الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > وحــدة حركات التحرر في العالم
أ- الإدماج:
تستند هذه السياسة في عمقها إلى عصر الأنوار الذي تميز بالتسامح الديني والمساواة الطبيعية بين البشر، فبشأن النقطة الأولى، إعتقد أهل العصر بأن تعدد الديانات ليس سوى تباينا في طرق البشر في التعبير عن إعتقادهم في وجود إله مشرع أخلاقي، أي أن لكل أتباع ديانة معينة طريقتهم في فهم كيفية وجود هذا الإله، ومن ثمة فمن الضروري محاربة كل ما من شأنه أن يخلق الفروق بين الديانات كالتمذهب والسلفية... الخ. وبشأن الثانية، حاربوا كافة أشكال التمييز، حيث إهتم البيداغوجي السويسري بيستالوزي Pestalozzi مثلا بالأطفال الذين تخلى عنهم آباؤهم، وإهتم روبسبيار Robespierre باللقطاء وكل من بينال Pinel وكاباني Cabanis بالمجرمين والمساجين، ومن ثمة لم يعد هنالك أي مرض لا يقبل الإشفاء ولا أية عاهة أو إعاقة غير قابلة للتخطي ولا أي خطأ لا يقبل الصفح عنه.
كما تحدث عصر التنوير، من خلال رحلاته، عن عالمية الإنسانية واختلاف الثقافات من شعب لآخر، وقد كانت كتب الرحالة هؤلاء بمثابة ممهدات للدراسات الإثنولوجية التي ستظهر لاحقا، حيث تناولت خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر موضوع وجود "المتوحش الطيب" « le bon sauvage » بهدف قطع الطريق أمام الكاثوليكية التي كانت تحاول أن تهيمن على الأخلاق. وفي النصف الثاني، بدأت تتناول موضوع الإنسانية في حالتها الأولىAntérieure ، وذلك في زمن بدأت تتشكل فيه إيديولوجيا تقول بوجود مراحل لتطور البشرية من الحالة البدائية Primitivisme إلى الحضارة. وهكذا سمحت مثل هذه المعلومات بظهور مؤلفين مناهضين لاستبعاد الزنوج مثل الآب راينال L’Ablé Raynal الذي ألف، بمعية ديدرو Diderot، "تاريخ الهندين"* عام 1770، الذي شرح فيها بالحجج الإقتصادية ضرورة إلغاء أمر الإستبعاد، لأن العبودية والإستعمار إحدى شكلي الإستغلال الأكثر تخلفا. وفي 1788 ظهرت جمعية أصدقاء الزنوج في فرنسا، وأثناء الثورة الفرنسية، قال روبسيار: "فلتسقط المستعمرات !Prissent les colonies"، وكان عني نهاية الإستعمار، وقد أُلغي الإستعباد في 1794**، وقبل ذلك بثلاث سنوات، فَوَّض المجلس التأسيسي للمجالس الإستعمارية أمر منح حقوق الإنسان لأهالي المستعمرات، أي أن الثورة جاءت بنوع من التفسير لفكرة الإدماج.
وهكذا نشأت فكرة إجتثاث المستعمرات من بين مخالب الهمجية عن طريق نشر الحضارة في أوساطها، أي بإدماجها في الحضارة عن طريق مد القوة المهيمنة بمؤسساتها السياسة إلى المستعمرات.
كانت القوى الإستعمارية، التي تسودها الثقافة اللاتينية كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا والبرتغال أهم الدول التي نَفَّذت سياسة الإدماج، السياسة التي يقتضي نجاحها وجود المستعمرة في حالة إنقسام قبلي (أو على الأقل يسودها هذا التنظيم) حيث ينعدم وجود سلطة مركزية فيها (إفريقيا الإستوائية مثلا).
ب- الإشراك:
تتمثل هذه السياسة في احتفاظ القوة المهيمنة بالزعامات المحلية في المجتمعات التي عرفت تنظيما سياسيا واسعا كالدولة، ومنحها (أو التقاسم معها) جزءً من صلاحيتها وامتيازاتها، ويشترط في الإشراك إعتراف زعيم المستعمر بالسلطة الإستعمارية.
يبرر دعاة هذا النهج سياستهم هذه بمحاولة الإبقاء على الأرستقراطية التقليدية السائدة في المستعمرة وبالحفاظ على التقاليد المحلية، وتعد مجموعة الدول الإستعمارية الأنجلو- ساكسونية، كالمملكة المتحدة وألمانيا وهولندا وبلجيكا، أهم القوى التي عملت على إرساء هذه السياسة في مستعمراتها، علما أن لها جاليات كبيرة تقيم في تلك المستعمرات. وفي فرنسا ظهر عدد من دعاة هذه السياسة أمثال ليوطي Lyautey، غالييني Gallieni، بول بارت Paul BERT، كما تعد الجزائر نموذجا خاصا تعايشت فيه عدة سياسات ومنها الإدماج والإشراك.
ج- التسيير الذاتي في مستعمرات الإستيطان:
حين ظهرت الحاجة إلى تخصيص أكبر جزء ممكن من الميزانية لشؤون الوطن الأم، سمحت القوى الاستعمارية لمستعمراتها بأن تسير نفسها بنفسها. ويتعلق الأمر هنا بمستعمرات الإستيطان كالجزائر وكندا وأستراليا وزيلندة الجديدة، المستعمرات المأهولة بأعداد كبيرة من المستوطنين، الذين أخذوا يطالبون بالإنفصال أو الإستقلال، وقد كان إستقلال الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية أحد أشكال تطور السياسة الإستعمارية على هذا النحو، أي إمكانية إرتباط المستعمرة بالدولة التي استعمرتها إقتصاديا دون الإحتفاظ بعلاقات الهيمنة الإقتصادية؛ ومثال ذلك بريطانيا التي أبقت، بداية من 1848، على علاقات تبعية مستعمراتها لها ومنحت، إبان هذه السنة نفسها، كندا حكومة تمثيلية ثم تلتها أستراليا وزيلندة الجديدة وجنوب إفريقيا. وفي 1867 أنشأت ما يعرف بالدومينيون الكندي وشرعت بذلك في استبدال السياسة الإستعمارية الصرفة بسياسة توحد بين شعوب مستعمراتها بواسطة روابط ثقافية وحضارية وتجارية مع الوفاء للتاج البريطاني، أي ما سوف يصبح لاحقا كومنوالثًا Commonwealth. وباختصار، فإن مستعمرات الإستيطان هذه أخذت تتجه صوب نظام المساواة داخل الكومنوالث وفق تطور دستوري تدريجي.
د- الانتداب:
هو منح عصبة الأمم، وبموجب المادة 22 من ميثاقها،، حق تسيير شعوب متخلفة ـ غير قادرة على تسيير نفسها بنفسها وظلت إلى تاريخ المصادقة على معاهدة فرساي في 14/2/1919 خاضعة لدول محورية في الحرب العالمية الأولى كألمانيا والدولة العثمانية ـ لدول متقدمة هي نفسها الدول المنتصرة على ألمانيا والدولة العثمانية، حتى تقودها إلى حالة أفضل وتجعلها مؤهلة لأن تقرر مصيرها بنفسها. بعد إنشاء هيئة الأمم المتحدة عام 1945، أصبحت الأراضي الموصى عليها، باستثناء جنوب غرب إفريقيا (ما سوف يُعرف لاحقا بإسم ناميبيا)، تحت وصاية الأمم المتحدة، غير أن الدول المنتصرة في الحرب هي التي سيَّرتها.
يتميز الإنتداب عن الإستعمار من حيث الشكل بـ :
كونه حالة في تطور، قد تنتهي إما باستقلال الشعب الخاضع للإنتداب وإما باندماجه الطوعي مع الدولة الوصية؛
لا يدخل تسيير شؤون الشعوب الموصي عليها ضمن سياسة إستعمارية معينة بل ضمن مسؤولية دولية؛
لم يكن الإنتداب يعني دائما تهيئة الشعب للإستقلال، بل لحالة أسوأ ( حالة فلسطين مثلا)؛
إختلف الإنتداب من قوة لأخرى (بريطانيا وفرنسا مثلا)، إذ أن عصبة الأمم لم تراقب أية واحدة منها، مما جعل مثلا فرنسا تسمي سوريا ولبنان، الخاضعتين لوصايتها، "Etablissements français du Levant" ، كما مارست بريطانيا، باسم الإنتداب، إستعمارا حقيقيا.
تقسيم الإنتداب من قبل عصبة الأمم
الإنتدابات أ - سوريا – لبنان (فرنسا)== استخدمت فرنسا، بدلا من انتداب، عبارة: المؤسسات الفرنسية في الشرقEtablissements français du Levant ؛
فلسطين (بريطانيا) ؛
شرق نهر الأردن (بريطانيا) ؛
العراق (بريطانيا) ؛
الإنتدابات ب - الكاميرون (فرنسا) ؛
شمال غرب الكاميرون (بريطانيا) ؛
رواندا – أورندي (بلجيكا) ؛
طوغو (فرنسا) ؛
طوغو الغربي (بريطانيا) ؛
نغانيكا (بريطانيا)
الإنتدابات ج - الجنوب الغربي الإفريقي (إتحاد جنوب إفريقيا) ؛
أراضي المحيط الهادي، شمال الإكواتور، أرخبيل الكارولين، ماريان، مارشال (اليابان)؛
أراضي المحيط الهادي، جنوب الإكواتور: نورو (بريطانيا) وتديرها أستراليا؛
غينيا الجديدة الشرقية (أستراليا)؛
ساموا الغربية (زيلندة الجديدة)
أـ العوامل المساعدة على نمو الوعي والتحرر:
دور الكنيسة؛
الإيديولوجيا الماركسية؛
- دعم كل من الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي: بالرغم من كونها قد نشأت من الإستيلاء على أراضي الهنود الحمر، على قهر واستغلال هذا الشعب بمعية زنوج إفريقيا وتحولها لاحقا إلى قوة إستعمارية، إلا أن الولايات المتحدة كثيرا ما كانت تقف ضد السياسات الإستعمارية وتساند أحيانا أخرى حقوق الشعوب في التحرر وما ميثاق الأطلسي (1941) سوى دليل على ذلك. لقد جاء ميثاق الأمم المتحدة متأثرا بميثاق الأطلسي فطالب بالمساواة بين الشعوب. أما الإتحاد السوفياتي فقد ساند باكرا، منذ نجاح الثورة البولشفية، صراحة حقوق الشعوب في تقرير مصائرها من خلال تصنيفه الشعوب المستعمرة ضمن البروليتاريا، بما في ذلك بروليتاريا الدول الصناعية. لقد ساند السوفيات الصينيين والكوريين...إلخ؛
إنشاء هيئة الأمم المتحدة، التي تدعو إلى المساواة والحرية؛
- الحركة الآفرو- آسيوية (مؤتمر دلهي الجديدة 1949، باندونغ 1955، آكرا 1958، وفي هذه القمة الأخيرة، طالب المندوبون الحاضرون باستقلال الجزائر).
- تناقضات السياسة الإستعمارية عقب الحرب العالمية الثانية: إذا عدنا إلى مثال الإتحاد الفرنسي، فإننا نجده يتناقض مع السيادة الفرنسية، أي أن كل إتحاد فيدرالي يهدد بالضرورة الوجود الإستعماري في المستعمرات الأعضاء في الإتحاد، وذلك ما يشرح هيمنة فرنسا عليه (أي عدم المساواة بين "الدول" الأعضاء فيه). وقد رأت الكثير من شعوب الإتحاد المذكور أن إنتماءها إلى ذلك الإتحاد يمثل خطوة نحو الإستقلال.
نشأة وتطور حركات التحرر الوطنية في المستعمرات: وقد تأثرت بصفة خاصة بما أطلعت عليه النخبة المثقفة (إكتشافها لتاريخها الوطني؛ تطلعها إلى إحلال المساواة في الحقوق والحريات بين المستوطنين والأهالي؛ تطلعها إلى الإستقلال وبناء أنظمة تقدمية في بلدانها...)، مثلما تأثرت أيضا باطلاع الجنود الأهالي، الذين عادوا من جبهات القتال خلال الحربين العالميتين، بالفروق الواضحة بين السياسة التي تمارسها القوى الإستعمارية في بلدانها وتلك التي تنتهجها في مستعمراتها، مما جعل من الأهالي فئات منقوصة الحقوق والحريات؛
وهكذا، ما إن تهاوت كبريات الدول الإستعمارية أمام ضربات ألمانيا، إبان الحرب العالمية الثانية، حتى بدأت تخوفات الشعوب المستعمرة تزول تدريجيا وتتجسد في شكل زيادة في وعيها بضرورة التخلص من تلك "النمور الورقية". فقد بدأت موجة التحرر عقب الحرب العالمية الثانية واتخذت أشكالا متنوعة: كالمفاوضات (التي تشكل طابعا لحركات التحرر في العديد من المستعمرات الفرنسية في إفريقيا) والحروب التحريرية (حروب الهند الصينية والجزائر مثلا) ونوع من التحرر الشكلي (مثلما تكشف لنا عنه علاقات التبعية من خلال ملاحظة واقع التواجد المعتبر للمعمرين البيض، وإحتفاظهم بـ"ممتلكاتهم"، في الكثير من مستعمرات الأمس، واستمرار تدخل القوى الإستعمارية في شؤون مستعمراتها التي تحررت لِلتَوِّ منها) ...إلخ.
ففي الجنوب الشرقي من آسيا، برهنت إنتصارات اليابانيين، في الهند الصينية وأندونيسيا وماليزيا وغيرها، عن إمكانية تفوق العرق الأصفر على نظيره الأبيض ليس بالسلاح فحسب بل بالعلم والتكنولوجيا؛ ورغم شعار "آسيا للآسياويين" الذي رفعه اليابانيون، إلا أن الآسياويين ثاروا أيضا ضدهم، مما يبرهن على أن الشعوب المستعمرة لم تعد تقو على التراجع عما إكتسبته.
