الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الفكر السياسي > الدولة والثورة في الفكر الماركسي
في الوقت الحاضر تكتسب مسألة الدولة أهمية خاصة سواء من الناحية النظرية أم من الناحية العملية السياسية. فالحرب الإمبريالية قد عجلت وشددت لأقصى حد سير تحول الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية. والظلم الفظيع الذي تقاسيه جماهير الشغيلة من قبل الدولة التي تلتحم أوثق فأوثق باتحادات الرأسماليين ذات الحول والطول يغدو أفظع فأفظع. والبلدان المتقدمة –ونقصد «مؤخراتـ»ها- تتحول بالنسبة للعمال إلى سجون عسكرية للأشغال الشاقة.
إن الأهوال والنكبات المنقطعة النظير، الناجمة عن الحرب التي تستطيل، تجعل الجماهير في حالة لا تصدق وتشدد سخطها. إن الثورة البروليتارية العالمية تتصاعد بصورة بينة. ومسألة موقفها من الدولة تكتسب أهمية عملية.
إن عناصر الانتهازية التي تراكمت في غضون عشرات السنين من التطور السلمي نسبيا أنشأت تيار الاشتراكية-الشوفينية السائدة في الأحزاب الاشتراكية الرسمية في العالم بأسره. وهذا التيار (بليخانوف، بوتروسوف، بريشكوفسكايا، روبانوفيتش، ثم المقنعون بقناع شفاف، السادة تسيريتيلي، تشيرنوف وشركاهما في روسيا؛ شيدمان، ليغين، دافيد وأضرابهم في ألمانيا؛ رينودل، غيد، فاندرفيلده في فرنسا وبلجيكا؛ هايندمان والفابيون في إنكلترا، وهلم جراً وهلم جراً)، وهو الاشتراكية قولاً والشوفينية فعلاً، يتميز بكون «زعماء الاشتراكية» يتكيفون بذلة وحقارة ليس فقط وفق مصالح برجوازيتـ«هم» الوطنية، بل، وعلى وجه الدقة، وفق مصالح دولتـ«هم»، إذ أن أكثرية ما يدعى بالدول الكبرى تستثمر وتستعبد منذ زمن طويل جملة من الشعوب الصغيرة والضعيفة. وما الحرب الإمبريالية سوى حرب من أجل اقتسام وإعادة اقتسام هذا النوع من الغنيمة. والنضال من أجل تحرير جماهير الشغيلة من نفوذ البرجوازية بوجه عام والبرجوازية الإمبريالية بوجه خاص يستحيل بدون النضال ضد الأوهام الانتهازية بصدد «الدولة».
في البدء سننظر في تعاليم ماركس وإنجلس بشأن الدولة متناولين بإسهاب خاص ما نسي أو تعرض للتشويه الانتهازي من نواحي هذه التعاليم. وبعد ذلك سندرس بصورة خاصة الممثل الرئيسي لهذه التشويهات، كارل كاوتسكي، أشهر زعماء الأممية الثانية (سنوات 1889-1914) التي أفلست إفلاسا مشينا للغاية أثناء الحرب الراهنة. وسنستخلص في النهاية الاستنتاجات الرئيسية من خبرة الثورتين الروسيتين، ثورة سنة 1905 وثورة 1917 بوجه خاص. ويبدو أن هذه الأخيرة تنهي في الوقت الحاضر (أول غشت سنة1917) المرحلة الأولى من تطورها، ولكن هذه الثورة بأكملها لا يمكن فهمها بوجه عام إلاّ باعتبارها حلقة من حلقات سلسلة الثورات البروليتارية الاشتراكية التي تثيرها الحرب الإمبريالية. وهكذا، فإن مسألة موقف الثورة البروليتارية الاشتراكية من الدولة لا تكتسب أهمية سياسية عملية وحسب، بل تغدو كذلك مسألة ملحة من مسائل الساعة، باعتبارها مسألة تبيان ما ينبغي للجماهير أن تفعله في المستقبل القريب للخلاص من نير رأس المال. المؤلف
سنة 1917
تصدر هذه الطبعة، الثانية، دون أي تغيير تقريبا، إذ لم يضف عليها غير المقطع الثالث في الفصل الثاني.
المؤلف
موسكو.
17 ديسمبر 1918 .
المجتمع الطبقي والدولة
1-الدولة هي نتاج استعصاء التناقضات الطبقية
يحدث الآن لتعاليم ماركس ما حدث أكثر من مرة في التاريخ لتعاليم المفكرين الثوريين وزعماء الطبقات المظلومة في نضالها من أجل التحرر. ففي حياة الثوريين العظام كانت الطبقات الظالمة تجزيهم بالملاحقات الدائمة وتتلقى تعاليمهم بغيظ وحشي أبعد وحشية وحقد جنوني أبعد الجنون وبحملات من الكذب والافتراء وقحة أبعد القحة. وبعد وفاتهم تقوم محاولات لجعلهم أيقونات لا يرجى منها نفع أو ضر، لضمهم، إن أمكن القول، إلى قائمة القديسين، ولإحاطة أسمائهم بهالة ما من التبجيل بقصد «تعزية» الطبقات المظلومة وتخبيلها، مبتذلة التعاليم الثورية باجتثاث مضمونها وثلم نصلها الثوري. وفي أمر «تشذيب» الماركسية على هذا النحو تلتقي الآن البرجوازية والانتهازيون داخل الحركة العمالية. ينسون، يستبعدون، يشوهون الجانب الثوري من التعاليم، روحها الثورية. ويضعون في المقام الأول ويطنبون في امتداح ما هو مقبول للبرجوازية أو يبدو لها مقبولاً. فجميع الاشتراكيين-الشوفينيين هم الآن «ماركسيون»، بدون مزاح! والعلماء البرجوازيون الألمان الذين كانوا حتى الأمس متخصصين في استئصال الماركسية قد أخذوا يتحدثون أكثر فأكثر عن ماركس «ألماني وطني» ربّى على ما يزعمون اتحادات عمال منظمة خير تنظيم لشن حرب الغزو!
حيال هذا الوضع، حيال انتشار تشويه الماركسية انتشارا منقطع النظير، يتلخص واجبنا قبل كل شيء في بعث تعاليم ماركس الحقيقية بشأن الدولة. وهذا يقتضي إيراد جملة من فقرات طويلة تثقل البحث بطبيعة الحال دون أن تهمد البتة لجعله أقرب إلى الفهم. ولكن الاستغناء عنها أمر ليس في الإمكان بحال. ينبغي حتما أن نقيس في مؤلفات ماركس وانجلس وبأتم شكل ممكن جميع الفقرات المتعلقة بمسألة الدولة أو، على الأقل، جميع الفقرات الفاصلة، لكيما يتمكن القارئ من أن يكوّن لنفسه بصورة مستقلة فكرة عن مجمل نظريات مؤسسي الاشتراكية العلمية وعن تطور هذه النظريات، وكذلك لكيما نبرهن استنادا إلى الوثائق ونضج بجلاء تشويه هذه النظرات من قبل «الكاوتسكية» السائدة اليوم.
نبدأ من أوسع مؤلفات فريدريك إنجلس انتشارا: «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة»، هذا المؤلف الذي صدرت طبعته السادسة في سنة 1894 في شتوتغارت. ويتأتى علينا أن نترجم المقتبسات عن الأصل الألماني لأن التراجم الروسية، مع كثرتها، هي، في الأغلب، إمّا غير كاملة وإما مترجمة بصورة غير مرضية أبداً.
يقول إنجلس ملخصا نتائج تحليله التاريخي:
«الدولة ليست بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه. والدولة ليست كذلك «واقع الفكرة الأخلاقية»، «صورة وواقع العقل» كما يدعي هيغل. الدولة هي نتاج المجتمع عند درجة معينة من تطوره؛ الدولة هي إفصاح عن واقع أن هذا المجتمع قد تورط في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وأنه قد انقسم إلى متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها. ولكيلا تقوم هذه المتضادات، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة، بالتهام بعضها بعضاً وكذلك المجتمعات في نضال عقيم، لهذا اقتضى الأمر قوة تقف في الظاهر فوق المجتمع، قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود «النظام». إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها، مع ذلك، فوقه وتنفصل عنه أكثر هي الدولة» (ص 177-178 من الطبعة الألمانية السادسة).
في هذه الفقرة قد أعرب بأتم الوضوح عن الفكرة الأساسية التي تنطلق منها الماركسية في مسألة دور الدولة التاريخي وشأنها. فالدولة هي نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية. فإن الدولة تنشأ حيث ومتى وبقدر ما لا يمكن، موضوعيا، التوفيق بين التناقضات الطبقية. وبالعكس، يبرهن وجود الدولة أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها.
في هذه النقطة الأساسية والهامة جدا على وجه التدقيق يبدأ تشويه الماركسية الذي يتبع اتجاهين رئيسيين.
من جهة، الإيديولوجيون البرجوازيون ولاسيما الإيديولوجيون البرجوازيون الصغار، -المضطرون تحت ضغط الوقائع التاريخية القاطعة، إلى الاعتراف بأن الدولة لا توجد إلاّ حيث توجد التناقضات الطبقية، ويوجد النضال الطبقي، -«يصوّبون» ماركس بشكل يبدو منه أن الدولة هي هيئة للتوفيق بين الطبقات. برأي ماركس، لا يمكن للدولة أن تنشأ وأن تبقى إذا كان التوفيق بين الطبقات أمرا ممكنا. وبرأي الأساتذة والكتاب السياسيين من صغار البرجوازيين والتافهين الضيقي الأفق –الذين لا يتركون سانحة دون أن يستندوا إلى ماركس باستلطاف! –الدولة توفق بالضبط بين الطبقات. برأي ماركس، الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية، هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، هي تكوين «نظام» يمسح هذا الظلم بمسحة القانون ويوطده، ملطفا اصطدام الطبقات. وبرأي الساسة صغار البرجوازيين، النظام هو بالضبط التوفيق بين الطبقات، لا ظلم طبقة لطبقة أخرى؛ وتلطيف الاصطدام يعني التوفيق، لا حرمان الطبقات المظلومة من وسائل وطرق معينة للنضال من أجل إسقاط الظالمين.
وهكذا، عندما طرحت في ثورة سنة 1917 مسألة شأن الدولة ودورها بكل خطورتها، عندما طرحت عمليا باعتبارها مسألة عمل مباشر وفي النطاق الجماهيري، انزلق جميع الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، جميعهم دفعة واحدة ودون تحفظ، نحو النظرية البرجوازية الصغيرة القائلة أن «الدولة» «توفق» بين الطبقات. القرارات والمقالات التي وضعها ساسة هذين الحزبين بعدد لا يحصى، تتخللها من ألفها إلى يائها هذه النظرية التافهة البرجوازية الصغيرة، نظرية «التوفيق». أمّا أن الدولة هيئة لسيادة طبقة معينة لا يمكن التوفيق بينهما وبين نقيضها (الطبقة المضادة لها)، فهذا ما لا تستطيع الديموقراطية البرجوازية الصغيرة فهمه بحال. والموقف الذي يقفه من الدولة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، هو دليل من أوضح الأدلة على أنهم ليسوا باشتراكيين قط (الأمر الذي كنا نحن البلاشفة نبرهنه على الدوام)، بل هم ديموقراطيون برجوازيون صغار ذوو عبارات تكاد تكون اشتراكية.
ومن الجهة الأخرى التشويه «الكاوتسكي» للماركسية، وهو أحسن تقنيعا بكثير. فهو لا ينكر «نظريا» لا واقع أن الدولة هي هيئة للسيادة الطبقية ولا واقع أن التناقضات الطبقية لا يمكن التوفيق بينها. ولكن يُغفل ويُطمس الأمر التالي: إذا كانت الدولة نتاج استعصاء التناقضات الطبقية، وإذا كانت قوة فوق المجتمع و«تنفصل عن المجتمع أكثر فأكثر»، فمن الواضح أن تحرير الطبقة المظلومة لا يمكن ليس بدون ثورة عنيفة وحسب، بل أيضاً بدون القضاء على جهاز سلطة الدولة الذي أنشأته الطبقة السائدة والذي يتجسد فيه هذا «الانفصال». إن هذا الاستنتاج، البديهي من الناحية النظرية، قد وصل إليه ماركس بأتم الدقة، كما سنرى فيما يأتي، على أساس تحليل تاريخي ملموس لواجبات الثورة. وقد… «نسي» كاوتسكي وشوه هذا الاستنتاج عينه، وسنتبين ذلك بالتفصيل فيما يأتي من البحث
2-فصائل خاصة من رجال مسلحين، وسجون، الخ.
يستطرد انجلس قائلا: «…وبالمقارنة مع التنظيم «الجنسي» القديم (العشائري أو القبلي) تتميز الدولة، أولاً بتقسيم رعايا الدولة بموجب تقسيم الأراضي…»
وهذا التقسيم يبدو لنا «طبيعياً»، ولكنه قد تطلب نضالا طويلا ضد التنظيم القديم على أساس القبائل أو العشائر.
«… والسمة المميزة الثانية هي تأسيس السلطة العامة التي لم تعد تنسجم مباشرة مع السكان المنظمين أنفسهم بأنفسهم في قوة مسلحة. وهذه السلطة العامة المميزة ضرورية لأن منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها غدت أمرا مستحيلا منذ انقسام المجتمع إلى طبقات… وتوجد هذه السلطة العامة في كل دولة. وهي لا تتألف فقط من رجال مسلحين، بل كذلك من ملاحق مادية، من السجون ومختلف مؤسسات القسر التي كانت معدومة في المجتمع المنظم على أساس القبائل (العشائر)…»
إن انجلس يشرح مفهوم «القوة» التي تسمى الدولة، القوة التي نشأت في المجتمع، ولكنها تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر. مم تتألف هذه القوة بصورة رئيسية؟ من فصائل خاصة من رجال مسلحين تحت تصرفهم السجون والخ..
يحق لنا أن نتحدث عن فصائل خاصة من رجال مسلحين لأن السلطة العامة الملازمة لكل دولة «لا تنسجم مباشرة» مع السكان المسلحين، مع «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها».
