الصفحة الأساسية > 6.0 فلسطيننا > مدينة القدس والنظام الدولي
لاشك في أن القدس كانت وما تزال، واحدة مـن أعقد القضايـا في الصراع العـربـي – الصهيوني، ماضياً حاضراً ومستقبلاً، لذلك لا تدّخر سلطات الاحتلال جهداً ولا مالاً ولا تخطيطاً ولا تشريعاً، إلا وجندتها في سبيل الأهداف التوسعية الاستيطانية. وقد مرّ الغزوة الصهيونية في فلسطين بدأت بمرحلة التسلل التي استمرت حتى عام 1917 ثم مرحلة التغلغل؛ إبان الاستعمار البريطاني لفلسطين حتى عام 1948؛ إلى مرحلة الغزو بعد إقامة "دولة إسرائيل"، وحتى مرحلة التوسع بعد عدوان حزيران/يونيو عام 1967، حيث نجح الغزو الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في احتلال جزء كبير من القدس إبان حرب عام 1948، وأكمل احتلال الجزء الشرقي منها في حرب عام 1967.
ولما كان هناك من يتطلع ـ إلى مؤسسات النظام الدولي المعاصر ـ منتظراً على يديها الفرج؛ بعودة القدس وإقامة الدولة الفلسطينية؛ فإننا لا نأتي بجديدٍ حينما نعيد كشف الحقيقة الموجعة أن المنظمات الدولية؛ ما زالت مطية الأقوياء نحو تحقيق أهدافهم، وأداتهم الطيعة لصيانة مصالحهم؛ ولذلك مضت أكثر من ستين عاماً على وجود القضية في أروقة الأمم المتحدة؛ ولا حياة لمن تنادي...
من أجل ذلك؛ لا يمكن فهم القضية الفلسطينية دون معرفة مكانة القدس في الحضارة العربية الإسلامية، وأسباب استهدافها من قبل التحالف الغربي ـ الصهيوني، والدور الذي لعبه النظام الدولي المعاصر فيما آلت إليه حالها، والموقف العربي والإسلامي والفلسطيني من ذلك كله...
إذا كانت القضية الفلسطينية قد تجلت بنكبة عام 1948م؛ فإنها قد بدأت قبل ذلك بقرون، بيد أن الهزيمة الأخيرة كانت قاصمةً حاسمةً؛ حتى لتنوء بدراسة آثارها العصبة أولو العزم من الباحثين المخلصين، ولو جئناهم بعشرة عصائب مدداً... فأي بحثٍ وأي باحثٍ ـ مهما أوتي من الحصافة ودقة التعبير ـ يستطيع أن ينقل لنا حال أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون ((لاجئ)) ينتشرون في شتى أنحاء المعمورة... ناهيك عن أربعة ملايين ونصف يعيشون ليل الاحتلال الطويل.
ومما لاشك فيه، أن الصهيونية لم تنهض في فراغٍ، بل جاءت ضمن سياقٍ تاريخيٍّ غربي؛ أمسك فيه الغرب بتلابيب العالم، وآلت إليه زعامته بعد أن رجحت كفته على سائر الأمم، وما كان ذاك ثمرةً لرسالةٍ، أو نشراً لحضارةٍ، بل كان هيمنةً وعلواً واستكباراً.إذ أعاد الغرب مآثر أسلافه الوثنية ((الإغريق والرومان))، وأعطى لعقائده اليهودية القدح المعلى؛ حينما أعمل القتل والإبادة، ونادى بتفوق عرقه على سائر بني البشر. وعلى الرغم من أن الصهيونية كحركةٍ سياسيةٍ منظمةٍ لم تنهض إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي؛ معلنةً أنها وريثة شرعية لليهودية كنسقٍ ديني وتيارٍ قومي إثني؛ وتعمل من أجل تحقيق حلم اليهود بعودتهم إلى «أرض الميعاد» وتجسدت تلك الحركة في المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في «بازل» بسويسرا عام 1897، وأعلن فيه أن الهدف الصهيوني الأول هو «إقامة وطن قومي لليهود بضمانة القانون الدولي».
من أجل ذلك؛ وجدت الصهيونية نفسها، تستلهم من الحاضر الغربي كل مزاعم الماضي، فمضت إلى إحياء ((الخرافات)) التي حفل بها ميراث اليهود، ولكنها ضلت السبيل، وأخطأت الهدف، وأضلت خلقاً كثيراً...فلا اليهود الصهاينة هم ((من بني إسرائيل))، ولا الوعود التي زعموها لها في الحق نصيب.
ولعله غني عن البيان؛ أن الصراع العربي ـ الصهيوني قد مر بمحطات كثيرة؛ تركت معطياتها بصماتٍ واضحةٍ على مسير الكفاح الفلسطيني، الذي تغيرت مفردات خطابه ((الرسمي)) ـ غير مرة ـ تبعاً للظروف الخاصة والعربية الدولية؛ حتى وصل ـ في إحداها ـ إلى مرحلةٍ تنكّر فيها لمسيرةٍ زينتها قوافل الشهداء، وأضحى التغير انحرافاً ابتداءً من اتفاقات أوسلو، ثم نما الانحراف حتى صار شذوذاً؛ حينما أمّن مسؤولون فلسطينيون وعرب على كلام الرئيس الأمريكي، الذي وصف أبطال المقاومة وشهداءها "بقلة من القتلة والمجرمين" ووصل الشذوذ ذروته؛ حينما طلب مسؤول فلسطيني من العرب والمسلمين كافةً؛ ألا يمـدوا يد العون للمقاومة الفلسطينية...ثم استمرأ آخرون الطلب، وأوشك أن يغدو الأمر موضع إجماع عند بعض الرسميين العرب...
وهذا حديث ذو شجون...لأنه يمس القضية كلها، وفي القلب منها ((القدس)) قلب القضية...بحسبانها المدينة الرمز والذات والقيمة؛ في استقلالها مجـد الأمة وعـزها والذلـة عنوان احتلالها ...هكذا يقول لنا التاريخ؛ فهل نعود نقرأ ونتعلم؛ أم نبقى عند حسن ظن الغزاة بنا؟! وكيلا يقال بأننـا نترك الأمور على عواهنها؛ سنعرض لمـا تقدم من أفكار بإيجـازٍ وافٍ؛ من خلال المباحث الآتية:
المبحث الأول: مكانة القدس في الحضارة العربية
المبحث الثاني: القدس والتحالف الغربي الصهيوني
المبحث الثالث: القدس والنظام الدولي المعاصر
المبحث الرابع: القدس والموقف العربي والإسلامي
المبحث الخامس: وضع القدس في اتفاقات أوسلو وما تلاها.
المبحث الأول
انتشر الكنعانيون في الجزء الغربي من بلاد الشام ، ولاسيما على طول الساحل واشتهروا طوال التاريخ القديم بشجاعتهم في ارتياد عالم البحار، وتأسيس ركائز استراتيجيةٍ مكنت لهم من فرض سيادتهم على البحر المتوسط، ثم قادتهم في مرحلة لاحقةٍ إلى الصراع مع الإغريق والرومان، واعترف ((هـيردوت)) بهذا الدور عندما زار أرض كنعان عام 400 قبل الميلاد؛ ووجد أن بعض مدنها قد بنيت قبل هذا التاريخ بأكثر من 2300سنة وأطلق اسم سورية الفلسطينية على الجزء الجنوبي منها. وفي نهاية الألف الثانية قبل الميلاد قدم إلى الجزء الجنوبي من أرض كنعان شعب مختلف فيه ومختلف عليه، وإن كان من المتفق عليه بشأنه؛ أنه أعطى لهذا الإقليم اسمه الذي سيعرف به على امتداد التاريخ (( فلسطين)) .
أولاً ـ فلسطين نظرة على التاريخ:
بات معلوماً أن فلسطين ـ بحسبانها جزءاً من إقليم الشام ـ كانت من المواطن الأُوَل التي أقام عليها قدامى العـرب مدنهم الأولى؛ بل إن أقدم استيطانٍ حضري معروف للبشرية ـ في العام 9000 قبل ميلاد سيدنا المـسيح " ع " ـ كان في مدينة ((أريحا)) الفلسطينية، وفي سنة 2500قبل الميلاد وصلتها ـ قادمةً من الجزيرة العربية ـ القبائل اليبوسية التي حطت رحالها في موقع القدس الحالية وأسست مدينة (( يبوس)) لتكون عاصمةً لهم، ومع مجيء الكنعانيين عام 2000 قبل الميلاد أخذت المدينة اسمها الجديد (( أورسـالم)) أي مدينة السلام نسبةً إلى ملكٍ يبوسي متيمٍ بالسلام .........
مع مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد عاش الفلسطينيون على إقليم فلسطين إلى جانب الكنعانيين واليبوسيين أصحاب الأرض الحقيقيين، وشكلوا معاً شعباً واحداً منتمياً إلى الأرومة العربية الأم. وهذا الشعب هو الذي قاوم الغزوة اليهودية الأولى؛ على مدى مئة عامٍ من الغارات والحروب شنها اليهود انطلاقاً من مستوطناتٍ مشتتةٍ عاشوا فيها، والتي اتحدت وأصبحت مملكة ومرةً واحدةٍ في التاريخ القديم، مدةً لا تزيد على سبعين عاما ً إبان عهد النبي داود وولده سليمان (( عليهما السلام)) ، ثم تجزأت تلك المملكة إلى دويلتين صغيرتين قضى على الأولى المسماة (( إسرائيل))؛ الملك الآشوري (( سرغون الثاني))، أما الثانية المسماة (( يهوذا)) فقد تولى تحطيمها الملك الكلداني ((نبوخذ نصر)) في عام 586 قبل الميلاد الذي أخذ معه بقايا اليهود إلى بابل وهو ما يسميه اليهود (( السبي البابلي)).
وعلى الرغم من أن اليهود يسمون إقامتهم في بابل بالشتات Diaspara أو الأسر البابلي؛ فإن قلة منهم هي التي عادت إلى فلسطين، وتلك القلة ما كانت موضع ترحيبٍ حتى من بقايا اليهود في فلسطين ناهيك عن أصحابها الأصليين .
ومع اضمحلال الاحتلال الفارسي الذي تلاشى تماماً في العام 333 ق.م دخلت فلسطين ومعها سائر الأقاليم العربية في عباءة الاحتلال الإغريقي الذي بدأ بالإسكندر المقدوني ثم ورثته السلوقيون والبطالمة الذين أسسوا دولتين كبيرتين، نهض بالأولى القائد «سلوقس» وشملت الجناح الآسيوي من إمبراطورية الإسكندر، وقام بالثانية القائد «بطليموس» مستأثراً بالجزء الأفريقي الذي اقتصر على مصر وشرق أفريقية.. لأن باقي الجزء الأفريقي من الوطن العربي كان واقعاً تحت سيادة دولة قرطاجة التي بسطت نفوذها على معظم سواحل المتوسط، قبل النهوض الروماني الذي اصطدم بها في الحروب الفينيقية الثلاث؛ أطول حروب التاريخ قاطبةً – والتي انتهت عام 202 ق.م بانتصار الرومان على القائد التاريخي «حنيبعل» الذي كان الأول بين أجداد العرب الذي عبر المتوسط فاتحاً وسط أوروبا ومحاصراً روما نفسها.
ولعلّ العودة إلى قرطـاجة تعدّ رجعاً بعيداً ونحن نتحدث عن فلسـطين؛ ولكنها مازالت حاضرةً في ذاكرة ((بعض)) الغرب على الأقل؛ ولاسيّما أولئك المؤمنون بحروب الاسترداد؛ ولذلك بدت سابقة الاحتلال الروماني لقرطاجة، محطة مبكرة جداً في نشأة القضية الفلسطينية..ويؤيد هذا الرأي منصفون كثر في الغرب ذاته؛ إذ يقول ويلز (( إن تلك النهاية (نهاية قرطاجة) تركت آثاراً ما زالت تحرك العالم حتى اليوم....
وبعد أن فرغ الرومان من الامتداد الكنعاني (( الفينيقي)) في المغرب العربي بدمار قرطاجة، توجهوا لبسط نفوذهم على باقي الأقاليم العربية، وكانت المحطة التالية نوميديا «الجزائر الحالية» عام 145 ق.م، وفي هذه الأثناء خبت جذوة السلوقيين والبطالمة؛ فاغتنم الأنباط الفرصة وأعلن الحارث الأول قيام دولة الأنباط في عام 169 ق.م وضرب العملة النبطية وتوسعت الدولة لتشمل جنوب سورية، «الأردن وفلسطين» ثم لتمتد في عهد الحارث الثالث عام 85 ق.م حتى دمشق التي استنجد به أهلها للخلاص من البطالمة؛ غير أن الرومان وقد استتب لهم الأمر على معظم شواطئ المتوسط، فرغوا للشام ومصر.. وما كان عام 64 ق.م ينقضي إلا وقد استولى الرومان على ما تبقى من سورية – بما فيها – القدس عام 63 ق.م – مؤسسين ما أسموه ولاية «سورية الرومانية» .
