الأساسية المطبقة في حرب العصابات، غير قابلة للتطبيق من قبل الجيش الذي يقاتل العصابات، ولن تكون قابلة للتطبيق، وبشكل محدود جداً، إلا من قبل (الاختصاصيين) العاملين في القوات الأمريكية الخاصة، التي يمكن أن تحاول تقليد تكتيكات العصابات.
والأسباب تامة الوضوح.
أولاً، لأن رجل العصابات يمتلك المبادرة فهو الذي يبدأ الحرب، ويقرر أين ومتى يضرب. وعلى عدوه العسكري أن ينتظر مستعداً لمواجهته في كل مكان .
ويجد جيش الحكومة نفسه، قبل وبعد بداية الحرب، في موقف الدفاع بسبب دوره كشرطي مكلف بحراسة الممتلكات العامة والخاصة.
ولدى الجندي أشياء كثيرة للدفاع عنها: كالمدن، والتجمعات السكانية، والأراضي الزراعية، والمواصلات، والتجارة، والقاعدة الصناعية، بالإضافة إلى الأهداف العسكرية البحتة: كالمواقع، والمخافر الأمامية، وخطوط التموين، والقوافل، والمطارات، والقوات العسكرية نفسها مع أسلحتها الثمينة، التي تشّكل واحداً من أهم أهداف رجال العصابات حتى يتسلحوا بها. وأخيراً فإن عليه أن يحمي ويساند جهازاً سياسياً خاضعاً لتوتر خطير منذ قيام الانتفاضة المكشوفة.
ففي كل هذه المجالات، يكون للنظام المعني وذراعه العسكري نقاط ضعف حساسة جداً بالنسبة إلى عدو يمكن أن ينزلق كالريح.
وإذا كان الجيش يعاني من موارده، وخاصة من المعدات العالية التكاليف التي لن يستعملها (المعدات الذرية مثلاً)، فإن رجل العصابات يتمتع بكل الحرية التي يكتسبها من الفقر. فهو لا يمتلك إلا بندقيته وقميصه، وليس له إلا حياته ليدافع عنها. فهو لا يحتل أية أرض، وليس لديه أي جهاز عسكري يتطلب صيانة صعبة، ولا يمتلك دبابات تتعرض للمخاطر في المعركة، ولا مواقع يمكن أن تُحاصر، ولا وسائل مواصلات معرضة للتدمير من قبل الهجمات الجوية، أو طائرات يمكن أن تسقط، أو فرقٍ يمكن أن تُقصف، أو أية أرتال آلية لتُحمى من الفخاخ، ولا قواعد أو مستودعات لا يتسع له الوقت لتركها على الفور.
إنه يمكن أن يجيز لنفسه بأن يهرب عندما لا تتوافر لديه في القتال فرص جيدة لإحراز النصر، وأن يتفرق ويختبئ عندما يصبح التجول من عدم الحذر. وفي أقصى الحالات، يمكن له أن يندمج في الشعب المسالم ذلك البحر (حتى نستعمل عبارة ماوتسي تونغ المشهورة) الذي ينبغي على رجل العصابات أن يسبح فيه كالسمكة .
ويجب أن نبين منذ الآن، بأن الشعب يُشكل مفتاح الصراع كله. وبالواقع، ومهما بدت الفكرة مغيظة للمحللين الغربيين، فإن الشعب هو الذي يقود الصـراع. فرجل العصابات ينتمي إلى الشعب، بنفس المقدار الذي لا يستطيع فيه جندي الحكومة أن ينتسب إليه (لو لم يكن النظام قد فقد محبة الشعب لما اندلعت الثورة). إن رجل العصابات يقاتل بمعونة الجماهير الشعبية المدنية، التي تشكل تمويهه، ومنابع إمداده، ومصدر تطوعه، وشبكة اتصالاته، ومصلحة استخباراته، الموجودة في كل مكان والشديدة الفعالية.
فبدون رضا الشعب ومساعدته الفعالة، يتحول رجل العصابات إلى قاطع طريق، ولا يبقى طويلاً على قيد الحياة. ولو استطاع الجندي المضاد للعصيان أن يحصل على المساعدة نفسها، لما وُجد رجل العصابات أصلاً، لما كانت هناك حرب أو ثورة، ولنامت القضية، وانطفأت الرغبة الشعبية في التغيير الجذري .
وهكذا نصل إلى المسألة الجوهرية الخاصة بالأهداف التي يبني المعسكران عليها بالضرورة، تكتيكيْهما واستراتيجيتيهما.
فرجل العصابات، هو قبل كل شيء داعية، ومحرض، وباذر للأفكار الثورية ، وهو يستخدم الصراع نفسه –القتال المادي– كأداة للتحريض، وهدفه الأساسي رفع مستوى الاستباق الثوري، ثم المشاركة الشعبية حتى النقطة الحرجة، حيث تصبح الثورة عامة في البلاد، وتكمل الجماهير الشعبية العمل النهائي، أي القضاء على النظام القائم، والقضاء (غالباً وليس دائماً) على الجيش الذي يحميه.
وبالمقابل فإن هدف القوات المضادة للثورة سلبي ودفاعي، ويتضمن تأمين استتباب النظام، وحماية الملكية، وصيانة الأوضاع والمصالح الموجودة بقوة السلاح، بعد أن خابت وسيلة الإقناع. وقد تكون الوسائل المستخدمة سياسية عندما تتضمن إقناعاً أشد: كالوعود بالإصلاحات الاجتماعية، والاقتصادية، وشراء الضمائر، والدعاية المضادة بمختلف الأشكال. لكن قبل كل شيء، يجب على القوات المضادة للثورة أن تدمر الثورة عن طريق تدمير وعودها، أي البرهنة عسكرياً بأنها لا يمكن أن تنجح ولن تنجح.
ولهذا لا بد من القهر الكلي للطليعة الثورية، وإبادتها مجزّأة حيثما وجدت. والخيار البديل هو إهمال الجهد العسكري في سبيل الحل السياسي – مثلاً تقسيم فيتنام بعد ديان بيان فو، أو الحل الجزائري... إلخ– أو بقول آخر: حل وسط أو الاستسلام الكامل.
وإذا حكمنا بحسب التجارب الحديثة، فإن نصراً عسكرياً على حرب عصابات حقيقية يبقى مشكوكاً فيه، إلا إذا لجأنا إلى طرقٍ متقاربة من الإبادة الجماعية، كما فعل الألمان في بعض المناطق خلال الحرب العالمية الثانية.
ولايستطيع الجندي المضاد للعصابات أن يتغلب على رجل العصابات بتقليده، لأنه الغريب في الموقف الثوري ولأن أعماله هي على النقيض من أفعال رجل العصابات حتى عندما يمكن أن يتواجد بعض التناظر بينهما. إن مجرد البقاء على قيد الحياة بالنسبة إلى رجل العصابات هو نصرسياسي فذلك يشجع المعارضة الشعبية للنظام المعني وينميها. ويستطيع رجل العصابات أن يتنكر بزي فلاح –وقد يكون فلاحاً بالفعل– متابعاً نشر رسالته الثورية. أما الجندي المضاد للثورة، فإنه يغدو في الحالة المماثلة دليلاً للشرطة، ولا يستطيع نشر أية رسالة. ويستطيع رجل العصابات أن يضرب ويسرع في الانسحاب، وتكسبه كل إغارة ناجحة أسلحة وذخائر وتؤمن له بعض الدعاية. ولا يحصل الجندي المضاد للعصابات على أي شيء من مثل هذا التكتيك – حتى إذا استطاع استعماله – فحملته العسكرية يجب أن تكون مستمرة ذات تأثيرات متجمّعة. فإما أن ينظف البلد من رجال العصابات، وإما أن يفشل في تحقيق ذلك، وفي هذه الحالة الأخيرة فإنه يستمر في الخسارة.
إن التمييز الذي نقوم به هنا بين حرب العصابات كتقنية سياسية– عسكرية، و بين حرب العصابات البسيطة (قطع الطرق من قبل المجرمين أو استعمال التقنيات غير النظامية للحرب من قبل تشكيلات عسكرية نظامية) هو تمييز جوهري و ليس اعتباطاً كما يمكن التفكير للوهلة الأولى.
فقد كانت هناك دائماً انتفاضات شعبية، إلا أنها فشلت عادة أو حققت انتصارات محدودة، لأن تقنيات اليوم لم تكن قابلة للتطبيق في الموقف التاريخي. إنها وسيلة أخرى للقول بأن الأغلبيات الشعبية، أي الجماهير غير المتخصصة للمجتمعات قبل الصناعية لم تكن لتستطيع ممارسة الفعل السياسي أو الاقتصادي.
فأقنان العصور الوسطى مثلاً، لم يكونوا قادرين على مقاومة القوة العسكرية الاقطاعية، ليس فقط لأنهم لم يكونوا يملكون الأسلحة والمعارف الضرورية، ولا الوعي والالتحام السياسيين، بل لأنهم لم يكونوا يمتلكون أية وسيلة أخرى للتأثير السياقات الاقتصادية والسياسيّة لعالمهم.
واقتصادياً كانوا طيعي القيادة لأنهم كانوا يعيشون على الكفاف الذي يجعلهم مضطرين للخنوع. فلم يكونوا قادرين على التفكير برفض عملهم وهو سلاحهم الاقتصادي الوحيد. وكانوا معزولين في أوضاعهم الفَظّة، وفي جهلهم، لذا فقد عاشوا تحت مستوى السياسة. فإذا ماتوا من الجوع أو ثاروا وقتلوا بسبب ثورتهم، فإن أحداً لم يكن يهتم بذلك ، كما أن الطبقة الحاكمة لم تكن تتأثر أو تُدان.
أما الثورات اللاحقة، منذ عصر النهضة وحتى ثورة روسيا، دون أن ننسى الثورة المكسيكية (1910-1917)، فقد كانت لها صبغة بورجوازية، أو أنها اتخذت تلك الصبغة بسرعة بعد البداية الشعبوية (تمييزاً عن الشعبية). أما الشعار (حرية– مساواة– إخاء) فلم ينطبق إلا على البورجوازية الكبيرة والصغيرة، وبعد فاصل يعقوبي قصير (ظاهرة معبرة إن كل المؤرخين البرجوازيين يخشون ويشجبون البروليتاريانية لعصر الإرهاب)، لأنه في النهاية، كانت البرجوازية تمتلك لوحدها – الغنى ووسائل الانتاج– فتأخذ بقيادة الصراع مع الارستقراطية المالكة للأرض. ومع أنه حدثت تبدّلات في الطبقات، وتوافرت شعارات من النوع الديمقراطي لكن الجماهير غير المتخصصة أو التي لا تمتلك أرضاً بقيت مغمورة. لقد كان بإمكانها أن تتوقف عن العمل، وتموت من الجوع، لا بأس؛ لأن عدد الشحاذين و اللصوص في هذه الحالة سيتناقص. ونظراً لانعزالهم، فإن أحداً لن يهتم لهم إذا ما قُتلوا .
و لقد قادنا التاريخ إلى عصر حصلت فيه الطبقات العاملة على السلطة السياسية، لعدة أسباب وخاصة بسبب تعقد أساليب التصنيع، والتشظي، والتخصص، وترابط المجتمع الصناعي، وأهمية العمل المنضبط واتساع أسواق الاستهلاك. ولقد أكسبها دورها الجديد –باعتبارها منتجة وموزعة ومستهلكة– وسيلة للتأثير. فإذا توقفت عن العمل انهار الاقتصاد، ويحدث الشيء نفسه، إذا هي انقطعت عن الشراء والاستهلاك، وإذا ما قُتلت، نشأ عن ذلك انعكاسات عالمية سببها –حسب آخر تحليل– مرتكز على اعتبارات اقتصادية.
ولا يستطيع المجتمع الصناعي الحديث أن يقوم بوظيفته كما لا تستطيع حكومته أن تحكم، إلا بالمساهمة والرضاء الشعبييْن. وما ينطبق على الدول الصناعية نراه كذلك، على درجة أقل، في الدول غير الصناعية والمستعمرات، التي تتعلق بها الدول الأولى للحصول على المواد الأولية الضرورية لصناعتها والضرورية كذلك لصادراتها.
ولأسباب اقتصادية، يجب أن تبدو الحكومات الحديثة شعبية، ويتوجب عليها أن تقدم تنازلات تتجاوب مع تصورات الديمقراطية والعدالة التي يتخيلها الشعب أو أن تترك مكانها لحكومة أخرى تحقق ذلك. وحكومات الدول الصناعية المسيطرة –وبدرجة أعظم من تلك التي تسيطر عليها– تجد نفسها مرتبطة سياسياً بهذا العامل المتعلق بالصورة الداخلية، وعليها أن تستعمل البلاغة الليبرالية، وأن تقبل الحلول الوسط –مثل إنشاء المدارس والمستشفيات، رغد العيش للجميع ما عدا السكان المعزولين– من أجل الحفاظ على السلطة وإبقاء الناس في أعمالها العادية التي تقدم الفوائد.
إن ذلك يجعل الحكومات حسّاسة لأنه لا بد لها أن تشغّل اقتصادها بأي ثمن، وتحقق الأرباح، أو أن تجهّز المواد الأولية أو الأسواق يتوقف عليها اقتصاد آخر أعلى مرتبة، وهي حسّاسة كذلك، لأنه لا بدّ لها أن تحفظ مظهر الحالة السوية تحت طائل الطرد، ولأنه لا يمكنها أن تتصرف بالقسوة التي يتطلّبها الموقف فلا تستطيع بشكل مكشوف أن تسحق المعارضة التي تَنْكُدها، وعليها أن تغازل وتقمع في الوقت ذاته .
تلك هي نقاط الضعف الحديثة، التي تجر معها وسيلة أيضاً حديثة لاستغلالها ألا وهي حرب العصابات المعاصرة. وفي الدول ذات الشكل الديمقراطي، والبورجوازي، والرأسمالي (وتقاسمها في ذلك كل الحكومات الأخرى ضمن بعض الحدود) تستطيع نقاط الضعف المذكورة جعل الحرب الشعبية ممكنة وإعطائها أشكالها المميزة، التي لا يمكن تقليدها إلا بشكل سطحي جداً من قبل جيش الدولة .
ويختلف تكتيك رجل العصابات بشكل ما عن تكتيك الجندي المضاد للعصابات، لأن دوريهما مختلفان، فهما قوتان متنافرتان، تشنان حربين متعارضتين، في سبيل أهداف متضادة. ويبحث الجندي المضاد للثورة عن حل عسكري، يتمثل في إبادة رجال العصابات، لكنه معاق بعقبة سياسية و اقتصادية، فهو لا يستطيع أن يبيد الشعب ولا واحداً من أجزائه الهامة. أما رجل العصابات، فإنه يرغب في اهتراء عدوه العسكري، ويستعمل تكتيكاً مناسباً لهذا الغرض، وهدفه الرئيسي سياسي، ويتمثل في تسعير حريق الثورة في صراعه، و تحريض الشعب كله، ضد النظام، وإظهار عيوب هذا النظام، وعزله، وتقويض اقتصاده، واستنزاف موارده، وإثارة تفككه.
إن حرب العصابات في جوهرها سياسيّة واجتماعية أما وسائلها فهي سياسيّة بمقدار ما هي عسكرية أما هدفها فسياسي بالكامل تقريباً. ونستطيع أن نقول "انطلاقاً من مقولة كلاوفيتز": إن حرب العصابات استمرار للسياسية بواسطة صراع مسلح. وفي درجة معينة من نموها، تصبح ثورة.. عندها تغدو أسنان التنين مالكة لكل قوتها.
إن حرب العصابات تعادل حرباً ثورية، إنها امتداد للسياسة باستعمال السلاح.
وطالما أن أولئك المكلفين بالصراع ضدها لا يفهمونها، فلن يجدوا أية وسيلة استراتيجية أو تكتيكية لتحقيق النصر. أما إذا فهمها أولئك الذين يقودونها، فإنها لن تَخِيب مطلقاً، مهما كانت الظروف، لأن الحرب الثورية لن تبدأ إلا عندما تتوافر ظروف نجاحها.
ولنفحص الآن آليات هذا السياق الثوري، المسمى حرب العصابات.
الفصل الثاني
حرب البرغوث – الأهداف السياسية والعسكرية – خلق مناخ
الانهيار – تنظيم القوى الثائرة – رأي جيفارا عن حرب العصابات
(عندما يتقدم العدو فإننا نتراجع، وعندما يخيّم نناوش، وعندما يتعب نهاجم، وعندما يتراجع نطارده)
تعطينا كلمات ماوتسي تونغ هذه عن حرب العصابات أحد مفاتيح الفكر الشيوعي. وهي متميزة سواء في الديبلوماسية أو في الحرب. ولقد هضم صانعوا السياسة السوفياتية هذا الدرس الصيني وتمثلوه، وطبقوه على المجموعة من المشكلات التي لا علاقة لها بحرب العصابات، وتمثل أزمة برلين مثالاً واضحاً، كما تمثل أزمة قاعدة الصواريخ في كوبا مثالاً آخر.
ولم لا؟ أن نضرب العدو طالما كان ضعيفاً، وأن نتجنبه عندما يكون قوياً، وأن نطارده عندما ينسحب، وأن نناور عندما يتقدم. فذلك ينسجم مع التفكير السليم. وليس في هذا أي جديد حقاً، ولا يستطيع المعسكر الماركسي– اللينيني أن يدعي الابتكار في هذا السبيل.
أما الجديد حقاً –علماً أن ماوتسي تونغ هو النبي! هنا، والثورة الصينية الطويلة هي مسرح الاختبار الأول– فهو تطبيق نشاط حرب العصابات، بشكل واع ومقصود، من أجل تحقيق أهداف سياسية خاصة، لا علاقة لها مباشرة مع نتيجة المعارك الدائرة، شريطة أن يبقى الثوريون على قيد الحياة .
ومن الملاحظ –وذلك ما يلفت النظر– أن الكوبيين غير الشيوعيين، وليس الصينيون، هم الذين أعطوا المثل الأوضح لنشاط عسكري أدى إلى آثار سياسية، في خلال حرب كانت كل معاركها معتبرة من قبل الإخصائيين بمثابة مناوشات، وحيث انهارت الحكومة كما لو أن جيشها قد أبيد في ساحة المعركة.
ولطالما أدهش التفسير العسكريين رغم بساطته: فالوسائل التي تمتلكها الحكومات عادة، لا تمكنها من القضاء على الثوار الذين يعرفون عملهم، ويتمتعون بالتأييد الشعبي. ومن جهة أخرى، فإن قليلاً من الحكومات تتحمل التوترات السياسية والنفسية والاقتصادية الناتجة عن حرب العصابات، حتى لو كانت هذه الحكومات قوية جداً من الناحية العسكرية.
وبصورة عامة، إن الحروب كلها تطرح المشكلة الأساسية نفسها ألا وهي: كيفية استخدام قوتها لاستغلال نقاط ضعف العدو، ومن ثم الانتصار عليه. ففي حرب أهلية، تكمن قوة الحكومة في جيشها وترسانتها وثروتها المادية، أما نقاط ضعفها فهي اجتماعية وسياسية واقتصادية وإذا كان الاقتصاد يشكل الورقة الرابحة بيد الحكومة، فإنه العنصر الأكثر قابلية للعطب من عدة وجوه، فهو يقدم عدة أهداف عسكرية ونفسية في الوقت نفسه.
ولقد ذكرت سابقاً، بأن الديمقراطيات الدستورية عرضة للأعمال الرامية إلى قلب النظام، والتي تشكل السلاح الأساسي للحرب الثورية. وبسبب التركيب الاجتماعي الطبقي، وأنظمة الأحزاب المتعددة الموجودة في معظمها، منابع للتوترات السياسية والاجتماعية والتي يمكن استغلالها، و يشكل الدستور عقبة قد تكون في بعض الأحيان قاتلة.
إن فولجينسيو باتيستا لم يسقط لأنه كان دكتاتوراً، بل سقط لأنه لم يستطع أن يكون دكتاتوراً بما فيه الكفاية، في بلد يتمتع بمؤسسات ديمقراطية مرتبطة بشكل كامل برعاية الولايات المتحدة الأمريكية وعَطفها، ولم يستطع بالتالي حل التناقضات التي واجهها. لقد كانت يداه مغلولتين باتفاقيات لم يكن يستطيع تجاهلها دون أن يفقد سنده الخارجي. وأدى استعمال وسائل الإرهاب المضاد، أي الاستعمال غير المشروع للقوة إلى زيادة حدَّة المعارضة الداخلية.. وبدون تلك الوسائل، لم يكن لديه الوسائل الفعالة لمحاربة الفوضى ومحاولات التغيير التي كانت تهدد نظامه. والوضع مماثل في الهند الصينية، حيث أن هزيمة الفرنسيين، كانت بسبب الأفكار والمؤسسات التي أدخلوها إلى الهند الصينية بأنفسهم.
أما فرانكو فإن نظامه ما زال متماسكاً، لأنه نجح في خنق فكرة الحرية نفسها في إسبانيا، ووضع على الطاولة، في الوقت نفسه، ما يكفي من الخبز لإرضاء الأغلبية ممن يعبرون عن رأيهم .
ومهما كان النظام السياسي فإن الجيش النظامي يعاني (من الناحية العسكرية البحتة) من سلبيات ناجمة عن عدده، وتعقيد تنظيمه، ودوره الدفاعي كحارس للثروة الوطنية ولأرض الوطن.
أما ثوار العصابات، فإنهم يستقون قوتهم –كما يقول جيفارا– من حيث أنهم تجاوزوا نهائياً موضوع الارتباط بالأرض، ومن قدرتهم الحركية، و اتحادهم مع الشعب المتذمر الذي يتكلمون باسمه، ويشكلون طليعته المسلحة للاحتجاج الاجتماعي المناضل.
أما ضعفهم فهو فقط بسبب عسكري – وإنني لأستعمل الكلمة برويّة – فهم لا يمتلكون ما يكفي من السلاح، وعادة ما يكونون قليلي العدد بشكل لا يسمح لهم بأن يخاطروا بعمل عسكري حاسم. وفي هذه الشروط لا بد أن تنفرض طبيعة تكتيكهم.
وهم سياسياً مضطرون إلى زيادة تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية الموجودة، والعمل على تنمية الوعي السياسي والإرادة الثورية داخل الشعب. وعليهم أن يُدخلوا في مخططهم –وذلك نتيجة طبيعية لأفعالهم– ضرورة زيادة حدة القمع السياسي، بغية إذكاء المعارضة الشعبية للنظام، وتنشيط عملية التفتيت.
ومن مهماتهم عسكرياً، العمل على استنزاف العدو وإنهاكه، وتحقيق التآكل المعنوي للقوات الحكومية عن طريق إجبارها على إنفاق كميات أكبر من المال والمعدات والأفراد، وذلك في جهدها لسحقهم وإزالتهم، وأن يعملوا في الوقت نفسه على تنمية قواهم الخاصة، بسلب أسلحة القوات الحكومية، وأن يزيدوا عددهم بتطويع عدد أكبر من أفراد الشعب الذي يتزايد كرهه للنظام، وأن يبتعدوا عن كل مواجهة عسكرية حتى اليوم – وهو لا بد آت– الذي يحققون فيه توازن القوى.
ويستعمل الجيش القوة، مفتشاً عن نقاط ضعف العدو في سبيل القضاء عليه. ويقال أحياناً بأن رجل العصابات يعمل بواسطة الضعف، وذلك هذر، فالحقيقة أنه يستخدم قوة ذات الطابع الخاص، والكامنة في حركية وحداته المسلحة تسليحاً خفيفاً، ومن معين الشعب الذي لا ينضب، ومن حيث أن الوقت (وهو رأس مال سياسي ومالي) يعمل لصالحه.
وعلى سبيل التشابه يمكن القول أن العصابات تشن حرب البرغوث، ويعاني عدوها العسكري من السلبيات التي يعانيها الكلب: مساحة كبيرة للدفاع عنها، عدو شديد الصغر ومنتشر في كل مكان وسريع الحركة بحيث يصعب القبض عليه. فإذا دامت الحرب ما يكفي من الزمن –كما تقول النظرية– فإن الكلب لا بد أن يسقط في ساحة المعركة بسبب الإجهاد وفقر الدم، دون أن يجد ما يعضه بأنيابه أو أن يحكه بقوائمه.
ومن الناحية العملية، فإن الكلب لا يموت بسبب فقر الدم، بل لأنه يضعف باستمرار – بسبب انتشاره إذا استعملنا المصطلحات العسكرية، وبسبب عدم شعبيته إذا استعملنا المصطلحات السياسية، وبسبب زيادة الكلفة إذا استعملنا المصطلحات الاقتصادية– وفي النهاية، فإنه لا يعود قادراً على الدفاع عن نفسه. وفي هذه الفترة، يكون البرغوث قد تكاثر وتحول إلى وباء، بفضل مجموعة طويلة من انتصارات صغيرة، استطاع في كل واحد منها أن يمتص قطرة من الدم، على شكل أسلحة مسلوبة يسلح بها أنصاره الجدد، وعندها يركز قواه كي يحضر إلى الانقضاض الحاسم.
ويعمل الزمن لصالح الثوار سواء في الريف –حيث ينفق العدو يومياً ثروة ليطاردهم– أو على الساحة السياسية والعسكرية .
وتعطي كل الحكومات الحديثة ما يسميه الصحفيون (الرأي العام العالمي) ولأسباب هامة، معظمها ذو سمة اقتصادية، فإنها لا تتحمل أن تدان من قبل الأمم المتحدة، ولا تحب أن تستقبل زيارة لجنة حقوق الإنسان أو لجنة حرية الصحافة، وبسبب حاجتها للقروض والاستثمارات والأسواق الأجنبية وإنشاء علاقات تجارية مُرضية، فإنها مضطرة لأن تكون جزءاً من مجموعة ذات مصالح متبادلة، وغالباً ما تكون عضواً في اتحاد عسكري. وبالتالي فإنها مضطرة لأن تحفظ بعض مظاهر الاستقرار لتطمئن شركاءها بأنها ستحترم اتفاقياتها وعقودها، وستتابع دفع فوائد قروضها وتسديد ديونها وجعل التوظيفات آمنة ومثمرة.
إلا أن حرباً أهلية طويلة تسيء إلى ذلك كله، فليس هناك من يرضى أن يوظف مالاً بلا فائدة أو أمان، ولا يمكن لمصرف أن يقرض دون ضمانات، ولا يوجد حليف يرغب في الارتباط مع حكومة يمكن أن تزول بعنف.
لذا فإن حرب العصابات وتنظيمها السري في المدن، يجب أن يهدفا إلى تدمير صورة الحكومة المستقرة، ليحرما هذه الحكومة من أرصدتها ومواردها، وأن يخلقا انشقاقات في الطبقات المالكة الخائفة، وبين الموظفين (الذين يخافون على رواتبهم)، وبين جنودها .
ويشكل انفجار الانتفاضة الخطوة الأولى – وتلك هي ضربة دامية، تحمل في طياتها إصابة بالغة لهيبة النظام–
و إنّ دوام حرب العصابات لمدة من الزمن، يبرهن عن عجز الجيش، ويكمل بالتالي سياق الحوادث. وعندما يزداد الدعم –وذلك يحدث تلقائياً عندما ينكشف ضعف الحكومة– تنشأ القلاقل السياسية على شكل تظاهرات وعرائض وإضرابات، تتلوها أحداث أكثر خطورة: كأعمال التخريب والإرهاب وانتقال الانتفاضة بالعدوى.
و في ظروف كهذه، لا بد من حكومة فذَّة حتى لا تلجأ إلى التدابير القمعية ، كمنع التجول، وتعطيل الحريات المدنية، ومنع الاجتماعات الشعبية، وغيرها من التدابير غير الشرعية، التي لا تؤدي إلا إلى زيادة حدة المعارضة، وتفتح حلقة مفرغة يتدمر فيها الاقتصاد، ويتمزق التركيب الاجتماعي، وينتهي النظام إلى الاهتزاز.
والمسألة في النهاية معروفة ما إذا كانت الحكومة تسقط قبل تدمير قواها العسكرية، أو أن تدمير قواتها العسكرية يؤدي إلى تنازل النظام السياسي. والحقيقة أن السياقين متكاملان، فالتفسخ الاجتماعي والسياسي يؤدي إلى نزيف القوى العسكرية، كما أن المتابعة غير المجدية للحملة تزيد من هذا التفسخ، فينشأ عن ذلك ما أُسْميه (مناخ الانهيار).
ذلك هو الهدف الاستراتيجي الكبير لحرب العصابات: إنه خلق مناخ الانهيار، ويجب أن يشكل هذا الهدف قاعدة لكل ما تقوم به.
لا بد من أن ألفت الانتباه، إلى أنني لم أشأ القول بأن توالي الأحداث الموصوفة أعلاه يمكن أن يحدث في أي مكان، وأي زمان، ومن قبل أي كان، دون أن نحسب حساباً للظروف الموضوعية والذاتية. فقد تسببت الانتفاضات أو تنشأ عفوياً، وكأنها تعبير عن التظلمات أو الأماني المكبوتة أو بسبب عوامل أخرى: كالتعصب الديني، أو الخصومات الدموية، أو الهستيريا الجماعية الناجمة عن سبب ما (لقاء رياضي أو حادث اغتصاب... إلخ قد يؤدي إلى إراقة الدماء ومن ثم فوضى مرحلية) ولكن هذه الانتفاضات العفوية لا تتحول بالضرورة إلى حرب عصابات.
إن حرب العصابات (حسب تعريفنا) وسيلة ثورية، لا يمكن أن تنشأ إلا من واقع ثوري... ولذلك فإنني أجد نفسي مدفوعاً إلى الاستشهاد بما كتبه تشي جيفارا في كتابه (حرب العصابات):
(من المؤكد أنه لا ينبغي الاعتقاد بأن الزخم الناشئ عن نشاط حرب العصابات لا بد خالق لكل ظروف الثورة. ويجب أن نتذكر دائماً بأن هنالك حداً أدنى وضرورياً لا يمكن بدونه ولادة المركز الأول (للتمرد) وتعزيزه. ولا بد للناس أن يلاحظوا بوضوح عبثية متابعة الصراع من أجل الحصول على أهداف اجتماعية في إطار الحوارات الشرعية وعندما تتمسك قوى القمع بالسلطة ضد القانون القائم، يمكن اعتبار السلام محطماً).
(وفي هذه الظروف، يظهر الاستياء الشعبي بأشكال أكثر فعالية...)
(فعندما تتوصل حكومة إلى السلطة عن طريق الاقتراع الشعبي، سواء كان هذا الاقتراع مزوراً أم لا، وتتمسك بالسلطة مع مظهر الشرعية الدستورية على الأقل، فإنه لا يمكن لحرب العصابات أن تندلع، لأن إمكانات النضال السلمي كلها لم تستنفد بعد).
لقد قلنا أن حرب العصابات هي امتداد للسياسة بوسائل نزاع مسلح. ومنطقياً لا يمكن لهذا الامتداد أن يحدث بغتة، إلا عندما تنكشف و تصبح بلا قيمة كل الحلول السلمية المقبولة وأنها مجرد نداءات (عمل قضائي وقانوني، لجوء إلى صناديق الاقتراع). و فيما عدا هذه الحالة، لا يوجد أي أمل بالحصول على الدعم الشعبي اللازم للنشاط الثوري.
وحتى يقبل الناس مسؤوليات ومخاطر العنف المنظم، يجب أن يؤمنوا بعدم وجود خيار آخر، وأن تكون القضية ملزمة، وفرص نجاحها معقولة، وربما كان الدافع الأخير هو الأكثر قوة .
وعندما تبدو القضية عادلة، ويصبح الموقف لا يطاق، ولا يعود من سبيل ضد الطغيان، لا يبقى إلا طريق العمل. ولا بد عندها من جهد تحضيري ضروري ومنظم، قبل إمكانية افتتاح أية حملة من حرب العصابات.
وتظهر تجارب الجزائر وكوبا وثورات منتصرة أخرى، أن حرب العصابات تتطلب في معظم الحالات، المساعدة الفعالة من تنظيم سياسي لا يشكل جزءاً عضويا منها، ولكنه مخلص للقضية ذاتها، ويقدم ذراعاً مدينياً للحركة الثورية، قادراً على تأمين المساعدة بوسائل شرعية أو غير شرعية، كأن يقذف قنابل ليدافع عن الثوريين المحالين إلى المحاكم (إذا فرضنا أن هذه المحاكم لا تزال موجودة).
وإن أكبر عدو لحركات العصابات، هو العزلة العسكرية والسياسية وعلى التنظيم المديني منع هذه العزلة، وافتعال عمليات للإلهاء أو التحريض في الأوقات المناسبة، وإقامة اتصالات، وبذل الجهد في العالم أجمع لإثارة شعور بأن الثورة تأخذ مجراها، حتى ولو لم تكن تحرز أي تقدم يذكر.
ولهذا التنظيم عادة فرعان : أحدهما خفي وغير شرعي، والآخر علني وشبه شرعي.
ويوجد من جهة (الأشخاص الفعالون): كالمخربين والإرهابيين، ومهربي الأسلحة، وصانعي الأدوات المتفجرة، والصحفيين السريين، وموزعي المنشورات، والمراسلين الذين ينقلون الرسائل من قطاع حرب عصابات إلى آخر ويتخذون المدن كمراكز اتصالات.
كما يوجد من جهة أخرى المتعاطفون، مرافقو الطريق، الذين لا يعملون في الخفاء، ويتصرفون بشكل عادي ضمن إطار القانون، لكنهم يساندون جهود (الأشخاص الفعالين) ويقومون بأنفسهم بمهام أكثر أهمية أيضاً. وتمتلك المنظمة العلنية بالطبع اتصالات غير مكشوفة مع العناصر العاملة في الخفاء، التي تؤمن لها الاتصال مع العصابات في الأرياف. لكن عملها الحقيقي إعطاء الثورة واجهة محترمة، جبهة مدنية، أو كما يقول الكوبيون (مقاومة مدنية)، مؤلفة من مثقفين، وتجار، وموظفين، وطلاب وعمال... إلخ – وخاصة من النساء– قادرين على جمع الأموال، وتمرير العرائض، وتنظيم مقاطعة النظام، وإقامة التظاهرات، وإعلام الصحفيين الأصدقاء، ونشر الشائعات، وتغذية دعاية مكثفة بكل الوسائل المتصَوّرة، بغية تحقيق هدفين: إضاءة (صورة) الثوار وتقويتها، وتسويد سمعة النظام.
الفصل الثالث
(التجربة الكوبية)
ولادة الانتفاضة وتطورها – الانتقال إلى الحرب
الأهلية – الخيارات الأخرى – المثال الكوبي
لنفرض أن قضية ما موجودة، وأن كل إمكانات الحل السلمي قد استُنفدت، وأن التنظيمات السرية اتخذت أشكالاً هيكلية ولكنها كافية للعمل الفوري.
عندها ينفجر الصراع وينتشر في المقاطعة الأكثر بعداً، والتي يجعلها بُعدها أكثر ثورية، لأنها أكثر تعرضاً للإهمال، ولكونها أشد ملاءمة لحرب العصابات، بسبب بدائيتها وصعوبة الوصول إليها.
وتتشكل مجموعة من المدنيين المسلحين، الذين يطلقون على أنفسهم اسم الوطنيين، وتسميهم الحكومة قطاع طرق أو شيوعيين.
ويستولي هؤلاء المسلحون على مستودع أسلحة، ويحرقون مخفراً للشرطة، ويحتلون بشكل مؤقت محطة إرسال يذيعون منها بياناً باسم الثورة. لقد أزفت الساعة، وحمل لفيف من الناس السـلاح، وعلى الطاغية (الأجنبي أو المحلي) أن يرحل، إن مرحلة التحرير الوطني قد ابتدأت، وانتظمت الجبهات، وأعلنت أهداف الثورة ومبادئها بالبلاغة المطلوبة، مع استشهادات وطنية، ملاحظات تاريخية. إنها أهداف عادلة، ومبادئ محترمة. فمن يجرؤ أن يطرح أهدافاً ومبادئ أخرى؟ إنها تعبر عن مطالب شعبية وتجد صداها عند الشعب.
وتنتشر الشائعات في المدن والأرياف، ويأخذ الشباب الذين ينتظرون منذ زمن بعيد يوم القرار، بالتشاور بسرعة، ليحددوا الدور الذي يمكن أو يجب أو يستوجب على كل منهم أن يلعبه في الصراع. أما أعضاء أحزاب المعارضة، الذين اقتصروا حتى ذلك الحين على إلقاء خطابات أو كتابة مقالات، فإنهم يلفون أنفسهم مضطرين لاتخاذ موقف ما، وتقوم الضربة المنفذة بدور عامل مساعد على تحديد انتماءات جديدة وأوضاعاً مستقبلية، فمن سينضم للثائرين؟ ومن سيبقى على الحياد؟ ومن سيترك مبادئه ليشارك الطاغية قضيته؟
وبما أن الحكومة لا تتعامل مع مدنيين مسلحين، فلا بد لها من القضاء على العصيان، وإعادة النظام، وترميم الثقة. ومنذ ذلك الحين تبدأ السفارات الأجنبية طرح الأسئلة بكل تؤدة ، ولا تتردد عن استشارة المعارضة السياسية، بل إنها تتصل مع العصاة بشكل غير مباشر ، بغية الحصول على المعلومات أكيدة. ويقلق رجال الأعمال والمصرفيون، الأجانب وأبناء البلد، ويتساءلون باحتراز أقل. إذا تطور الموقف، فسيجذب حتماً الصحفيين الأجانب، الذين سيقدمون للعصاة منبراً يعرضون عليه قضيتهم ويضخمونها، رغم ضيق النظام الحاكم من ذلك .
ولا تهتم الحكومة حقاً لفقد بعض رجال الشرطة أو لمستودع سلاح، لكنها تحس بالهلع إزاء الدعاية التي تنتج عن مثل هذا العمل، والتي تبذر الشكوك حول استقرارها وصلابة اقتصادها. وبالإضافة إلى ذلك فإنها تبقى حائرة، لا تعرف ما إذا كانت الانتفاضة ستبقى محدودة.
وتظهر البلاغات المُطَمْئنة ، وتعزِّز الحاميات في المقاطعات بسرعة، بقوات أكبر وبكل سرية ممكنة، من أجل إخماد الانتفاضة واقتلاع جذورها .
تلك هي اللحظة الحرجة. فإذا كان اندلاع الانتفاضة قد حدث في أوانه، وفي موقع أُحسن اختياره، وكان على رأس الانتفاضة قادة أكفاء ومصممين، فإن الجهد العسكري يتعرض للإخفاق. إن كل التجارب الحاصلة منذ الحرب العالمية الثانية – وحتى قبلها بزمن بعيد، إبان حرب الاستقلال الأمريكية أو الحرب الإسبانية في زمن نابليون – تبرهن بأنه من المستحيل عملياً إخماد حرب عصابات في المناطق الريفية، التي تكفل مكاناً للتنقل والاختباء، منذ اللحظة التي تتمتع فيها الحرب المذكورة بمساندة السكان المحليين. وجلي أن عملية الإخماد يمكن أن تتحقق بإبادة السكان جميعاً، ولكن حتى هذه الطريقة لم تحقق للنازيين النجاح في أوروبا الشرقية، مع أنه لا يمكن اتهامهم بالتردد أو نقصان العزم والتصميم.
إن هذا لا يعني أن رجال العصابات يمكن أن يكسبوا معارك. ففي المراحل الأولى، يجب أن يشكل اجتناب المعارك قاعدة بالنسبة إليهم. وتعتمد استراتيجيتهم في تلك الفترة على:
الهجوم من أجل تحقيق أهداف محدودة، كاغتنام الأسلحة وفك الحصار والمشاغلة، وذلك عندما تبدو قوة النار وميزة الموقع وعنصر المفاجأة كافية لضمان النجاح.
استغلال الحملة لأهداف تعليمية، وكسلاح للدعاية، يكشف عجز العدو، والبرهنة على إمكانية مهاجمته دون قصاص، والتبشير بين سكان الريف بعد تبني تظلماتهم وطموحاتهم، وتحميل الحكومة مسؤولية إراقة الدماء، وإظهارها كمعتدية، ولا بد أنها ستغدو كذلك عند متابعة عملية القمع .
ولا يمكن في البدء إجراء إلا بعض الأعمال، وفي قطاعات معزولة. وعندما يتزايد عدد الثوار، يقسمون قواتهم إلى مجموعات، بغية حمل رسالتهم إلى مناطق جديدة وإزعاج الجيش على نطاق أكثر اتساعاً، وإجباره على تمديد خطوطه، الأمر الذي يضعفه، ويمنح الثوار فرصة تدمير وحداته الصغيرة، واحدة تلو أخرى.
وفي أثناء الحملة كلها، يجب تجنب البحث عن الحسم العسكري، حتى اللحظة التي يتحقق فيها توازن القوى، ويصبح بالإمكان مواجهة الجيش الحكومي مع ضمان النجاح بشكل واضح.
ويكون التحدي في البدء كافياً، فوجود الانتفاضة في حد ذاته يُفقد الحكومة سمعتها ويساعد قضية الثوار. لكن الصعوبة تكمن في الاستمرار سياسياً، لتكوين رأس مال العمل الثوري، الذي يمكن أن يكون ضعيفاً جداً عند الانطلاق. وكما أن على الحكومة أن تحفظ مظهر الاستقرار والتقدم، حتى تحافظ على بقائها، فإن العمل بالنسبة إلى قادة الثورة يشكل وسيلة إثبات صلابتهم واكتساب العون الشعبي.
لقد سدد ثوار العصابات ضربتهم الأولية. وبعد أن تتوقف ملاحقتهم، يجب أن يعودوا ليهاجموا من جديد مقدمة الحملة، أو أحد مراكزها المتقدمة، أو رتل إمداد، أو مستودع أسلحة.
فإذا كان التنظيم السري في المدن على مستوى دوره، فإنه يقوم عندئذ بأعمال إرهاب، وتخريبات في المصانع، لكي يشتد تفاقم الأزمة . وتحظى الفظائع التي يمكن أن ترتكبها السلطات في خلال القمع بدعاية واسعة. فإذا سقط شهداء، نظمت لهم جنازات عظيمة ، ومواكب تقودها أمهات الضحايا وتظاهرات للتعبير عن السخط الشعبي . وفي أنسب الأحوال، ينشب إضراب عام، تنشأ عنه أعمال انتقامية (منع التجول، الضرب بالهراوات، الاعتقالات) تبعد السكان عن النظام أكثر فأكثر، وقد تسبب بعض الضحايا، وتؤدي إلى وقوع حوادث أخرى .
وعندما يصبح واضحاً أن الحكومة لا تستطيع الحفاظ على النظام أو قمع الانتفاضة، تزداد قوة المد الثوري، فيلتحق طلاب بصفوف التنظيم السري، وينضم إلى عملية الاحتجاج على الملاحقات وفقدان الحريات المدنية، الطبقة العاملة، والعناصر الليبرالية من الطبقة الوسطى – كربات البيوت والموظفون والمستخدمون، والقوميون والاقتصاديون، والمثاليون من كل الأنواع – ويلتحق بصفوف رجال العصابات أعضاء التنظيم السري الملاحقون. كما أن الفلاحين، الذين يتعرضون لضربات الحملة العسكرية، التي ستصيب لا محالة الأبرياء المشكوك بانتسابهم إلى ثوار العصابات فإنهم ينضمون بدورهم إلى صفوف الثوار .
ومنذئذ، تستطيع القوة الثورية أن تعمل على مساحة واسعة، وأن تنشئ القواعد في مناطق يتعذر دخولها على الجنود. وتسمح هذه القواعد بإقامة حكومة ثورية، وتنظيم تموين ثوار العصابات بشكل مستقل عن الإغارات والتهريب.
وتتوسع هذه القواعد في مرحلة لاحقة، فيزاول الثوار ضغطاً مستمراً على قوات الحكومة في المناطق المجاورة للقواعد، ويجبرونها على الالتجاء إلى مراكز محصنة.
ويتخذ الصراع منذئذ طابع الحرب الأهلية بين كيانين إقليميين للبلد نفسه، لكل منهما حكومة واقتصاد، وتظهر بين الكيانين اختلافات أهمها :
1. يبقى إقليم العصابات ريفياً، ذا اقتصاد زراعي بدائي، بينما يكون إقليم خصومهم صناعياً محصوراً في المناطق المدينية، ويقدم أهدافاً مناسبة للتخريب.
2. تبقى الحكومة الشرعية خاضعة لكل الضربات، ولكل الضغوط السياسية والديبلوماسية والاقتصادية، وخاصة عندما لا تتوصّل إلى قمع الانتفاضة التي تزداد هيبتها دون انقطاع .
لقد انتهينا من عرض التطور المميز لوضع ثوري، منذ بداية التمرد وحتى مرحلة التعادل النسبي للقوى. ويبقى أن نعرف ما هو الحل الذي سيتلو ذلك، وهل سيكون عسكرياً أم سياسياً.
في الدول الصغيرة، نصف المستعمرة، التي يتوقف اقتصادها وإلى درجة معينة حكومتها على جار غني وقادر (كوبا هي المثال الثوري) فإنني أميل إلى الاعتقاد بأن الحل السياسي، الأسهل والأقل كلفة، ممكن بصورة دائمة تقريباً إلا في حالة التدخل الأجنبي .
وتقدم الثورة الكوبية صورة رائعة للسياق الذي وصفناه.
ففي كانون ثاني 1956، نزل فيديل كاسترو مع واحد وثمانين نصيراً مسلحاً من قارب إنزال على شاطئ ناءٍ في (أورينت)، تلك المقاطعة الواقعة في الجزء الشرقي من كوبا، وكانوا قد أتوا من المكسيك. ولم يبق منهم في نهاية الشهر التالي إلا دزينة (اثني عشر) من الرجال، وقتل الباقون أو أسروا، من قبل كمين عسكري، قبل أن يلحقوا بالجبال.
وبقيت نشاطات كاسترو العسكرية، ولمدة ستة أشهر، في منتهى الصغر. إغارات صغيرة على المراكز المنعزلة (لكنها زوّدت الرجال مع ذلك بما يكفي من السلاح لمضاعفة العدد عندما تقدم المتطوعون الجدد)، وعلى معاصر قصب السكر، وعلى القرى المجاورة لسلسلة جبال (سييرا مايسترا). وكان لدى كاسترو عندما قابلته للمرة الأولى في السييرا، خلال شهر نيسان 1957، حوالي مائة نصير، نصفهم كان قد وصل قبلي بخمسة عشر يوماً من (سانتياغو) العاصمة الإقليمية، حيث تشكلت نواة التنظيم السري المديني.
وكان أكبر عمل عسكري للكاسترويين خلال تلك الحقبة، هو هجوم 28 أيار 1957 على مركز (أوبرو) الصغير الذي كان يشغله سبعون جندياً. وكانت خسائر الثوار ثمانية قتلى، وخسائر الجنود ثلاثين قتيلاً. وكانت أعمال السنة الأولى كلها تقريباً على المستوى نفسه، إذ لم يزد عدد الرجال المشتركين في أي اشتباك، عن عدة مئات من كل جانب. وفي الحالات كلها تقريباً، وكانت المبادرة من قبل الثوار الذين كانوا يرغبون في الحصول على الأسلحة. وإذا كانت الأعمال العسكرية، قد بقيت صغيرةً! فإن الانتصارات الدعائية أتت مبكرة، وأخذت صفة عالمية، وتلاحقت بدون توقف. وجعل هربرت ماتيوس، مراسل النيويورك تايمز، من فيديل كاسترو إسماً مألوفاً في الولايات المتحدة ونشرت الدعاية أنباء أعماله في العالم قاطبة .
وكانت هذه الأعمال العسكرية الصغيرة انعكاسات سياسية واقتصادية ضخمة: حظر الأسلحة على حكومة باتيستا، وتقييد التوظيفات والقروض مما خلق ضغطاً شديداً على النظام، لم يلبث أن سبّب نقص النشاط وانعدام ثقة الإدارة. وكانت نتيجة هذين الانعكاسيين، جعل الجيش عاجزاً، في وقت كانت غالبية جنوده لم تسمع قط طلقة واحدة.
وكان فساد نظام باتيستا مماثلاً لعجزه. وعندما سقط، بدا وكأن سقوطه ناجم من ذاته وبسبب الضعف. أما الصحافيون الأجانب الذين كانوا يتابعون المسألة، فقد قدَّروا بأن حفنة ملتحي كاسترو المسلحين لم يساهموا في إسقاط النظام إلا على مستوى الدعاية.
ففي البدء احتقر باتيستا تلك العصبة من المغامرين السياسيين، المعزولين نهائياً في السييرا مايسترا النائية. وبعد إجرائه المحاولات الأولى التي نُفذت بدون قناعة قوية، من أجل طردهم من الجبال، مال إلى التفكير بأنه لا خطر هناك إذا تخلى لكاسترو عن إقليم ناء، وعر، (قليل السكان)، وليس له أية قيمة اقتصادية ولقد تواجدت قبل ذلك عصابات مضادة للنظام في السييرا، وحظيت بقليل من الاهتمام، وسببت ضرراً محدوداً. أما الدعاية التي أثارتها في هذا النطاق، فلقد انطفأت بسرعة، هكذا أجرى باتيستا محاكمته العقلية بدون شك، معتقداً أن الجوع سيطرد المغامرين مع الزمن من جحرهم، أو أنهم سيسأمون من حملة عقيمة.