إن انجلس، شأن جميع المفكرين الثوريين العظام، يسعى ليلفت أنظار العمال الواعين إلى ما يبدو بالضبط في نظر الذهنية البرجوازية الصغيرة السائدة أقل ما يستحق الإنتباه، إلى أكثر ما يبدو لها مألوفا، مقدسا بأوهام متأصلة، بله يمكن القول، متحجرة. الجيش الدائم والشرطة هما الأداتان الرئيسيتان لقوة سلطة الدولة. ولكن كيف يمكن، يا ترى، أن يكون الأمر على غير ذلك؟
لا يمكن أن يكون الأمر على غير ذلك من وجهة نظر الأكثرية الساحقة من أوروبيي أواخر القرن التاسع عشر الذين توجه إليهم انجلس والدين لم يعيشوا ولم يشاهدوا عن كثب أية ثورة كبرى. فهم لا يفهمون أبدا ما هي «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وعلى السؤال: لماذا غدا من الضروري وجود فصائل خاصة من رجال مسلحين الشرطة والجيش النظامي) توضع فوق المجتمع وتنفصل عنه، يميل التافه الضيق الأفق في أوروبا الغربية وروسيا إلى الجواب بجملة من عبارات مقتبسة من سبنسر أو ميخايلوفسكي، مستشهدا بتعقد الحياة الإجتماعية، بتمايز الوظائف وهلم جراً.
وهذا الاستشهاد يبدو «عملياً» وهو ينوم بصورة ممتازة ذا الذهنية البرجوازية الصغيرة بطمسه الأمر الرئيسي والأساسي، أي انقسام المجتمع إلى طبقات متعادية عداء مستعصياً.
ولو لا هذا الانقسام لكانت «منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها» تتميز بتعقيدها ورقي عتادها وغير ذلك عن منظمة بدائيين أو الناس المنظمين في مجتمعات قبائلية، ولكن مثل هذه المنظمة تكون أمرا ممكنا.
ولكنها أمر مستحيل لأن المجتمع المتمدن منقسم إلى طبقات متعادية عداء مستعصيا يسفر تسلحها «العامل من تلقاء نفسه» عن تقاتلها بالسلاح. تتشكل الدولة وتنشأ قوة خاصة، فصائل خاصة من رجال مسلحين؛ وكل ثورة، بهدمها لجهاز الدولة، ترينا النضال الطبقي المكشوف، ترينا رأي العين كيف تحاول الطبقة السائدة أن تبعث ما في خدمتها هي من الفصائل الخاصة من الرجال المسلحين وكيف تحاول الطبقة المظلومة إنشاء منظمة جديدة من هذا النوع، كفوءا لا لخدمة المستثمِرين، بل المستثمَرين.
في الفقرة المذكورة يطرح انجلس نظرياً نفس المسألة التي تطرحها أمامنا كل ثورة كبرى عمليا، بجلاء، وفي نطاق عمل الجماهير، نعني مسألة العلاقات بين الفصائل «الخاصة» من الرجال المسلحين و«منظمة السكان المسلحة العاملة من تلقاء نفسها». وسنرى كيف تتوضح هذه المسألة عمليا بتجربة الثورات الأوروبية والروسية.
ولكن لنعد إلى مبحث انجلس.
إنه يبين أن هذه السلطة العامة تكون ضعيفة أحيانا، في بعض مناطق أمريكا الشمالية مثلاً (يدور الحديث عن حالات نادرة في المجتمع الرأسمالي، وعن مناطق أمريكا الشمالية في عهد ما قبل الإمبريالية، حيث كان يهيمن المعمر الحر). ولكنها، عموما، تتقوى:
«… تتقوى السلطة العامة بمقدار ما تتفاقم التناقضات الطبقية في داخل الدولة وبمقدار ما تزداد الدول المتلاصقة مساحة وسكاناً. لأنظروا على الأقل إلى أوروبا الراهنة حيث رفع النضال الطبقي والتنافس على الفتوحات السلطة العامة إلى مستوى غدت معه تهدد بابتلاع المجتمع برمته بما فيه الدولة نفسها…» لقد كتب هذا في تاريخ لا يتجاوز مستهل سنوات العقد العاشر من القرن الماضي. فمقدمة انجلس الأخيرة مؤرخة في 16 يونيو 1891. في ذلك الحين كان الانعطاف نحو الإمبريالية –بمعنى سيطرة التروستات سيطرة تامة وبمعنى حول وطول البنوك الكبرى وبمعنى عظمة نطاق السياسة الاستعمارية، الخ.- قد بدأ لتوه في فرنسا، وكان أضعف في أمريكا الشمالية وفي ألمانيا. ومنذ ذلك الحين خطا «التنافس على الفتوحات» خطوة كبرى إلى الأمام، لا سيما والكرة الأرضية قد ظهرت في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين مقتسمة نهائياً بين هؤلاء «الفاتحين المتنافسين»، أي بين الدول السلابة الكبرى. ومنذ ذلك الحين ازداد التسلح العسكري والبحري ازدياداً هائلاً وحرب النهب، حرب سنوات 1914-1918 التي اندلعت من أجل سيطرة إنجلترا أو ألمانيا على العالم، من أجل اقتسام الغنيمة، قد قربت من الكارثة التامة «ابتلاع» جميع قوى المجتمع من قبل سلطة دولة ضاربة.
لقد استطاع انجلس أن يبين منذ سنة 1891 أن «التنافس على الفتوحات» هو سمة من السمات الهامة المميزة لسياسة الدول الكبرى في الحقل الخارجي، في حين أن أنذال الاشتراكية-الشوفينية يعمدون في سنوات 1914-1918، عندما كان هذا التنافس بالذات المشتد أضعافاَ مضاعفة قد أسفر عن الحرب الإمبريالية، إلى تستير المصالح الاغتصابية لبرجوازيتـ«هم» بعبارات «الدفاع عن الوطن» و«الدفاع عن الجمهورية والثورة» وما شاكل!
3-الدولة أداة لاستثمار الطبقة المظلومة
للإنفاق على سلطة عامة مميزة تقف فوق المجتمع تلزم الضرائب وتلزم ديون الدولة.
لقد كتب انجلس: « إن الموظفين،إذ يتمتعون بالسلطة العاملة وبحق جباية الضرائب يصحبون، باعتبارهم هيئات المجتمع، فوق المجتمع. فالاحترام الطوعي الاختياري الذي كان يمحض لهيئات مجتمع القبائل (العشائر) لم يعد يكفيهم حتى فيما لو كان باستطاعتهم اكتسابه…». وتوضع قوانين خاصة بشأن قداسة وحصانة الموظفين. «فلأحقر شرطي» «سلطان» يفوق سلطان ممثلي العشيرة، ولكن رئيس السلطة العسكرية نفسه في دولة متمدنة يغبط شيخ العشيرة الذي يمحضه المجتمع «احتراما لم يفرض بالعصا».
لقد طرحت هنا مسألة وضع الموظفين الممتازين باعتبارهم هيئات سلطة الدولة. والأمر الرئيسي هو أن نعلم: ما الذي يضعهم فوق المجتمع؟ وسنرى كيف حلت كومونة باريس عمليا في سنة 1871 هذه المسألة النظرية وكيف طمسها كاوتسكي رجعيا في سنة 1912.
«… بما أن الدولة قد نشأت من الحاجة إلى لجم تضاد الطبقات؛ وبما أنها نشأت في الوقت نفسه ضمن الاصطدامات بين هذه الطبقات، فهي كقاعدة عامة دولة الطبقة الأقوى السائدة اقتصاديا والتي تصبح عن طريق الدولة الطبقة السائدة سياسيا أيضا وتكتسب على هذه الصورة وسائل جديدة لقمع الطبقة المظلومة واستمرارها…». فالدولة القديمة والدولة الإقطاعية لم تكونا وحدهما هيئتين لاستثمار العبيد والأقنان، بل كذلك «الدولة التمثيلية الحديثة هي أداة لاستثمار العمل المأجور من قبل رأس المال. ومع ذلك فثمة، كحالات استثنائية، مراحل تبلغ فيها الطبقات المتصارعة درجة من توازن القوى تنال معها سلطة الدولة لفترة معينة نوعا من الاستقلال حيال الطبقتين، مظهرا وسيطا بينهما…» ومن هذا القبيل كان الحكم الملكي المطلق في القرنين السابع عشر والثامن عشر والبونابرتية في الإمبراطوريتين الأولى والثانية في فرنسا وبيسمارك في ألمانيا.
ومن هذا القبيل –نضيف نحن- حكومة كرينسكي في روسيا الجمهورية بعد الإنتقال إلى ملاحقة البروليتاريا الثورية، في البرهة التي كانت فيها السوفييتات قد غدت عاجزة من جراء قيادة الديموقراطيين صغار البرجوازيين ولم تكن فيها البرجوازية بعد قوية لحد يمكن من حل السوفييتات على المكشوف.
في الجمهورية الديموقراطية –يستطرد إنجلس- «تمارس الثورة سلطتها بصورة غير مباشرة، ولكن بالشكل الأضمن» :أولاً، عن طريق «الرشوة المباشرة للموظفين» (أمريكا) وثانيا، عن طريق «التحالف بين الحكومة والبورصة»(فرنسا وأمريكا).
وفي الوقت الحاضر «رقت» الإمبريالية وسيطرة البنوك إلى حد فن خارق هاتين الوسيلتين من وسائل الدفاع عن سلطان الثروة وممارسة هذا السلطان في أية جمهورية ديموقراطية كانت. فإذا كان السيد بالتشينسكي، مثلاً، عندما كانت الجمهورية الديموقراطية بروسيا في أشهرها الأولى بالذات –ويمكن القول في شهر العسل لقران «الاشتراكيين»، الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، بالبورجوازية ضمن الحكومة الائتلافية- قد عرقل جميع التدابير الموجهة لكبح جماح الرأسماليين وسلبهم ونهبهم للخزينة العامة بالطلبات العسكرية، وإذا كان السيد باتشينسكي الذي خرج من الوزارة فيما بعد (واستعيض عنه أيضا بباتشينسكي آخر لا يختلف عنه في شيء) قد «كوفئ» من قبل الرأسماليين بمنصب راتبه 120 ألف روبل في السنة- فبمَ يوصف ذلك؟ أهو رشوة مباشرة أم غير مباشرة؟ أهو تحالف الحكومة مع سنديكات الرأسماليين أم علاقات ودية «فقط لا غير»؟ وما هو الدور الذي يلعبه تشيرنوف وتسيرتيلي وافكسنتييف وسكوبيليف ومن على شاكلتهم؟ أهم حلفاء «مباشرون» لأصحاب الملايين سارقي الخزينة، أم غير مباشرين وحسب؟
إن سلطان «الثورة» هو كذلك أضمن في ظل الجمهورية الديموقراطية لأنه لا يتوقف على هذه النواقص أو تلك للآلية السياسية وعلى غلاف الرأسمالية السياسي الرديء. فالجمهورية الديموقراطية هي أحسن غلاف سياسي ممكن للرأسمالية، ولذا فرأي المال، إذ يستولي على هذا الغلاف الأفضل (عن طريق بالتشينسكي ةتشيرنوف وتسيريتيلي ومن لف لفهم) يقيم سلطته على أساس مكين، على أساس مضمون لحد لا يمكن لأي تبديل في الأشخاص ولا في المؤسسات ولا في الأحزاب في الجمهورية البرجوازية الديموقراطية أن يزعزع هذه السلطة.
كذلك يجدر بالذكر أن إنجلس يصف بصورة جلية قاطعة حق الإنتخاب العام أيضا بأنه أداة لسيادة البرجوازية. فقد قال آخذا بعين الإعتبار بصورة جلية الخبرة التي اكتسبتها الاشتراكية الديموقراطية الألمانية خلال وقت طويل أن حق الإنتخاب العام هو «دليل نضج الطبقة العاملة. ولا يمكنه أن يكون ولن يكون أبدا أكثر من ذلك في الدولة الراهنة».
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أشباه الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة في بلادنا ، وكذلك أشقاءهم، جميع الاشتراكيين-الشوفينيين في أوروبا الغربية، ينتظرون من حق الإنتخاب العام «أكثر» من ذلك بالضبط. إنهم يؤمنون هم أنفسهم ويوهمون الشعب بفكرة مغلوطة مفادها أن حق الانتخاب العام «في الدولة الراهنة» يستطيع أن يظهر في الواقع إرادة أكثرية الشغيلة وأن يضمن تطبيقها.
لا يسعنا هنا غير الإيماء إلى هذه الفكرة المغلوطة، غير الإشارة إلى أن تصريح انجلس الجلي والدقيق والملموس تماما تشوهه في كل لحظة دعاية وتحريض الاحزاب الاشتراكية «الرسمية» (أي الانتهازية). فتتمة عرضنا لنظرية ماركس وانجلس عن الدولة «الراهنة» تبين بالتفصيل مبلغ البطلان في الفكرة التي ينبذها هنا إنجلس.
يعطي إنجلس في أوسع مؤلفاته انتشارا خلاصة عامة لنظراته بالعبارات التالية:
«وهكذا، فالدولة لم توجد منذ الأزل. فقد وجدت مجتمعات كانت في غنى عن الدولة ولم يكن لديها أية فكرة عن الدولة وسلطة الدولة. وعندما بلغ التطور الاقتصادي درجة اقترنت بالضرورة بانقسام المجتمع إلى طبقات، غدت الدولة بحكم هذا الانقسام أمرا ضروريا. ونحن نقترب الآن بخطوات سريعة من درجة في تطور الإنتاج لا يكف عندها وجود هذه الطبقات عن أن يكون ضرورة وحسب، بل يصبح عائقا مباشرا للإنتاج. ستزول الطبقات بالضرورة كما نشأت في الماضي بالضرورة. ومع زوال الطبقات ستزول الدولة بالضرورة. والمجتمع الذي ينظم الإنتاج تنظيما جديدا على أساس اتحاد المنتجين بحرية وعلى قدم المساواة، سيرسل آلة الدولة بأكملها إلى حيث ينبغي أن تكون حينذاك: إلى متحف العادات بجانب المغزل البدائي والفأس البرونزية».
لا يصادف المرء هذا المقتبس إلاّ غرارا فيما تصدره الاشتراكية-الديموقراطية المعاصرة من مطبوعات الدعاية والتحريض. ولكن حتى عندما يصادف هذا المقتبس فإنما يوردونه في أغلب الأحيان وكأنهم ينحنون أمام أيقونة، أي للإفصاح الرسمي عن إجلال انجلس، دون أية محاولة لإمعان الفكر في مدى سعة وعمق نطاق الثورة الذي يفترضه «إرسال آلة الدولة بأكملها إلى متحف العادات». بل انه في الغالب لا يلاحظ أن ثمة فهما لما يسميه انجلس بآلة الدولة.