أما الأقلية اليهودية التي عاشت في أجزاء صغيرة من فلسطين إبان العهد الهيليني ؛ فقد حاولت غير مرة أن تظفر بوجودٍ مستقلٍ، وأشهر محاولاتها؛ ذلك التمرد الذي قادته طائفة متطرفة تسمى «المكابية» واستطاعت أن تستغله في إنشاء كيان خاص بها. ويبدو أنهم آثروا التمرد في سعيهم الحثيث للاستئثار بمزيد من الأرض والامتيازات. بيد أن الرومان الذي أرادوا الانفراد التام بشؤون مستعمراتهم؛ لم يرق لهم كثرة التمرد الذي درجت عليه الأقلية اليهودية؛ ثم تصدى لهم الإمبراطور الروماني «هادريان» بمذبحة نهائية ختمت على مصير اليهود ـ ككيانٍ سياسي أوبنيةٍ سكانيةٍ ـ في فلسطين إلى الأبد.. وحرم الرومان عليهم دخول القدس، وطردوا من بقي منهم إلى كل أجزاء الإمبراطورية.. فقد كان الخروج الأخير لليهود من فلسطين ..
من أجل ذلك؛ تظهر الضرورة الملحة لقراءةٍ نقديةٍ للكثير من مسلمات التاريخ المدون؛ عن التأصيل لهذه الحقبة بحسبانها مثار جدلٍ لم ينجل...ولذلك نجد أنفسنا منحازين لأيما رؤيةٍ ناقدةٍ تشكك في تلك المسلمات الخاصة بالكيان اليهودي القديم ومن ذلك قول «Davies»: «لا يعدو تصور تاريخ «إسرائيل» القديم كما ورد في القسم الأكبر التوراة العبرية أن يكون قصة خيالية، وهو بمنزلة اختلاقٍ للتاريخ» . ونجد أن هناك من يمضي – إلى أكثر من ذلك – نحو التأكيد «أن مجموع التاريخ الغربي «لإسرائيل والإسرائيليين» يستند إلى قصص من العهد القديم؛ من صنع الخيال» .
ثانياً ـ خصوصية القدس:
وحينما جاء الإسلام وقدم العرب محررين بلاد الشام في معركة اليرموك عام 11 هـ بقيادة خالد بن الوليد، ولم يبق من الشام إلا القدس التي فتحت صلحاً في حضور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي قدم من المدينة المنورة لاستلام مفاتيحها تلبية لطلب كبير الأساقفة «صفروينوس». وبذلك استعادت ((القدس)) وفلسطين كلها بل سائر الأقاليم؛ هويتها العربية الأصيلة حتى يرث الله الأرض ومن عليها. ومنذ ذلك التاريخ تبوأت القدس مكاناً علياً في الحضارة العربية الإسلامية، ما كان لإقليمٍ سواها، وقد تجلت أهميتها فلسطين حوادث ثلاث نعرض لها بإيجاز فيما يأتي:
1- حادثة الإسراء والمعراج:
غنيّ عن التذكير؛ أن لهذه الحادثة مكانتها ومغزاها في الرسالة الإسلامية فضلاً عن المكانة المقدسة لها في أفئدة المسلمين حتى يومنا هذا، وفيها – كما هو معلوم – أن الرسول محمد «» انتقل بمعجزة الإسراء الإلهية ـ على «البراق الشريف» ـ من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى كما أخبرنا الـحق جل وعلا في القـرآن الكريم قائلاً: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله»1. الإسراء.
وعند وصول الرسول «ص» إلى بيت المقدس ربط البراق الشريف إلى حلقة بجانب المسجد الأقصى، وهو المكان الذي عرف منذ ذلك الوقت بحائط البراق ، وعلى ذلك فإن القدس هي المدينة العربية الوحيدة ـ خارج الجزيرة العربية ـ التي شرفها الله عز وجل بزيارة خاتم الأنبياء والمرسلين – النبي العربي الأمي محمد «ص» - زيارة أرادها الله عز وجل أن تكون تكريساً نهائياً لـهوية تلك الأرض المباركة وانتمائها..
1- الأقصى القبلة الأولى و "فلسطين الأرض المباركة"
القدس «أولى القبلتين» وهذه المكرمة ناجمة عن تلك أيضاً، فمعلوم أن الصلاة قد فرضت على المسلمين في ليلة الإسراء والمعراج على تفصيل له مظانه، وصلى الرسول «ص» على القبلة الأولى «المسجد الأقصى» في القدس الشريف؛ الذي نال في صدر الرسول «ص» مكانة تجلت؛ ليس باتخاذه قبلة – وهو أمر إلهي – فحسب، ولكن بالأحاديث التي رويت عنه «ص» حول المسجد الأقصى، ولعلّ أعظمها دلالة وأوسعها انتشاراً ما روي عن أبي ذر الغفاري ؛ قوله «ص»: «لا تشدوا الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد مسجدي والمسجد الحرام والمسجد الأقصى» .
ومن الأحاديث التي وردت عن الرسول «ص» في فضل المسجد الأقصى؛ ما ورد عن ميمونة بنت سعد – مولاة الرسول «ص» - أنها قالت: يا رسول الله افتنا في بيت المقدس؛ قال: «أرض المنشر والمحشر إيتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة» . وقوله «ص»: «من أهل بحجةٍ أو عمرةٍ من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر» .
هذا فضلاً عن الحفاوة الكبيرة للصخرة الشريفة – وما ورد فيها من أحاديث كثر – وارتباطها بالمعراج بحسبانها آخر موطأ للرسول «ص» قبل أن يعرج به إلى السماء. وتنسب إلى فضائل بيت المقدس قوله تعالى: «ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين» (21- الأنبياء)؛ وإن معقد البركة يكمن ما تحت الصخرة الشريفة بحسبانه مصدراً لجميع المياه العذبة في المعمورة بأسرها؛ وفيه كلم سيدنا المسيح «ع » الناس في المهد صبياً، وفيه ظهرت معجزاته، وفيه مشى (( درب الآلام)) ومنه رفع إلى السماء وإليه معاده حينما يشاء الله. وإلى ذلك ما ورد عن الصحابي الجليل عبد الله بن عباس – المسمى حبر الأمة – قوله: «بيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء ما فيه موضع شبرٍ إلا وقد صلى فيه نبي» .
2- تحرير فلسطين و(( العهدة العمرية)):
بعد معركة اليرموك؛ تقدمت جيوش الفتـح الإسلامي نحو مقاصدها، واستطاع فيلق عمرو بن العاص أن يتقدم في فلسطين؛ بيد أن القدس واللد والرملة استعصت عليه، فبادر إلى حصارهما.. وبعد مدةٍ من الحصار، أرسـلوا يفاوضون، وقرروا أنهم لن يستسلموا إلا لرئيـس الدولة شخصياً، إلى عـمر بن الخطاب خليفة رسـول الله «ر». وحاول أمير جند الشام – يومذاك – أبو عبيدة بن الجراح «ر» وقبله عمرو بن العاص. ولما لمس الإصرار منهم؛ بادر أبو عبيدة إلى مكاتبة عمر «ر» بالأمر؛ وما كان منه إلا أن استجاب ملبياً؛ فاستخلف علياً ر و«كرم الله وجهه» وتوجه إلى الشام؛ ليتم الله على يديه فتح بقية فلسطين – ومنها القدس وما حولها – صلحاً وعلى عهدٍ شهيرٍ أعطاه لأهلها؛ وشهد عليه عدد من أركان الدولة العربية الإسلامية يومئذٍ «خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان»؛ وجاء فيه:
« بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء «القدس».. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم وصلبانهم وسقيمها وسائر ملتها؛ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيءٍ من أموالهم ولا يكرهون على دينهم ولا يضار أحد منهم؛ ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من (( اليهود)) وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن وعليهم أن يخرجوا منها الروم، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ومن أقام منهم فهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية, ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين» .
وكتب الخليفة عمر عهداً مثل هذا إلى أهل اللد أيضاً ومعها سائر أنحاء فلسطين الباقية، ومما جاء فيه: «هذا ما أعطى عبد الله عمـر أمير المؤمنين أهل لـد ومن دخل معهم من أهل فلسطين…» .
ولذلك ظلت القدس وسائر فلسطين في قلب الدولة العربية الإسلامية على اختلاف العهود والحكام؛ حتى إذا ما دب الضعف فيها وخارت عزائمها.. جاء الخطر عاماً، ودق ((الفرنجة)) أبواب القدس عام 1096م.
وظلت القدس تحت الاحتلال الذي أسس فيها كياناً سياسياً سمي «مملكة أورشليم»، وكان قد أسس من قبل عدة كيانات عُدّت «دولاً » ليس عند معاصريها من الغربيين فحسب؛ بل عند المعاصرين لنا منهم أيضاً؛ إذ يمضي «داغن» مؤرخ أمريكي معروف إلى التأكيد أن إمارات الفرنجة كانت «دولاً» حملت إلى الشرق التقدم والمدنية ، والكلام ذاته يقال اليوم عن الكيان القائم في فلسطين الآن .
بيد أن بقاء القدس محتلةً منذ 1099م، وعلى الرغم من قيام مملكةٍ معترف بها من قبل المجتمع الدولي القائم حينئذٍ، وعلى الرغم من حال الـهوان الذي كانت عليه الأمة؛ فإن أحداً من عـرب ذاك الزمان لم يسلم بأن هذا قدر لا مفر منه، بل ظلت عروبة كامل فلسطين هدفاً وأمنيةً، ما لبثت أن تحولت إلى حقيقةٍ راسخةٍ على يدي السلطان الناصر صلاح الدين عام 1187م، الذي دون صحائف خالدة ليس في تاريخ الأمة فحسب، بل في تأريخ العالم بأسره .
وهكذا عادت «القدس» وسائر فلسطين منذ التحرير «الأيوبي» لها إلى وطنها الأم، لتعيش معه حكم الأيوبيين تحت السيادة الاسمية للخلافة العربية الإسلامية بقية العهد العباسي، ويشاء الله أن تنتهي على أرض فلسطين الغزوة المغولية التي أجهزت على الخلافة العباسية ودمرت بغداد وسائر الحواضر العربية؛ قبل أن تسحق جحافل مصر والشام بقيادة المظفر «قطز» وركن الدين بيبرس جيوش المغول بقيادة «كتبغا» بموقعة عين جالوت بمرج ابن عامر يوم الجمعة 25 رمضان 658 ه عام 1260 م .
ومما لا شك فيه أن تلك الموقعة حددت مستقبل المنطقة العربية خلال أكثر من مئتي عام قادمة؛ إذا قامت دولة سلاطين المماليك تحت سيادة رمزية للخلافة العباسية الثانية في القاهرة، وقد حافظ أولئك السلاطين على وحدة الأرض العربية بما فيها فلسطين حتى سقوط دولتهم عام 1516م، ومع إعدام «طومان باي» آخر سلاطينهم عام 1517 أصبح الوطن العربي جزءاً من الدولة العثمانية حتى زوال هذه الدولة من الخارطة السياسية للعالم؛ بعد الحرب الغربية الأولى، ومع دخول القوات الغربية المتحالفة أرض فلسطين بقيادة الجنرال الإنجليزي ((إدموند اللنبي Edmund. Allenby ))؛ بدأ عهد جديد ولكن بمضمونٍ قديمٍ...
المبحث الثاني
لعله غني عن البيان أن التحالف الاستعماري الصهيوني كان وراء الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، ومنذ أوائل القرن التاسع عشر برزت بريطانيا قطباً رئيساً في هذا التحالف يسعى لاستعمار فلسطين، وبرزت أيضاً الولايات المتحدة الأمريكية التي ركزت أنظارها على القدس، وبكّرت في إقامة قنصلية فيها كُتب الكثير عن تحركاتها. وهناك إلى اليوم في القدس مبنى يحمل اسم "أمريكان كولوني" وكانت قوى يهودية أخرى بروتستانتية في بريطانيا وأمريكا قد أثارت الأطماع في فلسطين، ومما يجدر التذكير به ما كتبه (دزرائيلي) عن القدس وأهميتها لبريطانيا قبل أن يصبح رئيساً لوزرائها .
أولاً ـ بريطانيا والخطوة الأولى:
بعد اندلاع الحرب الغربية الأولى عام 1914، وإعلان الدولة العثمانية وقوفها إلى جانب ألمانيا، أخذت دول الحلفاء تتفق فيما بينها لتقاسم ممتلكات الدولة العثمانية كما بدأت بريطانيا بالتفكير في السيطرة على فلسطين، مستغلة في ذلك الضعف العسكري للجيش العثماني، وحتى تتمكن أيضاً من تشتيت القوة العسكرية لألمانيا وإشغالها في عدة جبهات. وقد تمكن الجيش البريطاني بقيادة الجنرال أدموند اللنبي من احتلال الأراضي الفلسطينية كلّها خلال المدة الممتدة من تشرين الأول 1917 حتى أيلول 1918، فقد احتل بئر السبع في 31 تشرين الأول 1917 وغزة في 9 تشرين الثاني 1917، ويافا في 16 تشرين الثاني 1917، والقدس في 9 كانون الأول 1917 أما القسم الشمالي من فلسطين فقد بقي تحت السيادة العثمانية حتى احتلت القوات العسكرية البريطانية نابلس في 20 تشرين الأول 1918، وحيفا وعكا في 23 تشرين الأول 1918 وهكذا انتهى الحكم العثماني لفلسطين بعد حكم امتد أربعمئة سنة.
وفي نهاية عام 1918 وبانتهاء الحكم العثماني لفلسطين أصبحت البلاد تدار بإدارة عسكرية بريطانية أطلق عليها اسم "الإدارة الجنوبية لبلاد العدو المحتلة" واتخذت من مدينة القدس مقراً لها وعملت تحت سلطة حاكم إداري عام كان يتلقى أوامره من القائد العام الجنرال اللنبي، بوصفه المرجع الأعلى في المسائل الرئيسة إذ كان يعمل بإشراف وزارة الخارجية البريطانية التي كانت تنفذ التعليمات وأوامر ووزارة الخارجية .