وما أن انهزمت اليابان، حتى سارع من إعتمدت عليهم سلطات الإحتلال اليابانية لتوحيد الجهود ضد "العدو المشترك (الأبيض)" وتنظيم أمور البلاد، إلى جمع السلاح وإعلان الإستقلال: كأندونيسيا مثلا في 17/8/1945 والفيتنام في 3/9/1945 .
وقد شكل ميلاد تلك الدول أمرا واقعيا أمام المستعمرين القدامى، الذين لم يعد يتوفر أمامهم سوى إختياران: إما الحرب وإما التنازل (تقديم التنازلات).
الهند: كانت تتمتع بنظام قريب من الحكم الذاتي، أقحمها الإنجليز في الحرب العالمية الثانية دون إستشارة أهلها مما دفع بحزب المؤتمر للمطالبة بمنحها حق وضع دستور للبلاد، الطلب الذي قابله الإنجليز بالرفض وشرعوا بعدئذ في المناورة كي لا يتعاون الهنود مع القوة اليابانية الزاحفة على آسيا. وحين بدأت تباشير إنتصار الحلفاء تلوح في الأفق، إقترح الماريشال فافل (1883–1950) Archibald Percivall Wavell مخططا يتم بموجبه وضع السلطة في أيدي الهنود مع احتفاظ البريطانيين بسلطتي الدفاع وحق التدخل في الحالات الطارئة، غير أن المسلمين الهنود طالبوا بالإنفصال لأنه لا يحق، في نظرهم، للمؤتمر أن يتكلم باسم كافة الهنود؛
وفي الشرق الأوسط، أدى التأثير النازي إلى محاولة رشيد علي الكيلاني (1892-1965) تخليص العراق من الهيمنة البريطانية ولكنه فشل في السنة ذاتها التي احتل فيها الألمان، اليونان (1841)؛
في سوريا: أدى سماح حكومة فيشي للألمان باستخدام القواعد الجوية فيها إلى حدوث نزاع عام 1941 بين بريطانيا وفرنسا الحرة وحكومة فيشي، والذي إنتهى باحتلال سوريا الخاضعة للإنتداب. في 1945 أُرغمت فرنسا على الإعتراف بانتهاء إنتدابها في سوريا.
إنعكاسات إشراك إفريقيا في المجهود الحربي: زيادة أسعار المواد وظهور طبقة متوسطة وزيادة عدد سكان المدن وتفكك الإرتباطات التقليدية وميلاد حركة هادئة لا تطالب لا بالعنف ولا بالإستقلال التام ولكن بإنشاء دول وطنية مرتبطة بالدول التي استعمرتها واقتباس النظم منها. وقد تزعمها في نيجيريا أزيكيوي Nnamdi Azikiwe (1904 -1996) وفي السنغال ليوبولد سنغور Léopold Sédar Senghor (1906-2001) . وفي 1945 انعقد في مانشستر مؤتمر الشعوب الإفريقية وفيه أفصح الأفارقة بوضوح عن نيتهم في الإستقلال.
مؤتمر باندونغ: إنعقد مؤتمر باندونغ (في أندونيسيا) أيام 18-24/4/1955، وضم ممثلين (منهم أسماء لامعة كـ:جواهرلال نهرو وشو إن لاي وجمال عبد الناصر) لـ 29 بلدا إفريقيا وآسياويا مستقلا حديثا. لقد جاء المؤتمر كتعبير عن نوايا بعض زعمائه في التحرر من النفوذين الأمريكي والسوفياتي، في المساهمة في تحرر المزيد من البلدان المستعمرة. وقد انعقد المؤتمر في ظروف دولية شائكة تميزت بالتنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي، وتوقف الحرب الفيتنامية ونضال الكثير من الشعوب من أجل إستقلالها.
ساهم مؤتمر باندونغ في ظهور بعض الدول الآسياوية والإفريقية المستقلة حديثا على الساحة الدولية، في خلق شبه قطب بين المعسكرين الشرقي والغربي (ما سوف يُعرف بحركة عدم الإنحياز)، مما نشَّط وسرَّع في نضال الشعوب المستعمرة. كما إتفق المؤتمرون على ضرورة التعايش السلمي واحترام ميثاق الأمم المتحدة (وخاصة ما ينص فيها على المساواة بين الشعوب واحترام سيادتها) وعدم التدخل في شؤون الدول وحل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والقضاء على الأسلحة النووية. ورغم ذلك لوحظ تباين واضح في مواقف المؤتمرين، يمكننا إختزاله في ثلاث هي: موقف الدول الإشتراكية (الصين الشعبية وفيتنام)، وموقف المناصرين للغرب (تركيا وباكستان) وموقف غير المنحازين (الهند ومصر).
تحرر المستعمرات البريطانية: توافق وجود وتطور الكومنوالث "كنادٍ لبلدان مستقلة" مع نية البريطانيين في الحفاظ على مصالحهم الإقتصادية في المستعمرات، المصالح التي بدت، عقب الحرب العالمية الثانية، على أنها الأهم.
الهند: صادق المؤتمر الهندي، عام 1942، على بيان يدعو البريطانيين لـ "مغادرة الهند(...) أتركوا بلادنا حرة وسنحميها مثلما حمى الصينيون والروس والبريطانيون بلدانهم. سيكون تحرر الهند مباشرة رمز وبداية تحرر كافة شعوب آسيا".
وقد نجم عن هذا القرار، إندلاع حركة عصيان كبيرة، حيث هاجم الناس مكاتب الشرطة والسكك الحديدية ورفضوا التعاون مع سلطات الإحتلال، فقام البريطانيون بقصف القرى وإلقاء القبض على زعماء المؤتمر ومنهم غاندي (1869-1948) Mohandas Karamchand Gandhi ونهرو (1889-1964) Jawaharlal Nehru وعبد القلم أزاد (1888-1958). وفضلا عن ذلك، حمل الهنود البريطانيين مسؤولية مجاعة 1943- 1944، التي عصفت بالشمال الشرقي والجنوب، والتي لم يأبه بها البريطانيون.
تزعم غاندي حركة سياسية تدعو الهنود إلى إتباع أسلوب "عدم التعاون الخالي من العنف" مع البريطانيين مما زاد في تلاحم الشعب الهندي، إلى أن صار الدومينيون غير قادرين على تسيير الهند، التي أخذت حركتها الوطنية تدعو إلى الإستقلال التام.
وفي المقابل، عمل محمد علي جناح، الذي كان عضوا في المؤتمر ثم انفصل عنه، على إنشاء دولة إسلامية لحماية حقوق المسلمين بعد تخوفه من إمكانية إستقلال الهند وهيمنتها على كافة الأمور. وفي 25/6/1945، عقد الماريشال فافل، نائب الملك، مؤتمر شِمْله Simla بهدف الإعداد لاستقلال الهند غير أن محمد علي جناح طالب بحقه في تعيين الأعضاء المسلمين في المجلس التنفيذي الذي يرأسه فافل.
وقد أفرزت إنتخابات المجلس المركزي، التي أجريت في نهاية 1945، النتائج التالية:
- تحصل المؤتمر الهندي على 91,3 % من أصوات الناخبين في الدوائر الهندية: 57 منتخبا؛
- تحصلت الرابطة الإسلامية( التي يتزعمها جناح) على 86,8 % في الدوائر الإسلامية: 30 منتخبا.
وفي مارس 1946، أرسلت الحكومة البريطانية ثلاثة مبعوثين كلف آتلي Clement Attlee ثلاثة أعضاء من حكومته (كريبس وبيتيك- لاورنس وألكساندرCripps, Pethick-Lawrence, Alexander) بمهمة مساعدة الهنود على إيجاد سبيل إلى الإستقلال بسرعة، فاصطدمت البعثة بموقفي الرابطة الإسلامية والمؤتمر الهندي المتعارضين. وفي 16/5/1946 أصدروا ما يعرف بـ"إعلان 1946"، الذي وضع شروط تنظيم الهند سياسيا وإخراج القوات البريطانية منها.
وقد شكل نهرو حكومة إئتلاف وطني، لم تشارك فيها الرابطة الإسلامية، في الوقت الذي إندلعت فيه (أوت 1946) أعمال العنف بين الهنود والمسلمين. وبضغط من الماريشال فافل، سمح علي جناح لعدد من أعضاء الرابطة بالإنضمام إلى الحكومة، غير أن عدم تعاونهم مع الحكومة، جعل نهرو يطالب الرابطة بسحب وزرائها (فيفري 1947). وفي 20/2/1947 حدد الماريشال فافل موعدا لسحب القوات الإنجليزية من الهند (جوان 1948 كآخر أجل).
وفي 3 جوان تقرر تنفيذ مشروع ماونتباتن Louis Mountbatten الذي يقضي بتحويل كل من الباكستان والهند إلى دومينيونين قبل استقلالها وحينها يقرر الشعبان إن كانا سينضمان أولا إلى الكومنوالث. وفي أوت 1949، استقلت الهند وباكستان ضمن الكومنوالث.
المقاطعات الإسلامية (البنغال، أصام، السند، البنجاب، بالوتشيستان، الهند قبل الإستقلال مقاطعات الشمال الغربي الحدودية وكانت تسعى لإنشاء باثان)
مقاطعة السيخ ( كاليستان)
600 إمارة مستقلة
هندوستان
ب- تطور فكرة تدويل المستعمرات:
أدى توقيع تشرشل وروزفلت لميثاق الأطلسي في 14/8/1941، والذي يقضي بتحرير الشعوب المستعمرة (ويقصد بها الأوروبية بصفة أساسية)، إلى انتشار الفكرة خارج أوروبا، وذلك ما يذكرنا بفكرة حق الشعوب في تقرير مصيرها التي نادى بها ولسن Wilson وعصبة الأمم والكثير من الإشتراكيين، بالرغم من أنها لم تكن تعني من الناحية العملية سوى حق الشعوب القوية على الضعيفة الذي نجم عن المبرر الشهير: "واجب القوى الكبرى الحضاري تجاه الشعوب الضعيفة". هكذا خططت الدول العظمى، إبان الحرب العالمية الثانية، لفرض نوع من الوصاية على الشعوب الضعيفة بواسطة "الأمم المتحدة"، وكان موقف بريطانيا من ذلك معارضا نوعا ما بسبب تخوفها من فقدانها لمستعمراتها.
ج-تحولات في الرابطة القانونية بين القوى الإستعمارية والمستعمرات:
مثال عن بريطانيا: إلى 1850، لم تكن كندا -التي تمثل، إلى جانب أستراليا، نيوزيلندا وغيرهما، نماذج لفكرة "فيديرالية إمبراطورية" جاء بها تشامبرلينChamberlain - تضم سوى أربع مقاطعات: نوفو برونسفيك Nouveaux Brunswick، كيباك Québec، أونطاريو Ontario، نوفال إيكوس Nouvelle Ecosse بالإضافة إلى أراضي كولومبيا في الغرب وتار نوف Terre Neuve، وكانت كل مقاطعة تتمتع بحكم ذاتي؛ وفي 1867، سمح لها البرلمان الإنجليزي بأن تتحد في فيديرالية، عرفت بالدومينيون، لها برلمان وحكومة فيديراليين.
وقد فتح هذا النظام الطريق أمام الإشراك الحر Libre association: فقد أعلن في مؤتمر وزراء الدومينيونات، عام 1907، عن فكرة إنشاء فيديرالية تضم "الأمم الشقيقة" (ما سوف يعرف لاحقا بالكومنوالث)، أي الجمع بين سياسة الإشراك كمبدأ والحكم غير المباشر Indirect Rule.
مثال عن فرنسا عقب نهاية الحرب العالمية الثانية: أنشىء الإتحاد الفرنسي L’Union française في 27/10/1946كإطار يعطي المستعمرات الفرنسية وضعية شبيهة بالكومنوالث البريطاني. وقد منحت الحكومة الفرنسية شعوب مستعمراتها حق التمثيل النيابي وخصصت لهم 64 مقعدا.
أ- الإمبراطورية البريطانية:
ظلت بريطانيا، بين منتصف القرن التاسع عشر وبداية الحرب العالمية الأولى، أول قوة إقتصادية واستعمارية في العالم رغم منافسة ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية لها مع نهاية القرن التاسع عشر، إقتصاديا. وقد أخذت الإمبراطورية الإستعمارية تتوسع، ولكنها إستحالت، مع نهاية الحرب العالمية الأولى، إذا إستثنينا الهند، إتحادا لدومينيونات شبه مستقلة.
نتيجة لهيمنة الليبراليين على مقاليد السياسة في بريطانيا على الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ساد الإعتقاد بأن التوسع التجاري أفضل من كسب مستعمرات جديدة، من حيث أنه يكفي لضمان التفوق البريطاني في العالم، و، من جهة أخرى، من حيث كون المستعمرات تثير التنافس مع قوى أخرى وتتطلب إمكانيات بشرية واقتصادية وعسكرية كبيرة.
لقد أدى تنفيذ سياسة التجارة الحرة (إنتهاج طريق حرية التجارة) إلى تأكيد أسبقية الصناعة والتجارة في السياسة الإقتصادية على دعاة إستعمار مناطق جديدة. وهكذا:
توقفت التوسعات البريطانية في أفغانستان، وخاصة مع وصول غلادستون Gladstone إلى السلطة عام 1880؛
إعترف الإنجليز باستقلال الترانسفال Transvaal الذاتي؛
ترك القائد غوردن باشا Charles George Gordon (1833-1885) يحارب لوحده في السودان (1885) ولم يقدم له أي سند إلى أن أهزمه المهدي (محمد أحمد بن عبد الله المهدي، الذي أسس دولة إسلامية تمتد من البحر الأحمر إلى وسط إفريقيا) فيها؛
غير أن عوامل شتى، فتحت من جديد شهية الإنجليز لاحتلال المزيد من الأراضي، ومنها:
رغم كونها أول وأكبر قوة إقتصادية واستعمارية في العالم بين منتصف القرن التاسع عشر ومطلع الحرب العالمية الأولى، إلا أن بريطانيا بدأت تتخوف من بروز قوى إقتصادية جديدة في العالم كالولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، ومن ثمة فإنها أخذت تعمل من أجل الحفاظ على مكانتها.