ثم وصل إلى التفكير فيما بعد، بأنه بالغ في تجاهل أهمية التهديد، فأصبح يرى الثوار في كل مكان، حتى حيث لم يكن لهم وجود .
وبحيازته لقاعدته الجبلية، استطاع كاسترو تجنيد قوة غير نظامية كبيرة إلى حد ما، ونجح في أن يجعلها تبدو أكثر ثقلاً مما هي عليه، فشكلت دوريات سريعة الحركة، لا يتعدى تعدادها غالباً ستة أناس، وأخذت هذه الدوريات بالظهور في عدة أمكنة وفي وقت واحد، موسِّعة بذلك حقل عدم الأمن.
وفي آذار 1958، أعلن كاسترو بأسلوب بليغ (الحرب الشاملة)، وكشف عن أرتال تسعى إلى أهدافها الجوهرية في الجزيرة كلها. وتصرف جيش باتيستا إزاء ذلك وكأنه أمام اجتياح. ولم تكن لديه أي وسيلة ليعلم بأن هذه (الأرتال) لا تعدُّ بمجملها أكثر من مائتي رجل، وأن ما يدعى (بالجبهة الثانية) التي أُعلن عنها في ذلك الحين، كانت قد افتُتحت في شمالي (أورينْتْ) بخمسة وستين من ثوار العصابات، كان أكثر أسلحتهم قوة رشاش (براونينغ – 30).
وكان باتيستا قد دفع في بداية التمرد خمسة آلاف جندي إلى سييرا مايسترا ليضربوا نطاقاً حول المنطقة ويبيدوا الأنصار. ولكن طول السييرا أكثر من مائة وخمسين كيلومتراً من الشرق إلى الغرب، ويتراوح عرضها من خمسة وعشرين إلى أربعين كيلومتراً، وتكفي عملية حسابية بسيطة لتبرهن عن عدم كفاية القوات، وحتى لو ضوعف العدد، فإن المهمة ستبقى مستحيلة.
ولقد استُعملت الطائرات، لكن كثافة ورطوبة النبات (كما نوّه كاسترو)، حصرت أثر قنابل النابالم والقنابل المتفجرة لأقل من خمسين متراً. وحتى لو عرفت القاذفات بدقة مكان الثوار -وذلك لم يحدث- لما سببت لهم أذى كبيراً.. والحقيقة أنها لم تلحق الأذى إلا بأكواخ سكان الجبال، الذين يقطنون الفرجات المزروعة من الغابة.
وأصبحت السييرا بسرعة أول المناطق الحرة للثورة، وكُرّست السنة الأولى من الثورة لتنظيم قاعدة صغيرة -مشاغل لصناعة البزات النظامية والتجهيزات وأدوات التفجير البدائية، ولتصليح الأسلحة، وتحضير الأغذية المعلبة... إلخ- ولإجراء عملية التبشير بين سكان المقاطعة.
وجاءت مناوشة المناطق المتاخمة واعتراض دوريات الجيش كنتيجة طبيعية لوجود القاعدة. وكانت هذه العمليات سهلة نسبياً، وبفضل تعاون السكان الريفيين أصبح ثوار العصابات أكثر حصولاً على المعلومات من الخصم، ولم تستطع أية دورية عسكرية الاقتراب من الفيدليين إلى مسافة تقل عن بضعة كيلومترات.
وكان من أول أعمال كاسترو عند وصوله إلى السييرا، تنفيذ حكم الإعدام بمجرمين متهمين بالاغتصاب والقتل. فأقام بذلك، وبشكل مأساوي، حكومة ثورية، لها قانونها الذي يمكن أن يعتبر عنصر استقرار، في منطقة كانت دائماً مهملة من قبل حكومة (هافانا).
أما الإجراء التالي الذي أكسبه أنصاراً سياسيين ومتطوعين، فقد تمثل في إصدار قانون للإصلاح الزراعي، جعل من المزارعين والعمال الزراعيين ومستأجري الأراضي مالكين لما يستغلون.
وقد اتبع التكتيك نفسه على الهضاب التي تقطنها كثافة سكانية أكبر، وحيث توجد مزارع البن الغنية فلقد افتتح راؤول كاسترو في هذه الهضاب ما سُمي (بالجبهة الثانية)، فرانك بايِيس (بالإسبانية وتعني البلد الحر)، وفُرض فيها قانون، وجُبيت منها ضرائب، ومُنحت بعض الامتيازات (مدارس ومستشفيات)، ودفعت أثمان المشتريات نقداً وبكل عناية . ولقد عومل القرويون كما يعاملون من قبل أية حكومة، إلا أنهم خضعوا إلى توجيه سياسي مكثف وطلب منهم الانضمام الكامل إلى الثورة وأهدافها .
ولقد أبيدت بسرعة المراكز العسكرية القليلة، المؤلفة من بعض الرجال. فلم تعد تشكل عائقاً (للجيش) المؤلف من خمسة وستين نصيراً بقيادة راؤول كاسترو، الذي صار بإمكانه تركيز الجهد على هدف واحد.
وأرسلت أرتال حكومية، ونصب لها ثوار العصابات الكمائن، عند دخولها، وتركوها تمرّ، ثم هاجموها من جديد عند العودة. وكان الثوار يتفرقون في الجبل عندما يتعرضون للمطاردة، ثم يجتمعون في مكان آخر، ويعودون إلى القرى بعد انسحاب القوات الحكومية. وبعد عدة أسابيع، تعب الجيش من إرسال الدوريات، واكتفى بتقوية الحاميات داخل التجمعات السكنية، الواقعة على حافة الإقليم الحر . ولكن عندما ازداد عدد الأنصار عن طريق التطويع الداخلي، وتحسن اقتصادهم، اضْطُرّت الحكومة إلى إنقاص هذه الحاميات لأسباب أمنية. فلقد أصبح احتلال عشرات القرى والمزارع، والقيام بدور الشرطي على مساحة قدرها عدة آلاف من الكيلومترات المربعة، أمراً باهظ التكاليف، ويتطلب مصروفات كبيرة ووحدات كثيرة، فتركت القرى للثوار، وانسحب الجنود إلى المدن، وازدادت بالتالي مساحة الإقليم المحرر تدريجياً، ونشأت حوله منطقة منزوعة السلاح، حيث جرت مناوشات عدة، ثم تنازلت القوات الحكومية عن هذه المنطقة المحايدة قطعة إثر أخرى بعد أن رأت بأن الدفاع عنها يكلف غالياً جداً.
وبعد ثلاثة أشهر، ألفى الجيش نفسه عاجزاً عن حماية المناجم الأمريكية الكبرى للنيكل والكوبالت على التخم الغربي من (الأورينت)، إلا في ساعات النهار. وقد سمح الثوار بتشغيل هذه المناجم لأسباب سياسية، لكنهم استعاروا منها العدة اللازمة لهم: عشرات من سيارات الجيب ومركبات النقل، ومعدات لشق طرقات جديدة وتحسين الطرق الموجودة .
وأقيم مخفر حراسة للثوار على عدة أمتار من مدخل القاعدة الأمريكية الكبرى في (غوانتانامو). وكان الأمريكيون قد مونوا طائرات باتيستا بالوقود وجهزوها بالصواريخ في مناسبة أخرى رغم الحظر على الأسلحة. وأمسك ثوار راؤول كاسترو بخمسين من البحارة ومن رجال مشاة البحرية الأمريكيين الذين كانوا يقومون برحلة، واستولى على عرباتهم ودخل بعض الثوار المنشآت المنجمية ومزرعة اختبارية تابعة (لشركة الفواكه المتحدة)، للقبض على عشرات المدراء والمهندسين .
وألفى باتيستا نفسه في وضع حرج، إذ عرف العالم لأول مرة بأن جزءاً كبيراً من أرضه خارج عن نطاق سيطرته.
والحقيقة أن قيام عدة مئات من الأنصار بتحدي الولايات المتحدة يعتبر درساً سياسياً قاسياً، واشتد الضغط على باتيستا كي يفعل (شيئاً ما). وبسبب الظروف فإن من المتعذر أن يرى المرء ماذا كان بوسع باتيستا أن يفعل، سوى إبادة السكان وإحراق قراهم.
وفي المرحلة الأخيرة، اتبع بعض القادة العسكريين سياسة الأرض المحروقة، ونفذوها لكن بعد فوات الأوان، لقد أعدموا بعد ذلك واعتبروا كمجرمي حرب.
وشكّل الثوار قوات هامة، واقتصاداً قابلاً للاستمرار، في قواعد خلفية آمنة. ففي الأورينت الشمالية، سيطروا على كل محصول البن المقدر ثمنه بستين مليون دولار. ولم تستطع الحكومة أن تفعل شيئاً، فذهبت مضطرة لاستعادته، ودفع أتاوة للأنصار.
وحدث الشيء نفسه بالنسبة إلى منتجات زراعية أخرى، مما جعل الثوار يحصلون على الأموال، بالإضافة إلى سلع غير متوافرة في الأقاليم التابعة لهم. وكانت الحكومة بحاجة إلى هذه المحاصيل من أجل اقتصادها، كما توجب عليها الحفاظ على مظهر الموقف العادي، والادّعاء بأن الأمور تجري كالمعتاد (وقد لعبت الرشوة دوراً ما). لكل الأسباب تحملت الحكومة تلك التجارة، التي كانت تغذي الثورة .
وتتابعت أعمال حرب العصابات بشكل مبعثر، وعلى نطاق ضيق، وكانت تستهدف في الأساس تحقيق التشتيت، ومع هذا فقد كان لكل عمل منها هدف دقيق: الزيادة التدريجية للأرض الحرة، والاستيلاء على الأسلحة، وتدريب المتطوعين.
وجرت الأمور بشكل مماثل في مركز الجزيرة، وفي جبال (إسكامبري) وفي مقاطعة (لاس فيغاس). ففي بداية أيلول 1958، انطلق رتلان من سييرا مايسترا، والتحقا بالثوار في إسكامبري، بعد أن ساهما في حزيران بالقضاء على حملة حكومية بقوة فوج .
وتصاعد العمل العسكري تدريجياً على الجبهتين، وبدأت دوريات ثوار العصابات بقطع الطرقات الكبرى وبتدمير السكك الحديدية. ولم يمض وقت طويل، حتى أصبحت القوافل المحروسة فقط قادرة على التجول، ثم تعرضت بدورها إلى الهجوم بعد ذلك.
وتحولت العصابات التي كانت صغيرة في البداية إلى جيش، وتزايدت أعمال التخريب والإرهاب في المدن. وكانت سيارات الجيب التابعة للثوار تخترق هذه المدن بجسارة عند اللزوم. ودمّرت حاميات القرى الممتدة على طول الطرق واحدة تلو الأخرى، وأصبحت سانتياغو معزولة. وفي مركز البلاد، خرج قطار مصفح عن سكته وأحرق. وكان هذا القطار ينقل الجند للدفاع عن سانتا كلارا وسقط الجنود في الأسر، وسمحت الأسلحة التي تم الاستيلاء عليها بتجهيز متطوعين عدة.
وارتد جنود باتسيتا تدريجياً إلى ثكناتهم المحصنة، بعد أن فقدوا معنوياتهم. ولم تكن لديهم مصلحة بإجراء طلعات، فالثوار كانوا يتملصون من كل معركة إلا عندما يمتلكون التفوق الساحق. وكانت كل وحدة أقل من سرية أو حتى كتيبة، عرضة للإبادة في كمين. واختفت الاتصالات بين الحاميات تدريجياً. وعندما دقت ساعة الحسم العسكري، كانت معظم الوحدات محبوسة في حصنها الخاص، ولا تمارس حتى الرقابة على المدن التي كانت معنية بالدفاع عنها.
وفي ذلك الحين، كانت الحكومة وهيئة الأركان العامة فريسة لأزمة معنوية خطرة. وسيطر الحذر المتبادل داخل صفوفها، واستعد كل واحد للهرب أو الانضمام إلى العدو (الثوار). ووصل فقدان الثقة في باتسيتا إلى درجة أن السفير القوي للولايات المتحدة الأمريكية كان يفاوض المعارضة السياسية، ويبحث عن بديل محافظ، عندما غادر باتسيتا البلاد مسرعاً مع جنرالاته ووزرائه الرئيسيين.
ويهمل هذا الملخص للثورة الكوبية، الدور الذي لعبه التنظيم السري المديني وحركة المقاومة المدنية. ولقد كان دوراً كبيراً، استطاع بواسطة الاضطرابات والتظاهرات وأعمال المقاومة المدنية. ولقد كان دوراً كبيراً، استطاع بواسطة الاضطرابات والتظاهرات وأعمال التخريب والدعاية، هدم سلطة الحكومة، والنيل من الهيبة التي لم تكن الدولة بدونها قادرة على الاستمرار في توجيه الاقتصاد أو حتى على البقاء.
ومع ذلك، فإن العمل الحاسم تم على يد العصابات، التي خاضت حرب استنزاف، وقضمت المناطق الريفية، ووسعت المناطق المحررة، وحشرت الجيش النظامي في ثكناته.
وباستثناء بضع مئات الأسلحة ذات العيار الصغير، التي تم تهريبها من الولايات المتحدة، فإن كافة الأسلحة التي تجهز بها 15 ألف ثائر، قد تم الاستيلاء عليها من جند باتسيتا تباعاً، وبكميات صغيرة في كل مرة. وأدى الاستيلاء على سانتياغو عاصمة (الأورينت) إلى وقوع دبابات ومدفعيْن في أيدي الثوار كما أدى استسلام الثكنات في (لاس فيغاس) إلى إمداد الثوار بوسائل لمواجهة الأفواج التي بقيت لديها إرادة القتال.
لكن في هذه اللحظة، هرب باتسيتا، وأدى إضراب عام إلى سيطرة الثوار على العاصمة (هافانا) كما استسلمت الحامية الضخمة لمعسكر (كولومبيا) دون أن تطلق رصاصة واحدة، وانضمت البحرية إلى الثورة، وانتهت الحرب .
الفصل الرابع
(التجربة الصينية)
الحرب الطويلة الأمد – القوى الشعبية ضد الجيوش النظامية –
ثائر العصابات يقوم بدور المبشر – أقوال ماوتسي تونغ عن
حرب العصابات – دروس من الصين.
الحروب الثورية طويلة بالضرورة. ولا تنبت بذور الثورة إلا ببطء، وتنتشر الجذور بصمت تحت السطح، ولمدة طويلة قبل ظهور النبتة الأولى. ومن ثم يطول ساق القمح فجأة، ويصبح الثوار في كل مكان.
كثيراً ما يقال بأن حرب العصابات هي حرب استنزاف، وليس هذا التعبير صحيحاً تماماً. ففي الموضوع تفتيت مثلما فيه من هدم، وتخترق النبتات الشقوق في بناء نخر، وتنتهي بأن تجعله ينفجر.
وتبقى الحكومة خاضعة في المجال السياسي لضغط دائم، سببه اتساع النفقات، والوساوس الناشئة عن حملة القمع، والجلبة الدائمة من المعارضة والمصارف، وعالم الأعمال: متى ينتهي كل هذا؟ ماذا تنتظرون لتصفوا ذلك؟
لقد تحدثنا عن الاستنزاف الاقتصادي، الذي يشكل التخريب واحداً من أشكاله. والمظهر الآخر والأكثر أهمية، هو فقدان الهيبة، الذي يتحمله بلد في حالة حرب أهلية. ولا تستطيع أية أمّة صغيرة، كما لا تستطيع بعض الأمم الكبرى، الصمود أمام هذا الاستنزاف، إلى أجل غير مسمى، على حين يستطيع الثوار ذلك إلى ما لا نهاية.
وليس للثوار أي مصلحة مالية، وليس في صفوفهم معارضة، وليس لديهم مشاكل اقتصادية لا يمكن حلها إلا عن طريق اتساع الحرب والاستيلاء على ما هم بحاجة إليه. لذا فليس لديهم ما يفقدونه، بل لديهم إمكانية كسب كل شيء بمتابعة الصراع، كما أنهم لن يربحوا شيئاً وسيخسرون كل شيء، إذا ما تخلوا عن الصراع.
ففي كوبا، كما رأينا في الفصل الماضي، انهارت حكومة باتسيتا قبل المواجهة العسكرية الحقيقية. ولم ير الجيش سبباً لمتابعة النضال بعد هروب قادته، فاستسلم في حين أن الإضراب العام في هافانا –أي الانتفاضة الشعبية فيها– جعل العسكريين يفهمون بأنه لم يعد لهذا الصراع معنى وبعد فرار باتسيتا، كانت الحكومة الثورية وحدها قادرة على الحلول مكانه.
والمثال نموذجي للبلدان نصف المستعمرة، حيث يمكن للثورة أن تتحقق بدون خوض تجربة دموية في حرب حقيقية. وفي مثل هذا النوع من البلدان، يكفي (إذا لم تتدخل الدولة المستعمرة) أن تخلق حرب العصابات الشروط التي تنهار فيها الحكومة وتفقد اعتبارها (لأنها لم تعد قادرة على حفظ النظام أو تأمين الفائدة لملاكي الوطن)، فتسقط تلقائياً بسبب فقدان الدعم، ويسدُّ الثوار عندها الفراغ السياسي. وتدخل كل الدول التابعة للولايات المتحدة في أمريكا الوسطى، ومعظم جمهوريات أمريكا الجنوبية، التابعة لأمريكا اقتصادياً وسياسياً، في نفس فئة كوبا. وتستطيع حكومات البلدان المذكورة أن تقرأ قدرها على الحائط الكوبي، كما تستطيع واشنطن ذلك. لذا كانت الجهود شبه الهستيرية المبذولة طوال ستة أعوام، لعزل كوبا، ومنع انتشار العدوى. فإذا ما انتشرت، ويبدو أن ذلك قد حدث بقدر معين، فإن الظواهر نفسها ستحدث، إلا إذا تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً، ولكن التدخل سيخلق موقفاً جديداً تماماً: فقد نرى أمريكا اللاتينية وقد تحولت إلى فيتنام.
أما المستعمرات التي تحتفظ بها القوى الأوروبية، فهي تدخل في فئة أخرى. وهنا أيضاً يمكن للحل السياسي أن يمنع العمل العسكري. بيد أن القضية في المستعمرات لا تتعلق بتجريد الدولة الاستعمارية أو حكومتها من اعتبارهما، بل تتعلق بتجريد الاستعمار من مكاسبه وهيبته. وتقدم لنا قبرص مثالاً جيداً عن انتفاضة نجمت فقط لأن الإرهاب والتخريب والفوضى الدائمة قد انتهت بأن جعلت الجزيرة، لا تقدم أي مكاسب، ومربكة لإنجلترا، سياسياً، ولقد ذهب الإنجليز منها، ليس لأنهم طردوا، بل لأنه لم تعد لهم مصلحة من البقاء فيها.
وتتضمن الفئة الثالثة، الحروب الثورية التي يجب أن تُربح في النهاية فوق ساحة المعركة. وتشكل الصين النموذج الكلاسيكي لهذه الفئة، فلقد كانت المخْبر الذي صيغت فيه المبادئ المطبقة حالياً، وفي كل المناطق النامية من العالم .
تستطيع القوى الثورية قهر الجيوش النظامية، هذا هو الدرس الذي قدمته الصين. وبالأصح يمكن للقوى الثورية أن تصبح جيوشاً، محولة بذلك حرب العصابات إلى حرب حركة، حيث تكون لها الأفضلية على الجيوش النظامية المثقلة بالأسلحة الحديثة.
كيف يمكن لأمة غير صناعية أن تقهر أمة صناعية؟ هذه هي المعضلة التي فُرضت على ماوتسي تونغ كما قال كاتزنباخ، معاون وزير الخارجي السابق. ويبقى الجواب واحداً لكل الثورات: إنه حرب العصابات .
ويرى كاتزنباخ، أن، ماو قد حل المعضلة، بتطبيق النظرية العامة للحرب على حالته الخاصة. لكنه بدّل مكان شارة التشديد التي توضع عادة على العناصر الرئيسية، فالأمم الصناعية تشدد على العناصر المحسوسة: الأسلحة، الشؤون الإدارية، عدد الجنود، في حين شدد ماو على العناصر غير المحسوسة: الزمن والمجال والإدارة.
ولم يكن لديه التسليح الضروري لمواجهة الجيوش المجهزة جيداً، فتجنب المعركة متخلياً عن الأرض. ويقول كاتزنباخ : بعمله هذا قايض المجال بالزمن، واستعمل الزمن لخلق الإرادة: القدرة النفسية للشعب الصيني لمقاومة الهزيمة .
ذلك هو جوهر حرب العصابات .
ويقول كاتزنباخ: (ومع أن ماو لم يعبّر عن نظريته بهذا الشكل، فإن نظريته الأصلية هي أن التعبئة السياسية، يمكن أن تحل محل التعبئة الصناعية، للوصول إلى نتيجة عسكرية ظافرة. وبتعبير آخر، إن الذين يقبلون الهزيمة، هم وحدهم يمكن أن يُقهروا. وبالتالي، إذا أمكن جعل السكان بأكملهم يرفضون فكرة الاستسلام، فإن هذه المقاومة يمكن أن تتحول إلى حرب استنزاف ظافرة حتماً).
إن هذا كله يقودنا إلى تذكر قول ماو المشهور: (إننا بتعبئتنا لكل شعب الوطن، نخلق بحراً بشرياً واسعاً سيغرق العدو فيه).
ويقول كاتزنباخ: عن عامل الزمن:
(يعتبر مـاو أن النجاح العسكري ينبع من التحويل السياسي، لكن علينا الانتباه إلى أن التحويل يتطلب زمناً).
(وتتألف مشكلته العسكرية إذا من تنظيم المجال حتى يكسب الزمن، وكانت المشكلة السياسية تنظيم الزمن لخلق الإرادة، وأوضحت هذه الميزة شعاراً لقبول التضحيات وأعلى درجات البسالة في القدرة على تحمل الآلام بجذل. ولم تكن المشكلة العسكرية الحقيقية عند ماو أن ينهي الحرب بأقصى سرعة ممكنة –وذلك ما يجذب أنظار المفكرين الغربيين قبل أي شيء آخر– بل كانت مشكلته على العكس كيف يؤمن استمرار الحرب) . فلقد كان المقصود إذا تجنب الحسم العسكري، ولتحقيق ذلك: اضرب وتملص، قاتل لتبقى حياً، تراجع أمام تقدم عدوّ مصمّم، وأطبق عليه من خلفه كالبحر.
ولقد صُمّمت جيداً معادلة التخلي عن المجال في سبيل الزمن، لكن ماو ذكر في (مختارات من كتاباته العسكرية) بأنه لا يمكن أن نكسب شيئاً، ما لم نستعمل الزمن لتحقيق نتائج سياسية، ولإيقاظ الوعي الثوري وإرادة الجماهير:
(لا يقاتل الجيش الأحمر من أجل القتال، بل لإثارة الجماهير وتنظيمها ومساعدتها على إقامة السلطة السياسية الثورية وبدون هذه الأهداف يفقد القتال كل معنى، كما يفقد الجيش الأحمر مبرر وجوده) .
ويؤمن ماو بأن الحرب الثورية هي الجامعة التي يتعلم الثوار فيها. وإن هذه الحرب ستوَلّد دروسها ومبادئها الخاصة:
(إن طريقتنا الرئيسية أن نتعلم الحرب بخوضها ويستطيع الذين لم تُسمح لهم فرصة الذهاب إلى المدرسة أن يتعلموا الحرب بهذا الأسلوب، فالحرب الثورية مشروع جماهيري، وغالباً ما تفترض هذه الحرب التعلم لغرض الفعل، لكنها تتضمن الفعل لغرض التعلم. واستخلاص المعرفة من العمل. وهناك هوة بين المدني العادي وبين الجندي، لكنها ليست بعائق كالسور العظيم ، إذ يمكن ردمها بسرعة. أما أسلوب الردم فهو المساهمة في الحرب الثورية).
وأول واجبات ثوار العصابات هو التعبئة السياسية – رفع مستوى الوعي السياسي للشعب، ومساهمة الشعب الفعالة في النضال – وتتطلب طبيعة هذا الجهد فسحة من الزمن، وذلك ما يفسر طول أمد الحرب الثورية. ولكن أقوال ماو تكشف شيئاً آخر:
(لا بد من الزمن، ليس فقط لتحقيق التعبئة السياسية، لكن أيضاً للسماح لنقاط ضعف العدو الداخلية بأن تتفاقم تحت تأثير توتر الحرب).
ولقد قالها في عدة مناسبات، في كتاباته العسكرية. ففي الحرب الصينية – اليابانية مثلاً، كانت اليابان، قوة صناعية تمتلك ميزة ضخمة، بفضل آلتها الحربية القادرة على كيل ضربات مدمرة لقوات الصين، نصف الإقطاعية، نصف المستعمرة، وغير المصنعة وإذا لم تكن هذه الميزة حاسمة بشكل مباشر، فإنها لم تعوَّض السلبيات، التي كان لا بد أن تنكشف خلال الحرب الطويلة.
وكانت اليابان تفتقر إلى الموارد الطبيعية، والملاكات لتعهد آلتها الحربية في الخارج، وفي بلد شاسع ومأهول، في خلال حقبة طويلة. ولقد شنت الحرب في الواقع لتلافي هذا العيب. ولكن الاجتياح أدى بالضرورة إلى تفاقم الحاجة إلى الموارد الأولية. في هذه الحالة، كانت الحرب عملاً يائساً، وتناقضاً وُضع المحراث فيه أمام الثيران. فماذا يحدث إذا لم تُربح تلك الحرب بسرعة، ولم تُمتص الثروات المكتسبة وتُستغل بلا تأخير؟
ومن باب الحاجة، كان على اليابان أن تبحث عن حسم سريع. وكان الحل الصيني يتضمن منعها من تحقيق هذا الحسم، وذلك بالتملص من كل مواجهة عسكرية، واللجوء إلى أساليب حرب العصابات، والعمل المتحرك، ومبادلة المجال الصيني الشاسع مقابل الزمن اللازم في البداية، لإعطاء نقاط ضعف اليابان الداخلية الفرصة للنمو تحت تأثير حرب طويلة، والضروري بعد ذلك لإعطاء المقاومة القدرة والتنظيم اللازمين لمواجهة آلة الحرب اليابانية المنهكة تدريجياً.
وها هو تحليل ماو :
(لقد قادت اليابان الحرب تبعاً لعظم قدرتها العسكرية والاقتصادية، ولقوة تنظيمها السياسي، إلا أنها كانت في الوقت نفسه تملك إمكانات طبيعية غير كافية. وكانت هذه الدولة عظيمة من حيث الكيف، لكنها ضعيفة من حيث الكم. فاليابان بلد صغير نسبياً، ينقصه الرجال والموارد العسكرية، والمالية والمادية، ولا يستطيع تحمل حرب طويلة الأمد. لذا حاول مسؤولوها حل هذه الصعوبة بواسطة الحرب، فكان لا بد للنتيجة أن تكون بعكس رغباتها. أقصد أن جهدهم لحل الصعوبة قد فاقها، وانتهى بأن أنهك مواردهم الأصلية)
وظهرت عيوب أخرى :
أدت التناقضات الداخلية والخارجية للإمبريالية اليابانية، ليس للتورط في حرب مغامرة فحسب، بل إلى تقريب الانهيار النهائي أيضاً. ومن وجهة نظر النمو، لم تعد اليابان بلداً يتقدم، فالحرب لن تجلب الرخاء المقصود من طبقاتها الحاكمة، بل ستؤدي على العكس إلى انهيار الإمبريالية اليابانية. ذلك ما أردنا قوله بكلامنا عن الصفة الرجعية لحربها (اليابان). إن تلك الصفة الرجعية، المقرونة بالطبيعة الإقطاعية والعسكرتارية لتلك الإمبريالية، قد أعطتا الحرب همجيتها الخاصة. كل ذلك سيؤجج حتى الدرجة القصوى تناقضات الطبقات داخل اليابان، بين اليابان والصين ومعظم الدول الأخرى.
(... يمكن لليابان أن تلقى دعماً من البلدان الفاشية، لكن المعارضة العالمية التي ستصطدم بها ستكون أشد قوة من الدعم، وستتعاظم المعارضة تدريجياً وستنتهي ليس فقط بإلغاء هذا الدعم، بل ستصل أيضاً إلى اليابان نفسها.. وبالخلاصة، إن لدى اليابان ميزة القدرة على شن حرب كبرى، ولديها كذلك السلبيات التي تنجم عن الصفة الرجعية والهمجية للحرب التي تخوضها، ونقص الرجال والموارد الأولية، ولعدم اتساع سندها العالمي) .
وقد كان للصين أثناء النزاع ميزة المجال والزمن والإرادة. وقد قال ماو بأن النضال الطويل للتحرير الوطني قد عرك الشعب الصيني وقوَّاه ، وخلقت المكاسب الاجتماعية والسياسية إرادة قادرة على تفجير أعظم التضحيات، والمقاومة لمدة طويلة من الزمن.
(وعلى العكس من اليابان، كانت الصين بلداً كبيراً ذا مساحة شاسعة، وموارد هائلة، وعدداً كبيراً من السكان، ووفرة في الجنود، وقدرة على خوض حرب طويلة جداً) .
لقد كانت ميزات الصين تتمثل في المجال للمناورة، والأعداد الوفيرة، والمساعدة العالمية الفعالة . والإرادة لمقاومة العدوان. وكانت هذه الميزات أيضاً الأسباب التي دفعت الصين للمراوغة إلى الابتعاد عن الحسم السريع ، لصالح حرب طويلة تتضاءل فيها ميزات اليابان .
ولقد حدّدت المبادئ نفسها سمة الصراع ضد (أسياد الحرب) الكومنتانغ بعد ذلك. وعند تحليل ماو للموقف، لاحظ التناقضات والنزاعات على المصالح التي تتقدم على مختلف المستويات: مثل النزاعات بين القوى الإمبريالية الساعية إلى السيطرة على الصين، والنزاعات بين الطبقات الصينية الحاكمة، أو الموجودة بين هذه الطبقات وجموع الشعب.
1. أن النزاع بين (أسياد الحرب) والحكومة الوطنية يزيد من عبء الضرائب.
2. إن زيادة الضرائب تجبر ملاك الأراضي على نهب مبالغ أكبر من الفلاحين، فتزيد من حقدهم ضد هؤلاء.
3. إن تخلف الصناعة الصينية بالنسبة إلى الأجنبية والامتيازات الأجنبية في الصين تسبب استغلالاً بشعاً لليد العالمة الصينية وتغرس إسفيناً بين الشغيلة والبورجوازية.
4. بسبب تدفق السلع الأجنبية، ونقصان القوة الشرائية التي تملكها الجماهير العمالية والفلاحية، وازدياد الضرائب، يتزايد عدد المفلسين من صناع السلع الصينية وبائعها. ولأن الحكومة الرجعية قد زادت عدد جيوشها إلى حد بعيد، ووسعت الحرب باستمرار، رغم فقدان المؤن والأموال، فإن جموع الجنود تتعرض إلى حرمانات دائمة. وبسبب زيادة الضرائب والإيجارات والفوائد المطلوبة من قبل ملاك الأراضي نتيجة ويلات الحرب، يسيطر الجوع واللصوصية في كل مكان، وتجد الجماهير الفلاحية وفقراء المدن صعوبة في الحفاظ على البقاء. وتفتقر المدارس للمال ويخشى كثير من الطلبة من انقطاع دراستهم، ونظراً لتخلف الإنتاج، فإن الكثير من حملة الشهادات لم يعد لهم أي أمل بالحصول على عمل.
والنتيجة :
(عندما نفهم كل هذه التناقضات، يمكن أن نرى أي موقف يائس وأية فوضى كانت الصين فيها، كما يمكن أن نرى أيضاً أن المد ضد الإمبريالية وأسياد الحرب وملاك الأراضي، أمر حتمي وسيأتي عما قريب. إن أكوام الحطب الجاف منتشرة في الصين بأكملها، ولن تلبث هذه الأكوام، أن تلتهب. ويقول المثل: تكفي شرارة واحدة لإشعال حريق في الغابة. وذلك ينطبق تماماً على الموقف القائم. فيكفي أن نلاحظ الإضرابات العمالية، وانتفاضات الفلاحين، وعصيانات الجنود، وتظاهرات الطلبة، لنفهم بأن هذه الشرارة ستأتي سريعاً لتشعل حريق الغابة).
وفي نظريته عن حرب العصابات ضد الأعداء الداخليين والأجانب، يميز (ماو) بعناية عدة مراحل من النمو، ويشدد خاصة على الأولى منها والتي يسميها مرحلة (الدفاع الاستراتيجية):
قد تدوم هذه المرحلة عدة أشهر، وليس للأرض في البداية أي أهمية، والاستنزاف هو كل شيء. لذا يُسمح للعدو بأن ينتشر كما يشاء، بل يشجع على ذلك. ويتخلى ثوار العصابات عن الأرض، ويكتفون بعمليات الإزعاج عاملين دوماً على المؤخرات، دون أن يقدموا للعدو جبهة مستمرة في أي مكان.
خلال هذه المرحلة، يشن العدو هجوماً استراتيجياً يستهدف القضاء على ثوار العصابات. ويتميز نشاطه بمجموعة من أعمال التطويق والإبادة، التي تتضمن احتلال اقليم وتنظيفه مساحة بعد أخرى من الطاعون الذي سببه الأنصار.
ويطرح هذا الجهد تناقضاً ضمنياً: إذ يتحول جزء أكبر فأكبر من أرض الوطن إلى (منطقة مؤخرة) بالنسبة إلى الجنود الحكوميين. وهنا تحقق حرب العصابات أفضل تأثيراتها. وتطوّق قوى القمع كثيراً من مناطق النشاط – دون أن تتمكن من إيقافه – لكنها تتطوق في الوقت نفسه من قبل ثوار العصابات، الذين يستطيعون الإفلات من الطوق بالانتشار وذلك ما لا ينطبق على الجيش. أين الجبهة؟ إنها غير موجودة. وتتوسع تحركات الرجال والمعدات، وتصبح أكثر كلفة، وتمتد خطوط الاتصالات وتصبح أشد حساسية و عرضة للقطع. ويقدم الجيش بانتشاره أهدافاً أكثر عدداً، ويمكن ضربها بسهولة، ويزيد مصادر الأسلحة والذخيرة بالنسبة إلى الأنصار.
ولا تتغير استراتيجية ثوار العصابات خلال هذه المرحلة، لكن التكتيك يختلف بتباين المواقف. وتتضمن هذه الاستراتيجية إجبار العدو على الامتداد ما أمكن، وعلى إزعاجه في كل نقاط ضعف خطوطه، وعلى التجمع، لتصفية – وليس فقط هزيمة – الوحدات الصغيرة واحدة تلوى الأخرى.
يقول ماو: (إن تكتيكنا هو تكتيك حرب العصابات وأهدافه الرئيسية هي:
1. تقسيم قواتنا لاستنهاض الجماهير، وتركيزها للعمل ضد العدو
2. إذا تقدم العدو فإننا نتراجع، وإذا خيّم نناوش، وإذا تعب نهاجم، وإذا انسحب نطارد.
3. توسيع مناطق القواعد، والتقدم بموجات، وعندما يهاجمنا عدو قوي، فإننا نتسلل على أجنابه لنصل إلى مؤخرته.
4. إثارة أكبر كتلة جماهيرية ممكنة، في أقصر وقت ممكن، وبأفضل الوسائل الممكنة.
ويعادل هذه التكتيك – رمي الشِّباك، فيجب أن نستطيع في كل لحظة قذف الشبكة أو سحبها، إننا ننشرها على أوسع نطاق ممكن، لنكسب الجماهير، ونضيقها لنمسك بالعدو).
وتُرمى الشبكة في المناطق حيث تكون المقاومة ضعيفة. وينتشر ثوار العصابات للقيام بالتوجيه السياسي، وتحسين الاقتصاد الداخلي للحركة الثورية، وإقامة قواعد خلفية. قواعد قد تنتشر، أو تتقلص، بل قد تُترك من لحظة إلى أخرى.
وتُسحب الشبكة عندما تكون المقاومة قوية. ويتركز رجال العصابات – كما يقول ماو – بمعدل اثنين أو ثلاثة أو أربعة أو ستة ضد واحد، ويركّزون جهدهم على نقطة معادية ضعيفة.
ولا تدوم المعارك طويلاً. ولقد تصوَّر ماو على العكس هجوم (الخمس دقائق) الذي يتضمن انقضاضاً مفاجئاً، وقتالاً قصيراً، عنيفاً، وانسحاباً سريعاً وبنفس الدرجة من الفجائية، بعد أن يسبب الهجوم أكبر ضرر، ويؤمن الاستيلاء على أكبر عدد ممكن من الأسلحة، ولكن دون أن يكون هناك أي تأخر. إنها عكس الاستراتيجية الغربية. فالجيش المدعوم بصناعة قوية، يستطيع أن يجعل من كل معركة اختبارا تكنولوجياً، حيث يؤدي تفوّق التسلح واللوجستيك في النهاية إلى تحقيق النجاح. لكن العصابات لا تستطيع الاعتماد إلا على السرعة، وميزة الموقع، والتفوق العددي المحلي. وعليها أن تقطع الاشتباك قبل أن تتمكن الأسلحة الثقيلة من التدخل.
تلك هي كما قلنا حرب البرغوث. فهو يخز، ويقفز، ويعاود الوخز، ويتجنب بحذق القائمة الساعية إلى سحقه. إنه لا يستهدف قتل خصمه، بل إنهاكه، والحصول على الغذاء منه، وإزعاجه، وإثارته، ومنعه من الراحة، وإتلاف أعصابه، ومعنوياته، ولتحقيق ذلك لا بد من الزمن، اللازم أيضاً للتكاثر. إن ما يبدأ وكأنه عدوى محلية، يجب أن يصبح وبائياً، عن طريق تقارب المناطق المهاجمة واندماجها، وكأنها بقع حبر على ورق النشاف.
وفي خلال المرحلة الثانية – مرحلة التوازن – تقوم هدنة، عندما تتأكد الحكومة بأنها لن تستطيع القضاء على ثوار العصابات، فتكتفي عندها وقتياً باحتوائهم، ريثما تحضِّر الهجمات الجديدة. ولا يستطيع ثوار العصابات القضاء على الجيش، فيتابعون، إزعاجه، مستفيدين من الجمود العسكري لتنمية قواعدهم الثورية، وقضم المناطق المنزوعة السلاح التي تحيط بكل منطقة محررة، وتحسين تنظيم الإمداد والتموين ومشاغل تصليح الأسلحة، وتشديد تحريضهم للشعب، وشن حرب الدعاية، وإضرام النزاعات الداخلية التي يعاني منها المعسكر الآخر بالضرورة، نظراً لأن نهاية النزاع تتباعد أمامه أكثر فأكثر.
وتبدأ المرحلة الثالثة، مرحلة الهجوم الثوري العام، عندما تصل القوى المتواجهة إلى التوازن، فيأخذ ثوار العصابات زمام المبادر، ويعملون منذئذ كجنود قادرين على شن معارك نظامية. فيهاجمون بدلاً من اللجوء إلى التملص، مركزين على نقاط العدو الأشد حساسية وضعفاً، ولا ينتشرون، فإذا حوصروا عند التعرّض للتطويق، فإنهم يحاولون اختراق الطوق بالقوة (ربما بتغطية عمل تشتيتي يتم في مكان آخر).
ويؤدي تصرفهم هذا، واستخدامهم لتكتيكهم القديم تارة والجديد تارة أخرى، إلى النجاح في قطع خطوط المواصلات، وبتطويق المفارز المعادية وتدميرها واحدة تلو أخرى، ويحتلون بدورهم أقاليم شاسعة، ويوسعون قواعدهم، ويجعلون العدو عاجزاً عن البقاء في الأرياف ، ثم يهاجمون المدن الصغيرة دافعين الجيش المعادي إلى نقاطه المدينية القوية، التي يمكن القضاء عليها بالتتابع.
وبقدر ما تتقلص القوة البشرية المعادية، بسبب الأسر والإبادة والهرب، (تزداد حالات الهرب عندما يكون في جيش العدو المستعمر وحدات من السكان المحليين)، يكتسب الثوار أسلحة ثقيلة – دبابات ومدافع – تسمح لهم بمهاجمة مواضع ذات قوة أعظم، إلى أن تؤدي هجمات الثوار، المدعومة بالانتفاضة الشعبية، إلى استسلام الجيش وانهيار الحكومة .
يتبين في كل هذا السياق مبدأ هو: كلما احتل العدو أرضاً كلما ازداد ما يتوجب عليه الدفاع عنه، وما يقدمه من أهداف للهجمات. ومن جهة أخرى، كلما قاتل رجل العصابات ونجح، ازداد حصوله على وسائل القتال والنجاح من الأسلحة، والمقاتلين والموارد المادية. وهكذا فإن أهداف الحكومة وأهداف الانتفاضة متناقضة كلياً. فالعسكري يسعى إلى انتهاء الحرب بأسرع ما يمكن بغية تحديد خسائره، وفي حين يسعى الثائر إلى إطالة أمد الحرب، لأن المجال أمامه مفتوح لكسب كل شيء .
ومن المؤكد أن الانتفاضة لا تستطيع تحقيق أهدافها بين يوم وليلة، ولا حتى في فترة زمنية محددة مسبقاً. وهناك نقطة أساسية في نظرية (ماو)، وهي أن المراحل قد تتشابك، وأن حالات الفشل يمكن أن تقع، وأن تضطر وحدات للتحول من جديد إلى عصابات، وأن تتناقل الأيدي بعض الأقاليم عدة مرات.
وتأخذ نشاطات العصابات، على الخارطة في البداية، شكل نقاط، وتكبر هذه النقاط شيئاً فشيئاً لتصبح بقعاً، ثم يتصل بعضها مع البعض الآخر لتغطي باللون الأحمر كل أرض الوطن. لكن فلننتبه: إن التلوين لا يتقدم من الشرق إلى الغرب، أو من الجنوب إلى الشمال، بل من الجبال والغابات نحو المناطق المزروعة، ثم إلى قرى هذه المناطق، ثم إلى المدن على طول الطرقات الكبرى، دون أن يطغى على هذه المدن، إلا في المرحلة النهائية .
ويبدو هذا السياق بوضوح، في الحرب التي شنها الشيوعيون على قوات تشانغ كاي تشيك الوطنية، بعد الحرب العالمية الثانية. ودامت الحملة سبعة عشر شهراً وفقد الوطنيون، 640 ألفاً بين قتيل وجريح، ومليوناً وخمسين ألف أسير. ويوضح (ماو) مختلف نقاط استراتيجية كما يلي:
(
1. أولاً مهاجمة القوى العدوّة المشتتة والمعزولة، ثم القوى المجمّعة.
2. الاستيلاء أولاً على المدن الصغيرة والمتوسطة، مع مناطقها الريفية، ثم الاستيلاء على المدن الكبرى.
3. الهدف الرئيسي، هو تدمير قوات العدو، وليس الاستيلاء على مدينة أو مكان. فاحتلال مدينة أو مكان ينجم عن تدمير قوات عدوّةٍ، ويمكن أن تتناقل الأيدي المدينة أو المكان عدة مرات.
4. في كل معركة، علينا أن نركّز القوى التي تتمتع بالتفوق المطلق (بمعدل اثنين، ثلاثة، أربعة، وحتى خمسة أو ستة ضد واحد)، ونطوق العدو تماماً، ونبيده كلياً، دون أن نسمح لأحد بالهرب . ونستعمل في بعض الظروف طريقة تتضمن التحشّد لتحقيق هجوم جبهي، مع هجوم على مجنبة أو مجنبتين، بغية تدمير جزء من قوات العدو، وإلحاق الهزيمة بالجزء الآخر، حتى نستطيع الانتقال بسرعة إلى نقطة أخرى، لسحق قوات أخرى. وأن نحاول تجنّب معارك الاستنزاف التي نفقد فيها أكثر مما نكسب أو التي نخرج فيها متعادلين . وبهذا الشكل ولو كنا أقل من العدو عدداً بشكل عام، ويمكننا أن نتفوّق في حملة معينة، وأن نحقق بالتالي انتصاراً. وسنتوصّل مع الزمن لنصبح متفوقين عددياً (بشكل عام وليس محلياً)، فيَنْكُس عندها العدو.
5. ألا نشنّ معركة بلا تحضير، وألا نشتبك في معركة إلا إذا كنا واثقين من كسبها، وأن نبذل كل جهودنا من أجل الاستعداد لكل معركة، وحتى نضمن الظفر في الشروط المتوافرة.
6. أن نستغل تماماً طريقتنا في القتال – الشجاعة في الصراع، بلا أي خوف من التضحيات أو التعب، والقتال المستمر (ويقصد به فوضى معارك قصيرة متلاحقة، دون اللجوء إلى الراحة بينها).
7. محاولة إبادة العدو عندما يكون متحركاً، دون أن نهمل في الوقت نفسه تكتيك مهاجمة المواقع، وانتزاع النقاط القوية والمدن .
8. أن نعيد تكوين قوانا بكل ما نغنمه من أسلحة وبالجزء الأعظم من أفراد العدو الأسرى. وتشكل الجبهة موردنا الرئيسي من الرجال والمعدات .
9. الإفادة من الفواصل بين الحملات، لإراحة جندنا وتدريبهم وتقويتهم. ويجب أن تكون هذه الفواصل قصيرة إلى حد ما، وعلينا أن نفعل ما نستطيع القيام به لمنع العدو من الحصول على فواصل مماثلة)
قد يبدو هذا الكلام بديهياً. لكن علينا الإشارة إلى نقاط هامة، يتصادم بعضها مباشرة مع العقيدة العسكرية التقليدية.
مع أن الحرب المتحرّكة التي يقوم بها الثوار (في المرحلة النهائية) تشابه حرب القوات النظامية، فإنها تُبنى على استراتيجية حرب العصابات، وتسعى إلى أهداف مختلفة، إلى حد ما عن أهداف الحرب النظامية. فالثوار يندفعون من المناطق الريفية نحو التجمعات السكنية ثم نحو المدن، وهم يحتلون المرتفعات والأحراج قبل أن يستولوا على الطرق. ويختلف تصرفهم هذا كلياً عن الاستراتيجية الغربية التي تسعى أولاً إلى إمساك النقاط القوية (مراكز صناعية، عقد المواصلات، التجمعات السكنية الكبرى) ولا تنظف الأرياف إلا متأخرة. وليست النقاط القوية مما يهم الثوار، بل الأرض التي لا يستطيع العدو منازعتها عليها دون أن يتعارض مع مبادئه، أي دون أن يُمدّد خطوطه ويُضعف قوته الهجومية. وهكذا فالتسلسل عند الثوار هو الأرياف أولاً ثم المدن .
يشكل جيش العدو عادة المصدر الرئيسي للذخيرة، كما يشكل في الصين مصدر القوة البشرية للثوار. فالجنود الصينيون المجنّدون إلزامياً، كانوا يتقاضون أجوراً قليلة أو معدومة، وكانوا غالباً سيئي التغذية واللباس. وهم أيضاً من الفلاحين، وكان توقع فرارهم سهلاً . ولم يجد (ماو) حرجاً في تجنيد الخارجين عن القانون . فقد كان لهم نفس منشأ جنود الجيش الوطني وجنود (أسياد الحرب) ويعيشون في الشروط نفسها، وينخرطون بسهولة في سبيل القضية الشعبية. ولا شك أن (ماو) كان يعتقد أن الفلاحين الذين حصلوا على بعض التدريب العسكري، هو أكثر قابلية للانخراط في الثورة من الآخرين. أما عن التموين، فإن مبدأ حروب العصابات كلها، صينية كانت أم لا، هو أن العدو يشكل المصدر الرئيسي للأسلحة والذخائر ذلك لأن الذخيرة ذات العيار المناسب تكون في متناول الأيدي، ومن ثم تتناقص المشكلة اللوجستيكية، وتأخذ شكلاً بسيطاً. فخطوط التموين العدوّة تغذي المعسكرين، وتخدم الثوار بشكل أفضل في بعض الأحيان .
إن استراتيجية حرب العصابات ديناميكية، فلها أهداف عسكرية وسياسية إيجابية. فالدفاع الاستراتيجي لماو دفاع فعّال فهو قائم على الهجوم الدائم. أما عمليات الإزعاج، التي تشبه عمليات المؤخرة لجيش عادي، فإنها تسعى إلى غاية مختلفة، وتستهدف إنهاك العدو، وإجباره على تمديد خطوطه إلى أقصاها، حتى يمكن مهاجمته منعزلاً.
ويقول ماو (يستطيع ثوار العصابات أخذ زمام المبادرة، إذا تذكروا نقاط ضعف العدو. وبما أنه لا يملك أعداداً كافية من الجنود، فإن بوسع الثوار أن يعملوا على مساحات شاسعة. وبما أنه أجنبي وهمجي، فإن بإمكان الثوار اكتساب ثقة الملايين من مواطنيهم).
