الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > الجنرال جياب والفيتكونج
الزمان إبريل العام 1966... من هم «الفيتكونغ»؟ الفيتكونغ»، هو الاسم الذي أطلقته حكومة سايغون على الجناح العسكري الثائر من جبهة التحرير الوطني، التي تأسست عام 1960. وكلمة «فيت ـ كونغ» التي شاعت عام 1956 تعني باللغة الفيتنامية «الشيوعيين الفيتناميين». وجبهة التحرير الوطني هي الواجهة السياسية للحزب الشيوعي الفيتنامي، «لاودونغ» ـ أو حزب العمال الفيتنامي ـ الذي هو الحزب الشيوعي الحاكم في الشمال. وجبهة التحرير الوطني و«الفيتكونغ»، لا يضمان أحداً من المواطنين غير الشيوعيين. فهما منظمتان لحزب واحد، تعددت أسماؤه، في مراحل مختلفة من حياة فيتنام السياسية، إلاّ أنه بقي حزباً شيوعياً واحداً منذ تأسيس حزب الهند الصينية الشيوعي عام 1930. وعلى عكس منظمة «فيت ـ منه» التي تعني باللغة الفيتنامية، الوطنيين الفيتناميين ـ والتي تسلل إلى صفوفها الشيوعيون عام 1940 تحت ستار محاربة الاستعمار الفرنسي، انتهت بتصفية الوطنيين غير الشيوعيين منها في نهاية عام 1945، قبل تصفية فرنسا من الهند الصينية عام 1954.
فقصة «الفيتكونغ» ـ ومعها «الفيت ـ منه» ـ تعود إلى أوائل الثلاثينيات. وأشخاصها وأبطالها ما زالوا معنا حتى اليوم، ومسرح الأحداث هو نفسه. لذلك من الضروري إلقاء نظرة ولو سريعة على أبطال المسرحية، والتغيير السريع الذي جرى على المسرح الفيتنامي منذ ذلك التاريخ. فتحت إمرة ورعاية وتوجيه الرجل الذي أطلق على نفسه اسم هوتشي منه، تأسس حزب الهند الصينية الشيوعي في يناير عام 1930. ولحقبة من الزمن، انصرف الشيوعيون الفيتناميون إلى بناء كادرات حزبهم والتعزيز من نفوذها بدخولهم في المنظمات الوطنية المعادية لفرنسا، محاولين إقصاء العناصر الوطنية غير الشيوعية عنها بكافة الوسائل، بما في ذلك كشف أسمائهم للسلطات الاستعمارية الفرنسية في فيتنام. وفي عام 1941، انضم الشيوعيون الفيتناميون إلى «جامعة الاستقلال الفيتنامي» أو «الفيت ـ منه» كما عرفت فيما بعد، وهي منظمة وطنية كان قد شجّعها الصينيون الوطنيون على محاربة القوات اليابانية في الهند الصينية. وما إن أطلّ عام 1945، حتى أصبحت «الفيت ـ منه» منظمة تخضع لسيطرة الشيوعيين الفعلية والكاملة، على الرغم من وجود أشخاص غير شيوعيين، كان الشيوعيون بحاجة إلى استغلال كفاءاتهم ومواهبهم استغلالاً تاماً.
واستعمل الشيوعيون «الفيت ـ منه»، وسيلة للاستيلاء على الحكم في هانوي في 2 سبتمبر عام 1945، معلنين تأسيس جمهورية فيتنام الديمقراطية، تحت راية هوتشي منه.
وفي 12 نوفمبر عام 1945، في محاولة لإقناع الناس بأن «الفيت ـ منه» منظمة غير شيوعية وخاصة بالنسبة لقوات الصين الوطنية التي كانت محتلة البلاد جنوب خط العرض 16، أعلن هوتشي منه رسمياً «حلّ حزب الهند الصينية الشيوعي». وأعلن في الوقت نفسه تأسيس «جمعية الدراسات الماركسية»، التي حلّت محله عملياً. غير أن وضع «الفيت ـ منه» لم يتغير عملياً على الإطلاق.