وكانت الحكومة البريطانية قد تنكرت للوعود التي قطعتها للشريف حسين خلال مراسلات الحسين مكماهون (1915-1916) بشأن الاستقلال إذ قامت بإجراء مفاوضات سرية مع الحكومة الفرنسية حول مصير البلدان العربية التي كانت تحت الحكم العثماني، وتمخضت هذه المفاوضات عن التوقيع على اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 بين الحكومتين وبموجبها كانت العراق وشرق الأردن وسواحل الجزيرة العربية الشرقية الجنوبية من نصيب بريطانيا. في حين اختصت فرنسا بسورية ولبنان، أما فلسطين فقد نصت الاتفاقية على وضعها تحت إدارة خاصة وفقاً لاتفاقية تعقد بين روسيا وفرنسا وبريطانيا، كما منحت الاتفاقية بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن يكون ميناء حيفا حراً لتجارة فرنسا ومستعمراتها.
أخذت الإدارة العسكرية تعمل على تهيئة فلسطين بشكل تدريجي حتى تصبح وطناً قومياً لليهود، فاتبعت سياسة علنية موالية للحركة الصهيونية إذ قامت بتضييق الخناق الاقتصادي على عرب فلسطين ولاسيّما الفلاحين منهم وتهويد الوظائف الحكومية، وفتح الأبواب أمام تدفق المهاجرين اليهود، وغير ذلك من الأساليب لإرساء الدعائم الأولى للوطن القومي اليهودي وتنفيذ وعد بلفور الصادر في 2/11/1917م.
ومما لاشك فيه أن الفلسطينيين أدركوا مدى تحيز الحكومة البريطانية ومحاباتهم لليهود، ومساندتها لمطالبهم في الاستيطان والهجرة ونزع الأراضي من أصحابها العرب، فكان لا بد من أن تكون ردة فعل من عرب فلسطين إزاء هذه السياسة، وقد تجلى ذلك في الاضطرابات التي وقعت في مدينة القدس ما بين 4 – 8 نيسان 1920؛ حيث قامت الحكومة البريطانية على إثرها بتشكيل لجنة تحقيق عسكرية لدراسة الأسباب التي أدت إليها، وكانت هذه اللجنة برئاسة الجنرال بالين palin وقد أصبحت تعرف باسمه، و جاء في التقرير النهائي للجنة أن أسباب الاضطرابات تعود إلى الأمور الآتية :
ـ خيبة أمل العرب لعدم تنفيذ وتحقيق وعود الاستقلال التي منحت لهم خلال الحرب الغربية الأولى.
ـ اعتقاد العرب بأن وعد بلفور يتضمن إنكاراً لحقهم في تقرير مصيرهم وخوفهم من أن إنشاء الوطن القومي يعني الزيادة الهائلة في الهجرة اليهودية التي ستؤدي إلى إخضاعهم للسيطرة اليهودية من الناحية الاقتصادية والسياسية .
ـ ازدياد حدة الشعور بالقومية العربية نظراً إلى وجود الدولة العربية في دمشق والتي كانت موئلاً للآمال العربية.
في مؤتمر سان ريمو 1920 قرر المجلس الأعلى للحلفاء منح بريطانيا حق الانتداب على فلسطين، وبناء على ذلك عينت الحكومة البريطانية الصهيوني البريطاني هربرت صموئيل Herbert Samuel مندوباً سامياً على فلسطين، وحولت الإدارة العسكرية إلى إدارة مدنية، وكانت في بداية الأمر تحت رقابة وزارة الخارجية البريطانية، ثم أصبحت تتبع مباشرة وزارة المستعمرات وأطلق عليها اسم "حكومة فلسطين" واتخذت من مدينة القدس مقراً لها.
استمرت ولاية صموئيل في فلسطين مدة خمس سنوات قام خلالها بإصدار العديد من الأنظمة والتشريعات لصالح اليهود، وكانت أكثر الأنظمة خطورة في تغيير الوضع القائم في فلسطين هي تلك المتعلقة بالأراضي والهجرة، وذلك لتسهيل الهجرة اليهودية وتمليك اليهود مساحات واسعة من الأراضي، كما منح المؤسسات اليهودية العديد من الامتيازات والمشاريع الاقتصادية حتى يتمكنوا من السيطرة على الموارد الاقتصادية في فلسطين، منها امتياز "العوجا" الذي منح "لبنحاس روتنبرغ" Pin Rutinbury hass؛ لاستخدام مياه العوجا لتوليد الطاقة الكهربائية عام 1921، وامتياز شركة الكهرباء الفلسطينية عام 1923 لاستخدام مياه نهر الأردن واليرموك لتوليد الطاقة الكهربائية وتوريدها، وامتياز استخراج الأملاح والمعادن من البحر الميت عام 1925 .
وفي 22 حزيران عام 1922 أصدر وزير المستعمرات "ونستون تشرشل" Winston Churchill بياناً؛ بشأن السياسة البريطانية تجاه فلسطين عرف باسم "الكتاب الأبيض" حيث أكد أن وعد بلفور لا يعني "تحويل فلسطين بجملتها وجعلها وطناً قومياً لليهود؛ بل يعني بأن وطناً كهذا يؤسس في فلسطين"، غير أنه أكد أن هذا التصريح الذي حظي بتأييد دول الحلفاء في مؤتمر سان ريمو ومعاهدة سيفر، غير قابل للتغيير وأشار إلى أن ترقية الوطن القومي اليهودي في فلسطين لا يعني فرض الجنسية اليهودية على أهالي فلسطين، بل زيادة رقي الطائفة اليهودية بمساعدة من جمع اليهود في مختلف أنحاء العالم. إلا أنه بين أن وجود الشعب اليهودي في فلسطين هو حق وليس منة مما جعل ضمان إنشاء الوطن القومي اليهودي ضماناً دولياً، كما أنه يستند إلى صلة تاريخية قديمة، كما تضمن الكتاب استمرار الهجرة اليهودية مع مراعاة القدرة الاقتصادية للبلاد على استيعاب المهاجرين . وأخيراً بين الكتاب استثناء فلسطين من الوعود التي قطعتها الحكومة البريطانية للشريف حسين بشأن الاستقلال.
ثانياً ـ المشروع الاستيطاني الصهيوني:
مرّ الغزو الاستعماري الصهيوني في فلسطين بأربع مراحل بعد أن تبلورت الحركة الصهيونية بتشجيع من القوى الاستعمارية الأوروبية، ونجحت في إرسال أول دفعة من المهجَّرين إلى فلسطين من يهود شرق أوروبا عام 1882 في العام الذي احتلت فيه بريطانيا مصر، فمن مرحلة التسلسل التي استمرت حتى عام 1917 إلى مرحلة التغلغل؛ إبان الاستعمار البريطاني لفلسطين حتى عام 1948 إلى مرحلة الغزو بعد إقامة "دولة إسرائيل" وحتى مرحلة التوسع بعد حرب حزيران/يونيو عام 1967. نجح الغزو الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في احتلال جزء كبير من القدس إبان حرب عام 1948، وأكمل احتلال الجزء الشرقي منها في حرب عام 1967، ومما يجدر التذكير به هنا ما قاله اسحق رابين ـ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق ـ رداً على إشارة عربية فلسطينية لأملاك عرب فلسطينيين في القدس الغربية "لقد أخذنا القدس في حربين".
وكما هو الشأن في كل استعمار استيطاني عمد الكيان الصهيوني بعد أن نجح في احتلال القدس إلى ضمها فوراً، ثم شرع يغتصب أراضيها تدريجياً بسبل مختلفة ليصل إلى تهويدها، وإننا مدعوون إلى أن نتأمل طويلاً في خطوات هذه العملية التي تبدأ بالتسلل فالتغلغل فالاحتلال فالضم فالاغتصاب فالتهويد، ونستحضرها في أذهاننا دوماً لأن أراضيَ عربية مجاورة لفلسطين مستهدفة اليوم صهيونياً بمخططات التسلل -أولى خطوات هذه العملية.
الاستيطان في مرحلة التوسع منذ عام 1967
شهدت مرحلة التوسع في الغزو الصهيوني لفلسطين منذ عام 1967 تركيزاً خاصاً على القدس؛ فصلت شرح مخططاته وما تم تنفيذه منها كتب كثيرة، فبعد إعلان ضمها جرت إقامة خمس عشرة مستعمرة وبناء ثلاثين ألف وحدة سكنية، وتم الاستيلاء على ثلاثة وثلاثين بالمئة من أراضي القدس بالمصادرة والاستملاك وتفننت الحكومة الإسرائيلية في اتخاذ الإجراءات التي تسلب أهل القدس العرب من حقوقهم.
وبرزت في أعقاب حرب تشرين الأول/أكتوبر ((رمضان)) عام 1973م حركة "غوش أمونيم" (كتلة المؤمنين المخلصين) لتجاهر بضم كل فلسطين بزعم قدسيتها فأعطاها (مناحيم بيجن) دعماً غير محدود هو وزميله في الإرهاب (أرئيل شارون) الذي تولى مدة وزارة الزراعة، وهكذا أصبحت القدس واحدة من نقطتين مركزيتين للاستيطان والأخرى تل أبيب، وقد أوضحت دراسة عن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بعد عام 1967 أعدّها (إليشع إيفرات) "؛ أن عناقيد المستوطنات المجاورة للتجمع السكاني في تل أبيب والقدس هي وحدها التي سيكون أمامها فرصة البقاء" حسب أمانيه.
ومما لاشك فيه أن هذه الأماني يواجهها عزم شعب فلسطين العربي؛ على استرداد حقه بالتلاحم مع أمته في نضال طويل وطن نفسه عليه، وقد لحظت هذه الدراسة التي نشرتها مجلة ((شؤون إسرائيل)) في عددها الأول عام 1994 الفرق بين الاستعمار الاستيطاني من قبل مستوطنين غرباء وإعمار الأرض من قبل أهلها، فبينما ارتفع عدد قرى الضفة الغربية بين عامي 1948 و 1967 بنسبة 50 في المئة وزاد عدد سكانها بنسبة 111 في المئة نجد أن الاستعمار الاستيطاني فيها لم ينجح في إقامة الثكنات المسلحة.
وبينما نشأت القرى طبيعياً في إعمار منسجم مع الطبيعة المادية للإقليم وفق نمط سليم في مواقع القرى وتوزيعها وزراعتها وعدم تعديها على الأرض الزراعية وإدراكها للطقس وكمية المياه المتوافرة، نجد المستوطنات الصهيونية مصطنعة لا يحكمها إلا فكرة الأمن المطلق تتعدى على البيئة وتجور على الأرض والماء، وشتان بين الاستعمار والإعمار .
ثالثاً ـ النظام القانوني الصهيوني للاستيطان:
يتعامل الكيان الصهيوني مع موضوع القدس وكأنها لا تسابق الزمن فحسب بل تسابق المستقبل كذلك في عمل محموم تسخر له كل إمكانياتها واستثماراتها لتخلق متغيرات على أرض الواقع تقلب رأساً على عقب كل الحقائق التي سادت آلاف السنين وبشكل لا يدل أنها تثق فيما تدعيه من حقوق دينية وتاريخية في القدس فسياستها تقوم على فرض الأمر الواقع، ومع أن الكيان الصهيوني يمارس السيطرة الفعلية على القدس، إلا أنه يفتقر لسيادة الشرعية التي لن ينالها ولن يجد من يقبل بها على القدس شعباً وأرضاً .
ومنذ عام 1967م حاول الكيان الصهيوني تطبيق موقفه تجاه القدس عبر جملة من السياسات والإجراءات (والقوانين) التي هدفت إلى خلق وقائع مادية لتغيير الوضع القانوني للمدينة المقدسة بما يخدم المخطط الإسرائيلي الرامي إلى تهويدها، بكلمات أخرى، إدخال تغييرات جوهرية على التركيب السكاني والوضع الجغرافي والإداري والاقتصادي لتحويل الفلسطينيين في القدس إلى أقلية هامشية تخبو تدريجياً، فيما يتعزز الوجود اليهودي في المدينة، وفي الحقيقة شملت السياسات والإجراءات أوجه الحياة كلّها واتخذت طابعاً عنصرياً، كما سيتجلى من استعراض أهم القوانين التي سنتها حكومة الكيان الصهيوني للإطباق على القدس:
1- قانون ضم القدس:
أصدر (الكنيست) الإسرائيلي قراراً على شكل إضافة فقرة إلى قانون إسرائيلي اسمه (قانون الإدارة والنظام لسنة 1948م) وقد خولت تلك الفقرة حكومة الكيان الصهيوني ضم القدس إليها؛ وتمادت في إجراءاتها غير القانونية بشأن القدس لتبلغ ذروتها في شهر آب 1980م عندما أقر الكنيست بأغلبية 67 عضواً قانوناً أساسياً يعلن أن القدس هي العاصمة الموحدة لدولتهم. مما دفع مجلس الأمن مرة أخرى إلى إصدار القرار 478 (20 آب 1980م)، وأهم ما جاء في القرار تأكيده أن "تصديق إسرائيل" على القانون الأساسي تشكل انتهاكاً للقانون الدولي، ولا تؤثر في انطباق اتفاقية جنيف الرابعة ـ المتعلقة بحماية المدنيين في النزاعات المسلحة ـ على جميع الأراضي المحتلة بما في ذلك القدس؛ وأكد القرار عدم اعتراف مجلس الأمن الدولي بما قامت به “إسرائيل” بـموجب هذا "القانون" وغيره من أعمال لتغيير معالم القدس.