لقد كان يتحدث عن اليابانيين، ويؤكد بأن مبادئه تنطبق على الصين بشكل خاص. لكن قد تأخذ الكلمات معنى أكثر تعميماً، إذا استبدلنا كلمتي (الأجانب والهمجيين) بكلمتي (المعتدين المستغلين).
ويقول ماو: (ففي تكتيك حرب العصابات تظاهروا بالقدوم من الشرق عندما تهاجمون من الغرب، تجنبوا القوي وهاجموا الضعيف، هاجموا، انسحبوا، وجَّهوا ضربة مذهلة، وحاولوا الحصول على حسم خاطف.
ومآل حرب العصابات إلى الفشل، إن لم يكن لها هدف سياسي، أو كان هذا الهدف لا يتطابق مع تطلعات الشعب أو لا يستطيع اكتساب تعاطفه وتعاونه ومشاركته. فحرب العصابات إذا سياسية في جوهرها.
ومن جهة أخرى، وفي حرب ذات طبيعة مضادة للثورة، تكون أساليب حرب العصابات في غير محلها، لأن حرب العصابات تنبع أصلاً من الجماهير وتتلقى منها الدعم، ولا يمكن أن تتواجد وتزدهر إلا بفضل تعاطفها وتعاونها).
إن القواعد المعطاة من قبل ماو ذات صفة بلاغية، وهي في الغالب أقل وضوحاً مما نرغب، وتترك كثيراً من الأسئلة بلا جواب. ويجب أن نتذكر بأن كتاباته هي مراجع سياسية وليست نظاماً لتعليم الثوار. ولا تشكّل كتاباته سوى أبجدية حرب العصابات، ولكن دراسة حملاته، التي انتهت بهزيمة جيش يضم ثلاثة ملايين وسبعمائة ألف رجل (أكبر جيش عرفته الصين حتى ذلك الحين) تُعلمنا كثيراً من الأشياء الممكن استعمالها في بلاد مثل الصين، لا تمتلك أسلحة أو صناعة، ولكنها تمتلك المقومات الأساسية للحرب الثورية ألا وهي: المجال والزمن والإرادة.
الفصل الخامس
(التجربة الفيتنامية)
الحرب الاستعمارية والتجربة الفرنسية – استراتيجية وتكتيك
فونغوين جياب – كيف انتصر الفييتمينة في الهند الصينية
كيف طُبقت (قوانين الحرب الثورية)، المبيّنة من قبل ماوتسي تونغ، على مستعمرات الدول العظمى؟
لقد سجل التاريخ النتيجة. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم يخسر أي شعب حرباً شنها على الاستعمار. (لا تشكل ماليزيا والفلبين إلا استثناءات ظاهرية، وسنتحدث عنهما في الفصول التالية).
ففي أكثر الحالات ملاءمة، سلمت القوة الاستعمارية سلطتها في الوقت المناسب، منحنية أمام رياح التاريخ. وفي الحالات الأخرى، لم يُكتسب الاستقلال إلا بالإرهاب والفوضى المدنية، كما في قبرص والمغرب، أو بقوة السلاح، كما في الجزائر والهند الصينية .
ويقدم النضال الذي جرى ضد الفرنسيين في الهند الصينية أهمية خاصة تماماً، إذ نجد فيه المثل المزدوج لحرب ثورية استمرت حتى الحسم العسكري (على عكس الانتفاضة التي تؤدي إلى الحل السياسي)، وأُديرت بوعي حسب تعاليم (ماو). يقول كاتزنباخ:
(إن الحرب التي شنها الفييتمينة في الهند الصينية الشمالية، اتبعت التعاليم (تعاليم ماو) مرحلة تلو أخرى، مع أن قادتها ادعوا بأنهم حسّنوا العقيدة القتالية).
لقد دامت من العام 1946، في اللحظة التي حمل فيها هوشي مينه السلاح ضد الفرنسين (كان هوشي مينه في الواقع يسيطر عملياً على فيتنام لعام مضى، منذ استسلام اليابان) وحتى عام 1954، العام الذي قسمت فيه البلاد إلى جزئين، يفصلهما خط العرض 17، في مؤتمر جنيف العـالمي، بعد سقوط موقع (ديان بيان فو) الحصين.
وإن لم يكن هذا الانتصار كاملاً لشيوعي الفييتمينة، فقد كان هزيمة كاملة للفرنسيين، حددت نهاية سيطرتهم في الهند الصينية. لقد بقيت الكتلة الرئيسية للقوات الفرنسية المؤلفة من خمسمائة ألف رجل سليمة من الناحية العملية (112 ألف قتيل وجريح في خلال 8 سنوات)، لكن معنوياتها كانت محطمة، ولم يستر الحل السياسي حقيقة أن الأسلحة الفرنسية عانت هزيمة مهنية، من قبل ما كان معتبراً بمثابة جيش محلي، يمكن سحقه في أقل من عشرة أسابيع.
وفي خلال تلك السنوات الثماني، أضحى ما كان في البدء عصابات تقوم بعملياتها على مستوى سرية أو فصيلة، عبارة عن جيش نظامي، منظم في فرق تمتلك المدفعية الخفيفة، وقادر على مجابهة أفضل الجند الفرنسيين. ومع أن هذا الجيش قد قاتل خلال المرحلة الأخيرة، وهي مرحلة الهجوم الاستراتيجية المحددة من قبل (ماو)، فإن الجزء الأعظم من الحملة الطويلة كان من عمل حرب العصابات.
ولقد عرّف الجنرال فونغوين جياب، بطل ديان بيان فو هذه الحرب مستخدماً تعابير ماو نفسها:
(إن حرب العصابات هي شكل النضال الذي تتبناه جماهير بلد ضعيف سيء التجهيز، للصراع ضد جيش معتد يمتلك تجهيزاً متفوقاً ومستعملاً تقنية أفضل. إنه الأسلوب الملائم للثورة. ويعتمد ثوار العصابات على بطولتهم من أجل الانتصار على الأسلحة الحديثة، وتجنب العدو عندما يكون الأقوى، ومهاجمته عندما يكون الأضعف إنهم يتفرقون أو يجتمعون، لاستنزافه تارة ولإبادته تارة أخرى، ولكنهم يمتلكون دائماً إرادة القتال في كل مكان، بحيث يجد العدو نفسه أينما ذهب غارقاً في بحر من البشر المسلحين، الذين يهاجمون، ويدمرون معنوياته ويُنهكون قواه) .
ولحسن حظ قضيته، كان جياب قد تمثل الحكمة التطبيقية لمعلّمه، وتعلم بلاغته وقد كان يدرك ما يقول عندما يكتب:
(إذا كان من الواجب الانتشار لاستنزاف العدو، فإن من الضروري أيضاً تشكيل قوى هامة، في الأوضاع الملائمة، للحصول على التفوق في مكان وزمن محددين بُغية إبادته. وعندما تتراكم النجاحات الصغيرة، فإنها تستنزف جنود العدو تدريجياً وتزيد عدد قواتنا والهدف الأساسي هو إبادة قوات العدو وعلينا ألا نعرض قوانا للدمار من أجل الاحتفاظ بأرض أو احتلالها).
إن هذا التعريف للهدف عسكري بحت، ففي إطار القتال ضد المستعمر، يكون للآثار السياسية لحرب العصابات ولا شك أهمية أقل من أهميتها في حالة الانتفاضة ضد حكومة بلد نصف مستعمر، مثل كوبا. وكذلك فإن لها أهمية أقل عندما يتعلق الأمر بالدفاع ضد جيش أجنبي يجتاح البلاد، كما كانت حالة الجيش الفرنسي بعد الحرب العالمية الثانية. لكن إذا كان الأمر يتعلق بالتأثير على معنويات الحكومة وعلى الرأي العام العالمي، فقد كان للعمل السياسي، المتضمن تعبئة الشعب في فيتنام نفس الأهمية الحيوية كما في كل مكان. ويعترف بذلك جياب نفسه، فيقول في معرض الحديث عن السنوات الأولى للحرب :
(في البداية كان هناك ميل بألا نأخذ في الحسبان كما ينبغي دور العمل السياسي. ولم يعترف المكلفون به فوراً، بأن التثقيف السياسي والتوجه الأيديولوجي كانا يشكلان المهمة الأساسية) .
لكن (تبين الخطأ، ووجه الانتباه اللازم للمشكلة السياسية الأساسية، المتمثلة في صهر كل القطاعات الاجتماعية للأمة، وتوحيد كل المجموعات الإثنية (العرقية) لبلد متعدد القوميات، في النضال ضد التسلط الأجنبي. وقد سعى الحزب للإمساك بكل الفرص الملائمة لدفع الشعب في ذلك الصراع) لقد كتب جياب ذلك، كما كتب أيضاً: (يجب على جبهة الاتحاد الوطني أن تكون تجمعاً لكل القوى القادرة على الاتحاد، وذلك بتحييد أو تجزئة كل القوى الأخرى).
ولقد أهملت الطبقة الفلاحية في البدء. لكن هذه الغلطة الفاحشة في بلد من الفلاحين، اكتُشفت بسرعة وأُصلحت، وأصبح شعار الثورة (الأرض لمن يزرعها).
وكتب جياب أيضاً : (كانت الإمبريالية العدوانية تشكّل بالنسبة إلى الأمة الفيتنامية عدواً يجب إسقاطه . وبما أن مصالح هذا العدو قد تلاقت منذ زمن بعيد مع مصالح مُلّاك الأرض من الإقطاعيين، فإن الصراع ضده لم يكن منفصلاً عن الصراع ضدهم . ومن جهة أخرى، وفي بلد مستعمر ومتخلّف كبلدنا، حيث يشكل الفلاحون أغلبية السكان، فإن حرباً ثورية هي في جوهرها حرب الفلاحين بقيادة الطبقة العاملة ولم تكن التعبئة العامة للشعب، وإلى حد بعيد، سوى تعبئة الجماهير الريفية).
ولم يكن ممكناً تشكيل جبهة شعبيّة واسعة، تضم مختلف الشيع الدينية، وخاصة البوذية. ولقد دفع الفييتمينة ثمن ذلك غالياً في بداية الصراع في جنوب فيتنام وكما ذكرنا سابقاً، فإن أنصار (هوشي منه) كانوا يسيطرون عملياً على البلاد كلها بعد استسلام اليابانيين، إلا أن فرار الشيع الدينية كان من الأسباب التي جعلت القوات الفرنسية التي نزلت في جنوبي فيتنام لم تلاق أية معارضة، وسرعان ما استولت على الكوشنشين وعاصمتها سايغون.
وقد كان الضعف العددي –أربعون ألف رجل بقيادة الجنرال لوكير– السبب الذي منع الفرنسيين من مد سيطرتهم على الأراضي المنخفضة لمقاطعتي (آنام) و (تونكين).
ويقول الدكتور (برنارد فول) في كتابه (شارع بلا فرح والفيتناميين): (لم يخطط الفرنسيون في العام 1946 إلا لحملة استعمارية تقليدية لإعادة الغزو كالحملة التي قادها المارشال ليوتي في منطقة القبائل التابعة لعبد الكريم الخطابي في العشرينات).
وكانت الطريقة المختارة، هي المسماة (بقعة الزيت)، وتتضمن إقامة نقطة قوية في منطقة ما، تنطلق منها قوى (التهدئة) لتمشيط البلد، والاقتراب من الثوار وإبادته. لكن ما أزعج لوكلير أنه لم يكن لديه عدداً من الشرطة كافياً لتنفيذ هذا التمشيط، مما جعل مجمل الخطة متهافتاً .
وتصرف الفرنسيون تماماً كما يتوقع من قوات نظامية، تُعامل ثوار العصابات إما كعدو تقليدي، وإما كقُطّاع طرق تستطيع أرتال طائرة (خفيفة سريعة الحركة) إبادتهم واحد إثر آخر.
وقد توغلت مدرّعات لوكلير في العمق، واستولت على الطرق الرئيسية، والمدن الموجودة على مفترقات الطرق، وقدّرت بأنها حققت بداية حسنة، بدليل أنها لم تلْق مقاومة حازمة في أي مكان.
ولم يفهم الفرنسيون بأنّ عدوهم، الذي لا يمتلك المدفعية ووسائل النقل، لم يكن بحاجة للطرق، وبأن المراكز المحصّنة لا تُشرف على شيء، لأن عدوّهم المتحرّك لا يتمسّك بالأرض، ولا ينوي الصراع من أجلها.
وكان الفرنسيون يسيطرون على الطرق، وثوار العصابات يمرّون بشكل خفي، عبر الأدغال أو مزارع الأرز، على بعد مائة متر من الطرق. وكان الفرنسيون يحتلون المدن دون أن يحفل أعداؤهم بذلك، وكانوا يسعون للإشراف على الأرض عن طريقة احتلالها، بينما انْصبّ اهتمام أعدائهم فقط على اكتساب السكان. وهذا هو التبايُن الجوهري بين الحرب التقليدية وحرب العصابات. فالجيش يقاتل للاستيلاء على الأرض والطرق والمرتفعات الاستراتيجية والمناطق ذات الأهمية الرئيسية، في حين يقاتل ثوار العصابات لتحقيق إشرافهم على السكان، الذين بدون تعاونهم تصبح الأرض عديمة الفائدة لمن يحتلها.
إن تكتيك بقعة الزيت، الأكثر فعالية ضد عصابات المجرمين مما هو ضد العصابات الثورية، كان بوسعه أن يعطي نتائج في الهند الصينية، لو استطاع الفرنسيون أن يكرسوا له قوات أكبر. لكن في الوضع الثوري –وخاصة عندما يجد الجند النظاميون أنفسهم في مواجهة مع ثوار محليين– فإن القمع لا يمكن أن يؤثر إلا محلياً، ولا توجد إلا طريقة واحدة لمنع الانتقاضات الجديدة: ألا وهي: إبادة السكان قاطبة. وخلال ثماني سنوات، كانت خسائر الفيتناميين كبيرة، ويقدرها الدكتور (فول) بثلاثة أمثال الخسائر الفرنسية، لكنها أصابت على الأرجح المدنيين الأبرياء أكثر من ثوار العصابات (انظر الفصل السادس).
وكان الجهد الفرنسي محكوماً بالفشل منذ البداية. فالبلد شاسع، والكثافة السكانية عالية، وكانت هنالك ملاجئ طبيعية كثيرة لثوار العصابات. وكانت القوات العسكرية أضعف بكثير مما ينبغي. فالخبراء يُقدّرون أن من الضروري وجود عشر جنود مقابل كل ثائر، وقد يقفز الرقم إلى عشرين، وحتى مائة، في بلد يُشكّل كل مواطن فيه ثائر عصابات محتمل .
وقد نُظمت قوات الفييتمينة في ثلاث فئات، وفق النموذج المتّبع في الصين:
1. المحاربون النظاميون الدائمون (تشولوك)، الذين يمكن استخدامهم استراتيجياً في أي مكان، ويؤلفون كبد القوات في عملية كبرى.
2. ثوار العصابات الإقليميون، المحاربون في مقاطعتهم، والقادرون في كل لحظة على العودة إلى حالتهم كفلاحين أو عمال عند الضرورة.
3. رجال الميليشيا الريفيون (دوكتيش). وهم رجال عصابات في الليل، وفلاحون في النهار، ويقع على عاتقهم تنفيذ المهمات المحدودة: تخريب جسر، نصب الكمين، زرع ألغام على الطرقات، نقل الرسائل والأموال، ولكنهم يعودون إلى قُراهم عندما تظهر أول بوادر ردّ الفعل العسكري .
يقول جياب: (عند بداية الاجتياح الإمبريالي، قدَّر الجنرال لوكلير بأن إعادة احتلال فيتنام لن يكون سوى نزهة عسكرية. وعندما واجه المقاومة في الجنوب، تخيلها ضعيفة وذات سمة عابرة، واستمر في الاعتقاد بأنه لن يلزمه أكثر من عشرة أسابيع لاحتلال كل جنوب فيتنام وتهدئته).
(لماذا قام الاستعماريون الفرنسيون بهذا التقويم؟ لأنهم فكروا بأنه لا بد من وجود جيش لمقارعتهم عند الاجتياح. وكان من المستحيل عليهم أن يفهموا الحقيقة الأساسية الحاسمة، المتمثلة بأن الجيش الضعيف مادياً، كان جيشاً شعبياً... وعندما بدأ العدوان، فقدوا محبة أمة بكاملها. والواقع أن الأمة الفيتنامية كلها، الشعب الفيتنامي بأسره ثار ضدهم. وبما أن الجنرالات الفرنسيين لم يكونوا قادرين على فهم هذه الحقيقة العميقة، وآمنوا بانتصار سهل، فإنهم ساروا على العكس نحو هزيمة محققة).
فإذا أسقطنا المبالغة اللفظية، وجدنا أن هنالك كثيراً من الحقيقة في أقوال جياب. فالقوات الفرنسية المتمسكة بالاستراتيجية التقليدية، ألْفَت نفسها (غارقة في بحر من البشر المسلحين). ولقد أتى معظم الأسلحة من الحملة (الفرنسية) نفسها، التي قال جياب عنها أنها أصبحت (المزود بلا تعمد لجيش الشعب الفيتنامي بالأسلحة الفرنسية، الأمريكية أصلاً).
أما عن تنظيم المقاومة، فإن جياب يلاحظ، بأنه كان قبل كل شيء سياسياً، ثم عسكرياً:
(لقد طالب حزبنا، من أجل خوض الحرب الشعبية، بإنشاء ثلاثة أنواع من القوات المسلحة، وأوْلى كثيراً من الاهتمام لتشكيل وتنمية وحدات الدفاع الشعبي ووحدات حرب العصابات، وأُنشئت الميليشيا في كل مكان. وبفضل توطيد الإدارة الشعبية في الريف كله، ولوجود فروع الحزب في كل مكان، فإن الميليشيا توسعت كثيراً ونهض الشعب للقتال . وقامت وحدات من العصابات بالاشتراك مع الجيش النظامي بالعمل على مؤخرات العدو وإرهاقه، وثبتته في قواعده، وسمحت بذلك لجيشنا النظامي بالقيام بعمليات متحركة لإبادته. وقد تحولت هذه المؤخرات إلى جبهة بالنسبة إلينا، وانتظمت قواعد استطاع الجيش النظامي الانطلاق منها لشن هجمات في قلب المناطق التي يسيطر عليها العدو ، كما حمت هذه القواعد الأشخاص وممتلكاتهم، وحفظت الإنتاج، وأحبطت نية العدو الساعية إلى تغذية الحرب بالحرب، وباستخدام الفيتناميين لقتال الفيتناميين. ففي المناطق المحررة، قاتلت وحدات ثوار العصابات العدو بفعالية، وراقبت الخونة، وكانت الأدوات الفعالة للإدارة وللأحزاب المحلية. كما كانت في الوقت ذاته، القوة الضاربة في الإنتاج والنقل والتموين . ومن خلال القتال والعمل، أصبحت وحدات ثوار العصابات منبعاً ثميناً لا ينضب لاختيار متطوعي الجيش النظامي وصارت تمده بالجنود والضباط المثقفين سياسياً، والحائزين على خبرة قتالية ثمينة).
وقد ارتكب المعسكران أخطاء فادحة في المرحلة الأولى، فلقد كرّس الفرنسيون خمسة أشهر من العام 1947 لمحاولة فاشلة تستهدف إلقاء القبض على هوشي منه وهيئة أركانه، معتقدين أن ذلك سيؤدي إلى اختصار مدة الحرب. وحتى لو نجحوا في ذلك، فإن مجرى الحرب ما كان ليتأثر، إذ أن النتيجة لم تكن تتوقف على عبقرية عسكرية فردية، بل على استراتيجية أملاها الموقف السياسي-العسكري، ولأن كل مسؤول شيوعي تعلم الدرس الصيني، كان بإمكانه تطبيق تلك الاستراتيجية تلقائياً .
ومن المناسب أن نلاحظ مرة أخرى، أن أهم ما يدفع ثوار العصابات لأن يقاتلوا بطريقتهم تلك، هو أنهم لا يستطيعون فعل أي شيء آخر. إن وضعهم يحدد طريقة تصرفهم، فلأنهم لا يمتلكون أسلحة ثقيلة، ولا فرقا مؤهلة لشن حملات تقليدية، فإنهم يجدون أنفسهم مجبرين، كما يقول كلاوفيتز، على قضم أطراف الجيش المعادي، والقتال على مؤخراته. ولأنهم لا يمتلكون القدرة المادية لتحقيق الحسم العسكري، فلا بد لهم بالضرورة من انتظار الحسم السياسي. ففي وضع ثوري، لا بد أن يأتي الحسم السياسي لمصلحتهم، لأنه نتيجة لحرب طويلة لا يستطيع العدو دعمها سياسياً أو نفسياً، مهما كان وضع قواته العسكرية .
ويحلل الجنرال جياب موقف الفرنسيين بقوله :
(يتحول العدو ببطأ من الهجوم إلى الدفاع، وتتحول الحرب الخاطفة إلى حرب استنزاف، ويلفي العدو نفسه أمام مأزق: إن عليه أن يستمر في الحرب لمدة طويلة حتى يكسبها، وهو لا يمتلك الوسائل السياسية أو النفسية لدعم قتال طويل الأمد).
ولقد كان جياب على حق، فالضغوط السياسية التي وقعت فرنسا تحتها، وتدني مستوى معنويات السكان الباقين على الولاء لفرنسا، وتناقص معنويات القوات مع الزمن، أعاقت جهود الحملة بشدة.
وكثرت المليشيات الثورية في البلاد، وتشكلت عملياً وحدات منها في كل قرية، وأجرى نظاميو الفييتمينة مسيرات طويلة في الأدغال لمهاجمة رتل هنا وموقع صغير هناك، وكانوا يُجهّزون في خلال مسيراتهم وبسرعة، وحدات جديدة، بفضل الأسلحة المستولى عليها من العدو، والمعدات الثقيلة المهرَّبة من الصين .
وفي نهاية عام 1949، فقد الفرنسيون المبادرة، التي انتقلت إلى الفييتمينة، واستطاع الثوار شن هجوم محدود بخمس عشرة كتيبة، لاحتلال دلتا نهر توكين في مرتفعات (التي) العالية.
وفي الربيع وقع هجوم أشد اتساعاً أدى إلى احتلال دفاعات وادي (النهر الأحمر) وعندما أتى الصيف، كان كل الجزء الشمالي الشرقي من تونكين قد تحول إلى قلعة فيتنامية. ووقع ما كان من الواجب توقعه، إذ بدأت الضغوط السياسية في فرنسا. وفي آب 1950، أمرت حكومة باريس بإنقاص قوات الهند الصينية بمقدار تسعة آلاف رجل، مبرهنة بذلك عن جهلها التام للحقائق العسكرية. وتجاوب المجلس الوطني الفرنسي (مجلس النواب) مع الشعور العام في البلاد والمناهض للحرب، فطالب بألا يرسل جندي من المجندين لخدمة العلم إلى الهند الصينية، أي أن ما يجري فيها يجب أن يتم بعمل جهاز الشرطة، ويُنفَّذ من قبل الجنود المحترفين، وخاصة أفراد الفرقة الأجنبية، ووحدات المغاربة، ووحدات أخرى غير فرنسية .
ونتج عن ذلك طبعاً وهن جديد للجهد (العسكري)، وهجوم فيتنامي جديد. وانقطعت سلسلة من حاميات تونكين الغربية عن قواعدها، ووقعت مجموعة مؤلفة من 3500 مغربي، و 2600 جندي من جنسيات أخرى، من المظليين و 500 مدني، في كمين أسفر عن إبادة المجموعة، كما أبيدت 3 كتائب أُرسلت لمساعدة المجموعة .
وقد كتب (برنارد فول) في (الفيتناميين):
(في نهاية شهر تشرين الأول 1950، أضحى النصف الشمالي من فيتنام كله تقريباً معقلاً للفييتمينة، لا يمكن للفرنسيين اختراقه باستثناء إغارة قام بها المظليون على (لانغ سون) في تموز 1953).
(وعندما انقشع الدخان، كان الفرنسيون قد عانوا أكبر هزيمة استعمارية لهم منذ موت (مونكالم) في كيبك. إذ فقدوا ستة آلاف رجل، وثلاث عشرة قطعة مدفعية، ومائة وخمسة وعشرين هاوناً، وأربعمائة وخمسين شاحنة، وثلاثة فصائل من المدرعات، وتسعمائة وأربعين رشاشاً، وألفاً ومئتي رشيشة، وأكثر من ثمانية آلاف بندقية، وتركوا مستودعات كافية لإعداد فرقة فييتمينة كاملة).
(وعندما فقد الفرنسيون حرب الهند الصينية، وكان استمرارها بعد ذلك أربع سنوات، دليلاً على قصر نظر السلطات المدنية، المكلفة باستخلاص النتائج السياسية من موقف عسكري يائس. أما العون الأمريكي –الذي ظهر في حزيران 1950 بعد اندلاع الحرب الكورية، على شكل سبع طائرات نقل– فلم يكن ليغّير أبداً من نتيجة النزاع).
إلا أن القرار الذي اتخذه الجنرال جياب بشكل سابق لأوانه في نهاية نيسان 1950، وقرر فيه القيام بهجوم عام، أدى إلى إضعاف تقدم الفييتمينة. إن تلك المحاولة لدخول المرحلة الثالثة الحـاسمة من حرب ماو الثورية (الهجوم الاستراتيجي)، قبل نضوج الموقف كلفت الفييتمينة غالياً. فخلال معركة واحدة في دلتا النهر الأحمر، في يومي 16 و 17 كانون ثاني 1951، فقد جياب ستة آلاف رجل. وفي آذار 1951، انهزم من جديد، عندما أراد الاستيلاء على ميناء هايفونغ، كما أخفقت أيضاً محاولة ثالثة في حزيران.
وركَّز الفييتمينة جهودهم بعد ذلك بتعقّل على أهداف تسمح بتحقيق نتائج أفضل، وخاصة السيطرة على الهضاب المرتفعة، حيث لا يمكن للفرنسيين التدخل بمدفعيتهم أو طيرانهم أو مدرعاتهم، بل كان عليهم أن يقاتلوا بالشروط التي حددها الفييتمينة لهم.
وكان على الفرنسيين مواجهة معضلتين أساسيتين: الأولى عسكرية، وتتمثل في عدم كفاية القوات، والثانية سياسية، وتتمثل في عدم الحصول على دعم الوطن الأم. وتفاقمت المعضلات بسبب الضغوط الديبلوماسية. وبقيت استراتيجية الفييتمينة مرنة، في حين حافظت الاستراتيجية الفرنسية على جمودها، وهذا ما جعل الحملة تجد نفسها غالباً في وضع غير متوازن.
ونتيجة لنقص القوات، كانت الحملة تسيطر بضعف على أقاليم شديدة الاتساع، وتقاوم بشكل سيء الضربات الموجهة من الفرق الفيتنامية، المركزة. وعندما كانت الحملة تتجمع للقيام بالهجوم وأخذ المبادرة في قطاع، كان ثوار العصابات يمارسون نشاطهم في مكان آخر، لإجبارها على التفرق من الجديد. ومن جهة أخرى، وبسبب استراتيجيتهم السياسية والعسكرية، استطاع الفييتمينة الحصول على نجاحات كبرى، عن طريق ممارسة الضغوط، السياسية والنفسية على العدو.
ويوضح اجتياح لاووس من قبل جياب، وفي بداية ربيع 1953، هذه النقطة بشكل جيد. فلقد قام به بواسطة ثلاث فرق معززة بزهاء 4000 من الباثيت لاو ضد 3000 فرنسي، يدعمهم جيش لاووسي يضم عشرة آلاف رجل. وحتى لا يضحي القائد الفرنسي بحاميته الحدودية الضعيفة، أمرها بالانسحاب، على ألا تترك إلا كتيبة واحدة للعمل كمؤخرة. ولم يبق على قيد الحياة من هذه الكتيبة، إلا أربعة رجال. وعندما هوجمت إحدى هذه الحاميات أثناء انسحابها، فإنه لم يعد منها إلا 180 رجلاً من أصل 2400 رجل.
وقد استطاعت التعزيزات، الآتية من فيتنام عن طريق الجو، إيقاف الاجتياح على سهل (الجرار). لكن ذلك أوجب أخذ الاحتياطات من قطاع العمليات الرئيسية، واستنفار كافة وسائل المواصلات الجوية لمدة من الزمن، ولقد تم صد الفيتناميين، لكنهم اعتبروا أن الحملة لم تكن جهداً مبدداً.
ويعلن كاتزنباخ: (إن نتائج هذه العملية، مع أنها لم تبلغ كافة غاياتها. كانت مماثلة لنتائج انتصار كبير، ونادراً ما حُققت أشياء عظيمة بمثل الوسائل القليلة).
والأمر الأكثر غرابة في العملية، والذي لم يؤخذ في الاعتبار إلى بعد فوات الأوان، هو أنها كانت منذ البداية مناقضة للمثل القائل: من لا يخاطر بشيء لا يخسر شيئاً. فلم تكن هنالك أية مخاطرة عسكرية حقيقية، وكانت العملية مضمونة بمقدار ضمان نجاح غزو التيبت من قبل الصين.
ومع ذلك، فإن الشيوعيين بغزوهم الذي استمر ثلاثة أسابيع، حصلوا على النتائج التالية:
(
1. نشروا الرعب لدى السلطات العسكرية والمدنية في الهند الصينية وفي فرنسا.
2. أجبروا قوات الدفاع على تمديد خطوطها بشكل أطول.
3. زادوا من حدة مطالب الاستقلال السياسي في لاووس وكمبوديا.
4. خلقوا موقفاً زاد من نفقات فرنسا بمقدار ستين مليوناً من الدولارات.
5. جعلوا الولايات المتحدة تخسر حوالي 460 مليوناً من الدولارات من عونها إلى الخارج).
أما الشرح الذي قدمه جياب عن الاستراتيجية المستخدمة لإحباط مخطط (نافار) الشهير، وهو المجهود النهائي الذي بذلته فرنسا لأخذ زمام المبادرة في الهند الصينية، فإنه يتضمن سرداً مثيراً للاهتمام عن الحرب الثورية.
وكان المخطط المصمم من قبل الجنرال نافار، آخر قائد فرنسي عام في فيتنام، يتضمن القيام بهجوم عام، يستهدف كما قال جون فوستر دالس أمام لجنة من مجلس الشيوخ: (تحطيم القوة المنظمة للعدوان الشيوعي في نهاية فصل الصيد من عام 1955 (في ثمانية عشر شهراً)).
وفي تقرير سري لم ينتشر إلا بعد بيان فو، اعترف نافار بأن حرب الهند الصينية كانت قد خُسرت قبل تطبيق مخططه، وأنه كان يأمل أن يصل إلى التعادل في أفضل الحالات. ومهما كان الأمر، فقد نُفِّذ المخطط بدعم مادي ومالي عظيم من الولايات المتحدة .
وقد تضمن المخطط تركيز القوات المتحركة في دلتا النهر الأحمر، وذلك لمحاولة الاشتباك مع قوة الثوار الضاربة وتدميرها في خلال خريف وشتاء 1953. وفي الوقت نفسه، احتلال ديان بيان فو في الغرب، واستعمالها كمقفز لتسديد ضربات قوية للمناطق الشيوعية المجاورة. وفي ربيع 1954، كان من المفروض أن يكون ثوار الفييتمينة، منهكين، فتقوم وحدات أخرى مشكلة حديثاً بالاستيلاء على مناطق الفييتمينة في جنوب فيتنام، وأخيراً يأتي الهجوم العام في الشمال ويؤدي إلى إنهاء الحرب بنصر كامل.
وتجمعت أربع وأربعون كتيبة فرنسية في الدلتا، من أجل المرحلة الأولى في خريف 1953، ونشبت سلسلة من المعارك الشرسة. وفي كانون الثاني 1954، احتل المظليون ديان بيان فو، وبدأ إعداد هذه القاعدة فوراً.
وفي الوقت نفسه شن الفييتمينة هجوماً مضاداً، حاصروا ديان بيان فو، وانضموا إلى الباثيت لاو لتحقيق اختراق في مرتفعات لاووس. ثم وقع في كانون الثاني هجومان آخران، أحدهما في الجنوب، والثاني في الشمال، ونجم عن ذلك تحرير حوض (نام هو)، وتهديد العاصمة اللاووسية (لوانغ برابانغ).
وتجمع الفرنسيون في آذار لاستئناف هجومهم، فبدأ الفييتمينة انقضاضهم التاريخي على ديان بيان فو لمدة 55 يوماً. ويقول جياب في هذا الصدد:
بصورة عامة، شكلت الإدارة الاستراتيجية لحملة ديان بيان فو، ولحملة 1953– 1954، نجاحاً متميزاً للعقيدة العسكرية والثورية للماركسية اللينينية، المطبقة في الشروط الخاصة لحرب فيتنام.
(وبدأت استراتيجيتنا بتحليل تناقضات العدو، وهدفت إلى حشد قواتنا في القطاعات التي بدأ العدو فيها معرضاً نسبياً، وإلى تدمير قواته، وتحرير جزء من البلاد، وإجباره على توزيع قواته لخلق الشروط الملائمة لانتصار حاسم).
(وفي خلال الحرب كلها، كانت الحملة الفرنسية مضطرة إلى توزيع قواتها، فقسمت فرقها إلى أفواج وكتائب وسرايا وفصائل، مرابطة في مراكز متعددة على مسرح عمليات الهند الصينية فوجد العدو نفسه أمام تناقض، إنه لا يستطيع احتلال القطر المجتاح إذا لم يوزع قواته، وإذا وزعها وقع في موقف خطر، وأصبحت الوحدات الموزعة فرائس سهلة لقواتنا. وتناقصت القوات المتحركة وظهر النقص في عدد القوات بشكل أكبر ثم أكبر. ومن جهة أخرى، كان على العدو أن يُخفّض قوات الاحتلال، إذا ما أراد حشد قواته لأخذ المبادرة والتقدم ضدنا، وفي هذه الحالة تزداد صعوبة سيطرته على البلاد، علماً بأن قيامه بإخلاء الأقاليم المحتلة يعني التخلي عن الغاية التي شن حرب الغزو من أجلها).
وعند الإعداد لتطبيق مشروع نافار، ألفى الفرنسيون أنفسهم أمام مأزق: فهم لا يستطيعون القيام بالهجوم دون حشد قواهم، وإذا حشدوها، أضحوا عاجزين عن الدفاع عن الحلقات العديدة والضعيفة من سلسلة مراكزهم الدفاعية. ومرة أخرى شلهم نقص القوات، ولكي يخرجوا من المأزق، شكلوا وحدات جديدة (كان معظمهم من المجندين الفيتناميين) لتحل محل الوحدات الثابتة، والتي سُحبت من مواقعها وأرسلت سراً إلى الدلتا من أجل زيادة الحشد (التركيز). وقد أدى هذا المخطط إلى جعل الفييتمينة يتخذون قرارات هامة.
ويقول جياب في هذا الصدد:
(كانت المشكلة الواقعية هي أن العدو يحتشد في دلتا النهر الأحمر، ويشن هجماته ضد مناطقنا الحرة. فهل كان علينا أيضاً أن نحتشد أمامه، أو أن نستعمل قواتنا في اتجاهات أخرى؟ ففي الحالة الأولى، أي لو أننا قاتلنا في الدلتا، لكان بإمكاننا الدفاع عن منطقتنا الحرة، لكن العدو بقي قوياً، لذا فإن بالإمكان أن نتعرض للإبادة. وفي الحالة الثانية، أي لو أننا هاجمنا في اتجاهات أخرى، لكان بإمكاننا العمل ضد نقاط العدو الضعيفة، بغية تدمير كبد قواته، إلا أن ذلك يعني تعرض منطقتنا المحررة للخطر)
وانكبت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي جماعياً على هذه المعضلة، وانتهت إلى تبنّي الشق التالي: (فعالية، ومبادرة، وحركية، وسرعة في الحسم أمام المواقف الجديدة) ويشرح جياب معنى هذا الشعار بقوله:
(باتخاذنا زمام المبادرة، كان بوسعنا حشد قوانا لمهاجمة النقاط الاستراتيجية الضعيفة نسبياً والحصول على نجاحات، وإجبار العدو على توزيع قواته. ومن جهة أخرى، لو اقتصرنا على الدفاع لما كان بإمكاننا تدمير كثير من الأعداء ولأصبح تعرضنا للخسائر ممكناً ولخاطرنا نحن بتحمّل الخسائر).
ولقد تقرر القيام بحملة ديناميكية:
(كانت اللجنة المركزية مقتنعة دائماً بأن الأمر الجوهري هو القضاء على قوات العدو، فوضعت مخطط عملها استناداً إلى التحليل العلمي، وكان هذا المخطط: تركيز هجومنا على النقاط الاستراتيجية حيث كان العدو ضعيفاً نسبياً، لإبادة جزء من وسائله، وإجباره على توزيع قواه، من أجل الدفاع عن النقاط الحيوية، التي لا بد له من السيطرة عليها بأي ثمن).
(وظهرت هذه الاستراتيجية صحيحة، فبينما كان العدو يحشد قواته الهامة في الدلتا ليهدد منطقتنا الحرة، جمعنا قوانا، بدلاً من تركها في الدلتا، أو توزيعها في المنطقة المحررة للدفاع عنها، وذلك بغية الهجوم ببسالة باتجاه الشمال الغربي).
ونتج عن ذلك، كما قال جياب إبادة : (آلاف من المجرمين المحليين المسلحين من قبل الفرنسيين)، وتحرير أربع نقاط استراتيجية محصنة، والإخفاء شبه النهائي لرتل فرنسي، وتطويق ديان بيان فو، (مما أجبر العدو على نقل تعزيزات عاجلة لمنع سقوطها) ويضيف جياب: (وهكذا أضحت ديان بيان فو نقطة ثانية لحشد القوات المعادية).
وفي الوقت نفسه، حقق الهجوم في المنطقة المركزية من لاووس عدة نجاحات، فاضطر الفرنسيون لإرسال تعزيزات باتجاه آخر على حساب حشودهم في الدلتا، وخلقوا منطقة حشد أخرى في مطار (سينو) الذي غدا مهدداً.
وكان هناك عمليات تشتيتية أخرى، من بينها انقضاض على الهضاب الغربية العليا، وهجوم في الجزء الشمالي من لاووس. وأسفرت هذه العمليات، عن قيام الفرنسيين بإرسال تعزيزات جديدة.
ويقول جياب: (تضمنت المرحلة الأولى من حملة الشتاء – الربيع بالنسبة إلينا، مجموعة من الهجمات المشنونة في الوقت ذاته، باتجاه قطاعات هامة، حيث كان العدو حساساً نسبياً، ما سمح لنا بتدمير جزء من قواته، وتحرير أقاليم، كما ساعدنا على دفع العدو إلى التبعثر في اتجاهات متعددة. واحتفظنا دائماً بالمبادرة في العمليات، ورددنا العدو إلى حالة الدفاع... أما على الجبهة الرئيسية، فقد ثبتنا العدو في ديان بيان فو، وخلقنا بهذا الشروط الملائمة لقواتنا في ساحات معارك أخرى).
وكانت النتيجة إنقاص الضغط على المناطق المحررة، بحيث (استطاع مواطنونا العمل حتى في وضح النهار، دون أن يعانوا من الطائرات المعادية) بالإضافة إلى تثبيت الفرنسيين، المشغولين والمبعثرين، إلى حد لا يسمح لهم بتنفيذ عمليات التطهير المصممة في مشروع نافار، كفاتحة للهجوم العام ضد كبد قوات الفييتمينة في الشمال. وبالنتيجة لم يستطع الفرنسيون تصفية مناطق العصابات في جنوب فيتنام، وأمام ذلك التهديد الدائم المتزامن مع الضغط على ديان بيان فو، لم يلبث أمل الفرنسيين باستعادة المبادرة أن تبخر.
واختنق المشروع قبل أن يوضح جدياً موضع التنفيذ. وكان تدمير قاعدة ديان بيان فو الحصينة، واستسلام ما تبقى من حاميتها حدثاً حاسماً . ويقول برنارد فول: (في الثامن من أيار 1954، وفي الساعة الواحدة وثلاث وخمسين دقيقة، - بالتوقيت المحلي – سكتت المدافع الأخيرة في ديان بيان فو، بعد انقضاض يائس بالسلاح الأبيض، شنه، الجزائريون وجنود الفرقة الأجنبية الذين كانوا يدافعون عن معقل (ايزابيل)، عندما اجتاحته أعداد كبير من الفيتناميين الظافرين. وهكذا انتهت تقريباً، الحرب التي دامت ثمانية أعوام).
وأوصلت لجنة تحقيق عسكرية، أُرسلت من فرنسا لتحديد حجم الكارثة، بترك شمال فيتنام، ومحاولة الصمود، جنوب خط العرض 17. واعتمدت التصفية الديبلوماسية التي جرت في جنيف هذا القرار.
ويكتب فول: (انتهت حرب الهند الصينية في 21 تموز 1954، في الساعة الثالثة والدقيقة الثالثة والأربعين، وخسرت قوات (الاتحاد الفرنسي) فيها 172 ألف شخص بين قتيل وجريح، وتحطمت إلى الأبد سيطرة فرنسا على فيتنام).
الفصل السادس
(التجربة الفيتنامية الثانية)
الطابع السياسي للحرب الثانية في الهند الصينية –
دور الأمريكيين – امتداد الحرب وآفاقها المحتملة
لم يكن الصمت الذي تلا سقوط ديان بيان فو إلا برهة في سياق التاريخ، وهدنة شديدة القصَر. ولم يمض على انتهاء حرب الهند الصينية الأولى خمس سنوات، حتى عادت فيتنام لتكون واحدة من النقاط الساخنة في العالم، ونوعاً من مراكز انخفاض الضغط، تدور حولها العواصف السياسية والأيديولوجية، ويمكن بسهولة أن تتحول إلى حرب عامة في آسيا.
ومع ذلك، ومن جهة النظر الفيتنامية، يمكن أن يبدو الموقف وكأنه لم يتغير في جوهره. ففلاح الجنوب المشتغل في مزرعة أرزه، والذي تحلق القاذفات فوق رأسه طائرة نحو أهداف بعيدة في الشمال، وتئز الحوامات المتجهة نحو موعد مضروب للقتال، لا يجد فرقاً بين هذه الطائرات والطائرات التي كانت تحلق فوقه لعشر سنين خلت. ومعركة اليوم كمعركة الأمس، بالنسبة إلى ثائر العصابات الموجودة في الأدغال أو المدن، فالحرب مستمرة، وقلة قليلة من الشباب لا تزال تذكر وقتاً بدون حرب.
وحل الزي الأمريكي في سايغون محل الزي الفرنسي، ولم تعد التوجيهات تصدر من باريس بل من واشنطن، وغدت الفييتمينة تحمل اسم الفيتكونغ، والمحتلون الجدد الذين أطلق عليهم لقب (المستشارين العسكريين) ثم تحولوا إلى مقاتلين حقيقيين، هم أمريكيون. وسواء كانوا فرنسيين أم أمريكيين، فييتمينة، أو فيتكونغ، فإن الأمر سيان. فالمعسكران يسعيان إلى الغايات السابقة نفسها، وبالطرق المألوفة ذاتها. إنه الصراع بين الكلب والبرغوث، حيث يتابع البرغوث ببطء استمرارية عملية التكاثر حتى يغلب في النهاية على الكلب.
ولقد عرضت الانترناشيونال يونايتدبرس، في 24 آذار 1964، الورطة الأمريكية، بتحليل كان يمكن أن يكتب قبل ذلك بعشر سنوات:
(تنخرط الولايات المتحدة، منذ أربع سنين، في حرب تزداد ضراوتها، في بلاد الجبال والغابات ومزارع الأرز وثوار العصابات الشيوعيين).
(فمنذ أيار 1961، عندما قررت الولايات المتحدة مساندة حكومة سايغون المناهضة للشيوعية، أرسلت إليها كمية ضخمة من الرجال والعتاد . من البندقية إلى الصاروخ، ومن سيادة الجيب إلى الدبابة، ومن الهليكوبتر إلى القاذفة النفاثة، واستعملت أسلحة قوية وحديثة تقدر قيمتها بمليارات الدولارات، وأنْفقت بسخاء من ذكائها ودمائها وأرواحها. كل ذلك في سبيل لا شيء. ولم تستطع أكثر الأمم قوة في العالم إيجاد مفتاح النجاح في جنوبي شرقي آسيا).
(ولم يتوقف الأمريكيون عن التدحرج على السفح، منذ اليوم الذي وضعوا فيه أقدامهم في ذلك البلد البائس ليكافحوا الشيوعية).
(... وفي بداية حرب فيتنام، لم يعمل الثوار إلا بأعداد صغيرة لا تتجاوز الفصيلة لينصبوا كميناً لشاحنة أو ليهاجموا مركزاً صغيراً منعزلاً).
(وبقدر ما جمعوا من الأسلحة الأمريكية من بين جثث الجنود الحكوميين، فإنهم زادوا من تجهيزهم، وانتقلوا من الفصيلة إلى السرية).
(وتدعي الفيتكونغ بأنها حررت ثلاثة أرباع مساحة الوطن، وأقامت المدارس والمستشفيات والمباني العامّة) .
(ولا يمسك نظام سايغون وأسياده الأمريكيون إلا بالمدن. وبالواقع فإن القوات الحكومية تمضي معظم أوقاتها في المناطق المدينية الآمنة نسبياً. وتنْتقل في أغلب الأحيان جواً بواسطة الهليكوبترات، وإذا ما أرادت الانتقال براً، استخدمت العربات المصفحة والدبابات، ومع ذلك فإنها تقع في الكمائن).
(ويطبق ثوار الفيتكونغ التقية الشيوعية: خطوتان إلى الأمام وخطوة إلى الوراء. ولقد وصلوا بهذا التكتيك إلى مرونة لم يستطع خصومهم مساواتهم فيها . إن موقفاً عسكرياً كهذا ميؤوس منه، كموقف الفرنسيين أثناء حصار ديان بيان فو. وهذا ما يفسر رد فعل واشنطن اليائس، المتمثل بالتصعيد).
وقد أعلن الرئيس ليندون جونسون في 25 آذار 1965:
(لا تسعى الولايات المتحدة إلى توسيع الحرب. ونحن لا نهدد أي نظام، ولا نطمح بأية أرض. ولقد عملنا دائماً وسنعمل على تقليص التوترات على المسرح العالمي الكبير).
إلا أن هانوي وبكين شعرتا بأنهما مهددتان. ولم تكونا وحدهما، إذ لم يتوقف الجنرال ديغول عن طرح فكرة الحل بالمفاوضات. ولم يؤد تصريح جونسون إلى إزالة مظاهر القلق في العالم، لأنه عندما أكد بأن الولايات المتحدة لا تسعى إلى توسيع الحرب، أضاف على نفس الوتيرة قائلاً: (ليست القضية صراع البيض ضد الآسيويين، لكنها اعتداء التوتاليتاريين الشيوعيين على جيرانهم المستقلين... يجب أن يتوقف اعتداء الشمال، إنها الوسيلة الوحيدة لإعادة السلام إلى جنوب شرق آسيا) .
إن هذا الإنكار الضمني لوجود حرب أهلية، في بلاد يسيطر عليها الشيوعيون على ثلاثة أرباعها، وهذا التأكيد على اعتداء (التوتاليتاريين الشيوعيين)، الموجه بوضوح إلى الصين وفيتنام الشمالية، يؤديان إلى استنتاج حتمي، وهو أن الولايات المتحدة العاجزة عن الانتصار في فيتنام الجنوبية، تريد نقل الصراع إلى ساحة أكثر اتساعاً، يكون للتفوق التكنولوجي الكلمة الأولى، أي تحويل الصراع إلى نوع من الحرب الكورية، حيث يُزج الشعب الأمريكي بالقوة في حرب صليبية ضد شيوعية الشرق الأقصى .
وكانت الغاية من قصف فيتنام الشمالية، إجبار هانوي وربما بكين على التفاوض، والعودة كما قال جونسون، (إلى الجوهري من اتفاقيات عام 1954، إلى تسوية شريفة تضمن استقلال وأمن جنوب شرق آسيا كله). ولم تكن هانوي وبكين ظاهرياً قادرتين على فرض إيقاف معارك ثوار العصابات في فيتنام الجنوبية الذين بدا لهم النصر قريباً، ولذلك استُبعدت المفاوضات.
وفي 25 آذار 1965، أوجز الصحفي، ماركيز تشايلد، الموقف الذي يجب على البنتاغون مواجهته:
(تخصص الصحف عناوينها لعملية قصف فيتنام الشمالية، مبعدة بذلك الأنظار عن حقائق الصراع المشؤومة).
(فعلى الأرض، توشك الحرب على الضياع. إن سيطرة عصابات الفيتكونغ أضحت واسعة، بحيث أصبح من المستحيل تموين المقاطعات الخارجية إلا عن طريق الجو).