وفي عام 1946، خلال مفاوضات هوتشي منه مع القوات الفرنسية العائدة إلى فيتنام، حاول أن يُدخل إلى «الفيت ـ منه» مزيداً من العناصر الوطنية استعداداً للمعركة النهائية مع فرنسا.
وأعلن في مايو من السنة ذاتها عن تأسيس جبهة وطنية شعبية باسم «لين ـ فيت»، من أهدافها: «الاستقلال والديمقراطية»، تضم «الفيت ـ منه». غير أن اسم «الفيت ـ منه» التصق باسم هذه الجبهة، حتى نسي الناس اسمها الحقيقي مع الزمن.
وفي 19 ديسمبر عام 1946، اندلعت الحرب مع فرنسا. وكانت فيتنام الشمالية مسرحها الفعلي، وبقيت فيتنام الجنوبية مجالاً فقط لعمليات الإرهاب والتخريب. وأصبحت مسيرة هذه الحرب معروفة.
وفي عام 1951، عاد الحزب الشيوعي الفيتنامي رسمياً باسم «لاودونغ» ـ حزب العمال الفيتنامي. وظل الحزب يعرف بهذا الاسم حتى خروج فرنسا من فيتنام عام 1954. ووضع مؤتمر جنيف عام 1954 نهاية لمسرحية فرنسا ـ «الفيت ـ منه». وبدأ الفصل الثاني.
بدأ عهد ديم في فيتنام الجنوبية بعد مؤتمر جنيف، حيث كان يحاول كل الفرقاء المعنيين التقيّد بشروطه. وكان من بين هؤلاء الأطراف الـ «لاو دونغ» ـ حزب العمال الفيتنامي. إلاّ أنه كيَّف نفسه مع تكتيك جديد. وأعطيت الأوامر لكادرات الحزب الشيوعي القديم بالتحرك، في سبيل إخضاع الجنوب كله لسيطرة الشمال. وبدأت حرب التظاهرات والدعوات السياسية المبطنة وحرب الغوغاء في الشوارع.
وزاد سوء عهد ديم من نفوذ الشيوعيين، حيث بدأوا يستغلون الشؤون المحلية واجهة لدعوتهم بعيدين عن الدعوة للماركسية. وتضاعفت الخلايا وتضاعف النشاط، حتى بلغ ذروته في أعمال الإرهاب عام 1958، حيث بدأت الحرب الفعلية للمرة الثانية في فيتنام.
ومنذ ذلك التاريخ توسَّع القتال وتوسَّعت عمليات الإرهاب التي بدأ الفرع الجنوبي لحزب «لاودونغ» القيام بها. وأثبت عهد ديم ورجالاته أنه غير أهل للوقوف في وجهها أو الدفاع عن مؤسساته.
وبين عام 1958 وعام 1960، كانت يد هانوي، في الذي يحدث في الجنوب، يداً خفية، كما كان دورها دوراً بعيداً عن الأضواء. فقد بقيت العمليات في الجنوب، عمليات لا تحمل أختام الشمال الرسمية حتى عام 1960، حين بدأت هانوي تلمّح إلى تأييدها للفيتكونغ وتدعو رجال القبائل إلى الثورة، واعدة إياهم بدعم «حكومة هوتشي منه المحبوبة».
وفي ذلك العام بالذات، تحولت عمليات الفيتكونغ إلى عمليات مكشوفة. وألصق الحزب الشيوعي أختامه الرسمية بثورة الفيتكونغ على الجنوب في المؤتمر الوطني الثالث في سبتمبر عام 1960.
وانبثقت جبهة التحرير الوطني في يناير عام 1961 عن برنامج كامل لمحاربة «نظام ديم الفاشيستي في الجنوب»، مؤلف من عشر نقاط. وأصبح الفيتكونغ الجناح العسكري للجبهة، وبقيت الجبهة واجهة سياسية لتنفيذ ما تريده هانوي.
أحداث خي سانة
كان ذلك في سايغون، في فبراير عام 1966. كان شارع «تو ـ دو« (الحرية) «شانزليزيه» العاصمة الفيتنامية، الممتد من الكاتدرائية الكاثوليكية في أقصى طرف المدينة إلى النهر بالقرب من السفارة الأميركية القديمة في الطرف الآخر، يعجّ بالمارة عشية ذلك النهار رغم المطر الذي تساقط عليهم فجأة، فاحتموا بالجدران منتظرين انقشاع السحب الموسمية.