4-الثورة العنيفة و«اضمحلال» الدولة
إن كلمات إنجلس عن «اضمحلال» الدولة بدرجة من الشهرة، ويُستشهد بها بدرجة من التكرار، تبين كنه تكييف الماركسية المعتاد تبعا للانتهازية بدرجة من الوضوح بحيث أنه لابد من تناولها بإسهاب. فلنورد كامل الفقرة التي اقتبست منها:
«تأخذ البروليتاريا سلطة الدولة وتحول وسائل الانتاج قبل كل شيء إلى ملك الدولة. ولكنها تقضي على نفسها بوصفها بروليتاريا، تقضي بذلك على كل الفوارق الطبقية وجميع المتضادات الطبقية وعلى لدولة في الوقت نفسه بوصفها دولة. إن المجتمع الذي وجد ولا يزال والذي يتحرك ضمن المتضادات الطبقية كان بحاجة إلى الدولة، أي إلى منظمة للطبقة المستثمِرة قسرا في ظروف القمع الناجمة عن أسلوب الانتاج القائم (العبودية، القنانة، العمل المأجور). لقد كانت الدولة الممثل الرسمي للمجتمع بأكمله، تركزه في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك إلاّ بمقدار ما كانت دولة تلك الطبقة التي كانت وحدها تمثل في عصرها المجتمع بأكله: في العصور القديمة كانت دولة ملاكي العبيد –مواطني الدولة، وفي القرون الوسطى كانت دولة الأعيان الإقطاعيين، أخيرا، ممثل المجتمع بأكمله حقا، أية طبقة اجتماعية ينبغي قمعها؛ وعندما تزول مع السيطرة الطبقية ومع الفوضى الراهنة في الإنتاج، تلك الاصطدامات وأعمال الشطط (التطرف) الناتجة عن هذا الصراع، لا يبقى هناك ما ينبغي قمعه، ولا تبقى أيضا ضرورة لقوة خاصة للقمع، للدولة. وأول عمل تبرز فيه الدولة حقا بوصفها ممثل المجتمع بأكمله –تملك وسائل الانتاج باسم المجتمع- هو في الوقت نفسه آخر عمل تقوم به بوصفها دولة، وعندئد يصبح تدخل الدولة في العلاقات الإجتماعية أمرا لا لزوم له في ميدان بعد آخر ويخبو من نفسه. وبدلا من حكم الناس «تلغى» إنها تضمحل. وعلى هذا الأساس ينبغي تقييم عبارة «الدولة الشعبية الحرة»، هذه العبارة التي كان لها حق البقاء بعض الوقت للتحريض ولكنها باطلة في آخر التحليل من وجهة النظر العملية. وعلى هذا الأساس ينبغي كذلك تقييم مطلب من يسمون بالفوضويين القائل بإلغاء الدولة بين عشية وضحاها» («ضد دوهرينغ». «السيد أوجين دوهرينغ يقلب العلم»، ص 301-303، الطبعة الألمانية الثانية).
بوسعنا أن نقول دون أن نخشى الزلل أن الصيغة القائلة أن الدولة «تضمحل»، برأي ماركس وخلافا للنظرية الفوضوية القائلة بـ«إلغاء» الدولة، هي كل ما تبقى من فقرة انجلس هذه الغنية جداً بالأفكار، مكتسبا حقا للفكر الاشتراكي في الأحزاب الاشتراكية الراهنة. إن بتر الاشتراكية بهذا الشكل يعني الهبوط بها إلى حضيض الانتهازية، إذ أن كل ما تبقى بعد هذا «التأويل» هو تصور مبهم عن تغير بطيء، موزون، تدريجي، عن انعدام القفز والأعاصير، عن انعدام الثورة. إن مفهوم «اضمحلال» الدولة بالمعنى الشائع، المنتشر عموما والجماهيري، إن أمكن التعبير، يعني دون شك طمس الثورة إن لم يكن إنكارها.
بيد أن هذا «التأويل» هو تشويه فظ جدا للماركسية، مفيد للبرجوازية وحدها، ويقوم نظريا على نسيان ظروف واعتبارات هامة للغاية ذكرت مثلا في فقرة انجلس «التلخيصية» التي أوردناها كاملة.
أولا. في مستهل هذه الفقرة بالذات يقول إنجلس أن البروليتاريا، إذ تأخذ سلطة الدولة، «تقضي بذلك على الدولة بوصفها دولة». أما معنى ذلك بصورة تامة أو يعزى إلى شيء ما بمثابة «ضعف هيغلي» عند إنجلس. وفي الواقع تعرب هذه الكلمات باقتضاب عن خبرة ثورة من أكبر الثورات البروليتارية، عن خبرة كومونة باريس 1871، الأمر الذي سنتحدث عنه بتفصيل في مكانه. هنا يتحدث إنجلس في الواقع عن «قضاء» الثورة البروليتارية على دولة البرجوازية، في حين أن ما قاله عن الاضمحلال يخص بقايا الدولة البروليتارية بعد الثورة الاشتراكية. الدولة البرجوازية لا «تضمحل» برأي إنجلس، ولكن «تقضي عليها» البروليتاريا في الثورة. تضمحل بعد هذه الثورة الدولة البروليتارية أو شبه الدولة.
ثانيا. الدولة هي «قوة خاصة للقمع». إن إنجلس قد أعطى هنا بأتم الوضوح تعريفه الرائع هذا والعميق منتهى العمق. ويستنتج منه أن «القوة الخاصة لقمع» البروليتاريا من قبل البرجوازية، قمع الملايين من الشغيلة من قبل حفنات من الأغنياء لا بد أن يستعاض عنها بـ«القوة الخاصة لقمع» البرجوازية من قبل البروليتاريا (ديكتاتورية البروليتاريا). وفي هذا كنه «القضاء على الدولة بوصفها دولة». وفي هذا كنه «عملية» تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع. ومن الواضح بداهة أن مثل هذه الاستعاضة عن «قوة خاصة» (برجوازية) بـ«قوة خاصة» أخرى (بروليتارية) لا يمكنها بتاتا أن تتم بشكل «اضمحلال».
ثالثا. يتكلم إنجلس عن «اضمحلال» أو حتى، وهو تعبير أبرز وأجمل، عن «الخبو» قاصدا بأتم الوضوح والجلاء مرحلة ما بعد «تملك الدولة لوسائل الإنتاج باسم المجتمع كله»، أي مرحلة ما بعد الثورة الاشتراكية. ونحن جميعا نعلم أن الشكل السياسي «للدولة» في هذه المرحلة هو الديموقراطية الأتم. ولكن لم يدر في خلد أحد من الانتهازيين الذين يشوهون الماركسية دونما خجل أن الحديث يدور هنا عند انجلس، بالتالي، عن «خبو» و«اضمحلال» الديموقراطية. ويبدو ذلك لأول وهلة في منتهى الغرابة. ولكن «لا يستطيع أن يفهم ذلك» غير الذين لم يصل بهم تفكيرهم إلى أن الديموقراطية هي أيضا دولة وأن الديموقراطية تزول هي أيضا، تبعا لذلك، عندما تزول الدولة. الدولة البرجوازية لا يستطيع «القضاء» عليها غير الثورة. والدولة بوجه عام، أي الديموقراطية الأتم، يمكنها أن «تضمحل» وحسب.
رابعا. صاغ انجلس موضوعته المشهورة: «الدولة تضمحل» شارحا بصورة مباشرة وملموسة أن هذه الموضوعة موجهة في وقت معا ضد الانتهازيين وضد الفوضويين. هذا وقد وضع انجلس في المقام الأول الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين والمستخلص من موضوعة «إضمحلال الدولة».
بإمكان المرء أن يراهن أن 9990 من 10000 شخص قرأوا أو سمعوا عن «إضمحلال» الدولة لا يعرفون بتاتا أو لا يدركون أن انجلس يوجه استنتاجاته من هذه الموضوعة ليس فقط ضد الفوضويين، وعلى أن تسعة من الأشخاص العشرة الباقين لا يعرفون، أغلب الضن، ما هي «الدولة الشعبية الحرة» ولماذا يتضمن الهجوم على هذا الشعار هجوما على الإنتهازيين. هكذا يُكتب التاريخ! وهكذا يجري بصورة غير ملحوظة تحوير التعاليم الثورية العظمى تبعا لروح التفاهة وضيق الأفق السائدة. فإن الاستنتاج الموجه ضد الفوضويين قد كرر ألف مرة، وحقر وحشي في الرؤوس بالشكل الأكثر ابتذالا واكتسب متانة الأوهام. أمّا الاستنتاج الموجه ضد الانتهازيين فقد طمسوه و«نسوه»!
«الدولة الشعبية الحرة» كانت مطلبا في برنامج الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان في سنوات العقد الثامن وشعارا من شعاراتهم الشائعة. هذا الشعار خال من كل مضمون سياسي عدا الوصف البرجوازي الصغير الطنان لمفهوم الديموقراطية. ولما كانوا يلمحون علنا في هذا الشعار إلى الجمهورية الديموقراطية كان إنجلس مستعدا «لتبريره» «بعض الوقت» من وجهة نظر التحريض. ولكن هذا الشعار كان انتهازيا، لأنه لم يفصح فقط عن تجميل الديموقراطية البرجوازية، بل وكذلك عن عدم فهم النقد الاشتراكي لكل دولة بوجه عام. نحن نؤيد الجمهورية الديموقراطية لأنها بالنسبة إلى البروليتاريا الشكل الأفضل للدولة في عهد الرأسمالية، ولكن لا يحق لنا أن ننسى أن عبودية العمل المأجور هي نصيب الشعب حتى في الجمهورية البرجوازية الأكثر ديموقراطية. وبعد. إن كل دولة هي «قوة خاصة لقمع» الطبقة المظلومة. ولذا فكل دولة ليست حرة وليست شعبية. وقد شرح ماركس وإنجلس ذلك مرارا وتكرارا لرفاقهما الحزبيين في سنوات العقد الثامن.
خامسا. إن مؤلف إنجلس ذاته الذي يتذكر منه الجميع المحاكمة بصدد اضمحلال الدولة يتضمن محاكمة بصدد أهمية الثورة العنيفة. فالتقدير التاريخي لدورها يتحول عند إنجلس إلى تقريظ حق للثورة العنيفة. و«ما من أحد يذكر» ذلك. فالحديث بله مجرد التفكير بأهمية هذه الفكرة غير مألوف في الأحزاب الاشتراكية الحالية، وفي الدعاية والتحريض اليوميين بين الجماهير ليس لهذه الأفكار أي دور. هذا في حين أنها تقترن بفكرة «اضمحلال» الدولة اقترانا وثيقا، وتكون معها كلاً متراصا.
وها هي ذي محاكمة إنجلس هذه:
«… أما أن العنف يلعب في التاريخ كذلك دورا آخر» (عدا ما يسبب من شر) «وبالضبط دورا ثوريا، وأنه، كما قال ماركس، المولدة لكل مجتمع قديم حامل بمجتمع جديد، وأن العنف هو تلك الأداة التي تشق الحركة الاجتماعية بواسطتها لنفسها الطريق وتحطم الأشكال السياسية المتحجرة والميتة –عن كل ذلك لم ينبس السيد دوهرينغ بكلمة. إنه يسلم فقط، مع إطلاق الزفرات والأنات، بأن إسقاط السيطرة القائمة على الاستثمار قد يتطلب عنف. ويا للأسف لأن كل استعمال للعنف يضعف، كما قال، معنويات من يلجأ إليه. وذلك يقال رغم ما نعلم من مبلغ النهوض الأخلاقي والفكري الذي كان ينجم عن كل ثورة ظافرة! وذلك يقال في ألمانيا حيث من شأن الاصطدام العنيف، الذي قد يفرض على الشعب ، أن يتسم، على أقل تقدير، بمزية استئصال روح الخنوع التي تغلغلت في وعي الأمة من جراء إهانات حرب الثلاثين سنة. إن تفكير الخوارنة هذا، السقيم الهزيل العاجز، يجرأ على فرض نفسه على الحزب الذي لم يعرف التاريخ مضارعا لروحه الثورية!» (ص 193، حسب الطبعة الألمانية الثالثة، نهاية الفصل الرابع من القسم الثاني).
وكيف السبيل إلى الجمع في تعاليم واحدة بين هذا التقريظ للثورة العنيفة، الذي ظل إنجلس يقدمه بإلحاح للاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان من سنة 1878 حتى سنة 1894، أي حتى وفاته، بين نظرية «اضمحلال» الدولة؟
في المعتاد يجمعون بين هذه وتلك جمعا اختياريا، عن طريق الاقتطاف الكيفي غير المبدئي والسفسطائي (أو لإرضاء القابضين على السلطة) لهذه الموضوعة طورا وصورا لتلك، علما بأنه في تسع وتسعون حالة من مائة، إن لم يكن أكثر، يوضع «الاضمحلال» بالذات في المقام الأول. يستعاض عن الدياليكتيك بالمذهب الإختياري، وهذا التصرف حيال الماركسية هو الظاهرة المألوفة للغاية والأوسع انتشارا في الأدب الاشتراكي-الديموقراطي الرسمي في أيامنا. وهذه الاستعاضة ليست طبعا ببدعة مستحدثة، فقد لوحظت حتى في تاريخ الفلسفة اليونانية الكلاسيكية. أن إظهار الإختيارية بمظهر الدياليكتيك في حالة تحوير الماركسية تبعا للانتهازية، يخدع الجماهير بأسهل شكل، يرضيها في الظاهر، إذ يبدو وكأنه يأخذ بعين الإعتبار جميع نواحي العملية، جميع اتجاهات التطور، جميع المؤثرات المتضادة الخ.، ولكنه في الواقع لا يعطي أي فكرة منسجمة وثورية عن عملية تطور المجتمع.
لقد قلنا فيما تقدم وسنبين بمزيد من التفاصيل فيما يأتي من البحث أن تعاليم ماركس وإنجلس بصدد حتمية الثورة العنيفة تتعلق بالدولة البرجوازية. فهذه لا يمكن الاستعاضة عنها بدولة بروليتارية (ديكتاتورية البروليتاريا) عن طريق «الإضمحلال»، لا يمكن، كقاعدة عامة، إلاّ بالثورة العنيفة. فالتقريظ الذي خصها به انجلس والذي يتفق كل الاتفاق مع تصريحات ماركس العديدة (فلنتذكر خاتمة «بؤس الفلسفة» وخاتمة «البيان الشيوعي» حيث ينادي باعتزاز وعلى المكشوف بحتمية الثورة العنيفة، ولنتذكر انتقاد برنامج غوتا سنة 1875، الذي جاء بعد نحو ثلاثين سنة، والذي قرّع فيه ماركس انتهازية هذا البرنامج دون رحمة، -إن هذا التقريظ ليس قط من قبيل «الكلف»، ليس قط من قبيل بهرج الكلام، ولا من قبيل الحماسة في الجدال، إن ضرورة تربية الجماهير بصورة دائمة بروح هذه النظرة وهذه النظرة بالذات للثورة العنيفة هي أساس تعاليم ماركس وإنجلس بأكملها. وخيانة تعاليمهما من قبل التيارين الاشتراكي-الشوفيني والكاوتسكي السائدين اليوم تتجلى بوضوح خاص في نسيان هؤلاء وأولئك لهذه الدعاية، لهذا التحريض.