(وقد نفّر القصف بالنابالم قلوب سكان الجنوب، وازداد الوثوق بأن على الأمريكيين أن يزجوا بفرق كاملة حتى لا تنتهي الحرب بهزيمة كارثية...)
لقد أعلن السفير ماكسويل تايلور ذلك قبيل مغادرته لسايغون، ليقدم تقريراً للرئيس جونسون:
(ويبدو أننا سنصل إلى نقطة اللاعودة على الطريق المؤدي إلى زج كامل للقوات الأمريكية في البر والجو).
كيف ولماذا وصلت الأمور إلى هذا الحد؟
لكي يفهم الأمريكيون جيداً هذه الحرب في فيتنام، يجب عليهم القبول ببعض الوقائع الكريهة وهي كذلك لأننا اعتدنا على اعتبار أنفسنا ديموقراطيين ومعادين للاستعمار ولم نعتبر أنفسنا أبداً كإمبرياليين ومطلقاً كمعتدين .
وفي الحقيقة، ومن وجهة النظر الفيتنامية، إن الحرب العالمية الثانية في الهند الصينية هي استمرار مباشر للأولى. وهي من الناحية السياسية مماثلة لسابقتها، إنها صراع في سبيل الاستقلال والتخلص من السيطرة الأجنبية والغربية على أي حال. أما من الناحية الاجتماعية، فهي كالسابقة ثورة اشتراكية، أو بالأحرى ماركسية، تهدف إلى تدمير نظام اقتصادي، مطابق لنظامنا، وإحلال آخر غير مطابق له .
ولمنع هذا السياق، حلت الولايات المتحدة محل فرنسا في فيتنام الجنوبية، وتبنَّت طرقاً مناظرة للوصول إلى غايات مماثلة. ولن يجد التاريخ تمييزاً بين الفرنسيين المستعمرين والأمريكيين (المعادين للشيوعيين). لقد كانت فرنسا تريد الاحتفاظ بفيتنام كمستعمرة، وتهدف الولايات المتحدة إلى جعلها كوكباً تابعاً لها في إطار المجال الآسيوي الذي تعتبره جوهرياً لمصالحها، وربط فيتنام بها اقتصادياً وسياسياً وخاصة عسكرياً .
وليس ذلك إلا فصلاً من نضال أكثر شمولاً. فلقد دمرت الحرب العالمية الثانية مناطق النفوذ القديمة، وحطمت توازن القوى القديم، وكانت حرب الهند الصينية الأولى في إطار هذا التفكك. ويجري الآن استقطاب جديد، يشكل العالم الثالث، العالم النامي الذي يضم المستعمرات السابقة، ساحة معركته، وهدف الصراع فيه. فكل من لا يدخل في المدار الأمريكي يسقط –حسب اعتقادنا على الأقل– في المدار الشيوعي (الروسي أو الصيني). أي ما يعادل مائة وخمسة عشر مليوناً من البشر في منطقة شرق آسيا.
لهذا وجدنا أنفسنا نهتم بفيتنام الجنوبية وقمنا مقام الفرنسيين.
وقد كتبت نيويورك تايمز، في 24 أيار 1962 : (إن الرهان كبير الشأن في جنوبي شرقي أسيا. فإذا استولى الشيوعيون على لاووس وفيتنام الجنوبية، فإنهم سيأخذون على الأرجح كمبوديا وتايلاند وبورما، وقد يصلون إلى ماليزيا والفلبين، أي ما يعادل مائة وخمسة عشر مليوناً من البشر).
وقال الرئيس آيزنهاور: (إن ضياع جنوب فيتنام يشكّل خسارة كبيرة للهيبة، إنه ضياع جنوب شرق آسيا كله)، في حين كتب جوزيف ألسوب: (إذا تحملنا بسلبية الهزيمة في فيتنام الجنوبية، فإن كل شيء يشير بأن ذلك سيكون أسوأ هزيمة أصيبت بها الولايات المتحدة منذ بداية هذا القرن وأكثرها كلفة). ونقرأ في مجلة لايف، في 12 حزيران 964 : (إن التخلي عن جنوب شرق آسيا سيشكل كارثة، فالشيوعيون سيحتلونه، وستبدو الولايات المتحدة عاجزة عن كسب حرب أنصار، والوفاء بالوعود التي قطعتها على نفسها لحلفائها، وسيتراجع الخط العسكري الأمريكي إلى أوكيناوا، وستصبح اليابان والفلبين في خطر، وتفلت إندونيسيا من كل رقابة، وتنتهي عملياً السيطرة الأمريكية في آسيا) .
تلك هي رؤى واشنطن. وقد أعلن وزير الدفاع روبرت مكنمارا: "إن بقاء حكومة مستقلة (أي في الحقيقة موجهة من قبل الولايات المتحدة) في فيتنام الجنوبية، مسألة على غاية الأهمية لأمن جنوب شرق آسيا والعالم الحر، وبحيث أنني لا أتصور بديلاً عن الاضطرار لاتخاذ كل الإجراءات المتوافرة لدينا لمنع أي فوز شيوعي".
ووصف الرئيس كنيدي جنوب شرق آسيا بأنه حيوي للولايات المتحدة، باعتبارها قوة في المحيط الهادئ، وأعلن الرئيس جونسون منذ حزيران 1964، بأن الولايات المتحدة ستخاطر بحرب (وكان يقصد مع الصين) للدفاع عن هذه المنطقة.
ولقد أخذت الحرب الاتساع المعروف، عندما جاء الأمريكيون للقيام بدور الفرنسيين، لكن مع عدد من الاختلافات الرئيسية، معظمها لصالح الشيوعيين.
إن عجز واشنطن السياسي والنفسي عن تسمية الأشياء بمسمياتها، وضع الولايات المتحدة في موقف صعب، عند البدء بإدارة حرب استعمارية في جوهرها. وفي البدء قام الجنرالات الأمريكيون بدور (المستشارين) لهيئة الأركان العامة الفيتنامية، وللحكومة غير المستقرة (أو بالأحرى مجموعة من الحكومات المتعاقبة)، بدلاً من أن تكون لهم سلسلة قيادية مباشرة. وبينما كانت العمليات تجري في السابق من قبل قوات الدولة الاستعمارية –الفرقة الأجنبية، وحدات إفريقية شمالية... إلـخ (وكلها قوات لا علاقة لها بالسياسة الفيتنامية)– أصبحت الحرب بعد التدخل الأمريكي موكلة إلى أربعمائة ألف جندي فيتنامي، كانت لهم، كبقية السكان، أفكارهم الخاصة ولم تكن وجهات نظرهم حول الحرب وأهدافها متطابقة بالضرورة مع وجهة النظر الأمريكية .
ولم يكن الفرنسيون يهتمون بشعبيتهم، فهُم عسكريون أو مستعمرون مكشوفون، وواثقون من القيام بمهمة وطنية، ويديرون حرباً عسكرية بحتة، دون أن يخشوا خسارتها على أرض المعركة.
ونجم عن استبدالهم تحول سيـاسي هام. فحكومة سايغون، رغم كونها أداة سياسية أمريكية وديكتـاتورية عسكرية، لم تكن تتمتع بالاستقلال النسبي الذي تتمتع به حـكومة عسكرية أجنبية تـقود جيش احتلال، كان لا بد لها أن تحسب حساباً للرأي العام، وأن تحتفظ ليس فقط بثقة مصدر تمويلها (الولايات المتحدة) بل أيضاً بثقة الجزء من الشعب الذي يساندها ويتحملها، بالإضافة إلى ثقة جيش كبير، وضباط يعيشون جو المكائد .
وقد أثبتت الوقائع جيداً عدم استقرار مثل هذه الحكومة، فتعاقبت على الحكم بعد سقوط نغودينه دييم أكثر من عشر حكومات .
وبسبب دعم الاستقلال المزيف لحكومة لا حليف لها سوى الولايات المتحدة، التي كانت تمدها بوسائل رد (عدوان الشمال)، وجدت واشنطن نفسها تعاني من فقدان السيطرة على الأحداث، وتتعرض لضغوط سياسية، لم يتعرض لها الفرنسيون نسبياً، رغم المشاكل الداخلية التي كانت تزعجهم.
وكانت النكسات العسكرية، والتجنيد الإلزامي اللاشعبي، والعداوات الدينية، وقلاقل الطلبة، ودسائس الجنرالات الطامعين، وفتور الحرب، قادرة على تخريب التوازن السياسي الدقيق في كل لحظة. لذا يجب ألا نستغرب رغبة العسكريين الأمريكيين في توسيع الحرب، ليمارسوا القيادة بأنفسهم، ويتحرروا من الرمال المتحركة للسياسة الآسيوية .
ولم يكن للانتفاضة في فيتنام الجنوبية أي علاقات تقريباً مع هانوي قبل بلوغ المرحلة الحرجة، وكانت علاقتها مع بكين أقل أيضاً، إلا في المجال الفكري. لذا فإنها جرت وفق سياق حرب الهند الصينية الأولى .
وبدأت أعمال الإرهاب المنعزلة، والاغارات على مراكز الشرطة منذ العام 1955. ولكي يكون الرد فعالاً، كان لا بد من استعمال الجيش بكامله. ولكن ذلك كان بمثابة اعتراف بأن الأمور ليست على ما يرام في البلاد كلها. لهذا وجد نظام دييم أن ذلك في غير محله، وتبنى سياسة النعامة، وأعلن بأن الأمر يتعلق بمجرمين، وبأن الشرطة ستعيد تثبيت النظام.
وعندما أصبح اتساع التهديد الناجم عن الفيتكونغ معترفاً به تماماً، وأضحت أعداد ثوار العصابات هامة، وألفوا أنفسهم قـادرين على مجابهة الجيش بنجاح، حتى لو كان هذا الجيش مجهزاً بالأسلحة والطائـرات و(المستشارين الأمريكيين)، ازداد عون واشنطن العسكري والاقتصادي إلى حكومة سايغون، لكنه بقي دائماً أقل بكثير من متطلبات الموقف .
ففي منتصف العام 1964، أصبح ثوار العصابات المتفرقون في فيتنام جيشاً يضم أكثر من مائة وأربعين ألف رجل من التشولوك -المحاربين النظاميين الدائمين- والمساعدين وأصبحت الهجمات تجري على مستوى الكتيبة وحتى الفوج. وكان هذا الجيش يمتلك مناطق خلفية حسنة التنظيم ، وأضحت الحكومة معزولة عملياً عن السكان الريفيين الذين يشكلون 85% من أمة تقارب 16 مليون نسمة، وتقطن مساحة تزيد عن 300 ألف كيلو متر مربع .
وكان ثوار العصابات يسيطرون على الجزء الأعظم من البلاد خارج التجمعات السكنية الكبرى. ولم يكونوا ليهاجموا إلا من قبل الطائرات، وعرضياً من قبل القوات المحمولة بالهليكوبترات، والتي كانت تضرب على غير هدى باحثة عن الإبر في كومة من القش. وكانت الأرتال الحكومية تتوغل في مناطق الفيتكونغ، فتتعرض للكمائن. ولم يكن لديها أمل بممارسة أية سلطة على السكان .
وكانت طرق المواصلات الثانوية كلها تقريباً مقطوعة، مع جزء لا بأس به من الطرق الرئيسية. ولم يكن الوصول إلى بعض العواصم الإقليمية ممكناً إلا عن طريق الجو. وكانت حول سايغون شبكة من القواعد تعيش جو حصار، حيث كان يجري القتال غالباً على بعد يقل عن خمسة عشر كيلومترات من المدينة.
وحافظ الفيتكونغ في قطاعاتهم على اقتصاد ريفي، فكانوا يجيبون الضرائب على التجارة التي استمرت بين المناطق، حتى أن الوقود المستعمل لمواصلات القوات الحكومية، كان يخضع أحياناً للرسوم قبل أن يصل إلى الثكنات .
ودفع الأمريكيون إلى سايغون 250 مليون دولار سنوياً، لتحسين الاقتصاد الزراعي وكسب سكان الأرياف. لكن (جيمس كيلن) مدير وكالة المساعدة الدولية، قدر بأن 10 – 15% من العون كان يذهب إلى المناطق التي كانت تتناقلها الأيدي باستمرار .
وفي 15 آب 1964، كتبت النيويورك تايمز: (إن السيطرة على أي منطقة كانت تتغير بين ليلة وضحاها. وفي كثير من الأمكنة. وبعد الانتهاء من عمل كبير: جسر أو طريق أو بئر، وبمجرد انسحاب العمال من موقع العمل، يقوم الفيتكونغ باحتلاله).
وتكرر ما حدث في الصين وكوبا، إذ أقام الثوار نظاماً اقتصادياً وسياسياً موازياً. وكان الجيش قادراً على الذهاب حيثما يشاء –وبالقوة دائماً– لكنه ظل عاجزاً عن البقاء في المكان الذي يصل إليه، وإلا أصبح عرضة للهجمات ولذا بقيت القوات عملياً ضمن إطار التجمعات السكنية، وغدت عاطلة عن العمل.
واصطدمت سايغون ومستشاروها الأمريكيون بنفس مأزق الفرنسيين، الذي شرحه جياب بقوله: (فبِتَوْزيع قواتهم، أصبحوا أضعف من أن يقوموا بالدفاع عن أنفسهم، وصاروا يعرّضون قواتهم للتدمير بالمفرّق. وبتركيزهم للقوات، كانوا يتركون الأرض التي سعوا إلى احتلالها، لأن النصر -بالنسبة إليهم- لا يعني شيئاً إذا لم يكن مصحوباً باحتلال الأرض).
وكان ثوار العصابات يستطيعون اختيار أهدافهم فيقبلون المعركة أو يرفضونها حسب رغبتهم. ولم تكن لدى الحكومة المعلومات التي يقدمها العون الشعبي، لذا تصرفت على غير هدى، وكانت عملياتها محكومة بالصدفة إلى حد ما، وباهظة التكاليف بالنسبة إلى نتائجها.
وكبّلت حكومة سايغون نفسها بعائق خطير، عندما رفضت، ولعدة سنوات، الاعتراف بوجود معارضة مسلحة في فيتنام الجنوبية. وكانت تؤكد أن ثوار العصابات الذين تصطدم بهم، ما هم إلا محاربون قدماء من الفييتمينة، وأنهم مكابرون وقليلو العدد. ولم تعترف بالحقيقة إلا بعد خمس سنوات.
واستفاد الفيتكونغ من هذه المهلة لتنظيم حركة سياسية سرية قوية، ووحدات من الثوار على مستوى القرية والمنطقة. وكانت استراتيجيتها الأولية تهدف إلى تحطيم ارتباط الحكومة السياسي مع المناطق الريفية، وذلك بإفساد أو خطف أو قتل عناصر السلطات المحلية –وخاصة رؤساء القرى ومستشاريهم– ولقد بدأت الحملة في العام 1957، الذي قُتل فيه أكثر من 700 موظف، وقدرت الخسائر المماثلة في العام 1963 بثلاثة عشر ألف شخص، رغم الجهود التي بذلتها الحكومة لإيقافها .
وبعد تدمير شبكة الارتباطات السياسية، عمد الفيتكونغ إلى تنظيم جيشهم. وعلى الرغم من التصريحات المتحدثة عن المعتدين الشماليين فإن من المرجح أن الفيتكونغ حصلوا على حوالي 90% من تسليحهم، بفضل الأسلحة الأمريكية التي غنموها من القوات الحكومية.
وتعترف إحصائيات سايغون نفسها، بأن الفيتكونغ غنموا 4853 سلاحاً في العام 1960، ولم يخسروا سوى 921 سلاحاً، والفرق يكفي لتجهيز فوج. وفي العام 1962 كانت غنائم الفيتكونغ 52 ألف قطعة سلاح وخسائرهم 4850 قطعة فقط. وفي العام 1963 كانت الغنائم 83 ألف قطعة والخسائر 5400. وهكذا غنم الفيتكونغ في عامين 128682 سلاحاً، أي أن غنائمهم كانت كافية لكل المقاتلين في ذلك الحين .
وكتبت النشرة نصف الأسبوعية I. F. Stone’s بتاريخ 13 أيار 1963:
(كيف يحصل الفيتكونغ على السلاح؟)
(إن معظم ما يملكون هو من الأسلحة الأمريكية المغتنمة من الوحدات الحكومية في كمائن أو خلال مهاجمة المراكز الصغيرة. وبالأصل تُنظم وحدة الفيتكونغ غالباً بلا أسلحة. ويقول المنظم السياسي للأعضاء، بأن عليهم اغتنامها من العدو، على أن يستعملوا في البداية أسلحة بدائية، مثل الرماح والخناجر... إلخ. والطريقة حسنة بشكل واضح، فالفيتكونغ تملك اليوم مدافع عديمة الارتداد، وهاونات ثقيلة، ورشاشات ممتازة وكميات كبيرة من الرشيشات) .
ولم يكن ثوار الفيتكونغ يخوضون معركة، إلا عندما يضمنون النجاح بفضل العدد أو الموقع. وكانت العمليات على مستوى الكتيبة، نادرة حتى نهاية عام 1963. ومنذ منتصف العام 1964، بدأ الفيتكونغ بترك تكتيك حرب العصابات، للقيام باختبارات قوة محلية. وكان ذلك دلالة هامة، تشير إلى تبدل في مرحلة الحرب، والانتقال من مرحلة الدفاع الاستراتيجي، ودخول مرحلة توازن القوى وأخذ زمام المبادرة من قبل الثوار.
وأشارت الانترناشيونال يونايتد برس، أنه (في تشرين الثاني 1961، وعندما بدأت بإنشاء قواتها في البلاد، اعتُبر الموقف حرجاً، لأن الفيتكونغ كانوا أقوياء بحيث أنهم استطاعوا شن 1782 هجوماً في ذلك الشهر. وفي تشرين الثاني من 1963 أي بعد عامين من العون العسكري والاقتصادي المكثف، أضحى عدد الهجمات والحوادث التي كانت المبادرة فيها بيد الفيتكونغ، 3182 هجمة وحادثة في الشهر).
وتضاعفت الوسائل الجوية الموضوعة بتصرف الفيتناميين الجنوبيين، إلا أن النتائج لم ترتفع بالنسبة ذاتها. وكتبت النيويورك تايمز في 3 كانون الأول 1963:
(لقد أجبرت الهجمات الجوية ضد تجمعات الثوار القادة الشيوعيين على تعديل تكتيكهم، لكنها لم تنل مع معنوياتهم أو من قدرتهم القتالية، كما أشار لذلك تقرير عن فعالية الأسلحة المستعملة ضد حرب العصابات. والمحاولة الرامية إلى إنقاص عدد الأشجار في معتصمات الأدغال لم تؤد النتائج المقدرة لها. وحتى أقل الوحدات غرساً بالحرب، تعلمت الاتقاء من نيران الرشاشات ورشقات القذائف الصاروخية التي تطلقها الطائرات).
(ومن المعروف أن الفيتكونغ عرفوا أن أكثر الاحتياطات تطوراً، فقد حفروا في مناطق قواعدهم الرئيسية الأنفاق والمغارات، التي يمكن لبعضها أن يقاوم تأثيرات قنابل زنتها 500 رطل) .
(وفي بعض الوحدات، تلقى عدد المقاتلين، تدريباً خاصاً لتعداد القنابل والقذائف التي تسقط، وعدد الانفجارات، بحيث يتمكنون من تمييز أمكنة المقذوفات التي لم تنفجر، واستعمالها بعد ذلك (لصنع الألغام الأرضية أو القنابل أو الرمايات... إلخ)).
وتعترف حكومة سايغون، بأن نسبة الخسائر بين المعسكرين خلال تلك السنين قد تطورت لصالح الفيتكونغ. ونشرت النيويورك تايمز في 18 تشرين الأول 1964 الرقم الرسمي لهذه الخسائر:
السنـة 1961 1962 1963 1964
الحكومـة 9000 13000 19000 1390
الفيتكونـغ 13000 33000 28000 9000
ولا بد من الانتباه، إلى هذه الخسائر المقدرة للفيتكونغ مقدمة من قبل الحكومة، وتتضمن بالضرورة الخسائر المدنية بسبب أعمال القصف وهناك وسيلة سهلة للتدقيق، وتتمثل بمقارنة أرقام الخسائر مع عدد الأسلحة المغتنمة. عندها يبدو التبـاين واضحاً بشكل يدفع إلى الاستنتاج التالي، إن معظم الأشخـاص المقتولين من الفيتكونغ لا يحملون الأسلحـة. ويمكن الحكم على التقديرات استنـاداً إلى ما كتبه (برنارد فول) في (الفيتناميين):
(إن التقارير الرسمية للطيران الفيتنامي الجنوبي تسمح بأن تكوّن فكرة عن الطريقة التي يُستخدم فيها. فخلال عملية جارية استمرت ثلاثة أيام من كانون الثاني 1963 أصاب الطيران الأهداف التالية: منزلاً وعشرة أبراج مراقبة على بعد خمسة عشر وخمسة وثلاثين كيلومتراً غربي بليكو، وثلاثة منازل على بعد خمسة وأربعين كيلومتراً غرب كينهون، وأربعة منازل ومزرعة أرز على بعد خمسة وثلاثين ميلاً غرب بليكو، وأبيد خمسة وعشرون منزلاً وتضررت عشرة على بعد خمسة وثلاثين كيلو متراً شمالي غربي بليكو، ومنزلان على بعد ثلاثين كيلومتراً شمالي بيين هوا. وفي خلال عملية ضد تجمعات الفيتكونغ، في سهل جونكس ومعقل المنطقة (د) أعلن جيش جمهورية فيتنام، بأنه قتل ستة وسبعين عدواً بالأسلحة البرية، وأربعمائة بالأسلحة الجوية، لكنه لم يغنم إلا سبعة أسلحة فردية وخمسة أسلحة جماعية (رشاشات وهاونات)، إلا أنه دمّر أكثر من أربعمائة منزل وكوخ).
ويمكننا أن نتصور بسهولة من يمكن أن يكون القتلى (الأعداء) في هذه الحالات. إن استعمال الطيران بلا تمييز، ضد أهداف يعتقد أنها للفيتكونغ، يفسر إلى حد بعيد عداء السكان لحكومة سايغون. ومن جهة أخرى، كان للفلاحين كل الأسباب الداعية للتضامن مع الأنصار، المجندين عادة من قُراهم، واللذين يشاركونهم الأخطار والمحن.
(بالنسبة إلى العالم الآخر، البعيد عن قرى ودساكر فيتنام الجنوبية، يُعتبر الثائرون بمثابة عملاء للشيوعية العالمية. أما الأكواخ المصنوعة من البامبو وأوراق الأشجار، وفي القرى المحررة، كان ثوار العصابات يتحدثون مع السكان بأمور في غاية البساطة) .
(وقد صرح ابن فلاح، لا يتعدى العشرين من عمره قائلاً: كنا في القرية نتعرض للهجوم كل ليلة. فلو كانت الحكومة حسنة أو قوية كما ينبغي، لتوجب عليها حمايتنا. ولذلك فكَّرت بأن جماعة جبهة التحرير قد يكونون على حق. أما الآن، وقد عرفتهم، فلست بآسف لأنني قررت الانضمام إليهم).
(وصرح آخر: كنت أخاف منهم، وأحقد عليهم، عندما كانوا يهاجمون قريتي. لكن توجب علي الذهاب معهم، وأنا اليوم سعيد بذلك).
لقد كان السائل صحافياً فيتنامياً، استطاع الوصول بواسطة السيارات إلى المناطق المتنازع عليها في الدلتا، ودخل قرية لم تعد موضع نزاع، ويسيطر عليها الشيوعيون ليلاً ونهاراً. وفيما عدا القائد، كانت أعمار ثوار العصابات كلهم لا تزيد عن 20 عاماً، وكانوا يرفضون ذكر أسمائهم خوفاً من أعمال الانتقام، لكنهم كانوا يعلنون بأنهم من مواليد القرية، ويتحدثون باللهجة المحلية. وعند سؤالهم عن رأيهم بهوشي منه أجاب القائد:
(إنه ثوري عظيم، ونحن نحبه تماماً، لكننا لسنا تابعين له، فنحن فيتناميون جنوبيون ونقاتل لتحرير فيتنام الجنوبية). (نيويرك تايمز 23/9/1964) .
وفي الجزء الأعظم من جنوبي فيتنام الريفي، شكل الفيتكونغ الحكومة الوحيدة، بمدارسها ومستشفياتها ومكاتبها الإدارية وجباية ضرائبها وخدماتها الصحفية. ولغياب سلطة الحكومة سايغون، ازدادت سلطة حكمهم، وكان اتصالهم الوحيد معها يتم عند قيامها بحملة تأديبية عرضية تصل بالهليكوبتر أو بالعربات المدرعة، عبر طريق ملغوم بكثافة. وبعد العودة الإجبارية للجنود، كانت الحياة تعود إلى مجراها الطبيعي. وبضغط مستمر على المناطق المتنازع عليها، كان الفيتكونغ يوسعون تدريجياً مجالهم.
وكانت واشنطن وسايغون تقولان بأنه لا يمكن كسب الحرب بدون الدعم الشعبي. وقد أعلن الجنرال وليام ويستمور لاند، عند استلامه قيادة القوات الأمريكية قائلاً :
(لننتنبه بأنه يجب كسب الحملات على مستوى المقاطعة والناحية والقرية والضيعة التي تجري المعركة فيها، لنأسر نفوس الناس وقلوبهم).
إن هذا هدف يستحق الثناء، إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى اكتشاف الوسيلة اللازمة لبلوغه. فقنابل النابالم المحرقة، ورش السوائل الكيميائية لإتلاف المحاصيل، لم تأسر النفوس والقلوب.
وفي العام 1962، مهَّد نظام نغودين دييم لبرنامج على النموذج الذي اقترحه البريطانيون في ماليزيا لنقل السكان الريفيين. إلى قرى أعطيت اسم (استراتيجية)، وخصص ستين مليونا من الدولارات لإنشاء التجمعات المحصنة وتدمير المساكن المنعزلة، وذلك لفصل الانتفاضة عن قواعدها الشعبية. وكان يجب إنشاء 12 ألفاً من هذه القرى المحصنة في نهاية العام 1963، حتى تستوعب السكان الريفيين كلهم. ولا نعلم كم بُني منها، لأن الموظفين قدَّموا عنها تقارير مزيفة، كما أن الفيتكونغ احتلوها ودمروا كثيراً منها مباشرة بعد الانتهاء من إعدادها، وفشل المشروع في بداية العام 1964.
وكان لتهجير الفلاحين بالقوة، وللتعويضات غير الكافية عن الخسائر المسببة، و مظهر معسكرات الاعتقال للتجمعات السكنية الجديدة بأسلاكها الشائكة ومنعاتها، نتيجة معاكسة للغاية المنشودة. فبدلاً من أن يكسب البرنامج ثقة الفلاحين، فإنه أبعدهم عن الحكومة أكثر. وعوضاً عن أن يستسلموا للاحتجاز، التحق الشباب بالفيتكونغ، وتبعتهم الفتيات، ولم يتبق في التجمعات السكنية إلا (الأفواه اللا مجدية) أي الأطفال والشيوخ .
وشكل توسيع جهاز الشرطة جزءاً هاماً من برنامج الصراع ضد الثوار. وقد قدّر لعدده أن يبلغ خمسين ألفاً في نهاية العام 1965، حتى يستطيع السيطرة على المناطق المفرغة من الفيتكونغ، ويقبض على المشبوهين، ويحفظ النظام في القرى التي كانت قد فقدت الاتصال الإداري مع الحكومة المركزية. وقد بدا كل ذلك معقولاً، لكن كيف كان بإمكان الشرطة أن تبقى في مكان لم يستطع الجنود البقاء فيه؟
وقد شكلت القرى المحصنة بالميليشيا أهدافاً ثمينة حقاً للفيتكونغ، بسبب الغنيمة المرجوة منها: كالأسلحة وأجهزة الراديو والأدوية والمؤن. وكانت المشكلة بالنسبة إلى الشرطة مماثلة للمشكلة التي جابهها الجيش. فعندما تتفرق تصبح ضعيفة، عندما تحتشد تضطر للتخلي عن الأرض، وبذلك تخفق في مهمتها.
وقد قال جياب: (لا يمكن لهذه الحرب أن يكون لها، إلا هدف واحد، وهو احتلال البلاد وإخضاعها وبسبب طبيعة الحملة التي يخوضها العدو، فإنه مضطر إلى توزيع قواته حتى يستطيع احتلال الأرض المجتاحة. وأثناء الحرب مع الفرنسيين وجد هؤلاء أنفسهم أمام التناقض التالي: إنهم لا يستطيعون احتلال الأرض المجتاحة بدون تجزئة قواهم، وإذا وزعوها خلقوا لأنفسهم صعوبات، إذ تصبح وحداتهم المنعزلة فرائس سهلة لقواتنا، وتضعف قواهم المتحركة شيئاً فشيئاً).
والذي نراه هنا هو أكثر من تحليل. فلقد كان الربيع الحرج من العام 1965، بمثابة تحذير كان علينا أن نرقبه. فتوسيع الحرب وزج قوات أمريكية كافية لإدارتها بنجاح، يتضمن محاولة جلية تماماً لعسكريي البنتاغون المصممين على البقاء خارج السياسة وعلى ألا يهتموا إلا بنتيجة المعارك.
لكن حتى ضمن هذا الإطار الضيق، هل كان بإمكان الحملة الأمريكية اجتياح فيتنام، بينما لم تستطع الحملة الفرنسية التوصل إلى ذلك؟
لقد قال الجنرال ديغول في مؤتمر صحافي بتاريخ 13 تموز 1964: (لا يبدو أن الحل العسكري ممكن. والحقيقة أن بعض الناس يتصورون بأن الأمريكيين يمكن أن يحاولوا في مكان آخر تحقيق الحل العسكري الذي لم يتمكنوا من تحقيقه في هذا المكان، (فيتنام الجنوبية)، وذلك بنشر الحرب شمالاً بأقصى ما يمكن، وبالتأكيد إن لديهم الإمكانيات للقيام بذلك. لكن من الصعب الرضى بأنهم يمكن أن يقبلوا المخاطرة الضخمة بحرب شاملة. وبالنتيجة، وبما أن الحرب لا تؤدي إلى الحل، فإن من الواجب السعي لتحقيق السلم، وذلك يتضمن العودة إلى الاتفاقيات المعقودة منذ عشر سنين).
وبفضل اتفاقية جنيف –التي ربطت هوشي منه وحكومته، دون أن تربط تماماً ثوار جنوبي فيتنام– قبل الفرنسيون هزيمتهم في حرب دفع الفييتمينة ثمنها 300 ألف من النفوس البشرية.
ويبدو أنه من غير المعقول أن يقبل الفيتكونغ، بعد خمسة عشر عاماً من التضحيات الجديدة، بالعودة إلى أوضاع العام 1954، بلا قيد ولا شرط.
ومن جهة أخرى، فإن من غير المشكوك به، أن يميل هؤلاء إلى القبول بنصر سياسي، لم يتمكنوا من انتزاعه، حتى ذلك بالوسائل العسكرية.
وفي مقابلة صحفية مع مجلة (لايف) في تشرين الثاني 1964، أوجز السفير الأمريكي ألكسيس جونسون الآفاق المفتوحة أمام المفاوضات السلمية بقوله:
(تهدف استراتيجية الفيتكونغ الحالية، إلى الوصول لمفاوضات بين أية حكومة في سايغون والفرع السياسي للفيتكونغ، الذي هو جبهة التحرير الوطنية. وتسعى هذه المفاوضات لخلق حكومة ائتلافية، تقوم جبهة التحرير الوطنية بتوجيهها في مرحلة تالية، ثم يتحقق الاندماج مع فيتنام الشمالية في مرحلة ثالثة).
وكانت واشنطن قد أقصت هذا الحل. لكن –في حالة المأزق العسكري– يمكن للضغوط السياسية على سايغون أن تسبب بسهولة انفجاراً، يؤدي الحسم الشعبي فيه إلى استبعاد السياسة الأمريكية، وكنس كل حكومة تدعمها.
وبانتظار ذلك، تستمر حرب البرغوث، وتأخذ أبعاداً وبائية. ويستطيع البرغوث أن يتحمل طويلاً، وأن يشن حربه في المجال والزمن، وينمي كل يوم العامل الثالث لكل حرب ثورية طويلة الأمد، ألا وهو: إرادة الصمود عند الشعب. ولا يستطيع خصوم البرغوث التصرف مثله، لذا فإن النتيجة مضمونة مسبقاً، وخاصة إذا استبعدنا فكرة الحرب العامة.
ولا يسعني سوى أن أكرر، بأنه ليس هناك شعب خاضع للاستعمار، خسر حتى الآن حرباً شنها بنفسه.
الفصل السابع
حروب التحرير الوطنية وثمنها – القلاقل في أيرلندا
ودور (البلاك والتانز) فيها.
قد يكون ثمن التحرير الوطني مرتفعاً جداً، كما برهنت عن ذلك حربا فيتنام. ومع ذلك يمكن القول، وبصورة عامة، أن حروب التحرير الحديثة –حروب المستعمرات ونصف المستعمرات مثل كوبا– بقيت اقتصادية بشكل ملفت للنظر، من حيث الأرواح البشرية، التي تُزهق، بالمقارنة مع الحروب بين الدول.
ففي كوبا، لم يقتل إلا بضع مئات خلال سنتي الحرب الأهلية. وبعد سقوط باتيستا، قدرت المصادر الثورية ضحايا العنف الثوري بعشرين ألفاً من الضحايا خلال سبع سنين. ولم يُنشر أبداً أي سبب مبرر لذلك. وعلى العكس، تعطي روايات المعارك الخاصة التي خاضها جيفارا وآخرون رقماً أكثر تواضعاً.
وفي زنجبار، اقتصرت الخسائر على بضع عشرات. وفي قبرص، لم يتجاوز الرقم بضع مئات. أما فيما يختص بأيرلندا، فقد كتب (ريتشارد بينيت) في (بلاك آند تانز) ما يلي:
(أثناء السنة الأولى من الحرب ضد إنجلترا، قتل الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA)، وفق أقصى التقدريرات، ستة وعشرين شخصاً، منهم ثمانية عشر شرطياً. ولم يطلق النار على الأفراد إلا في مائة حالة على الأكثر).
ويضيف بينيت : (لا يمكن لأية حكومة أن تستسلم أمام مثل هذا التهديد). ولكنه كان مخطئاً، فلقد استسلمت إنجلترا، ليس أمام العنف، بل بسبب الموقف السياسي والاقتصادي العصيب، الذي يمكن أن يحدثه العنف خلال سنة.
ونجد هنا برهـاناً آخر مميزاً لحرب البرغوث، تشكـل حرب العصـابات أحد وجوهه، كمـا يمثل الإرهاب (حرب العصابات في المدن) وجهه الآخر.
فثائر العصابات في الأرياف، وإرهابي المدن، يستعملان كلاهما القنابل والطلقات، ولكن الرافعة الحقيقية بالنسبة إليهما سياسية. وقد تُدمر فرق كما حدث في فيتنام، ولكن ذلك لا يشكل الغاية النهائية. وقد تتعرض مدن للإرهاب كما في قبرص، وليس ذلك أيضاً هو الغاية النهائية. فهدف حرب التحرير الوطنية، التي تتواجد فيها الموارد الضعيفة لأمة صغيرة بدائية، مع وسائل قوة كبرى صناعية، ليس احتلال الأرض أو الإرهاب، بل خلق موقف لا يطاق للقوة المحتلة أو لحكومة محلية عميلة .
ففي حرب البرغوث يسبب (القصف) البرلماني أضراراً أكثر من المدفعية، وتنفجر العناوين الرئيسية للصحف بقوة أكثر من القنابل، وتربح مواكب السلام المعارك التي تخفق فيها الرشاشات، وتبقى الخسائر ضعيفة، لأن ثوار العصابات عندما يشنون حملات الاستنزاف، يتجنبون المعارك المكلفة المألوفة للجيوش النظامية. أما الإرهاب والمعتبر تقليدياً، كعمل فظيع، وكقتل سياسي، فهو أكثر إنسانية من كل أنواع الحروب الأخرى لأنه انتقائي (هل قصف مدينة بالقنابل أو القصف قرية بالنابالم أقل فتكاً من الإرهاب؟) .
إن المعتدي لا يفلت فريسته بسبب انهزام جيوشه (مع أن ذلك يمكن أن يحدث كما رأينا)، بل لأن البلد أو المستعمرة المنتفضة تصبح –بسبب الإرهاب أو حرب العصابات– عقبة سياسية كأداء على المسرح الداخلي أو العالمي، وغير منتجة وشديدة الكلفة، أو مسيئة إلى الهيبة .
ويحاول المنتفض أن يقوم بدور داوود، فيسعى إلى إظهار عدوه للجمهور بمثابة جالوت، وتهدف كل أعماله وكل تصريحاته إلى إثارة الود والشعور بالعدل لدى شهود الصراع، ويكون ذلك بخلق صورة شعب شجاع يقاتل في سبيل استقلاله، ضد القوى الهائلة للظلم والاستبداد.
وفي الوقت نفسه، تستعمل الثورة كل ترسانتها، (حرب العصابات، إرهاب، تخريب، دعاية)، كي تحرم الاستعمار من مكاسبه، وذلك بتحطيم معنويات اليد العاملة، وإنقاص الإنتاج، ومقاطعة الواردات، والتحريض على الانتفاضة وتخريب المؤسسات الصناعية، أي العمل بصورة عامة على زيادة تكاليف الاستعمار والإدارة السياسية، عن طريق زيادة نفقات القوات العسكرية والشرطة.
فإذا كان الهدف محدداً بدقة، وكان التكتيك الثوري مطبقاً بحزم، فإن القوة العسكرية تجد نفسها بسرعة، مشتبكة في صراع يفقدها سمعتها أمام العالم، ويكبدها خسائر مالية لا يلبث تأثيرها أن يظهر في الداخل. أما الجهود التي تبذلها القوة المذكورة، لوضع حد للصراع، فإنها تزيد سرعة تطور الأمور، لأنها كلما شددت القمع كلما أثارت حقد السكان المستعمرين (أو التابعين في حالة الإمبرياليين)، كما أن صفحتها تسوّد في عيون الرأي العام العالمي.
ولا بد من التنويه، بأن الرأي العام العالمي يتألف من شعب القوة المعتدية، وقوى المعارضة التي تندد بالطرق المستعملة في القمع، ودافعي الضرائب الذين يزداد عبؤهم، والأشخاص الذين يتأثرون من فقدان الهيبة الوطنية... إلخ. وإن تجربة الإمبراطوريتين الاستعماريتين بريطانيا وفرنسا في القرن الماضي، تقدم عدة أمثلة عن هذا السياق. فبالنسبة إلى الأولى، تضمن الصراع الذي أدى إلى استقلال قبرص (المشروط حتى الآن) تكراراً شبه حرفي (للقلاقل) التي خلصت قبل ثلاثين عاماً أيرلندا الكاثوليكية من التسلط البريطاني.
إرعاب الخصم هو هدف الإرهاب. هكذا قال لينين، وكان بإمكانه التشديد على الملاحظة، حتى لو أدى ذلك إلى إضعاف بلاغة الجملة، كأن يقول بأن الهدف الرئيسي للإرهاب هو تخريب الإدارة وذلك بحشر أولئك الذين يحكمون في موقف دفاعي، حيث لا يمكن أن يحدث شيء بدون الوجود المستمر لحرس مسلح، مما يؤدي إلى شل الحركة. ولهذا أيضاً أثر ثانوي، وإن لم يكن غاية، وهو أن يثير إرهاباً مضاداً يخدم قضية الثوار بشكل أفضل من كل الأساليب التي يمكن للثوار أن يتصوروها.
تلك كانت الحالة في أيرلندا وبالرغم من تاريخ انتفاضي طويل، فقد بقي دعم الجمهور لحركة الاستقلال فاتراً حتى اللحظة التي تأجج فيها بسبب أعمال البريطانيين أنفسهم، وخاصة بسبب أعمال النهب التي ارتكبها (البلاك والتانز) المشهورون، الذين استنفروا لدعم قوة الدرك الملكية الأيرلندية.
ولقد كتب ريتشارد بينيت، عن موضوع انتفاضة الفصح، التي دبرها الوطنيون في العام 1916، قبل أربعة أعوام من تشكيل (التانز) مما يلي:
(أديرت هذه الانتفاضة بشكل يدعو للرثاء، إذ أعلن الثوار الجمهورية، واحتلوا عدداً من المباني العامة في دبلن، وصمدوا بشجاعة فيها لمدة أسبوع، وكان آخر المستسلمين هو أستاذ الرياضيات الشاب دوفاليرا. ولم تحدث قلاقل تُذكر في بقية أيرلندا، ورفض الشعب الأيرلندي الدعوة النبيلة (بأن يبرهن على أنه جدير بالمصير المشرف المقدر له)، كما استغل النهّابون المناسبة في دبلن.
(ولم تجر في تاريخ أيرلندا كله، انتفاضة بهذا القدر الضئيل من التعاطف معها، إذ كان يقاتل في صفوف الجيش البريطاني حوالي مائة ألف من الكاثوليك الأيرلنديين، وفكر معظم أفراد الشعبين الأيرلندي والإنجليزي، بأن الأمر لا يعدو أن يكون خنجراً في الظهر. وعندما استعرض الأسرى في شوارع دبلن، قابلهم سكان دبلن غاضبين شاتمين. وبدت قضية الاستقلال الأيرلندي وكأنها قد ضاعت أو أجّلت إلى أمد بعيد).
وعندها ارتكب البريطانيون غلطة عميقة، إذا أعدموا رمياً بالرصاص خمسة عشر مسؤولاً عن انتفاضة الفصح، فسببت هذه الإعدامات فضيحة عالمية، وضعت حداً لكل حل سلمي للمسألة الأيرلندية. أما حركة الاستقلال (سين فين)، التي كانت فاقدة الاعتبار، فقد أصبح لها شهداؤها، لذا نمت بسرعة. وكأنما كانت لندن تسعى عمداً إلى إلحاق الهزيمة بنفسها، فقد أعدت الحكومة الإنجليزية قانوناً – وكانت الحرب العالمية الثانية قد التهمت الرجال – لتجنيد كافة الأيرلنديين، الذين يسمح لهم سنهم بحمل السلاح، فتوحد الجميع بذلك ضد التاج، والتحق آلاف الشباب بالميليشيا المسماة (المتطوعون الوطنيون)، التي لم تلبث أن أصبحت الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA). ولم يكن بإمكان إنجلترا أن تفعل أفضل من ذلك لتثير (القلاقل) التي كانت آنئذ وشيكة الوقوع.
وفي 21 كانون الثاني 1919، قام (الديل ايريان) (وهو المجلس التشريعي لحزب السين فين) بإعلان الاستقلال، وتعهد تشكيل حكومة الأمر الواقع الجمهورية في الأرض الأيرلندية، وتممت الحكومة بالمحاكم وبجهاز للشرطة. وكانت غاية المناورة سياسية، ولم تكن الحرب الفعلية متوقعة. والحقيقة أن نية (ديل ايريـان) كانت مختلفة عن مزاج المتطوعين. وفور إعلان بيان الاستقلال، دوت الطلقات الأولى للثورة. وفي اليوم نفسه نصب (المتطوعون) كميناً لمجموعة تنقل متفجرات الجلجنايت إلى مقلع، وقتلوا فردين من الدرك الملكي.
وقامت بسرعة حملة منظمة من الإغارات والكمائن، بدلاً عن الاصطدامات الفردية والتلقائية، وكانت الحملة بإدارة مايكل كولنز في دبلن، وقادة ألوية الجيش الجمهوري الأيرلندي في الأمكنة الأخرى. وكان عدد الضحايا قليلاً نسبياً، أما الآثار فكانت رائعة، إذ أخذ الجنود، بخوذهم الحديدية وبنادقهم المزودة بالحراب، يقومون بالدوريات في شوارع دبلن، كما لو أنهم في عاصمة أجنبية محتلة. وتكدست المعدات الحربية في المرافئ، ولم تعد التحركات العسكرية على الطرقات تجري إلا محروسة، وامتلأت السجون بالمعتقلين السياسيين. وبين كانون الثاني 1919 وآذار 1920، جرت عشرون ألف عملية مداهمة للمنازل، بحثاً عن الأسلحة والمشبوهين.
وفي نهاية العام 1919، جرى صراع محموم شمل العسكريين والمدنيين، وأصبحت البلاد كمعسكر محصن، وتحولت الهجمات والاغتيالات إلى أعمال يومية وأصبح الجو في دبلن وكأن (كافة الموظفين البريطانيين تقريباً معتقلون في القلعة). ولم يكن الجنود ورجال الشرطة ضمن ثكناتهم في وضع أفضل. ولم تقع أعمال عسكرية كثيرة، لكن جوّ التوتر استمر في التأزم، وأصبح كل طريق مدخلاً إلى كمين محتمل، وكان بإمكان أي مدني، مهما كان بريء المظهر، أن يخرج مسدساً ويطلق النار).
ولم يمض يوم واحد دون أن تعلن الصحف عن (حادث أيرلندي). أما في البلاد الأجنبية، وبفضل الفعالية القصوى لحملة الدعاية التي قام بها (دوفاليرا) بين المهاجرين الأيرلنديين في أمريكا، تعاظم التعاطف مع الثوار، بحيث أن السفير البريطاني في واشنطن (بدا عاجزاً أمام الشعور العام المتعاطف مع أيرلندا).
واحتل أيرلندا ثلاثة وأربعون ألف جندي بريطاني، بالإضافة إلى عشرة آلاف دركي. وعُزِّز هؤلاء بسرعة بآلاف من (البلاك والتانز) (وهو لقب مستوحى من لباسهم الكاكي ومن اللون الأسود لواقيات قبعاتهم وأحذيتهم وأحزمتهم وجعبهم)، وبألف وخمسمائة من الطلبة المؤقتين التابعين للدرك المساعد. ولم يكف العدد لاحتلال الخمسة وستين ألف كيلو متر مربع من جنوب أيرلندا الثائرة.
وكانت الأرض مناسبة بشكل رائع لحرب العصابات : فالريف مزروع وعر ومحروم من الطرقات في كثير من الأمكنة، بحيث لا يمكن اجتيازه بالعربات ذات المحركات في وقت ممطر، أي في كل الأوقات تقريباً. وقد وجد رجال الجيش الجمهوري الأيرلندي ملاجئ حصينة في المستنقعات والمرتفعات الحرجية، وبقوا على مقربة من المدن وخطوط المواصلات الرئيسية، لتنفيذ إغاراتهم تحت ستار الظلام. وكان أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي في المدينة مندمجين مع السكان، ويحتلون جميعهم تقريبا وظائف مدنية، لذا كانت العمليات تجري ليلاً فقط في مقاطعتي دبلن وكورك، إذ لم يكن العدد كافياً للقيام بها أثناء النهار.
واشتملت هذه العمليات خاصة على مهاجمة مستودعات الأسلحة، وعلى الكمائن المنصوبة للقوافل العسكرية في الريف أو للدوريات الصغيرة في المدن. ومن جهة أخرى كرّست (فصيلة خاصة) في دبلن نشاطها لاغتيال عناصر المخابرات والشخصيات السياسية.
وقد بقي الجزء الأكبر من هذا النشاط بدون قيمة من وجهة النظر العسكرية. وكان حبر الطباعة يجري بغزارة أكثر من الدم. وكان الرماة الأيرلنديون يخطئون أهدافهم أكثر مما يصيبونها. وغالباً ما كانت الثكنات المحروقة فارغة، ولم يكن لتخريبها إلا صفة رمزية. وكثيرا ًما اندحر المهاجمون بعد أن أنفقوا من الذخيرة أكثر مما حسبوا. وكانت ضحايا الاغتيالات الأيرلنديون (مخبرين، متعاونين، .. إلخ) أكثر من الإنجليز.
ولم يكن الجيش الجمهوري الأيرلندي يشن حربا عسكرية بل سياسية. وكانت الآثار الحقيقية للرعب ذات طبيعة نفسية، فانخفض التطوع في جهاز الدرك، وكثرت الاستقالات بانخفاض المعنويات. وفي الثكنات كان الجنود (أجانب في بلد معاد) يعيشون في توتر أكبر مما لو كانوا في الخنادق. هكذا كان يقول الجنود القدماء. وبلغ الخوف من قتلة الجيش الجمهوري الأيرلندي درجة من الشدة دفعت الحكومة إلى لصق إعلانات تحذر بإطلاق النار على كل مدني يمشي ويديه في جيبيه، لأنهما قد تكونان ممسكتين بسلاح.