وكنت على سطح مقهى فندق «الكونتيننتال»، القريب بقناطره ومراوحه وسقفه العالي، وذي الطراز الاستعماري برفقة زميل صحافي أمضى في الشرق الأقصى أكثر من ربع قرن يراقب أحداثه، ويتعلم لغاته الصعبة، ويحفظ وجوهه المتشابهة. وكنت في أيامي الأولى في سايغون، أتلمس طريقي عبر الأشخاص والأسماء والأحداث، محاولاً أن أفهم ما يجري هناك.
وإذ ذاك كانت بداية الصراع السياسي العنيف الذي هدد حكومة الجنرالات بعد أكبر عاصفة سياسية قام بها البوذيون بزعامة الراهب تيتش تري كوانغ، ومزّقت فيتنام الجنوبية من هوي شمالاً حتى دالات جنوباً. وهذه الأزمة السياسية كانت الشغل الشاغل للناس، لا الحرب التي اعتادها الفيتناميون خلال ما يزيد على 25 عاماً مضت على نشوبها، حتى أصبح الحديث عنها كأنه لا يعنيهم.
لكن خي سانة عام 1968، بعد أكثر من أسبوعين مضيا على أكبر وأعنف هجوم قام به الفيتكونغ في كل أنحاء فيتنام الجنوبية منذ اشتعال الحرب الفيتنامية الثانية، لا بد لها من أن تكون أصبحت شيئاً آخر. فإن معظم القوات الأميركية المدافعة هي من «المارينز»، مشاة البحرية، مطوّقة «بجدار انتحاري» من قوات فيتنام الجنوبية.
وفي مؤخرتها فرقة من القوات الخاصة المعروفة «بالبيريات الخضر»، وهي معدة خصيصاً ومدربة على حرب العصابات. وكان الرئيس الراحل جون كينيدي قد أمر بتنظيمها عام 1961 إثر فشل غزو «خليج الخنازير» في كوبا. إنها خليط من تقاليد «الفرقة الأجنبية» في الجيش الفرنسي و«الغوركا» في الجيش البريطاني. إلاّ أن أغلب أفرادها من المتطوعين الأميركيين.
أما القوات الفيتنامية الجنوبية في خي سانة، فهي بقيادة ضباط من «البيريات الخضر». وتتألف من قبائل «المونتانيار» التي تعتبر من أكبر الأقليات في فيتنام. وأفراد هذه القبائل من الجبليين، يعيشون حياة بدائية في قرى صغيرة تعيل نفسها بنفسها من الأرض التي حولها، أشداء، سمر البشرة على عكس الفيتناميين البيض، شبيهون إلى حد ما بالهنود الحمر، عراة دائماً. ومن قبائل «المونتانيار» انطلقت شرارة العصيان الأولى ضد الفرنسيين منذ عودتهم إلى فيتنام بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
ومن «المونتانيار» شكل الجنرال جياب كشافة «الفيت ـ منه» لحربه ضد الفرنسيين؛ وذلك لخبرتهم في الجبال والغابات ومسالكها. ومن «المونتانيار» يشكل الفيتناميون الجنوبيون الآن أشد فرق جيشهم بأساً. وهم يحاربون بالرماح والأقواس السامة، ويعوزهم الانضباط في استعمال السلاح الحديث.
والسؤال العسكري المطروح في خي سانة: إلى متى يستطيعون الصمود في لعبة «الانتظار الطويل؟» إنهم مشكلة اجتماعية وسياسية قديمة في فيتنام قائمة منذ عشرات السنين. فعرقهم غير عرق الفيتناميين. لهم لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم، وهم وثنيون لم تصلهم البوذية ولا المسيحية.
