الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > مفهوم القومية
عند الحديث عن القوميـة أو بالأحرى لفض كلمة قومي أو قوميـة ، أو عند وصف شخص ما بأنه ذو توجه قومي ، أو القول بان بلد ما قامت بعمل ما من منطلق أو دافع قومي يكون وقع الكلمة على أسماعنا مقبول جدا ومفهوم بشكل جيد ولا يحتاج إلى أي توضيح ، ولكن لو طلب منا إعطاء تعريف محدد لهذا المفهوم فسنجد أنفسنا وقد دخلنا متاهات منهجية معقدة ، وبالتالي عدم القدرة على الخروج بمفهوم محدد وشامل يغطي فكرة ومعنى هذه الكلمة ، وقد يكون من المستحيل التوصل إلى تعريف علمي قصير دقيق يتألف من جملة أو جملتين ، ويتضمن كل ما تنطوي عليه الفكرة القومية ويستثني ويستبعد كل ما هو خارج عنها .
ويعود ذلك -باعتقادنا- إلى أن قومية كل أمة من الأمم قد عبرت عن نفسها بشكل يخالف الآخرين كما أنها تغيرت وتعدلت بمرور الزمن ، فالقوميات الأمريكية لا تشابه القوميات الأوربية والآسيوية مشابهة تامة لفقدانها الأصول التاريخية العميقة ولاختلاف ظروفها المادية والسياسة والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية، بالإضافة إلى العوامل التاريخية المتباينة التي دخلت في تكوين كل أمة وفكرتها القومية ، فتأخر الوحدتين الألمانية والإيطالية من حيث الزمن واختلاف تاريخهما ، جعل قوميتهما تختلفان نوعا ما عن القوميتين البريطانية والفرنسية ،اللتين سبقتاهما ، ونرى أن الشعور القومي الذي ظهر في فرنسا الثورية بين 1789 و1790 والذي تأثر بتفكير القرن الثامن عشر كان أشد إنسانية من شعورها القومي في سنة الإرهاب (1793 ) كما أن قومية ألمانيا في عهد بسمارك (1871 ) تعتبر معتدلة إذا ما قورنت بالقومية في عهد رايخ هتلر (1939 ) .
وقد حاول الباحثون في جميع أنحاء العالم إيجاد مفهوم محدد للقومية يساعد ولو بدرجات بسيطة بتقديم تعريف مقبول ولو منهجياً وذلك لأغراض الدراسات السياسية ولكنهم في النهاية اضطروا من اجل النهوض بدراستهم السياسة أو تأثراً بفلسفتهم السياسية إلى وضع تعاريف خاصة بهم ،ولما كانت الأغلبية الساحقة من الباحثين في القومية هم أيضا من دعاة قومية معينة سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فإن كلا منهم تأثر بطبيعة الحال بالقضية التي يدعو إليها وجاءت مواطن التركيز في تعريفه بما يتفق والظروف الموضوعية المحيطة بهذه القضية ، وبذلك لم يتحقق الوضوح اللازم إلا نادرا حيث نشأت عقبات كثيرة عرقلت سير عملية البحث العلمي .
ومن التعريفات التي حاولت تحديد مفهوم القومية التعريف الذي اتفق عليه كل من رينان Renan و تريتشكه Treitschke وباري Barres وزنكويل Zanguill الذي ينظر إلى الامة على اعتبار أنها كائن عضوي هيجلي ، أي عبارة عن روح أو مبدأ روحي ينبعث من تاريخ الإنسان وطبيعته
.
وقد يدل هذا التعريف على رمزية خالصة مرفوضة موضوعياً إلا أن الأهمية التاريخية المعاصرة لهذا الرمز لا يمكن إغفالها، فالقوميون في كل مكان يعتبرون الأمة كائناً سامياً يعلو على الطبيعة ،أو شيئا يسمو على الأفراد والمؤسسات التي يتألف منها .
أما هكسلي Huxle وهدون Haddon فيعرفان الأمة بأنها ( مجتمع ألف بينه اعتقاد مشترك بالنسبة لأصوله ، ومشاعر عدائية مشتركة بالنسبة لجيرانه ).