وربما لم تكن لمهاجمة الثكنات والقوافل نتيجة عسكرية، لكنها كانت مؤثرة على اقتصاد وإدارة البلاد التي انغمست في الفوضى. فاحتمال غارة أو كمين، في أي زمان ومكان، كان كافياً لإبطاء المواصلات، وإنقاص الإنتاج، وإجبار العسكريين على البقاء دوماً في حالة الإنذار، وعلى حراسة كل الثكنات والقوافل والمباني العامة، ومنع التجول إلا اضطرارياً، والتفتيش المستمر للتأكد من هويات المدنيين، وإزعاج الحياة اليومية بمختلف الأشكال. وكان ذلك كله يكلف كثيراً، بالنسبة إلى الحكومة، ودافعي الضرائب البريطانيين، والملاك العقاريين، والمصارف، وكل أولئك الذين راهنوا على أيرلندا المنظمة والمنتجة. وكان كل حادث بمثابة ضربة جديدة للسمعة البريطانية في الخارج، وللمعنويات في الداخل، ويخدم حزبي العمال والأحرار البريطانيين، ويساعدهما على إزعاج حكومة المحافظين. وربما كان بإمكان العسكريين تحمل ذلك التوتر، الأمر الذي لا ينطبق على الحكومة في داونينغ ستريت.
ولقد بذلت جهود عدة لتحسين الموقف، لكنها زادته خطورة. فجماعات (البلاك والتانز)، التي ظهرت، في بداية العام 1920، كانت بمثابة هدية من العناية الإلهية للثوار. فكل عمل يقوم به الجيش الجمهوري الأيرلندي كان يدفعها إلى رد فعل عنيف. وكان العمل الأول يعتبر في البلاد الأجنبية جزءاً من النضال المقدم من أجل الحرية، في حين كان رد الفعل يثير السخط، ويزيد اتحاد الأيرلنديين ضد (التاج).
واستفادت الدعاية الأيرلندية كثيراً من أعمال القمع، وعرضت أعمال حرق بعض الدكاكين أو المنازل وكأنها مجزرة لقرية كاملة، كما عرضت إعدام أعضاء (السين فين) أو المشبوهين، وكأنها مذابح ترتكب دون تمييز. ولقد قال أحد قادة الدرك لرجاله: (أطلقوا النار أولاً ثم اسألوا). فبدلت صحيفة الثوار السرية جملته، ونسبت إليه أنه قال:
(إذا أُحرقت إحدى ثكناتكم، أو كانت غير مناسبة، فخذوا أجمل منزل في الناحية، واقذفوا بقاطنيه إلى الشارع وليموتوا فيه كالكلاب. وكلما زاد عدد موتاهم كان أفضل. وعلى الجنود ورجال الدرك القيام بدورياتهم الريفية خمس ليالٍ في الأسبوع على الأقل، وألا يكتفوا بالسير على الطرقات الكبرى، بل عليهم أن يذهبوا إلى الحقول، وينصبوا الكمائن. وعند مشاهدتهم لمدنيين يقتربون عليهم أن يصيحوا: ارفعوا أيديكم. فإذا لم ينفذوا الأمر فوراً، أطلقوا النار، وأطلقوا جيداً. وإذا اقترب المدنيون وأيديهم في جيوبهم، أو بدوا مشبوهين بشكل ما، فاقتلوهم. وقد تقترفون أخطاء أو تقتلون أبرياء، فذلك لا يمكن تجنبه، ولكنكم قد تصيبون أحياناً. وكلما قتلتم عدداً أكبر من الأشخاص، ازداد تقديري لكم، وإنني لأؤكد لكم، بأن أي جندي منكم لن يلق متاعب لأنه جندل شخصاً).
وطبيعي أن هذه الأحاديث قد كذبت، لكن ذلك لم يغير شيئاً. وكان يقال أيضاً بأن (البلاك والتانز) كانوا يخترقون القرى بشاحناتهم، وهم يغنون (ويطلقون النار عشوائياً، مجازفين بحياة الذين يتواجدون في طريقهم).
وليس مهماً أن نعرف ما إذا كانوا حقاً يغنون. لكن المهم، ذلك الصيت السيء الذي صنعوه بالقتل والحرق والنسف والسلب، سواء جرى ذلك وهم يغنون، أم لا، مما أثار في إنجلترا، فضيحة خدمت فعلاً القضية الأيرلندية. وقد اتهمت الديلي نيوز الحكومة (بالتواطؤ الضمني مع أعمال الانتقام الهمجية التي تطبق الآن بمنهجية)، وكتبت التايمز المحافظة: (تزداد الأنباء الآتية من أيرلندا، سوءاً، يوماً بعد يوم. فقصص الحرق والتخريب يجب أن تثير شعوراً بالخجل لدى كل القراء الإنجليز، لقد تلوثت سمعة إنجلترا في كل الامبراطورية والعالم قاطبة، بسبب هذه الهمجية التي لا تستطيع الحكومة، رغم جهودها، أن تتملص من مسؤوليتها).
وقد تقزز الجمهور البريطاني من الإرهاب المضاد لمجموعة (البلاك والتانز) والمتطوعين المساعدين، وأدى استشهاد الأبطال الأيرلنديين (مثل ترنس ماك سويني، محافظ كورك الذي مات في سجن بركسون بعد إضراب عن الطعام دام سبعين يوما والفتى كيفن بري الذي شنق في دبلن لأنه قتل جندياً بريطانياً) إلى استقطاب تعاطف الملايين من اتباع (جلالته) المخلصين.
ولم يكن الجيش الجمهوري الأيرلندي قوياً بشكل يسمح له بالتغلب على أعدائه العسكريين في اشتباك على درجة من الأهمية. وقد قدّر لورد فرنش، نائب الملك البريطاني، عدد الجيش الجمهوري الأيرلندي بمائة ألف رجل. وتحدث الوزير لشؤون أيرلندا عن مائتي ألف رجل. وقد حدد مايكل كولنز فيما بعد هذا الرقم بثلاثة آلاف من العناصر العاملين.
لكن الانتفاضة الأيرلندية كانت احتجاجاً ذا طابع سياسي أكثر منه عسكري. وعندما انتهت في العام 1921 بهدنة، كانت هذه الهدنة انتصاراً سياسياً أبعد ضرورة الحل العسكري. ولم يتطلب انتزاع هذا النصر أكثر من ثلاثة آلاف رجل، قاموا بدور المستقطب المكثف أكثر من قيامهم بدور العنصر الفاعل، وحصلوا من عملهم على نتيجتين جوهريتين هما :
1. فتور الشعب إلى عداء فعال للتسلط البريطاني، مما خلق مقاومة جماعية لم يستطع الإنجليز قهرها سياسياً أو اقتصادياً.
2. دفع الخصم إلى ممارسة الإرهاب المضاد الذي أدى (لأسباب سياسية) إلى غاية مناقضة للغاية التي بدأ من أجلها. ولم يتوصل الأيرلنديون إلى قذف الإنجليز في البحر عبر نضال طويل ومتقطع. لكنهم فعلوا بمقاومتهم شيئاً أفضل وأكثر اقتصاداً. فقد سلبوا الاستعمار مكاسبه، وجعلوا بلادهم عبئاً على المحتلين، وانتهوا بأن أقنعوا هؤلاء بالانسحاب.
ولم تكن الوسائل التي استخدمها الإرهابيون جديدة، فلقد أشعلوا النار في المباني العامة، ورفعوا الأعلام الأيرلندية، وفخخوها لإلحاق الأذى بمن ينتزعها، وخلعوا الألواح الأردواز من سقوف مراكز الشرطة، ليصبوا فيها البنزين، ويشعلوها، ونسفوا الجسور، واقتلعوا قضبان السكك الحديدية، ووضعوا سكراً في مستودعات وقود السيارات، كما وضعوا الرمل ومسحوق الضفرة في مسننات الآلات.
وكانت هذه الوسائل شديدة البساطة، وسببت أضراراً قليلة الأهمية نسبياً. وكان المهم حقاً، هو كلفة القمع، أولاً، ثم الأثر السياسي الذي وحَّد الأيرلنديين، وقادهم إلى العمل، وأدى في الوقت ذاته إلى تقسيم الإنجليز وشلهم.
هل كان بإمكان الإنجليز الفوز في أيرلندا، عن طريق زج جيش أكثر عدداً، وشن حرب إبادة، بأسلوب كرومويل؟ إن مثل هذا السؤال عبثي في القرن العشرين. ولو واجه الرأي العام البريطاني مثل هذا الحل لما تحمله، على الأقل لأسباب اقتصادية. وبعد جيل من ذلك، منع الرأي العام العالمي تطبيق ذلك الحل في فلسطين، وقبرص، وحملة السويس ، حيث كان للإنزال البريطاني الفرنسي عام 1956 مضاعفات عالمية.
فالحلول التعسفية إذا غير ممكنة، إلا في حالة العزلة، وفي عالم لا مبالٍ، وكذلك عند مواجهة شعب لا يمتلك إرادة المقاومة الصلبة .
الفصل الثامن
الانتفاضة في المغرب – انتفاضة تونس – الثورة الجزائرية
تأتي الثورة بأشكال عدة، وكانت في المغرب على شكل جهاد، أي حرب دينية تأججت مع نفي السلطان محمد بن يوسف الداعي إلى الاستقلال، واستبداله على عرش الرباط بعجوز متعاون هو بن عرفة. وكانت الجثث التي توجد عند الفجر في شوارع الدار البيضاء، هي غالباً جثث مسلمين تناولوا مشروبات كحولية، يحرم الدين الإسلامي تناولها. ولقد اعتبر تعاطي الخمرة في تلك الفترة بالذات تدنيساً للحرمات، بسبب الحداد على إبعاد السلطان الحقيقي إلى مدغشقر. وعندما كان الدخان يرتفع في سماء الأحياء الوطنية، كان ذلك يعني قيام الأهالي بإحراق التبغ، في إطار الحملة الرامية إلى مقاطعة إدارة حصر التبغ العائدة للحكومة الفرنسية. ولم يراع المؤمنون حرمة شهر رمضان، وذلك تعبير آخر عن الاحتجاج والحداد. ولم يُعد طلاء المنازل وأخذت خناجر حزب الاستقلال (وهو حزب شعبي) تعاقب على ترهات الزينة والفخفخة.
ومن جهة أخرى، قامت المقاومة، التي ستضع حداً للحماية الفرنسية وتوطد استقلال المغرب، واتبعت السياق المعتاد. فبالقنابل وأعمال التخريب واغتيال (المتعاونين) (رجال الشرطة وموزعي البريد والزعماء)، تم تأجيج الانفعالات الشعبية، وخلق نزاعات مستمرة مع السلطة الاستعمارية. وتحولت التظاهرات في الأحياء الوطنية إلى أعمال شغب، ثم تجاوزت هذه الأحياء، وامتدت من مدينة إلى أخرى، في خلال صيف 1955، الحار. واقترف الفرنسيون في كل مدينة منها غلطة ما، وأطلق رجال الشرطة المذعورون النار على الجمهور، وسقط من جراء ذلك بعض القتلى.
وأثار محرضو (حزب الاستقلال) قبائل الجبال البدوية. ففي (وادي زم) في سهل (تادلة) المحرق. قُتل مائتان من الأوروبيين، وحدثت انتفاضات في الأطلس الأوسط، ونُصبت الكمائن على الطرق. وفي شهر آب، قتل ثمانية من المراسلين الأجانب في يوم واحد. أما محرضو (حزب الاستقلال) ورماته الرابضون على السطوح، فقد جعلوا الدار البيضاء في حالة حصار: (وأعيدوا ابن يوسف) هكذا كانت الجماهير تصرخ، وكان ذلك مطلباً رمزياً، لأنه الهدف الحقيقي كان الاستقلال والحرب المقدسة ضد الفرنسيين الذين حجبوه عن المغاربة.
وكان الإرهاب في المغرب أكثر فائدة من حرب العصابات. وفي الحقيقة لم تجر هناك أبداً حرب عصابات حقيقية، مع أن بضع مئات من المقاتلين جاءوا من المغرب الإسباني، وحاولوا شن حرب عصابات، مما أدى إلى تثبيت فرقة من رجال (الفرقة الأجنبية) ومن الخيالة السباهيين في جبال (الريف)، طوال خريف 1955.
وأخيراً استسلمت الحكومة الفرنسية بمجموعة من الحلول الوسط، عندما أعلن الفرنسيون أن بإمكان السلطان محمد بن يوسف مغادرة مدغشقر إلى باريس حدث اضطراب شديد، أسفر عن تنازل آخر، تمثل في السماح بعودة السلطان، نزل الشعب المغربي كله إلى الشارع، وأصبحت الحماية التي دامت خمسين عاماً صيغة فارغة، سرعان ما تخلى الفرنسيون عنها.
لقد تبنى (حزب الاستقلال) وسيلة غاية في البساطة، ألا وهي: الإرهاب وأعمال التخريب، التي خدمت غاية مزدوجة، سلبت الاستعمار مكاسبه، وجعلت إقامة المستعمرين خطرة. فلمقاومة المخربين بشكل فعلي، كان لا بد من فرض الأحكام العرفية، التي كانت آثارها النفسية، (منع التجول، أعمال الاعتقال والتفتيش، وتنقلات الجند) ستدفع السكان المسلمين بالضرورة إلى القيام بالتظاهرات الجماهيرية والتي يكون الجيش عاجزاً حيالها. وعندما لا يمكن السيطرة على مستعمرة، يصبح استثمارها، غير مفيد، بل إنها تصبح على العكس شديدة الكلفة، ولا يعود هنالك أي سبب للاحتفاظ بها. وبكل تعقل، قبلت باريس، تحت ضغط سياسي داخلي، التسوية مع الحركة الاستقلالية، التي كانت في جوهرها حركة محافظة. وضمنت بذلك المصالح الرئيسية لفرنسا في تلك البلاد.
ولا يمكن وصف ذلك النصر بأنه غير دموي، فقد قتل أشخاص في أعمال الشغب أو في الانتفاضات المحلية التي حدثت في النهاية. وكانت ضريبة الإرهاب على المغاربة أكبر قدراً مما كانت على الفرنسيين. وسببت أعمال التمشيط التي قامت بها الفرقة الأجنبية عدداً من الضحايا بقي مجهولاً. ويقال أن الفرنسيين قتلوا عشرين من المسلمين في سهل (تادلة) بعد مذبحة (وادي زم). ويعتقد أن هذا الرقم المنسوب إلى (حزب الاستقلال) مبالغ فيه. لكن مما لا شك فيه، أن الفرنسيين قصفوا عدداً من القرى ورموها برشاشاتهم، كما اشتركت الدبابات في العملية. أما في وادي الزم، وكل الحي الوطني الذي التجأ إليه البدو بعد وصول الجند، فإنه أبيد بضربات المدافع ومن ثم دحل بالمداحل.
وكانت الحصيلة النهائية أقل ارتفاعاً من المتوقع، ويبدو الإرهاب أكثر اقتصاداً بالدماء من الحملة. والسبب واضح تماماً. ففي المغرب، كما في أيرلندا، لم تتواجد حرب ثورية. وكانت الضغوط الناجمة عن الإرهاب والإثارة السياسية أكثر فاعلية من الطائرات وفرق المشاة.
وتبنت تونس الحل ذاته. وتشكل الجزائر حالة خاصة تتطلب معالجتها حيزاً أوسع مما لدينا هنا، إذ أنها اعتبرت ولمدة طويلة، كجزء لا يتجزأ من فرنسا، وليس كمستعمرة. وكان الفرنسيون قد أقاموا فيها منذ أكثر من قرن، واعتبرها أكثر من مليون فرنسي وطناً لهم.
وكانت فرنسا لا تزال تنزف من الجراح التي أصابت كبرياءها وميزانيتها، فلم يكن بإمكان أن تتنازل دون صراع، عن آخر كبريات ممتلكاتها عبر البحار. لذا فقد اندلع في الجزائر نزاع واسع النطاق.
ومع أن الإرهاب في المدن كان هاماً، لكنه كان أبعد من أن يكون حاسماً في الجزائر، حيث كان الرهان كبيراً إلى حد يجعل الفرنسيين لا يقبلون بحل وسط عن طريق الابتزاز. وبدأت حرب العصابات، في أول تشرين الثاني 1954، بسبعين هجوماً جرت في وقت واحد، وشنت لأسباب نفسية أكثر منها عسكرية وشكلت الكتلة الجبلية في (الأوراس) المعقل الرئيسي للعصيان. وكتب مايكل ك. كلارك في (الجزائر المنتفضة) يقول:
(لقد ظهر منذ البداية، أن القوى العسكرية الحديثة غير قادرة على العمل في الأوراس إلا بصعوبة، إذ تفقد الوحدات الآلية كثيراً من حركيتها في المناطق الجبلية، كما أنه من السهل على الثوار الإفلات منها، بانزلاقهم في شعب ووهاد تلك المنطقة الجبلية، والإفادة من كل ميزاتها، مما يجعلهم قادرين على التملص حتى من فيلق).
ودام الصراع سبعة أعوام. واتبع تكتيك مشابه لتكتيك ماو في الصين، وجياب في الهند الصينية. ولن تعلمنا دراسته شيئاً جديداً.
وكما في الهند الصينية، فقد برهن ثوار جبهة التحرير الوطنية وحلفاؤهم، بأنهم وإن لم يكن بإمكانهم التغلب بشكل حاسم على جيش حديث، فإن هذا الأخير لا يستطيع قهرهم. ومع أن نتائج المعارك كانت متقلبة، وكانت متدنية بالنسبة لجبهة التحرير الوطنية، عندما قام الجنرال ديغول بمبادرته أخيراً في العام 1962، فإن المقاومة لم تتوقف أبداً، بل انتشرت من الأوراس حتى الصحراء، على مساحة لا يمكن لجيوش العالم كلها (تهدئتها)، حسب تعبير الفرنسيين.
وقد برهن الاستخدام الشرس للتعذيب والإرهاب المضاد –والذي سبب فضيحة في فرنسا– بأنه من الممكن سحق الانتفاضات المدينية. فبمساعدة المستوطنين أمكن لجم مدينة الجزائر. أما (الأوراس) والمناطق الجبلية الأخرى، فقد أمنت للثوار الملاذ حتى النهاية. وحتى بعد سنة من رحيل الفرنسيين، اتضح وجود عناصر منشقة من البربر في الجبال، ظلت تقارع الحكومة الثورية التي أقامتها جبهة التحرير الوطنية!
لقد كان الحل العسكري الحاسم مستحيلاً، لكن مجرد نجاح العصابات في البقاء ومقارعة جيش مؤلف من مليون جندي، كان وحده كافياً ليفرض على فرنسا –الممزقة بسبب الخلافات الداخلية حول المسألة الجزائرية– كلفة عالية بالرجال والمال لا تستطيع دولة صناعية وعسكرية كبرى أن تتحملها إلى ما لا نهاية.
وقد ألفت باريس نفسها أخيراً أمام خيار أليم: فمن جهة السمعة الفرنسية، والثوارات الطبيعية الجزائرية، والوزن السياسي لمليون من المستوطنين الفرنسيين، ومن جهة أخرى الفوضى السياسية، والتوتر الدائم، والنزيف القاتل للاقتصاد الوطني.
لقد أدت حرب البرغوث إلى إصابة فرنسا بنزيف سبب لها فقر دم اقتصادي خطير، وولدت حمى سياسية قادت الوطن الأم إلى حافة الثورة. وكان ديغول قد وصل إلى السلطة على أمل أن يصل إلى حد ما للأزمة، وكان خياره حاسماً، باتجاه السلام في إفريقيا الشمالية، وعرَّض نفسه من جراء ذلك للدخول في حرب مع القادة العسكريين الذين اختاروه. أما الشعب الفرنسي، المنهك والمتقزز من سبع سنوات من المجازر التي لا معنى لها، في بلد بقي أجنبياً بعد قرن وربع من الاستعمار، فقد دعم ديغول في خياره. لكن حدثت نهاية دامية، إذ تمرد العسكريون والمستوطنون على الدولة، لكن ذلك لم يبرهن على أي شيء ، ولم يبدل أي شيء. وانتهى الوجود الفرنسي، ورفرف علم جديد على الجزائر المستقلة.
ولنلاحظ هنا: أن حرب البرغوث انتشرت من الجزائر نحو الجنوب، واستغل الثوار الكونغوليون الأسلحة الجزائرية للنضال ضد جيش قاده المرتزقة البيض. وتحدى بن بيلا، رئيس الوزراء الجزائري، وأعلن بأن نظامه سيساند كل حروب التحرير الوطنية، أينما نشبت في أرجاء العالم.
الفصل التاسع
الجنرال غريفاس وحرب العصابات في قبرص – الاستعمالات
السياسية للإرهاب – أخطاء الاستراتيجية البريطانية.
(إن البريطانيين الذين يعطون سكاكين للمغاوير من جنودهم، ويدربونهم على الطعن بها من الخلف، قد احتجوا بشدة عندما طُبق هذا التكتيك ضدهم، وأكدوا أن استعماله لا يكون شرعياً إلا في حالة الحرب. إنها سخافة حقاً! ففي قبرص كنت أحارب البريطانيين، وإن لم يقبلوا الاعتراف بذلك في البداية، لكنهم اضطروا لذلك في النهاية. والحقيقة أن شكل حربنا –التي سببت بضع مئات من الضحايا في أربعة أعوام– كان أكثر انتقائية من معظم الحروب الأخرى. وإني بما أقول عليم، فقدت شاهدت ساحات معارك مغطاة بالقتلى. ولم نكن نضرب على غير هدى، كما تفعل القاذفات، بل كنا نكتفي بقتل الجنود البريطانيين، الذين كانوا سيقتلوننا لو سنحت لهم الفرصة بأن يطلقوا النار قبلنا، وكذلك قتلنا الخونة والمخبرين. وقد يكون قتل الأعداء في الشارع حادثاً لا سابق له، لكني كنت أبحث عن النتائج وليس عن السوابق. كيف حقق نابليون انتصاراته؟ بمهاجمة أعدائه من الجنب أو من الخلف؟ ويبقى ذلك صحيحاً حتى ولو أن المقياس تقلص كثيراً، ودار القتال بمعدل واحد ضد مائة).
هذه السطور مأخوذة من مذكرات الجنرال غريفاس، القائد السابق لمنظمة إيوكا . وقد كان غريفاس النموذج الحق للعسكري المحافظ، فقد اعتبره الشيوعيون اليونانيون فاشياً وشوفينياً، لكن فلسفته في الإرهاب كانت قريبة من فلسفة الفوضويون الذين يرون بأن الدولة إنما تمارس سلطتها بالتهديد باستعمال القوة: فرجل الشرطة العادي هو المنفذ والرمز في الوقت نفسه، والمسدس الذي يحمله في حزامه هو للتخويف، وفي الحالة القصوى لقتل من يقاومه. فإذا كانت سلطته غير مشروعة، وكانت ممارسته لها بدون موافقة المحكومين، أفلا يصبح من العدل والطبيعي مجابهة القوة بالقوة، وقتل رجال الشرطة كما يُقتل اللصوص، ومحاربة المغتصبين مثل محاربة المعتدين؟
تلك كانت المحاكمة المنطقية التي دفعت غريفاس القبرصي اليوناني إلى إعلان الحرب على الأسياد البريطانيين للجزيرة القبرصية، التي هي نفس الوقت يونانية وتركية.
ولقد كتب غريفاس، بأنه حمل السلاح في العام 1955، ضد الصديق والحليف القديم إنجلترا (بأسف عميق، لكن بشعور من القيام بالواجب). وهو لا يتهم الشعب البريطاني بل (عصابة السياسيين) الذين أنكروا على قبرص حتى الأمل في الحرية. ويضيف: (إن مسؤولية قتل هذا العدد الكبير، من الرجال والنساء والأطفال، في خلال السنوات المأساوية التي تلت، تقع بكاملها على عاتقهم).
وقد أُعلنت بداية الصراع في سبيل استقلال قبرص في 31 آذار 1955، بسلسلة من الانفجارات في الجزيرة. فوضع المخربون قنابل في محطة الإرسال الحكومية في نيقوسيا، وتدمرت المعدات، وتطاير سقف البناء، وحدثت أضرار قدرت بستين ألفاً من الجنيهات الإسترلينية. وألقيت أيضاً قنابل على الأبنية الإدارية وفي محطة إرسال (وولسكي باراكس)، وهي المقر العام لقوة عسكرية كانت تعد آنذاك أربعة آلاف رجل فقط. أما في مرفأ ليماسول، فقد نسفت محطة توليد كهربائية ومركزان رئيسيان للشرطة. وحدثت في لارناكا انفجارات في مديرية الشرطة والمحاكم وفي مقر الحاكم البريطاني.
ووقعت الخسارة الأولى في فاماغوستا، إذ صُعق عضو من (إيوكا)، عندما ألقى حبلاً مبللاً على خطوط التوتر العالي عند محاولته تخريب الإمداد بالطاقة الكهربائية.
وقد فاجأ الهجوم العالم كله. واندهش الموظفون الاستعماريون وأصيبوا بالرعب، حسب قول غريفاس.
ورافق هذه الموجة من أعمال العنف عمل سياسي، إذ قامت الحركة في سبيل الاستقلال بتجنيد الطلاب والتلاميذ بسرعة وكتب غريفاس حول ذلك: (كنت أنوي أن أجعل من الشبيبة القبرصية مشتلاً للإيوكا)، ونظمت التظاهرات، وكانت عنيفة بشكل أدى إلى طرد الشرطة من الشوارع، وإجبارهم على طلب العون من الجنود.
ووزع صبيان، لا تتجاوز أعمارهم عشر سنين، المناشير التحريضية، وقاموا بدور السعاة. أما المدرسون الذين عصوا تعليمات المنظمة، فقد عوقبوا (بقسوة) وذلك تعبير يقصد به، بلغة غريفاس، أنهم قد أعدموا بواسطة رجال (إيوكا).
أما الصحف التي تأخرت عن اتخاذ اللهجة المناسبة، كالصحف التي لم تحتج ضد القمع مثلاً، فقد خضعت إلى الضغط والمقاطعة.
وقد انطلقت هذه الموجة من الإرهاب بعدد قليل جداً من الرجال –ليس بأكثر من عشرين رجلاً حسب قول غريفاس– ونُظمت القوة ضمن خمسة أو ستة أشخاص لكل مجموعة، وفي كل التجمعات السكنية الكبرى في الجزيرة. ولم تكن هنالك بعد وحدات من حرب العصابات، مع أن غريفاس قام باستطلاع الأرض، لتحضير العمليات اللاحقة.
وكانت شبكة الطرق الممتازة غير مواتية لحرب عصابات واسعة النطاق. وبقي معظم الأشخاص المعدين للقيام بها محتفظاً بهم ضمن المدن، طالما كان تجولهم ممكناً دون التعرف عليهم. ثم استخدمت سلسلة جبال (سيرين) في الشمال، وجبال (ترودوس) المشجرة في الجنوب الغربي كقواعد، ومن أجل تدريب مجموعات التخريب.
وتبعت الموجة الأولى من أعمال العنف هدنة استمرت عدة أسابيع، تخللتها بعض الهجمات على ما أسماه غريفاس (أهدافاً عرضية). وكان أحد هذه الأهداف العريضة (حسب مذكراته) السير روبرت أرميتاج، الحاكم البريطاني لقبرص آنذاك.
ففي الاحتفال بيوم الإمبراطورية، اشترك الحاكم البريطاني في العرض الأول لفيلم في سينما بالاس في نيقوسيا. وخلال ساعتي العرض، كان يجلس على بضع خطوات من زجاجة كوكا كولا مملوءة بالمتفجرات ومزودة بمشعل مؤقت. وقد حدث الانفجار بعد خمس دقائق من خروج الحاكم ومرافقيه.
وفي الفترات الفاصلة بين الهجمات، كان غريفاس يتجول في نيقوسيا وحتى أنه كان يذهب إلى سلسلة جبال (سيرين)، ليعطي أوامره إلى رؤساء المجموعات، ويراقب التدريب، ويحضر بلاغات الدعاية، وبصورة عامة لرفع المعنويات بتعدد حضوره. وقد أخذ لقب (القائد)، وهكذا كان يوقع بلاغاته. واستخف الحزب الشيوعي القبرصي الصغير بأعضاء (إيوكا)، واعتبرهم مجموعة من (السوقة) ورماة مسدسات الفلين (في كوبا، وصف الشيوعيون فيدل كاسترو وأنصاره بأنهم (انقلابيون بورجوازيون))، وأعلن رئيس الشيوعيين اليونانيين من إذاعة موسكو، بأن (القائد) هو غريفاس المعروف جيداً من الحزب فقد كان رئيس التنظيم السري اليوناني (اكزهي) في خلال الحرب العالمية الثانية، كما أنه قاد العمليات العسكرية ضد ثوار العصابات الشيوعيين (إيلاس) إبان الحرب العالمية الأهلية اليونانية.
(والمضحك –كما يقول غريفاس– أن البريطانيين لم يأخذوا هذه المعلومات على محمل الجد، ولم يستطيعوا أن يتصوروا أن ضابطاً متقاعداً يمكن أن يصبح رئيساً لمنظمة إيوكا). وتابع غريفاس التجول بحرية، مستعملاً نظارات سوداء وشارباً مستعاراً، وأقام مركز قيادته العامة في الجبال أولاً، ثم أقام في منزل داخل ليماسول حيث بقي دون أن يُكتشف أو يخان.
وفي حزيران حدثت الموجة الثانية من أعمال العنف وكان أول ضحاياها شرطي قتل بسبب انفجار قنبلة ألقيت على مديرية شرطة نيقوسيا، ونجم عنها سقوط قتيل و16 جريحاً. وقتل رقيب أيضاً عند مهاجمة مركز أمياندوس. وقد اختار غريفاس هدفا شخصياً، وهو الجنرال كيتلي، القائد العام للقوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط، والذي اعتاد القدوم إلى العاصمة يومياً من مقره على شاطئ سيرين وكتب عن ذلك يقول: (لقد وجدت مكاناً مناسباً جداً لكمين، لكن الأسقف مكاريوس عارض المشروع الذي تم التخلي عنه)
ويقول غريفاس في مذكراته، أن مكاريوس عارض كثيراً من اقتراحاته، وغالباً ما كان يتريث، بينما كان غريفاس يريد أن يندفع وكان الأسقف يمسك بزمام الأمور المالية. ولأنه لم يكن لدى غريفاس مال، فإنه لم يستطع تنفيذ بعض مشاريعه الأكثر جرأة، كإرسال مجموعة من منفذي الإعدام إلى لندن لقتل القبارصة الذين يعيشون فيها من ثمرة (خياناتهم).
ومع ذلك، فقد جرت الحملة بصورة عامة كما أرادها غريفاس، الذي اتبع انضباطاً صارماً داخل قواته المبعثرة المؤلفة من إرهابيين ومخربين. (وكم نبهت تكراراً بأنني الوحيد الذي يعطي الأوامر، وأن كل عصيان عقابه الموت).
ويؤكد غريفاس، بأنه لو كان لديه عند البدء خمسمائة رجل مسلح، لألقى البريطانيين في البحر. لكن يجب ألا نأخذ هذا التأكيد على محمل الجد، فلقد فهم منذ البداية وبوضوح، بأن انتصاره سيكون سياسياً أكثر منه عسكرياً، والخطة العامة التي رسمها في أثينا قبل عامين من انفجار القنبلة الأولى تبرهن على ذلك. فلقد جاء في تلك الخطة ما يلي:
(
1. الغاية:
إثارة الرأي العام العالمي، وخاصة عند حلفاء اليونان، بأعمال بطولية وتضحيات، تجذب الانتباه إلى قبرص، حتى اللحظة التي تتحقق فيها أهدافنا. ومن الضروري إزعاج البريطانيين بدون توقف، حتى تتمكن الديبلوماسية العالمية، والقادرة على العمل عن طريق الأمم المتحدة، من إجبارهم على دراسة مشكلة قبرص، وحلها بشكل ينسجم مع رغبات الشعب القبرصي، والأمة اليونانية كلها.
2. التنفيذ :
يهدف النشاط الفعال إلى خلق كثير من التشويش، وتسبيب كثير من الأضرار في صفوف القوات البريطانية، بحيث تبدو في أعين العالم عاجزة عن السيطرة على الموقف. وستدار الحملة على جبهات ثلاث:
• تخريب المؤسسات الحكومية والمراكز العسكرية.
• مهاجمة القوات البريطانية بعدد كبير من المجموعات المسلحة.
• تنظيم المقاومة السلبية عند السكان.
وبما أن الظروف العامة غير مناسبة لحرب عصابات على نطاق واسع، فإننا سنركز على أعمال التخريب، وبالتالي فإن المهمة الرئيسية لمجموعات القتال ستتضمن دعم وتسهيل عمل المخربين بجذب وتشتيت انتباه القوات الحكومية. ولن يحدث النجاح بالهجمات الضعيفة والمتقطعة، بل بعمل مستمر يستهدف نتائج هامة. ولن نفترض بأننا سنستطيع بهذه الوسائل إنزال هزيمة مادية كاملة بالقوات البريطانية، فنِيّتُنا هي أن نُسبّب لها هزيمة نفسية، بمواصلة الهجوم حتى تتحقق الأهداف المحددة في الفقرة الأولى من هذا المشروع).
وقد انتهت المرحلة الثانية من الحملة في نهاية حزيران 1955، وتبلغ محاربو (إيوكا) نشرة بأن النتائج المادية لا تتجاوب مع توقعات (القائد). فقد سقط بعض القتلى، وبقيت الخسائر الاقتصادية محدودة نسبياً، وربما كان ذلك ما أسماه غريفاس (النتائج المادية).
أما على المستوى السياسي، فقد كان النجاح واضحاً تماماً. وبلغت المنظمة أول أهدافها، وكانت قد عُرضت على العالم لتوها، وبصورة مأساوية مسألة تقرير مصير قبرص. وتأثر الرأي العام البريطاني بصورة خاصة بالنتيجة المتوقعة: فسياسة الحكومة التي كانت ترفض التفكير باستقلال قبرص، وإلى الأبد (إذ كانت قبرص معتبرة وكأنها لازمة لضمان الأمن العسكري لإنجلترا في البحر المتوسط) وجدت نفسها قابلة للنقاش، وبدأ التفكير بما تعنيه كلمة (وإلى الأبد).
وقبل ذلك بعامين، كان البريطانيون قد رفضوا الحديث عن قبرص مع الحكومة اليونانية. ولكن ها هو رئيس الوزراء أنطوني ايدن، يرسل إلى أثينا وأنقرة دعوة إلى لندن للمساهمة في لجنة ثلاثية. وكان الأسقف مكاريوس يرغب في ميدان أوسع، وحلاً أفضل من الحل المتوقع من مثل هذه اللجنة، فتوجه إلى أثينا ليستحث الحكومة اليونانية على الالتجاء إلى الأمم المتحدة. وقبل ذهابه أرسل تهانيه إلى غريفاس، وأضاف:
(لقد أعطت إيوكا لقبرص ولأبعد الحدود، أكثر مما يعطيه نضال يستمر على الورق سبعين عاماً. وبقي اسم القائد لغزاً بالنسبة إلى البريطانيين، وأسطورة أيضاً. وقد دخل إلى سجلات حركة التحرير).
وكان غريفاس يحضر لهجوم عام، يتوافق توقيته مع اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة في الخريف، وحدد لنفسه قبل كل شيء غاية واضحة، وهي إخراج جهاز الشرطة المحلي من الساحة، حتى يجبر البريطانيين على تمديد خطوط قواتهم العسكرية، التي اقتصر عملها حتى ذلك الحين على حراسة الأبنية الرسمية، أو بقيت في ثكناتها لتتدخل في حالة الاضطرابات.
وأعلم رؤساء المجموعات بتعليمات مؤرخة في 28 حزيران:
(أن هدف هجومنا المقبل، هو إرهاب الشرطة وشل الإدارة، سواء في المدن أو الريف. فإذا بلغناه ستكون النتيجة ثلاثية الأبعاد :
• ستتدهور المعنويات بسرعة، بحيث أن معظم رجال الشرطة، إن لم يفيدونا فعلياً، فإنهم سيغضون الطرف عن نشاطاتنا.
• يجب أن يتدخل الجيش، مما سيسبب تفريق القوات وإتعابها، فتنخفض معنويات الجنود، مما سيؤثر على قادتهم.
• وأمام أعمالنا القوية، وما تسببه من قلاقل، يصبح من المحتمل جداً أن تقوم الأمم المتحدة (بوحي من البلدان المهتمة بالمسائل القبرصية) بالسعي لإيجاد حل.
وسنحصل على ما نسعى إليه من نتائج بواسطة:
1) هجمات قاتلة على رجال الشرطة، الذين لا يتعاطفون مع وجهات نظرنا، أو يحاولون توقيفنا.
2) الكمائن لدوريات الشرطة في المدن، والإغارات على مراكزهم في الأرياف.
3) بتقييد حرية جهاز الشرطة في الجزيرة، بواسطة الكمائن (ضد الأشخاص والمجموعات)
وقد حذر غريفاس رجال الشرطة بما ينتظرهم، بواسطة المناشير الملصقة على الجدران في القرى، أو الموزعة في شوارع المدن من قبل تلاميذ المدارس. وكانت تقول:
(
إلى الشرطة: لقد حذرتكم وسأنفذ ما قلته حرفياً. إن أياماً عصيبة تنتظر طغاة قبرص، وسيلحق بالخونة قصاص عظيم، فلا تحاولوا قطع الطريق علينا، وإلا جازفتم بدمائكم. وها هي الأوامر التي أعطيتها:
كل من يحاول إلقاء القبض على الوطنيين القبارصة... سيعدم.
كل من يحاول توقيف أو تفتيش الوطنيين القبارصة... سيقتل.
وطالما بقيتم بعيداً عن طريقنا، فلن تخشوا شيئاً.
إيوكا – القائد
وبعد التحذير، نفذت إيوكا مجموعة من الإغارات على مراكز الشرطة، بغية تحقيق هدف مزدوج: إرعاب رجال الشرطة، وتموين المنظمة بالأسلحة التي كانت بأمس الحاجة إليها، لأنها كانت تأتي بكميات قليلة جداً من اليونان. التي حصلت المنظمة منها على أسلحتها الأولى.
وتباطأ العمل في المدن، مما جعل غريفاس يعزو ذلك إلى (عدم خبرة مجموعات التنفيذ). ومع ذلك فقد حقق أنصاره بعض النتائج، إذ قُتل بعض رجال الشرطة أو جُرحوا في نيقوسيا وفاماغوستا، واستقال كثيرون، أما الباقون، فلم يكونوا يجرؤون (كما قال غريفاس) على الظهور خارج مراكزهم. وأدت الإغارات إلى وضع الإدارة كلية في حالة الدفاع، وأصبحت المراكز محروسة بشدة ليلاً، وفي حالة إقفال مركز مؤقتاً، كانت السلطات تخلي الأسلحة قبل إقفاله.
وكان البريطانيون يجهلون عملياً كل شيء عن إيوكا: تشكيلها، أماكن تمركزها... إلخ. وكان أنصار غريفاس قد أسكتوا بسرعة كل رجال الشرطة القبارصة الذين كان بإمكانهم تزويد الخصم بمثل هذه المعلومات.
وفي 28 آب، كان دركي من الفصيلة الخاصة، قد حكم عليه بالإعدام من قبل الثوار، لأنه كان متحمساً أكثر من اللازم عند تنفيذ واجبه. وعين من قبل رؤسائه للاشتراك في اجتماع سياسي في شارع (ليدرا) في نيقوسيا. ولقد صُرع أمام مائة شخص من قبل موظفٍ حكومي شاب هو (مايكل كاراوليس) الذي كان عضواً من ثلاثة في فريق تنفيذي تابع لمنظمة إيوكا.
وجرى الاغتيال في وضح النهار، وفي قلب العاصمة. فكانت بمثابة ضربة قاتلة إلى معنويات الشرطة. ولقد أوقف كاراوليس، وحكم عليه بالإعدام، لكن كان قد نفذ عمله. ويقول غريفاس إن إعدام دركي الفرقة الخاصة (قد زعزع المعارضة ضد إيوكا في صفوف رجال الشرطة اليونانيين).
وحل الأتراك أكثر فأكثر محل اليونانيين في صفوف الشرطة، مما أجج العداوة بين الجماعتين العرقيتين. وهناك كثير من اليونانيين الذين تابعوا العمل لحساب البريطانيين في الشرطة، وقاموا بدور المخبرين لصالح إيوكا، وأعلموها تماماً بنوايا البريطانيين. وأغلق الباقون عيونهم عن نشاطات الإرهابيين، كما توقع غريفاس، ولم يعودوا يشكلون عقبة في سبيلهم.
وشهّرت الدعاية البريطانية بحرارة كبيرة بالوسائل المستعملة من قبل إيوكا. ولم يتأثر غريفاس بذلك، وكتب في هذا الصدد:
(كل الحروب قاسية، والطريقة الوحيدة للتغلب على قوات متفوقة، وهي اللجوء إلى الحيلة والخداع. ولن تستطيعوا إيجاد الفرق بين الضرب من الأمام أو من الخلف، وكذلك بين استعمال البندقية أو المدفع. ويستطيع البريطانيون أن يلوموني كما يشاؤون، لأنني أعلنت الحرب في قبرص، لكني لم أكن مضطراً لأن أطلب منهم الإذن بذلك، ولن يستطيعوا النكران بأن النجاح قد توّجها)
وبسبب هيجان سياسي شديد، تكدست جموع كبرى في المدن الرئيسية وساندت الإرهاب. وفي شهر أيلول 1955 وخلال إحدى التظاهرات التي جرت في نيقوسيا، قلب المتظاهرون سيارات الجيش، وأحرقوها، واشتعلت المؤسسة البريطانية.
ولم تنجح تعليقات الصحف على هذه الحوادث في جعل مسألة قبرص تبحث في الأمم المتحدة، ورفض اقتراح في هذا الخصوص قدمته اليونان بتاريخ 23 أيلول، لكن البريطانيين تأثروا منه. ومنذ 25 أيلول، أعلنت لندن أن حاكم قبرص سيُبدل قريباً.
وكان البديل المارشال السير جون هاردينغ، وهو جندي برز في الحرب العالمية الثانية، وكان قد ترك لتوه وظائفه كرئيس لهيئة الأركان العامة الإمبراطورية. وكتب غريفاس حول ذلك: (بالواقع أنه القائد العسكري الأشد تميزاً في هذا العصر. ولا يمكن أن نُبجّل بأكثر من أن نرى أمام قواتنا النزيرة رجلاً بمثل هذه السمعة العظيمة، ويحمل إرثاً يتمثل في مهنة بمثل هذه الروعة).
وكانت الأحداث في سبيلها إلى البرهان بأن هاردينج لن يكون أكثر نجاحاً من سلفه.
وقد برهنت تسمية عسكري كحاكم للجزيرة، على أن الحكومة البريطانية قد أحجمت عن استعمال الشرطة، لأنها تريد سحق إيوكا بالقوة، وكما هي العادة، مع ثوار العصابات، أو بالأحرى مع الإرهابيين، فإن القوة لا يمكنها مهاجمة شيء غير ملموس ويشرح غريفاس ذلك بقوله:
(لقد رد البريطانيون على أساليبنا، فأغرقوا الجزيرة بالجند، ولم يكن ذلك هو الحل الحسن. إن أهمية العدو محدودة في حرب العصابات وأقول كثائر من ثوار العصابات، إن من الخطر زيادة عدد المجموعة إلى أبعد مما أدعوه (نقطة الإشباع)، وتتحدث هذه النقطة بطبيعة الأرض، وقيمة المحاربين، وحاجتهم للتموين، والتكتيك المستعمل، وضرورة تقليل الخسائر. إن منطقة ما قادرة على استيعاب عدد معين من الرجال. ففي الجبال مثلاً، حيث تشكل القمم والوهاد مساحة ميتة، يصبح هذا العدد جزءاً محدوداً أقل مما يتطلبه العمل في مكان آخر. وعندما التحقت شخصياً بالأنصار في الجبل، كان يستبد بي القلق عندما يزيد عددنا عن ستة أشخاص. وحتى في السهل، تصبح نقطة الإشباع أقل مما يمكن أن نقدره، فاستعمال أكثر من خمسة أو ستة رجال مثلاً، لمهاجمة قرية، عمل عديم الفائدة. فكلما كان المهاجمون كثرة، كلما ازدادت صعوبات تملصهم بعد المعركة. وبتطبيقنا للمبدأ ذاته، احتفظنا دائماً، بناء على أوامري، في القرى التي كنا فيها أقوياء، نقوم بجمود ظاهر. أما في القرى التي كنا فيها ضعفاء، فكنا نهاجم باستمرار بغية خداع العدو. فإذا حدثت اعتقالات، حتى لمجموعة بكاملها، لم يكن للأمر أهمية، إذا كانت هنالك دائماً مجموعة لتحل محلها. وهكذا لم أكشف أبداً حقيقة قواتي للعدو، وبعد كل موجة من العنف، كنت أترك ساحة المعركة خالية. وعندما كان البريطانيون يحاولون الرد، لم يكونوا ليجدوا شيئاً. ذلك هو سر نجاحاتي خلال أربع سنوات من المعارك القاسية، ولم أغير مبادئي عندما دخل هاردينغ المسرح) .
ومن المجدي أن نذكر، بأن غريفاس يتحدث عن حملة تقوم قبل كل شيء على الإرهاب والتخريب، وتدار في جزيرة صغيرة لا تفسح مكاناً للمناورة، وتسعى إلى تحقيق أهداف سياسية أكثر منها عسكرية. فهو لم يهدف إلى إنشاء قواعد مستقلة، أو الوصول إلى الهدف الأقصى من حـرب العصابـات (المستحيلة في قبرص): وهو تعادل ميزان القوى العسكري. ففي ظروف مماثلة لظروف قبرص، كان يمكن اعتبار وحدات العصابات الصغيرة وكأنها (صالحة للاستهلاك) تماماً مثل الإرهابيين، الباحثين عن آثار سياسية ونفسية، عن طريق التضحية بأنفسهم في سبيلها .
وبمهارة فائقة، استعمل غريفاس بالتناوب مجموعاته المدينية والريفية. فعندما كان يرغب بافتتاح عملية في الريف، فإنه كان ينظم تظاهرات كبيرة في المدن، لتثبيت القوات، حتى تنفذ المجموعات الريفية هجمات صاعقة على أهدافها. وعندما كان يخطط لعملية في المدن، كان يخلق مشاغلات في الأرياف، حتى يدفع القوات إلى القيام بعمليات (التمشيط). وكتب غريفاس:
(كانت مواردي ضعيفة. ولم يكن بإمكاني تغذية أمل الحصول على نصر عسكري، وكانت المسألة تتمثل في تجميع قوة، وتعهد استمرار وجودها، مهما فعل العدو لإبادتها. ولقد توصلنا إلى ذلك وأكثر منه، بعد الأشهر الستة الأولى).
وقام هاردينغ عند وصوله إلى نيقوسيا، بمحاولة قصيرة للتفاوض مع مكاريوس. وأخفقت المفاوضات في بضعة أيام، وأمر غريفاس بالهجوم العام، فهوجمت مراكز الشرطة بهدف جذب الجيش إليها من الريف. واقتحم رجال إيوكا منجم (متسيرو)، ثم غادروه بعد أن أخذوا ألفاً وخمسمائة حشوة من الديناميت، وستمائة صاعق، وثلاثة آلاف متر من فتائل الإشعال. وقامت مجموعة أخرى باجتياح المخازن العسكرية في ميناء فاماغوستا، وأوثقت حارساً وكممته، وحمَّلت شاحنة بأكملها من السلاح: رشاشات ورشيشات وهاونات وقواذف بازوكا مضادة للدبابات .
واشتد الاضطراب السياسي، وفاقم البريطانيون الموقف بمحاولات غير موفقة لمنع التظاهرات، حيث اختاروا أسوأ اللحظات للإعلان عن صدور حكم الإعدام على ميخائيل كارواليس (البطل الأول للثورة)، ونفذوا الحكم في 28 تشرين الأول، يوم العيد الوطني القبرصي، يوم ذكرى رفض إنذار دول المحور لليونان في عام 1940. وأعلن هاردينغ منع كل التظاهرات في الشوارع العامة، ورد غريفاس بأن دعا القبارصة للتصدي لذلك المنع، ونتج عن ذلك مجموعة من الاصطدامات، ففتح الجنود النار، وسقط ثلاثة من الجرحى، واعتقل أكثر من ألف شخص.
وهكذا انشغلت القوات البريطانية في المدن، وأمر غريفاس بهجوم على مستوى الجزيرة. وفي 18 تشرين الثاني، أُلقيت أكثر من خمسين قنبلة في أكثر من ثلاثين مكاناً مختلفاً، وتمت عدة مئات من الهجمات في أسبوع واحد، وتدمر أكثر من نصف مركز البريد في نيقوسيا، ونقلت قنبلة وزنها ثمانية أرطال في سلة على دراجة إلى معسكر (كيكو) في ضاحية نيقوسيا، فنسفت سقف مقصف صف الضباط، وقتلت رقيبين. وهوجمت المراكز العسكرية في ليماسول ولارناكا. وهاجم ثوار العصابات في سلسلة سيرين، المفارز الحارسة لمنجمين، ودُمرت للجيش ثلاث عربات على الطريق، مما دفع القادة إلى وقف كل التحركات الليلية.