وصول سياسيين جدد إلى أعلى هرم السلطة السياسية البريطانية، من أولئك الذين يدعون إلى تفعيل حركة الإستعمار من جديد، أمثال وزير المستعمرات تشامبرلين Chamberlain، الذي كان يلح على أهمية العوامل الإقتصادية في السياسة الإستعمارية، ووزير المالية والوزير الأول غلادستون Gladstone، الذي كان يعتقد أن الله وهبه لبريطانيا لكي يعمل على تقدمها فتحمل مسؤولية إحتلال مصر (1882) ، وديسرائيلي Disraeli (الوزير الأول بين 1874-1880 وأشهر رواد التوسع الإمبريالي البريطاني)، الذي عمل على الإبقاء على "البريستيج" البريطاني أمام الأمم الأخرى، مثلما يؤكد ذلك قراره بإعلان الملكة فيكتوريا Victoria إمبراطورة على الهند عام 1877، فضلا عن شرائه للأسهم المصرية في قناة السويس (1875). كما ظهر في هذه الأثناء شعراء ومفكرون من دعاة الإستعمار، من أمثال كيبلينغ Kipling، أو مبرريه الذين سعوا لتكييف نظرية التطور مع الحركة التوسعية.
أدى فقدانها لأهم مستعمراتها الإستيطانية نيوإنغلند Angleterre Nouvelle (أهم مستعمراتها الإستيطانية في ما يعرف حاليا بالولايات المتحدة الأمريكية ) إلى تخوفها من إنتشار عدوى التحرر في باقي مستعمراتها، ولذلك فإنها عملت على صياغة نظام خاص عرف بالدومينيون، طبق في البداية (1867) في كندا ثم في باقي مستعمراتها الإستيطانية ( أستراليا 1900، زيلندا الجديدة 1907، إتحاد جنوب إفريقيا 1909 وكندا Terre-Neuve)؛
خلق حزام أمني للؤلؤة تاجها، الهند، في زمن إشتد فيه التنافس على كل قابل للإستعمارColonisable إلى أن صار العالم كله خاضعا للهيمنة الأوروبية مطلع القرن العشرين، باستثناء إثيوبيا واليابان، حيث تم إحتلال 88,9 % من إفريقيا مثلا عام 1900، بعدما كانت 10,5 % فقط محتلة قبل ذلك بـربع قرن، وهكذا قامت بريطانيا بـ :
- الهيمنة على المناطق المجاورة للهند (ما يشبه منطقة عازلة من محميات برمانيا 1885، ماليزيا 1895، شمال بورنيو، فضلا عن الوجود البريطاني في المنطقة الحدودية لأفغانستان)؛
الإستيلاء على جزء من برمانيا، بين 1826-1852، ثم الإستيلاء على الباقي عام 1885، على أمل ربطها بمقاطعة يونان الصينية؛
باختصار ضمت بريطانيا، تحت تاجها، وبشتى الطرق خلال المرحلة الإمبريالية، العديد من المناطق مثل:
إفريقيا الشرقية والغربية: تحت ذريعة إحترام الحقوق التقليدية المصرية في وادي النيل قام الإنجليز بفرض هيمنتهم على السودان الشرقي بين 1985 و1898 ثم على جنوب السودان (في كينيا والبحيرات الإفريقية)؛ كما استولى الإنجليز على غامبيا، ساحل الذهب، سيراليون، نيجيريا (غرب القارة). وفي إفريقيا الجنوبية، التي لم تكن بريطانيا تملك فيها سوى مستعمرتي الكاب والناتال (إلى جانب جمهوريتي البويرز المستقلتين في الشمال: الأورانج والترانسفال) أثار إكتشاف الذهب في الترانسفال 1886، الإهتمام من جديد بالمنطقة، التي فقدت مكانتها عقب إستخدام قناة السويس. وقد أخذ الإنجليز يعزلون الجمهوريتان ويستولون على المناطق المحاذية لها إلى أن دخلوا في حرب معها وانتهت بإخضاع كل جنوب إفريقيا.
في البداية منحت الجمهوريتان حكما ذاتيا (الترانسفال عام 1906، والأورانج عام 1907) ثم أنشئت فيديرالية ضمت: الترانسفال، الأورانج، الكاب، الناتال في 1910 وسميت إتحاد جنوب إفريقيا. وقد أُستلهم نظامها من النموذجين: الكندي (1867) والأسترالي (1901).
بالوتشيستان (1876)، قبرص (1878)، مصر (1882) وتنصيب مقيم عام عليها إلى جانب الخديوي، بعد تأكد أهمية السويس، وتأمين الطريق المؤدي إلى الهند: التمسك بميناء عدن، بأراضي في ماليزيا، هونغ كونغ، الصومال... إلخ، أرض الصومالSomaliland (1884)، بوتشوانالاند (1885)، برمانيا (1886)، روديسيا ونياسالاند Nyassaland et Rhodésies (1888-1891)، كينيا وزنجبار (1887-1890)، ساحل الذهب (1896)، السودان الأنجلو- مصري (1899)، نيجيريا (1900)، الأورانج و الترانسفال Orange et Transvaal (1902)...إلخ.
السياسة الإستعمارية البريطانية:
بعد القضاء على ثورة السيبايس Cipayes، ألغيت شركة الهند (1860)، التي كانت تحكم الهند، وصارت هذه الأخيرة "مستعمرة للتاج" Colonie de la couronne يسيرها، من لندن، وزير خاص ونائب ملك. وبداية من 1860، ومع مجيء تشامبرلين Chamberlain(الذي، مثلما سلفت الإشارة إلى ذلك، كان يلح على أهمية العوامل الإقتصادية المشكلة للسياسة الإستعمارية)، عمل الإنجليز على تطوير الهند لصالحهم ولصالح الهنود: محاربة المجاعات، إدخال الصناعة الخفيفة، ولكنهم إستبعدوا الهنود من المناصب الإدارية. وسوف تستفيد بعض المستعمرات البريطانية من الإستثمارات والتي كانت تمثل: 80 % لكندا، 23 % أاستراليا ونيوزيلندا 20 % لجنوب إفريقيا، 23 % للهند البريطانية، 6 % لباقي الممتلكات.
ب- الإمبراطورية الإستعمارية الفرنسية:
الهدوء الذي يسبق العاصفة:
قبل إنطلاق مرحلتها الإمبريالية في حدود 1879، عرفت السياسة الإستعمارية الفرنسية بين 1850 و1870 فترة "تريث" تُفَسَّرُ بعدة عوامل منها بصفة خاصة بمشكلات فرنسا الخارجية، في أوروبا والميكسيك مثلا. ورغم ذلك فقد شهدت السياسة الخارجية لنابوليون الثالث: حرب القرم (1854-1856)؛ الحملة الفرنسية على سوريا لنصرة الموارنة ضد الدروز (1960)؛ حفر قناة السويس (1859-1869)، إخضاع الجزائر الشمالية؛ إحتلال كاليدونيا الجديدة وأوبوك Obok والسنغال وكوشيشين وإخضاع كامبوتشيا؛ حرب الميكسيك (1861-67) التي إنهزم فيها الفرنسيون؛ الحرب الإيطالية (1859) .
لم تكن مساحة المستعمرات الفرنسية تتجاوز مليون كلم2، يسكنها نحو 5 مليون نسمة، كما أن قيمة تبادلها التجاري لم يتخط حدود الـ600 مليون فرنكا، وسوف تتضاعف هذه الأرقام عدة مرات عشية إندلاع الحرب العالمية الأولى مما يدل على أهمية التوسع الإستعماري في سياسية الجمهورية الثالثة.
أسباب وعوامل:
ـ كشفت أزمة 1873 عن أن الأسواق التقليدية لم تعد قادرة على امتصاص فوائض المصانع في أوروبا، وقد لمس الفرنسيون عودة إلى نظام الحماية التجارية، خلال هذه الفترة.
ـ ظهور دعاة إلى التوسع والذين يستندون إلى "أمجاد" فرنسا الإستعمارية السالفة، ومنهم جول فيري Jules Ferry وغامبيتا Gambetta. وقد قدم جول فيري مبررات عدة للإمبريالية الفرنسية في خطابه الشهير الذي ألقاه على النواب بتاريخ 28/07/1885.
ـ أهمية مكانة فرنسا في المجتمع الدولي: فقد جاءت حركة التوسع الفرنسية في هذه الفترة كتعويض عن الهزيمة أمام بروسيا وكرغبة للإبقاء على فرنسا في الصفوف الأولى للأمم، مثلما كان يرى جول فيري، وتدل الكثير من الإحصائيات على: تحول المناطق المحتلة، إلى تلك الفترة، إلى مناطق نفوذ إقتصادي فضلا عن إرتفاع تجارة فرنسا مع مستعمراتها من 3% 6,7 بين 1882-1886 إلى10,92 % بين 1909-1913؛ كما إرتفعت الواردات من تلك المستعمرات من 4.7 % إلى 9.28 %، وسجل أيضا إرتفاعا في رؤوس الأموال، حيث سجل بنك الهند الصينية مثلا إرتفاعا تضاعف ست مرات بين 1885- 1886 وثلاث مرات بين 1905- 1914. وباختصار، فقد عرف التوسع الفرنسي فترة تباطؤ خلال منتصف الثمانينات مما جعل المؤرخين يقسمون فترة الإستعمار الإمبريالي إلى فترتين:
الأولى: من 1880- 1885 والثانية: من 1890- 1914
الفترة الأولى: بدأت عقب وصول ما عرف بالجمهوريين الإنتهازيين إلى الحكم عام 1879 والذي أدى إلى السعي لتحقيق هدفين:
الإستجابة لضرورات إقتصادية، وقد جاء ذلك بتأثر من رجال المال.
تأكيد القوة الفرنسية دون إثارة أي نزاع في أوروبا مع ألمانيا، وفي ذلك تكمن قصة المصراع بين إمبريالية الراية وإمبريالية المصالح أو بين جول فيري ومؤلف بول لوروا بوليو P. Leroy-Beaulieu
وقد كانت حملتان كافيتان لفرض فرنسا لحمايتها على تونس:
1- إرغام الباي في 24/04/1851 على توقيع معاهدة يقبل بموجبها بمقيم عام فرنسي في تونس دون أدنى إشارة إلى الحماية؛
2- قمع ثورة الجنوب وتوقيع معاهدة المرسى في 08/06/1883، التي تجعل من تونس رسميا محمية فرنسية.
وقد تأكدت أهمية المصالح الإقتصادية الفرنسة من خلال هذه الحماية، حيث جرى تأسيس عدة شركات فيها مثل: شركة بونة- قالمة، الشركة المارسيلية للقرض الصناعي والتجاري، البنك الفرنسي المصري، ... الخ .
كما قام الفرنسيون بحرب في أنام وطونكين واحتلال الكونغو والسودان ومدغشقر، التي وضع فيها مقيم عام. غير أن تيارات داخلية عدة وقفت ضد سياسة فرنسا التوسعية ومنها:
الكاثوليك: الذين ثاروا ضد سياسة جول فيري التعليمية؛
الراديكاليين: ويمثلهم كليمنصو (Georges Benjamin Clemenceau (1841 -1929: الذي إتهم جول فيري بتحويل أنظار الفرنسيين عن الألزاس واللورين وعن الأمل في الإنتقام لهزيمة 1871؛
الوطنيين والاشتراكيين: ويمثلهم جون جوراص Jean Jaurès (1859-1914) ، وكانوا يرون أن رعاية وتسيير المستعمرات أمر مكلف للغاية، فضلا عن وجوب محاربة الإستعمار باعتباره سياسة رأسمالية. ونتيجة لحدة المعارضة هذه، تباطأ التوسع الفرنسي وتمكن كليمنصو بإثارته الحديث عن هزيمة الجيش الفرنسي في موقعة لانغ- صون، في طونكين، في البرلمان إلى إستقالة جول فيري.
الفترة الثانية: رغم حدة المعارضة الداخلية، إستمر التوسع الفرنسي في آسيا وإفريقيا، حيث تم إحتلال صحراء الجزائر (ميزاب وعين الصفراء، عام 1882، إقليم توات سنة 1901 ثم الهقار بعد ذلك) والمغرب (1912)، تومبوكتو (1893)، القضاء على مملكة صاموري Samory Touré في الداهومي (1892)، تشاد(1900)، جيبوتي (1892)، ضم مدغشقر (1896) ...إلخ.
تنظيم المستعمرات:
المحميات: كامبوتشيا، تونس، أنام، المغرب.
أراض خضعت للإدارة المباشرة: كوشيشين، إفريقيا السوداء، مدغشقر.
1- 1887: إنشاء اتحاد الهند الصينية
2- 1904: إنشاء إفريقيا الغربية الفرنسية AOF
3- 1910: إنشاء إفريقيا الاستوائية الفرنسية AEF
التنظيم العام للمستعمرات:
1887: إنشاء كتابة الدولة للمستعمرات؛
1890: إنشاء المجلس الأعلى للمستعمرات؛
1844: إنشاء وزارة المستعمرات؛
1900: إنشاء المدرسة الإستعمارية لتخريج الإداريين؛
1893: إنشاء الجيش الإستعماري.
الصين الحديثة (نموذج تكالبت عليه الكثير من القوى الإستعمارية)
1- الصين زمن حكم أسرة كينغ:
تطورت الصناعة والتجارة، وخاصة الصناعة الإستخراجية التي وظفت عشرات الآلاف من العمال، وهي صناعات حكومية أو ممولة من قبل الحكومة والتجار.