واعترض العرب على هذه الإجراءات وأوصلوا شكواهم إلى الأمم المتحدة فأصدرت الهيئة عدة قرارات عدّت بموجبها الإجراءات الإسرائيلية باطلة وطالبتها بإلغائها والعدول فوراً عن اتخاذ أي عمل من شأنه تغيير الوضع في القدس؛ وعليه كان موقف الأسرة الدولية – ممثلة بمجلس الأمن والجمعية العمومية للأمم المتحدة وعبر هذا القرار وقرارات مماثلة بشأن القدس -، أوضح تعبير عن حظر ضم الإقليم المحتل وفرض سيادته عليه واتخاذ أية تدابير ذات طابع سيادي، لأن سلطة الممتلك على الأراضي المحتلة هي سلطة مؤقتة لأنها سلطة بحكم الأمر الواقع فقط وليست بوصفها حقاً مشروعاً.
2- قانون أساس ((القدس عاصمة إسرائيل)):
تأتي أهمية هذا القانون من تسميته قانون أساس، وهو يشكل مع ثلاثة عشر قانوناً أساسياً آخر مشروع لدستور مكتوب للدولة العبرية التي - كما هو معروف- لم تسن دستوراً مكتوباً متكاملاً، وذلك لاعتبارات سياسية ودينية واجتماعية وجغرافية وللحفاظ على العلاقات بين المتدينين والعلمانيين، فضلاً عن وجود عربي يشكل خمس سكان الدولة العبرية؛ ومن أهم ما تضمنه القانون المذكور ((القدس الكاملة والموحدة هي عاصمة “إسرائيل”)). والقدس هي مكان إقامة رئيس الدولة، والكنيست والحكومة، والمحكمة العليا .
3- قانون المحافظة على الأماكن المقدسة:
أصدرت حكومة الكيان الصهيوني القانون رقم 10/67 ((قانون المحافظة على الأماكن المقدسة)) وهو يقضي بأن من حق كل شخص من أبناء الطوائف أن يصل إلى الأماكن المقدسة بالنسبة إليه دون المساس بأحاسيسه ومشاعره بالنسبة إلى تلك الأماكن؛ إن إصدار القوانين والأنظمة المشار إليها أتاحت المجال لبعض الإسرائيليين بإقامة الدعاوى لدى محكمة العدل العليا الإسرائيلية؛ طالبين منها إصدار قرار يقضي أن الإشراف على جبل البيت – أي على جميع الأراضي التي يقوم عليها الحرم القدسي الشريف – يجب أن يكون في أيدٍ تهتم بحراسته بوصفه مكاناً مقدساً لأبناء الطائفة اليهودية، والدعاوى المشار إليها تقوم على الزعم بأن المكان الذي يسمى "جبل البيت" هو مكان مقدس يهودياً وليس إسلامياً .
المبحث الثالث
وجد ـ دائماً ـ في مسيرة الصراع الطويلة؛ من يتطلع رهبةً أو رغبةً إلى المنظمات الدولية منتظراً على يديها الفرج؛ بعودة القدس وإقامة دولة فلسطين؛ وقد مضت أكثر من ستين عاماً على وجود القضية في أروقة الأمم المتحدة؛ وحال الذين أدركوا الحقيقة تقول لقد ناديت لو أسمعت حياً...! ولذلك نمر بإيجازٍ على أهم المحطات التي توقف فيها ((قطار القدس)) في المنظمات الدولية:
أولاً ـ القدس وعصبة الأمم:
أفرد صك الانتداب على فلسطين قواعد وأحكام خاصة بالقدس، فالمادة الرابعة عشرة ألزمت الدولة البريطانية بصفتها السلطة المنتدبة، تأليف "لجنة خاصة لدرس وتحديد وتقرير الحقوق والادعاءات المتعلقة بالطوائف الدينية المختلفة في فلسطين" وذلك بإشراف وتشكيل وموافقة مجلس العصبة وهذا ما تم فعلاً وسميت ((لجنة البراق الدولية)). وبرزت أهمية لجنة التحقيق هذه في عام 1929 عندما نشبت الانتفاضة فلسطينية المعروفة بـ((ثورة البراق))؛ التي شكلت بشهدائها ((112 شهيداً)) إنذاراً مبكراً يكشف حقيقة الصراع وأهدافه.
وكانت الحكومة البريطانية قد شكلت لجنة للتحقيق في ما جرى ((لجنة شو)) وبالفعل قدمت هذه اللجنة تقريرها ـ في 31 آذار 1930ـ إلى وزير المستعمرات البريطاني اللورد باسفيلد، ((وقد بينت في معرض تحليلها للاضطرابات التي وقعت في 23 آب 1929 أنها كانت نتيجة لخيبة الأماني القومية والسياسية للعرب وخوفهم على مستقبلهم الاقتصادي، وأشارت إلى أن العلاقات بين العرب واليهود في فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى كانت جيدة فقد عاشوا جنباً إلى جنب بألفة ومحبة وتسامح وتساهل وهذا ما لم يعد متوافراً وموجوداً في عام 1929، وترى اللجنة أن هذا التغير في العلاقات بين الشعبين جاء نتيجة للسياسة المتناقضة للحكومة البريطانية فيما يتعلق بوعد بلفور والوعود التي قطعت للشريف حسين خلال الحرب الغربية الأولى، فكان "إنشاء وطن قومي لليهود حسب المعنى الواسع الذي فهم به يخالف مطالب العرب في حين لو سلّم بالمطالب القومية العربية لأصبح من المستحيل تحقيق العهد المقطوع لليهود.
أما اللجنة الأممية (( لجنة البراق الدولية)). فقد وصلت إلى مدينة القدس في 19 حزيران 1930 وأقامت فيها شهراً عقدت خلاله 23 جلسة؛ واستمعت إلى شهادات أدلى بها العديد من اليهود والعرب، وقد مثل الجانب العربي كل من عوني عبد الهادي وأحمد زكي باشا ومحمد علي باشا في حين مثل الجانب اليهودي كل من الدكتور ((مردخاي الياش)) والمستر ((دافيد يلين)) والحاخام ((موشي بلاد)). كما أدلى بالشهادة أمام اللجنة العديد من الشخصيات الفلسطينية ممن كان لهم اطلاع واسع ومعرفة شاملة بالأماكن المقدسة من الناحية التاريخية الفلسطينية، فضلاً عن العديد من الشخصيات العربية والإسلامية البارزة من مختلف الدول العربية والإسلامية كمراكش والجزائر وليبيا ومصر والأردن والعراق وسورية ولبنان وبلاد فارس والهند وإندونيسيا.
وبيّن الجانب الإسلامي للجنة بأن البراق جزء لا يتجزأ من الحرم الشريف ولا يوجد فيه (حجر واحد يعود إلى عهد الملك سليمان)، كما أن الممر الكائن عند الحائط ليس طريقاً عاماً لأنه أنشى لمرور سكان حارة المغاربة وغيرهم من المسلمين للذهاب إلى مسجد البراق والحرم الشريف، كما بيّن أيضاً أن السماح لليهود بزيارة الحائط خلال أيام معينة لا يعني "سوى أنه من قبيل التسامح الذي أبداه نحوهم المسلمون" وقد استند الجانب الإسلامي في ذلك إلى ما أورده السياح والمؤرخون والجغرافيون من أنه ((لما كان يسمح لليهود بالاقتراب من الحائط وما كان ليسمح بذلك دائماً، ولم يكن ما يبدونه عند الحائط يتجاوز حد النواح ولم يحاولوا قط إقامة شعائر دينية بالفعل وفضلاً عن ذلك كان اليهود في بعض الأحيان لا ينوحون عند الحائط بل يذهبون خارج المدينة)) .
وقد أصدرت اللجنة قرارها بشأن الموضوع، مؤكدةً "أن المسلمين هم الملاك الوحيدون لحائط ((البراق))، الذين لديهم حقوق مطلقة فيه، لأن الحائط يشكل جزءاً من منطقة الحرم الشريف" وأنه "يرجع أيضاً للمسلمين الطريق المعبد الذي يقع أمام حارة المغاربة المواجهة للحائط"؛ وبهذا، فإن إطار الحقوق والالتزامات الذي وضعته اللجنة الدولية بإشراف عصبة الأمم، يحدد طبيعة الحقوق وحدودها في المدينة المقدسة، حيث أكد "الحقوق المطلقة" للفلسطينيين، بوصفهم "الملاك الوحيدين "، فإنه حدد حقوق اليهود في إطار وحدود "حرية إقامة الشعائر الدينية" فقط؛ وقرر مجلس العصبة ـ آنذاك ـ إلزام سلطات الانتداب البريطاني، بتشريع هذا القرار الدولي في القوانين الانتدابية؛ بدءاً من 4 حزيران عام 1938، وظل ساري المفعول إلى حين عدّه لاغياً و"باطلاً" من قبل السلطات الإسرائيلية .
ثانياً ـ القدس وعهد الأمم المتحدة:
نهضت الأمم المتحدة كمنظمةٍ دوليةٍ عامةٍ ، على أنقاض حربٍ رهيبةٍ وصفت بالعالمية تحكماً وبهتاناً ، لأن الغرب أدار رحاها في معظم أنحاء العالم؛ من أجل بناء تراتبيةٍ جديدةٍ لميزان القوى ، و إعادة اقتسام ميزات الهيمنة على العالم، ولاسيما أنَّ الشكل القديم للاستعمار – المسمى انتداباً – بات قاصراً ـ حينذاك ـ عن تلبية الطموحات الغربية في الابتزاز والاستغلال والتخريب .
ومما لاشك فيه؛ أن مشروع تقسيم فلسطين كان قد بدأ في عهد عصبة الأمم حينما أُنشِئَتِ التجزئة وحمايتها عبر نظام الانتداب، ثم صار الأمر للأمم المتحدة فنهضت بتكريسها في قرار التقسيم عبر قسمة المقسم أو تجزئة المجــزأ ، وكانت قسمةً "ضيـزى" ؛ لأنها ارتكزت على "بدعـةٍ" ما للعالمين سابق عهدٍ بها؛ فهي تجاوزت عهد العصبة ووعد بلفور الذي تحدث عن "وطنٍ قومي" لليهود؛ إلى إنشاء "دولةٍ" لليهود تحظى باعتراف القانون الدولي، ومن خلال منبر المنظمة الدولية الأولى في العالم الأمم المتحدة.
أفرد قرار التقسيم ـ رقم (181/2) لعام 1947ـ وضعاً دولياً خاصاً لمدينة القدس، بتأكيده: "أن يكون لمدينة القدس كيان منفصل خاضع لنظام دولي خاص وتتولى الأمم المتحدة إدارتها ويعين مجلس وصاية ليقوم بأعمال السلطة الإدارية نيابةً عن الأمم المتحدة"؛ ولهذا، فإن إسرائيل بعدوانيتها الملازمة لها بنيوياً، وتوسعيتها الضاربة الجذور في بنيانها العقائدي، قد نسفت تماماً، ومنذ اللحظات الأولى للانسحاب البريطاني، الأساس "الحق" لانتهاكها الجسيم الإجراءات والخطوات الإلزامية – الآمرة (JUS Cogens) في آليات قرار التقسيم، ولاسيّما منع وإعاقة قيام الدولة الفلسطينية واحتلالها للجزء الغربي من مدينة القدس الذي أفرد لها نظاماً دولياً خاصاً بها .
واعترفت الأمم المتحدة بأن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ناشئة من إنكار حقوقهم غير القابلة للتصرف، وبأن للفلسطينيين الحق في تقرير مصيرهم بحرية. وحق الشعب في تقرير مصيره يشمل، بلا شك، حقه في العودة إلى وطنه. وكان مجلس الأمن، في العام 1988، قد منح الفلسطينيين الذين طردهم الكيان الصهيوني خلال الانتفاضة المباركة الأولى حق العودة إلى بلده. .
في 29/11/1948، تقدمت إسرائيل بطلب إلى الأمم المتحدة لقبولها في عضويتها. فناقش مجلس الأمن الطلب ورفض إصدار توصيته للجمعية العامة بقبولها وبعد هذا الإخفاق تجنّدت واشنطن واستعملت، كعادتها، مختلف أساليب الترغيب والترهيب، وطلبت من إسرائيل تقديم طلب جديد في 4/3/1949. وفي جلسة واحدة تغيّر الوضع وأوصى مجلس الأمن بقبول إسرائيل في عضوية الأمم المتحدة بوصفها دولة مستقلة ومحبة للسلام. وفي 11/5/1949، وافقت الجمعية (وكانت تعقد دورة استثنائية) على التوصية بأغلبية 37، مقابل 12، وامتناع 9، واشترطت على إسرائيل تنفيذ قرار التقسيم وقرار إعادة اللاجئين، فكانت إسرائيل بذلك الدولة الوحيدة التي قبلت في العضوية بشرط، وارتبط قبولها بتنفيذ قرارين صادرين عن الجمعية العامة.
غير أنّ هذا القبول تم بمناورة خادعة تتلخص في إيهام الدول الأعضاء بأن الوفد الإسرائيلي الذي كان يتفاوض مع الوفد العربي في لوزان قد وقّع على بروتوكول يتضمن موافقة إسرائيل على التخلي عن الأراضي التي احتلتها خلافاً لقرار التقسيم وموافقتها على إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
واكتشفت الخدعة بسرعة عندما أعلن رئيس وزراء العدو (بن غوريون) بعد التصويت على قبول الكيان الصهيوني في الأمم المتحدة ((إن إسرائيل تعدُّ قرار التقسيم قراراً غير مشروع وغير موجود))، وعندما أعلنت وزارة خارجية الكيان الصهيوني ((إن عودة أي لاجئ إلى مكان إقامته الأصلية شيء مستحيل))، فكان برهاناً جلياً على استخفاف الدولة الجديدة -المدينة بوجودها للمنظمة العالمية- بأحكام الميثاق الأممي وعدم امتثالها لسلطة تلك المنظمة، وعدم الوفاء بالتعهدات التي التزمتها.