وقام غريفاس شخصياً بنصب كمين لشاحنتين عسكريتين فدمر واحدة، وانسحب إلى تلة مجاورة، شاهد منها بعد ثلاث ساعات وصول مفرزة إنقاذ حملت جثة الجندي القتيل، ولم تقم بأية محاولة لتفتيش المنطقة.
وفي 26 تشرين الثاني، أُعلنت الأحكام العرفية في الجزيرة، وتلقى جهاز الشرطة سلطات استثنائية، ومُنعت الإضرابات، وأضحى الموت عقوبة لحمل السلاح. ورد الجنود البريطانيون على اغتيال رفاقهم، بأن تصرفوا حيال السكان المدنيين كما تصرفت (فرقة البلاك والتانز) في أيرلندا، فأوقفوا الشاحنات المتجهة إلى الأسواق، ونشروا ما تحمله من ثمار وخضار على الطرق، وانتهكت حرمات المنازل، وأُتلفت الممتلكات، على نطاق واسع، واعتقل المشبوهون والموقوفون عدة أشهر دون محاكمة. ويختصر غريفاس الموقف بقوله: (لقد تصرفت قوى الأمن بشكل وكأنها تريد عمداً أن تلقي السكان في أحضاننا) وهذا ما وقع بالفعل.
وتوجه غريفاس إلى جبال ترودوس لتنسيق أعمال العصابات، وتعرض للاعتقال في عدة مناسبات. وفي إحدى المرات، وبينما كانت، وحدتان بريطانيتان، مجموع أفرادها سبعمائة رجل، تبحث عن الثوار، اقتربت إحداهما من الأخرى. وسط الضباب لمحاصرة ثوار العصابات، وتملص الثوار بسرّية، واشتبكت الوحدتان مع بعضهما بالنيران لمدة ساعة، قبل أن تدركا خطأهما، وسقط من جراء ذلك أكثر من خمسين قتيلاً وجريحاً . وفي أول كانون الثاني 1956 أعلن هاردينغ من الإذاعة، بأن أيام إيوكا معدودة. وفي اليوم التالي توجه 800 من الرجال نحو الأحراج، حيث كانوا يظنون أن غريفاس مختبئ، وأمضوا النهار كله في تمشيط مساحة ثلاثة كيلومترات مربعة وانسحبوا مع ثلاثة من الأسرى فقط. ويقول غريفاس: (كنت على بعد ثلاثة كيلومترات جنوباً، أشاهد العملية بالمنظار. ولقد ذهلت لسخافة الطريقة التي استخدمها الجنود).
وفي 22 كانون الثاني، هاجمت وحدات إيوكا كل قرى الجزيرة، وفي الوقت نفسه، بغية الاستيلاء على آلاف بنادق الصيد المرخصة من قبل الشرطة، وغنموا منها أكثر من ثمان مائة، سلح بها غريفاس فصائل خاصة، وذلك (لإزعاج البريطانيين ليلاً، ومهاجمة الثكنات العسكرية ومشاغلة القوات، وإعدام الخونة).
وفي شباط 1956، وصل عدد القوات البريطانية إلى اثنين وعشرين ألف رجل. وكان لدى إيوكا في ذلك الوقت 273 رجلاً في (وحدات الصدام) يدعمهم في القرى 700 من ثوار العصابات المؤقتين، المسلحين ببنادق الصيد. وكانت (وحدات الصدام) تضم في نيقوسيا 80 مقاتلاً موزعين على خمس عشرة مجموعة، وتضم في فاماغوستا 76 مقاتلاً، وفي ليماسول 34. تلك هي المدن الرئيسية في الجزيرة. وكان البريطانيون يمتلكون تفوقاً عددياً كبيراً، وقد خلُص غريفاس إلى الاعتقاد، بأن الجيش المدعوم بخمسة آلاف شرطي عبارة عن (جسم يصعب تحريكه ويقدم عدة أهداف، قديمة وجديدة، سواء في المدن أو الجبل).
وشددت إيوكا حملتها الإرهابية والتخريبية، وانفجرت قنابل في مساكن كبار الضباط، والنوادي، والحانات التي يرتادها الجنود. وتوصلت خادمة –عضوة في إيوكا– إلى وضع قنبلة تحت سرير السير جون هاردينغ، ولحسن حظ الحاكم، وأدى التغيّر المفاجئ في الحرارة (كما يقول غريفاس)، إلى تأخير التوقيت، فلم تنفجر القنبلة إلا بعد أن اكتشفت وانتزعت من مكانها .
ويبدو أن البريطانيين لم يتعلموا الكثير من تجاربهم الأخرى عن الإرهاب. وكانت جهودهم لمنعه منصبة على تخويف الأهالي من مساعدة إيوكا، فلم يتوصلوا إلا إلى إسخاطهم. وفرضوا غرامات جماعية على الأماكن التي هوجم فيها جنودهم، وكانت بضع مئات من الجنيهات الإسترلينية في القرى، لكنها بلغت أربعين ألفاً في فاماغوستا وخمسة وثلاثين ألفاً في ليماسول، ثم بدت الوسيلة غير فعالة، فأهملت بعد ستة أشهر.
ولم تشكل الشدة الصارمة، حيال مقاتلي إيوكا، الذين يتم أسرهم، ردعاً كافياً، بل كانت لها نتائج سياسية هامة. ففي 10 أيار 1956، شُنق في سجن نيقوسيا المركزي أول دفعة من مقاتلي إيوكا بتهمة القتل، وحدثت تظاهرات احتجاج ضخمة في اليونان، وقتل سبعة أشخاص أثناء الاضطرابات في أثينا، وقام محافظ المدينة، وسط تصفيق الجماهير، بتحطيم لوحة من الرخام كانت ذكرى لزيارة الملكة اليزابيث والأمير فيليب. وأدانت الصحافة البريطانية نفسها أعمال الشنق هذه. وفي اليوم التالي، وانتقاماً لهؤلاء، قام الجنرال غريفاس بإعدام اثنين من الرهائن. وقد سبب مصير الرهينتين شيئاً من التعاطف، لكن العناوين الرئيسية في الصحف كُرست لما اعتبره ملايين من الناس خطأ من العدالة البريطانية. إن من سخريات الحرب السياسية –وتلك مسألة لا بد أن تُعرف وتُفهم– أن القواعد ليست هي نفسها لكلا المعسكرين .
ولم يحقق الجنود أمام ثوار العصابات في الأرياف نتائج أفضل من التي حققوها في مواجهة المخربين في المدن. فقد أحرقوا عدة هكتارات من الغابات لإخراجهم من الجبال، ولم يمسكوا إلا عدداً قليلاً منهم، وتم استبدال الخسائر مباشرة.
وكتب غريفاس: (لقد حاول هاردينغ تدمير مجموعتنا الجبلية، لكن بما أنه لم يكن يملك مخططاً مدروساً، ولا يفهم طرقنا، فإنه لم يحصل على أي نجاح. وكانت فعاليته تتوقف على الإخباريات التي يقدمها له مخبروه من وقت لآخر، والتي كانت غالباً غير صحيحة أو مشكوك بها. وهكذا فقد كان يحتشد في منطقة ضيقة، ويرسل إليها زهاء خمسين شاحنة من جنوده، الذين يقومون بتفتيشها لمدة نهار كامل. وكنا نتملص غالباً من ذلك التنقيب قبل حدوثه، ونراقبه من المرتفعات المجاورة، متأكدين بأنه لن يتعدى الحدود التي رسمت له).
ماذا كان بوسعه أن يفعل؟ لقد قام غريفاس فيما بعد بدراسة المشكلة التي واجهها عدوه، وكتب:
(استمرت هاردينغ على خطئه: فهو لم يقدر خصمه حق قدره من جهة، كما بالغ في إمكانيات قواته من جهة أخرى.. إن من الخطأ استعمال دبابة للقبض على فأر، لكن بمقدور هرٍ أن يقوم بذلك خير قيام. وكان الأمل الوحيد المتاح للمارشال من أجل الإمساك بنا، هو أن يلعب معنا لعبة القط والفأر، وذلك باستعمال مجموعات صغيرة مدربة لهذا الغرض، وقادرة على التمسك بالحيلة والصبر، والضرب بسرعة وفي اللحظة غير المتوقعة) .
ولم يشكل البريطانيون مطلقاً مثل هذه المجموعات، واتبعت الحرب مجراها، وأعطت النتائج المتوقعة منها. وما لم يتوصل هاردينغ إلى عمله، في العام 1956، بعشرين ألف رجل، فشل خلفه في تحقيقه في العام 1958، وبعدد مضاعف من الجنود. وعندما توقفت الأعمال العدائية، كان في قبرص ثلاثة وأربعون ألف جندي بريطاني، وقلة من الناس تملك القدرة على الحديث عما كان هؤلاء الجنود يفعلون. ومن المؤكد أنهم لم يكونوا لحفظ السلام.
ويمكننا أن نكون فكرة عن نشاطات إيوكا في تلك الحقبة، من خلال هذه اللوحة التي قدمها غريفاس عن نهار الثاني من تشرين الأول 1958.
(لارناكا – مقتل جندي بقنبلة، إعدام عميل مدني من قبل فصيل الإعدام.
نيقوسيا – إلقاء قنبلة من سيارة على القيادة العامة للشرطة، والنتائج مجهولة.
فاماغوستا – نصب كمين لشاحنتين عسكريتين، وسقوط عدد مجهول من الضحايا.
ليماسول – جرح أربعة انجليز بسبب قنبلة أُلقيت على فندق (أكربول) وجرح أربعة جنود بقنبلة أُلقيت على شاحنة.
بلاتيني – انفجار لغم تحت شاحنة، مما أدى إلى مقتل جنديين وجرح اثنين آخرين.
بانايا ستافروس – مقتل جنديين وجرح اثنين آخرين بكمين.
بيروا – نصب كمين لشاحنة، وسقوط عدد مجهول من الضحايا.
ميزويي – مقتل جنديين في كمين.
بيي – انفجار لغم تحت شاحنة، ومقتل جنديين وجرح اثنين آخرين.
بيريسترونا – قذف قنابل على شاحنتين عسكريتين، وسقوط عدد مجهول من الضحايا).
وقد فاقمت السلطات البريطانية طبيعة الصراع، دون أن تغير مجراه، عندما ورطت فيه القبارصة الأتراك. وأدى تطويع الأتراك في الشرطة وإثارة النعرات العرقية إلى وقوع بعض المذابح بين المدنيين، وسقوط ضحايا بريئة في كلا المعسكرين. ولكن قاعدة (فرق تسد) لم تنجح في قبرص.
وباتفاقيات زوريخ ولندن، الموقعة من قبل إنجلترا وتركيا واليونان، نشأت جمهورية قبرص بدستور مضمون من الدول الثلاث، ولم يرضِ الحل غريفاس، الذي لم يكن يرى في الاستقلال إلا خطوة أولى للوحدة مع اليونان (إينوسيس).
ولا يستطيع البريطانيون الادعاء بالحصول على نصر، ولو جزئي. فالصراع العبثي الذي دام أربع سنوات، كلّفهم غالياً بالأرواح والمال والسمعة، وانتهى بحل وسط على الورق، أسوأ من هزيمة سافرة. وحتى ذلك الحين، لم يكن هناك إلا مسألة استعمارية مزعجة، ثم ظهرت بعد ذلك قضية عالمية متفجرة، لا تزال تشكل تهديداً جسيماً للسلام في البحر الأبيض المتوسط، وللبريطانيين أنفسهم.
أما النزاع الذي أدى إلى اتفاق زوريخ، فقد كان، جولة بعد أخرى، مجموعة من الهزائم السافرة للسياسة والأسلحة الاستعمارية. وقد تصرف البريطانيون حيال إيوكا كما يفعلون مع المجرمين العاديين، وبنفس الوسائل المستعملة لقطع دابر موجة إجرامية. ولم يبد لهم أنهم فهموا أبداً ما كان غريفاس قد وعاه بوضوح كامل منذ البداية:
(كنت أقهقه من الضحك، عندما كنت أقرأ بأن الجنرال فلان أو الجنرال فلان قد جاء إلى قبرص، لتطبيق الأساليب التي كونت سمعته في أماكن أخرى. ولم يكن بوسعهم أن يفهموا، بأن الصراع في قبرص كان استثنائياً، بدوافعه، وسيكولوجيته، وظروفه، وأنه لم يكن يشمل حفنة من الثوار، بل الشعب بأكمله).
الفصل العاشر
الفلبين وماليزيا واليونان
إخفاق حرب العصابات – ( ماغساي ساي) و (الهوك)
في الفلبين – ثمن النصر البريطاني في ماليزيا –
لماذا فشل الشيوعيون في اليونان.
إذا كنا نكرر غالباً تشبيه ماو لثائر العصابات الذي يسبح كالسمكة في البحر، فلأنه يتضمن حقيقة جوهرية، ويشرح بدقة، بل وبشكل مثير للإعجاب، المبدأ الأساسي لحرب العصابات. وإذا ذهبنا في مقارنتنا لما يمكن أن يحصل للسمكة عندما نسحبها أو عندما تخرج هي بنفسها من البحر، وعيْنا –بصورة تفوق ما يمكن أن نعيه بعد دراسة طويلة– أسباب الإخفاق الذي أُصيبت به بعض حركات حرب العصابات.
يشكّل تدمير الجيش الديمقراطي للشيوعيين اليونانيين، في العام 1949، المثال الأول. وتقدم ماليزيا نموذجاً آخر، في حين تقدم انتفاضة (الهوكبا لاهاب) في الفليبين المثل الثالث. وتبرهن الحالات الثلاث عما يحدث لثوار العصابات عندما يُقطعون، أو ينقطعون هم بأنفسهم (كما فعل الشيوعيون اليونانيون)، عن الاتصال والدعم الشعبيين .
ونجد أصل حركة الهوك، مثل حركات أخرى غيرها، في الحرب العالمية الثانية، وهي الأكثر تعليماً لاستراتيجيي الحرب المضادة للانتفاضة، لأنها تُظهر جيداً العمل الناجح للأسلحة السياسية والاجتماعية.
ويبدو أنه يجب أن نعزو نجاح التهدئة في الفلبين بشكل خـاص، إلى رصيد رجل سياسي ذكي هو الرئيس (رامون ماغساي ساي)، الذي أصبح وزيراً للدفاع في العام 1950، في الوقت الذي كان الهوك على قاب قوسين من اجتياح مانيلا.
فالهوك، كالفييتمينة في الهند الصينية، وايلاس في اليونان، والشيوعيين في ماليزيا، والأنصار في البلاد المحتلة من قبل المحور، ولدوا جميعاً كحركات وطنية –ثوار عصابات وطنيين يكافحون المغتصب– بمباركة دول الحلفاء ومساعدتهم العملية والمادية. وكان الدعم بالنسبة إلى الهوك قادماً في البداية من الولايات المتحدة. وكانت الدوافع الثورية دائماً معقدة: فقد قاتل الهوك في سبيل شيء ما وضده في آن واحد. وأُخذت شعارات الحرب على محمل الجد، وبعد طرد اليابانيين من الجزر، تغلبت الطموحات الاجتماعية حتى على الاستقلال، الذي منح بشروط عام 1946، وأصبحت الدافع الرئيسي. فبعد أن حارب الشعب ضد اليابانيين، بدأوا الحرب من أجل أنفسهم، وأخذوا يطالبون بحق التعبير السياسي وتوزيع الأرض .
وكان ماغساي ساي ثائراً قديماً، فاستطاع بذكائه أن يفهم ما يجب أن يفعل. وكان له من النفوذ ما يكفي للحصول على ما يريد.
وعندما استلم سلطاته في العام 1950، كان الهوك يسيطرون على وسط (لوسون)، وعلى الجزء الأعظم من (مندناو)، ويمتلكون قوة قوامها 12 ألف رجل مسلح، ويتمتعون بالتعاون الفعال لما لا يقل عن مليون من أصل سبعة عشر مليوناً من السكان. ولم يكن 30 ألف رجل قادرين على الوقوف أمامهم. أما مخازن الأسلحة التي تركها اليابانيون، أو التي قدمها الأمريكيون خلال (الحرب الثانية)، فكانت كافية لتغذية حرب أهلية تدوم عشرات السنين. ومع أن غالبية السكان لم يكونوا متعاطفين علناً مع الثوار، فإنهم ظلوا على الأقل سلبيين.
وكانت الأرض، بجبالها، وغاباتها المليئة بالمستنقعات، مناسبة لثوار العصابات. وكانت القوات الحكومية مكروهة من القرويين فانسحبت إلى المراكز السكانية الكبيرة ولم تظهر في عمق البلاد إلا خلال الحملات التأديبية، وكانت في هذه الحالة مجهزة بعربات مصفحة، ترهب السكان الريفيين.
وكان أول عمل قام به ماغساي ساي، هو إعادة تنظيم الجيش، ووضع حد للإرهاب العسكري، وازداد الضغط على الهوك بسبب إرسال وحدات صغيرة مسلحة، تعمل على طريقة الدرك، لمطاردة ثوار العصابات إفرادياً، واصطيادهم، بينما انكب الجيش على الأعمال الاجتماعية: كإقامة المستوصفات، وبناء المدارس، وتصليح الطرقات والجسور، ومساعدة الفلاحين على نقل أرزهم إلى السوق.
وكان العمل الثاني الذي قام به ماغساي ساي، والذي بدونه لم يكن للعمل الأول، أي فائدة؛ هو صياغة قوانين تسمح للهوك بالحصول على ما يرغبون فيه، بشرط أن يلقوا السلاح. وأُعلن العفو العام، وأُفرغ شعار الشيوعيين: (الأرض لمن لا يملكون أرضاً) من محتواه، بفضل الإصلاح الزراعي، وبرنامج الاستيعاب الذي جعل من حق كل ثائر يستسلم الحصول على قطعة من الأرض.
ونجح مشروع مدروس، لشراء الضمائر، حيثما كانت تفشل الوسائل الأخرى. ودُفع بسخاء ثمن الأسلحة، المعادة إلى السلطة، وخصصت مبالغ ضخمة ثمناً لرؤوس قادة الهوك، وأدت الخيانات إلى تقطيع أوصال قيادة الثائرين، وقطعت العصابات عن قواعدها المدينية في مانيلا، حيث أمكن القبض عملياً على جميع أعضاء القيادة الثورية تقريباً.
وفي العام 1951، قام الجنود بحراسة صناديق الاقتراع خلال انتخابات حرة (كانت الأولى ولا شك في تاريخ الفلبين) وأدت الانتخابات إلى إصلاحات اجتماعية أخرى، أضعفت تدريجياً قوة الدعوة الشيوعية .
وعندما استسلم (لويس تاروك) زعيم الهوك في العام 1954، كانت الحكومة تسيطر على القرى بحزم، بينما تقلص عدد الثوار إلى عدة آلاف، خاصة بسبب الردة، وأصبحوا مشتتين في المناطق الأشد وعورة في اثنين من أكبر الجزر.
ولم يُهزم الثوار عسكرياً –وهم في الحقيقة لم يبادوا مطلقاً، ولذا فإنهم يظهرون من وقت لآخر– لكنهم فقدوا حرب الدعاية، ولم يعودوا قادرين على جذب الشعب. لقد سُلبوا قضيتهم من قبل حكومة أكثر شعبية من كل ما سبقها من حكومات (لقد ساعد على ذلك إلى حد ما، دعم قدره 620 مليوناً من الدولارات الأمريكية)، وقُطعوا بشكل بطيء ولكنه ثابت، عن الدعم الذي كان وجودهم يتوقف عليه .
وقد نتساءل لماذا لم يستغل الهوك قوتهم، بشكل أفضل، عندما كانوا يتمتعون بها. ويبدو أن إحدى نقاط ضعفهم الكبيرة، كانت عجزهم عن إقامة جبهة شعبية في مرحلة كانوا فيها بأمس الحاجة إلى دعم سكان المدن، ومساهمة الطلاب والعمال والفئات الفقيرة، وحافظت حركتهم على صفتها الريفية. ولقد سيطر الثوار بالفعل على القرى في فترة 1949-1950، لكنهم لم يمسوا مطلقاً وبشكل جدي اقتصاد الأرخبيل، أو الحياة في العاصمة. وكان تكتيكهم المراوغ لا يساعد على تحقيق نتائج مفيدة بالدعاية، من أجل إحداث أثر سياسي عظيم. وبعد أن حُرموا من قيادتهم السياسية، انغمسوا في حياة لا تختلف كثيراً عن حياة المجرمين وقطاع الطرق، تاركين لمانيلا زمام المبادرة العسكرية والسياسية .
لقد كان بوسع 12 ألف ثائر، يتمتعون بدعم سكان الأرياف، ويواجهون جيشاً قوامه 30 ألف رجل فقط، تحقيق حشود للاستيلاء على كافة المواقع ، ما عدا القوية منها، وعلى كافة المدن، ما عدا الكبيرة. ولم يفعل الهوك ذلك.
وكان بإمكانهم اللجوء إلى الأعمال التخريبية، من أجل إعاقة الاتصالات، وشل الاقتصاد الوطني، بقوات أصغر من قواتهم الفعلية. ولكنهم لم يفعلوا ذلك.
وبعدم أخذهم زمام المبادرة، أو لعجزهم نفسياً، فإنهم لم ينجحوا في إثارة مخيلة الشعب، وفشلوا بالتالي في إثارة قلاقل جماعية ضرورية لقلب الحكومة، أو لتشكيل جيش ثوري قادر على مواجهة جيش الحكومة. ولقد قال كلاورفيز: (يكسب الرأي العام في النهاية، بفضل الانتصارات الكبيرة). ونظراً لعدم وجود انتصارات كبيرة، كان الهوك بحاجة إلى تحقيق نجاحات، لإعطاء انطباع بأنهم سيكسبون في النهاية، أي خلق ذلك الانطباع الذي شكل قاعدة النجاح في كثير من الحركات الثورية.
لقد انطلقوا انطلاقة جيدة، لكنهم لم يُحسنوا استغلالها. وقد أضعفت إصلاحات ماغساي ساي المطالب الشعبية في الوقت المناسب ووسعت القاعدة السياسية للنظام، وأنقصت القاعدة السياسية للحركة، حتى اللحظة التي ألفت هذه الحركة نفسها فيها منتهية عملياً كقوة ثورية.
أما في ماليزيا فيما بعد الحرب، فكان الموقف يختلف جذرياً عنه في الفلبين، رغم التماثلات الظاهرية. فقد تواجدت حركة شيوعية قوية من حرب العصابات، تلقت التدريب على يد خبراء، كما في الفلبين، ولقد وُصف (تشين بنغ)، الأمين العام للحزب الشيوعي الماليزي، بأنه (أصلح ثائر عصابات في إنجلترا) وكذا مائتا عضو من الحزب الذين تدربوا على الحرب غير النظامية في مدرسة بريطانية خاصة في سنغافورة قبل عامين من ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كان في ماليزية منظمة سياسية واسعة هي (مين يوين)، أو حركة الجماهير، التي كان لها عملياً فروع في كل التجمعات السكنية الكبرى في ماليزيا.
ولسوء حظ الشيوعيين، كان جيش التحرير (M.R.L.A) يتشكل بأكمله من الصينيين، وخاصة ممن وصلوا حديثاً إلى مايزيا، فلم تكن لهم جذور أصيلة في البلاد.
وقد تباينت التقديرات عن عدد ثوار العصابات بين خمسة وعشرة آلاف، واستطاعوا شن حملة من الإرهاب والتخريب كانت في البداية فعالة. وكان ضعفهم يكمن بأنه كان يمكن عزلهم بسهولة.
ففي الأدغال غير المأهولة التي أُجبروا على اللجوء إليها، كان يقطن عدد محدود جداً من السكان المحليين، لذا وجد الثوار صعوبة بالغة في الحصول على المؤن، واضطروا بالتالي إلى جلب ما يحتاجون إليه من القرى بالتهريب، بواسطة شبكة (مين يوين)، لكن يقظة الشرطة أوقفت هذه التجارة بسرعة.
ونفذت الحكومة برنامجاً واسعاً ومكلفاً للإسكان، شمل أكثر من خمسمائة ألف صيني، معظمهم من العاملين في مناجم القصدير أو في مزارع أشجار المطاط، وبفضل هذا البرنامج نقل الصينيون المذكورون من الأكواخ التي كانوا يقيمون فيها على حافة الأدغال، وأُسكنوا في قرى محمية سهلة المراقبة، وقُدمت إليهم بعض الميزات الحياتية فمالوا إلى الانفصام عن المتمردين.
وبانقطاع اتصال الثائرين عن أغلب السكان، وبعدم تلقيهم المساعدة المادية المتوقعة من الجماعة الصينية، فقد اضطروا تدريجياً للخضوع أو للإبادة النهائية عن طريق الكمائن.
وقد اهتم الأخصائيون في الحرب المضادة للثورة بهذا البرنامج من الإسكان، والذي شكل نموذجاً من القرى المحمية، أُنشئت فيما بعد في فيتنام. كما توجهوا بعنايتهم إلى وسائل أخرى استعملها البريطانيون في ماليزيا.
ومع ذلك، لم يكن الحدث الهام في هذه التجربة هزيمة جيش التحرير المايزي –المقدر له الإخفاق منذ البداية– بل الزمن الذي استغرقته حملة القمع ونفقاتها الباهظة. ورغم الظروف السيئة التي عمل فيها ثوار العصابات، فإنهم لم يبادوا كقوة مقاتلة إلا بعد عشر سنين، ولا يزال بعضهم موجوداً في الأدغال، لكنهم لا يشكلون خطراً يحسب حسابه.
وقد جمدوا خلال تلك السنوات العشر 40 ألف جندي بريطاني، و 100 ألف من رجال الشرطة النظاميين والمساعدين. ويسمح لنا التقرير التالي عن عملية (ناسو)، المنفذ بقوة كتيبة، أن نأخذ فكرة عن الجهد العسكري الذي كان لا بد من بذله.
بدأت عملية (ناسو) في كانون الثاني 1954، وانتهت في أيلول 1955. ويغطي مستنقع كوالا لانغات مساحة أكثر من مائتي كيلومتر مربع، وهو دغل كثيف، فيه أشجار يزيد ارتفاعها عن أربعين متراً، ولا تتعدى مسافة الرؤية فيه ثلاثين متراً. وخصصت كتيبة بريطانية لهذا القطاع، حيث جرت عدة اغتيالات، وأقيمت الرقابة على المؤن بطريقة التقنين وبمراقبة المرور والتحريات. وبدأت سرية من الكتيبة عملها في 21 كانون الأول 1954 في المستنقعات، لكن العمليات الفعلية لم تبدأ إلا في التاسع من كانون الثاني 1955، بقصف ناري بالمدافع والهاونات والطائرات. وتضمَّن المخطط في الأصل إزعاج الثوار ليلاً ونهارا لدفعهم نحو الكمائن المنصوبة لهم لكنهم كانوا قد تحضروا للإقامة نهائياً في المستنقع. وأحياناً كانت تخرج أرهاط التموين لجلب الأغذية، ولم يكن السكان المدنيون يُعلمون السلطات عنها لشدة خوفهم منها.
ولذلك تعدّل المخطط، واقتصر رمي الإزعاج على الليل، بينما استمر نصب الكمائن وتكثيف الدوريات. ودام ذلك ثلاثة أشهر دون أن تظهر أية نتيجة . وفي 21 آذار، نجحت وحدة كامنة بقتل اثنين من ثمانية ثوار، بعد انتظام دام خمسة وأربعين ساعة. وانغمس أول دبوسين برأس أحمر على خريطة العمليات للدلالة على سقوط القتيلين، وارتفعت المعنويات.
وانقضى شهر آخر حتى أتت إخبارية أخرى، فسمحت بنصب كمين آخر، قتل في خلاله أحد الثوار. ولم يحدث شيء في شهر أيار. وفي حزيران حدث تماس بالصدفة مع دورية، مما أدى إلى قتل رجل وأسر آخر. وبعد ذلك بأيام، وبينما كانت فصيلة تعود من دورية دامت أربعة أيام دون جدوى، اصطدمت مع الثوار وقتل اثنين منهم، وأسر أحد قادة القطاع من الشيوعيين. ولقد أعلن الأسير بأن المراقبة على المؤن كانت فعالة بشكل أن أحد رجاله قد قتل أثناء شجار على الطعام.
وفي 7 حزيران، خصصت سريتان جديدتان للقطاع، واشتدت الدوريات ورمايات الإزعاج، فاستسلم ثلاثة ثوار، وأرشد أحدهم فصيلة من الجيش إلى معسكر آمره، فقتلت أربعة رجال بينهم الآمر نفسه. وقتلت الدوريات أربعة آخرين. وفي نهاية تموز، بقي في المستنقع ثلاثة وعشرون ثائراً بدون غذاء أو اتصالات مع العالم الخارجي.
حصيلة العملية: إطلاق 60 ألف قذيفة مدفعية، و30 ألف قذيفة هاون، وألفي قنبلة طائرات، من أجل قتل أو أسر 35 ثائراً. وقد تطلَّب كل واحد من هؤلاء 1500 (رجل /يوم) من الدوريات والكمائن. ومع هذا، فقد اعتُبرت (ناسو) نجحاً، لأنها قربت نهاية الحملة .
وهكذا، كان لا بد من جهد مستمر لكتيبة، ولمدة تسعة أشهر، ومصروفات من القذائف والقنابل، تزيد عما يوجد في ترسانة بعض جمهوريات أمريكا الجنوبية، وكل ذلك لتصفية خمسة وثلاثين من ثوار العصابات.
ولا يمكن لهزيمة الشيوعيين في ماليزيا، والتي كلفت ثمناً باهظاً، أن تشكل إلا إلهاماً محفزاً لثوار عصابات آخرين أقوياء في بلاد محروسة بصورة أقل من ماليزيا. وكم من أنظمة قليلة التماسك في أمريكا الجنوبية، تجيز لنفسها مثل تلك النفقات، دون أن نتحدث عن المخاطر السياسية، وذلك ليس لتصفية خمسة وثلاثين، بل لتصفية ألف من الثائرين المصممين؟ وفي أي مدى من الزمن؟
وتقدم لنا اليونان حالة خاصة. فالثورة التي دامت فيها ثلاثة أعوام، وقُمعت من قبل حكومة يمينية وبمساعدة إنجلترا والولايات المتحدة، عبارة عن تجربة تقدم الكثير من الدروس إلى الذين يرغبون بمعرفة الطريقة التي (لا ينبغي أن تُدار بها حرب العصابات).
لقد نُسبت خلال ذلك الصراع (1946-1949) عملياً كل دروس التجربة، وكل المبادئ الموضوعة من قبل المنظرين الماركسيين–اللينيين للحرب الثورية، التي انتهكها الشيوعيون اليونانيون على عكس ما كان منتظراً.
وكما في بلدان أخرى، وجد القادة الشيوعيون أنفسهم في نهاية الحرب العالمية الثانية في موقف مناسب مادياً وسياسياً، بسبب تحالف الشيوعية مع الحركة المعادية للفاشية، ولأن الشيوعيين سيطروا في حركة المقاومة (إيلاس E.L.A.S). وكان الحزب يحتل إذا مركزاً فكرياً قوياً، وضم الثوريون آلافاً من الطليعيين في (إيلاس). ومع أن هذه المنظمة قامت بتسليم رمزي لأسلحتها في العام 1945، إلا أن أفضل ما استلمته من إنجلترا والولايات المتحدة، أثناء الصراع ضد النازية، بقي في أيدي ثوار العصابات، عندما اندلعت الحرب الأهلية في العام 1946.
وكان الثوار ضعفاء عددياً، بحدود ألفين وخمسمائة محارب أمام ثلاثين ألفاً من رجال الدرك الوطني، ومع هذا فقد بدأت أعمالهم بداية جيدة. وعملت القضية الشيوعية على اكتساب متطوعين جدد، وبدأت الأعمال القتالية في الجبال الشمالية على حدود ألبانيا ويوغوسلافيا وبلغاريا، وامتدت إلى مركز البلاد، ووصلت إلى جبال البيلوبوينز. ولم تؤد الأعمال الانتقامية التي مارستها مجموعات أقصى اليمين إلا إلى تأجيج الحريق.
لقد بدأت الحملة الشيوعية استناداً إلى قواعد سليمة نظرياً. واستعمل الجيش الديمقراطي تكتيك حرب العصابات، أي مجموعات صغيرة قادرة على الانتشار والاختباء وحتى على الاندماج، مع السكان عند الضرورة، وكان بإمكانها أن تحتشد محلياً وبسرعة، لمهاجمة مراكز الشرطة أو الدوريات الصغيرة.
وعندما أصبح ثوار العصابات أكثر قوة، اضطرت الشرطة لترك مراكزها الصغيرة، والانسحاب إلى التجمعات السكنية الكبرى. ووعت حكومة أثينا الخطر فأسرعت إلى إعادة تشكيل الجيش الذي كان قد اختفى أثناء الاحتلال الألماني.
واصطدمت القوات المُرسلة إلى الجبال بالتكتيك نفسه، ولم تستطع الاستقرار أو التجول إلا بالقوة. والأخطر من ذلك، أنها لم تتمكن من مراقبة الحدود مع ألبانيا ويوغوسلافيا، حيث كان قد التجأ أربعة آلاف من (إيلاس) في نهاية عهد الاحتلال الألماني، وأخذوا يعودون إلى اليونان مع معداتهم.
وهكذا حاز الجيش الديمقراطي على منطقة خلفية منيعة وآمنة، لإقامة المستشفيات ومعسكرات التدريب وقواعد التموين.
وكانت الاستراتيجية العسكرية لحرب العصابات اليونانية (لا دفاعية ولا هجومية) لكنها مراوغة. وبالاختصار كانت حرب البرغوث: قرص هنا، ولدغة هناك، ومن ثم انسحاب سريع، والمطلوب إدماء الجيش، وإنهاك حكومة أثينا. وكُرست الأهداف العسكرية لخدمة الأهداف السياسية. فبقطع الاتصالات، وبإشاعة الفوضى المدينية، وبتثقيل العبء الضريبي إلى حد بعيد، وبتفتيت الحياة الاقتصادية، كان الشيوعيون، يأملون بتقويض نظام أثينا، وخلق الضغوط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تسبب سقوطه في الوقت المطلوب.
وسارت الأمور بشكل جيد، وربما بشكل جيد جداً، من الناحية العسكرية. وآمنت العصابات الصغيرة بذلك سريعاً. ومنذ بداية العام 1947، أخذ الجيش الديمقراطي يحارب على مستوى الكتيبة. وبعد عام من ذلك، شكل ألوية ثم فرقاً، (8 فرق)، وكانت هذه الفرق تقريباً على نموذج الفرق النظامية. وقد بدأ الجيش الديمقراطي الحرب بألفين وخمسمائة مقاتل، ووصل عدده في نهايته العظمى إلى ستة وعشرين ألفاً ثم انحدر إلى حوالي ثمانية عشر ألفاً في نهاية الحرب.
وأدت النجاحات الأولى، مع عوامل أخرى، إلى اقتراف أخطاء جسيمة جداً، لا بل قاتلة. ومن أهم العوامل الأخرى التي أدت إلى فشل الثوار، الدعم البريطاني ثم الأمريكي لأثينا، والدعم الممنوح للجيش الديمقراطي من قبل البلدان الشيوعية الثلاث الواقعة في شمال اليونان.
وكان أول الأخطاء، فقدان الاتصال الفعّال مع السكان. ففي البداية ولأسباب تتعلق بالراحة المادية من جهة وبالضرورات الأمنية من جهة أخرى، اجتاح الشيوعيون القرى التي طُرد الدرك منها، وقاموا بمصادرة المواشي والأرزاق، كما عمدوا أحياناً إلى تهجير السكان إذا دعت الضرورة. وكثيراً ما جُنِّد السكان بالقوة في صفوف العصابات، أو طُردوا خارج منطقة حرب العصابات .
وشكل اللاجئون بالنسبة إلى أثينا مشكلة في غاية الصعوبة، ولكنهم كلفوا الشيوعيين ثمناً باهظاً من الناحية السياسية، من حيث سمعتهم والدعم الشعبي لهم. وكانت لذلك أيضاً نتائج عسكرية، إذ أن اختفاء المدنيين من منطقة العمليات، خلّص الحكومة من كل حيرة في قصف المناطق المسكونة، ولم يعد الطيارون يتساءلون عن صفة الهدف المتبين: فكل ما يتحرك في منطقة حرب العصابات كان شيوعياً.
أما الخطأ الجسيم الثاني، المقترف لأسباب لم تتوضح بشكل كامل، فقد تمثل اعتباراً من العام 1947، في محاولة الاحتفاظ بالأرض، وتبنّي خطة دفاعية تقليدية لا تلائم مطلقاً ثوار عصابات يتفوق العدو عليهم عددياً، ومجهزين بأسلحة خفيفة، ولا يمتلكون إمداداً مضموناً تماماً.
ورغم نموهم العددي، فإنهم لم يكونوا أبداً على مستوى تحمل أعباء مواجهة مكشوفة، مع جيش وقوة دفاع وطنية، يضمان معاً زهاء 265 ألف رجل، مجهزين بالدبابات والمدفعية وبطيران شديد الفعالية.
وكان القرار بالانتقال من حرب العصابات إلى القيام بعمليات تقليدية (استعمال الألوية ثم الفرق، واحتلال منطقة الشمال) محكوماً على ما يبدو باعتبارات سياسية. إذا كانت قد تشكلت حكومة شيوعية، وكانت هذه الحكومة بحاجة إلى أرض محررة. ولكن يطلب الثوار من العالم الاعتراف (باليونان الحرة)، كان لا بد من البرهنة على وجودها.
ولا شك أن عوامل أخرى لعبت دورها. فلم يكن بإمكان الشيوعيين التنازل عن قواعدهم الخارجية، والإمدادات التي كانت تصلهم من يوغوسلافيا على قوافل البغال. وكان الحفاظ على حدود مفتوحة واحداً من أهداف العمليات الدفاعية في الشمال.
وسواء كان ذلك مناسباً أم غير مناسب، فإن الجيش الديمقراطي، نجح فعلياً في البداية واحتفظ بالأرض. وفي صيف 1948، توصل 12000-15000 من الثوار إلى منع 50000 من الجنود الحكوميين من دخول جبال (غراموس)، أي أنهم سيطروا على منطقة مساحتها خمسمائة كيلومتر مربع، طوال شهرين ونصف. وعندما أضحى الضغط الحكومي كبيراً جداً، انسحب الجيش الديمقراطي إلى ألبانيا، ثم ظهر من جديد في منطقة جبل (فيتسي) في الشمال الشرقي، وخاض قتالاً دفاعياً ظافراً. وبعد أقل من ستة أشهر، احتل ثوار العصابات مجدداً جبال (غراموس)، وأخفقت الحملة الحكومية في الشمال.
وأجبرت الهزيمة أثينا على اتخاذ إجراءات تعسفية، واستُدعي رئيس الأركان العامة السابق الجنرال ألكسندر باباغوس إلى الخدمة، وحصل عملياً على الحرية الكاملة في إعادة تنظيم الجيش، وزيادة عدده حتى 250 ألف رجل إذا كان ذلك ضرورياً.
واستبدل باباغوس الضباط العاجزين، وتبنى تكتيكياً جديداً أشد عدوانية. فزج 25 ألف رجل في معركة (البيلوبونيز) التي عمد الشيوعيون فيها إلى الهجوم، وفي بداية العام 1949 أبيدت قوة الثوار في هذه المنطقة (3600 ثائر)، وحقق الجيش نجاحات، جيدة في وسط اليونان. وفي نهاية حزيران 1949، تعرض الجيش إلى هزيمة في كل مكان، إلا في معاقله الحصينة في (غراموس) و (فيتسي) التي كان الجيش يستعد لمهاجمتها بقوة كبيرة.
وخلال ذلك، وقع حدث سياسي عالمي هام، سبب ضربة شديدة للشيوعيين، وذلك عندما اختلف تيتو مع ستاليين، وخرجت يوغوسلافيا من الكومنترن. وفي شهر تموز أغلقت الحكومة اليوغوسلافية حدودها مع اليونان، مما أدى إلى قطع الإمداد عن ثوار مقدونيا وتراقيا الغربية، وعزلت في يوغوسلافيا قوة من الثوار اليونانيين تقدر بأربعة آلاف رجل، وقطع القوات الرئيسية لقطاع (غراموس– فيتسي) عن الثوار في بلغاريا وتراقيا الشرقية ومقدونيا. وألفى الجيش الديمقراطي نفسه مقتصراً على الإمداد الذي يصله من ألبانيا، والذي كان قليل الأهمية ورديء النوعية بالنسبة إلى ما كان يأتيه من يوغوسلافيا.
وفي مثل هذه الشروط، بدا الجيش الديمقراطي عاجزاً عن الصمود مدة طويلة أمام قوات نظامية أفضل منه تسليحاً وتدريباً وتنظيماً، وتتفوق عليه عددياً، وتتمتع بدعم كاف من المدفعية والطائرات. وفي خلال 3 أيام هُزم الثوار المدافعون عن موقع جبل فيتسي (7 آلاف ثائر)، وانسحب خمسة آلاف منهم إلى ألبانيا. أما في غراموس، فلقد استمر الهجوم الحكومي خمسة أيام، وأسفر عن هزيمة الثوار، وانسحاب أربعة آلاف ثائر إلى ألبانيا. وانتهت بذلك الحرب الأهلية عملياً. ومع أنه قد بقي الآلاف من قدماء المحاربين وعدد كبير من المتعاطفين مع الثورة في البلاد، إلا أن الثورة كانت قد سُحقت، بدون أمل في ولادتها من جديد.
ولا يبدو لي أنني أبالغ، وإذا قلت بأن الشيوعيين قد ساهموا إلى حد بعيد في الوصول إلى هذه النتيجة. لأن خسارتهم لتعاطف السكان في الجبال الشمالية، وتطبيقهم الإرهاب ضد المدنيين، وتمسكهم بقواعدهم، واعتمادهم على الموارد الخارجية، واتخاذهم بشكل مبكر قرار التمسك بالأرض ضد قوى متفوقة من كل النواحي قد هيأت المناخ لمجموعة الهزائم التي لم ينهضوا بعدها.
لقد خسروا في الساحتين العسكرية والسياسية، لأن انتصار الجيش اليوناني حدَّد أيضاً نهاية الحركة الثورية.
يؤكد المثال اليوناني تماماً المبادئ الثورية. فليس هدف حرب العصابات كسب المعارك، بل تجنب الهزيمة، كما أنه لا يتمثل في إنهاء الحرب بل في تمديدها حتى يحدث انتصار سياسي، أكثر أهمية من أي انتصار عسكري. وعند تضحيتهم بمزايا تكتيك حرب العصابات، في سبيل استراتيجية عسكرية أساسها احتلال الأرض، وضع الشيوعيون اليونانيون الضعف أمام القوة. وعندما غامروا بقبول الأرض، وضع الشيوعيون اليونانيون الضعف أمام القوة. وعندما غامروا بقبول المواجهة العسكرية، فإنهم لم يخاطروا بقواتهم فحسب، بل بالأهم من ذلك بكثير، ألا وهو الشعور الذي ولدوه عند الشعب بأنهم سيكسبون، والذي بدونه لا يمكن أن تنجح أية حركة سياسية.
الثورة، بالتعريف، ظاهرة جماهيرية. وتوضح اليونان وماليزيا والفيليبين تلك البديهية القائلة بأنه لا يمكن أن تتواجد ثورة بدون مساهمة الجماهير أو دعمها على الأقل. ولقد أضاع الهوك في الفلبين هذا السند الشعبي، ولم يحوزه الصينيون في ماليزيا مطلقاً، كما حرم الشيوعيون اليونانيون أنفسهم منه بمحض إرادتهم.
الفصل الحادي عشر
فن الحرب من وجهة نظر صن تزو – مبادئ استراتيجية وتكتيك
حرب العصابات – الأرض ودورها كعامل مؤثر – حرب
العصابات في المناطق المدينية – صفة حرب العصابات
(تعتمد كل حرب على الخدعة.
فعندما تكون قادراً تصنع العجز، وعندما تكون نشطاً تصنع التراخي.
وعندما تكون قريباً، اعط الخصم انطباعاً بأنك ما زلت بعيداً، وعندما تكون بعيداً اجعل العدو يؤمن بأنك قريب)
(قدم للعدو طعماً لتجذبه: تظاهر بالفوضى واضربه
وعندما يحتشد تحضر له، وتجنبه عندما يكون قوياً.
ازعج قائده، وسبب له الاضطراب.
تظاهر بأنك أضعف منه لتزيد من ثقته بنفسه.
ركز عليه ضغطاً مستمراً لاسنزافه.
عندما يكون متجمعاً جزّئه.
هاجمه عندما لا يتوقع ذلك، واظهر عندما لا ينتظر ذلك.
تلك هي مفاتيح النصر بالنسبة إلى الاستراتيجي)
إن الوصايا المذكورة أعلاه مستقاة من كتاب (صن تزو) عن (فن الحرب)، وهو أقدم مؤلف معروف في هذا الموضوع، وقد حرره قبل الميلاد بعدة قرون. وليس تماثله مع المقولات العسكرية لماوتسي تونغ من قبيل الصدفة، إذا أن ماو كان قد درس (صن تزو) بكثير من العناية، واعترف له بذلك الفضل، ولم تكن كثير من تعليماته إلا تفسيرات لما ورد في كتاب (فن الحرب).
وإذا ذكرنا (صن تزو) فذلك لتبيان أن تعبير (الحرب الحديثة) في استعماله الدارج، هو تعبير مصطنع، يعكس الخلط بين التقنية والعلم، ذلك الخلط الذي سبّبه الصحفيون ورجال السياسة، لأنه بالرغم من الاختراعات المدهشة في القرن العشرين، فإن مبادئ الحرب تبقى قديمة. ولقد كانت موجودة وواضحة تماماً حتى قبل أن يبدأ يوليوس قيصر حملته الأولى. وما هو صحيح بالنسبة إلى الحرب بصورة عامة، هو أكثر صحة بالنسبة إلى حرب العصابات بصورة خاصة.
إن مدى المدفعية والطيران أعظم بكثير من مدى القوس، وتعمل المتفجرات بتأثير يختلف عن تأثير عمل السهم، وتتميز الدبابات على التروس. وشكل الشاحنات والهليكوبترات (ليس دائماً) وسائل نقل أشد سرعة وأكثر ضماناً من البغال والجمال. إلا أن معضلات القيادة هي نفسها. والعوامل المتبدلة، كالأرض والزمن والمجال واللحظة والسكان وخاصة المعنويات والاستراتيجية، تحدد دائماً نتيجة المعارك والحملات.
وإذا تواجد شيء فيه بعض الجدة في حرب العصابات –التي صاغ (صن تزو) مبادئها العسكرية قبل أكثر من ألفي عام– فإن ذلك يكمن فقط في التطبيق السياسي الحديث، أي أن مظهرها الحديث، هو استعمالها كأداة في الثورة السياسية. والواقع أنها تشكل الوسيلة المضمونة لشعب محروم من السلاح، حتى يتغلب على جيش مزود بآليات، وفي حالة عدم تحقيق الغلبة، التوصل على الأقل إلى تحييده.
ولكي نفهم ذلك، لا بد قبل كل شيء من دراسة المشاكل السياسية، التي يمكن لأساليب حرب العصابات أن تقدم لها حلاً.
فثائر العصابات متمرد، سياسي، وهو العامل الواعي للثورة، ومع أن دوره العسكري جوهري، لكنه ليس إلا عارضاً في مهمته السياسية، فهو يثور لغرض محدد، يتمثل في قلب الحكومة، وتدمير النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم.
وللوصول إلى هذا الهدف قد يلجأ إلى القتال –وعلى كل حال فإنه يشتبك بالتأكيد ويناور– أمام قوات عسكرية منظمة ومحترفة. وفي هذه الحالة يجب أن تهدف كل مناوراته إلى مفعول سياسي، إلا عندما يتوقف على ذلك بقاؤه على قيد الحياة وتكون كل معركة بمثابة درس يبرهن عن عجز الجيش، وبالتالي لتسويد سمعة الحكومة التي تستخدمه. وتهدف كل حملة إلى إيقاظ الوعي الثوري لأغلبية الشعب، التي يحدد موقفها نتيجة الصراع.
ولا شك أن لأعمال حرب العصابات بعض الأهداف العسكرية الواضحة: التزود بالأسلحة والذخيرة والمؤن، وتكبيد العدو الخسائر، وإجباره على نشر قواته حتى يمكن تدميرها واحدة تلو الأخرى بواسطة حشود متفوقة.
أما الغايات النفسية والسياسية، فإنها تحتفظ بتفوقها. وتبقى النجاحات العسكرية المحلية بدون فعالية إذا لم تستطع الحملة النيل من معنويات الحكومة وقواتها، ولم تستنزف النظام من الناحية المالية، ولم تزد من الضغط عليه بتنمية الخوف والاستياء في البلاد.