إن الإستعاضة عن الدولة البرجوازية بدولة بروليتارية لا يمكن بدون ثورة عنيفة. والقضاء على الدولة البرجوازية، أي على كل دولة، لا يمكن عن غير طريق «الاضمحلال».
لقد طور ماركس وإنجلس هذه النظرات بصورة مفصلة وملموسة دارسين كل وضع ثوري بعينه ومحللين عبر خبرة كل ثورة بعينها. وها نحن ننتقل إلى هذا القسم من تعاليمهماوهو دون شك أهم أقسامها.
الدولة والثورة. خبرة سنوات 1848-1851
1- عشية الثورة
إن «بؤس الفلسفة» و«البيان الشيوعي»، وهما باكورتا الماركسية الناضجة، يعودان بالضبط لعشية ثورة سنة 1848. وبحكم هذا الواقع نجد فيهما لحد ما، إلى جانب بسط الأسس العامة للماركسية، انعكاسا للوضع الثوري الملموس القائم آنذاك، ولذا ربما من الأصوب تحليل ما قاله مؤلفا هذين الكتابين عن الدولة مباشرة قبل بسطهما الاستنتاجات التي استخلصاها من خبرة سنوات 1848-1851.
قال ماركس في «بؤس الفلسفة»:
«… في مجرى التطور ستحل الطبقة العاملة محل المجتمع البرجوازي القديم رابطة لا مكان فيها للطبقات وتضادها؛ ولن تكون ثمة أي سلطة سياسية بمعنى الكلمة الخاص، لأن السلطة السياسية بالذات هي الافصاح الرسمي عن تضاد الطبقات في قلب المجتمع البرجوازي» (ص 182 من الطبعة الألمانية لسنة 1885).
ومن المفيد أن نقارن هذا العرض العام لفكرة زوال الدولة بعد القضاء على الطبقات مع العرض الوارد في «البيان الشيوعي» الذي كتبه ماركس وإنجلس بعد عدة أشهر، أي في نوفمبر سنة 1848:
«…عندما وصفنا أعم المراحل في تطور البروليتاريا، تتبعنا الحرب الأهلية المستترة لهذا الحد أو ذاك والجارية في المجتمع إلى الحد الذي تنقلب معه إلى ثورة مكشوفة وتؤسس فيه البروليتاريا سيادتها عن طريق اسقاط البرجوازية بالعنف…
… رأينا فيما تقدم أن الخطوة الأولى في الثورة العالمية هي تحول» (حرفيا: ترفي) «البروليتاريا إلى طبقة سائدة، الظفر بالديموقراطية.
تستفيد البروليتاريا من سيادتها السياسية لكينا تنتزع بالتدريج من البرجوازية كامل رأس المال وتمركز جميع أدوات الإنتاج في يد الدولة، أي في يد البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة ولكيما تزيد بأسرع ما يمكن القوى المنتجة» (ص31-37 من الطبعة الألمانية السابقة لسنة 1906).
نرى هنا صيغة لفكرة من أروع وأهم الأفكار الماركسية في مسألة الدولة، أي فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا» (كما غدا ماركس وانجلس يقولان بعد كومونة باريس)، ثم تعريفا للدولة في منتهى الأهمية أيضا في عداد «ما نسي من كلمات» الماركسية. «الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
إن تعريف الدولة هذا، عدا أنه لم يشرح قط في مطبوعات الدعاية والتحريض المسيطرة الصادرة عن الأحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية، قد نسى، فضلا عن ذلك، بالضبط لأن التوفيقي بينه وبين الإصلاحية لا يمكن بوجه، ولأنه يفقأ عين الأوهام الانتهازية والبورجوازية الصغيرة المعتادة بصدد «تطور الديموقراطية السلمي».
البروليتاريا بحاجة إلى دولة –هذا ما يكرره جميع الإنتهازيين، والاشتراكيين-الشوفينيين والكاوتسكيين، مؤكدين أن هذه هي تعاليم ماركس و«ناسين» أن يضيفوا، أولا، أن البروليتاريا، برأي ماركس، ليست بحاجة إلاّ إلى دولة في طريق الاضمحلال، أي مبنية بشكل تأخذ معه بالاضمحلال على الفور ولا مندوحة لها معه من أن تضمحل. وثانيا، أن الشغيلة بحاجة إلى «دولة»، «أي إلى البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة».
الدولة هي نوع خاص من تنظيم للقوة، هي تنظيم للعنف بقصد قمع طبقة من الطبقات. فأية طبقة ينبغي للبروليتاريا أن تقمعها؟ بطبيعة الحال ينبغي لها أن تقمع الطبقة المستثمِرة وحدها، أي البرجوازية. إن الشغيلة ليسوا بحاجة إلى الدولة إلاّ لقمع مقاومة المستثمِرين، ولا يقدر على قيادة هذا القمع، على تطبيقه عموما، غير البروليتاريا بوصفها الطبقة الوحيدة الثورية حتى النهاية، الطبقة الوحيدة الكفء لتوحيد جميع الشغيلة والمستثمَرين من أجل النضال ضد البرجوازية، من أجل إسقاطها تماما.
تحتاج الطبقات المستثمِرة إلى السيادة السياسية للإبقاء على الاستثمار، أي من أجل المصالح الأنانية للأقلية الضئيلة وضد الأكثرية الساحقة من الشعب وضد الأقلية الضئيلة من ملاكي العبيد المعاصرين، أي الملاكين العقاريين والرأسماليين.
إن الديموقراطيين صغار البورجوازيين، أدعياء الاشتراكية هؤلاء، الذين استعاضوا عن النضال الطبقي بأحلام عن التوفيق بين الطبقات، تصوروا كذلك التحويل الاشتراكي بصورة خيالية، لا بصورة إسقاط سيادة الطبقة المستثمِرة، بل بصورة خضوع الأقلية بشكل سلمي للأكثرية المدركة لواجباتها. وهذه الطوباوية البرجوازية الصغيرة المرتبطة ارتباطا لا تنفصم عراه بالاعتراف بوجود دولة قائمة فوق الطبقات قد أفضت عمليا إلى خيانة مصالح الطبقات الكادحة، كما بين ذلك مثلا تاريخ ثورتي 1848 و1871 الفرنسيتين وكما بينت خبرة الاشتراك «الاشتراكي» بالوزارات البرجوازية في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من البلدان في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
لقد ناضل ماركس طيلة حياته ضد هذه الاشتراكية البرجوازية الصغيرة التي بعثها الآن في روسيا حزبا الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة. وقد طور ماركس باستقامة نظرية النضال الطبقي بما في ذلك نظرية السلطة السياسية، نظرية الدولة.
إن إسقاط سيادة البرجوازية لا يمكن إلاّ من جانب البروليتاريا باعتبارها طبقة خاصة تعدها ظروف وجودها الاقتصادية لهذا الإسقاط وتعطيها الإمكانية والقوة للقيام بذلك. فبينما تجزئ البرجوازية وتبعثر الفلاحين وجميع الفئات البرجوازية الصغيرة ترص البروليتاريا وتوحدها وتنظمها. فالبروليتاريا بحكم دورها الاقتصادي في الإنتاج الضخم، هي الوحيدة الكفء لتكون زعيما لجميع جماهيرالشغيلة والمستثمَرين الذين تستثمرهم البرجوازية وتظلمهم وتضغط عليهم في حالات كثيرة ضغطا ليس بأضعف بل هو أشد من ضغطها على البروليتاريين، ولكنهم غير أهل للنضال المستقل في سبيل تحررهم.
إن تعاليم النضال الطبقي التي طبقها ماركس على مسألة الدولة وعلى مسألة الثورة الاشتراكية تفضي لا محالة إلى الاعتراف بسيادة البروليتاريا السياسية، بديكتاتوريتها، أي بسلطتها التي لا تقتسمها مع أحد والتي تستند مباشرة إلى قوة الجماهير المسلحة. إن إسقاط البرجوازية لا يمكن أن يتحدد عن غير طريق تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة قادرة على قمع ما تقوم به البرجوازية حتما من مقاومة مسعورة وعلى تنظيم جميع الجماهير الكادحة والمستثمَرة من أجل النظام الإقتصادي الجديد.
إلاّ أن البروليتاريا بحاجة إلى سلطة الدولة، أي إلى تنظيم القوة المتمركزة، إلى تنظيم العنف سواء لقمع مقاومة المستثمِرين أم لقيادة جماهير السكان الغفيرة من فلاحين وبورجوازية صغيرة وأشباه بروليتاريين في أمر «ترتيب» الاقتصاد الاشتراكي.
إن الماركسية، إذ تربي حزب العمال، تربي طليعة البروليتاريا الكفء لأخذ السلطة وللسير بكل الشعب إلى الاشتراكية ولتوجيه وتنظيم النظام الجديد ولتكوين معلماً وقائداً وزعيماً لجميع الشغيلة والمستثمَرين في أمر تنظيم حياتهم الاجتماعية بدون البرجوازية وضد البرجوازية. أمّا الإنتهازية السائدة اليوم، فإنها بالعكس تربي من حزب العمال جماعة منفصلة عن الجماهير تمثل العمال ذوي الأجور العليا الذين «يدبرون أمورهم» بصورة لا بأس بها في ظل الرأسمالية ويبيعون مقابل طبيخ من العدس حق الإبن البكر، أي أنهم يتخلون عن دور زعماء الشعب الثوريين في النضال ضد البرجوازية.
«الدولة، أي البروليتاريا المنظمة بوصفها طبقة سائدة» -إن نظرية ماركس هذه ترتبط ارتباطا وثيقا بكامل تعاليمه عن دور البروليتاريا الثوري في التاريخ. وذروة هذا الدور هي ديكتاتورية البروليتاريا، سيادة البروليتاريا سياسيا.
ولكن، إذا كانت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة بوصفها منظمة خاصة للعنف ضد البرجوازية، فمن هنا ينبثق تلقائياَ الاستنتاج التالي: هل من الممكن إنشاء مثل هذه المنظمة دون أن يسبق ذلك تحطيم وتدمير آلة الدولة التي أنشأتها البرجوازية لنفسها؟ هذا هو الاستنتاج الذي يسير بنا «البيان الشيوعي» مباشرة إليه وعن هذا الاستنتاج يتحدث ماركس ملخصاَ خبرة سنوات 1848-1851.
2-حاصل الثورة
في مسألة الدولة التي نحن بصددها لخص ماركس خبرة ثورة سنوات 1848-1851 في كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» بالعبارات التالية:
«… ولكن الثورة عميقة. إنها ما تزال في رحلة عبر المطهر. إنها تقوم بمهمتها بصورة منهاجية. فحتى الثاني من ديسمبر سنة 1851» (يوم قيام لويس بونابرت بالانقلاب) «أتمت نصف عملها التحضيري، وهي تتم الآن النصف الآخر. في البدء تسير بالسلطة البرلمانية إلى حد الكمال ليصبح بإمكانها اسقاطها. والآن، وقد بلغت ذلك، تسير بالسلطة التنفيذية إلى حد الكمال، تصل بها إلى تعبيرها الصرف، تجعلها في عزلة، تعرضها بنفسها باعتبارها الموضوع الوحيد لكيما تركز ضدها جميع قوى التدمير» (التشديد لنا). «وعندما تتم الثورة هذا النصف الثاني من عملها التحضيري، عندئذ تنهض أوروبا على قدميها وتهتف فرحة: ما أحسن ما تحفر أيها الخلد الهرم!.
هذه السلطة التنفيذية مع منظمتها البيروقراطية والعسكرية الجسيمة، مع آلة دولتها، المعقدة جدا والمصطنعة، مع هذا الجيش من الموظفين من نصف مليون شخص إلى جانب جيش من الجند من نصف مليون أيضا، هذه العضوية الطفيلية المريعة التي تلف كامل جسد المجتمع الفرنسي كأنها الشبكة وتسد عليه جميع المسام، قد نشأت في زمن الملكية المطلقة عند غروب الإقطاعية، هذا الغروب الذي ساعدت هذه العضوية في تعجيله». إن الثورة الفرنسية الأولى قد طورت التمركز، «ولكنها إلى جانب ذلك وسعت نطاق وصلاحيات السلطة الحكومية وضاعفت عدد أعوانها. أمّا نابليون فقد بلغ بآلة الدولة هذه درجة الكمال». والملكية الشرعية وملكية يوليوز «لم تضيفا شيئا جديدا عدا تقسيم للعمل أكبر…
…وأخيرا وجدت الجمهورية البرلمانية نفسها في نضالها ضد الثورة مضطرة إلى أن تقوي، إلى جانب تدابير القمع، أدوات السلطة الحكومية وتمركزها. إن جميع الإنقلابات قد أتقنت هذه الآلة بدلاَ من أن تحطمها» (التشديد لنا). «فالأحزاب التي خلقت بعضها بعضا في النضال من أجل السيادة كانت ترى في الاستيلاء على صرح الدولة الهائل الغنيمة الرئيسية في حال إنتصارها» (كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، ص 98 و99، الطبعة الرابعة هامبورغ، سنة 1907).
في هذه المحاكمة الرائعة تخطو الماركسية خطوة كبرى إلى الأمام بالمقارنة مع «البيان الشيوعي». ففي «البيان الشيوعي» قد طرحت مسألة الدولة بصورة مجردة للغاية وبمفاهيم وتعابير عامة جدا. وهنا تطرح المسألة بصورة ملموسة ويستخلص الاستنتاج في منتهى الدقة والوضوح وبصورة حسية عملية تماما: جميع الثورات السابقة اتقنت آلة الدولة في حين ينبغي تحطيمها وتكسيرها.
إن هذا الاستنتاج هو الاستنتاج الرئيسي الأساسي في تعاليم الماركسية عن الدولة. وهذا الأمر الأساسي بالضبط، عدا أنه قد نسي بصورة تامة في الاحزاب الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية السائدة، قد شوهه تشويها (كما سنرى فيما يأتي) أبرز النظريين في الأممية الثانية، كاوتسكي.
في «البيان الشيوعي» لخصت دروس التاريخ العامة التي تجعلنا نرى في الدولة هيئة للسيادة الطبقية وتفضي بنا إلى استنتاج لا مندوحة عنه وهو أن البروليتاريا لا تستطيع إسقاط البرجوازية إذا لم تستولي في البدء على السلطة السياسية، إذا لم تحصل على السيادة السياسية، إذا لم تحول الدولة إلى «بروليتاريا منظمة بوصفها طبقة سائدة»، وأن هذه الدولة البروليتارية تبدأ بالاضمحلال فور انتصارها، لأن الدولة لا لزوم لها ولا يمكن أن توجد في مجتمع خال من التناقضات الطبقية. في «البيان الشيوعي» لم تطرح مسألة كيف ينبغي أن تتم –من نظر التطور التاريخي- هذه الاستعاضة عن الدولة البرجوازية بالدولة البروليتارية.