يحتقرون الفيتناميين، والعكس بالعكس. وزادت فرنسا، خلال حكمها الطويل في الهند الصينية، من هذه المشكلة وغذتها بأسلوبها الاستعماري التقليدي، عنصرياً وإقليمياً، فحكمتهم حكماً خاصاً، على نحو يختلف عن حكمها لسائر البلاد، وشجعت دعوتهم إلى الاستقلال الذاتي عن فيتنام.
لكن «المونتانيار» كانوا أول من أطلق الشرارة الأولى في العصيان على فرنسا عام 1947. فانضموا، أو ضمهم هوتشي منه، إلى حركة «الفيت ـ منه»، وكانوا عمادها حتى هزيمة الفرنسيين. ومع انقسام فيتنام جنوبية وشمالية عام 1954، خرج «المونتانيار» على طاعة هوتشي منه لأسباب ثلاثة:
أولاً، عدم عقائديتهم وتماسكهم القبلي ولا فيتناميتهم.
ثانياً، محاولة جعلهم «شيوعيين»، قسراً، من الفيتناميين الشماليين، وتمردهم على المحاولة، باعتبار أن هزيمة العدو فرنسا، هي نهاية المطاف.
ثالثاً، لوقوع بلادهم ـ بلاد «المونتانيار» ـ في المرتفعات الوسطى من فيتنام الجنوبية، بالقرب من مدينة «بليكو« وحدود كمبوديا الغربية، وعودة أكثرهم إلى قراهم، إثر جلاء الفرنسيين وانتهاء الحرب الفيتنامية الأولى.
والحياة تبدأ في خي سانة في العاشرة صباحاً عندما ينحسر الضباب وتصل الطائرة الأولى من طراز «سي ـ 130» من دانانغ إلى مطار المعقل الصغير، فتهبط على المدرج القصير وتلقي بحمولتها من المؤن والعتاد وتحمل ركاباً جدداً. ومن غير أن تقف تدور وتقلع نحو دانانغ، على بعد نصف ساعة طيراناً، وغالباً ما تحط وعليها سلسلة ثقوب من الرصاص في أجنجتها أو مؤخرتها.
وقبل ساعة من الغروب تهبط الطائرة الأخرى، بعد أن تكون آخر طائرات الاستكشاف والهليكوبتر الحربية والإسعاف قد أقلعت. حتى إذا ما حلَّ الليل فلا تبقى أية طائرة، ولا يبقى في خي سانة، إلى غداة اليوم التالي، أي اتصال بالعالم سوى بالراديو. ثم إن خي سانة لا يتحرك فيها شيء، سوى تلك الطائرات وبضعة رجال، ولا تسمع منها إلاّ أصوات الشتائم ضد العدو والحرب والطقس. أما عبر المتاريس الأمامية، فصمت جاثم هو الموت الذي هو وحده الحدود الطبيعية.
والمقارنة بين خي سانة و«ديان بيان فو« لا بد منها، لا للتشابه الجغرافي بين المعقلين وحسب، بل للأهمية السياسية التي يعطيها المراقبون للانتصار النهائي فيها والذي سيكون ورقة رابحة على مائدة المفاوضات. فإن «ديان بيان فو« سقطت في أيدي «الفيت ـ منه» إثر حصار دام 56 يوماً، كلف 22 ألف ضحية من «الفيت ـ منه» و050 .13 من الفرنسيين.
وكان ذلك في 8 مايو 1954. ومهندس الانتصار هو الرجل نفسه الذي سيهندس انتصاراً مماثلاً في خي سانة بعد 14 سنة: الجنرال جياب. واستراتيجية جياب واضحة: هجوم مركز من الشمال عبر الأرض المجردة، مع هجوم من الجنوب والجنوب الشرقي عبر لاوس. أما التكتيك، فمن المتوقع أن يكون هو نفسه الذي اتبع في ديان بيان فو، مع تعديلات عسكرية تحسب فارق الزمن، كاستعمال الفيتناميين الشماليين الدبابات للمرة الأولى في الهجوم الذي وقع على الخطوط الدفاعية الأولى.