ويعرف الإيطالي مانشيني Mancini القومية بأنها ( مجتمع طبيعي من البشر يرتبط بعضه ببعض بوحدة الأرض والأصل ، والعادات واللغة من جراء الاشتراك في الحياة وفي
الشعور الاجتماعي : ويعتبر هذا التعريف من أهم وأشهر التعريفات التي قدمت للقومية باعتباره حدد السمات والعناصر الأساسية للقومية .
أما بالنسبة للمفكرين العرب فقد حاول العديد منهم وخصوصا دعاة القومية العربية وضع مفهوم محدد للقومية يتناسب مع الحالة العربية ومعطياتها ، ومن هذه التعريفات تعريف الدكتور جورج حنا حيث يعرف القومية بأنها ( عقد اجتماعي في شعب له لغة مشتركة ، وجغرافية مشتركة ، وتاريخ مشترك ، ومصير مشترك ، ومصلحة اقتصادية مادية مشتركة ، وثقافة نفسية مشتركة ، وهذا العقد يجب أن يكون فيه كل هذه المقومات مجتمعة ) .
أما الدكتور منيف الرزاز فهو يعرف القومية بأنها ( الرابطة التي تربط أبناء الأمة الواحدة في الوطن الواحد ) .
ويلاحظ من خلال التنوع في هذه التعريفات ، الإشكالية الكبيرة في وضع مفهوم محدد يمكن اعتماده كأساس للانطلاق في دراسة قومية ما ، حيث يظهر المنحى الذاتي أو الخصوصية القومية في كل ما ذكر من تعاريف ، ويظهر ذلك وبشكل أوضح إذا ما تناولنا ما يسمى بالمفهومين الألماني والفرنسي في تعريف القومية حيث يركز المفهوم الألماني على مسـألة اللغة وأهميتها في بناء القومية ، بينما ترى القومية الفرنسية أن مشيئة العيش المشترك هي محور القومية ومعيارها، ويظهر من هذين المفهومين الهدف الذي يسعى إليه دعاة كل قومية من هاتين القوميتين ، حيث تسعى القومية الألمانية إلى ضم جميع المتكلمين باللغة الألمانية في أوروبا ، ومنهم سكان الالزاس إلى الدولة الألمانية ، بينما نرى في الجانب الآخر أن القومية الفرنسية وهي التي سبقت القومية الألمانية بقرن من الزمان قد أتمت وحدتها السياسية بالاستيلاء على بعض البلاد التي لا يتكلم أهلها الفرنسية ومنها طبعا منطقة الألزاس
.
وخلاصة الأمر أن القومية تظهر بالشكل الذي يريده القوميين لها ، وقد لا تكون فكرة خالصة ثابتة ، وإنما تجمعات متباينة من العقائد والظروف ، لها أساليبها الخاصة في الاحتفاظ ببقائها وفي التحول لا إلى مجرد حقيقة ، بل إلى أمر واقعي كذلك ، والحقيقة أن الخيال والواقع والصواب والخطأ عناصر تختلط مع بعضها اختلاطاً شديداً في القومية الحديثة ، ولذلك فإن الأسلوب الوحيد لإدراك فحوى القومية هو تحديد العقائد ، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها ، والظروف المتوفرة فيها ، وكما يقول هيرتز في تعريفه للقومية :
أن القومية فكرة ترى وجود شخصية جماعية للدولة تتباين من حيث إيحائها والشعور بذاتها وكثافتها وضخامتها بالنسبة للدولة ، فقد تمثل دولة متحدة منقرضة أو دولة متحدة قائمة ، وقد تتجه نحو إقامة دولة متحدة في المستقبل وهي تعتمد في هذا كله على الخصائص الطبيعية الأصيلة التي تكون شخصيتها وتبرر ادعائها ) .