وهذه المسألة بالذات يطرحها ماركس ويحلها في سنة 1852. إن ماركس الأمين لفلسفته المادية الدياليكتيكية يأخذ كأساس الخبرة التاريخية التي أعطتها السنوات العظمى، سنوات ثورة 1848-1851. وتعاليم ماركس هنا، كشأنها أبداً، هي تلخيص للخبرة على ضوء نظرة فلسفية عميقة ومعروفة واسعة للتاريخ.
لقد طرحت مسألة الدولة بصورة ملموسة: كيف نشأت تاريخيا الدولة البرجوازية، آلو الدولة الضرورية لسيادة البرجوازية؟ ماذا طرأ عليها من تغير وتطور في مجرى الثورات البرجوازية وحيال النضالات المستقلة الملازمة للطبقات المظلومة؟ وما هي واجبات البروليتاريا إزاء آلة الدولة هذه؟
إن سلطة الدولة الممركزة الملازمة للمجتمع البرجوازي قد ظهرت في عهد سقوط الحكم المطلق. وثمة مؤسستان تميزان أكثر من غيرهما آلة الدولة هذه، هما الدواوينية والجيش النظامي. وقد تكلم ماركس وإنجلس في مؤلفاتهما مرارا وتكرارا مبينين ألوف الخيوط التي تربط هاتين المؤسستين بالبرجوازية بالضبط. وخبرة كل عامل تشرح هذه الصلة بمنتهى الجلاء والبلاغة. وتتعلم الطبقة العاملة بتجاربها المرة إدراك هذه الصلة، ولذلك تفهم الطبقة العاملة بهذه السهولة وتستوعب بهذا الثبات العلم الذي يبين حتمية هذه الصلة، العلم الذي أما أن ينكره الديموقراطيون صغار البرجوازيون عن جهل أو استهتار وأمّا أنهم يعرفون به «عموماً» باستهتار أكبر ناسين أن يستخلصوا منه الاستنتاجات العملية المناسبة.
الدواوينية والجيش النظامي هما «طفيلي» على جسد المجتمع البرجوازي، طفيلي ولدته التناقضات الداخلية التي تمزق هذا المجتمع، ولكنهما بالضبط ذلك «الطفيلي» الذي «يسد» مسام الحياة. غير أن الانتهازية الكاوتسكية السائدة اليوم في الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية تعتبر النظرة إلى الدولة كعضوية طفيلية، خاصة من خصائص الفوضوية على وجه الحصر. وبديهي أن هذا التشويه للماركسية ملائم للغاية لمصالح أولئك التافهين الضيقي الأفق الذين أدوا الاشتراكية إلى حد فضيحة منقطعة النظير وهي تبرير وتجميل الحرب الإمبريالية بتطبيقهم عليها مفهوم «الدفاع عن الوطن»، ولكن هذا هو، على كل حال، تشويه لا شك فيه.
عبر جميع الثورات البرجوازية التي شهدت أوروبا عددا عديدا منها منذ سقوط الاقطاعية، يجري تطوير وإتقان وتوطيد هذا الجهاز الدواويني والعسكري. فالبرجوازية الصغيرة، مثلا، هي التي تنجذب لجانب البرجوازية الكبيرة وتخضع لها لحد كبير عن طريق هذا الجهاز الذي يعطي الفئات العليا من الفلاحين وصغار الحرفيين والتجار وغيرهم مقاعد مريحة وهادئة ومحترمة نسبيا تجعل الجالسين فيها فوق الشعب. أنظروا، مثلا، ما جرى في روسيا في غضون نصف سنة تبعت 27 فبراير سنة 1917: كراسي الدواوين التي كانوا يفضلون إعطاءها فيما مضى لزمرة المائة السود قد غدت غنيمة يتهافت عليها الكاديت والمناشفة والاشتراكيون-الثوريون. لم يفكر هؤلاء في الجوهر بأية إصلاحات جدية، محاولين تأجيلها «حتى الجمعية التأسيسية» وتأجيل الجمعية التأسيسية شيئا فشيئا حتى نهاية الحرب! أمّا في أمر اقتسام الغنيمة، في أمر اشغال مناصب الوزراء ونواب الوزراء والمحافظين والخ. والخ.، فلم يتباطئوا ولم ينتظروا أي جمعية تأسيسية! إن لعبة التراكيب لقوام الحكومة لم تكن في الجوهر غير إفصاح عن اقتسام وإعادة إقتسام «الغنيمة» الجاري من أعلى إلى أسفل، في البلاد من أقصاها إلى أقصاها وفي كامل الجهاز الاداري المركزي والمحلي. والنتيجة، النتيجة الموضوعية لستة أشهر -من 27 فبراير حتى 27 غشت سنة 1917- لا تقبل جدالاً: الاصلاحات قد أجلت وتقاسم مقاعد الدواوين قد جرى و«أخطاء» التقاسم قد أُصلحت بإعادة التقاسم عدة مرات.
ولكن بمقدار ما تتكرر «إعادة تقاسم» الجهاز الدواويني بين مختلف أحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة (بين الكاديت والاشتراكيين-الديموقراطيين والمناشفة، إذا ما أخذنا روسيا مثلاً)، يتبين بصورة أوضح للطبقات المظلومة والبروليتاريا في مقدمتها عداء تجد جميع الطبقات المستحكم حيال المجتمع البرجوازي برمته . ومن هنا تجد جميع الأحزاب البرجوازية بما فيها الأكثر ديموقراطية ومنها «الديموقراطية الثورية» نفسها أمام ضرورة تشديد تدابير القمع الموجه ضد البروليتاريا الثورية وتعزيز جهاز القمع، أي آلة الدولة بالذات. ومجرى الأحداث هذا يحمل الثورة على «تركيز جميع قوى التدمير» ضد سلطة الدولة، يحملها على أن تضع أمامها لا مهمة تحسين آلة الدولة، بل مهمة تحطيمها والقضاء عليها.
إن ما دفع إلى طرح المهمة بهذا الشكل ليس المحاكمات المنطقية، بل مجرى الأحداث الواقعي، الخبرة الحية التي أعطتها سنوات 1848-1851. ومما يبين لنا مدى ثبات وقوف ماركس على قاعدة الواقعية من الخبرة التاريخية كونه لم يطرح بعد في سنة 1852 بصورة عملية المسألة التالية: بأي شيء يستعاض عن آلة الدولة هذه التي ينبغي القضاء عليها. ذلك لأن الخبرة لما تعط في ذلك الحين مادة لهذه المسألة التي طرحها التاريخ على بساط البحث فيما بعد، في سنة 1871. في 1852، لم يكن بإمكان المرء أن يقرر على أساس التتبع التاريخي وبدقة العلوم الطبيعية غير واقع أن الثورة البروليتارية قد واجهت مهمة «تركيز جميع قوى التدمير» ضد الدولة، مهمة «تحطيم» آلة الدولة.
رب سائل يسأل عما إذا كان من الصحيح تعميم خبرة وملاحظات واستنتاجات ماركس وتطبيقها على محيط أوسع من تاريخ فرنسا خلال ثلاث سنوات، 1848-1851؟ لتحليل هذه المسألة نذكر في بادئ الأمر بملاحظة لإنجلس، ثم ننتقل إلى بحث الوقائع.
لقد كتب إنجلس في مقدمته للطبعة الثالثة من كتاب «الثامن عشر من برومير»:
«… فرنسا هي البلاد التي سار فيها دائما نضال الطبقات التاريخي، أكثر مما في أية بلاد أخرى، حتى نهايته الفاصلة. وفي فرنسا كانت تتشكل في الخطوط جلية إلى أقصى حد تلك الأشكال السياسية المتغيرة التي كان يتحرك ضمنها هذا النضال الطبقي والتي كانت تتجلى فيها نتائجه. وفرنسا التي كانت مراكز الإقطاعية في القرون الوسطى والتي كانت منذ عهد النهضة البلد النموذجي للمَلَكية الرتيبة المتجانسة، قد حطمت الإقطاعية في الثورة الكبرى وأقامت سيادة البرجوازية صافية صفاء كلاسيكيا لم يعهد في أي بلد من البلدان الأوروبية الأخرى. وفي هذه البلاد يظهر نضال البروليتاريا التي ترفع رأسها، ضد البرجوازية السائدة، بشكل حاد لا تعرفه البلدان الأخرى» (ص 4 من طبعة سنة 1907).
لقد شاخت الملاحظة الأخيرة ما دام ثمة انقطاع قد وقع منذ سنة 1871 في نضال البروليتاريا الفرنسية الثوري، رغم أن هذا الانقطاع، مهما كان طويلا، لا ينفي البتة احتمال أن فرنسا ستبرز في الثورة البروليتارية المقبلة باعتبارها البلد الكلاسيكي لنضال الطبقات حتى نهايته الفاصلة.
ولكن لنلق نظرة عامة على تاريخ البلدان المتقدمة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.إننا نرى أن العملية نفسها قد جرت بصورة أبطأ وبأشكال أكثر تنوعا وعلى مسرح أوسع جدا: من جهة، عملية تكوّن «السلطة البرلمانية» سواء في البلدان الجمهورية (فرنسا، أمريكا، سويسرا) أو في البلدان الملكية (انكلترا، ألمانيا لحد ما، إيطاليا والبلدان السكاندينافية، الخ.)، ومن الجهة الأخرى، عملية النضال من أجل السلطة بين مختلف أحزاب البرجوازية والبرجوازية الصغيرة التي كانت تقتسم وتعيد اقتسام «غنيمة» المقاعد في الدواوين مع بقاء أسس النظام البرجوازي هي هي، أخيرا، عملية اتقان وتوطيد «السلطة التنفيذية»، جهازها الدواويني والعسكري.
وما من شك في أن تلك هي السمات العامة للتطور الحديث كله للدول الرأسمالية بوجه عام. خلال ثلاث سنوات، 1848-1852، أظهرت فرنسا بشكل سريع وحاد ومركز نفس مجريات التطور الملازم للعالم الرأسمالي بأكمله.
والإمبريالية على الأخص –وهي عصر الرأسمال البنكي، عصر الاحتكارات الرأسمالية العملاقة، عصر صيرورة الرأسمالية الاحتكارية إلى رأسمالية الدولة الاحتكارية- تظهر تعزز «آلة الدولة»لحد خارق واتساع جهازها الدواويني والعسكري اتساعا منقطع النظير من جراء تشديد القمع الموجه ضد البروليتاريا إن في البلدان الملكية أو في البلدان الأوسع حرية، أي البلدان الجمهورية.
إن التاريخ العالمي يدفع الآن دون شك، في نطاق أوسع بما لا يقاس من سنة 1852، إلى «تركيز جميع قوى» الثورة البروليتارية على «تدمير» آلة الدولة.
أما بم تستعيض عنها البروليتاريا فقد أعطت كومونة باريس مادة حافلة بالعبر في هذا الخصوص.
3-وضع ماركس للمسألة في سنة 1852*
في سنة 1907، نشر مهرينغ في مجلة «Neue Zeit» («نويه تسايت») (25،2،164) فقرات من رسالة وجهها ماركس إلى فيديميير في 5 مارس سنة 1852. وقد تضمنت الرسالة فيما تضمنت المحاكمة الرائعة التالية:
«وفيما يخصني ليس لي لا فضل اكتشاف الطبقات في المجتمع المعاصر ولا فضل اكتشاف صراعها. فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون برجوازيون بسطوا التصور التاريخي لصراع الطبقات هذا، واقتصاديون برجوازيون بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي. وما أعطيته من جديد يتلخص في إقامة البرهان على ما يأتي: 1) أن وجود الطبقات لا يقترن إلاّ بمراحل معينة من تطور الإنتاج (historische Entwicklungsphasen der Produktion)، 2) أن النضال الطبقي يفضي بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا، 3) أن هذه الديكتاتورية نفسها ليست غير الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات وإلى المجتمع الخالي من الطبقات…»
في هذه الكلمات تيسر لماركس أن يفصح بجلاء مدهش، أول، عنا يميز تعاليمه بصورة رئيسية وجذرية عن تعاليم مفكري البرجوازية المتقدمين والأكثر عمقا، وثانيا، عن كنه تعاليمه بشأن الدولة.
الأمر الرئيسي في تعاليم ماركس هو النضال الطبقي. هذا ما يقال وما يكتب بكثرة كثيرة. بيد أن هذا غير صحيح. وعن عدم الصحة هذه تنتج، الواحد بعد الآخر، التشويهات الانتهازية للماركسية وينتج تزويرها بحيث تصبح مقبولة للبرجوازية. ذلك لأن التعاليم بشأن النضال الطبقي لم توضع من قبل ماركس، وهي بوجه عام مقبولة للبرجوازية. ومن لا يعرف نضال الطبقات ليس بماركسي بعد، وقد يظهر أنه لم يخرج بعد عن نطاق التفكير البرجوازي والسياسة البرجوازية. إن حصر الماركسية في التعاليم بشأن النضال الطبقي يعني بتر الماركسية وتشويهها وقصرها على ما تقبله البرجوازية. ليس بماركسي غير الذي يعمم اعترافه بالنضال الطبقي على الاعتراف بديكتاتورية البروليتاريا. وهذا ما يميز بصورة جوهرية الماركسي عن البرجوازي الصغير (وحتى الكبير) العادي. وعلى هذا المحك ينبغي التحقيق من الفهم الحق للماركسية والاعتراف الحق بها. ولا غرو إذن، عندما وصل تاريخ أوروبا عمليا بالطبقة العاملة إلى هذه المسألة، إذا كان جميع الانتهازيين والإصلاحيين ناهيك عن جميع «الكاوتسكيين» (وهم أناس يترددون بين الإصلاحية والماركسية) قد أصبحوا تافهين يرثى لهم وديموقراطيين صغار بورجوازيين ينكرون ديكتاتورية البروليتاريا. فكراسة كاوتسكي «ديكتاتورية البروليتاريا» التي صدرت في غشت سنة 1917، أي بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب بوقت طويل، هي نموذج لتشويه الماركسية على نمط صغار البرجوازيين وللتبرؤ منها بحطة فعلا من الاعتراف بها بالقول نفاقا (راجع كراسي: «الثورة الاشتراكية والمرتد كاوتسكي»، بتروغراد وموسكو، سنة 1918).