ولجياب مراكز للمدفعية الثقيلة في لاوس وفي الشمال، مغطاة بغابات كثيفة من الصعب كشفها من الجو لقصفها. وفي «ديان بيان فو« حفر جياب نفقاً ضخماً في جبل ليجعل منه مركزاً غير مرئي للمدفعية. أما مراكز المدفعية الأميركية الثقيلة فهي إلى الشرق من خي سانة في قواعد مشاة البحرية في «روكبيل» و«كامب كارول».
الخطوة التالية للقصف بالمدفعية، هي تحرك المشاة. فمن المفترض أن يبقى جيش جياب البالغ حوالي 40 ألف جندي وراء الهضاب، ليهجم في الليل أو تحت ستار الضباب الجاف الذي يستمر منتشراً على تلك المنطقة حتى الظهر في هذا الوقت من العام. في «ديان بيان فو«، لم يزد عدد الفرنسيين، في أي وقت، على 13 ألف جندي مقابل 45 ألفاً من «الفيت ـ منه» مع 55 ألف مقاتل مساند.
وللأميركيين اليوم حوالي 6 آلاف جندي مقابل 40 ألفاً لجياب، لكن مع 40 ألف أميركي في الاحتياط، على بعد 45 دقيقة طيران، في معسكر «فو باي». والطيران هو مفتاح خي سانة، كما أنه العامل الحاسم في أي انتصار، كما كان في «ديان بيان فو». وللطائرات الأميركية ثلاث مهمات.
الأولى: إمداد خي سانة بالمؤن والعتاد.
الثانية: قصف مدفعية جياب وإسكاتها.
الثالثة: قطع طرق التموين عن جنوده.
وكان بوسع القوة الجوية أن تنقذ «ديان بيان فو»، لكن الطيران الفرنسي فشل في إسكات 144 مدفعاً ثقيلاً ل«الفيت ـ منه»، كما فشل في قطع طرق التموين التي كانت عبارة عن عشرات الدراجات القادمة من الصين، استطاعت أن تحمل 8286 طناً من الأغذية إلى المقاتلين الفيتناميين. وفي خي سانة مدرج وحيد. وفي ما يشبهه في معركة «ديان بيان فو» استطاعت مدافع جياب أن تسقط 48 طائرة للفرنسيين وتدمر 14 على الأرض وتعطل 167.
الحلم والهاجس
لكن المقارنة التاريخية قد تقف هنا لتفصل بين حلم الجنرال جياب وهاجس الجنرال وستمورلاند. فالفارق بين وضع الفرنسيين أمس والأميركيين اليوم كبير. ذلك أن للأميركيين أسطولاً جوياً لم يحلم به أي جنرال فرنسي، ومواقعهم أكثر وأحسن تحصيناً، وأسلحتهم أحدث وأوفر وأفضل من السلاح الفرنسي الذي كان يستعمل إذ ذاك؛ كما أن الجندي الأميركي، مهما جاءت نتيجة الحرب، قد فرض احترامه على الفيتناميين بشكل لم يستطعه الجندي الفرنسي.
إنما التاريخ قد يعيد نفسه، لو أخطأت الحسابات الصغيرة، ووقفت الطبيعة والطقس؛ وهما عاملان أساسيان في الحرب يمكنهما أن يعرقلا خط التموين الجوي، إلى جانب الفيتناميين لا إلى جانب الأميركيين. وحتى لو تحقق الانتصار العسكري للشماليين في خي سانة فسوف تكون الهزيمة سياسية للأميركيين، كما أن هزيمة الشماليين عسكرياً لن تفيد الأميركيين ولن تكون انتصاراً سياسياً لهم.
وفي مصير خي سانة الذي يعتمد على الطيران، وجه من السخرية هو: عندما كانت «ديان بيان فو» تموت، فكّر الرئيس أيزنهاور بإرسال الطائرات الأميركية لمساعدة الفرنسيين. واجتمع لهذه الغاية في 3 إبريل عام 1954 إلى ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ. إلاّ أن واحداً منهم ظل يعارض التدخل الأميركي في فيتنام، ويدعو إلى عدم زج الطائرات الأميركية في معركة خاسرة مع الفرنسيين، وكان اسمه: ليندون ب. جونسون.