ومع أنَّ إصرار الكيان الصهيوني على عدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة يشكّل إخلالاً بالالتزامات التي تعهد بها، ويجعل المنظمة في حل من التزاماتها تجاهه ويخولها حق طرده من العضوية بعد تحقق الشرط الفاسخ أو الملغي، فإن الجمعية العامة لم تجرؤ مرة على إدراج هذه المسألة في جدول أعمالها، ولم تفكر الدول العربية الأعضاء (وعددها 21) في إثارة هذا الموضوع للمطالبة بتنفيذ الشرط الفاسخ أو على الأقل لإرباك العدو في أرفع محفل دولي.
ثالثاً ـ مدينة القدس وقانون الاحتلال الحربي:
تضمنت المعاهدات الدولية وقوانين الحرب منذ القرن التاسع عشر، رفضاً قاطعاً لاحتلال الأراضي بالقوة، ومنحت الشعب الخاضع للاحتلال حق المقاومة والثورة على قوات الاحتلال؛ ويعدّ الاحتلال الحربي مرحلة تعقب لجوء إحدى الدول إلى استخدام القوة المسلحة. ومن دلائل الاحتلال وقوع كل إقليم الدولة المغلوبة، أو جزء منه، تحت سلطة الدولة الغازية، ومن المسائل المهمة التي يثيرها الاحتلال الحربي: مسألة السيادة ومسألة إدارة الإقليم المحتل.
وفي العام 1949، صدرت اتفاقيات جنيف الأربع ووافقت عليها دول العالم، بما فيها الكيان الصهيوني. وحددت الاتفاقية الرابعة المبادئ والقواعد الأساسية لنظام الاحتلال الحربي. ومن هذه النقاط: إن الاحتلال وضع مؤقت ليس له صفة الدوام، ولا يؤدي، من الناحية القانونية، إلى نقل السيادة من دولة إلى أخرى، فهو ليس سوى حالة من الضرورة، أو نوع من القوة القاهرة التي لا تسفر أبداً عن نقل السيادة.
وإلى جانب مسألة السيادة يعالج قانون الاحتلال الحربي مسألة إدارة الإقليم المحتل تجنباً لنشوء فراغ سياسي وإداري وقيام حالة من الفوضى بسبب توقف المؤسسات الدستورية عن العمل. ويرسم هذا القانون لسلطة الاحتلال حدود الصلاحيات التي يحق لها أن تمارسها لإدارة الإقليم المحتل، ويلزمها الامتناع عن إحداث تغييرات في المؤسسات الأساسية، إلا في حالة الضرورة القصوى، أو في حدود الضرورات التي يفرضها حفظ النظام والأمن.
وظهرت إرادة الكيان الصهيوني بانتهاك قانون الاحتلال الحربي منذ الأيام الأول لوجوده؛ ففي خطوة لإطباق سيطرتها، وتعطيل آليات وأحكام قرار التقسيم بشأن القدس والدولة الفلسطينية، أعلنت حكومة الكيان الصهيوني في كانون الأول من عام 1949 مدينة القدس الغربية عاصمةً لها، وأقامت سلطتها التشريعية – الكنيست – على أراضٍ فلسطينية مصادرة؛ وترافقت هذه الإجراءات والممارسات مع جملة من الخطوات التشريعية، فبعدما تمكنت القوات العسكرية الصهيونية من وضع يدها وإطباق سيطرتها على الجزء الغربي من المدينة، عبر استخدام سياسة الأرض المحروقة بالنسبة إلى سكانها العرب الفلسطينيين، وفرض الحقائق المادية وسياسة الأمر الواقع (de facto): انتقلت السلطات إلى مرحلة محاولة تطبيق تصوراتها وخططها عبر إجراءات الضم والإلحاق، عن طريق فرض قوانينها وتركيز مؤسساتها الأساسية فيها.
أما فيما يتعلق بالشطر الشرقي من مدينة القدس فقد تصدت الأمم المتحدة للممارسات الصهيونية منذ وقوع الاحتلال بعد عدوان حزيران عام 1967، وهو ما يعدُّ استمراراً لموقف الشرعية الدولية بشأن القدس، بدءاً من تاريخ إقرار قرار التقسيم رقم 181. وكان للجمعية العامة للأمم المتحدة موقف مهم منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي، إذ اتخذت قرارين مهمين بشأن الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس والتي قضت بتطبيق أحكام اتفاقية جنيف الرابعة عليها، وإطلاق عدم المشروعية على الإجراءات التي اتخذتها السلطة المحتلة لتغيير الوضع القانوني لمدينة القدس. والدعوة إلى وقف هذه الإجراءات وإلغائها. وقد أقرت الجمعية العامة عشرات القرارات التي تواترت تلك الأحكام، منذ ذلك التاريخ حتى دورتها الأخيرة.
ولما كان الكيان الصهيوني سلطة الاحتلال، قد تمادت في انتهاكاتها ورفضها للقرارات الدولية، عاد مجلس الأمن الدولي إلى وضع القضية مجدداً على بساط بحث وأصدر في آذار عام 1980 القرار رقم 465/1980بإجماع أعضائه.. تضمن تأكيداً جديداً ومتواتراً بأن "ليس للإجراءات التي اتخذتها "إسرائيل" لتغيير الهوية الطبيعية والتركيبة الديمغرافية والبناء الاجتماعي ]...[ بما في ذلك القدس، أو أي جزء من أجزائها، أي صلاحية قانونية،..." وأكد القرار أنّ "نقل المهاجرين الجدد" إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس، انتهاك للقرارات الدولية ولاتفاقية جنيف الرابعة، مطالباً "بوقف الاستيطان" و"إزالة المستوطنات القائمة" .
ومما لاشك فيه؛ ((أن إسرائيل لا تقيم أي وزن للمواثيق والقرارات الدولية والإنسانية. إنها لا ترى في القوانين والمبادئ إلا وسائل لتحقيق أهدافها التوسعية. بل إنها تعتقد إن القوانين والمواثيق توضع لخدمة مصالحها، فإذا ما تعارض القانون أو القرار مع مصالحها نعتته بمعاداة السامية والتحريض على الإرهاب ورفضت الأخذ به. وزعماء إسرائيل لا يتورعون عن إعلان استخفافهم بالقواعد والقرارات الدولية. فعندما ناقشت الجمعية العامة للأمم المتحدة نتائج حرب العام 1967، صرّح وزير خارجية إسرائيل (ابا إيبان) بأن الجمعية إذا صوّتت بالإجماع مطالبة إسرائيل بالعودة إلى خطوط الهدنة، فإن إسرائيل سترفض الامتثال لهذا القرار)).
((وعندما أصدر مجلس الأمن في العام 1969 قراراً بإدانة الاعتداء الإسرائيلي على جنوب لبنان، وصف المندوب الإسرائيلي القرار بأنه ((كالإجراءات التي سبقته حادث دبلوماسي مصيره سلة القاذورات)). وعندما أصدر مجلس الأمن، في العام 1978، القرار 425 داعياً إسرائيل إلى الانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية المحتلة، أصرت إسرائيل على الاحتلال ولم تطرد إلا بنضال المقاومين اللبنانيين الأشاوس. وعندما اتخذ مجلس الأمن، قراراً بإرسال لجنة لتقصي الحقائق في مجازر جنين، رفضت إسرائيل القرار وتراجع المجلس وأصبحت سمعة الأمم المتحدة وهيبتها في أسفل سافلين)).
إن جميع هذه النماذج من الانتهاكات الجسيمة ـ لقانون الاحتلال الحربي ـ التي يرتكبها الكيان الصهيوني في الأراضي العربية المحتلة؛ تمثل خرقـاً لأبسط قواعد السلوك المطلوبة من قوات الاحتلال تجاه المدنيين، وتشكل خرقـاً فاضحاً لكل الاتفاقيات حول حقوق الإنسان، وعلى كل ذلك تترتب المسؤولية الدولية بحق دولة الاحتلال ....
رابعاً ـ عدم شرعية تغيير الوضع القانوني في القدس:
جسّدت مواقف دول العالم من احتلال القدس الشرقية في عام 1967 الوضع الخاص للمدينة، وفي هذا الصدد، أعلنت الولايات المتحدة في 14 يوليو / تموز 1967 على لسان ممثلها في الجمعية العامة "أرثر جولدبرج": ((أنها تعتبر القدس واحدة من أقدس مدن العالم، والولايات المتحدة ترى أن القدس الشرقية التي احتلتها "إسرائيل" عام 1967 هي منطقة محتلة تخضع لقانون الاحتلال الحربي، ولا يجوز لإسرائيل أن تدخل عليها أية تغييرات، ولذلك فإن التغييرات التي أدخلتها "إسرائيل" على المدينة تعتبر باطلة ولا تمثل حكماً مسبقاً على الوضع النهائي والدائم للمدينة)).
وفي الأول من تموز/يوليو 1969 أكدت الولايات المتحدة أمام مجلس الأمن - مرة أخرى- على لسان السفير شالز يوست مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة: ((أن القدس التي وقعت تحت سيطرة "إسرائيل" في حرب 1967 مثلها مثل مناطق أخرى احتلتها "إسرائيل" - تعدُّ منطقة محتلة تخضع لنصوص القانون الدولي الذي ينظم حقوق دول الاحتلال والتزاماتها التي تقضي بأن دولة الاحتلال لا يحق لها أن تحدث تغييرات في القوانين والإدارة» وفي إطار الخطابات المتبادلة الملحقة بوثائق "كامب ديفيد" حول القدس، ورد في رسالة الرئيس "جيمي كارتر" إلى الرئيس أنور السادات بتاريخ 22 سبتمبر 1978 «أن موقف الولايات المتحدة بشأن القدس يظل هو الموقف نفسه الذي أعلنه السفير "جولد برج" أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 تموز/يوليو 1967، وهو ما أكده من بعده السفير "يوست" أمام مجلس الأمن في أول يوليو 1991)).
وكذلك جاء في رسالة التطمينات الأمريكية إلى الفلسطينيين بتاريخ 18 أكتوبر / تشرين الأول 1991، أن الولايات المتحدة تفهم الأهمية التي يعلقها الفلسطينيون على مسألة القدس الشرقية، ولهذا نريد أن نطمئنكم أن لا شيء مما سيقوم به الفلسطينيون لاختيار أعضاء وفدهم في هذه المرحلة من العملية - سيؤثر في مطالبتهم بالقدس الشرقية أو يشكل حكماً مسبقاً أو سابقة لما سينتج عن المفاوضات، ويبقى الموقف الثابت للولايات المتحدة متمثلاً في أنه يجب ألا تعود مدينة القدس مقسمة مرة أخرى وأن وضعها النهائي يجب أن يتم تحديده بالمفاوضات، ولهذا لا نعترف بضم "إسرائيل" للقدس الشرقية أو توسيع حدودها البلدية، ونشجع الأطراف كلّها على تجنب الإجراءات من جانب واحد، والتي قد تزيد من حدة التوتر المحلي أو تصعب من المفاوضات أو تستبق تقرير نتائجها النهائية ..
وفضلاً عن ذلك فإن موقف الولايات المتحدة يتمثل أيضاً في أنه بإمكان فلسطينيي القدس الشرقية المشاركة بالتصويت في انتخابات سلطة حكم ذاتي انتقالية.. وتساند الولايات المتحدة حق الفلسطينيين في طرح أية مسألة بما في ذلك مسألة القدس الشرقية، على مائدة المفاوضات، وفي وضوح شديد أكد إعلان المبادئ الفلسطيني - الإسرائيلي الموقع في واشنطن في 13 سبتمبر / أيلول 1993 في المادة 5/3 الخاصة المدة الانتقالية ومفاوضات الوضع الدائم» إنه من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية، بما فيها القدس واللاجئون، والمستوطنات، والترتيبات الأمنية، والحدود، والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين، والمسائل الأخرى ذات الاهتمام المشترك»، كما نصت الفقرة الرابعة من المادة نفسها على اتفاق الطرفين على أن «لا تجحف أو تخل اتفاقيات المرحلة الانتقالية بنتيجة مفاوضات الوضع الدائم .
ولعله غني عن البيان؛ أن قرار الكيان الصهيوني باتخاذ القدس عاصمة أبدية يمثل تحدياً صارخاً للشرعية الدولية؛ ويتعارض مع أحكام القانون الدولي وجميع القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، و مجلس الأمن الدولي، وفي مقدمتها القرار رقم 250تاريخ 27/4/ 1968، وجاء فيه: ((إن مجلس الأمن ، وقد استمع إلى البيانات التي أدلى بها كل من مندوبي الأردن وإسرائيل، وقد نظر في مذكرة الأمين العام (S/8561) ،خصوصاً مذكرته إلى مندوب إسرائيل الدائم في الأمم المتحدة .
وإذ يعدُّ أنَّ إقامة عرض عسكري في القدس ستزيد في خطورة التوتر في المنطقة وسيكون لها انعكاس سلبي على التسوية السلمية لمشكلات المنطقة:
1. يدعو إسرائيل إلى الامتناع من إقامة العرض العسكري في القدس في 2 أيار (مايو) 1968 .