في عهد الإمبراطور داوغوانغJiaking (Daoguang) (1821-1850) بلغت الإقطاعية أعلى مراحل لها من حيث شكل الإنتاج، ذلك أن جيانغكسي Jiangxi عرفت إنشاء 2500 معمل نسيج يوظف 50 ألف عامل، أي ظهور جنين الرأسمالية.
وقد تطورت التجارة وظهرت مكاتب تجارية في شانكسي تكفلت بكافة الأعمال المتعلقة بالنشاط التجاري كتقديم القروض وحفظ الودائع وجمع الضرائب...الخ ، أي أنها صارت تتمتع بمميزات البنوك. وبشأن التجارة الخارجية، إرتبطت الصين، منذ أسرة مينغ، مع روسيا بعلاقات تجارية وخاصة عقب إبرام معاهدتي نرتشينسك Nertchinsk (1969) وكياخطا Kiakhta (1727)، كما دخلت الصين في علاقات مع الأوربيين، حيث وصلتها عام 1516 أول سفينة تجارية برتغالية ثم تلتها سفن أوروبية مماثلة منها: الإسبانية (1557)، الهولندية (1606)، الإنجليزية (1637)..الخ.
وفي 1685 إمتد نفوذ شركة الهند الشرقية إلى الصين، حين أسس الإنجليز دارا للتجارة في غوانغتشو Guangzhou. وفي 1793 طلب السفير البريطاني اللورد ماكارتني من إمبراطور الكينغ السماح للتجار البريطانيين بممارسة التجارة في موانىء تيانجين Tianjin، نينغبو Ningpo، تشوشان Zhoushan، بيد أن الإمبراطور لم يفتح سوى ميناء غوانغتشو أمام التجارة الخارجية ليبقي البلاد تحت سيطرته، كما أنه اشترط على كل من يود من الأجانب ممارسة التجارة في الصين، التعامل مع الوسطاء الصينيين التابعين "لرابطة المعامل الـثلاثة عشر" 13 factories.
أ- حرب الأفيون (1840-1842): شهدت الصين، بين نهاية القرن الثامن عشر وثلاثيات القرن التاسع عشر، إنتفاضات شعبية في شتى المناطق واستهدفت أساسا طبقة الملاك الإقطاعيين، التي يتزعمها نبلاء الماندشو Mandchoue، وفي هذه الفترة، بدأت إعتداءات الغرب على الصين.
لاستحالة تصريف منتوجاتهم النسيجية في الصين، نظرا لتطور الحرف المنزلية فيها، فإن شركة الهند الشرقية، التي احتكرت التجارة بين الإنجليز والصينيين، رفضت تسديد مستحقاتها لدى الرابطة (factories 13) نقدا لقاء مشترياتها من الشاي والحرير وقدمت رشاوى لموظفي غوانغدونغ Guangdong؛ وبداية من نهاية القرن الثامن عشر، أخذت تهرب الأفيون إلى الصين وتستنزف ثروات شعبها بذلك مما فتح الشهية أمام تجار من دول غربية أخرى كالولايات المتحدة، ليمارسوا من جهتهم، تجارة الأفيون في الصين. وقد كان هؤلاء يبيعون للصينيين ما يعادل 20 ميلون يوان من الأفيون سنويا، أي حوالي 30 ألف صندوق، مما دفع بالإمبراطور داوغوانغ إلى تعيين لين زكسو Lin Zexu ، عام 1839، (أحد المؤيدين لفكرة المنع النهائي لتجارة الأفيون) في غوانغتشو (كانطون) ليقوم بتحقيق بشأن تلك التجارة والقيام بالإجراءات اللازمة لمنعها. وبالفعل تعاون لين زكسو مع سكان كانطون ضد المهربين والتجار، وخاصة الأجانب. وفي 3 جوان 1839 أرغم القنصل البريطاني تشارلز إليوت Charles Elliot على تقديم 1000 طن من الأفيون لتحرق أمام الملأ في هومن Humen ( Boca Tigris). وقد ألزم لين زكسو كافة السفن الأجنبية، التي تدخل ميناء كانطون، على تقديم تصريح يتعهد بموجبه الربان على عدم إحتواء سفينتهم على الأفيون مخبئا فيها، إلا أن التجار الغربيين عزموا على تكسير قرار منع تجارة الأفيون، وطلب تشارلز إليوت كافة التجار البريطانيين بإخلاء كانطون، ومن بلاده إرسال القوات العسكرية لغزو الصين.
بدأ هجوم الإنجليز عام 1840، ولما عجزوا أمام لين زكسو، فإنهم صعدوا إلى الشمال، إلى آموا Amoy في مقاطعة فوجيان Fujian، أين لاقتهم مقاومة عنيفة إضطرتهم إلى الإنتقال إلى تشيجيانغ Zhejiang واحتلال إحدى مدنها (دينغاي Dinghai جويلية 1840) ثم دخلوا منفذ هايهه Haihe بالقرب من تيانجين Tianjin، مما إضطر الإمبراطور إلى خلع لين زكسو و استبدله بكيشان Qishan، الذي أرسل إلى كانطون للتفاوض مع الإنجليز. وفي 1841، حطم كيشان التحصينات وتنازل عن هونغ كونغ وقدم تعويضات لما تم إتلافه من أفيون إنجليزي أحرقه لين زكسو، غير أن الإمبراطور داوغوانغ خلعه من منصبه لأنه لم يكن يود عقد مثل هذه الإتفاقيات المشينة مع الإنجليز، ثم أعلن الحرب على الإنجليز، ولكنه خسر هومن في 25/2/1841، ثم أرسل بالجنرال ييشان Yishan للتفاوض ثانية مع الإنجليز في ماي 1841.
وقد أبرم ييشان إتفاقية لوقف إطلاق النار مع الإنجليز وقدم لهم 6 مليون يوان لقاء عدم دخولهم مدينة كانطون.
أعقب الغزو الإنجليزي وخيانة الموظفين الحكوميين الصينيين، إندلاع إنتفاضات شعبية، وخاصة تلك التي إنطلقت من صانيوانلي Sanyuanli (شمال غرب كانطون)، وهاجم ثوارها في 30 ماي الإنجليز وحالوا دون هدوء الوضع لهم في كانطون، ومن جهتهم، هاجم الإنجليز مدنا ساحلية كثيرة، بين أوت 1841 وأوت 1842، إلى أن وصلوا نانكين Nanjing، ولاقتهم مقاومة حكومية وشعبية عنيفة، غير أن الإمبراطور وبعضا من جنرالاته، فشلوا في النهاية وركعوا أمام الانجليز وعقدوا معهم ثلاث معاهدات:
1- معاهدة نانكين في 29/8/1842: وتعهدت بموجبها الصين بالتنازل عن هونغ كونغ ودفع 21 مليون يوان كتعويضات حرب وفتح 5 موانئ: (شنغهاي، نينغبو، فوتشو، آموا، غوانغتشو Shanghai , Ningpo, Fuzhou Xiamen,(Amoy) , Guangzhou)) أمام التجارة الأجنبية، وكذا بضرورة إتفاق الإنجليز والصينيين على تحديد الرسوم الواجب فرضها على الصادرات والواردات، بالإضافة إلى حق الإمتياز القنصلي..الخ.
وقد لحقت بقية القوى الإستعمارية الأخرى بالإنجليز وأبرمت كل واحدة منها معاهدة منفردة تضمن لها حق "الأولوية التجارية" La nation la plus la favorisée مع الصين.
2- معاهدة وانغكسيا Wangxia في 1844: وأبرمتها الولايات المتحدة مع الصين وتحصلت بموجبها على حق الإتجار مع مدن الساحل الصيني وامتيازات قضائية قنصلية كثيرة.
3- معاهدة هوانغبو (Whampoo) Huangpu، وعقدتها فرنسا مع الصين، وتحصلت بموجبها على حق ممارسة مبشريها (الذين تحميهم دائما القوة العسكرية) لنشاطهم التبشيري المسيحي في الصين.
ب- موقف الشعب الصيني من الإتفاقيات: إزداد عداء الصينيين للإنجليز والأجانب وللموظفين الذين تعاقدوا معهم وظهرت جمعيات عدة لهذا الغرض كجمعية التربية والسلم (ShengpingShexue)، التي حالت دون دخول الإنجليز كانطون لمدة عشر سنوات، كما تسببت في خلع والي كانطون، غير أن القوات الحكومية قمعت أعضاءها وتمكنت خلال ثورة التايبينغ من قتل 75 ألفا من محاربيها (1855).
في عام 1854، طالبت بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا الصين بمراجعة المعاهدات الثلاث، بعدما فشل نسيج الإنجليز من دخول بر الصين، رغم رواج تهريب الأفيون إليه، حيث بيع في الصين عام 1850 ، 50 ألف صندوق، و في هذه الأثناء بدأت روسيا نشاطها العدائي في الشمال الشرقي (منشوريا) وطالب وزيرها المفوض فوق العادة، السيد بوتياتين Poutiatine، أثناء زيارته كل من تيانجينTianjin وشنغهاي عامي 1857 و1858، الصينيين بمنح بلاده حق ممارسة التجارة مع موانئهم، ولما رفض له الصينيون طلبه، فإن روسيا صارت حليفا للإنجليز والأمريكان والفرنسيين، ضد الصين.
ج-حرب الأفيون الثانية (1856-1860): في أكتوبر 1856، وعقب إلقاء الموظفين الصينيين القبض على السفينة الصينية "Arrow"(السهم)، التي كان بحوزة ملاحيها القراصنة ترخيص، إنتهت مدة صلاحيته، بدخول ميناء هونغ كونغ ( باعتبارها سفينة إنجليزية)، قام الإنجليز بقصف غوانغتشو فقاومهم السكان ودفعهم خارج المدينة. وبعدئذ إستغلت فرنسا مقتل المبشر شابدولان P. Chapedelaine ، الذي دخل غوانكسي متسللا وبغير ترخيص، ودخلت إلى جانب الإنجليز واحتلت مدينة غوانغتشو عام 1857 (ديسمبر)، ثم سارت القوى المتحالفة، عبر السواحل، نحو الشمال وإحتلت تيانجين Tianjin في افريل 1858، وكانت حكومة الكينغ منشغلة بقمع ثورة التايبينغ، مما جعلها ترضخ للضغوط البريطانية والفرنسية وتعقد معهم: المعاهدة الأنجلوصينية والمعاهدة الفرانكوصينية في تيانجين، واللتين قدمت بموجبهما تعويضات حربية للطرفين والتزمت بفتح موانئ شواتشو Chouazhou، دانشوي Danshui، تاينان Tainan، دانغتشو Dengzhu، نيوتشوانغ Niuzhuang، كيونتشو Qiongzhou والموانئ النهرية: هانكو Hankou، جيوجيانغ Jiujiang، نانكين Nanjing، تشانغزيانغ Zhengjiang أمام التجارة الأجنبية، وبالسماح للأجانب بشغل وظائف في الجمارك الأجنبية وحرية التجارة ونشر المسيحية، كما سمحت للسفن الحربية الأجنبية بدخول الموانئ الصينية. وقد إستمرت المفاوضات في شنغهاي إلى 1859 وانتهت باعتراف الصين بشرعية تجارة الأفيون وبتحديد حقوق الإستيراد والتصدير بـ 5 % ورسوم العبور بـ 2,5 %، ودخلت بذلك عهد تحولها إلى شبه مستعمرة.
وللمصادقة على معاهدتي تيانجين المذكورتين، إنتقل الوزيران المفوضان فوق العادة إلى بكين وأصرا على دخول ميناء داغو Dagu بدلا من الذهاب برا إلى بكين، مثلما حددت السلطات ذلك، مما أدى إلى نشوب نزاع مع ثكنة الميناء، وقدمت السفن الأمريكية دعما للفرنسيين والإنجليز.
وفي 1860، دخلت القوات الأنجلوفرنسية داغو Dagu ثم بكين وخربت الكثير من مبانيها (القصر الصيفي القديم مثلا) وبعدئذ أرغمت الصينيين على التفاوض معهم، حيث صادق الأمير غونغ ييكسين Gong Yixin على إتفاقية تقدم بموجبها الصين:
16 مليون طايل Taels كتعويضات حرب تخصم من حقوق الجمارك؛
فتح ميناء تيانجين أمام التجارة؛
السماح للفرنسيين والإنجليز بتوظيف صينيين في المناطق الخاضعة لنفوذهم (بيع الشعب للغزاة)؛
التنازل لبريطانيا عن كاولون Kowloon ومنح المبشرين تسهيلات شتى لممارسة نشاطهم في الصين.
وبين الحربين الأفيونيتين، تحالفت الإقطاعية مع الغزاة وحالت دون نشأة رأسمالية وطنية، فاستحالت الصين شبه مستعمرة نصف إقطاعية.
د-ثورة التاييينغ (1850-1865):
أسبابـها:
الغزو الأجنبي؛
نمو إستيراد وتجارة الأفيون؛
إضعاف كاهل الشعب بمزيد من الضغوط الضريبية لتسديد تعويضات الحرب الكثيرة التي فرضت على الصين؛
الفقر والفاقة والإفلاس، وزيادة إنضمام الناس إلى الجمعيات السرية؛
إنتقال المتذمرين، بعد فشلهم في الثورات الأخرى كالثورة ضد الماندشو، إلى جانب التاييينغ؛
إنتفاضات الأقليات في جهات شتى، والتي جاءت متأثرة نسبيا بثورة التاييينغ.
تزعم الثورة، معلم فقير يدعى هونغ كسيوكوانHong Xiuquan (1814 -1864) ، تلقى من المبشرين بعضا من مبادئ المسيحية مما أدى به إلى إنشاء "جمعية عُبَّاد الله"( Baishangdihui)، التي كانت تستخدم كلمتي: الرب ويسوع، فضلا عن كونه تلقى بعض المبادئ المعادية للماندشو؛ وقد عمل على نشر فكرة المساواة السياسية والإقتصادية وكذا المساواة بين الرجل والمرأة.