إن الانتهازية المعاصرة بشخص ممثليها الرئيسي، الماركسي السابق كاوتسكي، تنطبق تماما على الوصف الذي أعطاه ماركس للموقف البرجوازي، لأن هذه الانتهازية تحصر نطاق الاعتراف بالنضال الطبقي في إطار العلاقات البرجوازية. (وضمن هذا النطاق، في إطاره، ما من ليبرالي مثقف يرفض «مبدئيا» الاعتراف بالنضال الطبقي!). إن الانتهازية لا توصل الاعتراف بالنضال الطبقي حتى الأمر الرئيسي بالذات، حتى مرحلة الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية، حتى مرحلة إسقاط البرجوازية والقضاء التام عليها. وفي الواقع لا بد لهذه المرحلة من أن تكون مرحلة نضال طبقي لا نظير لشدته، مرحلة تتخذ أشكاله فيها حدة منقطعة النظير، وبالتالي لا بد لدولة هذه المرحلة من أن تكون دولة ديموقراطية من نوع جديد (لأجل البروليتاريين والمعدمين بوجه عام) وديكتاتورية من نوع جديد (ضد البرجوازية).
وبعد. لن يتفهم فحوى تعاليم ماركس بشأن الدولة إلاّ أولئك الذين أدركوا أن ديكتاتورية الطبقة الواحدة ضرورية ليس فقط لكل مجتمع طبقي بوجه عام، ليس فقط للبروليتاريا التي أسقطت البرجوازية، بل أيضا لمرحلة تاريخية كاملة تفصل الرأسمالية عن «المجتمع اللا طبقي»، عن الشيوعية. إن أشكال الدولة البرجوازية في منتهى التنوع، ولكن كنهها واحد: فمجتمع هذه الدول هي بهذا الشكل أو ذاك وفي نهاية الأمر ديكتاتورية البرجوازية على التأكيد. ويقينا أن الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية لا بد وأن يعطي وفرة وتنوعا هائلين من الأشكال السياسية، ولكن فحواها سيكون لا محالة واحدا: ديكتاتورية البروليتاريا.
الدولة والثورة.
خبرة كومونة باريس سنة 1871. تحليل ماركس
1-بم تتلخص البطولة في محاولة الكومونيين؟ من المعروف أن ماركس قد حذر العمال الباريسيين قبل الكومونة بعدة أشهر، في خريف سنة 1870، مبرهنا أن محاولة إسقاط الحكومة تكون حماقة اليأس. ولكن عندما فرضت على العمال المعركة الفاصلة في مارس سنة 1871، وعندما قبلها هؤلاء وغدا الإنتفاض أمرا واقعا، حيا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماسة رغم نذير الشؤم. لم يتشبث ماركس بشجب دعي لحركة «جاءت في غير أوانيها» على غرار المرتد الروسي السيئ الشهرة عن الماركسية بليخانوف الذي كتب في نوفمبر سنة 1905 مشجعا نضال العمال والفلاحين، ثم، بعد ديسمبر سنة 1905، أخذ يصرخ على نمط الليبراليين: «ما كان علينا حمل السلاح».
ولكن ماركس لم يكتف بالإعجاب ببطولة الكومونيين الذين «هبوا لمهاجمة السماء» حسب تعبيره. ففي هذه الحركة الثورية الجماهيرية، وإن كانت لم تبلغ الهدف، قد رأى خبرة تاريخية ذات أهمية كبرى، خطوة معينة إلى الأمام تخطوها الثورة البروليتارية العالمية، خطوة عملية أهم من مئات البرامج والمحاكمات. وقد وضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه الخبرة واستخلاص الدروس التكتيكية منها وإعادة النظر في نظريته على أساس هذه الخبرة.
«فالتعديل» الوحيد الذي اعتبر ماركس من الضروري إدخاله على «البيان الشيوعي» قد استوحاه من خبرة الكومونيين الباريسيين الثورية.
إن آخر مقدمة لطبعة ألمانية جديدة من «البيان الشيوعي» وقعها مؤلفاه معا تحمل تاريخ 24 يونيو سنة 1872. وفي هذه المقدمة يقول المؤلفان كارل ماركس وفريدريك إنجلس أم برنامج «البيان الشيوعي» «قد شاخ اليوم في بعض أماكنه».
«… وبوجه خاص برهنت الكومونة أن «الطبقة العاملة لا تستطيع أن تكتفي بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة وأن تحركها لأهدافها الخاصة» …»
والكلمات الموضوعة ضمن القوسين المزدوجين في هذا المقتطف قد اقتبسهما المؤلفات من كتاب ماركس: «الحرب الأهلية في فرنسا».
وهكذا، إن ماركس وإنجلس قد اعتبرا درسا من الدروس الأساسية الرئيسية التي أعطتها كومونة باريس على درجة من الجسامة بحيث أدخلاه في «البيان الشيوعي» باعتباره تعديلا جوهريا.
ومما هو بليغ في مدلوله أن الإنتهازيين قد شوهوا هذا التعديل الجوهري بالذات، وأن تسعة أعشار قراء «البيان الشيوعي»، إن لم يكن تسعة وتسعين بالمائة منهم، يجهلون التأكيد على معناه. وسنتناول هذا التشويه بالتفصيل فيما يأتي، في فصل خاص بالتشويهات. أمّا هنا فحسبنا أن نشير إلى أن «المفهوم» المبتذل الشائع لعبارة ماركس المعروفة التي أوردناها يتلخص في زعم مفاده أن ماركس يؤكد هنا فكرة التطور البطيء خلافا للاستيلاء على السلطة وهلم جرا.
والحقيقة هي العكس تماما. تتلخص فكرة ماركس في أن واجب الطبقة العاملة هو تحطيم «آلة الدولة الجاهزة» وكسرها، لا الإكتفاء بمجرد الاستيلاء عليها.
ففي الثاني عشر من أبريل سنة 1871، أي في أيام الكومونة بالذات، كتب ماركس إلى كوغلمان:
«… إذا ما ألقيت نظرة إلى الفصل الأخير من كتابي «18 برومير» رأيت أني أعلنت أن المحاولة التالية للثورة الفرنسية يجب أن تكون لا نقل الآلة البيروقراطية العسكرية من يد إلى أخرى كما كان يحدث حتى الآن، بل تحطيمها» (التشديد لماركس. وفي الأصل كلمة zerbrechen). «وهذا هو الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقا في القارة. وفي هذا بالذات تتلخص محاولة رفاقنا الباريسيين الأبطال» (ص 709 في «Neue Zeit»، 20، 1، سنة 1901-1902). (صدرت رسائل ماركس إلى كوغلمان بالروسية فيما لا يقل عن طبعتين أشرفت على تحرير احداهما وقدمت لها).
في هذه الكلمات: «تحطيم الآلة الدولة البيروقراطية العسكرية» أعرب بإيجاز عن درس الماركسية الرئيسي بشأن واجبات البروليتاريا في الثورة حيال الدولة. وهذا الدرس بالذات لم يقتصر «تأويل» الماركسية الكاوتسكي السائد على نسيانه تماماً بل وشوهه تشويها!
وفيما يخص الفقرة التي يرجع إليها ماركس من «18 برومير» فقد أوردناها كاملة فيما تقدم.
وتنبغي الإشارة بوجه خاص إلى نقطتين من فقرة ماركس المذكورة. أولا، أنه يقتصر استنتاجه على القارة. وقد كان هذا مفهوما سنة 1871، عندما كانت إنجلترا ما تزال نموذجا لبلاد رأسمالية صرف، ولكنها خالية من الطغمة العسكرية ولحد بعيد من البيروقراطية. ولذا استثنى ماركس إنجلترا حيث كانت الثورة، بما في ذلك الثورة الشعبية، تبدو آنذاك ممكنة، وكانت ممكنة بدون تحطيم «آلة الدولة الجاهزة» كشرط أولي.
في الوقت الحاضر، في سنة 1917، في عصر أول حرب إمبريالية كبرى، يسقط تحديد ماركس هذا. فإنجلترا وأمريكا، أكبر وآخر ممثلي «الحرية» الأنجلو-سكسونية في العالم قاطبة، بمعنى انعدام الطغمة العسكرية والبيروقراطية، قد انزلقتا بصورة تامة في المستنقع الأوروبي العام، المستنقع القذر والدامي للمؤسسات البيروقراطية والعسكرية التي تخضع لنفسها كل شيء، وتخمد كل شيء. «فالشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقاً» هو، في الوقت الحاضر، في إنجلترا وأمريكا كذلك، تحطيم وتدمير «آلة الدولة الجاهزة» (التي أعدت في هذين البلدين خلال سنوات 1914-1917 لدرجة الكمال «الأوروبي»، الامبريالي العام).
ثانيا، تستحق انتباها خاصا ملاحظة ماركس العميقة منتهى العمق القائلة أن تحطيم آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية هو «الشرط الأولي لكل ثورة شعبية حقا». ويبدو مفهوم الثورة «الشعبية» هذا مستغربا على لسان ماركس. ويبدو أن بإمكان البليخانوفيين والمناشفة الروس، اتباع ستروفه هؤلاء الذين يريدون أن يُعتبروا ماركسيين، فقد شوهوا الماركسية تشويها ليبراليا حقيرا بحيث لم يعودوا يرون معه غير معارضة الثورة البرجوازية بالثورة البروليتارية، وهم فوق ذلك يفهمون هذا التعارض بجمود ما بعده جمود.
إذا ما أخذنا على سبيل المثل ثورات القرن العشرين فلا بد من الاعتراف طبعا بأن الثورتين البرتغالية والتركية هما على حد سواء ثورتان برجوازيتان. ولكن لم تكن لا هذه ولا تلك ثورة «شعبية» لأن جمهور الشعب، أكثريته الكبرى، لم تبرز بصورة ملحوظة، نشيطة ومستقلة، بمطالبها الخاصة الاقتصادية والسياسية لا في هذه الثورة ولا في تلك. وبالعكس فإن الثورة البرجوازية الروسية في سنوات 1905-1907، وإن كانت لم تصب من النجاحات «الباهرة» ما أصابته أحيانا الثورتان البرتغالية والتركية، قد كانت دون شك «شعبية حقا»، لأن جمهور الشعب، أكثريته، فئاته الاجتماعية «السفلى» البعيدة الغور والرازحة تحت وطأة الظلم والاستثمار، قد نهضت مستقلة وطبعت مجرى الثورة بأكمله بطابع مطالبها هي، بطابع محاولتها هي لأن تبني على طريقتها مجتمعا جديدا مكان المجتمع القديم الجاري هدمه.
في سنة 1871، لم تكن البروليتاريا تشكل أكثرية الشعب في أي بلد من بلدان القارة الأوروبية. لم تكن الثورة تستطيع أن تكون ثورة «شعبية» تجذب للحركة الأكثرية حقا، إلاّ إذا شملت البروليتاريا والفلاحين. فهاتان الطبقتان كانتا تؤلفان «الشعب» في ذلك الحين. ويوحد هاتين الطبقتين واقع أن «آلة الدولة البيروقراطية والعسكرية» تظلمهما، تضغط عليهما وتستثمرهما. وتحطيم هذه الآلة وكسرها هو مصلحة «الشعب» الحقيقية، مصلحة أكثريته، مصلحة العمال وأكثرية الفلاحين –هو «الشرط الأولي» للتحالف الحر بين فقراء الفلاحين والبروليتاريا؛ وبدون هذا التحالف لا تكون الديموقراطية وطيدة ولا يمكن التحول الاشتراكي.
ومن المعروف أن كومونة باريس كانت تشق طريقها إلى مثل هذا التحالف، وهي لم تبلغ الهدف بحكم جملة من أسباب ذات طابع داخلي وخارجي.
إذن، فعندما تكلم ماركس عن «الثورة الشعبية حقا»، راعى ببالغ الدقة النسبة الفعلية بين الطبقات في أكثرية دول القارة الأوروبية في سنة 1871، دون أن ينسى للحظة خصائص البرجوازية الصغيرة (الخصائص التي كثيرا ما تكلم عنها وأكثر عنها الكلام). وقد قرر، من الجهة الأخرى، أن «تحطيم» آلة الدولة نفرضه مصالح العمال ومصالح الفلاحين على السواء وأنه يوحدهم ويضع أمامهم واجبا مشتركا هو القضاء على «الطفيلي» والاستعاضة عنه بشيء ما جديد.
بأي شيء على وجه التحقيق؟
2- بم يستعاض عن آلة الدولة المحطمة؟
في سنة 1847، لم يعط ماركس في «البيان الشيوعي» عن هذا السؤال غير جواب مجرد جدا، أو بالأصح، أعطى جوابا يشير إلى المهام لا إلى طريق حلها. فقد كان جواي «البيان الشيوعي» هكذا: الاستعاضة عنها «بتنظيم البروليتاريا في طبقة سائدة»، «بالظفر بالديموقراطية».
لم ينسق ماركس مع الخيال وانتظر من خبرة الحركة الجماهيرية أن تجيب على السؤال: ما هي الأشكال الملموسة التي سيتخذها تنظيم البروليتاريا بوصفها طبقة سائدة وبأية صورة سيقترن هذا التنظيم مع «بالظفر بالديموقراطية» الأتم والأكمل.
وفي كتاب «الحرب الأهلية في فرنسا» يحلل ماركس أدق التحليل خبرة الكومونة على ضآلة هذه الخبرة. فلنورد أهم الفقرات من هذا المؤلف:
في القرن التاسع عشر، تطورت «سلطة الدولة المتمركزة مع أجهزتها المنتشرة في كل مكان: الجيش النظامي والشرطة والبيروقراطية والاكليروس والفئة القضائية»، هذه السلطة المتحدرة من القرون الوسطى. ومع اشتداد التناحر الطبقي بين رأس المال والعمل، «كانت سلطة الدولة تتخذ أكثر فأكثر طابع سلطة عامة لظلم العمل، طابع أداة للسيطرة الطبقية. وبعد كل ثورة تشكل خطوة معينة إلى الأمام خطاها النضال الطبقي يتجلى طابع الاضطهاد المحض لسلطة الدولة على نحو أوضح فأوضح». وبعد ثورة سنتي 1748-1849، غدت سلطة الدولة «آلة قومية لحرب الرأسمال ضد العمل». وجاءت الإمبراطورية الثانية توطد ذلك.
«كانت الكومونة النقيض المباشر للإمبراطورية». «فقد كانت شكلا معينا» «لجمهورية ينبغي لها أن تزيل لا الشكل الملكي للحكم الطبقي فحسب، بل أيضا الحكم الطبقي ذاته…»
بمَ على وجه التدقيق، ظهر هذا الشكل «المعين» للجمهورية البروليتارية، الاشتراكية؟ وكيف كانت الدولة التي شرعت بتأسيسها؟
«… كان أول مرسوم أصدرته الكومونة يقضي بإلغاء الجيش النظامي والاستعاضة عنه بالشعب المسلح…»
وهذا المطلب يرد الآن في برامج جميع الأحزاب التي تريد أن تدعي اشتراكية. ولكن تظهر قيمة برامجها بالشكل الأوضح من سلوك الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة عندنا، إذ أنهم تخلوا في الواقع عن تنفيذ هذا المطلب عقب ثورة 17 فبراير بالذات!