وسخرية الأقدار تمتد إلى بطون التاريخ، حيث جرى اللقاء الأميركي ـ الفيتنامي البكر. فإن أول أميركي وطيء الأرض الفيتنامية كان بحاراً تاجراً يدعى جون هوايت جاء من مدينة سالم في ولاية نيو إنغلند على متن الباخرة «فرانكلين» إلى سايغون عام 1819، ليفتح طريقاً تجارياً بين الولايات المتحدة وفيتنام. وزار هوايت دانانغ وهوي حيث قابل الأمبراطور.
ويقول في كتابه: «تاريخ رحلة إلى بحر الصين» الذي صدر في بوسطن عام 1830 عن انطباعاته في فيتنام، قول المأخوذ بسحرها وجمالها وتقاليدها. لكنه لم يكن ممثلاً رسمياً لحكومة الولايات المتحدة، بل كان بحاراً يسعى وراء طرق تجارية إلى الشرق الأقصى.
حتى وصلت عام 1932، في عهد الأمبراطور مينه ـ مانغ، بعثة دبلوماسية أميركية برئاسة إدموند روبرتس. وهذا كان بحاراً أيضاً، قام برحلات عدة إلى الشرق الأقصى، مكلفاً من الرئيس الأميركي أندرو جاكسون، بزيارة فيتنام وسيام (تايلاند) والجزيرة العربية بغية عقد معاهدات معها.
وحمل روبرتس رسائل من جاكسون موجهة إلى رؤساء هذه الدول، وأوراق اعتماد رسمية موقّعة من وزير الخارجية الأميركية ليفينغستون. ووصل إلى خليج «زوان ـ داي» في مقاطعة «خو ـ ين» في أواسط فيتنام، على متن الباخرة «بيكوك» التابعة للبحرية. وعند بلوغه «فوتاين» أرسل الامبراطور مينه ـ مانغ بعثة دبلوماسية لاستقباله قوامها ضابط وموظف في القصر.
وعلى ظهر «بيوك» أقيمت أول مأدبة دبلوماسية جمعت رسميين أميركيين وفيتناميين في بحر الصين قبل 133 سنة. وخلال المأدبة سأل الرسميون الفيتناميون الأميركيين عن سبب زيارتهم فيتنام ونياتهم تجاهها، فقال روبرتس: «إن بعثتنا سلمية، مهمتها إقامة علاقة تجارية بين بلدينا، ونياتنا تجاه فيتنام هي خير وسلام».
ورفض الإمبراطور مينه ـ مانغ قبول أوراق روبرتس لأن ليفينغستون نسي أن يذكر اسم الإمبراطور الكامل عليها. وغادرت البعثة الأميركية فيتنام خائبة.
ثم لم تلبث أن عادت ثانية برئاسة روبرتس أيضاً بعد أربع سنوات إبان صيف 1836 وعلى ظهر «بيكوك» نفسها ومعها رسالة رسمية كاملة من الحكومة الأميركية إلى الإمبراطور لإجراء مفاوضات تجارية وإقامة علاقات دبلوماسية. وبدأت المفاوضات بين الجانبين. وكان الجانب الفيتنامي برئاسة نائب رئيس الحكومة هوانغ ـ كيونه الذي رفع توصية إلى الإمبراطور يقول فيها:
»إن بلادهم (أي الولايات المتحدة، قد سميت بالفيتنامية: «نها ـ دي ـ لي») خبيثة وذكية. ويجب أن نرفض طلبهم إقامة علاقات. فإذا ألزمنا أنفسنا بعلاقات دون دراسة كافية، فسوف يصيبنا الكثير من المتاعب في المستقبل».
وقبل أن يبت الإمبراطور نهائياً في القبول أو الرفض، أمر وفداً من وزرائه بزيارة «بيكوك» وتقديم الاحترام للبعثة الأميركية. ولم تستقبل «بيكوك» الوفد الفيتنامي لأن روبرتس كان مريضاً.