2. يطلب من الأمين العام ان يقدم تقريرا إلى مجلس الأمن بشأن تنفيذ هذا القرار والقرار رقم 252تاريخ 21/5/ 1968؛ الذي جاء فيه: ((إن مجلس الأمن، إذ يذكر قراري الجمعية العامة، رقم 2253 (الدورة الاستثنائية الطارئة-5) الصادر في 4 تموز(يوليو) 1967، والقرار رقم 2254 (الدورة الاستثنائية الطارئة-5) الصادر في 14 تموز (يوليو) 1967، وقد نظر في كتاب ممثل الأردن الدائم رقم ((S/8560) بشأن الوضع في القدس وتقرير الأمين العام رقم (S/8146) وقد استمع إلى البيانات التي ألقيت في المجلس ، وإذ يلاحظ أن إسرائيل اتخذت ،منذ تبني القرارات المذكورة أعلاه ،المزيد من الإجراءات والأعمال التي تتنافى مع هذه القرارات، وإذ يذكر الحاجة إلى العمل من أجل سلام دائم وعادل، وإذ يؤكد، من جديد رفضه الاستيلاء على الأراضي بالغزو العسكري .
1. يشجب فشل إسرائيل في الامتثال لقرارات الجمعية العامة المذكورة أعلاه.
2. يعدُّ جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية، وجميع الأعمال التي قامت بها إسرائيل بما في ذلك مصادرة الأراضي والأملاك التي من شأنها أن تؤدي إلى تغيير في الوضع القانوني للقدس، هي إجراءات باطلة، ولايمكن أن تغير في وضع القدس. يطلب من الأمين العام أن يقدم تقريراً إلى مجلس الأمن بشأن تنفيذ هذا القرار)).
وهو الأمر الذي ذهبت إليه جملة من القرارات الدولية الأخرى؛ مثالها القرار 465 لعام 1980 الذي دعا إلى إزالة المستوطنات الإسرائيلية القائمة في الأراضي المحتلة ومن بينها القدس الشرقية، وأيضاً القرار 478 لعام 1980 الذي دعا جميع الدول إلى عدم نقل بعثاتها الدبلوماسية إلى مدينة القدس، ومع عَدِّ جميع التدابير والإجراءات التشريعية والاستيطانية الرامية إلى تغيير الوضع القانوني للمدينة لاغية ومخالفة للقانون الدولي، والقرارات 672 لعام 1990، 673 لعام 1990، 904 لعام 1994 التي أدانت "إسرائيل" لارتكابها أعمال عنف ضد الفلسطينيين في المذبحة التي شهدتها ساحة المسجد الأقصى في تشرين أول/أكتوبر عام 1990، وجميعها وصفت القدس بأنها أرض محتلة...ولكن هيهات أن تعيد الحق -الذي أخذ بالقوة- قرارات ...
المبحث الرابع
أولاً ـ منظمة المؤتمر الإسلامي:
تضم منظمة المؤتمر الإسلامي سبعاً وخمسين دولة، وهي تعمل وفقاً لمبادئها من أجل حماية وضمان تقدم مواطنيها وجميع مسلمي العالم . وهي منظمة دولية ذات عضوية دائمة في الأمم المتحدة. والدول السبع والخمسون هي دول ذات غالبية مسلمة وتشمل الوطن العربي وغرب وجنوب شرق آسية وآسية الوسطى وشبه القارة الهندية فضلاً عن غويانا وسورينام.
تبنى المؤتمر الإسلامي الأول لوزراء الخارجية المنظمة الذي عقد في جدة إنشاء أمانة عامة للمنظمة، لضمان الاتصال بين الدول الأعضاء وتنسيق العمل. واختيرت جدة مقراً مؤقتاً للمنظمة، بانتظار تحرير القدس، حيث سيكون المقر الدائم. عقد المؤتمر الإسلامي لوزراء الخارجية جلسته الثالثة، في شباط/فبراير 1972، و تم وقتها تبنى دستور المنظمة، الذي يفترض به تقوية التضامن والتعاون بين الدول الإسلامية في الحقول الاجتماعية والعلمية والثقافية والاقتصادية والسياسية .
ومما يجدر التذكير به أن المؤتمر الإسلامي ناقش قضية القدس في عدة دورات له، نذكر منها القرارات التي اتخذت من قبل المؤتمر الإسلامي العاشر الذي عقد في أيار/مايو 1979 بمدينة فاس والمؤتمر الثاني عشر لوزراء الخارجية المعقود في بغداد في حزيران/يونيو 1981، والذي اتخذ قراره رقم 2/12 بشأن مدينة القدس . وكذلك القرارات التي صدرت عن الدورة الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي، والتي خصصها لفلسطين والقدس، وقد أوضحت توصيات هذه المسألة بجلاء حيث ورد بها: تمسك المؤتمر الكامل بعروبة مدينة القدس وتحريرها وعودتها للسيادة لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية .
وإذا كانت الدورة الثالثة لمؤتمر القمة الإسلامي لم تشر إلى القدس العربية أو القدس التي احتلت في عدوان 1967، مما يفهم منه أن المؤتمر لا يفصل بين القدس الشرقية والقدس الغربية، ويعدّهما مدينة واحدة عربية إسلامية، وهنا يبدو أكثر تشدداً من الموقف العربي الذي تم التعبير عنه في مؤتمر فاس عام 1982. والواقع أن موقف المؤتمر يظهر تشدداً أكثر في العديد من المسائل الأخرى، فهو لا يشير إلى ضمانات دولية للوصول إلى الأماكن المقدسة للأديان كلّها في المدينة كما يفعل مؤتمر القمة العربي، وفضلاً عن ذلك يرى ضرورة اتباع أساليب مشتركة بين القوى الإسلامية كلّها لتحرير القدس حتى لو اقتضى الأمر اللجوء إلى القوة العسكرية، وإن كان من الواضح أن هذا الحل لم تتم بلورته حتى الآن، لذا فإن المؤتمر أوصى لجنة القدس التابعة للمؤتمر الإسلامي باتخاذ تدابير لتأكيد الطابع الإسلامي للمدينة كإعلان التآخي بينها وبين مختلف العواصم الإسلامية، والقيام بالمقاطعة الاقتصادية والسياسية والثقافية للكيان الإسرائيلي، واتخاذ إجراءات سريعة لتسجيل مدينة القدس لدى منظمة اليونسكو بوصفها مدينة تاريخية لا يجوز المساس بها .
وآخر دورة عقدت لمجلس وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي هي الدورة السادسة والثلاثون يوم الاثنين 24/5/2009م في دمشق؛ وفي ختام أعمالها صدر بيان؛ جاء فيه: و ((بخصوص القضية الفلسطينية جدد المجلس تأكيده الطابع المركزي لقضية القدس الشريف بالنسبة إلى الأمة الإسلامية وأكد الهوية العربية والإسلامية للقدس الشرقية المحتلة وضرورة الدفاع عن حرمة الأماكن الإسلامية والمسيحية المقدسة.. كما جدد إدانته "لإسرائيل" لاستمرارها في عدوانها على الأماكن المقدسة في القدس ولما تقوم به من هدم لمنازل الفلسطينيين، وما تقوم به من حفريات غير قانونية تحت الحرم الشريف والمسجد الأقصى. وندد المجلس بشدة بإجراءات "إسرائيل" وممارساتها غير الشرعية والمخالفة لجميع القرارات والقوانين الدولية التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلية في مدينة القدس الشريف والهادفة لتهويد المدينة المقدسة وطمس معالمها العربية والإسلامية وتنفيذها سياسة التطهير العرقي فيها بهدف تفريغها من سكانها....كما طالب بوقف "إسرائيل" فوراً البناء غير القانوني للمستوطنات وجدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية.. وأن تقوم بهدمها فورا تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن الدولي والرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية مؤكداً ضرورة حل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين حلاً عادلاً وفقاً لقرارات الشرعية الدولية ولاسيما قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لعام 1948 .
وطالب المجلس الدول الأعضاء بإصدار التشريعات الداخلية التي تنظم عمل المقاطعة الإسلامية ضد "إسرائيل"؛ داعياً الدول الأعضاء التي لم تنشئ مكاتب إسلامية للمقاطعة في بلدانها، أن تقوم بذلك مؤكداً ضرورة تطبيق قوانين المقاطعة ومبادئها بوصفها حقاً قانونياً، لمواصلة الضغط على"إسرائيل" وضماناً عملياً لإلزامها بالخضوع لقرارات الشرعية الدولية.. وطلب من الأمين العام متابعة تنفيذ هذا القرار وتقديم تقرير عنه إلى الدورة السابعة والثلاثين لمجلس وزراء الخارجية .
ومن الجدير ذكره؛ أن أداء منظمة المؤتمر الإسلامي نحو القضية الفلسطينية عامةً، والقدس بشكلٍ خاصٍ ـ بحسبانها أنشئت من أجلها ـ ظلت موضع انتقادٍ؛ وآخر ما حرر في هذا الشأن؛ ما نقل عن الشيخ "تيسير التميمي" قاضي القضاة في فلسطين المحتلة؛ الذي انتقد منظمة المؤتمر الإسلامي، وقال: ((إنها لم تصل إلى درجة التحديات التي تواجهها مدينة القدس المحتلة، مؤكداً أن ما بذل من جهد لا يليق بحجم المعاناة الضخمة المتزايدة للفلسطينيين من مسيحيين ومسلمين في المدينة)) .وحمل الشيخ تيسير التميمي على ضعف رد الفعل الإسلامي والعربي والفلسطيني على الممارسات الإسرائيلية بحق المسجد الأقصى, حاثاً منظمة المؤتمر الإسلامي, التي نشأت بعد حريق المسجد الأقصى عام ,1969 على التحرك, مناشداً العرب توحيد صفوفهم, واستخدام الأدوات التي في أيديهم لنصرة القدس والقضية الفلسطينية. وختم قاضي قضاة فلسطين برفض "فكرة التدويل, أو أي حل لا تكون القدس فيه عاصمة لفلسطين", معتبراً أن ذلك "يرسخ الاحتلال" .
ثانياً ـ جامعة الدول العربية والقدس:
شهدت جامعة الدول العربية التي أعلن عن قيامها في 22 مارس/آذار 1945 العديد من الأحداث والتطورات، والتي كان لها فيها أدوار لا تنكر إيجاباً أو سلباً. والواقع أنه إذا كانت هذه الأدوار تبدو جلية على صعيد دعم الجامعة لقضايا النضال الوطني للشعوب العربية من أجل الحرية والاستقلال، فإنها تبرز أيضاً على مستوى القضية الفلسطينية التي ظلت بحق إحدى القضايا المركزية الكبرى في سياسات الجامعة، كل هذا بالطبع فضلاً عن قضايا التنمية وما يتصل بها من ضرورات تطوير العمل العربي المشترك وتعزيزه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
لعله غني عن البيان أنه منذ قيام الجامعة عام 1945 وحتى يومنا هذا ما تزال القضية الفلسطينية؛ تمثل الشغل الشاغل لهذه المنظمة العربية القومية على اختلاف أجهزتها ومؤسساتها. فعلى إثر قيام دولة إسرائيل في 15 مايو/أيار 1948 بادرت جامعة الدول العربية إلى التدخل لمواجهة هذا الوضع الجديد. على أنه إزاء إخفاق العرب في التصدي للدولة اليهودية الصهيونية لم تتردد الجامعة في اتخاذ مجموعة من القرارات لمقاطعة إسرائيل اقتصادياً ومقاطعة كل الدول التي تتعاون معها في أي مجال من المجالات الاقتصادية أو الثقافية أو غير ذلك. كما شكلت القضية الفلسطينية بجوانبها المتعددة الأساس لمعظم مؤتمرات القمة العربية منذ أوائل الستينيات. بل إن بعض هذه المؤتمرات قد عقد أساساً للنظر في موضوعات تتعلق بهذه القضية، ومن ذلك مثلاً مؤتمر القمة العربي الذي انعقد بالقاهرة في يناير/كانون الثاني 1964 لبحث مسألة قيام إسرائيل بتحويل مياه نهر الأردن بهدف الاستحواذ على أكبر قدر من هذه المياه لصالحها وحدها.
وكما هو معلوم، فقد جاءت قرارات هذا المؤتمر صريحة في التوكيد أن إسرائيل تمثل الخطر الأساسي الذي يهدد الدول العربية في مجملها وليس فقط الشعب العربي الفلسطيني، الأمر الذي يستوجب عملاً عربياً جماعياً لمواجهتها. كما أشارت هذه القرارات من جهة أخرى إلى أن تحويل مياه نهر الأردن يمثل عنصرَ تهديدٍ خطيراً للأمن القومي العربي.
على أن المسألة الأصعب فيما يتعلق بموقف الجامعة إزاء القضية الفلسطينية إنما يتمثل في حقيقة أنها وإن كانت قد نجحت ولا شك في بلورة نوع من الإجماع العربي بشأن تأييد حقوق الشعب العربي الفلسطيني في مواجهة الأطماع الإسرائيلية والصهيونية، إلا أنها قد أخفقت في المقابل في التوصل إلى صياغة خطة عربية تفصيلية يمكن السير بمقتضاها في هذا الشأن. ولعل من بين الأمور القليلة المهمة التي حصل اتفاق عربي إيجابي بشأنها في هذا الخصوص، هو الاتفاق الذي أمكـن التوصل إليه في مؤتمر قمة الرباط عام 1974 بشأن عدّ منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وهي الخطوة التي تلتها بعد ذلك خطوة أخرى أكثر أهمية تمثلت في قبول فلسطين عام 1976 عضواً كامل العضوية في جامعة الدول العربية.