«… لقد تشكلت الكومونة من نواب البلدية الذين تم انتخابهم عن طريق الاقتراع العام في مختلف دوائر باريس. كانوا مسؤولين وكان يمكن سحبهم في أي وقت كان.وكانت أكثريتهم، بطبيعة الحال، من العمال أو من ممثلي الطبقة العاملة المعترف بهم…
… والشرطة التي كانت حتى ذلك الحين أداة في يد الحكومة المركزية جردت في الحال من جميع وظائفها السياسية وحولت إلى هيئة للكومونة مسؤولة يمكن تبديلها في أي وقت كان… وهكذا كان الحال أيضا بالنسبة لموظفي سائر فروع الإدارة…ومن فوق إلى أسفل، ابتداء من أعضاء الكومونة كان يتعين أداء الخدمة العامة لقاء أجرة تساوي أجرة عامل. وقد أزيلت جميع الامتيازات وعلاوات التمثيل التي كان يتقاضاها كبار موظفي الدولة مع زوال هؤلاء الموظفين… وبعد أن زالت الكومونة الجيش النظامي والشرطة، وهما أداتا الحكم المادي في يد الحكومة القديمة، أخذت في الحال تكسر أداة الاستعباد الروحي، قوة الكهنة… وفقد الموظفون القضائيون استقلالهم الصوري… وأصبح من المترتب عليهم أن يُنتخبوا علنا وأن يكونوا مسؤولين وقابلين للسحب…».
وهكذا يبدو أن الكومونة لم تستعيض عن آلة الدولة المحطمة «إلاّ» بديموقراطية أتم: القضاء على الجيش النظامي، مبدأ انتخاب وسحب جميع الموظفين. ولكن هذه الـ«الا» تعني في حقيقة الأمر تبديلا هائلا لنوع من مؤسسات بنوع آخر يختلف اختلافا مبدئيا. نحن هنا في الحقيقة أمام حالة من حالات «تحول الكمية إلى كيفية»: فالديموقراطية المطبقة بأتم وأوفى شكل يمكن تصوره عموما تتحول من ديموقراطية برجوازية إلى ديموقراطية بروليتارية، من دولة (= قوة خاصة لقمع طبقة معينة) إلى شيء ليس الدولة بمفهومها.
إن قمع البرجوازية ومقاومتها كان ما يزال أمرا ضروريا وكانت هذه الضرورة تفرض ذاتها على الكومونة بوجه خاص. فأحد أسباب انهزامها يتلخص في كونها لم تقم بذلك بالحزم المطلوب. ولكن هيئة القمع تغدو في هذه الحالة أغلبية السكان، لا الأقلية كما كان الحال على الدوام في عهد نظام العبودية وفي عهد نظام القنانة وفي عهد عبودية العمل المأجور. وبما أن أغلبية الشعب تمارس بنفسها قمع ظالميها فلا تبقى ثمة حاجة إلى «قوة خاصة» للقمع! وبهذا المعنى تأخذ الدولة بالإضمحلال. وبدلا من المؤسسات الخاصة العائدة للقيام بذلك بصورة مباشرة؛ وبقدرما يتخذ القيام بوظائف سلطة الدولة طابعا شعبيا أشمل بمقدار ما تقل الحاجة إلى هذه السلطة.
إن التدبير الذي اتخذته الكومونة وأشار إليه ماركس هو رائع جدا بهذا الصدد: إلغاء كل علاوات التمثيل، إلغاء جميع امتيازات الموظفين في الدولة إلى مستوى «أجرة العامل». وبهذا بالذات يتجلى بأوضح ما يكون الإنعطاف من الديموقراطية البرجوازية إلى الديموقراطية البروليتارية، من ديموقراطية الظالمين إلى ديموقراطية الطبقات المظلومة، من الدولة بوصفها «قوة خاصة» لقمع طبقة معينة إلى قمع الظالمين بمجموع قوة أغلبية الشعب: العمال والفلاحين.وهنا، في هذه النقطة بالذات من مسألة الدولة، التي هي الأبرز ولعلها الأهم بين جميع النقاط، بلغ نسيان دروس ماركس حده الأقصى! لا ينبسون ببنت شفة عن هذا الأمر فيما ينشرونه من تعليقات مبسطة عديدة لا تحصى. فمن «المألوف» لزوم الصمت عن ذلك كما يلزم الصمت عن «سذاجة» عفا عليها الزمن مثلما «نسي» المسيحيون، عندما غدا دينهم دين الدولة، «سذاجات» مسيحية العهد الأول مع روحها الثورية الديموقراطية.
تخفيض رواتب كبار الموظفين في جهاز الدولة يبدو «مجرد» مطلب من مطالب ديموقراطية ساذجة، بدائية. إن أحد «مؤسسي» الانتهازية الحديثة، الإشتراكي-الديموقراطي سابقا، إد. برنشتين، قد لاك مرارا وكرر التهكمات البرجوازية الحقيرة على الديموقراطية «البدائية». فهو كشأن جميع الانتهازيين وكشأن الكاوتسكيين الحاليين لم يفهم بتاتا، أولا، أن الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية يستحيل بدون «عودة» ما إلى الديموقراطية «البدائية» (وإلاّ كيف يمكن الانتقال إلى قيام أكثرية السكان والسكان عن آخرهم بوظائف الدولة؟)، وثانيا، أن «الديموقراطية البدائية» على أساس الرأسمالية والحضارة الرأسمالية تختلف عن الديموقراطية البدائية في العهود البدائية أو عهود ما قبل الرأسمالية. فقد خلقت الحضارة الرأسمالية الإنتاج الضخم، والمعامل والسكك الحديدية والبريد والتلفون وما شاكل ذلك، وعلى هذا الأساس بلغت الأكثرية الكبرى من وظائف «سلطة الدولة» القديمة درجة من البساطة وغدا بالإمكان تحويلها إلى عمليات من التسجيل والتدوين والتثبيت على درجة من السهولة بحيث تصبح تماما في منال جميع الذين يحسنون القراءة والكتابة، بحيث يمكن تماما القيام بهذه الوظائف مقابل «أجرة عامل» المعتادة، ويمكن ويجب تجريد هذه الوظائف من أي ظل لطابع امتياز و«ترؤس».
انتخاب جميع الموظفين دون استثناء وإمكانية سحبهم في كل لحظة وإنقاص رواتبهم حتى «أجرة العامل» المعتادة، هذه التدابير الديموقراطية البسيطة و«البديهية» التي توحد تماما مصالح العمال وأكثرية الفلاحين هي في الوقت نفسه جسر الإنتقال من لرأسمالية إلى الإشتراكية. وهذه التدابير تتعلق بإعادة تنظيم الدولة، بإعادة تنظيم المجتمع من الناحية السياسية الصرف ولكنها لا تكسب بطبيعة الحال كل مغزاها وأهميتها إلاّ في حالة تحقيق أو تحضير «مصادرة ملكية مغتصبي الملكية»، أي تحويل الملكية الخاصة الرأسمالية لوسائل الإنتاج إلى ملكية إجتماعية.
وقد كتب ماركس:
«لقد جعلت الكومونة من ذلك الشعار الذي نادت به جميع الثورات البرجوازية –الحكومة القليلة النفقات- حقيقة، وذلك بإلغاء أكبر بابين من أبواب النفقات: الجيش النظامي وسلك الموظفين».
ليس غير نفر ضئيل من الفلاحين والفئات البرجوازية الصغيرة الأخرى يستطيع أن «يترقى» و«يصبح من الناس المحترمين» بالمعنى البرجوازي للكلمة، أي أن يصبح أمّا من الميسورين، البرجوازيين، وأمّا من الموظفين الميسورين المميزين. أمّا الأكثرية الكبرى من الفلاحين في أي بلد رأسمالي يوجد فيه الفلاحون (ومثل هذه البلدان الرأسمالية هي الأكثرية) فهي تلاقي الظلم من الحكومة وهي متعطشة إلى إسقاطها، متعطشة إلى حكومة «رخيصة». ولا يستطيع تحقيق ذلك غير البروليتاريا، وهي بتحقيقها لذلك تخطو في الوقت نفسه خطوة نحو إعادة تنظيم الدولة على أساس الاشتراكي.
3-إلغاء البرلمانية
لقد كتب ماركس: «وكان يراد بالكومونة أن تكون لا هيئة برلمانية، بل هيئة عاملة تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت عينه…
…وبدلا من البت مرة كل ثلاث سنوات أو ست في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة المسيطرة يجب أن يمثل ويقمع (ver-und zertreten) الشعب في البرلمان، كان يجب على حق الانتخاب العام، بدلا من ذلك، أن يخدم الشعب، المنظم في الكومونة قصد البحث لمؤسسته عن عمال ومراقبين ومحاسبين، كما يخدم حق الانتخاب الفردي لهذا الغرض أياً كان من أرباب العمل».
إن هذا النقد الرائع للبرلمانية، المكتوب في سنة 1871، قد غدا الآن هو الآخر، بفضل سيطرة الاشتراكية-الشوفينية والانتهازية، وفي عداد «الكلمات المنسية» من الماركسية. أن الوزراء والبرلمانيين، وعلى هذا الأساس المعقول لحد خارق نعتوا «بالفوضوية»كل انتقاد للبرلمانية!! فلا غرو إذا كانت بروليتاريا البلدان البرلمانية «الطليعية» تشمئز من رؤية «الاشتراكيين» من أمثال شيدمان ودافيد وليغين وسامبا ورينوديل وهندرسون وفانرفيلده وستاونينغ وبرانتينغ وبيسولاتي وأضرابهم وشركاهم وتميل أكثر فأكثر بعواطفها إلى السينديكالية الفوضوية، رغم أن هذه كانت شقيقة الانتهازية.
بيد أن الدياليكتيك الثوري لم يكن قط في نظر ماركس عبارة فارغة، على الموضة، لم يكن مسبحة للطقطقة كما صيّره بليخانوف وكاوتسكي وأضرابهما. فكان ماركس يحسن القطيعة مع الفوضوية دونما إشفاق لعجزها عن الإستفادة حتى من «حظيرة» البرلمانية البرجوازية ولا سيما حينما يكون من البين عدم وجود وضع ثوري، ولكنه في الوقت نفسه قد أحسن كذلك انتقاد البرلمانية انتقادا بروليتاريا ثوريا حقا.
البت مرة كل عدة سنوات في مسألة معرفة أي عضو من الطبقة السائدة سيقوم بقمع الشعب في البرلمان، -هذا هو الجوهر الحقيقي للبرلمانية البرجوازية، ليس فقط في المَلكيات البرلمانية الدستورية، بل كذلك في الجمهوريات الأوسع ديموقراطية.
ولكن إذا ما طرحت مسألة الدولة، وإذا ما نظر المرء إلى البرلمانية على أنها مؤسسة من مؤسسات الدولة، من وجهة نظر مهام البروليتاريا في هذا الحقل، فأين المخرج من البرلمانية؟ وكيف يمكن الاستغناء عنها؟
لا بد لنا من أن نقول وأن نكرر القول: أن دروس ماركس القائمة على دراسة الكومونة قد نسيت لحد جعل «الاشتراكي-الديموقراطي» الحالي (اقرأ: خائن الاشتراكي الحالي) لا يفهم بتاتا أي انتقاد للبرلمانية غير الانتقاد الفوضوي أو الرجعي.
المخرج من البرلمانية ليس بطبيعة الحال في إلغاء المؤسسات التمثيلية والمبدأ الانتخابي، بل في تحويل المؤسسات التمثيلية من ندوات للثرثرة إلى مؤسسات «عاملة». «كان يراد بالكومونة أن تكون لا هيئة برلمانية، بل هيئة تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت عينه».
مؤسسة «غير برلمانية، بل مؤسسة عاملة». ‘ن هذا القول قد فقأ عيون البرلمانيين المعاصرين و«كلاب الصالونات» البرلمانية للاشتراكية-الديموقراطية بالذات! امعنوا النظر في أي بلد برلماني من أمريكا حتى سويسرا ومن فرنسا حتى انجلترا والنروج وغيرها، تروا أن عمل «الدولة» الحقيقي يجري وراء الكواليس وتنفذه الدواويني والمكاتب وهيئات الأركان. ففي البرلمانات يكتفون بالهذر بقصد معين هو خداع «العامة». وهذا صحيح لدرجة أن جميع سوآت البرلمانية هذه قد برزت حالا حتى في الجمهورية الروسية، وهي جمهورية برجوازية ديموقراطية، قبل أن يتسنى لها تكوين برلمان حقيقي. فأبطال البرجوازية الصغيرة المتعفنة من أضراب سكوبيليف وتسيريتيلي وتشيرنوف وأفكسنتييف قد استطاعوا تقبيح السوفييتات أيضا على نمط البرلمانية البرجوازية وذلك بجعلها ندوات للهذر الفارغ. إن السادة الوزراء «الاشتراكيين» يخدعون في السوفييتات الفلاحين السريعي التصديق بطنين عباراتهم وقراراتهم. وفي الحكومة تتغير المشاهد دون انقطاع، من جهة، ليجلس بالتناوب على «مائدة» المقاعد المدرارة والمشرفة أكبر عدد ممكن من الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة، ومن الجهة الأخرى، بقصد «تحويل أنظار» الشعب. أمّا في الدواوين وفي مقرات الأركان «فينهمكون» في أعمال «الدولة»!
لأمد قريب كتبت جريدة «ديلو نارودا»، لسان حال حزب «الاشتراكيين-الثوريين» الحاكم، معترفة في مقال افتتاحي لهيئة التحرير –معترفة بقحة أعضاء «البيئة الطيبة» التي يتعاطى فيها «الجميع» الدعارة السياسية- بأن جهاز الموظفين بأكمله ظل في الجوهر ودونما تغيير حتى في الوزارات العائدة «للاشتراكيين» (ولا مؤاخذة على هذا التعبير!) وبأنه يعمل على النمط القديم ويعرقل «بكل حرية» المبادرات الثورية! وعلى فرض أن هذا للاعتراف لم يوجد، أفلا يبرهن على ذلك واقع اشتراك الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة الفعلي في الحكومة؟ والبعيد الدلالة هنا واقع وحيد، هو أن السادة تشيرنوف وروسانوف وزينزينوف وأضرابهم من محرري «ديلو نارودا» الموجودين بجمعية الديموقراطيين الدستوريين (الكاديت) في الوزارة قد فقدوا الحياء لحد غدوا معه لا يستحون من أن يعلنوا إلى الملأ دون أن تعلو وجوههم حمرة الخجل كأنما يعلنون أمرا تافها، إن كل شيء يجري على النمط القديم «عندهم» في الوزارات!! العبادة الديموقراطية الثورية لخداع سذج الأرياف، ومماطلات الدواوين البيروقراطية «لإرضاء» الرأسماليين-هذا هو فحوى الإئتلاف «الشريف».