ونسي المترجم أن يذكر للوفد أن عدم استقباله يعود إلى مرض رئيس البعثة والقبطان، فعاد الوفد مستاء وأبلغ الإمبراطور الذي علّق على الأمر بقوله: «يجب أن لا نشعر بالإهانة أو بالاستياء عندما نتعامل مع البرابرة الغرباء». وغادرت السفينة الأميركية الشواطئ الفيتنامية على عجل لبلوغ هونغ كونغ وعلاج روبرتس. لكن روبرتس مات في ماكاو في يونيو 1836، وانتهت البعثة الأميركية الثانية بفشل آخر.
سخرية القدر التاريخية
استمر القدر يمارس سخريته التاريخية. وكان أن جاء أول فيتنامي إلى الولايات المتحدة، ساعياً وراء مساعدة أميركية لبلاده ضد فرنسا. وهو المبعوث بوي ـ منين، علامة شهير وخريج جامعة هوي، ومن المقربين للإمبراطور تو ـ دوك (1868)، كما أنه سليل عائلة شهيرة بالعلم، من قرية ترينه ـ فو في مقاطعة ثاي ـ بينه في فيتنام الشمالية.
وفي عام 1873 كانت فيتنام تقاوم نفوذ فرنسا الزاحف إليها من بقية أجزاء الهند الصينية. فكلف الإمبراطور بوي ـ منين الذهاب إلى الولايات المتحدة وطلب عونها حفاظاً على استقلال فيتنام.
وفي شتاء عام 1873 أبحر المبعوث إلى سان فرانسيسكو عبر هونغ كونغ حيث تعرف على القنصل الأميركي، وبلغ واشنطن بعد رحلة مضنية. وفي العاصمة الأميركية انتظر طويلاً حتى استطاع أن يقابل الرئيس الأميركي يوليسيس غرانت، شارحاً قضية بلاده.
فوعده غرانت بادئ الأمر بمساعدة عاجلة مبدياً عطف أميركا على فيتنام، شرط أن يقدم له بوي ـ منين أوراق اعتماد وطلباً رسمياً من الأمبراطور ليعرضه على الكونغرس. وقبل أن يعود بوي ـ منين إلى بلاده لأجل الأوراق، غيّر غرانت رأيه وسحب «اعترافه وعطفه على مطالب فيتنام ضد فرنسا». وفي يوكوهوما، بلدة غرانت، كتب بوي ـ منين قصيدة بالصينية يودع فيها الولايات المتحدة، ودخلت القصيدة التراث الفيتنامي.
وبعد مضيّ أكثر من قرن وربع قرن، تقف الولايات المتحدة وجهاً لوجه أمام عدو فيتنامي من جهة، ومع حليف فيتنامي من جهة. والعدو الفيتنامي هو، عسكرياً، الفيتكونغ في الجنوب والقوات النظامية لفيتنام الشمالية، وسياسياً جبهة التحرير الوطني، الذراع السياسية للفيتكونغ في الجنوب، والنظام الشيوعي الذي يرأسه هوتشي منه في الشمال.
وبعد الهجوم الصاعق الذي شنه الفيتكونغ طوال ثلاثة أسابيع، في أكثر المدن «أماناً» في فيتنام الجنوبية، من سايغون إلى دالات حتى هوي، ناسفاً البديهيات التي كانت تقوم عليها الاستراتيجية الأميركية، تصلب موقف الفيتكونغ عند المواقف التالية:
* أولاً، لا حلّ وسطاً للحرب الفيتنامية. فالنضال «حتى النهاية» ـ الانتصار أو الموت.
* ثانياً، الشرط الوحيد لإنهاء الحرب هو الهزيمة الحتمية للولايات المتحدة وحليفتها فيتنام الجنوبية.
* ثالثاً، مشاكل فيتنام الجنوبية تُحَل في محادثات بين الأميركيين وجبهة التحرير، وليس بين واشنطن وهانوي. وكما قال أحد زعماء الفيتكونغ: «في الوقت الذي يوقف فيه الأميركيون قصف فيتنام الشمالية يستطيعون التحدث مع هانوي. أما إذا أرادوا البحث في شؤون فيتنام الجنوبية فعليهم أن يتحدثوا مع جبهة التحرير».