وطبيعي أنه لا يمكن أن يحدث شيء من ذلك، إذا لم تتواجد بعض الشروط الاجتماعية والسياسية، التي لا بد من تضافرها لإحداث الوضع الثوري، أو الوضع الثوري الكامن على الأقل. ويقتضي نجاح الانتفاضة وجود مطالب شعبية سليمة، وتوترات اجتماعية، واقتصاد مريض أو راكد، أو حكومة مستبدة. وحتى إذا اجتمعت هذه العناصر، فقد تبقى الثورة بعيدة، إذا لم يتواجد جنين تنظيم ثوري، قادراً على التعبير عن الاستياء الشعبي واستغلاله.
وتلد الأوضاع الثورية عادة قيادتها الثورية الخاصة، وتأتي القيادة من القطاعات الاجتماعية الأقل استقراراً، وتتضمن العناصر الأكثر راديكالية، والأكثر حرماناً، والأشد طموحاً في الأحزاب السياسية (المتطرفة) وأبناء الطبقة المتوسطة الأكثر مثالية، أو الذين لم ينجحوا، وأولئك الذين يشعرون بعبء اضطهاد لم يعتادوا عليه. (إن الفلاح الذي عايش الاضطهاد مديداً، نادراً ما يبدو ثورياً بقدر الطالب أو العامل، الأوفر حظاً من الفلاح، خاصة إذا اعتقد بأن لهما حقوقاً، واكتشفا –بعد تغير في الجو السياسي– بأن هذه الحقوق مهضومة).
ففي وضع ثوري كامن، يغدو من المتوقع حدوث الانتفاضات العفوية، التي قد يسببها أي نوع من النزاع الاجتماعي مثل: إضراب، حملة انتخابية، نقاش حول موضوع الأسعار أو المدارس... إلخ. وغالباً ما تشكل رد فعل لبعض أعمال القمع أو الظلم، الحقيقية أو الموهومة، التي ترتكبها السلطات. فمثلاً عند تدخل الشرطة في تظاهرة قد تتحول التظاهرة إلى تمرد.
وفي ظروف أخرى، يمكن خلق الاضطرابات بشكل مفتعل. ففي الجزائر وكوبا وقبرص مثلاً، نشبت حرب البرغوث بواسطة أعمال مقصودة قامت بها النواة الثورية لتحدي الحكومة، معتمدة على الدعم الشعبي.
ولا تهم الوسائل كثيراً، وتبقى القيادة نفسها أشد العناصر أهمية. فليس المجرمون وقطاع الطرق ثواراً، وليس النهابون رجال العصابات. ولكي يُطاع القادة يجب أن يكونوا أخلاقيين، وأن يكون دافعهم أعظم من الطموح الشخصي، مما يتطلب أيديولوجية أو (قضية) محددة تماماً، لتفسير قرارات وحجج انتفاضتهم. لذلك لا يمكن أن يكونوا مجرد انتهازيين.
وعندما يحدث النزاع، سواء كان مفتعلاً أم لا، لا بد أن يكون القادة القادرين على عقلنة صفته الغامضة، والتي غالباً ما تكون عرضية. ولا بد لأعمال التحدي المنعزلة، أن تتخذ بعضاً من التماسك داخل الإطار الثوري المعتمد. وعلى القيادة أن تكون مستعدة لالتقاط كل الفرص التي تساعد على زيادة سرعة سياق التخمر الاجتماعي والانفجار السياسي. ويغدو واجبها الأول أن تعيد كل حادث وكل مرحلة من النزاع إلى (القضية) الكبرى، بحيث يغدو العنف الثوري الوسيلة الطبيعية والأخلاقية للوصول إلى الغاية المرجوة، وتُزج فيه الجماهير الشعبية أكثر فأكثر. ويجب ألا يبدو الصراع وكأنه بلا معنى أو فوضوي، بل ينبغي أن يكون ذا صفة تدريجية في كل مراحله، وأن يحيي آمالاً كبرى، وأن يبدو في كل أطواره هاماً إلى درجة تجعل أي شخص غير قادر على تجاهله.
ولا تؤدي (القضية) الواضحة إلى نتيجة بنفسها، وغالباً ما تسوي قضية ما قضية أخرى ففي كوبا مثلاً بدا فساد ولا شرعية نظام باتيستا بمثابة (قضايا) كافية للطبقة المتوسطة الميسورة، طالما أن أعضاءها لا يتعرضون للمخاطرة الشخصية، ويكتفون بتعاطفهم مع الثوار وتشجيعهم لهم. لكن عندما تعرض أبناء هذه الطبقة للسجن أو التعذيب أو القتل بسبب نشاطاتهم، أضحت القضية الأكثر إلحاحاً هي تصفية القمع.
وشكلت النزعة القومية الاقتصادية (القضية) الحقيقية بالنسبة إلى الصناعين ورجال الأعمال الأغنياء الطموحين، الذين عارضوا باتيستا. وكان الطموح السياسي (غير المعلن)، والشعور (الذي ربما كان حقيقياً) بالظلم الاجتماعي وراء اندفاع شباب فئة الموظفين الفقراء، حتى يصبحوا أكثر الدعاة حماساً للثورة وعملاً في سبيلها.
ومن جهة أخرى فإن المستخدمين الزراعيين الذين لا يملكون أرضاً، والمزارعين الفقراء في كبرى مزارع قصب السكر، وسكان جبال (السييرا مايسترا)، قد اندفعوا بسبب الجوع والقمع الحقيقي، والرغبة في الحصول على الأرض لأنفسهم في نظام اجتماعي منصف، وكلها دوافع تتجاوز أي (قضية) أخلاقية أو سياسية.
وتوقف كل شيء على الموقف المحلي. ولم تنفك القيادة الثورية عن توجيه نداء أكثر اتساعاً، قائم على أيديولوجية ديمقراطية مساواتية، مقرونة بمفاهيم العدالة الاجتماعية وكلها أمور متعارف عليها في كوبا منذ زمن بعيد (لم يكن في إنسانية كاسترو أي جديد، إذ كانت مسجلة في الدستور الكوبي)، ومجتمعة مع هدف سياسي تام الوضوح، يتمثل في قلب نطام باتيستا، والقضاء النهائي على كل من سانده.
وكان قلب نظام باتيستا مطروحاً كترياق وعلاج لكل الأوجاع. وباعتبار هذا القلب (قضية)، فقد استغل كل تطور سياسي منعزل: فاغتيال شرطي، واستشهاد إرهابي، وتعليق الحريات المدنية، والتظاهرة العامة للمطالبة بإعادتها، وكل ابتعاد عن الروتين، وكل ما يساعد على النيل من النظام، كل ذلك قُدِّم وكأنه مناوشة أو معركة في إطار الحرب الصليبية العظمى.
وبسبب الحالة النفسية المسيطرة، سار تفكك الدعم لباتيستا، وزيادة الضغط الداخلي والأجنبي عليه، في السياق الذي رأيناه سابقاً.
ويقدم لنا المثل الكوبي كغيره، حصيلة انتفاضة ظافرة، والتي لا بد أن تتضمن الشروط المسبقة التالية:
1. موقف سياسي مزعزع، محدد بالتوترات الاجتماعية الحادة. ويكون عادة (وليس دائماً) مقروناً باقتصاد مريض أو راكد.
2. هدف سياسي قائم على قاعدة أخلاقية وفكرية صلبة، تؤمن بها الأغلبية، وتقبلها (كقضية) للانتفاضة، مقبولة في حد ذاتها، وجديرة بكل التضحيات.
3. حكومة باغية لم تتواجد إمكانية الحل الوسط معها.
4. نوع من التنظيم السياسي الثوري، القادر على تقديم القادة المخلصين والأكفاء للوصول إلى غاية مرضية.
5. إمكانية النجاح أو على الأقل احتمال النجاح. وطالما أن الشعب لا يؤمن بأن الحكومة يمكن أن تُقلب، فإن أول عمل للمنتفضين هو أن يبرهنوا على إمكانية قلبها، وذلك بتحدي القوة العسكرية والتغلي عليها. فإذا لم يتحقق هذا الأمر، انعزل القادة ولم يتبعهم أحد.
إننا لا نتعلم في الكتب الاستراتيجية والتكتيك الخاصين بحرب العصابات، إلا ضمن تفاصيل غير ذات أهمية. فالاستراتيجية والتكتيك يتعلقان دائماً بوضع محلي محدد، ويأخذان سمة الوسيلة اللازمة للنجاح. وثائر العصابات مبتكر قبل كل شيء. وبالطبع إنه يبتكر تبعاً لأهدافه المباشرة والبعيدة، والأرض، وقوته النسبية، والوسائل المتوافرة لديه، وعناصر أخرى مماثلة.
وبما أنه أقل من العدو عدداً وعدةً (وإلا لما كان ثائر عصابات)، فإن همه الأكثر إلحاحاً هو الاستمرار على قيد الحياة، لذا فإن من الطبيعي أن يكون التملص قاعدة لتكتيكيه. فبالتملص يستطيع اجتناب المواجهة خارج الأوقات المناسبة له، وعندما يتحقق له تفوق محلي يسدد ضربته بنجاح.
ويكتب صن تزو: (إذا كنتُ قادراً على معرفة تدابير العدو، وإخفاء إجراءاتي عنه عندها يمكنني أن أحشد قواي، بينما تتجزأ قواته. فإذا احتشدت قواتي وتجزأت قواته، أمكنني أن أستعمل كل قواي لمهاجمة جزء من قواته.
يجب ألا يعمل العدو متى أشن المعركة. فإذا لم يعرف ذلك، كان عليه أن يتحضر لي في أمكنة عدة، وما سأهاجمـه من قوى في مكان ما سيكون ضعيفاً، لأنه عندما يستعد في كل مكان، يغدو ضعيفاً في كل مكان).
إن هذا يفسر كيف يمكن لحفنة من الرجال المسلحين أن يواجهوا جيشاً. وأسرار النجاح هي: مصالح استخبارات متفوقة أولا وأرض صالحة ثانياً. ويمثل ثوار العصابات قضية شعبية، لذا فهم يمتازون بمصلحة استخبارات تشمل عملياً كافة السكان الذين يقومون بإخفائهم، ويخبرونهم يوماً بيوم، وساعة بساعة، عن إجراءات العدو وقوته.
ولقد قال لي فيديل كاسترو وعندما أجريت معه مقابلة صحفية في السيـيرا مايسـترا في بداية العام 1957 (نحن نعلم دائماً أمكنة الجنود وهم لا يعلمون شيئاً أبداً عن مكان وجودنا، فنحن نغدو ونروح على مزاجنا، مجتازين الخطوط، فلا يستطيعون مطلقاً اكتشافنا، إلا إذا رغبنا في ذلك بأنفسنا، وفي ظروف نقوم نحن باختيارها).
ولم يكن لديه آنذاك أكثر من مائة رجل، وكان محاطاً (نظرياً) بحوالي خمسة آلاف من جنود باتيستا. ولكن كلمة محاط لا تحمل أي معنى في الأرض الموحشة المحرومة من الريفيين الذين يكنون له العطف ولباتيستا العداء. والمحيط أيضاً يحيط بما فيه، لكن السمكة تسخر من ذلك.
ويجب اختيار الأرض المناسبة عندما يكون ذلك ممكناً، والمثالي منها ما كان ريفياً أكثر مما هو مديني، وما كان وعراً تكسوه الغابات الكثيفة، والسكك الحديدية الطويلة، والطرق السيئة، مع اقتصاد زراعي أكثر مما هو صناعي. كما أن لتركيز السكان، أو تبعثرهم النسبي، أهمية كبيرة أيضاً. فالمنطقة ذات السكان الريفيين المبعثرين هي أكثر ملاءمة من منطقة فيها تجمعات سكنية عظيمة، تفصلها مساحات مزروعة غير مسكونة.
ويجب أن تقوم هذه الأرض ملاجئ طبيعية، وعوائق تحدّ من التحركات العسكرية، كالجبال أو المستنقعات العصيّة على الدبابات والشاحنات. وتسمح الأحراج والأدغال بالتخلص من المرصد الجوي، وتشكل الغابات منطلقاً للهجوم السريع والمضمون على السكك الحديدية والطرق، ونصب الكمائن للوحدات الصغيرة.
ولا بد من وجود ما يكفي من المجال للمناورة الحرة، دون الخشية من خطر الوقوع في حصار لولبي. وكلما ازداد قطاع العمليات اتساعاً، كثرت صعوبة الاستدلال على الثوار من قبل الجيش، ولا بد للحكومة عندها من تشتيت قواتها وتطويل اتصالاتها.
ومع ذلك فإن ثوار العصابات لا يستطيعون انتقاء المنطقة الأكثر بعداً أو وعورة بحثاً عن الأمن، إذ لا بد لهم من البقاء على اتصال دائم مع السكان، حيث يجدون معين المتطوعين، ومصادر التموين، وحيث يمكنهم اختيار المراسلين الذين يؤمنون استمرار اتصالهم مع الحركة السرية في المدن.
وتفرض تلك الضرورة اختيار اقليم ذي سكان ريفيين مبعثرين ما أمكن، على أن يتواجد فيه عادة ملاجئ طبيعية، وعوائق على تحركات العدو، بالإضافة إلى ميزة أخرى هي أن إقامة الحاميات الحكومية فيه تكون مكلفة اقتصادياً.
إن بإمكان هذه الحاميات أن تستقر في التجمعات الريفية الكبيرة، وليس في الدساكر المتناثرة. إذ تضطر عند الاستقرار في الدساكر إلى الانكماش إجبارياً، وتقليص عددها حتى بضعة رجال يسهل قتلهم أو القبض عليهم والاستيلاء على أسلحتهم، الأمر الذي يمنح الثوار نجاحاً جديداً يساعدهم على نشر دعايتهم.
ومن الطبيعي أن ينسحب الجيش إلى أرض أكثر أماناً، لكنه يوسّع بذلك المنطقة التي يشرف الثوار عليها، فيزداد تموينهم ومعين تطوعهم، ويحصلون على مجال أكبر للمناورة.
وهناك اعتبار آخر: إن حيازة المناطق المكتظة، يكفل للثوار نوعاً من الأمان. لأن الحكومة –الواقعة تحت تأثيرات سياسية وإنسانية– لا تستطيع السماح بقتل المدنيين دون تمييز (مع أن ذلك ليس بقاعدة كما حدث في فيتنام).
وقد برهنت التجارب في ماليزيا أو الفلبين، عن الخطر الناتج من الابتعاد عن المناطق المأهولة، حيث نجح العسكريون في كلتا الحالتين في عزل الثوار وفصلهم عن منبع قوتهم، وكانت النتائج قاتلة، بالنسبة إلى ثوار. ومن جهة أخرى، برهن مقاتلو إيوكا القبارصة، بأنه يمكن أن تنجح حرب العصابات، حتى في جزيرة صغيرة لا تقدم المجال الكبير للمناورة، ولا الملجأ المنيع. وكان جنود غريفاس يرتدُّن إلى التجمعات السكنية إذا ازداد الضغط في الجبال كثيراً. أما أولئك الذين لا يستطيعون ذلك، فكانوا يعيشون كالثعلب في جحور أُحسن تمويهها، بحيث كان الجنود البريطانيون، يمرون غالباًً فوقها دون أن يشكو فيها. وكان آخرون يتسترون خلال النهار في مخابئ مجهزة داخل المنازل، حتى إذا حل الليل، خرجوا منها للقيام بهجماتهم. تلك كانت المقاومة السرية الكاملة.
وحتى في المدن الكبرى، حيث مراقبة الشرطة شديدة، كان بإمكان السكان المتعاطفين إخفاء الثوار. وقد استطاع الفرنسيون، بالطرق التعسفية التي استعملوها في مدينة الجزائر، تصفية ثوار جبهة التحرير الوطنية عملياً داخل المدينة. ويرجع ذلك إلى أن المسلمين في حي (القصبة)، كانوا منفصلين عرقياً ومادياً عن السكان الفرنسيين. ويستطيع الجنود، وخاصة عندما يكونون من الأجانب، قمع ثورة مدينية، وذلك باعتماد طرق الحرب، أي بمراقبة كل الحركات، وبالإبادة الشرسة لسكان أي حي يبدي مقاومة أمامهم. ومن الممكن الإخضاع التدريجي لسكان مدينة بتجويعهم وإرعابهم، لكن هذه الطرق لا تنطبق على الحرب الأهلية حيث لا توجد وسيلة مضمونة للتعرف على أعضاء كل معسكر من المعسكرين المتجابهين.
إن الأرض والشروط المحلية تتحكم حتماً بتعداد وتنظيم عصابة من الثوار. ولقد تأكد في كوبا، أن التشكيل الأكثر ملائمة لجبال السييرا مايسترا هو (الرتل) المؤلف من مائة إلى مائة وعشرين رجلاً. وكان هذا التشكيل قادراً على مواجهة كل مجموعة عسكرية أقل مرونة، ويصعب تموينه في تلك المنطقة الفقيرة بالسكان.
أما في القطاعات السكنية الأكثر كثافة وزراعة، فقد كان بإمكان ثلاثين أو أربعين رجلاً، احتلال ضيعة أو قرية صغيرة مع ضواحيها، وإقامة نقاط أمامية على حدود (المنطقة الحرة) وإدارة المنطقة، كدولة ضمن دولة.
وكانت إمكانية الاختباء عاملاً حاسماً في مناطق الضواحي، فثوار العصابات الذين كانوا يهاجمون حركة السير على الطرقات ويقطعون، خطوط الطاقة، كانوا يعملون ضمن مجموعات من ثلاثة إلى ثمانية رجال. أما العمليات على المراكز العسكرية والمنشآت الصناعية المجاورة للمدن، فكانت تسند غالباً إلى المغاوير القاطنين في المدينة، والذين كانوا يعودون إلى بيوتهم مباشرة بعد ذلك، وينصرفون في اليوم التالي إلى اهتماماتهم المعتادة.
ولقد أخذ جيفارا في الاعتبار، الظروف السائدة في معظم جمهوريات أمريكا الجنوبية، فقدّر بأن نواة من ثلاثين إلى خمسين رجلاً مسلحاً، تكفي للبدء بنشاط حرب العصابات، وتمتلك فرصاً حسنة لإحراز النجاح. فإذا تجاوزت هذه النواة (المنظمة والمسلحة بسرية تامة) عدد المائة وخمسين رجلاً، غدا من الضروري تقسيمها والبدء بالعمل في منطقتين تبعد أحداهما عن الأخرى. وعندما تتجاوز أية وحدة عاملة المائة رجل، ينبغي تقسيمها أيضاً، وفتح جبهة جديدة. وهنا أسباب إيجابية وسلبية تفرض ذلك، فثوار العصابات مبشرون، لا يقتصر دورهم على مواجهة الجيش، بل يتضمن أيضاً نشر العصيان بين الشعب، لذلك كان من الضروري توسيع منطقة الاتصال مع الجماهير.
وتبدأ نواة ثوار العصابات الأعمال الحربية في مكان لا يبعد كثيراً عن ملجأ طبيعي، وفي منطقة زراعية ذات كثافة سكانية قليلة، ومشرفة على عدة أهداف استراتيجية: سكك حديدية لا بد من قطعها، وطرق ينبغي إغلاقها، ومناجم ومصانع يمكن تدميرها، ومراكز صغيرة للجنود أو الشرطة يمكن الهجوم عليها، والاستيلاء على الأسلحة الموجودة فيها. ويبقى عمل المجموعة السرية في المدن متقطعاً، لكنه يكمل العمل في الريف، ويعطي الانتفاضة طابعاً وطنياً، ويحدث أكبر أثر من الدعاية الممكنة. إن إشعال الثورة غير كاف لوحده، ولا بد من جذب انتباه كل الأمة، وصبغ الطلقات الأولى بصيغة مثيرة، حتى لا تمضي تحت ستار الصمت، أو تُعتبر غير ذات أهمية من قبل الصحافة الخاضعة للمراقبة، كما حدث غالباً مع أعمال العصيان المجهضة، حيث تواجدت الحكومة في عاصمة احتفظت بالهدوء بعيداً عن مكان العمليات.
وبعد هدوء المشاعر، وإعادة النظام في التجمعات السكنية التي حدثت فيها الاضطرابات، يتوجب على ثوار العصابات أن يتوقعوا قدوم الجيش إليهم لنزالهم، وليس عليهم الذهاب إليه. وتعد الحكومة عندها حملة، لقمع (المخربين)، ويصل الجنود بالبر والجو إلى منطقة الاضطراب، وتحاول الطائرات الاستدلال على مكان العصابات، ويحتل الجنود القرى، ويقومون بدورياتهم على الطرق، وتتقدم الأرتال بعيداً لتحقيق التماس مع الثوار، وقد تستخدم طائرات الهليكوبتر في بعض الحالات لوضع الحاميات في معسكرات استراتيجية في الغابات والجبل. فإذا كان القائد العسكري يحسن مهنته، فإنه يستطيع تبني بعض الأساليب المشقة من الطريقة الفرنسية المسماة (بقعة الزيت)، وذلك بأن يخلي تدريجياً قطاعاً من خريطته، ويدفع ثوار العصابات، بشكل منهجي نحو (منطقة الإبادة)، حيث يؤدي بهم طريق الانسحاب الوحيد إلى مكان مكشوف، فيقعون تحت نيران البنادق، مثل الطريدة المدفوعة نحو الصيادين.
وطريقة (بقعة الزيت) هذه مضمونة نظرياً، لكنها لا تكون كذلك عند التطبيق، العملي. فنادراً ما تقبل حكومة الإعلان عن خشيتها الجدية من نشاط عصابة صغيرة من الثوار، لذا فهي تميل إلى عدم تزويد حملة القمع بالقوات الضرورية، أي أنها لا تعمل على تحقيق التفوق بمعدل عشرة إلى واحد، علماً بأن تفوقاً يعادل 500 إلى واحد، قد لا يكون مبالغاً فيه في بعض الحالات.
ومهما بلغ عدد الجنود المشتركين، في الحملة، فإن ثوار العصابات يتقيدون ببعض المبادئ عند قتالهم، فهم لا يسعون إلى احتلال أرض، ولا إلى مواجهة قوة متفوقة، ويقتصرون على تشتيت قوات عدوهم، وإنهاكها، وإلحاق الخسائر بها، مع تحاشي التعرض للخسائر. وفي هذا النوع من العمليات يشكل الكمين المنصوب بإحكام الوسيلة الأكثر ضماناً. ويكتب صن تزو حول ذلك: (بصورة عامة، إن الذي يحتل ساحة المعركة أولاً، وينتظر عدوه فيها، يرتاح أكثر ممن يصل إلى ساحة المعركة عند نشوبها إذ يكون متعباً).
ولا يشن ثوار العصابات معركة إلا إذا كانت الأرض مناسبة لهم. وعليهم أن يجتذبوا العدو إلى الموقع التي لا يلعب التفوق العددي فيها دوره، كأن تكون المعركة مثلاً في ممر ضيق، ويكون ذلك عادة باحتلال مرتفعات مسيطرة، مشجرة، وحيث تستطيع حفنة من الرجال المصممين، إحباط عمل جيش بأكمله.
والمهم في الكمين، هو قطع جزء من الرتل المعادي –كمقدمته– وتركيز النار عليه لتدميره والاستيلاء على أسلحته وذخيرته، بينما تقوم مجموعة صغيرة بإبطاء تقدم بقية الرتل. ويكتب تشي جيفارا عن هذا الموضوع فيقول:
(عندما تريد مجموعة قليلة العدد احتواء رتل من الغزاة أو إبطاء تقدمه، فعليها أن تعمل بالطريقة التالية: تتوزع زمر مؤلفة من اثنين إلى عشرة رماة في الاتجاهات الأربع حول الرتل. ويمكن للمعركة أن تبدأ عندها على الجانب الأيمن مثلاً. ويرد العدو على هذه الجهة، وعندها تفتح النار على الجانب الأيسر، ثم تفتح في لحظة أخرى على المؤخرة أو المقدمة، وهكذا.
وعندما يصبح بالإمكان تثبيت العدو إلى ما لا نهاية، مع صرف كميات قليلة جداً من الذخيرة ).
وأثناء تأخير العدو بهذه الطريقة، تجمع القوة الضاربة لثوار العصابات غنيمتها العسكرية، وتنتقل إلى موضع محضر آخر، أو تعود إلى الخلف لتشتبك باتجاه آخر، ويلتحق بها الرماة قبل أن يتسنى للجنود التقاط أنفاسهم للقيام بهجوم معاكس، ويجري ذلك كله خلال بضع دقائق.
وتكرر العملية ما أمكن. وعند التأكد من أن رتلاً قد انعزل، بشكل يجعل وصول أية نجدات إليه يتطلب عدة ساعات أو عدة أيام، يمكن لثوار العصابات القيام بمحاولة لتطويقه، أو التظاهر على الأقل بفعل ذلك، إذا توفرت لهم مفارز من الرماة، يحتلون أماكن مشرفة، ويركزون رماياتهم على العدو حيثما اتجه. فإذا شن الجنود انقضاضاً مصمماً، فما على ثوار العصابات إلا أن يتملصوا، ويجتمعوا في الخلف، للبدء بالانسحاب.
وتشكل حركية وحدة العصابات وقلة عددها، أهم مؤهلات نجاحها، وخطر تطويقها هو عادة ظاهري أكثر مما هو حقيقي.
وقد لاحظ جيفارا بأن الليل هو أفضل حليف لثائر العصابات. ولم يفقد أنصار كاسترو رجلاً واحداً بسبب التطويق. ويرى جيفارا بأن التطويق لا يمثل أي مشكلة، ويعطي هذه النصيحة: (تدبروا أموركم بحيث تكبحوا جماح العدو حتى هبوط الليل ثم تسللوا عبر خطوطه). وذلك سهل على مجموعة صغيرة من الرجال يعرفون الأرض جيداً، وخاصة إذا كانت هذه الأرض مغطاة بشكل كاف.
وخلال الأشهر الأولى من الحملة، وعندما يكون الجنود في مرحلة الهجوم، يكون تكتيك الكمين والتملص آلياً وكافياً. وتقدم نشاطات الجيش نفسها دعاية لقضية الثوار. فالجيش لا يستطيع إخفاء خسائره، وتتضايق الحكومة من الكلفة المرتفعة للحملة، كما تُطلب منها استفسارات حول ذلك لا تستطيع تقديمها. وتعمل كل مواجهة على تقوية ثوار العصابات، بينما تضعف هذه المواجهة معنويات أعدائهم. ويكتب جيفارا عن ذلك:
(على ثائر العصابات أن يذكر دائمـاً بأن عدوه هو المصدر الوحيد للحصول على السلاح، وعليه –إلا في بعض الظروف الخاصة– ألا يشتبك في معركة لا تؤدي إلى غنائم من الأسلحة والعتاد العسكري).
وتشكل مقدمة العدو هدفاً من الدرجة الأولى، وذلك لسبب نفسي: لأن مهاجمتنا تنشر الرعب، أو أنها توصي على الأقل بالحذر المفرط، مما يشل إرادة العدو ويؤخر تحركاته. وعندما يقتل جنود المقدمة، لا يعود واحد يرغب في العمل مع المقدمة، وبدون مقدمة لا يمكن لأي تحرك أن يحدث (لا ينطبق هذا التحليل على وحدات المحترفين، حيث يُعد الضباط لتقبل الخسائر، واعتبارها الثمن الطبيعي للمعركة. ومع ذلك، فقد كان المستشارون العسكريون في فيتنام، يشتكون من أن القادة الفيتناميين (الجنوبيين)، كانوا يرفضون مهاجمة مواقع الفيتكونغ دون قصف مسبق، مما كان يعطي ثوار العصابات الوقت الكافي للانسحاب).
فإذا استرت الانتفاضة مدة من الزمن، صار من المحتمل رؤية العسكريين يتنازلون، عاجلاً أم آجلاً، عن مطاردة غير مجدية، ويفضلون –لأسباب سياسية على الأقل– ترك ثوار العصابات وشأنهم في معاقلهم الآمنة. ولقد قلنا سابقاً، أنه لا يمكن لحكومة أن تسمح باستمرار حملة مكلفة، ولا تقدم أية نجاحات يمكن الإعلان عنها فبعد بضعة أسابيع أو بضعة أشهر، تعلن الحكومة عن سحق العصيان، وتعرض جثث عدد من المدنيين لتبرهن عن ذلك، وتعيد قواتها إلى مناطق أقل تعرضاً، مكتفية باحتواء الانتفاضة.
ومن الطبيعي أن يرفض ثوار العصابات هذا الاحتواء، وأن يعمدوا إلى الهجوم، مستفيدين من حرية الحركة التي اكتسبوها مجدداً من أجل شن إغارات ليلية على المراكز المتقدمة المقامة على حافة منطقتهم. وعندما تقوم السلطات بدفع التعزيزات نحو تلك المراكز، ينصب الثوار الكمائن لأرتال التعزيزات.
وتوفر هذه الأعمال للثوار الأسلحة، التي تسمح لهم بتشكيل وحدات جديدة، وتوسيع منطقة العمليات. ويتسلل ثوار العصابات عبر خطوط الجيش، ويهاجمون الحاميات الموجودة في القرى البعيدة، ويحتلون المزارع والقرى التي لم يستطع العدو التمسك بها بسبب الكلفة الاقتصادية. ويحاولون تثبيط همة العدو، أو منعه نهائياً من إرسال القوافل العسكرية إلى بعض المناطق، وذلك بلغم الطرقات، ونصب الأفخاخ للدبابات، وتنظم دفاع في العمق، لجعل الاختراق مكلفاً أكثر فأكثر، دون إطالة مدة المقاومة في أي موقع.
وعندما تبلغ حرب العصابات أشُدها، يجد الجيش نفسه أمام خيارين: إن تفوقه العددي وتسليحه القوي، يسمحان له بأن يدخل دائماً إلى منطقة الثوار بعد أن يتكبد بعض الخسائر، دون أن يحصل على ميزة حقيقية، لأنه ليس للأرض المكتسبة أية قيمة استراتيجية أو اقتصادية بالنسبة إلى التكلفة. وإذا استطاع الجنود حشد قوة كبيرة في مكان ما، فإن ثوار العصابات ينقلون نشاطهم ببساطة إلى مكان آخر. ولا يستطيع الجيش أن يكون موجوداً في كل مكان وفي نفس الوقت. أما إذا لم يبق الجنود في المكان، فإن الأرض تعود إلى الثوار الذين يمكنهم بعد ذلك الإفادة من سكانهم وإنتاجها.
وطبيعي أن تنجم عن ذلك مشاكل سياسية. فللتنازل عن أقسام هامة من الاقتصاد الزراعي انعكاسات لا بد أن تظهر. وتقوم الفئات التي تتأثر مصالحها من هذا الوضع، بالضغط على الحكومة، وقد تبدأ البحث عن بديل سياسي. ويؤثر تدهور الوضع الحكومي على الرأي العام، ويقسم الناس، وتتشجع العناصر الأكثر تطرفاً في المدن، ويتصاعد الشعور الثوري الذي تؤججه الحركة السرية، ويزداد قلق الحكومة أكثر فأكثر، وتميل إلى تصعيد تدابيرها القمعية.
في مثل هذه الظروف، تنسحب القوات العسكرية إلى التجمعات السكنية الكبرى متخلية بذلك عن الأرياف للثوار، الذين تتسع مصادر تموينهم ومنابع متطوعيهم، وتغدو عصابات الثوار جيشاً، فيستولون على القرى الكبرى، وينسفون الجسور، ويقطعون الطرقات والسكك الحديدية، ولا تلبث التجمعات السكنية الكبرى أن تجد نفسها شيئاً فشيئاً مخنوقة اقتصادياً، وتغدو القوافل العسكرية عاجزة عن الحركة دون التعرض للخطر.
وقد لوحظ هذا السياق سابقاً في نصف الكرة الغربي، وهو جار حالياً في جنوبي شرقي آسيا، إلا أنه لا يمثل بالضرورة السياق الوحيد الذي يمكن أن تتبعه حرب ثورية. وهل يمكن القول أن الولايات المتحدة نفسها منيعة على ذلك؟ إن تعقيدات المجتمعات الحديثة المدينية الصناعية، تجعلها حساسة جداً إزاء التخريب على نطاق واسع ولم يغب ذلك عن بال متطرفي الحركة الوطنية السوداء، الذين لا يمثلون عدداً كبيراً، ولكنهم شديدو التعصب. ولقد اكتشف مؤامرة غريبة في شباط 1965. وهي تعطينا فكرة عن نواياهم. ويقال أنهم كانوا ينوون نسف (تمثال الحرية) في نيويورك، و (جرس الحرية) في فيلادلفيا وتمثال جورج واشنطن. وفي مقال في Esquire، ظهر في تشرين الأول 1964 تحت عنوان (الأسود الأمريكي، صيني وأحمر)، كتب الصحفي الزنجي (وليام وورثي) ما يلي:
(أعلنت حركة العمل الثورية، معتمدة على الدعم المالي والمادي الآتي من آسيا وإفريقيا، ضرورة استعمال القدرات الأساسية الثلاث التي يملكها السود، وهي:
1. القدرة على توقيف الآلية الحكومية.
2. القدرة على النيل من الاقتصاد.
3. القدرة على إثارة العنف.)
أما الزعيم الزنجي روبرت وليامز، الرئيس الأسبق (للتجمع الوطني في سبيل ترقية العروق الملونة)، والذي اضطر إلى الفرار إلى كوبا بعد حادث عرقي حدث في (مونرو) (كارولينا الشمالية) في العام 1961، فقد كتب في The Crusader ما يلي:
( عندما تلجأ الجموع إلى العنف، فستعم البلبلة والفوضى الولايات المتحدة... وسيخشى عمال المصانع والهاتف والإذاعة من الذهاب إلى عملهم، وستتوقف كل وسائط النقل... وستنسف خطوط الأنابيب الرئيسية، وستحدث أعمال تخريب... وسيتفشى الصراع في القوات المسلحة. وفي كل القواعد الأمريكية في العالم، سيقف الثوريون المحليون إلى جانب قضية الجنود السود...
ويتحدى المفهوم الجديد للثورة العلم والتكتيك العسكري. إنه يتضمن حملات صاعقة تقع في المجتمعات المدينية المفرطة الحساسية، ويعم الشلل التجمعات السكنية الأقل أهمية ومن ثم الأرياف. أما حرب العصابات القديمة التي تنطلق من الجبال والأرياف، فإنها لن تكون مجدية في بلد يمثل قوة الولايات المتحدة. وأية قوة عصابات تقليدية يمكن أن تُكنس في غضون ساعة.
ويتمثل المفهوم الجديد في البقاء على مقربة من العدو ما أمكن، بغية تحييد أشد أسلحته حداثة وفتكاً... ويسعى هذا المفهوم إلى تفتيت عناصر الانسجام والنظام، وتحجيم السلطة المركزية إلى مستوى أخطبوط ذي أذرع عاجزة. ويتضمن المفهوم الجديد حدوث الإضرابات المتقطعة وإجراء الرمايات الشديدة نهاراً، ومع قدوم الليل تأتي الحرب الشاملة، والمعارك المنظمة، وانطلاق الإرهاب بلا حدود ضد المستبد وقواه. وستضع مثل هذه الحملة حداً للعنف وللظلم الاجتماعيين في الولايات المتحدة في خلال مدة تقل عن ثلاثة أشهر).
ويذكر وليامز مقابلة أجراها مع شخص يحمل لقب (م. لومومبا) (تيمناً باسم الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا)، ويعتبر واحداً من قادة الحركة السرية، ويقول وليامز أن هذا الشخص قد صرّح أمامه بما يلي:
( إن الولايات المتحدة شديدة الحساسية اقتصادياً ومادياً.
وإذا ما أحسن توجيه الشبيبة السوداء، أمكنها أن تشل البلاد. فالمجموعات الصغيرة قادرة على تدمير السدود الثمانية الكبرى، والتي تنتج الجزء الأعظم من الطاقة الكهربائية.
ويمكن صب البنزين في مجارير المدن وإشعال النار فيها.
ماذا يحدث من هذه الفوضى؟ حرب عصابات على الأغلب. ولا أعتقد أن البيض كلهم سيشاركون فيها، لكن الجماعة السوداء كلها ستساهم فيها.
إننا نطلق على البيض لقب (قطعة الحلوى). فعندما يتوقف التلفزيون، وينقطع رنين الهاتف، سينهار العالم كله. إننا واثقون من ذلك. وسيلزم البيض بيوتهم كما لو كان هناك قصف جوي وسينتظرون عودة التلفزيون إلى العمل).
إن في هذا الأقوال الكثير من التبجحات، وقد تكون مقرونة بسوء إدراك شريف للموقف. وليس هناك ما يشير حتى الآن، إلى أن أغلبية الشبيبة الأمريكية السوداء مستعدة للجوء إلى العنف. ومع ذلك، فإن الوطنيين السود على حق في نقطة. وهي أنه عندما تتواجد إرادة مقومة السلطة، يمكن دائماً إيجاد الوسائل لعمل ذلك، وحتى أفضل المجتمعات، المحمية من قبل الشرطة، ليست محمية من الانتفاضة.
إن ثائر العصابات ينجح بمجرد استمراره على قيد الحياة. وهو ينجح لأنه يستعمل طرقاً متقدمة. فبالمسدس والساطور، وحتى بالقوس أو الرمح، يمكن أن يستولي على بندقية. وعندما يحوز على عشرين بندقية يمكن الاستيلاء على رشاش، وعندما يصبح الرشاش في يده، يكون بوسعه استخدام الرشاش والبنادق العشرين لتدمير قافلة مجهزة بخمسة رشاشات وخمسين ألف طلقة. وبدزينة من المعاول وعدد من صفائح الوقود، يمكنه تدمير دبابة، ويستطيع بأسلحته أيضاً إسقاط طائرة أو هليكوبتر تحمل سلاحاً.
والمدفعية عاجزة أمامه، لأنها لا تتوصل إلى الإمساك به، وينطبق هذا القول على الطيران نسبياً، لأن الحكومة لا تستطيع أن تجيز لنفسها قصف المدنيين بلا تمييز، لأن ثائر حرب العصابات يختبئ بينهم.
وفي وقت من الأوقات، بنيت آمال كبيرة على طائرات الهليكوبتر، التي أدت خدمات جلي في الصحراء الكبرى (الجزائرية)، لكنها خيّبت الآمال المعقودة عليها في أدغال فيتنام، حيث تعلم الفيتكونغ نصب الأفخاخ للهليكوبترات، وكانت الخسائر منها فادحة.
وتتحدث الكراسات الأمريكية الخاصة بتقنيات الحرب غير النظامية، عن مختلف الأسلحة الحيوية (البيولوجية) والكيميائية، ويوصي بها خاصة عندما يكون ثوار العصابات مختلطين مع المدنيين الأبرياء، الذين لا يمكن أن يقتلوا، أو يجب ألا يقتلوا.
والغاية من الأسلحة البيولوجية، إصابة ثوار العصابات بأمراض فيروسية مؤقتة، تنقص قدرتهم على مقاومة الهجوم عليهم، بحيث يمكن للمشاة القائمين باجتياح قطاع معيّن قتلهم أو أسرهم، دون أن يلحقوا ضرراً بغير المقاتلين. إنها –إذا جاز التعبير– وسيلة لفرز المناشف عن الخرق.
وقد اقترح لهذا الغرض أيضاً استعمال غازات غير قاتلة (محمولة مثل الأسلحة البيولوجية داخل قذائف، أو قنابل، أو مرشوشة من الطائرات المحلقة على ارتفاع منخفض). وتستطيع هذه الغارات إصابة كافة المتواجدين في منطقة القتال بأمراض مؤقتة، قبل البدء بالهجوم عليها، الأمر الذي يؤدي إلى تجنب إراقة الدماء.
وتبدو الفكرة إنسانية ومنطقية معاً، لكنها فشلت عند التطبيق العملي. ففي بداية العام 1965، استعملت هذه الغـازات (وهي مزيج من غارات المسيلة للدموع والغازات المقيّئة من النوع المستعمل لتفريق المتظاهرين)، في فيتنام ثلاث مرات. وكانت نتائجها معدومة. فقد تبخرت الغازات مرتين دون أن تحدث أي أثر، وأدت في المرة الثالثة إلى مرض السكان، لكن الجنود لم يجدوا ثوار عصابات بينهم.
وكان لاستعمالها في المقابل أثر دعائي هائل وشديد الضرر لأولئك الذين استعملوها. عندما أعلنت واشنطن في آذار 1965، وبلا مبالاة، عن استعمالها الغازات في فيتنام، كان رد الفعل في العالم مباشراً. وقامت الصحافة الآسيوية، وخاصة اليابانية التي لم تنس بعد آثار قنبلتي هيروشيما وناغازاكي بالإعلان عن سخطها، وأجرت لندن وباريس تحقيقاً ديبلوماسياً، وأدانت غالبية الصحف الأمريكية استعمال الغازات، بما في ذلك أقلها ضرراً، واعتبرت هذا العمل منافياً لقواعد الحرب المتحضرة، وقد يؤدي إلى أسوء همجية.
وكانت الصين قد اتهمت الولايات المتحدة بشن (حرب جرثومية) إبان الحرب الكورية، مما أثار الرأي العام آنذاك. وجاء رد الفعل العالمي على استخدام الغازات في فيتنام ليزيد الوضع سوءاً، مما اضطر الأمريكيين إلى التخلي عن استخدام الغازات والأسلحة البيولوجية، والتي بقيت لم تتثبت فعاليتها العسكرية. وهناك أسلحة حديثة أخرى أشد خطراً من الغاز، كالفسفور الأبيض الذي يصيب الإنسان بعاهة دائمة. فهو إن لم يقتل، فإنه يسبب جروحاً بشعة، ويخترق حتى الفولاذ، ولا يصبح غير مؤذٍ، إلا إذا غمس في الماء.
وهناك القنبلة العنقودية التي تزن ألف رطل، وتنفلق في الجو، فتخرج منها مائة رمانة تتناثر ضمن دائرة نصف قطرها مائة متر. وهي تشكل ولا شك سلاحاً فعالاً ضد رجال العصابات.
وتستطيع العربات المدرعة الحديثة (البرمائية) اختراق أشد المستنقعات عمقاً، ويستطيع جهاز الرؤية الليلية العامل بالأشعة تحت الحمراء كشف ثوار العصابات المختفين وراء ستار الظلام. وهناك نموذج أكثر حداثة يعمل وفق مبدأ تكثيف ضوء النجوم. وتكشف الرادارات المتحركة رجلاً يزحف على بعد ألف متر. أما الاستعمال الأسلحة الصامتة (المزودة بكاتم الصوت) فإنها تجعل كشف قانصي الثوار صعباً مثل كشف الثوار أنفسهم.
ومع هذا، فإن خبراء الحرب المضادة للثوار لا يعترفون، بأن التقنية لوحدها عاجزة عن التغلب على حرب العصابات، ولا تستطيع إلا أن تجعلها أكثر صعوبة وأشد خطراً فالصراع قبل كل شيء ذو سمة اجتماعية وسياسية، ويستمر البرغوث على قيد الحياة بفضل القفز والاختفاء. وهو يحقق النصر لأنه يتكاثر بسرعة فائقة لا يمكن إدراكها.
لا تتعدى حاجات ثائر العصابات بضعة أشياء مثل: بندقية، وغطاء، وقطعة من المشمع لتحميه من المطر، وسكين، وبوصلة، وأحذية متينة. وكلها معدات على غاية في البساطة. أما ما يُطلب منه شخصياً فهو أكثر بكثير، فلا بد أن يكون قوي البنية، بساقين من الفولاذ، ورئتين سليمتين، ومزاج تقشفي، ورباطة جأش. ولا بد أن يحب شظف العيش الذي يحياه، لكن ما يلزمه حقاً، ولا يستطيع الاستغناء عنه، هو السلاح الأيديولوجي، فلا بد للثوري النشيط، وقبل كل شيء، من أن يقف على أرضية معنوية لا تتزعزع، حتى يصبح أكثر من مجرم سياسي.
وقد نتوصل إلى الاعتقاد، في حالة الفيتكونغ مثلاً، بأن ثوار العصابات يسيطرون على السكان الريفيين بالتهديد والإرهاب، هكذا كان يرد الفلاحون عندما كانوا يلامون على إيوائهم إياهم.
ولكن هذا الاعتقاد خاطئ بشكل عام، وقد يستعمل الإرهاب بدراية وحنكة، بيد أن أي ثائر عصابات لا يمكنه ممارسته على أناس يتعلق بهم بشدة، سواء من حيث معيشته أو من أجل وجوده السياسي. ويميز الناس بسرعة ما بين الانتهازي، والمناضل الذي يبذل من كل قلبه، لذا فهم يحترمون هذا ويتبعونه.
ولكي ينجح ثائر العصابات، لا بد أن يجعل نفسه محبوباً ومصدراً للإعجاب. ولكي يكسب أنصاراً، يجب ألا يمثل النجاح فقط، بل الفضيلة المطلقة، أيضاً، في حين يمثل عدوه الشر المطلق. فقد يكون الجنود كسالى أو مدمنين أو فاسقين، أما الثائر، فيجب أن يبدو نشيطاً ومتقشفاً وقنوعاً، أن أعداءه الذين يبيدهم خونة وقتلة، وعدالة الثورة فورية وأكيدة، أما أعداؤها فهم فاسدون ضعفاء ومترددون.
ولا بد لقائد العصابات الناجح أن يتصرف بشرف فيدفع ثمن ما يأخذه، ويحترم الحقوق والملكية الخاصة، حتى لمن لا يعتبرون من أنصاره، وأن يأخذ في الاعتبار ضرورة اكتساب كل الدعم الممكن في المجتمع القائم كيفما كانت طبيعة ذلك المجتمع آنذاك، حتى لو كانت الحرب صراعـاً طبقيـاً (وذلك لا يجري بصورة دائمة) فيجب أن تُلطّف الفروق بين الطبقات ولا تُضخم، وأن تُخضع هذه الفروق لقضية وطنية تُقدم على سواها. أما أولئك الذين لا يتعاطفون مع الثورة، وحتى المدافعون عن النظام القائم وخدمه، فيجب أن يترك لهم الخيار الأخلاقي، كأن يقال لهم بأن الوقت لم يفت بعد للانضمام إلى سبيل الفضيلة، والمشاركة في المستقبل اللامع، من أجل الوصول إلى شيء أكثر جمالاً وأكثر ضماناً مما يحوزونه فعلاً.
ولا بد للدعاية الثورية أن تكون صحيحة في جوهرها، حتى يؤمن الناس بها. وتلك ضرورة أساسية أولية. فإذا لم يؤمن الناس بها، فإنهم لا يتحركون، ولا تحدث الثورة. ولا يستطيع قادة الثوار إذكاء روح التضحية والإرادة الثورية التي تخلق الثورة الشعبية، بواسطة الوعود وحدها، أو بقوة السلاح، بل لا بد لهم من تنازل شخصي عظيم في سبيل غاية عظمى. وسواء كانت قضية الثورة تستند إلى القومية، أو العدالة الاجتماعية، أو الرغبة في التقدم المادي، فإن قرار القتال والتضحية يبقى ذا طابع اجتماعي وأخلاقي، وبذلك تصبح الانتفاضة قضية إيحاء وليست قضية مناورة.
وإنني ألاحظ تماماً، أن هذه الاستنتاجات لا تتوافق مع صورة حرب عصابات أو دوافعها، كما رسمها منظرو الحرب المضادة للثورة، في سوقهم الرائجة حالياً. إن على الأخصائيين في الحرب المضادة أن يكسبوا حرباً، في اللحظة التي أكتب فيها هذا الكتاب، مع أنهم الآن ماضون في خسارة الحرب الدائرة حالياً في فيتنام.
إن تصورات منظري الحرب المضادة باطلة، لأنها تنطلق من مقدمات منطقية ناقصة. ويفترض هؤلاء المنظرون أو يطلب منهم أن يجعلوا الناس يعتقدون بأن السياسية هي أساساً علم إدارة الناس، وأن الانتفاضة شكلان من السلوك الاجتماعي، والفارق بينهما هو أن الانتفاضة تمثل الطريقة الشعبية لمقاومة الحكومات اللاشعبية.
الفصل الثاني عشر
حرب العصابات في العالم الثالث القاعدة الثورية –
التوقعات المستقبلية للولايات المتحدة – مقترحات حول
سياسة أمريكية جديدة في أمريكا اللاتينية.
عندما نأخذ في الاعتبار مختلف الوجوه التاريخية والنظرية والعملية لحرب العصابات، يتضح لنا رسوخ نقطتين:
النقطة الأولى، هي أن حرب البرغوث بشكلها الحالي، ليست فقط حرباً شعبية، بل أنها أيضاً حرب المعدمين في العالم، وهي السلاح المتاح بشكل طبيعي للشعوب المقهورة الخاضعة للاستغلال. أي أنها في الخلاصة سلاح ثوري.