تحالف مع ثائر آخر يدعى فانغ يونشانFeng Yunshan (1821-1852) وأعلن الحرب على جنود كبار الملاك وشيئا فشيئا إنضم إليه الفقراء والفلاحين والتجار المضطهدين. وفي 11/1/1851، أسس في قرية جينتيان Jintian (مقاطعة غيبينغ Guiping في غوانكسي Guangxi) (مملكة السماء للسلام Taiping Tianguo).
هاجم ثوار التاييينغ مدنا كـ: غيلين، شانغشا، يويتشو، ووشانغ، هانكو Changsha,Guilin، Yuezhou، Nuchang، Hankou، وقد إرتفع عدد الثوار خلال ثلاث سنوات من 10 آلاف رجل إلى مليون، كما أنهم حاربوا من غوانكسي Guangxi إلى نانكين.
وجه الثوار أسلحتهم ضد: الموظفين، الملاك العقاريين ، المرابين، النبلاء، وكان الثوار يحرقون دفاتر الضرائب أينما حلوا.
في 1853، أسس التاييينغ حكومتهم في نانكين وأعلنوا عن "الإصلاح الزراعي للملكة السماوية" لرفض الملكية الفردية، كما طرحوا فكرة ضرورة حصول كل فلاح على قطعة أرض كافية لإعالة أسرته، وعملوا على إنشاء مؤسسات حرفية في المدن وحرروا التجارة عن طريق تخفيف الضرائب، التي كانوا يجبونها بطريقة بسيطة. وهكذا نجح التاييينغ في تصدير الحرير والشاي بكميات متزايدة وقضوا على تجارة الأفيون.
إرتكب التاييينغ خطأ إستراتيجيا أدى إلى زوالهم، ويكمن في عدم مهاجمتهم بكين وشنغهاي: الأولى لأنها عاصمة النظام الإقطاعي للكينغ والثانية لأنها مركز الرأسمال الأجنبي.
وبعد معارك طاحنة وانقسامات في صفوف التاييينغ، أخذت جيوشهم تنكسر تدريجيا، وبعد حرب الأفيون الثانية ساعدت القوات الغربية صراحة حكومة الكينغ ضدهم، فمثلا قاد الأمريكي وارد F.T.Ward عام 1860 جنودا مرتزقة في هجومات على مدن التاييينغ بالتنسيق مع الجيش الإمبراطوري. وفي مطلع 1863، وافقت حكومة الكينغ على قيادة البريطانيين "الجيش الذي لا يهزم" (الجيش الإمبراطوري)، والذين أغروا بعضا من عناصر التاييينغ، الذين كانوا يدافعون عن سوتشو Suzhou، ففتحوا لهم المدينة في نهاية السنة مما جعل القوات الإمبراطورية، مدعمة بالفرنسيين، تنشر فيها القتل والتخريب. وهكذا توالت هزائم التاييينغ إلى أن سقطت نانكين في جوان 1864، ولجأ الثوار إلى الإنتحار كي لا يقعوا أسرى في أيدي أعدائهم.
لقد أثبتت ثورة التاييينغ إمكانية زعزعة القوات والنظام الإمبراطوريين، وبرهنت على إستحالة إخضاع الأوروبيين الصينيين لسيطرتهم.
ثورة النيان Nian والأقليات: في مطلع 1850، إندلعت ثورة النيان شمال الصين في مناطق آنهوي Anhui وهنان Henan. وبين 1856-1860، حارب النيان بالتنسيق مع التاييينغ، ونتيجة لضعف التنظيم وكثرة خيانات القادة تمكنت القوات الإمبراطورية من تحطيم ثورة النيان في 1868.
وفي نفس الوقت إندلعت ثورات القوميات في جهات شتى وتأثرت أيضا بثورة التاييينغ ومنها : ثورة الهان والمياوMiao والهوي Hui. فقد دامت ثورة المياو، التي إندلعت في غيتشو Guizhou، عشرون سنة (1854- 1872)، ودخلت في علاقة مع التاييينغ، غير أن القوات الإمبراطورية حطمتها وقضت على مليون من ثوارها.
وفي 1855، إنتفض شعب الهوي في Yunnan، وفي 1867 قاد زعيمهم دو وانكسيو Du Wenxiu هجوما كبيرا على كومينغ Kunming لكنه إنهزم؛ وفي 1873 سقطت مدينتهم دالي Dali وانكسر جيشهم.
وفي شانكسي Shaanxi وغانسو Gansu إستجاب شعب الهوي لنداء التاييينغ وانتفضوا خلال سنوات 1861- 1863، ولكن القوات الإمبراطورية حطمت الإنتفاضة، عام 1869 في شانكسي، ثم في آخر ملاذ لهم في سوتشو Suzhou عام 1873، بعد القضاء على التاييينغ.
وبين 1864- 1876 إنتفضت قوميات كسينجيانغ Xinjiang ولكنها إنهزمت كبقية الثورات الأخرى.
2- أوضاع الصين خلال 1870- 1880:
بانتهاجها سياسة القسوة ضد الشعب وباعتمادها على أمراء الحرب (مجموعة هونان Hunan، التي يمثلها زانغ غيوفان Zeng Guofan، مجموعة آنهوي Anhui، التي يمثلها Li Hongzhang، لقمع الثورات الشعبية وكذا على القوى الأجنبية، تمكنت أسرة كينغ من الإبقاء على الصين نصف إقطاعية وشبه مستعمرة. ولن يقدر الفلاحون على النهوض مرة أخرى، بعد تلك الثورات المستمرة، سوى إنطلاقا من 1880، رغم أن مستوى معيشتهم استمر في الانخفاض يوما بعد آخر بسبب إحتكار الأرض من قبل الملاك وتعويض العجز الضريبي بإرهاق الفلاحين بالزيادات.
كما استغل التجار الأجانب إنخفاض حقوق الجمارك (التي نصت عليها اتفاقية نانكين)، والعبور وأخذوا يستوردون شتى المواد إلى الصين ويشترون الشاي والقطن والحرير بأرخص الأثمان، وقد إرتفعت قيمة الواردات من 100 مليون طايل عام 1864 إلى 300 مليون طايل عام 1894 وشملت أساسا المصنوعات والأفيون، كما أنشأ الأجانب بنوكا في الصين وتحكموا بواسطتها في ماليتها ومنها: The charter Bank of India, Australia &China وHong-Kong & Shanghai Banking Co ...الخ.
أ- حركة الإستغراب ونشأة الرأسمالية في الصين:
كان جزء معتبر من سادة الحرب وموظفي الطبقة المهيمنة يدعو إلى استغراب الصين معتقدين أن خلاص الإقطاعية يكمن فيه، أي عن طريق الإعتماد على دعم الغربيين واستخدام تقنياتهم. وقد كانت جماعتا هونان وآنهوي هي التي شرعت في تنفيذ ما أسمته "تقوية الصين الخاصة" Renforcent propre عن طريق إنشاء ترسانات بتمويل حكومي وبتسيير موظفين وتجار، وأخذت تنتج، بمساعدة مهندسين أجانب، أسلحة وتجهيزات حربية. وقد سمح لها ذلك بأن تضع يدها على الملاحة والصناعة المنجمية وظهرت شركات عدة أشهرها: China Merchant’s Steam Navigation Co. التي تأسست عام 1872.
وبداية من 1880، صار إنتشار الشركات التي تراقبها الدولة ويسيرها التجار موضى، وكان مصانع القطن في شنغهاي نموذجا لذلك والذي شرع في بنائه في 1882. ورغم كونها حديثة إلا أن بيروقراطية تسييرها جعلتها مثقلة بالديون ولم تجد أحدا يساهم فيها.
وقد شهدت الصين بين 1870-1880 إنشاء الخواص مؤسسات صناعية صغيرة للصناعة التعدينية والورق والكبريت وخيوط الحرير في مدن شنغهاي، قوانشو، ووهان إلخ، وكانت أول صناعة رأسمالية صينية. غير أنها كانت تعاني مضايقات الرأسماليين الأجانب، الذين أرادوا أن يجعلوا الصناعة شأنا غربيا فقط، وكذا البيروقراطية الحكومية التي كانت تعرقل نمو تلك الصناعات.
وقد أدت الظروف الإجتماعية، التي ولَّدت جنين الرأسمالية هذه، إلى ظهور مثقفين يقترحون إصلاحات سياسية لها طابع بورجوازي، فظهر مثلا تشانغ غوانيينغ Zheng Guanying، الذي طالب الصينيين بتقليد الغرب، ليس في تقنياته فحسب، بل في نظامه السياسي أيضا (من خلال كتابه: تنبيهات لخدمة فترة السلام والإزدهار). كما اقترح نبلاء من جيانغسو وتشيجيانغ إنشاء برلمان في الصين، مما يعني محاولة الملاك الإقطاعيين، في هاتين المنطقتين، خلق رأسمالية وطنية.
عقب فتح قناة السويس عام 1869، إزداد تدفق السلع الغربية إلى الصين وأخذت القوى الإستعمارية تتنافس على الإنفراد بالمناطق المحاذية للصين لكي تجعل منها مناطق إحتكار لتجارة معينة. وقد ساعدت الو.م.أ ، اليابان، حين احتاجت أرخبيل ريوكيو Ryû-Kyû، في إحتلال تايوان، ونتيجة لمقاومة السكان، عرض الرئيس الأمريكي الأسبق غرانت U. S. Grant وساطته واقترح تقسيم أرخبيل ريوكيو بين اليابان والصين في 1879، ولكن الصين رفضت وخسرت الأرخبيل نهائيا في 1881.
أما بريطانيا فألحقت برمانيا وأخذت تتقدم تدريجيا نحو مقاطعة يونان Yunnan ثم أرغمت الكينغ على توقيع معاهدة يانطاي Yantai في 1876، التي تسمح لها بالتمتع بالتسهيلات التجارية في ينان Yunnan، سيشوان Sichuan، التبت، غانسو Gansu.
أما فرنسا فاحتلت فيتنام ومنها توغلت إلى يونان، مما أدى إلى إندلاع الحرب الفرنسية الصينية (1883- 1885)، وهناك ظهر الجنرال ليو يونغفو Liu Yongfu (1837- 1916)، الذي كان قد أرغم على النزوح إلى الحدود الفيتنامية الصينية فرارا من قوات هذه الأخيرة أثناء الثورات الشعبية ضد حكم الكينغ، وأسس الأشرعة السوداء، وهي القوة الأساسية المعادية للفرنسيين في هذه الحرب. وقد إنتهت الحرب بهزيمة الصين.
ب- الحرب الصينية اليابانية:
في 1875، أرغمت سفن يابانية كوريا على فتح موانئها أمام التجارة اليابانية، بعدما إحتلت جزيرة كانغوا Kanghwa. وقد طلبت الحكومة الصينية سرا من نظيرتها الكورية، التعامل مع الإنجليز والفرنسيين والألمان والأمريكان بدلا من اليابان لإرغام اليابانيين على إلتزام حدودهم. غير أن القوات اليابانية كانت تتوغل يوميا أكثر فأكثر في التراب الكوري، وحين وقعت إضطرابات على مستوى الطبقة الحاكمة في كوريا عام 1882، فإن اليابانيين إنتهزوا الفرصة واحتلوا القصر الملكي الكوري، ولكن القوات الصينية والكورية أهزمتهم، وحاول الصينيون الإعتماد على الروس إلا أن الأمريكان كانوا سندا قويا لليابانيين.
وفي 1894 إنتفض الشعب بتحريض من تونغ هاك Tong-Hok (جمعية الدراسات الغربية) وطالب معونة الصينيين، وحين وصلت القوات الصينية أسر اليابانيون ملك كوريا وسيطروا على المواقع الإستراتيجية في سيول، واندلعت الحرب الصينية اليابانية. وفي 1895 أرغم اليابانيون حكومة الكينغ على توقيع معاهدة شيمونوزيكي Shimonoseki التي تضمنت:
1- التخلي لليابان عن شبه جزيرة لياودونغ Liaodong، تايوان، جزر بنغو Penghu (Pescadores)
2- دفع 200 مليون طايل كتعويضات حرب؛
3- منح اليابان حق إستغلال شتى المؤسسات الصناعية في الموانئ التجارية الصينية؛
وقد ثارت الأشرعة السوداء ضد اليابانيين بعد بلوغ نبأ إحتلال تايوان، وساندهم الشعب ولكن الحكومة التي فرضت الحصار على الجزيرة، أدت إلى إفشال مقاومتهم، وسوف تظل الصين تقاوم من أجل إسترداد تايوان إلى 1945.
وقد تدخلت روسيا وألمانيا وفرنسا وأرغمت اليابان على إعادة لياودونغ للصين وتعويضا قدر بـ 30 مليون طايل.
ج- تمزيق الصين:
عمل اليابانيون، الذين إستفادوا من معاهدة شيمونوزيكي، على إنشاء مؤسسات صناعية في الصين، وفي الأماكن التي يحلو لهم إنشاءها فيها، خاصة وأن الرأسمالية بلغت أوجها في هذه الفترة وظهرت الإحتكارات الكبرى وبدأ عهد تصدير رؤوس الأموال بدلا من المنافسة بين القوى الإستعمارية.
وهكذا، وبداية من 1895، شرعت القوى الإستعمارية في تمزيق الصين عن طريق خلق مناطق نفوذ فيها، ففرنسا طالبت بمنطقتي مانغوو Mengwu ووودي Wude (مقاطعة يونان) وبمد الخط الحديدي من فيتنام إلى يونان وغوانغسكي وبحق إستغلال مناجم يونان، غواندونغ، غوانغسكي. وفي 1897 أرغمت حكومة الكينغ على عدم التخلي، لأية قوة إستعمارية أخرى، عن جزيرة هاينان وأراضي بر الصين المقابلة لها؛ وفي 1898 استأجرت من الصين غوانغتشوان Guangzhouwan .