ولا ينبغي في هذا السياق أيضاً أن نغفل حقيقة أن جامعة الدول العربية قد أولت اهتماماً خاصاً لقضية القدس بالنظر إلى أهميتها الدينية والتاريخية للعرب جميعاً. فعلى سبيل المثال كان من بين القرارات المهمة التي صدرت عن مؤتمر القمة العربي بالجزائر عام 1973 ذلك القرار الذي نص فيه على وجوب العمل العربي قدماً من أجل تحرير مدينة القدس العربية، وعدم القبول بأي وضع من شأنه المساس بالسيادة العربية الكاملة على هذه المدينة المقدسة.
والواقـع أن موضوع القدس قد ظل -تقريباً- أحد البنود الأساسية والدائمة في كل اجتماعات جامعة الدول العربية سواء على مستوى القمة أو على المستوى الوزاري أو حتى على مستوى المندوبين الدائمين المعتمدين، حيث كان يتم دائماً الإصرار على وجوب دعم النضال الفلسطيني لتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشريف. وكانت القمة العربية الاستثنائية التي عقدت بمقر الجامعة بالقاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2000 بهدف دعم الانتفاضة الفلسطينية وحماية المقدسات الإسلامية .
وآخر ما حرر من مواقفها ـ بشأن القدس ـ تنظيم فعالية ضخمة في مقر الأمانة العامة للجامعة احتفاء بالقدس عاصمة للثقافة العربية لعام 2009 يوم الأحد 7/6/2009م حضرها عدد من كبار الشخصيات السياسية والدينية وسفراء الدول العربية والأجنبية لدى مصر. وتحدث في الاحتفالية الأمين العام للجامعة عمرو موسى قائلاً "إننا نلتقي اليوم للتعبير عن الموقف الصامد والثابت وراء عروبة القدس، حتى تقوم دولة فلسطين ونعلن القدس عاصمة لها في إطار ما أكدته مبادرة السلام العربية))، داعياً الفلسطينيين إلى توحيد كلمتهم ورص صفوفهم وتحمل المسؤولية نحو استرداد الأرض وإقامة الدولة الفلسطينية. وقال إنه لن يكون هناك حل للقضية الفلسطينية دون حل مكتمل ومتوازن ودائم لقضية القدس، محذراً من أنَّ القدس تتعرض لحملة إسرائيلية شرسة تهدف إلى طمس معالمها العربية من أجل تهويدها. وأضاف موسى إننا أمام مسؤولية خطيرة ومهام جسيمة لمواجهة هذه الحملة الإسرائيلية .
المبحث الخامس
وضع القدس في اتفاقات أوسلو وما تلاها
أولاً ـ القدس في اتفاقيات أوسلو:
نصت المادة الأولى من إعلان المبادئ أن هدف المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية ضمن عملية السلام؛ إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية "المجلس المنتخب من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة لمرحلة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات، وتؤدي إلى تسوية دائمة تقوم على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338». ونصت الفقرة الثانية من المادة الخامسة على أنه :«سوف تبدأ مفاوضات الوضع الدائم بين حكومة إسرائيل وممثلي الشعب الفلسطيني في أقرب وقت ممكن ولكن بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من المرحلة الانتقالية.. أما الفقرة الثالثة من المادة نفسها فتنص على :«من المفهوم أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية بما فيها القدس واللاجئون والمستوطنات والترتيبات الأمنية والحدود والعلاقات والتعاون مع جيران آخرين ومسائل أخرى ذات الاهتمام المشترك» .
وجاء في الملحق الأول من إعلان المبادئ أن فلسطيني القدس الذين يعيشون فيها سيكون لهم الحق في المشاركة في العملية الانتخابية . ونص الاتفاق المرحلي بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية أن مفاوضات الوضع النهائي ستبدأ في موعد لا يتجاوز أيار/ مايو 1996 وسوف تتناول مفاوضات الوضع النهائي القضايا المتبقية بما فيها القدس، اللاجئون، والمستوطنات..» وبالنسبة إلى الانتخابات بخصوص فلسطيني القدس، فسيكون في مقدور سكان القدس الفلسطينيين أن يشاركوا في الانتخابات وفقاً لترتيبات خاصة مبينة بالتفصيل في الاتفاق، وسيجري التصويت في أماكن خارج القدس وبواسطة ملفات خاصة سترسل من مكاتب بريد إلى اللجنة المركزية للانتخابات ولن يكون في مقدور أي فلسطيني له عنوان في القدس ويرغب في الترشيح لانتخابات المجلس الفلسطيني أن يفعل ذلك، إلا إذا كان له أو لها عنوان إضافي ساري المفعول في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. ونتيجة لذلك اشترطت إسرائيل فرز الأصوات في مناطق السلطة الفلسطينية ومنعت إقامة المهرجانات الانتخابية، وفرضت قيوداً على المرشحين. وبذلك أكدت إسرائيل وبموافقة فريق أوسلو بأن سيادتها في القدس الشرقية لم تمس فعلاً، وأنها تتعامل مع رعايا أجانب يشاركون في انتخابات برلمان في دولتهم من دون أن تمس سيادتها .
ثانياً ـ الاتفاقات السرية بشأن القدس:
لعله غني عن البيان؛ أن الحقائق السياسية عامةً يصعب الوصول إليها إلا من مصادر موثوق بها ومدونة؛ وهذا لا يكون عادةً إلا بعد مرور مدةٍ من الزمان؛ لا تغدو فيه تلك الحقائق أسراراً؛ وهذا أمر غير متاحٍ في السياسات غير المدونة وكذلك في التصرفات ذات الأبعاد السياسية حتى وإن صدرت عن غير السياسيين؛ ولذلك يتم اللجوء إلى الأخبار السياسية ((الصحفية)) على ما في ذلك من محذوراتٍ يفترضها البحث الأكاديمي الرصين عادةً...وهذا ما ذهبنا إليه لأن الأمر يتعلق بالقدس...
ومن ذلك ما كشفته في يوم 23/2/1996 صحيفة الحياة اللندنية؛ عن مسودة اتفاق على الحل النهائي ـ بزعم أطرافه ـ تقترح حلاً جزئياً للقدس يشمل مجلساً بلدياً مكبراً للقدس الكبرى، يتفرع إلى جزء شرقي يسمى "القدس" ويشمل بلدتي "العيزرية وأبو ديس" شرقاً والجزء الآخر عبارة عن القدس العاصمة والذي يضم مستوطنة "معاليه أدوميم" ويتسلم الفلسطينيون منطقة الحرم التي تضم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وستعدُّ هذه المنطقة خارج حدود السيادة "الإسرائيلية" في حين يدير الفلسطينيون كنيسة القيامة دون أن تعلن خارج السيادة الإسرائيلية، وبقيت البلدة القديمة من القدس دون حل.
وفي المقابل سيتم فصل الجانب الديني عن الجانب الخاص بالسيادة، ويتم حل مشكلة الأماكن المقدسة عن طريق الإدارة المشتركة لها - والسيادة ستكون إسرائيلية ولن يكون هناك أي تقسيم أو سور أو أي علم فلسطيني فوق بيت المقدس. لو أراد عرفات فليقم في الضواحي المحيطة في "أبو ديس" مثلاً ويمكن تسمية القرى العربية الملاصقة لخلفية المدينة (قرب القدس) وهكذا يأتي الخلاص الصهيوني!!
وقد كشفت مجلة الأهرام العربي بتاريخ 5/4/1997 النقاب عن وجود مفاوضات أوسلو -2 السرية وقد أكدت المجلة المذكورة؛ أن الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني يعقدان اجتماعات منذ أحداث العنف التي جرت في أيلول/ سبتمبر الماضي، في أعقاب القرار الإسرائيلي بفتح النفق بالقدس، وأن المفاوضات تتم بمعرفة القيادتين في الجانبين، وأنها تضم أكاديميين فلسطينيين، بعضاً منهم شارك في مفاوضات تنفيذ اتفاقية أوسلو وقالت :«إن هذه المفاوضات تدور مع الدكتور دوري جولد - المستشار السياسي لنتنياهو شخصياً -»، وقالت «إن الأفكار التي يتم تداولها في هذه المفاوضات تقترب -إلى حد كبير- من أفكار بحثت سابقاً بين أبو مازن ويوسي بيلين» .
ومن الجدير التذكير به ـ في هذا المقام ـ تلك الصفقة المشبوهة التي عقدت بين بطريرك الروم الأرثوذكس للقدس"ايرينيوس الأول"، وشركة صهيونية تعنى بشؤون الاستيطان، والتي اشترت بموجبها مجموعتان استثماريتان يهوديتان أراضي تملكها البطريركية، وتقع داخل أسوار البلدة القديمة بالقدس في منطقة باب الخليل حيث نشرت نصوص عقد البيع المبرم بينهما.
وذكر أن العقد الذي يحمل عنوان "اتفاق إيجار"، موقع في القدس بتاريخ 16 آب/أغسطس 2004، وهو ساري المفعول لـ 198 سنة (الأمر الذي يجعل الصفقة عملياً مثلها مثل البيع تقريباً)، وفي الطرف الأول يوقع محامي المشترين، بما فيها الطرف الآخر "نيكولاس بباديموس" رئيس الدائرة المالية في البطرياركية، ومن أقرب مقربي "ايرينيوس الأول"، ولم تُوقع الصفقة إلا بعد أن عرض "بباديموس" وكالة عدلية منحه إياها البطريرك لدى المحامي "يعقوب ميرون"، والتي تتيح له تأجير أملاك الكنيسة لأجيال.
وقالت يومية "معاريف" الصهيونية: إن عقد الإيجار كتب في القدس بتاريخ 16/8/2004 بين بطرياركية الروم الأرثوذكس في القدس بواسطة "ايرينيوس الأول" بطريرك الروم الأرثوذكس للقدس، من قبل وكيله عملياً "نيكولاس بباديموس"، حسب وكالة بتاريخ 6/5/2004 من جهة، ومن الجهة الأخرى أحجمت الصحيفة عن كشف أسماء أصحابها.وعن تفاصيل المبنى المبيع قالت الصحيفة: "إنه مما جاء في نصوص العقد، أن البطرياركية هي المالكة المتفردة للمُلك المعروف بفندق (امبريال)، الذي هو جزء من مبنى يقوم في ساحة عمر بن الخطاب، باب الخليل، في البلدة القديمة بالقدس، جزء من المبنى يتضمن كل مساحة الطوابق فوق الطابق الأرضي، السطح والهواء فوقه، ومدخل الفندق ومخرج الطوارئ في الطابق الأرضي، وبيت الدرج الواصل بين المدخل الجانبي ومخرج الطوارئ وبين طابق المدخل، والمحلات في طابق المدخل".
وأشارت إلى أنه عند بند التوقيع يظهر توقيع "بباديموس"، وإلى جانبه خاتم "مدير الدائرة المالية لبطريركية الروم الأرثوذكس القدس"، منوهة إلى أن العقد يقع في ثماني صفحات، ومرفق به خريطتان في اللغة العربية للمبنى الواسع. كما أوضحت المصادر أن عقد البيع يشمل فندقي "امبريال" و"بترا" المحاذيين لباب الخليل، وكذلك يشمل عدداً من المحلات على مقربة من السوق العربية في المكان، منوهة إلى أن كل هذه الأملاك كانت قيد استخدام جهات فلسطينية تسكن في شرقي القدس المحتلة حتى لحظة عقد الصفقة. يذكر أن "ايرينيوس الأول" كان قد نفى حدوث الصفقة أصلاً في بداية الكشف عنها، فيما ادعى بعد ذلك أن من وقع عليها لم يكن مخولاً بعمل ذلك.
ثالثاًـ قضية القدس في مفاوضات الوضع النهائي:
على الرغم من أن اتفاقيات أوسلو وأخواتها تغافلت عن حقيقة مكانة القدس عند العرب والمسلمين كافةً؛ وأن للقدس أبعاداً خاصة بها، وخصائص تنفرد بها عن غيرها .. ؛ فإنها كذلك أغفلت في الشأن الفلسطيني ذاته عدداً من القضايا الجوهرية؛ ولعل "مربط الخيل" في ذلك ـ بالنسبة إلى الفلسطينيين أنفسهم ـ هو الارتكاز على مفهومي السيادة والمواطنة؛ وفهم هذه المواطنة يعود إلى مبدأ السيادة الوطنية الدائمة بوصفها جزءاً أصيلاً من حقوق الشعب الفلسطيني. فالسيادة هذه، لا تزال محتجبة ومحتجزه، بفعل واقعة الاحتلال الإسرائيلي. إلا أن إجماع الفقهاء يؤكد، أنَّ السيادة مرتبطة بوجود الأمة، وهي شيء أكثر من مجرد الإقليم أو الحكومة، إنها تضم الرجال والنساء، الذين تكمن فيهم السيادة. أي بمعنى آخر يورده د. الغنيمي، أن "الأمة ليست مجرد معطى من إقليم وحكومة، ولكنها تتكون من كائنات بشرية تكمن فيهم السيادة.." ؛ أي أن "كل أمة تتمتع بسيادة كامنة فيها، ويمكنها أن تمارسها إذا أرادت .." إلا إذا كانت هناك ظروف قهرية تحول دون ذلك، كالاحتلال الأجنبي مثلاً.. واختصاراً، فإن تحليل الاتفاقيات الدولية بشأن الاحتلال الأجنبي وأثره في الإقليم المحتل والسيادة الوطنية الدائمة لشعبه، تشير:
1- الاحتلال لا ينقل السيادة على الإقليم للسلطة المحتلة. وهكذا فإن السيادة طوال مدة الاحتلال تبقى كامنة في الأمة والسكان، ولكنها سيادة موقوفة، لا تجري ممارستها عملياً بفعل قيام سلطة فعلية في الإقليم المحتل.