أما النقطة الثانية، فهي أن الولايات المتحدة بحكم سيطرتها، تجد نفسها –شاءت أم أبت– تلعب دوراً مضاداً للثورة. وبما أن الولايات المتحدة هي أكبر قوة في العالم اقتصادياً وعسكرياً، وبلد أكبر رجالات المصارف والصناعة وحراس النظام الرأسمالي للاقتصاد الحر (الذي تشكل الديمقراطية الليبرالية، والحكومة الدستورية، جزءاً منه)، فإنها بالطبيعة والضرورة، حليفة للمصرفين والملاك العقاريين ولمن وظفوا أموالهم في كل مكان. وبالرغم من تقاليدها وتشدقها الكلامي، فإن سياستها الخارجية الرامية إلى بقاء الوضع الراهن، والراغبة في التطور الاجتماعي الهادئ، والمتعارضة مع الثورة الراديكالية، هي سياسة معادية للشعوب، في كل مرة تهدد فيها الحركات الثورية المصالح الموظّفة. وإذا صدف أحياناً وعارضنا مثل هذه المصالح، فإن ذلك لا يكون إلا من أجل تسهيل مصالح أشد أهمية.. هي مصالحنا.
وتؤكد الحرب الباردة ذلك. فقد تصدت الولايات المتحدة للشيوعية لتدافع عن الملكية الخاصة والاقتصاد الحر من جهة، ولأن الشيوعية تشكل عاملاً للتوسعية الصينية والسوفياتية من جهة أخرى. ولقد اعتُبرت الكتلتان الصينية والروسية منافستين من الناحيتين السياسية والاقتصادية، وتشكلان تهديدات عسكرية محتملة.
ومعظم الحركات الثورية التي تنفجر في العالم، هي إما شيوعية تماماً، أو ذات أيديولوجية ماركسية–لينينية، أو على الأقل ذات ميول اشتراكية (أي أنها تهديد للاقتصاد الحر) ولذا فإنه من غير المدهش أن نرى الولايات المتحدة تتصدى لها. والمثلان الرئيسيان على ذلك هما فيتنام والكونغو. وحتى عندما لا يكون الهدف الثوري هو الاشتراكية، بل الاستقلال الاقتصادي أو عدم التبعية السياسية، فإن الولايات المتحدة، الراغبة في ضمان استثماراتها وتوسيع نفوذها وأسواقها، لا تستقبل أي ثورة بالترحاب .
والنتيجة: أن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية وسياستها، تصطدمان مع ثورة الجماهير المسحوقة في البلدان النامية. والنهاية المنطقية هي تماماً ما حدث في فيتنام، أي المواجهة بين الغنى والنفوذ والقدرة الصناعية التسلح الحديث، وبين حركات حرب العصابات في كل المناطق، حيث تتواجد مصالح أمريكية هامة.
وتقودنا دراسة حركات حرب العصابات، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الاستنتاج التالي: إن الولايات المتحدة تتقدم ببطء نحو نزاع عالمي الطابع، لا يمكن أن تربحه.
وليست أسباب هذا الاستنتاج غامضة.
إن حرب العصابات، كما رأينا، حرب شعبية بشكل أو بآخر. إنها صراع الأمم ضد المعتدين الأجانب، كما رأينا، أو أنها أجزاء ثائرة من مجتمع ضد الطبقات الحاكمة، نزاع بين المستغَلين والمستغِلين، بين المحكومين والحاكمين.
ففي قبرص مثلاً يمكن أن نرى بشكل سطحي، أن غريفاس حصل على جلاء البريطانيين بواسطة الابتزاز، وأنه لم يجبرهم على الرحيل. إن ذلك صحيح إذا نظرنا إلى مسألة من اتجاه معين، لكن يجب رؤية الأمور جيداً، ومن جميع الزوايا. إن غريفاس ومجموعته الصغيرة من الإرهابيين لم يكونوا ليقدروا على تحقيق تلك النتيجة، دون المعونة الإيجابية والسلبية للأغلبية العظمى من القبارصة، ولقد كانت (إيوكا) تشكل تعبيراً عن الإرادة الشعبية، لذا فإنه لم يكن بوسع البريطانيين البقاء، إلا إذا شنوا الحرب على كل السكان. ففضلوا الرحيل، تماماً كما حصل في أيرلندا.
وهناك أمثلة أخرى أكثر وضوحاً. فلم يكن باتيستا قادراً على قتال الثوار دون أن يقاتل الشعب الكوبي. وفي النهاية، ظهرت موارده غير كافية لهذا العمل، فانهار نظامه.
ولقد حاول الفرنسيون الاحتفاظ بمصالحهم في الهند الصينية والجزائر، فحملوا السلاح ضد الإرهابيين، ووجدوا أنفسهم في كلتا الحالتين، يشنون معارك خاسرة مسبقاً، ضد المد الصاعد للانتفاضة الشعبية. وكان بإمكانهم من الناحية النظرية إخضاع الجزائر (كما جرى ذلك قبل قرن)، عن طريق إنفاق مال أكثر، وتجنيد قوات أعظم، وتبنى أساليب أكثر صرامة. ولكن هل كان بإمكانهم فعل ذلك في العام 1962؟ كلا، لأسباب اقتصادية وسياسية داخلية، وبسبب الموقف العالمي. ويمكننا أن نتساءل: ترى هل كان النجاح يستحق العناء المطلوب لتحقيقه، حتى لو كانت الإرادة والوسائل متوافرة لتحقيقه.
هنا تكمن المسألة الحاسمة في عصرنا، في كل النزاعات بين القدرة العسكرية والانتفاضة الشعبية. وتواجه الولايات المتحدة اليوم هذه المسألة، أو أنها ستواجهها غداً.
إن سيطرة دولة ما على مستعمرة، يستهدف استغلال هذه المستعمرة اقتصادياً، أو الإفادة منها لخدمة هدف سياسي. ولا تقوم أي دولة بدعم نظام سياسي أو اقتصادي ضد آخر، إلا لأنها تنتظر الحصول على فوائد من النظام المدعوم. فالحكم هو جمع ثمار السلطة السياسية، مهما كانت طبيعة هذه الثمار.
ومع ذلك، وفي عصرنا هذا، لم يعد بالإمكان استعمار أو حكم بلد ما، أو تكريس سلطة حكومية محلية عميلة –وبقول آخر استغلالها– دون موافقة المستغلين، فبقتلهم يقهر المستعمر نفسه، في حين أن استعبادهم صعب، إن لم يكن مستحيلاً في إطار الحقائق السياسية والاقتصادية الحالية. وهذا هو ما يضمن نجاح أية حركة تحرير شعبية بعد انطلاقها. وهذا هو أيضاً المأزق الذي يجد واضعو السياسة الأمريكية أنفسهم فيه، منذ بدء تعاملهم مع حروب العصابات المعادية للولايات المتحدة.
ففي القرن الماضي، استطاعت الحكومة سحق القبائل الهندية في أمريكا الشمالية، لأن هذه القبائل لم تكن تتمتع بأي وزن سياسي أو اقتصادي، كما أنها كانت تشكل أقلية غير ذات أهمية، وبعيدة عن السكان البيض من كل وجهات النظر. فقد كان المطوب هو الحصول على أراضي الهنود وليس على يدهم العاملة أو تجارتهم أو تعاونهم. وأمكن في النتيجة القضاء عليهم بدون أي ضرر. لقد كان ذلك مطلوباً حقاً، من وجهتي النظر الاقتصادية والسياسية، ولهذا تحقق.
بيد أن الأمور تغيرت. والمطلوب اليوم هو اليد العاملة، وما تنتجه. وليس للمواد الأولية، الموجودة في المناطق النامية، أية فائدة بالنسبة إلى الدول الصناعية الكبرى، بدون الجهد البشري الذي يجعلها قابلة للاستعمال (النحاس في تشيلي والنفط في فنزويلا بالنسبة للولايات المتحدة مثلاً). وتتطلب القواعد الاستراتيجية خدمات السكان المحليين وتعاونهم، كما أن الصناعة بحاجة إلى أعداد هائلة من اليد العاملة، وإلى أسواق هامة ومتزايدة أكثر فأكثر حتى تصرف منتجاتها.
في مثل هذه الظروف، يكون إخماد تحركات المقاومة الشعبية بالقوة عملاً ضاراً. فإذا كانت القوة غير كافية نمت المقاومة، وإذا تجاوزت الحد الضروري أدت إلى تدمير غايتها، وكانت أشبه بقتل الحصان لأنه رفض أن يجر العربة.
وعند تبَنّي حل التدمير، فإن ذلك لا يكون إلا لسبب هو: حرمان طرف ثالث من هدف النزاع. وينطبق هذا الوضع على فيتنام الجنوبية، التي لا تمثل في حد ذاتها، قيمة الولايات المتحدة، إلا إذا كانت قيمة سلبية، باعتبارها إهراء للأرز الذي لا بد من منعه عن الصينيين الجائعين.
إن الخيار القائم في فيتنام واضح تماماً: إذا تعذر علينا إقناع السكان الثائرين يتبَنّى حل مقبول من الأمريكيين (والأمل في تحقيق ذلك معدوم تقريباً)، لا يعود أمامنا سوى أن نخوض حرب استعباد ضد الشعب الفيتنامي، بالاشتراك مع من بقي من عناصره حليفاً لنا، أو أن نبحث عن حل يقبله هذا الشعب، وذلك بأن نمهد للمفاوضات مع الفيتكونغ، أو أن نترك كل شيء نهائياً، فيجد الفيتناميون الحل بأنفسهم.
وهناك احتمال رابع، وهو في جوهره بديل مضخَّم عن الأول وتستطيع الولايات المتحدة بموجبه أن تغير صفة الحرب، أو على الأقل صفتها الظاهرية، وذلك عن طريق توسيعها، الأمر الذي يعني الهجوم على هانوي وبالتالي على الصين. فإذا ما شنت الولايات المتحدة هذه الحرب، وبعد إعطائها التقديم المناسب، فقد تبدو عندها مبررة أمام الشعب الأمريكي وحلفائه، وبالرغم من المخاطر الضخمة والنفقات التي يتطلبها ذلك، في حين لا يمكن تبرير حرب تسير إلى الضياع وعلى مسرح فيتنام الضيق. ففي إطار حرب عامة، لا شك أن شطري فيتنام الشمالي والجنوبي سيصبحان محتلين، وموضوعين تحت الحكم العرفي، وعندها يمكن تصفية الحركة الشيوعية بقوة عسكرية ساحقة.
وماذا بعد ذلك؟ إن احتلال جنوبي شرقي آسيا (لأنه لا يمكن الاقتصار على فيتنام) يشكل، من حيث الأعداد والوسائل التي يتطلبها، عبثاً لا يمكن أن يحتمل، بالنسبة إلى الاقتصاد والناخبين في الولايات المتحدة، ولن تكون أية فائدة معقولة باستثناء إمكانية استخدام جنوبي شرقي آسيا كقاعدة ضد الصين في الحرب التي ستلي ذلك. ولم الحرب، ولأية غاية؟ إن النزاع الهائل، والطويل، والعبثي، الذي ينتج عنها، حتى لو فرضنا أنه بقي محصوراً في آسيا –الأمر الذي لا يمكن التأكد منه– نزاع يتجاوز التصور، ولو قارناه بالحرب الكورية الدامية والمكلفة، لبدت أحداث كوريا، كلعبة أطفال.
ما هو مستقبل حركات العصابات الثورية في الأنحاء الأخرى من العالم؟ لقد ظهر في البداية، في إفريقيا السوداء أن نهاية الاستعمار الأوروبي وولادة الجمهوريات تشكلان افتتاح عهد من التقدم السلمي. ثم تبيّن فيما بعد أن اختفاء الاستعمار من معظم أجزاء القارة، لم يكن النهاية، بل كان بداية النزاع الثوري، الذي يهدف إلى تدمير كل المصالح الأجنبية، الغربية على الأقل.
وكثير من الأمم الإفريقية الجديدة، إن لم يكن معظمها، بقي مؤقتاً ضمن الفلك الغربي. أي أن هذه الأمم بقيت خاضعة للنفوذ أو للإشراف السياسي والاقتصادي لأسيادها الاستعماريين القدامى، أو الكتلة الصناعية الغربية بمجموعها، وبقية حكوماتها، في الوقت الحاضر، مؤيدة للاتفاقات التي تسمح للغرب الصناعي باستغلال الموارد الطبيعية والبشرية في إفريقيا.
وفي أمكنة أخرى من القارة، استمرت أقليات استعمارية على تقلد زمام الحكم.
وفي الدول الإفريقية كلها، بلا استثناء، يبدو أنه من الممكن أن نؤكد، بأن انتشار الثورة بواسطة حرب العصابات، كالنار تحت الرماد، ليس عبارة عن احتمال فقط، بل هو شبه حقيقية، وذلك بقدر ما تكتشف الشعوب البدائية، التي تشكل الغالبية العظمى، أثناء خروجها من مرحلة القبلية، بأنها لا يمكن أن تُحكم، أو أن تستغل بدون رضاها.
وما هو صحيح بالنسبة إلى إفريقيا السوداء، ينطبق أيضاً على الجزء الأعظم من آسيا، وعلى البلاد العربية، والأهم من ذلك بالنسبة إلى الولايات المتحدة هو أنه ينطبق على أمريكا اللاتينية كلها تقريباً.
وتحتوي المناطق النامية من الكرة الأرضية، على أهم الموارد المادية العالمية غير المستغلة، المواد الأولية الضرورية للصناعة. ولذلك تقوم القوى الصناعية بالتنازع عليها. وتحتوي هذه المناطق أيضاً على الجزء الأعظم من سكان العالم، وأكثر سكان الأرض جوعاً. وتتزايد بالتالي متطلباتهم عاماً بعد عام.
كيف يمكن فرض الوصاية على هؤلاء السكان المتزايدين، والذين يزداد جوعهم أكثر فأكثر، والذيـن يعون بشكل متزايد حقيقة الثروات المحيطة بـهم، ويتعلمون دروس حرب العصابـات –وهم يتعلمونها– بسرعة؟ إن فرض الوصاية في هذه الحالة غير ممكن.
وفي الماضي، كان أي استعمار، أو أي حاكم محلي، أو أي قوة من الدرك قادراً على القيام بذلك. ولقد برهنت الثورة الكوبية بأنه لا يمكن فعل ذلك أبداً، بعد أن تنمو حركة عصابات ثورية مصممة، وحتى الجيوش الممكنة للدول الصناعية فإنها غير قادرة. وقد ظهر البرهان على ذلك في فيتنام والجزائر. وتُسهّل الأرض، وتوزيع السكان، وطبيعة الصراع المحددة بأهداف الصراع ذاتها، عمل الثوريين الموجودين بحكم القوة.
وغداً، ستنبثق في إفريقيا وآسيا وجنوب أمريكا، جيوش العصابات، من جموع المعدمين، والفلاحين الجائعين وسكان الأكواخ المدينية، أي من بين أولئك الذين يمتلكون الشرط الأول لحرب العصابات: وهو: أنهم لا يملكون شيئاً يفقدونه إلا حياتهم.
وسينطلقون من اليد العاملة المنتجة في البلدان الخاضعة أكثر من غيرها للاستغلال. وهنا تكون المعركة نصف ظافرة، سلفاً، لأن من المتعذر الحصول على العمل بقتل العمال.
وسيقاتل الثوار على أرض يعرفونها جيداً، وتلائم نشاطاتهم الثورية في الجبال والغابات، والمستنقعات، حيث ليس للدبابات والمدافع والطائرات سوى أثر ضئيل. وسيتوافر لديهم التمويه الطبيعي، ومصدر التموين، ومصلحة استخبارات من السكان الذين ينتمون إليهم، وحيث لا يمكن القضاء عليهم بدون إبادة الاقتصاد والموارد، التي تشكل بالضبط غايات الصراع.
كيف نقاتل ثوار العصابات المنتشرين في كل مكان؟
لو استطاع التفوق التكنولوجي أن يفعل ذلك، لانتهت الحرب في فيتنام منذ أمد طويل. فالولايات المتحدة تنفق فيها مبالغ خيالية، وهي تخسر الآن هذه الحرب، أمام عدو أقل عدداً، ومجهز بشكل سيء، لأن الغنى التكنولوجي، على القوى الشعبية، التي تستعمل تكتيك حرب العصابات، على أرض مألوفة لديها، وبين سكان يؤيدونها.
وعلى كل حال، فإن فيتنام لا تمثل إلا مسرحاً محدوداً. ومع هذا، فإن كلفة الحرب فيها مرتفعة جداً، فماذا يحدث لو امتد الحريق إلى كل جنوبي شرقي أسيا، واشتعلت في إفريقيا بسكانها المائتين والخمسين مليوناً من السكان، ووصلت إلى أمريكا اللاتينية، حيث يتواجد نفس المقدار من الجائعين والهائجين؟
وتشكل أمريكا اللاتينية، أو لا بد أن تشكل؛ الهم الأساسي للولايات المتحدة. فهي تحتوي بشكل كامن، على كل عناصر الثورة، التي يمكن أن تؤثر جذرياً على اقتصاد أمريكا الشمالية، ومكانة الولايات المتحدة بين الدول العظمى، في السنوات القليلة المقبلة.
فعلى بابها الخلفي، وعلى ما يقرب من عشرة آلاف كيلومتر، من (ريوغراند) إلى، (أرض النار)، تمتد ساحة معركة الغد، إنها قارة من الدغلات الكثيفة، والغابات العذراء، والجبال الشاهقة، والسهول القاحلة، والأكواخ المدينية، التي تضم كل العنـاصر –الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية والاقتصادية والديموغرافية– اللازمة لثورة عنيفة.
فإذا كانت الأسلحة الأمريكية عاجزة عن سحق الانتفاضة في فيتنام الجنوبية، حيث يعيش ستة عشر مليون نسمة فقط، فكيف بإمكانها أن تتفوق في البرازيل على سبيل المثال؟ حيث يتجاوز عدد السكان 75 مليون نسمة، حيث تغطي الغابات العذراء نصف مساحة البلاد، التي لا تقل عن 8.215.680 كيلومتراً مربعاً.. وليست المسألة أكاديمية تماماً، فلقد وصلت البرازيل سابقاً إلى عتبة الثورة، ولدى جيرانها نفس القوة التفجيرية الكامنة.
وإذا كانت الولايات المتحدة عاجزة عن جمع الأعداد الكافية لاحتلال جنوبي شرقي آسيا –ويدل الاحتجاج المنبعث في الكونغرس، عند كل إعلان عن خسائر عسكرية جديدة، على المأزق السياسي– فكيف يكون بإمكانها احتلال جبال (الأنديز)، التي يبلغ طولها 6500 كيلومتر؟ ومع ذلك، فإن هذا ما يجب عليها مواجهته، إذا انتشرت الأفكار السائدة في جنوبي شرقي آسيا، إلى منطقة أشد قرباً منها، وأكثر حيوية بالنسبة إليها.
وتوجد نفس الخمائر الثورية، لكن بدرجات متفاوتة، في جمهوريات أمريكا اللاتينية العشرين، من المكسيك حتى الأرجنتين، كما توجد نفس التفاوتات الفاضحة في توزيع الثروات، ونفس الأكواخ البغيضة، والبطالة، وفساد الحكومات التي تدّعي الديمقراطية، ونسبة مواليد مرتفعة تفوق كثيراً معدل التقدم الاقتصادي. وفي كل مكان، تشكل الرغبة الشعبية الواسعة في التقدم، الدافع الأقوى للعمل السياسي.
فالهنود الحمر في غواتيمالا –الذين لا يمتلكون الإسبانية أو بعضاً منها الذين يعيشون في أدنى مستوى– يشكلون ثلثي السكان. ويسيطر الملاك العقاريون والإقطاعيون، ومن بينهم (شركة الفواكه المتحدة الأمريكية)، على كل الزراعة التجارية في البلاد. أما الجيش الذي يحمل ثلث ضباطه رتبة عقيد (أعلى رتبة عسكرية عندهم)، فإنه يقوم بقمع أعمال الشغب الطلابية، والتي تنفجر من آن لآخر في العاصمة، فتمتلئ السجون بالمعتقلين السياسيين.
أما الانقلاب الموحى به من قبل الولايات المتحدة، والذي أدى إلى قلب حكومة (جاكوبو أربينز) في العام 1954، فقد ألغى الإصلاحات الاجتماعية –البسيطة التي كان قد بدأها النظام اليساري– ولكن لم يحمل أي علاج للآفات، فاندلعت حرب العصابات في البلاد.
وفي السلفادور، تحتل بضع ملكيات شاسعة، من مزارع الموز والبن، نصف الأراضي القابلة للزراعة و80% من المزارع الصغيرة التي تقل مساحة الواحدة منها عن ستة هكتارات، أما المائتا ألف فلاح الذين يعيشون فيها، فإنهم يحصلون منها بصعوبة على ما يسد رمقهم.
وفي عام 1954، قدّر الدخل السنوي الفردي في الأكوادور بثمانمائة فرنك (فرنسي)، لكن ثلثي العائلات كانت تكسب أقل من ستمائة فرنك. أما في تشيلي الغنية بالموارد المنجمية، فإن أكثر من نصف السكان الريفيين يعيشون على دخل عائلي سنوي يتراوح بين 500 و 580 فرنكاً. وفي الإقليم الشمالي من البرازيل، حيث يسود الجفاف، فإن الدخل الفردي يصل إلى 375 فرنكاً.
وفي أمريكا اللاتينية كلها، انتشر الاحتكار بشكل جعل 10% من الملاك يمتلكون 90% من الأرض. وتصل مساحات (اللاتيفونديا) (المزارع الشاسعة) إلى عدة آلاف من الهكتارات، يزرعها عاملون يعيشون في أكواخ وبيوت صغيرة، ويتقاضون أجوراً زهيدة، هذا إذا دفعت لهم. أما العشرة بالمائة الباقية من الأرض، فهي مجزأة إلى عشرات الألوف من (المينيفونديا) (المزارع الصغيرة)، وهي صغيرة بحيث لا يمكن أن تعطي ربحاً فائضاً يسمح بشراء الأسمدة، أو الآلات الزراعية أو الوسائل الأخرى اللازمة لتحسين الإنتاج.
ويعيش ملايين الريفيين في جنوب أمريكا دون أن يبيعوا أو يشتروا، وعلى هامش مجتمع ليس لهم فيه حصة أو صوت. أما في الغابات الاستوائية، حيث يعيش مئات الألوف من الناس على إحراق جزء آخر بعد أن تفقد الأرض الأولى خصوبتها، وذلك طبقاً لقاعدة قديمة استخدمت قبل قدوم الفاتحين بزمن طويل.
ويدفع النمو السكاني (الديموغرافي) والمجاعة مئات الألوف من الفلاحين للبحث عن عمل في المدن، وينشأ عن ذلك شكل جديد من المعدمين. وفي ريو دو جانيرو، يطلقون اسم (فافيلاس) على الجحور القائمة على حافة المرتفعات المحيطة بالمدينة، وهي منضدة بعضها فوق البعض الآخر، ولا ماء فيها، وتحتوي على مائتين وخمسين ألفاً من السكان، وتشكل غابة بشرية، لا تجرؤ الشرطة على دخولها. وتدعى الجحور في سانتياغو دو تشيلي (كالامباس) أي الفطر. أما في ليما (البيرو)... ، واسمها في كاراكاس (فنزويلا) هو (رانشوز). وكل هذه المصطلحات تعني تجمعات بائسة، تجتاحها الأمراض، وتعبث فيها الجرذان، ويعيش بدون قانون، وفي مستوى إنساني متدنٍ، وليس لها أي مستقبل أو أمل، سوى الأمل باندلاع الثورة.
ولا تولد الثورة من مجرد الفقر، ولكن التقدم، يؤدي إلى تشكيل مزيج جديد، هو الأمل بتغير اجتماعي. ويتعزز هذا الأمل بفضل التعليم الأولي، فيولد عن ذلك عنصر اجتماعي جديد، هو الفقير الطموح، الفقير الرافض المتمرد. ومن هؤلاء الفقراء تشكل كوادر الثورة التي ليس لديها ما تفقده وترى حولها الكثير مما يمكنها أن تكسبه.
فبدون شعارات ثورية واضحة، وبدون قادة محركين ومقنعين، وبدون تنظيم سياسي، عاشت أجيال من سكان الأكواخ، وماتت في البؤس، وحرثت أجيال من الفلاحين الأرض، ولم يندلع سوى عدد قليل من الثورات الحقيقية.
ماذا تغير في أمريكا اللاتينية في القرن العشرين؟
أولاً، لقد أضحى الفقراء أشد فقراً، وأكثر عدداً وأكثر يأساً. وحدثت زيادة في السكان لا مثيل لها، وكانت في الحقيقة انفجاراً سكانياً، أدى إلى تناقص الدخل الفردي وإمكانات السكن، ونقصان السلع الاستهلاكية، وفرص العمل، وماء الشرب. ففي فنزويلا مثلاً، وصلت الزيادة في السكان خلال 10 سنوات، إلى مليون ونصف من البشر، أي بمعدل 30%. وفي البرازيل ارتفع عدد السكان في الفترة (1945-1955) من 25 مليوناً إلى سبعين مليوناً، ثم وصل في العام 1963، إلى 75 مليوناً، أي أن الزيادة وصلت إلى 44% خلال 18 عاماً. ومن العام 1951 إلى العام 1961، ازداد عدد سكان جمهوريات أمريكا اللاتينية العشرين، من 163 مليوناً إلى 206 ملايين نسمة تقريباً، أي بمعدل أربعة ملايين كل سنة، ومن المقدر أن يصل عدد السكان إلى 265 مليوناً في العام 1970 .
أما التوسع الاقتصادي، فلقد بقي متخلفاً جداً، إذ ازداد الانتاج العام سنة 1960، بمقدار 0.3% فقط، ونقص الانتاج الزراعي بنسبة 2%، بينما ازداد عدد السكان بمقدار 2.8%.
وتغنينا هذه الأرقام عن التعليقات. ففي أمريكا اللاتينية، وفي كل يوم، هناك أفواه جائعة أكثر، لا بد من إطعامها بكمية من الغذاء أقل نسبياً. ومع ذلك، وهذا هو الغريب في الأمر، فإن طلبات الناس تزداد بدلاً من أن تنقص.
ويرجع ذلك إلى أن الفقراء قد ازدادوا فقراً، إلا أنهم ازدادوا وعياً، بالثروات التي تحيط بهم وبالإمكانات التي يمكنهم اقتسامها.
وفي نفس الوقت الذي حصل فيه الانفجار السكاني، حدثت ثورة في وسائل الاتصال، ونتج عن ذلك ما سُمي (بثورة الآمال المتزايدة). ففي ريو دي جانيرو انتصبت غابة من هوائيات التلفزيون فوق الأكواخ. صحيح أن سكان الجحور بائسون، لكن ذلك لم يمنعهم من رؤية التطورات الصناعية الهامة التي تحيط بهم، أو من سماع الوعود التي تمنحها لهم البرامج المعدّة باسمهم. ولقد بدأوا يفقدون صبرهم، لأن هذه الوعود لا تتحقق.
ففي معسكرات العاملين في الجزء الشمال الشرقي من البرازيل، تحدثهم الإذاعة عن الثورة الكوبية، وعن المعارك في فيتنام الجنوبية، وعن أعمال الشغب في بناما وهارلم. والعاملون في المزارع الكبرى فقراء، لكنهم لا يجهلون ما يمكن لرجال مثلهم أن يفعلوا، وما يمكن أن يحققوا من نتائج.
ولا يخلق ذلك الوعي طبقة ثورية، بل قاعدة ثورية. والتقدم الاقتصادي –وإن كان محدوداً– يشكل في حد ذاته قوة ثورية. والتثقيف الشعبي الذي ينتشر ببطء، يحفز الطموح والتنافس الاجتماعيين. كما أن التجارة والصناعة، حتى لو كانتا على نطاق محدود، فإنهما تسببان حركة اجتماعية. ويناضل أغنياء جدد، إلى جانب النخبة القديمة، من أجل الوصول إلى السلطة. وتتشكل طبقة وسطى. ويظهر القادة الثوريون قبل كل شيء، بين موظفي المكاتب والمستخدمين المحتقرين من الطبقة الوسطى والنخبة معاً. وبما أنهم غير قادرين على الانضمام إلى قضيتهما، أو الطموح إلى ميزاتها، فإنهم يتبعون الطريقة الوحيدة المفتوحة أمام طموحهم: المعارضة الاشتراكية، ويجعلون من أنفسهم مدافعين عن الفقراء والمحرومين.
وهكذا يخلق انتشار الفقر قاعدة ثورية، ويقدم التطور القادة ودوافع العمل، وتبرز من جراء ذلك، منظمات سياسية، وتمدها الظروف الاجتماعية بالشعارات. ونظراً لوجود القهر الاجتماعي والاقتصادي الذي يسود أمريكا اللاتينية، فإننا لن نفاجأ عندما نلاحظ بأن القاعدة الأيديولوجية (الفكرية) لمعظم حركات المعارضة هي ماركسية وقومية في الوقت ذاته، ومعادية للولايات المتحدة.
ونظراً لما للولايات المتحدة من استثمارات، ولسيطرتها على الصناعات الحيوية –من حيث سعر المبيع للمواد الأولية وسعر شراء المنتجات المصنعة– ولتدخلاتها المتعددة في السياسة الأمريكية اللاتينية، فإنها تلعب دور (القبيح).
وبالإضافة إلى ذلك، فقد كشفت واشنطن بوضوح عداءها لحركات التحرر، منذ اندلاع الثورة الكوبية، عندما أعلنت عن نيتها بالتدخل عسكرياً إذا لزم الأمر، لمنع الشيوعيين من (استلام السلطة)، في نصف الكرة الغربي.
ويعرف الأمريكيون اللاتينيون جيداً، بأن كل تغير قادر على الإساءة إلى المصالح الاقتصادية والهيمنة السياسية الأمريكية، سيعتبر بمثابة استيلاء على السلطة، من قبل الشيوعيين –نظراً لأن تعابير الشيوعية، والاشتراكية، ومعاداة الامبريالية، متشابهة تقريباً في مفردات لغة الشمال الأمريكي– ولذلك يبدو واضحاً بأن الحرب قد أُعلنت.
ولقد حدثت المناوشات الأولى فعلاً. فحركات حرب العصابات موجودة، منذ زمن طويل في فنزويلا وغواتيمالا وكولومبيا، وهي تشتد حيناً وتضعف حيناً آخر. ولقد أُشير إلى عدة اضطرابات في بوليفيا والتشيلي والبيرو، وفي الأرجنتين، وستتلوها حوادث أخرى حتماً. فالمليونان من بطاقات الاقتراع، البيرونية، في الأرجنتين، خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، لا يمكن اعتبارها بمثابة أصوات ثقة، في مراكز السلطة التي توجهها الولايات المتحدة أو في أوساط (الحلف من أجل التقدم)، وهو حلف طموح، ولكنه بطيء في أفعاله، رغم كل نواياه الحسنة.
إن القول: بأن أمريكا اللاتينية تقف اليوم على عتبة الثورة، قول فيه شيء من المبالغة. فلقد كان للحلف من أجل التقدم (رغم أخطائه) أثر نافع في بعض المناطق، كما أن التدخل الأمريكي، نجح مؤقتاً في منع البرازيل من الانزلاق، نحو اليسار. والشيوعيون الأمريكيون اللاتينيون منقسمون، مثل الأحزاب الشيوعية الوطنية في العالم الغربي. وقد كان من المتوقع، أن يقدم الشيوعيون قادة للحركات العمالية، والفلاحية، لكنهم مشلولون بسبب واقعهم المحافظ، وقصورهم، ودوغمانيتهم. ولقد تفاهموا في كثير من الحالات مع الحكومات القائمة واكتفوا بالحد الأدنى من النشاط. أما التجاوب الذي حصل عليه الفيدليون في البداية، فلقد خبا تدريجياً لأن الثورة الكوبية لم تحقق كل وعودها. وكثير من الذين كانوا يتعاطفون مع فيديل كاسترو لأنه تحدى العملاق الأمريكي، ويتعاطفون مع المحن التي عانت منها الجزيرة المحاصرة، ابتعدوا عن كاسترو بسبب تحالفه مع موسكو، ومساهمته في الحرب الباردة. وكانت أزمة الصواريخ في تشرين أول 1962، بمثابة درس جيد في هذا المضمار. وقد خاب أمل الطبقة الوسطى في أمريكا اللاتينية، بعد أن رأت ما حلّ بالطبقة الوسطى في كوبا، بعد الانتصارات الأولى للثورة.
ومع هذا، فإن وجود قاعدة وخمائر ثورية في أمريكا اللاتينية حقيقة لا جدال حولها. فبذور الانتفاضة الشعبية منتشرة في كل الاتجاهات، ويستطيع الناس جميعاً أن يتعلموا تقنياتها. وقد لا تكون الثورة على نطاق واسع، وشيكة الوقوع، لكنه من الممكن القول بأن الولايات المتحدة، ستجد نفسها، خلال السنين العشرة القادمة، أمام معارضات جسيمة لاتجاهها السياسي، وأمام تهديدات لمصالحها الاقتصادية، وربما كذلك لأمنها في نصف الكرة الغربي... وفي مختلف أنحاء العالم الثالث. وقد تصبح أمريكا الوسطى فيتناماً أمريكية منذ الغد، كما قد تنقلب البرازيل إلى كونغو، وتتحول فنزويلا إلى جزائر، وتصبح جبال الأنديز (حسب تعبير فيديل كاسترو) (سييرا ماسترا) أكثر اتساعاً.
فكيف نمنع ذلك؟
إن حالة التخلف السائدة في المنطقة، ونسبة المواليد المرتفعة تجعلان المشاريع الاقتصادية، المماثلة لمشروع (الحلف من أجل التقدم) مجرد مسكنات، لا ترتقي إلى مستوى العلاج الجذري. ويشكل الإصلاح الزراعي الخطوة الأولى، ويأتي التصنيع بعده؛ وهو مستحيل بدون إيجاد الأسواق، ومحو الأمية، ووجود استثمارات ضخمة، وعلى نطاق واسع لم يُعرف من قبل.
وقبل التفكير في هذه الخطوات العملاقة، لا بد من تغيير سياسي جذري. فطالما أن الولايات المتحدة الأمريكية، متحالفة مع حكومات فاسدة ومستبدة ولا تمثل الشعب، وطالما أنا تدافع عن المصالح المستثمرة في أمريكا اللاتينية، وخاصة المصالح الأمريكية، فإن المرجل سيبقى مغلقاً، وسيزداد الضغط الثوري في داخله، حتى يحدث الانفجار المحتوم.
إن من الممكن حقاً، دعم حكومات ديكتاتورية بالمساعدة الاقتصادية والعسكرية، كما يمكن الحصول على التعاون بالرشوة والإكراه الاقتصادي، وخنق الحركات الثورية في المهد (وتلك هي اللحظة المناسبة للقضاء عليها)، لكن الظروف تبقى على حالها، وستولد حركات أخرى بالتأكيد.
من هنا نرى، أن من الضروري التصدي لمشكلة العلاقات مع أمريكا اللاتينية، من زاوية جديدة كلياً.
ولكي نبدأ في ذلك، ينبغي التخلي عما يسمى بالعون العسكري؛ تلك الرشوة المعطاة باسم الدفاع عن نصف الكرة، لاكتساب ود الأوليغارشية الحاكمة، التي لا تحتاج للدبابات أو الطائرات إلا من أجل تخويف الشعوب، التي تدّعي تمثيلها.
أما الخطوة الثانية –وهي منطقية أيضاً، لكنها شديدة الصعوبة، بسبب الحقائق الداخلية في الولايات المتحدة– فتتمثل بإعلان نظام جديد للتعامل الاقتصادي مع أمريكا اللاتينية، يضع حداً للعلاقات التجارية المخادعة، والأحلاف التجارية وحيدة الجانب، والابتزاز الاقتصادي، التي يستخدمها صناعيو أمريكا الشمالية، من أجل السيطرة على الأسواق والمستهلكين في أمريكا اللاتينية.
أما الخطوة الثالثة، وهي الأكثر راديكالية وصعوبة، فتتمثل في (احتضان الثورة).
إن من المتعذر إلغاء الثورة، ولكن بالإمكان توجيهها، وليس من الخطأ العمل على توجيهها في منحى يجعل أضرارها قليلة ما أمكن.
من المتعارف عليه في أمريكا اللاتينية، أن أبناء الطبقة الوسطى وطبقة المستخدمين من (ذوي الياقات البيض) يمارسون القيادة الثورية في أكثر الحالات، توجيه حركة شعبية نحو طريق بورجوازية أو ليبرالية، تقوم على قاعدة من الاشتراكية المحدودة تقودها حكومة ترفع يافطة الاشتراكية، وتنفيس الضغط الثوري ببعض الإصلاحات الجذرية، التي يعتبر الإصلاح الزراعي أكثرها ضرورة وإلحاحاً.
فإذا لم يتحقق هذا الحل، يبقى الخيار محصوراً بين الاشتراكية الديمقراطية والماركسية–اللينينية بأشكالها المختلفة.
وعندما نتأمل التجربة الكوبية نجد بأنه منذ العام 1958، لم تتخذ الولايات المتحدة في أية مرحلة اختيارات مستقبلية خلاقة.
ففي العام 1957، وطوال العام 1958، كان بإمكان واشنطن خنق الثورة الكوبية بالتخلي صراحة عن باتيستا، وبتأييد، بل وبدعم الحركة الديمقراطية البورجوازية الليبرالية، التي كان يقودها فيديل كاسترو، ولو حدث ذلك، لاشتد ساعد العناصر الوطنية والليبرالية التي كانت تدعم كاسترو. وتناقص اعتبار المتطرفين المعادين للولايات المتحدة، وخاصة شيوعي (الحزب الاشتراكي الشعبي)، الذي لم يكن يتمتع آنذاك بشعبية مماثلة لشعبية (حركة 26 تموز).
وكانت إمكانية الخيار موجودة في العام 1959، وخلال جزء كبير من العام 1960. إلا أنه كان من المتأخر جداً إجهاض الثورة. وكانت الإجراءات الأمريكية الإيجابية آنذاك تتطلب تضحية بمصالح مالية كبيرة، على اعتبار أن تطبيق الإصلاح الزراعي من قبل الفيديليين كان ضرورة جلية، وتنفيذاً لوعد لم يكن بالإمكان التخلي عنه. ولو أن واشنطن ساعدت ذلك العمل بدلاً من الوقوف في سبيله، لكان تصرفها دليلاً على الفطنة. وقد كان من الممكن أن يتم الاستيلاء على ممتلكات أمريكية أخرى. ولكن إضفاء الطابع الاشتراكي على الاقتصاد الكوبي، كان سيؤدي –في أسوأ الحالات– إلى خسارة مالية محدودة، بينما تبقى مصالح هامة أخرى سليمة، كالحفاظ على سوق كانت بالنسبة للأمريكيين آنذاك في المرتبة السادسة من حيث الأهمية والحفاظ على علاقات تجارية ومصرفية مجزية جداً، وبالإضافة إلى تموين بالسكر ثابت ومضمون، وأخيراً وبشكل خاص، الحفاظ في بحر الأنتيل على جار ودود، بدلاً من خلق قاعدة معادية للحرب الباردة.
إن الاندفاع في حملة الخنق الاقتصادي والديبلوماسي، لم يؤد إلى الانقطاع عن كوبا فحسب، بل أدى أيضاً إلى دفعها في الاتجاه الوحيد الذي بقي أمامها، وهو اتجاه الارتباط المباشر الوثيق بالاتحاد السوفياتي. وقد يقال بأن كاسترو وأنصاره كانوا يرغبون في السير على هذا الاتجاه، لكن ذلك لا يغير شيئاً من الحقيقة القائلة بأنه كان بالإمكان تغيير مسار الأمور، وكل الاعتبارات الجغرافية والاقتصادية تقود بالضرورة إلى هذه النتيجة.
فغداً، أو في السنة القادمة أو في السنة التي تليها، قد تتواجد خيارات مماثلة (وهي تبدو في الأفق منذ الآن) في بلاد نصف الكرة التي تعتبرها الولايات المتحدة وكأنها لها. ومن المؤكد أن الثورة لن تقتصر على بلد واحد أو بضعة بلدان، فهي في طور المخاض في كل بلدان العالم الثالث النامي، وكل شيء يتحرك في الاتجاه ذاته، بسبب الضغوط الاقتصادية والاجتماعية وتحت تأثير الضرورة السياسية.
فإما أن تلجأ الولايات المتحدة إلى التفاهم الضروري مع قوى الثورة، وإما أن تخاطر في النهاية بتدمير نفسها. ولا يعني التفاهم قبول المحتوم فحسب، بل يعني أيضاً مشاركته وذلك يتضمن:
• إعلان حرب ديبلوماسية واقتصادية على الأوليغارشيات الأمريكية اللاتينية (الزمر العسكرية الحاكمة في أمريكا اللاتينية)، كالحرب التي أعلنتها على كوبا، وقطع الصلات مع الأوليغرشيات التي تقاوم ذلك أو تقوم بالرد عليه.
• تقديم مساعدة فعالة إلى المجموعات الثورية –المختارة بشكل مناسب– بالأسلحة والأموال والمستشارين انطلاقاً من المبدأ القائل، أنه إذا كان برنامجنا الحالي الخاص بتقديم الدعم العسكري للديكتاتوريات، قيامنا بإسقاط الأسلحة بالمظلات في الاسكامبري، وإنزالنا في خليج الخنازير، عبارة عن أعمال تنسجم مع القانون الدولي، أو تشكل خرقاً مبرراً له، فإن بالإمكان تبريرها بشكل أفضل، عندما تتم الخدمة قضية أفضل.
• أن نعلن بصراحة تأييدنا للثورة، حتى نسحب البساط من تحت أقدام موسكو وبكين، ونقدم للعالم الثالث الوليد خياراً آخر غير نظام الماركسية–اللينينية، وغير الإمبريالية الغربية (التي تدعى قيادة العالم الحر).
ولا يزال هذا التوجه قابلاً للتطبيق بالنسبة إلى كوبا وحتى الآن. إننا نساعد تيتو، فلماذا لا نساعد كاسترو؟ وقد يبدو في ذلك تناقض لا بد من السعي إلى تبديده. من المؤكد أنه لم يكن لدى تيتو قواعد للصواريخ الذرية، لكنه لم يتعرض مطلقاً للاجتياح، ولم يكن بالتالي بحاجة إليها.
قد يكون بالإمكان ترك كاسترو وشأنه، على اعتبار أن كوبا المعزولة هي منزوعة السلاح. ولكن كوبا شيء وأمريكا اللاتينية شيء آخر. إنها قارة أكبر مساحة من قارتنا وأكثر سكاناً. وسيؤدي تخمرها عند استمراره إلى انفجارات كاسحة.
إن التصدي للثورة في نصف الكرة الغربي يعني التورط في حرب طويلة الأمد، وغير مجدية، ولا يمكن كسبها. وهو يعني اختيار أعمال الشغب، والإضرابات، وأعمال التخريب، والانتفاضات الدامية، والفوضى السياسية والاقتصادية على نطاق لم يسبق له مثيل، والتي ستبلغ أوجهها حتماً بمجموعة من حروب العصابات، تمتد من المكسيك إلى الأرجنتين، وتتطلب مواجهتها زج أعداد أكبر فأكبر من الجنود الأمريكيين، في هجمات عديمة الأهداف، ومعارك بلا انتصارات، وتضحيات بلا مقابل، تنتهي في آخر المطاف بهزيمة باهظة التكاليف.
إن مصالحة الثورة تعني التخلي عن الجزء الأعظم من العشرين مليار دولار المستثمرة في أمريكا اللاتينية –ذلك هو المتوقع–. كما أنها تعني التضحية بكثير من المميزات التي نحصل عليها، بفضل الاتفاقيات التجارية المخادعة، واليد العاملة المحلية التي يقوم عليها جزء كبير من رخائنا.
بيد أن بالإمكان اعتبار الخسارة المحتملة وكأنها نوع آخر من الاستثمارات، تعوض العشرين مليار دولار المخصصة لصالح (الحلف من أجل التقدم). وعلى المدى الطويل، تصبح المكاسب أعظم بكثير من أية كمية من الدولارات. وهي تتضمن قبل كل شيء الاحتفاظ بمدخل مضمون للمواد الأولية التي تعتمد عليها الصناعة الأمريكية بشكل كامل.
أما التجارة القائمة على قاعدة أكثر إنصافاً فإنها ستكون مضمونة، وسترافقها إمكانية توسيع الأسواق لمنتجاتنا المصنعة والزراعية، نظراً لارتفاع الأجور، وازدياد استهلاك الملايين من البشر المتحررين من العبودية والواصلين فعلاً إلى القرن العشرين.
إن كل هذا سيوفر عنصر الأمن الذي يبدو أنه يشغل بال صانعي سياستنا، فمن غير المعقول أن ترغب الولايات المتحدة في العيش داخل قارة مجزأة، يكُنُّ لها نصف سكانها العداء. إن الأمن الوحيد المحتمل يكمن في رخاء متبادل حقيقي، يقوم بالضرورة على عدالة اجتماعية، تكون الثورة في أمريكا اللاتينية.
إن أمامنا سبيلين: التقدم والرخاء والأمن من جهة، والكارثة الأكيدة من جهة أخرى. وليس لحرب العصابات سوى منفذ واحد هو الثورة، وليس لها سوى علاج واحد هو السلام. وقد يقول البعض أنه استسلام. وحتى لو صح ذلك، فإنه سيكون استسلام القوة أمام العقل. وهو استسلام قائم على الاعتراف بحقيقة راسخة، هي أنه لا يمكن استعباد أي شعب، إذا كان يعارض ذلك.
فهرس
الفصل الأول - 3 -
حول حرب العصابات - 3 -
والحرب المضادة - 3 -
ريح الثورة – الإرادة الشعبية هي مفتاح الاستراتيجية – - 4 -
المواجهة بين المالكين والمعدمين – أوهام الانتفاضة المضادة – - 4 -
حرب العصابات كامتداد للسياسة – الثغرات في درع الدول الحديثة - 4 -
الفصل الثاني - 27 -
جوهر حرب العصابات وهدفها - 27 -
حرب البرغوث – الأهداف السياسية والعسكرية – خلق مناخ - 28 -
الانهيار – تنظيم القوى الثائرة – رأي جيفارا عن حرب العصابات - 28 -
الفصل الثالث - 38 -
اندلاع الكفاح المسلح وتطوره - 38 -
(التجربة الكوبية) - 38 -
ولادة الانتفاضة وتطورها – الانتقال إلى الحرب - 39 -
الأهلية – الخيارات الأخرى – المثال الكوبي - 39 -
الفصل الرابع - 56 -
الحرب الطويلة الأمد - 56 -
(التجربة الصينية) - 56 -
الحرب الطويلة الأمد – القوى الشعبية ضد الجيوش النظامية – - 57 -
ثائر العصابات يقوم بدور المبشر – أقوال ماوتسي تونغ عن - 57 -
حرب العصابات – دروس من الصين. - 57 -
الفصل الخامس - 80 -
المقاومة ضد الفرنسيين في الهند الصينية - 80 -
(التجربة الفيتنامية) - 80 -
الحرب الاستعمارية والتجربة الفرنسية – استراتيجية وتكتيك - 81 -
فونغوين جياب – كيف انتصر الفييتمينة في الهند الصينية - 81 -
الفصل السادس - 103 -
التورط الأمريكي في فيتنام - 103 -
(التجربة الفيتنامية الثانية) - 103 -
الطابع السياسي للحرب الثانية في الهند الصينية – - 104 -
دور الأمريكيين – امتداد الحرب وآفاقها المحتملة - 104 -
الفصل السابع - 129 -
دروس من الانتفاضة المسلحة في أيرلندا - 129 -
حروب التحرير الوطنية وثمنها – القلاقل في أيرلندا - 130 -
ودور (البلاك والتانز) فيها. - 130 -
الفصل الثامن - 143 -
حول الانتفاضات الشعبية في شمال إفريقيا - 143 -
الانتفاضة في المغرب – انتفاضة تونس – الثورة الجزائرية - 144 -
الفصل التاسع - 150 -
حرب العصابات في قبرص - 150 -
الجنرال غريفاس وحرب العصابات في قبرص – الاستعمالات - 151 -
السياسية للإرهاب – أخطاء الاستراتيجية البريطانية. - 151 -
الفصل العاشر - 173 -
فشل حرب العصابات في - 173 -
الفلبين وماليزيا واليونان - 173 -
إخفاق حرب العصابات – ( ماغساي ساي) و (الهوك) - 174 -
في الفلبين – ثمن النصر البريطاني في ماليزيا – - 174 -
لماذا فشل الشيوعيون في اليونان. - 174 -
الفصل الحادي عشر - 192 -
مقومات حرب العصابات - 192 -
في المدن والأرياف - 192 -
فن الحرب من وجهة نظر صن تزو – مبادئ استراتيجية وتكتيك - 193 -
حرب العصابات – الأرض ودورها كعامل مؤثر – حرب - 193 -
العصابات في المناطق المدينية – صفة حرب العصابات - 193 -
الفصل الثاني عشر - 221 -
حرب العصابات في العالم الثالث - 221 -
والسياسة الأمريكية الجديدة - 221 -
حرب العصابات في العالم الثالث القاعدة الثورية – - 222 -
التوقعات المستقبلية للولايات المتحدة – مقترحات حول - 222 -
سياسة أمريكية جديدة في أمريكا اللاتينية. - 222 -
9 من الزوار الآن
916820 مشتركو المجلة شكرا