نشوء الفكرة القومية
لم يختلف الباحثون في تعريف القومية فحسب بل اشتمل كذلك تاريخ بدايتها الأولى وتفسير نشوء الأمم فهناك في هذا الصدد مجموعتان من الآراء :
الأولى يعتبر أصحابها أن الشعور القومي ظاهرة طبيعية ملازمة للإنسان منذ أن وجد المجتمع البشري وأن بعض سمات القومية قديمة قدم الإنسانية نفسها ، فيذهب كون مثلاً إلى أن التاريخ على مر العصور شهد بذور الشعور القومي في التمسك العميق من جانب الناس بأرضهم وتقاليدهم والسلطة القائمة في إقليمهم ، ويذهب آرنست باركر في إلى القول بوجود أمم في أوروبا قبل بداية التاريخ المكتوب ( ).
أما أصحاب المجموعة الثانية من الآراء فيذهبون إلى أن القومية ظاهرة حديثة نسبياً لم تعرفها المجتمعات البشرية القديمة فيقول برنارد رسل مثلاً أن معظم الناس في العصر الحديث يقبلون القومية على أنها طبيعية ولا يدركون إلى أي حد هي جديدة ، ولعلها بدأت أول ما بدأت بجان دارك (في حرب المائة عام ) ثم تلاشت في فترة الحروب الدينية وولدت من جديد في عهد الثورة الفرنسية ، وينكر هذا الفريق أن الرومان مثلا كانوا يعرفون القومية أو أن الإغريق كانوا أمة واحدة ، ويختلف أصحاب هذا الرأي في ما بينهم حول البدايات الحقيقية للقومية في أوروبا ، فمنهم من يرى أن المشاعر التي ظهرت في أواخر القرون الوسطى في الممالك التي توحدت في أوروبا أو كانت في طريقها إلى الوحدة داخل حدود إستراتيجية معينة تضم أقواماً تسود بينهم لغة رئيسية واحدة هي البداية الحقيقية لظاهرة القومية .
ومنهم من يذهب إلى أن القومية بدأت تظهر قبل ذلك ، فيذهب أوجست تيري إلى القول أن الروح القومية الفرنسية كانت قد استيقظت فعلا في القرن التاسع الميلادي ، ويعزو لونجتون بداية اليقظة إلى أوائل القرن الثاني عشر ويؤكد رانكه أنها بدأت بعد ذلك بقرن كامل ،أي في القرن الثالث عشر . بينما يؤكد جيزو وميشليه وكثيرون غيرهم أهمية حرب المائة عام في القرنين الربع عشر والخامس عشر .
وربما نجد انه من الصعوبة القول بأن أحد الآراء السابقة أقرب إلى الموضوعية من الآخر فكلاهما يحددان بداية القومية وفق مفهوم مختلف عن الآخر لفكرة القومية نفسها ، فإذا ما قلنا باستحالة قيام الدولة الفرعونية أو البابلية أو الكنعانية على أسس قومية فكيف نفسر أذن الروح الجماعية التي كانت تقود هذه الأقوام للدفاع عن أرضها وسيادتها ضد الغزاة من الأقوام الأخرى وكيف نفسر الصراعات القديمة بين الإمبراطوريات المختلفة وما الدافع الذي كان يقودها في تلك الصراعات ، ألا أننا وبنفس الوقت لا نستطيع القول أن تلك الأقوام كانت تمتلك رؤيا سياسية متكاملة حول مفهوم القومية .
ومن هنا نرى أن فكرة القومية هي فكرة قديمة حديثة إذ أن الحضارات القديمة قد امتلكت شعوريا قومياً - ربما بمفهوم تلك الحقبة الزمنية - وهذا المفهوم اتخذ صور متعددة مثل الولاء للحاكم ، أو التعلق بالأرض ، أو الشعور الجماعي بالسمو على الأقوام الأخرى ، أو الاعتقاد بديانة واحدة ، أو مذهب معين ضمن هذه الديانة .
ويمكن اعتبار ما سبق هو بداية تبلور مفهوم للقومية أو بعبارة أدق (قومية مبتدئة)،
وبما أن التطور التاريخي للعالم قد شمل كل مظاهر الحياة فليس من المغالاة الفكرية أن نقول أن مفهوم القومية قد واكب التطور التاريخي حتى وصل إلى صورته الحالية ، حيث أننا نستطيع القول أن كل ما أضافه مفكري القومية الحديثة هو بلورة مفاهيم موجودة ومطبقة فعلا وتحويلها إلى أفكار نظرية مطالبين بتطبيقها على الواقع ،فباعتقادنا الشخصي جداً فأنهم لم يأتوا بجديد .