أما بريطانيا، منافسة فرنسا، فطالبت الكينغ بمنطقة يرنشان Yerenshan (مقاطعة يونان) وبفتح مينائي ووتشو Wuzhu وغوانغكسي على نهر كسيجيانغ Xijiang أمام تجارتها، ثم إستأجرت، في 1898، وايهايواي Weihaiwei، لتضع توازنا للنفوذ الروسي، وشبه جزيرة كاولون Kowloon والجزر المحيطية بهونغ كونغ وشواطئ دابانغ Dapeng وشانتشانغ Shenzheng، لتوازن نفوذ فرنسا.
وفي 1897 إحتلت ألمانيا، ساحل جياوتشو Jiaozhou ثم أرغمت الصين على تأجيرها لها، كما تحصلت أيضا على حق إنشاء طريق حديدي يربط جياوتشو بـجينان Jinan وحق إستغلال المناجم الواقع على 15 كلم في كلتا ضفتي الطريق، كما أنشأت بمعية الإنجليز، الخط الحديدي تيانجين- بوكو Pukou- Tianjin.
أما روسيا فانتهزت حرب الأفيون الثانية (1856- 1860) لتحتل أراضي شاسعة شمال هايلونغيانغ Heilongjiang (عمور Amour) وشرق ووزوليجيانغ Wusulijiang (أوسوري Oussouri) وكذا المناطق المتاخمة لشمال غرب كسيجيانغ، أي ما مجموعه 1,5 مليون كلم2 .
وفي 1898 إستأجرت روسيا لوشان Lüshan ( Port Arthur) وDalian (Dairen) وبنت سكة حديد شرق الصين، كما تحصلت بواسطة بلجيكا على حق بناء خطوط بكين – هانكو وتشانغتين- طايوان Zhengting–Taiyuan . ولكي توازن بريطانيا هذا النفوذ، فإنها قدمت قرضا لحكومة الكينغ لأجل بناء خط حديدي في ما وراء السور العظيم. وقد أدى التنافس بين الطرفين إلى إتفاق بينهما يجعل من شانغجيانغ Changjiang كمنطقة بناء سكك حديدية بريطانية ومنطقة شمال السور العظيم كمنطقة لروسيا القيصرية (في 1899).
وباختصار:
شمال السور العظيم لروسيا؛
حوض السور العظيم لروسيا؛
حوض شانغجيانغ لبريطانيا؛
شاندونغ لألمانيا؛
الغواندونغ، يونان، غوانغسكي: تتقاسمها فرنسا وبريطانيا.
فوجيان Fujian لليابان؛
أما الولايات المتحدة، التي لم تتحصل على مناطق نفوذ، فقد أعلنت "مبدأ الباب المفتوح" عام 1899، الذي طالبت بموجبه القوى صاحبة مناطق النفوذ بفتح باب تلك المناطق أمامها لتلعب دورها فيها، كما طالبت الصين بفتح كافة أراضيها أمام القوى الأجنبية لتستثمر فيها، وساندتها بريطانيا في هذه الدعوة ثم تبعتها القوى الأخرى.
د- توغل النفوذ الغربي في شؤون الصين:
منذ معاهدة شيمونوزيكي، إستثمرت القوى الأجنبية مبالغ هائلة في الصين وفي مجالات شتى كالصناعة والسكك الحديدية والمناجم. وقد تمكنت كل من بريطانيا وروسيا من مراقبة جمارك الصين من خلال تقديم قرض سياسي لحكومة الكينغ بقيمة 370 مليون طايل تضمنه الجمارك؛ وبمراقبة الجمارك راقبت القوَّتان شؤون الصين المالية.
وعلى مستوى الحكم، إنقسم السياسيون إلى تيارين أساسيين:
- الأول بزعامة الإمبراطورة سي كسي Ci xi: ويعارض كل ما له علاقة بالغرب وما من شأنه أن يجعل الصين دولة رأسمالية.
- الثاني بزعامة لي هونغتشانغ Li Hongzhang: ولعب أتباعه دور الوسطاء التجاريين والذين خدموا الغرب كثيرا. وقد زار هذا الزعيم موسكو (وتنازل لها سرا عن شمال شرق الصين في حفل تنصيب القيصر) كما ترامى كل من نائبي الملك تشانغ تشيتونغ Zhang Zhidoug وليو كونيي Liu Kunyi في أحضان الإنجليز والأمريكان وفرنسا واليابان وألمانيا وباعوهم حقوقا كثيرة في الصين، مما جعلهم أدوات لاستغلال الشعب والأرض.
هـ- حركة الإصلاح البورجوازية عام 1898:
نشأت هذه الحركة لأجل إحداث إصلاحات سياسية في شنغهاي وغوانغتشو خلال ثمانينات القرن التاسع عشر، وتطورت إبان الحرب الصينية اليابانية. وفي 1895، وعشية توقيع معاهدة شيمونوزيكي، تمكن كانغ يواي (1858- 1927) Kang Youwei، الذي تقدم للإمتحانات الإمبراطورية، من تجميع 1500 من أمثاله في بكين وتقديم عريضة جماعية إلى الإمبراطور غوانغكسو Guangxu، إحتجوا فيها على المعاهدة وقدموا فيها إقتراحاتهم لإجراء الإصلاحات، وكان ذلك بداية "لحركة الإصلاح".
وقد كشفت معاهدة شيمونوزيكي عن خطأ الحكومة في احتكار الصناعات الحديثة، وخاصة الحربية منها، والحيلولة دون تمكن القطاع الخاص من الإستثمار فيها، وكذا عن تمكن القوى الأجنبية من بلوغ مبتغاها بواسطة المعاهدات، مما دفع بالحكومة للسماح للقطاع الخاص، بداية من 1899، بالإستثمار في الصناعات النسيجية والحربية.
وقد نشأت معامل ومصانع حديثة (نسيج خاصة) في مدن شتى كشنغهاي، نينغبو، ووكسي، هانغتشو...إلخ؛ كما إستفادت الصناعات الأجنبية من ضخامة الرساميل و الإمتيازات المتحصل عليها بواسطة الإتفاقيات، مما خلق حالة عدم توازن، وتنافس غير شريف، بين الرأسمال الوطني والأجنبي وجعل البورجوازية الناشئة تطالب بإجراء إصلاحات من شأنها أن تدعم بها مكانتها، وساندها في ذلك المثقفون الذين رأوا في الإصلاحات ضرورة لنهضة الصين ومحو عار هزيمتها أمام اليابان.
زعماء الحركة: كانغ يواي Kang Youwei، ليانغ كيشاو Liang Qichao (1873-1928)، تان سيتونغ Tan Sitoug (1866-1898)، يان فو Yan Fu (1853-1921) وغيرهم، وقد أدخل هؤلاء نظريات ديمقراطية إلى الصين بواسطة الجرائد التي نشروها والجمعيات الدراسية التي أنشأوها. وفي 1898 نظم كانغ يوان، في بكين، "الجمعية من أجل حماية البلاد" (Baoguohui)، عقب إحتلال الألمان جياتشو عام 1897. وقد شرح كانغ يواي الأخطار المحدقة بالصين وضرورة الإسراع في إجراء الإصلاحات، مما دفع بالإمبراطور غوانغكسو إلى تعيينه، بمعية رفاقه، كموظفين لديه. وبين 11/ 6/ 1898 و21/9/1898 (103 يوما) صدرت مجموعة مراسيم ألغيت بموجبها الإمتحانات التقليدية للتوظيف، وفتحت مدارس، وسرح الجنود الفاسدون (الرايات الخضراء)، إلغاء المناصب التي لا فائدة منها، إنشاء البنوك، إستغلال المناجم، بناء السكك الحديدية، تشجيع إنشاء المؤسسات الخاصة، تشجيع الإبداع والإختراع، تأسيس الجرائد، الترجمة، وضع الميزانية ...الخ.
إصطدمت هذه الإصلاحات بمعارضة الإمبراطورة سي كسي Ci xi التي كانت تمسك بشؤون السياسة والجيش، مما أثار تنافسا بين أنصار الإصلاح ومعارضيه، إنتهى بحياكة سي كسي لانقلاب مصطنع بهدف خنق الإصلاحات في الوقت الذي إعتمد فيه أنصار الإصلاح على يوان شيكاي Yuan Shikai لإنجاح إصلاحاتهم، إلا أن هذا الأخير أوشى بهم، فأصدرت سي كسي قرارا بسجن الإمبراطور غوانغسو Guangsu. وفي 21 سبتمبر أعلنت أنها ستتولى مقاليد الحكم وأمرت بإعدام ستة من أنصار الإصلاح ومنهم تان سيتونغ Tan Sitong.
لقد كانت نتيجة الإصلاح هذا محسوبة سلفا لأنها مبنية أساسا على صلاحيات الإمبراطور، غير أن جزء من الإصلاحيين إتجه نحو معسكر البورجوازية الثورية، الذي أخذ يتشكل في هذه الآونة، وبقي جزء آخر يتشبث بأفكاره (ومنهم كانغ يواي وليانغ كيشاو) بل وشكل عائقا أمام البورجوازية الثورية.
و- ثورة البوكسير Ye He Tuan:
لم تتوقف إنتفاضات الشعب العفوية ضد الإعتداءات الأجنبية، منذ أن تم القضاء على ثورة التايبينغ، وقد إتخذت ثورة البوكسير، في البداية، مظهر معارضة للكنيسة ولرجال التبشير باعتبارهم أرسلوا إلى الصين بواسطة المعتدين عليها.
إندلعت الثورة في شاندونغ عام 1899 وتزعمتها الجمعية السرية "قبضة العدالة والوئام" Ye He Tuan التي إشتهر أعضاؤها باستخدام قبضات اليد والعصي، مما دفع بالانجليز إلى تسميتهم Boxers وكانت أغلبية أتباعها من الفلاحين والحرفيين وعمال النقل والفقراء وعدد قليل من الملاك العقاريين. وجه الثوار هجومهم على رجال التبشير في شاندونغ، التي كانت خاضعة للهيمنة الألمانية، وحاولت سلطات الكينغ قمعهم، غير أن نطاق الثورة أخذ يتسع، مما جعل السلطات تسعى إلى مراقبتها عن طريق الإعتراف بها [بالجمعية] ونشر موظفيها داخلها، فردت الجمعية أن أعلنت شعار: "حماية أسرة كينغ والقضاء على الأجانب"، مما عقد أمور السلطة أكثر من ذي قبل. شيئا فشيئا إمتد نفوذ البوكسير إلى مدن أخرى إلى أن أضحوا سادة بكين عام 1900، أين هاجموا مصالح الغرب.
لم تجد القوى الغربية أي حل للبوكسير سوى التحالف ضدها، وفي صائفة 1900 تحالفت 8 قوى: بريطانيا، الو.م.أ، روسيا، فرنسا، ألمانيا، اليابان، إيطاليا، النمسا، المجر، وهاجمت داغو Dagu واحتلت تيانجين Tianjin ثم هاجمت بكين. ونظرا للتفوق العسكري، إنهزم البوكسير رغم مشاركة بعض أفراد الجيش الإمبراطوري إلى جانبهم في القتال؛ وفي أوت 1900، سقطت بكين، واستحالت مسرحا لعمليات الحرق والتخريب التي قلما يشهد التاريخ مثلها.
أدى تخريب بكين إلى إعلان الإمبراطورة سي كسي، الفارة إلى كسيان Xi’an، أن الـ Ye He Tuan حركة متمردة ودعت إلى صداقة مع دول الحلف الـثمانية، التي ردت عليها بأنها جاءت لتقضي على البوكسير وتساعد الصين على إستتباب الأمن. وقد أمرت حكومة بكين حاكم مقاطعات الجنوب، لي هونغشانغ Li Hongzhang ، القدوم إلى بكين لعقد صلح مع 11 قوة أجنبية (الـثمانية سالفة الذكر + إيطاليا، بلجيكا، إسبانيا، هولندا مع إستثناء روسيا). وقد نصت الإتفاقية على دفع الصين تعويضات قدرت بـ 450 مليون طايل تدفع سنويا خلال 39 سنة، وعلى أن تتعهد حكومة الكينغ بقمع حركة الشعب الصيني المعادية للغرب، وأن تنشىء القوى الإمبريالية ثكنات عسكرية بالقرب من النقاط الإستراتيجية الواقعة بين بكين- تيانجين وتيانجين– شنهاغوان، وعلى تدمير حصن داغو وباقي حصون الدفاع الوطني الصيني. وبعد توقيع الإتفاقية، عادت الإمبراطورة سي كسي من كسيان Xi’an إلى بكين.
ي- الثورة البورجوازية عام 1911:
شهدت العشرية الأولى من القرن العشرين، سيطرة القوى الإستعمارية على مناجم الفحم والحديد والسكك الحديدية في الصين (منجم كايبينغ Kailuan)) Kaiping في يد الإنجليز، منجمي الفحم والحديد في أنشان Anshan وفوشون Fushun في أيدي اليابانيين ..) كما أخذت تلك القوى تبني المصانع في كل مكان، في الوقت الذي لم تبدأ فيه الصناعات الصينية المنافسة بعد.كما هيمنت تلك القوى على خطوط السكك الحديدية إما بالإستثمار فيها مباشرة وإما بتقديم قروض ربوية لبنائها (خطوط جياتشو– جينان، هايفونغ- يونان في الشرق، شنغهاي– هانغتشو– نينغبو، بكين، هانكو، بكين– شاينانغ). وقد بلغ حجم إستثمارات تلك القوى في الصين عام 1911، 1,5 مليار دولار، كما بلغت ديون الصين 1,4مليار دولار منها 800 مليون كقروض بفوائد 5 % لبناء السكك الحديدية. كما كان عجز الميزان التجاري يبلغ 100 مليون طايل سنويا، فضلا عن غزو المصنوعات الغربية لأسواق البلاد مما أثقل كاهل الشعب الذي أخذ ينظم المظاهرات والإضرابات في المدن التي يتواجد فيها الأجانب (مظاهرة شنغهاي ضد روسيا عام 1907، الصراع مع القوات الفرنسية عام 1903 في غونغكسي مقاطعة سلع الأمريكان لمدة 7 شهور في 7 مدن عام 1905 ، وقبل ذلك بسنة إحتل الإنجليز التبت كما صار شمال الصين مسرحا للحرب الروسية اليابانية.