2- رغم أن السيادة لا تجري ممارستها في أثناء مدة الاحتلال، إلا أنها تبقى قائمة أيضاً إلى جانب السلطة الفعلية التي يمارسها الاحتلال، لا تزول أو تنقضي بفعل الاحتلال، بدلالة أن سلطة الاحتلال تبقى مقيدة في ممارستها لهذه السلطات بقيود عديدة، وهي تشكل الالتزامات والواجبات التي يفرضها قانون الاحتلال الحربي والاتفاقيات الدولية مثل: الإبقاء على التشريعات والقوانين المحلية واحترامها، وحظر ضم الإقليم المحتل، والحرص على مصالح السكان الاقتصادية والثقافية والدينية والصحية، وعَدِّ الاحتلال وضعاً مؤقتاً لا يكتسب صفة الاستمرار والدوام.
3- إن السلطة الفعلية التي يمارسها الاحتلال لا تستند إلى السيادة، وإنما إلى قانون الاحتلال الحربي وضمن الإطار التي تسمح به الاتفاقيات الدولية التي تشكل مصدراً مهماً أساسياً من مصادره.
4- إن كل الإجراءات والتشريعات التي تصدرها السلطة المحتلة طوال مدة الاحتلال، استناداً إلى سلطتها الفعلية تصبح غير سارية المفعول بمجرد توقف السلطة الفعلية وعودة الأمة لممارسة سيادتها.
5- إن كل الإجراءات والتشريعات التي تصدر عن السلطة المحتلة، تعدُّ باطلة ما دامت تجاوزت ما يسمح به القانون الدولي والاتفاقيات الدولية، لأّن القانون والاتفاقيات الدولية هي التي تسبغ المشروعية على إجراءات السلطة المحتلة، التي لا يدعمها حق السيادة في الإقليم ...
والادعاء الصهيوني بالسيادة على الإقليم الفلسطيني، بناءً عليه، يعدُّ باطلاً وغير مشروع ، لأن القاعدة الناظمة بشأن السيادة تقتضي بأنها تنشأ مبتدئه وتلازم الشعوب ما بقيت ورغبت بها؛ ولذا فهي دائمة بديمومة أصحابها الشرعيين. ويسعى الادعاء الصهيوني إلى مصادرة حقوق السيادة الوطنية الدائمة التي تعود إلى الشعب الفلسطيني، ليبني من عليها "سيادة" الأمر الواقع؛ علماً أن السيادة عموماً لا يمكن أن تشتق من سيادة شعب آخر، دون رغبته وإرادته الحرة.
يُجمع الفقهاء على الطبيعة الدائمة للسيادة وملاصقتها للشعوب صاحبتها، مهما كانت الظروف الطارئة التي قد تخضع لها تلك الشعوب، بما في ذلك حالات الغزو والاحتلال الحربي. ويستنتج د. الغنيمي أنّ "الشعب إذا لم يقبل الغزو العسكري وأظهر تصميمه بطريقه أو بأخرى على استعادة حريته، فإن سيادته - حتى لو جُرحتْ وقيُدت ولجأت إلى منفى - تظل قائمة ومستمرة من الناحية القانونية" .
يقول المرحوم د. أحمد صدقي الدجاني ((ما ألحقته الغزوة الصهيونية وتلحقه بإنسان القدس وزرعه قد بلغ حداً يفوق الوصف، فهناك 1220 شجرة قُطِعَتْ في القدس منذ إبرام اتفاق أوسلو، ويكشف تقرير صادر عن معهد البحوث التطبيقية الفلسطينية في 10/1998، أن هذا العدد من أصل 37506 من الأشجار التي اقتُلِعَتْ من الضفة الغربية في السنوات الخمس الماضية. وأن الأراضي المصادرة في القدس بلغت 234،73 دونماً من أصل 943،177 دونماً في الضفة، تعادل 3% من مساحتها)) .
ومما لاشك فيه؛ أن جميع هذه الانتهاكات الصهيونية التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي تجاه أهل بيت المقدس من العرب المسلمين والنصارى تقع في إطار سعيه الدائب لطردهم من مدينتهم المقدسة، وقد استطاع فعلاً أن يهجّر - مستعيناً بسياسات دول غربية - جلّ أهل القدس من النصارى العرب الفلسطينيين فأصبح عددهم اليوم لا يصل إلى تسعة آلاف، في حين كان المفروض وفقاً للنمو السكاني أن يكون في القدس الشرقية نحو مئة وأربعين ألفاً. وهو متربص اليوم بنحو المئتي ألف الصامدين من المقدسيين المسلمين والنصارى، يسعى بدأب لترحيلهم وفق خطة جديدة تقوم على الترحيل السري لهم بإلغاء إقامتهم في القدس الشرقية . .
مما لاشك فيه أن القدس كانت ولا تزال، واحدة مـن أعقد القضايـا في الصراع العربي – الصهيوني، راهناً ومستقبلاً.. ولذا، لا تدخر سلطات الاحتلال جهداً ولا مالاً ولا تخطيطاً ولا تقنيناً أو تشريعاً، إلا وجندتها في سبيل الأهداف التوسعية الاستيطانية. ولما كان هناك من يتطلع رهبةً ورغبةً إلى مؤسسات النظام الدولي المعاصر منتظراً على يديها الفرج بعودة القدس وإقامة الدولة الفلسطينية؛ فإننا لا نأتي بجديدٍ حينما نعيد كشف الحقيقة الموجعة أن المنظمات الدولية ما زالت مطية الأقوياء نحو تحقيق أهدافهم، وأداتهم الطيعة لصيانة مصالحهم؛ ولذلك مضى أكثر من ستين عاماً على وجود القضية في أروقة الأمم المتحدة؛ وحال الذين أدركوا الحقيقة تقول لقد ناديت لو أسمعت حياً...!
وأخيراً وليس آخراً؛ ما آفاق المستقبل ....في ظل حال الوهن الذي تعيشه الأمة على الرغم من كثرةٍ ووفرةٍ في العديد والعدة؛ ولكنها لمـا تتجاوز غثاء السيل بعد وفي ضوء حصار سيد الخيارات ((خيار المقاومة والفداء))؛ فإن الآفاق مفتوحة باتجاهاتٍ لا تسر صلاح الدين، ولن تحقق الأمن والسلام أبداً؛ وهي: تدويل القدس وتقسيم القدس، وتصنيع قدس جديدة؟!
إن تدويل القدس يكون بإعادة الحياة إلى شطر التدويل الخاص بالقدس في قرار التقسيم؛ أو بالنسج على منواله، بما يضمن من حيث النتيجة ضياع هوية القدس وهذا ما يتفق بشأنه صناع القرار الحقيقيين في الواقع الدولي الراهن...
أما تقسيم القدس إلى شرقيةٍ وغربيةٍ؛ فهو محقق على أرض الواقع منذ الاحتلال الأول لشطر المدينة الغربي في العام 1948م، وهذا الشطر وُسِّعَ مراتٍ عديدةً وأُعطي طرازاً غربياً؛ يعكس حقيقة الكيان الصهيوني والهدف الحقيقي من وجوده، وترك القسم الشرقي على حاله ـ قبل عقود ـ وعن عمدٍ ودرايةٍ؛ تم إهماله وتهميشه في إطار خطط اليهود لإفراغه من أهله الأصليين.
وتصنيع قدسٍ جديدةً ليس بدعةً في القول ـ لا أصل لها ـ بل هي حقيقة؛ يجري العمل على إتمام تكوينها ـ قبل الوصول إلى ما يسمى ختام مفاوضات الحل النهائي ـ عبر توسيع دائرة القدس الكبرى لتضم بعض الضواحي الشرقية التي تقع خارج القدس التاريخية؛ وتسمية هذه الأماكن الجديدة بالقدس، ويقال: إنَّ هناك مخططات للتنفيذ وأخرى للقبول بذلك ...
ولعله غني عن البيان؛ أن القول الفصل في مصير القدس وفلسطين كلها هو ملك للأمة بأسرها، وعبر أجيالها كلها، ولا يملك أحد أبداً الزعم بالتفويض، وإن باشر التفاوض فإنه ينبغي أن يكون ماثلاً أمام عينه أن ((وضع مدينة القدس يتحدد وفق مبادئ وقواعد وأحكام القانون الدولي العام، ولاسيّما وفق اتفاقيات لاهاي لعام 1899 و1907 واتفاقية جنيف الرابعة الصادرة في آب عام 1949، وكذلك الاتفاقيات الدولية المنضوية في القانون الإنساني الدولي جميعها؛ تؤكد أن الأراضي الفلسطينية أراضٍ محتلة، تعود لشعب فلسطين التي حجبت عنه السيادة والاستقلال بفعل الاحتلال الإسرائيلي.
وأجمعت أطراف المجتمع الدولي، في عشرات بل مئات القرارات الدولية, على انطباق المدة الأولى من المادة الثانية المشتركة لاتفاقيات جنيف الأربع على الأراضي الفلسطينية، والتي تنص على: "تنطبق هذه الاتفاقية على جميع حالات الحرب المعلنة أو على أي نزاع مسلح آخر قد ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف المتعاقدة السامية، حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب". ولما كان الكيان الصهيوني لا يزال يرفض تطبيق اتفاقية جنيف الرابعة، وتقبل تطبيق لوائح الاتفاقية لاهاي لعام 1907، فإن المادة 42 من لائحة الحرب البرية تنص على "يعتبر الإقليم مُحتلاً حينما يوضع فعلياً تحت سلطة جيش معادٍ". ولاشك في حقيقة أن الإقليم الفلسطيني، قد جرى تحديده في قرار التقسيم رقم 181، وأن الكيان الصهيوني قد احتله بالقوة الحربية سواءً أكان ذلك في أعوام 48 – 1949؛ إثر عدوان حزيران 1967، وأن جيش الاحتلال هو جيشٌ معادٍ أقام حكماً عسكرياً احتلالياً في الإقليم الفلسطيني. (( لذا، فإن تطبيق قانون الاحتلال الحربي وفقاً للقانون الدولي الإنساني يصبح واجباً ملزماً على الكيان الصهيوني، و"سيكون من قبيل الاستهزاء بالقانون، أن يتمكن الغازي من تفادي تطبيق قانون الاحتلال الحربي، بمجرد اختلاف دعوى مطالبة بالحق في الإقليم الذي احتلته بالقوة؛ علماً أن محكمة العدل الدولية في فتواها بشأن جدار الفصل، أكدت أن الإجراءات والتدابير كلّها "الإسرائيلية" التشريعية والإدارية في القدس، بما في ذلك القانون 1/1 الأساسي "الإسرائيلي" الصادر بشأنها في 30 تموز 1980؛ وكذلك الاتفاقية الأردنية "الإسرائيلية" في وادي عربة والاتفاقيات الفلسطينية "الإسرائيلية" منذ عام 1993، لا يمكن لها أن تُلغي أن جميع الأراضي "بما فيها القدس الشرقية ما زالت أراضي محتلة، وما زالت "إسرائيل" لها وضع السلطة القائمة بالاحتلال، وأن المحكمة ترى أن اتفاقية جنيف الرابعة تسري على الأراضي الفلسطينية)) .
وأخيراً... فإن هذه الكلمات للمفكر الراحل أحمد صدقي الدجاني؛ يمكن أن تشكل خلاصة القول؛ في أفكار هذه الدراسة؛ إذ يقول فيها:
((أول ما ينبغي عمله هو استحضار رؤيتنا الفكرية للصراع حول القدس وإرساء أساس فكري متين لنضالنا من أجل تحريرها؛ وهذا يعني استذكار حقيقة أن القدس عاصمة فلسطين التي هي وطن لشعبها العربي الفلسطيني -أحد شعوب أمتنا العربية- وهي جزء من الوطن العربي الكبير ما يهددها يهدد الوطن كله. وهكذا فقضية القدس بداية هي قضية وطن وأرض وقضية تحرير. وفلسطين وطن واحد لشعب واحد فيه مسلمون ونصارى ويهود، ولم تكن قط وطناً لشعبين، واليهودية دين وليست قومية أمّا الصهيونية فحركة استعمار استيطاني عنصري.
إن علينا أن نستذكر آلية التحرير كما استذكرنا آلية التهويد. فإذا كان الغزو الصهيوني الاستعماري قد بدأ بالتسلل فالتغلغل فالاحتلال فالضم فالاغتصاب وصولاً إلى التهويد، فإن التحرير يبدأ بصمود الشعب فممارسة مقاومة الاحتلال فتصعيد هذه المقاومة بروح الفداء.. وصولاً إلى الحل الديمقراطي الذي هو بديل الحل العنصري الصهيوني. إن لنا في ضوء آلية التحرير أن ندعّم صمود أهلنا في القدس وفي فلسطين عامة، وأن نؤكد حق المقاومة لمن احتُلت أرضه، وندعم هذه المقاومة المباركة للاحتلال في فلسطين بكل السبل، ونبارك روح الفداء ونطرح خطوط الحل الديمقراطي لقضية فلسطين والقدس)) .
الدكتور جاسم محمد زكريا
8 من الزوار الآن
916826 مشتركو المجلة شكرا