* رابعاً، إن وجود قوات فيتنامية شمالية في الجنوب هو واجب ملقى على عاتق الشمال لمساعدة إخوانه في الجنوب. ولا انسحاب قبل التحرير الشامل. إن الواجب العادي لـ 31 مليون فيتنامي يؤلفون أمة واحدة أن يحاربوا معاً. فالأميركيون يعتقدون أن القوات الشمالية قوات غازية، وينسون أن فيتنام أمة وشعب واحد.
*خامساً، شرط المحادثات الوحيد بين الفيتكونغ والأميركيين هو الاعتراف بجبهة التحرير الممثلة الوحيدة لشعب فيتنام الجنوبية، أي التخلي نهائياً عن الحكومة الحالية ورجالاتها في سايغون.
وتبقى الاستراتيجية الأميركية في فيتنام موضع «شك كبير»، على حد تعبير دفاعي بريطاني؛ وخصوصاً عقب تبرير هجوم الفيتكونغ الأخير على المدن الجنوبية، بأنه عملية «يائسة». فما زال الأميركيون يصرون على تعليم العدو «ما يجب» أن يفعله، لا «ما يريد» أن يقوم به.
غير أن هذا «الشك الكبير» لا بد له من أن يولّد نوعين من ردود الفعل. الأول يتعلق بالفيتناميين، والثاني بالأميركيين. فبعض هؤلاء في سايغون من الذين يحافظون على إدراكهم الصحيح، يأملون أن يكون هجوم الفيتكونغ الأخير قد أسفر عن نتيجة إيجابية هي أن على الفيتناميين أن يختاروا الآن وفوراً إلى أي جانب يريدون أن ينضموا وينتموا.
إذ إن الأيام الأخيرة أظهرت أن الأميركيين والشيوعيين هما الطرفان اللذان يحاربان باقتناع والتزام دفاعاً عن مبدأين مختلفين لشعب تعب من الحروب على مدى 21 سنة كاملة منها، فلجأ إلى عدم الاكتراث ليحمي نفسه من ويلاتها.
لذلك كان قوام الدولة في فيتنام الجنوبية مهلهلاً منذ مؤتمر جنيف عام 1954، وعبر عهود دييم وأشقائه ومن بعدهم العسكر وفيالقهم. وإذا لم توقظ هذه الصدمة الفيتناميين الجنوبيين، وتشعرهم بأهمية الفترة المصيرية التي يمرون بها، فلا شيء في الدنيا ينقذهم.
لكن الإدراك الثاني يقع على عاتق الأميركيين، وهو أن الهدف المباشر للهجوم الشيوعي الكبير الذي وقع عليهم في فيتنام، من السفارة الأميركية في سايغون جنوباً حتى الجامعة الأمبراطورية في هوي شمالاً، لم يكن الاستيلاء على المدن، أو احتلال السفارة الأميركية. ولم يكن إثارة معارك جانبية، إذ إن هذه المعارك نشبت منذ أشهر في «لوك نيه» و«داك تو« و«لانغ في» على مقربة من «خي سانة».
بل لم يكن معركة خي سانة نفسها. إن الهدف الأساسي من الهجوم الصاعق ذاك هو تدمير الجهد الحربي للأميركيين والفيتناميين الجنوبيين، ووقف عمليات «التمشيط والإبادة»، وبالتالي عمليات «السيطرة السلمية» على المناطق الجنوبية التي تمَّ «تطهيرها» من الفيتكونغ، ثم جعل الحكومة الجنوبية تنهار.
ونجح الفيتكونغ في إلهاء الأميركيين وحلفائهم عن إمكان قيامهم بكل ذلك، بواسطة تضخيمهم إمكان غزو تقليدي للجنوب عبر المنطقة المجردة في الشمال أو حدود لاوس وكمبوديا، وبالتالي تركيز القوى الأميركية على هذه المناطق تركيزاً يمتنع معه وجودها على نحو كافٍ في المدن.
والجنرال جياب يعرف، حتى لو تجاهل القادة الأميركيون، أن هذه الحرب يجب أن يكون ربحها في عقول الفيتناميين الجنوبيين وقلوبهم، أكثر من ربحها في الغابات الكثيفة والجبال النائية.
9 من الزوار الآن
917334 مشتركو المجلة شكرا