وفي خضم هذه الأوضاع، جنحت الجمعيات الصينية إلى الوحدة، ومنها الجمعية من أجل نهضة الصين، التي تزعمها صن يات سون (صن يات سن (1866- 1925)) منذ 1894. وقد جاء إتحاد تلك الجمعيات باسم الرابطة الثورية للصين والتي إنتخبت صن يات سن زعيما لها.
من بين النقاط التي تضمنها بيان الرابطة الثورية ما يلي: "فضلا عن طرد الماندشو وإنهاض الصين، لابد أيضا من تغيير نظام الدولة وتعديل حياة الناس... ولابد للروح الوحيدة المهيمنة أن تكون روح الحرية والمساواة والإخاء، ولهذا فإذا كانت الثورات في الأزمنة السالفة ثورات أبطال، لابد لثورات اليوم أن تكون شعبية. كما أعلن صن يات سن عن مبادئ الشعب الثلاث: الوطنية، الديمقراطية، إزدهار الشعب.
1- فالوطنية تعني مقاومة هيمنة الماندشو على البلاد؛
2- والديمقراطية، ضرورة تأسيس جمهورية ديمقراطية؛
3- وإزدهار الشعب، عرض لأفكار إشتراكية طوباوية، إنطلاقا من وجهة نظر البورجوازية الصغيرة.
وقد إعتقد صن يات سن أنه بإمكان الصين تفادي المرور بالرأسمالية عن طريق إحلال المساواة في ملكية الأرض.
بلغ عدد أعضاء الرابطة، خلال سنة من تأسيسها، نحو 10 آلاف فرد، أخذت السلطات تقمعهم، بما في ذلك السلطات اليابانية في الصين، بيد أن الحركة المعادية للماندشو، أخذت تتقوى بداية من 1905، وفي 10/10/1911 إندلعت إنتفاضة في ووشانغ Wuchang حركتها حركتي وانكسويش Wenxueshe (النادي الأدبي) وغونغجينهوي Gongjinhui (الجمعية من أجل الرقي العام)، وقد شارك الطلاب والعمال في الإنتفاضة، التي أجبرت نائب الملك على الفرار، وإستولوا على هانكو وهانيانغ، بالقرب من ووشانغ؛ كما إندلعت عمليات مناصرة للثوار في أجزاء كثيرة من الصين.
بعد الإنتصار الذي حققه الثوار في ووشانغ، ظهرت حكومات مستقلة عن الكينغ في عدة مدن مثل: غوانغدونغ Guangdong، غوانغكسي Guzangxi، تشيجيانغ Thejiang، جيانغسو Jiangsu، يونان Yannan، شنكسي Shanxi، شانكسيShaanxi، جيانغكسي Jiangxi، شاندونغ Shandong، فوجيان Fujian، آنهوي Anhui، فنغتيان Fingtian، سيشوان Sichuan ، وقد إجتمع أفراد هذه الحكومات العسكرية في نانكين وأعلنت عن تأسيس جمهورية الصين وانتخاب صن يات سن رئيسا لها وتأسيس الحكومة في 1/1/1912.
في هذه الأثناء ظهر يوان شيكاي، الذي كانت السلطة العسكرية للكينغ بين يديه، كأكبر مخرب للثورة، حيث أرغم الكينغ والثورة معا على وضع زمام الأمور بين يديه، حين إنتخب رئيسا للجمهورية الفتية في مارس 1912، وبذلك إنهزمت الثورة البورجوازية.
تمكنت الثورة، رغم هزيمتها، من القضاء على حكم الكينغ للصين الذي دام نحو 300 سنة، ومن جعل الإقطاعية حالة آيلة إلى الزوال، ومن زيادة وعي الشعب بوضعيته.
3- الصين إبان الحرب العالمية الأولى:
عقب فشل حكم الأوتوقراطي يوان شيكاي، الذي سعى لأن يصير إمبراطورا بمساعدة القوى الغربية، وعقب وفاته المباغتة، صارت بكين، عاصمة الحكم المركزي، محل أطماع الكثير من القوى السياسية في الصين، وخاصة خلفاء يوان شيكاي نفسه (أي عسكريو بايانغ Beiyang)، وفي المقاطعات أسس الحكام العسكريون وسادة الحرب، كل شيء، في الوقت الذي تحيك فيه القوى الأجنبية خيوط السياسة الصينية من الخفاء، أما الطبقة المثقفة فلم تكن تبحث سوى عن مخرج للبلاد، متأثرة بوضعيتها المزرية خلال الـ 80 سنة الفارطة، بفشل ثورة 1911، بالهجمة الإمبريالية عليها، بنجاح ثورة أكتوبر في روسيا...إلخ
وقد سمح إنشغال الأوروبيين بالحرب العالمية الأولى للرأسمالية الصينية بأن تتطور بشكل أفضل عما كانت عليه من قبل، كما إزداد نفوذ الإستثمار الصناعي الياباني وخلق منافسة حادة للرأسمال الصيني، المنافسة التي ستشتد عقب الحرب العالمية الأولى، حين يعاود الغرب نشاطه بكثافة من جديد.
وقد أدت المنافسة بين الصناعات الغربية والصينية إلى تفطن البورجوازية الصينية وتجليها في شكل رغبة في المقاومة. وقد ساعد على ذلك، نشأة طبقة عاملة صينية، إرتفع عدد أفرادها من مليون عام 1914 إلى 3 مليون عام 1919، أخذت تعاني، في غياب حزب ووحدة نقابية، من الإقطاعية والرأسمالية والإمبريالية.
أ- المدرستين القديمة والجديدة: يتعلق الأمر هنا بالصراع بين ثقافتين: ثقافة تقليدية إقطاعية تعود إلى الفترة التي سبقت حربي الأفيون، وثقافة جديدة متأثرة بالغرب وخاصة في نظرياته الإجتماعية وعلومه الطبيعية ويمثلها كانغ يوان، يان فو، صن يات سن، حيث:
ألف هونغ كسيوكوان Hong Xiuquan : النظام الزراعي في المملكة السماوية.
هونغ رينغا Hong Renga: الأحاديث الجديدة عن الحكم.
كانغ يواي Kang Youwei: الإصلاح في 10 آلاف حرف + كتاب المجتمع العالمي.
ترجم يان فو Yan Fu: تساؤل بشأن طبيعة وأسباب الغنى، لآدم سميث؛ روح القوانين لمونتيسكيو، التطور والأخلاق لها كسلي، دراسة علم الإجتماع لهربرت سينسر، منظومة المنطق لجون ستيوارت مل.
صن يات سن Sun Tat-sen: ألف مبادئ الشعب الـثلاث (السالف ذكرها): الوطنية، الديمقراطية، إزدهار الشعب.
كما تمت ترجمة الكثير من كتب الرياضيات والديناميكا والكهرباء والكيمياء والبصريات والبخار والفلك والفيزيولوجيا وعلم النفس والطب... من قبل مكتب الترجمة التابع لترسانة جيانغنان Jiangnan في شنغهاي. وفي مقدمة "قائمة بعناوين كتب الغرب"، كتب المؤلف ليانغ كيشاو Liang Qichao يقول: "ترغب الصين في أن تصبح قوية، ولذلك فالضرورة الملحة تقتضي ترجمة الكثير من الكتب الغربية؛ وإذا رغب الطلاب في إعطاء أنفسهم مكانة ما بأنفسهم، فلابد لهم أن يقرأوا منها ما استطاعوا".
وقد عرفت نهاية حكم الكينغ إدخال العلوم الطبيعية، كمادة إجبارية، في المدارس الصينية؛ كما سافر الكثير من الطلاب الصينيين إلى الغرب لتلقي العلوم، ولكنهم لم يجدوا ما يفعلونه بمعارفهم في الصين حين عادوا إليها.
وأمام تنامي التأثر بالغرب وإنتشار الأفكار الإصلاحية، وقفت المدرسة التقليدية حائلا دون تحقيق المثقفين أدنى أثر لهم على الواقع، مما دفع بهم إلى إطلاق شعار "الديمقراطية والعلم" عشية حركة 4 ماي 1919. وفضلا عن ذلك، عرف الأدب والفنون الغربية حركة ترجمة واسعة، حيث ترجم لين شو Lin Shu وحده أزيد من 100 رواية ومنها La Dame aux Camelia، الذي نال شهرة واسعة في أوساط القراء الصينيين؛ كما ظهر أدب ثوري صيني وتزعمه لو كسان (لو شيون) Lu Xun، الذي ثار ضد الثقافة الإقطاعية وكذا ضد ثقافة خدام الغرب في الصين.
ب- حركة 4 ماي 1919: أفضت إتفاقية فرساي إلى إنتزاع شاندونغ من ألمانيا ومنحها لليابان، مما أثار الشعب الصيني وحرك الطلاب ليخرجوا إلى ساحة تيان آن من، في 4/5/1919، ويعلنوا شعارهم: "المقاومة في الخارج لأجل سيادة الصين، ومعاقبة الخونة في الداخل" ثم إحتجوا على إحتلال اليابان لـكينغداو وباقي مدن شاندونغ وطالبوا بمعاقبة كل المتعاونين مع اليابانيين ومنهم وزيرا المواصلات كاو رولن Cao Rulin وتشانغ زونغكسيانغ Zhang Zongxiang، سفير الصين في اليابان، ولو زونغيو Zongyu Lu، مدير الشؤون المالية؛ كما قام الطلاب بمظاهرة كبيرة أحرقوا ربوع الصين وتضامن معها الطلاب والعمال، الذين أضربوا عن العمل يوم 5 جوان في مدن عديدة ومنها شنغهاي، ثم تلاهم التجار وأضربوا من جانبهم، وصارت حركة 4 ماي، حركة طلابية، عمالية وبورجوازية مناهضة للوجود الأجنبي في الصين، حيث بلغ صداها حد إرغام الحكومة على الإمتناع عن توقيع إتفاقية فرساي في 28 جوان.
وقد تأثر الصينيون بنجاح الثورة البولشفية وخاصة حين ألغت الحكومة السوفيتية كافة الإتفاقيات الجائرة التي أبرمتها روسيا القيصرية مع الصين. كما أدخلت الأفكار الإشتراكية إلى الصين وظهر زعماء لها أمثال لي داتشاو Chen Duxiu شان دوكسيو Li Dazhao، ماوتسي تونغ، شوان لاي.
وكانت الشيوعية واحدة من الأفكار التي ساهمت حركة 4 ماي، بشكل كبير، في انتشارها بواسطة إنتشار المجلات والجرائد والكتب في هذه الفترة بالذات، ومن ثمة فهي التي هيأت لها الأرضية المناسبة.
ج- ميلاد الحزب الشيوعي الصيني: نشط الشيوعيون الصينيون، عقب حركة 4 ماي، في مناطق كثيرة، حيث ساعدوا العمال الزراعيين بصفة خاصة على تأسيس نقابات لهم، كما عملوا على طبع الجرائد الشعبية لنشر أفكارهم في مدن شنغهاي، بكين، غوانغتشو. وفي ماي 1920، تأسس أول ناد للشيوعيين في شنغهاي، تلاه تأسيس شببية الصين الإشتراكية، كما عرفت مدن بكين، هانكو، شانغشا، غوانتشو، جينان، إنشاء منظمات شبانية إشتراكية موازية لذلك.
وفي جويلية 1921، إنعقد أول مؤتمر للشيوعيين الصينيين في شنغهاي وضم ماوتسي تونغ، دونغ بيوو، شان طانكيو، وانغ جينهاي ...الخ، وقرر فيه المجتمعون تأسيس الحزب الشيوعي الصيني. ومنذ تأسيسه، شرع الحزب في قيادة الحركة العمالية، حيث أنشأ سكرتارية المنظمات العمالية في الصين ثم قاد نحو 300 ألف عامل خلال سنة 1922-23 (من جانفي إلى فيفري) في نحو 100 إضراب منها إضراب عمال ميناء هونغ كونغ، الذي لاقى تأييدا كبيرا من سكان المدينة.
وفي جويلية 1922، إنعقد مؤتمر الشيوعيين الثاني في شنغهاي لوضع برنامج عمل وتوحيد نضال الشيوعيين وقد خرج المؤتمرون ببيان تضمن أساسا: الدعوة إلى خلق جبهة موحدة وديمقراطية "للقضاء على الصراعات الداخلية وقلب نظام حكم العسكريين وإحلال السلم والقضاء على إضطهاد الإمبرياليين للصين والعمل على تحرير عموم الصين وتوحيدها في جمهورية ديمقراطية، كما أطلق المؤتمرون شعار: "الحرب على الإمبريالية والإقطاعية".
عقب المؤتمر مباشرة، إندلعت سلسلة من الإضرابات، التي مست قطاعات شتى كالمواصلات والسكك الحديدية والمناجم، حيث أضرب مثلا 20 ألف منجمي في أنيوان Anyuan في منطقة جيانغكسي Jiangxi، و40 ألف منجمي في كايلوان Kailuan...إلخ وقد قابلت السلطات، بمساعدة الإمبرياليين الأجانب، تلك الإضرابات بالقمع، حيث قمع المضربون في الخط الحديدي بكين– هانكو، في 7/ 2/ 1923 بقسوة حيث قتل 40 عاملا وسجن 40 آخرين وجرح 300 آخرين.