فلو تناولنا أي دراسة قومية حديثة لوجدنا أنها تدعو إلى فكرة قديمة كمثال يجب الإقتداء به أو محاكاة فكرة لأقوام أخرى ،وعلى سبيل المثال ،كان ميكافيللي يستوحي أفكاره في الدعوة إلى الوحدة الإيطالية من التاريخ العظيم للإمبراطورية الرومانية وأمجاد روما ، بينما استوحى الفرنسيون أفكارهم القومية من مملكة الغال القديمة وأمجاد شارل مارتل ، واستوحى الألمان و الإنجليز أفكارهم من ممالك القبائل الجرمانية القديمة ،وركز القوميون العرب في أفكارهم على التاريخ المجيد للعنصر للعربي ابتداء بالوحدة العربية الأولى في معركة ذي قار، واستكمالاً في بناء الإمبراطورية العربية العظيمة من الصين شرقاً حتى فرنسا غرباً ، بينما ركزت الحركة الصهيونية الحديثة في دعوتها إلى وطن قومي،على أمجاد دولة اليهود القديمة وأمجاد الملوك داود وسليمان ،وهناك أيضا الدولة الإيرانية التي قامت على الأمجاد الفارسية القديمة وحاولت أحياء صراعها القديم مع الإمبراطورية العربية في حربها مع العراق ،وأيضا الدولة التركية الحديثة التي تستمد بعدها القومي من أمجاد آل عثمان ومحاولتها إعادة استعمار الدول العربية ، ونرى أيضا أن بعض القوميات الحديثة التشكيل فعلا ،قد اضطرت إلى محاكاة القوميات الأخرى كنموذج لوحدتها القومية وذلك لافتقادها البعد القومي التاريخي وأكبر مثال على ذلك القومية الأمريكية الحديثة التي تبنت الأفكار القومية للثورة الفرنسية كأساس لانطلاقها .
وهذه الأمور يمكن اعتبارها مدخلاً للفصل الثاني من هذا البحث والذي يتناول أثر البعد القومي في تشكيل العلاقات الدولية عبر التاريخ .
وبناءاً على ما سبق لا يستطيع أحد إنكار قِدم مفهوم القومية بغض النظر عن مفهومه في تلك الحقب من الزمن ، ولكن تبلور بعض المفاهيم الحديثة كمبدأ السيادة والكيان السياسي ومفهوم المواطنة ، ومفهوم سيادة الشعب ،قد ساهم بفرض مفاهيم حديثة للقومية أي بمعنى القيام بعملية تحديث لهذا المفهوم وللسلوكيات الدولية الناتجة عنه لتوائم متطلبات التقسيمات الدولية الحديثة ،حيث ظهرت فكرة الدولة التي تعتمد أساسا على وجود مجموعة من الأفراد يعيشون على أرض معينة وتحت سلطة معينة تحكمها مجموعة من المبادئ كالحرية والديمقراطية والمؤسسات السياسية وسيادة القانون والمشاركة الشعبية ، وبذلك تحولت معظم القوميات القديمة إلى دول قومية تسعى إلى تنظيم علاقاتها مع بعضها البعض ضمن إطار من التفاعل الدولي يؤدي بالتالي لخدمة الأهداف القومية لهذه الدول .
ومهما كان الاختلاف في تحديد قدم أو حداثة مفهوم القومية فإننا في هذا البحث لسنا معنيين بتحديد تاريخ محدد لبدء هذا المفهوم بقدر ما نحن معنيون بتحديد دور هذا المفهوم وأثره في تطور العلاقات الدولية وهذا الأمر لا يحتاج إلا لملاحظة نوع السلوك الدولي في أي زمان والحكم عليه إن كان يجوز وصفه بأنه نابع من بعد قومي أم لا وذلك باعتقادنا يساعد بالضرورة في تحديد البعد الزمني لهذا المفهوم .
6 من الزوار الآن
917331 مشتركو المجلة شكرا