4- أوضاع الصين إبان وبعد الحرب العالمية الأولى:
عقب وفاة يوان شيكاي عام 1916، إنقسم عسكريو بايانغ (الشمال) إلى جزئين: جماعة تشيليZhili (في هبي Hebei) وجماعة أنهوي Anhui. قاد الأولى فانغ غيوتشانغ Feng Guozhang (ثم كاي كون Cai Kun ووو بايفو Wu Peifu من بعده) وكانت أمريكا وبريطانيا تساعدانها، وقاد الجماعة الثانية دوان كيروي Duan Qirui الخاضع للنفوذ الياباني، كما وجدت جماعة ثالثة في فانغتيان Fengtian (لياونينغ) في الشمال الشرقي (منشوريا) المتآمرة أيضا مع اليابانيين.
و هكذا صارت الصين جماعات متحاربة فيما بينها بشكل يعكس التنافس بين أمريكا و بريطانيا من جهة اليابان المستفيدة من الحرب العالمية الأولى من جهة أخرى، وما إن مات يوان شيكاي حتى استولت جماعة أنهوي Anhui على السلطة المركزية في بكين ودخلت في حرب مع جماعة تشيلي Zhili في مناطق عدة، ولكن هذه الأخيرة هزمتها واستولت على بكين من نهاية 1920 إلى 1924، كما انتصرت هذه الجماعة أيضا على جماعة فانغتيان Fengtian عام 1922.
إزدادت أوضاع الصينيين سوء بداية من 1922، عقب عودة الإستثمارات الأجنبية وعجز الصناعات الصينية على منافستها مما جعل البورجوازية الصينية تزداد وعيا عما كانت عليه من قبل.
وفي جوان 1923، عقد الشيوعيون مؤتمرهم الثالث لتوحيد الجهود ضد الإحتلال والصراع الداخلي بين أمراء الحرب. وقد رأى المجتمعون أن مد يد العون لصن يات سن كفيل بخلق جبهة موحدة وإعادة تنظيم الكومينتانغ (الرابطة الثورية في الصين، التي قادها صن يات سن وأعيد تنظيمها عام 1912 باسم الكومينتانغ) مع إحتفاظ الشيوعيين باستقلالهم السياسي والتنظيمي. وقد عرف المؤتمر إختلافات حادة في وجهات النظر، وانتصار أتباع ماوتسي تونغ، الذي إنتخب عضوا في اللجنة المركزية للحزب ومسؤولا للجنة التنظيم في المؤتمر. وفي 1924 إجتمع الحزب الشيوعي والكومينتانغ في غوانغتشو وخرجا ببيان يوحد الجهود ضد الإمبريالية والإقطاعية ويساند الطبقة العاملة ومتحالف مع روسيا والحزب الشيوعي وهي أفكار طالما نادى بها الشيوعيون.
وهكذا شكل المؤتمر نقطة إنطلاق تاريخية في نضال الصينيين، حيث ساعد الشيوعيون، صن يات سن على إنشاء مدرسة هوانغيو (وامبوا Whampoa) العسكرية في كانطون وعلى إنشاء جيش ثوري. وقد أرسل الحزب الشيوعي بعدد نمن قادته، ومنهم شوان لاي، للتدريس في مدرسة وامبوا، التي التحق بها الكثير من الشبان الأعضاء في حركة الشبيبة.
إمتد تأثير الجبهة الموحدة الجديدة إلى أن بلغ الحكومة المركزية، حيث ظهر فانغ يوكسيانغ Feng Yuxiang، أحد قادة الحرب، مؤيدا للجبهة عام 1924. وفي 1/5/1925، إنعقد في غوانغتشو مؤتمر العمل الأول وتأسست إثره فيدرالية نقابات الصين، التي ترأسها لن وايمن وليوشاوكي.
وفي 30 ماي 1925، وإثر إغتيال اليابانيين لعامل وجرح آخرين في شنغهاي، خرج آلاف الطلاب في مظاهرة كبيرة وقابلتهم القوات البريطانية بالرصاص وقتلت منهم عشرة طلاب. وفي 4 جوان، قامت القوات الفرنسية والبريطانية والإيطالية والأمريكية بقتل عدد كبير من الملاحين الصينيين في شنغهاي، وقد كان لمجزرة 30 ماي صدى كبير في العديد من المدن الصينية، التي قامت بإضرابات وإضطرابات كثيرة، ومنها هونغ كونغ التي صار إسمها "المدينة الميتة" أو "المدينة المتعفنة" بعدما كان يعني بالصينية "المدينة المعطرة". وشيئا فشيئا إزداد نشاط الشيوعيين إلى أن تمكنوا من تشكيل حكومة وطنية في غوانغتشو في 1/ 7/ 1925 وتأسيس الجيش الوطني الثوري، الذي خاض معارك كثيرة ضد النظام القائم، الإمبرياليين، أمراء الحرب، الرجعيين...الخ إلى أن وحد غواندونغ في ربيع 1926. وبالموازاة مع العمليات الحربية، أنشأ الشيوعيون "المعهد الوطني للحركة الفلاحية" الذي قدم فيه ماوتسي تونغ وأتباعه دروسا لشبان سوف يتحولون إلى رواد لحركة الفلاحين لاحقا.
عرف الكومنينتانغ إنقساما داخليا بسبب إحتوائه البروليتار والبورجوازية من جهة وتنامي قوة الشيوعيين من جهة أخرى، حيث إنفصل يمين البورجوازية الوطنية داخل الحركة عن بقية مكوناتها وكان يمثلهم جيانغ جييشي Jiang Jieshi (تشيانغ كاي شك Tchiang Kai-Chek)، الذي كان يسعى إلى الهيمنة على قيادة الثورة، من خلال حياكة المؤامرات ضد الشيوعيين والحد من نفوذهم داخل الكومينتانغ.
في جويلية 1926، إنطلقت الثورة في ما عرف "بحملة الشمال" ضد عسكريي بايانغ، من غوانغدونغ، وكان تشانغ كاي شك يطمح إلى خلافة هؤلاء وليس إلى القضاء عليهم فحسب، ونتيجة لانتصارات الثوار، تم نقل مقر الحكومة الوطنية في 1/1/1927 إلى ووهان، كما تمكن الثوار من طرد الإنجليز من هانكو وجيوجيانغ (1927). وفي الشهر التالي (فيفري) حرك شوان لاي ورفاقه ثورة عارمة في شنغهاي وتمكنوا من السيطرة عليها بعد يومين من المعارك الطاحنة.
وأمام إنتصارات الثورة، تآمر تشانغ كاي شك مع الغرب وقام في 12 أفريل بانقلاب على الثورة بعدما قتل العديد من الشيوعيين في شنغهاي ثم في مدن أخرى. وهكذا إنتهت الحرب الأهلية الأولى بهزيمة الشيوعيين لقلة حذرهم أو لثقتهم الزائدة في البورجوازية، وكان ذلك ما سلط عليه المؤتمرون، في المؤتمر الـخامس الذي إنعقد في 27/4/1927 في ووهان، الضوء والنقد.
الحرب الأهلية الثورية الثانية (أوت 1927- جوان 1937): قاد تشانغ كاي شك معارك عنيفة ضد العسكريين في جميع أرجاء الصين وكان النصر حليفه دائما تقريبا، خاصة إذا علمنا أن الأمريكان والبريطانيين واليابانيين قدموا له يد العون للإبقاء على الصين تحت سيطرتهم والقضاء على الثورة فيها. وبالفعل فقد أعلن تشانغ كاي شك الحرب على الشيوعيين أيضا وقتل منهم ومن أتباعهم مئات الآلاف إلى أن إستحال الكومينتانغ مثل عصابات بايانغ.
ولإنقاد الثورة، قاد شوان لاي، تشودي، يي طانغ ... إلخ نحو 30 ألفا من رفاقهم في ثورة من ناشانغ (عاصمة جيانغسي) في فاتح أوت 1927، وكانت الثورة إيذانا بميلاد الجيش الشعبي الوطني بقيادة الحزب الشيوعي الصيني، وكذا بميلاد الثورة ضد الحركة الرجعية التي تزعمها تشانغ كاي شك، بالإضافة إلى الثورة ضد الامبريالية. وقد سار الجيش إلى الجنوب وانهزم في أكتوبر في غوانغدونغ بسبب التفوق العددي لقوات تشانغ كاي شك، وبعدئذ إلتقت القوات المتبقية للشيوعيين في جبال جينغانغ Jinggang بقوات ماوتسي تونغ وتأسس الجيش الأحمر الصيني للعمال والفلاحين.
وقد تحولت جبال جينغانغ إلى قاعدة ثورية للجيش الأول ن بقيادة ماو، حين وصلها قادما من شانغشا، أين إنهزم أمام تشانغ كاي شك.
بداية من 1928، تأكدت للشيوعيين إستحالة إنتصارهم في المدن، فعملوا على ربح الريف من خلال ثورة إجتماعية وتجنيد الفلاحين في ثورة ضد المستعمر وأتباع تشانغ كاي شك. وفي جويلية 1928، عقد الشيوعيون مؤتمرهم السادس في موسكو.
وقد أخذ الشيوعيون يزيدون في عدد جيوشهم، المتشكلة أساسا من الفلاحين ويهاجمون مواقع قوات تشانغ كاي شك وينفذون ثورتهم الزراعية، التي قضت على الإقطاعية وشبه الإقطاعية. وقد تمكن الجيش الأحمر للفلاحين والعمال من تكسير عدة محاولات لجيوش تشانغ كاي شك لتطويق مواقع الثورة في جيانغكسي Jiangxi وغيرها مع مطلع الثلاثينات.
وخلال أزمة 1929، إحتل اليابانيون شمال شرق الصين، حيث هاجموا شانيانغ عام 1931 (موكدن) ووقعت ثلاث مقاطعات تحت سيطرتهم وهي سياونينغ، جينين، هايلونغيانغ، أي نحو 2 مليون كلم2 يسكنها 30 مليون نسمة ، وسوف ينشئ اليابانيون حكومة مؤيدة لهم في هذه المنطقة، وتدعى ماندشوغيو "Mondchouguo". وقد نادى الشيوعيون بتوحيد الجهود لتحرير البلاد من اليابانيين، في الوقت الذي إلتزم فيه الكومينتانغ الصمت. وحين هاجم شنغهاي في 1932، قاومهم الجيش الأحمر، الذي أخذ ينظم صفوف المقاومة في الأوساط الطلابية والعمالية.
في 18/9/1931 إدعى اليابانيون أن الوطنيين الصينيين قصفوا خط السكك الحديدية جنوب ماندشو ومدوا بنفوذهم ليشمل كل منشوريا ويجمعوا مقاطعاتها الثلاث في دولة مصطنعة، دعيت ماندشوكيوMandchoukouo ، وضعوا على رأسها آخر أباطرة الماندشو. لقد كان ذلك بداية للتوسع الياباني في الصين، التي يتحارب فيها الشيوعيون وأتباع تشانغ كاي تشك (جيانغ جييشي).
بعد إنهزامهم أمام قوات تشانغ كاي تشك (الذي تفاوض مع أمراء الحرب وتقاعس في مقاومة التوسع الياباني)، فإن الشيوعيين إضطروا إلى الخروج بمقاومتهم من المدن إلى الأرياف وتأسيس قواعد لهم في الجنوب والوسط؛ غير أن قوات تشانغ كاي تشك تمكنت من إحكام الخناق عليهم مما سيضطر قادة فلول الشيوعيين إلى مغادرة مواقعهم صوب الغرب ثم الشمال، إنقاذا لثورتهم، في ما عرف باسم المسيرة الكبرى (التي دامت سنة كاملة من 16/ 10/1934 إلى أكتوبر 1935، قطع فيها نحو 100000 شيوعي مسافة 12500 كلم، من جيانغكسي إلى شانكسي الشمالية، وقد فقد الشيوعيون معظم قواتهم في هذه المسيرة).
في 1/ 8/ 1935 دعا الحزب الشيوعي الصينيين إلى توقيف الحرب الأهلية وتوحيد جهودهم ضد اليابانيين، غير أن تردد تشانغ كاي تشك سيضطر أحد جنرالاته، تشانغ كسويليانغ Zhang Xueliang إلى إلقاء القبض عليه في كسيان Xi’an في 12/ 12/ 1936. وبعد مفاوضات مع الشيوعيين، أطلق سراحه ووحدت مقاومة الطرفين في جبهة وطنية موحدة ضد الغزاة اليابانيين. وهكذا بدأت تباشير نهاية الحرب الأهلية، التي دامت نحو عشرية كاملة، تلوح في الأفق وبداية الحديث عن الصلح الداخلي. وبين جويلية 1937 وسبتمبر 1945، خاض الصينيون مقاومة ضارية ضد اليابانيين، كشفت للصينيين وللدول الغربية عن فساد قيادة وإدارة تشانغ كاي تشك وزادت من إلتفاف الصينيين حول الشيوعيين، مما جعلهم يتحكمون في 19 منطقة محررة إلى 1945.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية واستسلام اليابان، أخذ نفوذ الشيوعيين يتقوى بنفس الوتيرة تقريبا التي أخذت عليها سلطة تشانغ كاي تشك وأتباعه تتراجع، ورغم المحاولات الساعية إلى التوفيق بين الطرفين (ومنها وساطة جورج مارشل George C. Marshall التي أفضت إلى توقيع هدنة بينهما)، إلا أن الحرب الأهلية إندلعت من جديد وأخذ الشيوعيون يحققون في الإنتصارات والتقدم التدريجيين إلى أن إضطروا تشانغ كاي تشك إلى اللجوء إلى تايوان في 8/ 12/ 1949 بعد إعلانهم عن ميلاد جمهورية الصين الشعبية في 1/ 10/ 1949 .
د. أمزيان حسين
9 من الزوار الآن
916816 مشتركو المجلة شكرا