لقد استعاضت الكومونة عن برلمانية المجتمع البرجوازي المرتشية والمتعفنة بمؤسسات لا تنحط فيها حرية الرأي والبحث إلى خداع، لأنه يتوجب على البرلمانيين أن يعملوا هم أنفسهم، أن ينفذوا قوانينهم بأنفسهم، أن يتحققوا بأنفسهم من نتائجها العملية، أن يقدموا الحساب مباشرة لناخبيهم. تبقى المؤسسات التمثيلية، ولكن البرلمانية باعتبارها نظاما خاصا، باعتبارها فصلا للعمل التشريعي عن التنفيذي، باعتبارها وضعا ممتازا للنواب، تنعدم هنا. لا يمكننا أن نتصور الديموقراطية، وحتى الديموقراطية البروليتارية، بدون مؤسسات تمثيلية؛ ولكن يمكننا ومن واجبنا أن نتصورها بدون البرلمانية إذا لم يكن انتقاد المجتمع البرجوازي في نظرنا مجرد عبارات فارغة، وإذا كان طموحنا إلى إسقاط سيطرة البرجوازية صادقا وجديا، لا عبارة «انتخابية» لتصيد أصوات العمال كما هو حال المناشفة والاشتراكيين-الثوريين، كما هو حال شيدمان وليغين وسامبا وفانرفيلده، ومن لف لفهم.
والبليغ أبلغ الدلالة أن ماركس، عندما تكلم عن وظائف أولئك الموظفين الذين تحتاج إليهم الكومونة وكذلك الديموقراطية البروليتارية، أخذ للمقارنة المستخدمين عند «أي كان من أرباب العمل»، أي معملا رأسماليا معتادا بما فيه من «عمال ومراقبين ومحاسبين».
إن ماركس براء كليا من الطوباوية، بمعنى أنه لا يختلق، لا يتخيل مجتمعا «جديدا». كلا. يدرس، كما يدرس مجرى التاريخ الطبيعي، ولادة المجتمع الجديد من القديم وأشكال الانتقال من هذا إلى ذاك. وهو يأخذ الخبرة العملية للحركة البروليتارية الجماهيرية، ويسعى ليستخلص منها الدروس العملية. وهو «يتعلم» من الكومونة على غرار جميع المفكرين الثوريين العظام الذين لم يتهيبوا التعلم من خبرة الحركات الكبرى التي قامت بها الطبقة المظلومة ولم يلقوا عليها «المواعظ» بعجرفة المتزاهي بعمله (على غرار موعظة بليخانوف: «ما كان ينبغي حمل السلاح» أو موعظة تسيرتيلي: «من واجب الطبقة أن تلزم حدها»).
لا يمكن أن تطرح مسألة القضاء على الدواوينية دفعة واحدة، وفي كل مكان وبصورة تامة. إن هذا من الطوباويات. ولكن تكسير الآلة الدواوينية القديمة دفعة واحدة والشروع دونما إبطاء ببناء آلة جديدة تمكن من القضاء بصورة تدريجية على واجب البروليتاريا الثورية المباشر.
تبسط الرأسمالية وظائف إدارة «الدولة»، وهي تمكن من حصر الأمر كله في منظمة البروليتاريين (بوصفهم الطبقة السائدة)، التي تستأجر باسم المجتمع كله «العمال والمراقبين والمحاسبين».
نحن لسنا طوبويين. نحن لا «نحلم» بالاستغناء دفعة واحدة عن كل إدارة، عم كل خضوع. فهذه الأحلام الفوضوية الناشئة عن عدم فهم مهام ديكتاتورية البروليتاريا هي غريبة تماما عن الماركسية ولا تفعل في الواقع غير تأجيل الثورة الاشتراكية إلى أن يصبح الناس غير ما هم عليه. لا. نحن نريد الثورة الاشتراكية مع الناس على ما هم عليه اليوم، مع هؤلاء الناس الذين لا يستطيعون الاستغناء عن الخضوع، عن المراقبة، عن «المراقبين والمحاسبين».
ولكن ينبغي الخضوع للطليعة المسلحة، لطليعة جميع المستثثمَرين وجميع الشغيلة، للبروليتاريا. يمكن وينبغي أن يشرع على الفور، بين عشية وضحاها، بالاستعاضة عن «ترؤس» موظفي الدولة المتميز بوظائف «المراقبين والمحاسبين» البسيطة، بوظائف هي منذ اليوم كليا في مستوى تطور سكان المدن بوجه عام ويمكن القيام بها تماما مقابل «أجرة عامل».
سننظم الإنتاج الكبير انطلاقا مما أنشأته الرأسمالية وسنقوم نحن العمال بأنفسنا، مستندين إلى خبرتنا العمالية وواضعين انضباطا صارما جدا، انضباطا حديديا تدعمه سلطة الدولة للعمال المسلحين، بحصر دور موظفي الدولة في دور مجرد منفذين لما تكلفهم به، في دور «مراقبين ومحاسبين» (طبعا، مع التكنيكيين من جميع الأصناف والأنواع والدرجات) يتحملون المسؤولية ويمكن سحبهم ويتقاضون رواتب متواضعة. هذه هي مهمتنا البروليتارية، هذا ما يمكن وما يجب أن نبدأ به عند القيام بالثورة البروليتارية. وهذه البداية القائمة على الإنتاج الضخم تؤدي بطبيعة الحال إلى «اضمحلال» الدواوينية كلها بصورة تدريجية، تؤدي بصورة تدريجية إلى نشوء نظام –نظام بدون معترضتين، نظام لا يشبه عبودية العمل المأجور- يجري فيه تحقيق وظائف المراقبة والمحاسبة التي تغدو أبسط فأبسط من قبل الجميع بالتناوب ثم تغدو هذه الوظائف عادة لتزول في النهاية باعتبارها وظائف خاصة تقوم بها فئة خاصة من الناس.
إن أحد الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان الأذكياء من تسعينات القرن الماضي قد نعث دائرة البريد بنموذج للمشروع الاشتراكي. وهذا صحيح كل الصحة. فالبريد هو الآن منظم على طراز احتكار رأسمالية الدولة. والإمبريالية تحول بالتدريج جميع التروستات إلى مشاريع من هذا الطراز. فالشغيلة «البسطاء» الغارقون في العمل حتى الآذان والجياع تتربع فوقهم فيها البيروقراطية البرجوازية عينها. ولكن آلية الإدارة الاجتماعية هي في هذه المشاريع جاهزة. فما أن يسقط الرأسماليون وتحطم يد العمال المسلحين الحديدية مقاومة هؤلاء المستثمِرين وتكسر الآلة البيروقراطية للدولة الراهنة حتى نرى أمامنا آلة محررة من «الطفيلي» ومجهزة أحسن تجهيز من الناحية التكنيكية يستطيع العمال المتحدون أنفسهم تشغيلها على خير وجه باستئجار الخبراء الفنيين والمراقبين والمحاسبين مكافئينهم على عملهم جميعهم شأنهم شأن جميع موظفي «الدولة» على العموم بأجرة عامل. هذه هي المهمة العملية الملموسة الممكنة التحقيق على الفور حيال جميع التروستات، المهمة التي تخلص الشغيلة من الاستثمار وتأخذ بعين الاعتبار التجربة التي قد بدأتها الكومونة عمليا (ولا سيما في حقل بناء الدولة).
تنظيم الاقتصاد الوطني برمته على نمط البريد على أن لا تزيد رواتب الخبراء الفنيين والمراقبين المحاسبين، شأنهم شأن جميع الموظفين، على «أجرة العامل»، وذلك تحت رقابة وقيادة البروليتاريا المسلحة، -هذا هو هدفنا المباشر. هذه هي الدولة التي نحتاج إليها. وهذا هو الأساس الاقتصادي الذي ينبغي أن تقوم عليه. وهذا ما سيسفر عنه القضاء على البرلمانية والحفاظ على المؤسسات التمثيلية. وهذا ما سيخلص الطبقات الكادحة من تعهير هذه المؤسسات من قبل البرجوازية.
4-تنظيم وحدة الأمة
«…وقد ورد بوضوح تام في موجز التنظيم القومي الذي لم يتوفر للكومونة الوقت لوضعه بتفصيل أكبر، إن الكومونة يجب أن … تصير الشكل السياسي حتى لأصغر قرية» …والكومونة هي التي كان عليها أن تنتخب «منتدبي الأمة» في باريس.
«…والوظائف القليلة، ولكنها الهامة جدا، التي كانت ستظل في يد الحكومة المركزية لم تكن لتلغى، -ومثل هذا الزعم كان تزويرا عن عمد- بل كان يجب نقلها إلى موظفي الكومونة، أي إلى موظفين ذوي مسؤولية محددة تحديدا دقيقا…
… ووحدة الأمة لم تكن لتفصم، بل بالعكس كانت ستنظم عن طرق البناء الكوموني. وكان لوحدة الأمة أن تصبح حقيقة واقعة بالقضاء على سلطة الدولة التي كانت تدعي بأنها تجسيد لتلك الوحدة، ولكنها كانت ترغب في أن تكون مستقلة عن الأمة، مستعلية عليها. أمّا في الواقع، فلم تكن سلطة الدولة هذه إلاّ بمثابة الزائدة الطفيلية على جسم الأمة … وكانت المهمة هي بتر أجهزة الاضطهاد البحتة التابعة للسلطة الحكومية القديمة، وانتزاع الوظائف المعتادة من سلطة تطمع بأن تكون فوق المجتمع وتسليمها إلى خدم المجتمع المسؤولين».
إن كتاب المرتد برنشتين «ممهدات الاشتراكية ومهام الاشتراكية-الديموقراطية» الذي ذاع صيته على نمط هيراسترات يظهر لنا على الوجه الأوضح لأي مدى لم يفهم الانتهازيون في الاشتراكية-الديموقراطية المعاصرة –وقد يصح القول: لم يرغبوا في أن يفهموا- محاكمات ماركس هذه بالذات إن هذا البرنامج «من حيث مضمونه السياسي يشبه في جميع سماته الجوهرية شبها كبيرا جدا اتحادية برودون … ورغم كل الاختلافات بين ماركس و«البرجوازي الصغير» برودون (يضع برنشتين كلمتي «برجوازي صغير» بين قوسين مزدوجين ينبغي لهما حسب رأيه أن يضفيا على التعبير شيئا من النكهة) فإن مجرى التفكير عندهما في هذه النقاط متقارب لأقصى حد». وما من شك –يتابع برنشتين- في أن أهمية المجالس البلدية في ازدياد، ولكن «يبدو لي من المشكوك فيه أن يكون واجب الديموقراطية الأول إلغاء (Auflosung حرفيا: حل) الدول الحديثة وتغيير (Umwandlung: قلب) تنظيمها تغييرا تاما كما يتصور ماركس وبرودون، أي تشكيل مجلس الأمة من مندوبين عن مجالس الأقاليم أو المحافظات التي تتألف بدورها من مندوبين عن الكومونات، بحيث يزول بصورة تامة شكل التمثيل الوطني السابق بأكمله» (برنشتين، «ممهدات»، ص 134 و136، الطبعة الألمانية، سنة 1899).
إنه لمن منتهى الفظاعة أن يخلط المرء نظرات ماركس بصدد «القضاء على سلطة الدولة، على الطفيلي» مع اتحاد برودون! ولكن ليس من باب الصدفة، لأنه لا يمكن حتى أن يخطر ببال الانتهازي أن ماركس لا يتكلم هنا البتة عن الاتحادية باعتبارها نقيض المركزية، بل عن تحطيم آلة الدولة القديمة، البرجوازية، الموجودة في جميع البلدان البرجوازية.
لا يخطر ببال الانتهازي إلاّ ما يراه من حوله من بيئة التافهين صغار البرجوازيين والركود «الإصلاحي»، أي يضطر بباله مجرد «المجالس البلدية»! أما ثورة البروليتاريا فقد أضاع الانتهازي حتى المقدرة على التفكير بها.
إن هذا مضحك. ولكن البليغ الدلالة أن أحدا لم يجادل برنشتين حول هذه النقطة. فقد دحضه كثيرون ولاسيما بليخانوف في الأدب الروسي وكاوتسكي في الأدب الأوروبي، ولكن لم يتحدث لا هذا ولا ذاك عن هذا التشويه لماركس من جانب برنشتين.
لقد أضاع الانتهازي مقدرته على التفكير الثوري والتفكير بالثورة إلى حد أنه ينسب إلى ماركس «الاتحادية» ويخلط بينه وبين مؤسس الفوضوية برودون. أمّا كاوتسكي وبليخانوف الراغبان في أن يكونا من الماركسيين الأرثوذكس وفي الذود عن تعاليم الماركسية الثورية فيصمتان عن ذلك! وهنا يكمن جذر من جذور الإبتذال المفرط للآراء بصدد الفرق بين الماركسية والفوضوية، ذلك الابتذال الذي يلازم الكاوتسكيين والانتهازيين على حد سواء والذي سنتحدث عنه فيما بعد.
لا يوجد للاتحادية أثر فيما أوردناه من محاكمات ماركس عن خبرة الكومونة. يلتقي ماركس وبرودون بالضبط فيما لا يراه الانتهازي برنشتين. ويفترق ماركس وبرودون بالضبط فيما يراه برنشتين وجه الشبه.
يلتقي ماركس وبرودون في كون الاثنين يناديان بـ«تحطيم» آلة الدولة الحديثة. وهذا الشبه بين الماركسية والفوضوية (برودون وباكونين على حد سواء) لا يريد أن يراه الانتهازيون ولا الكاوتسكيون لأنهم حادوا عن الماركسية في هذه النقطة.
ويفترق ماركس عن برودون وكذلك عن باكونين في مسألة الاتحادية على وجه التحقيق (فضلا عن ديكتاتورية البروليتاريا). الاتحادية تنبثق مبدئيا عن النظرات البرجوازية الصغيرة للفوضوية. إن ماركس من القائلين بالمركزية. وفيما أوردناه من محاكماته لا يوجد أي تراجع عن المركزية. فقط الناس الذين حشيت رؤوسهم حشوا «بالإيمان الخرافي الأعمى» البرجوازي الصغير بالدولة يستطيعون أن يروا في القضاء على آلة الدولة البرجوازية قضاء على المركزية!
ولكن إذا ما أخذ البروليتاريون وفقراء الفلاحين بأيديهم سلطة الدولة وإذا تنظموا بملء الحرية في كومونة ووحدوا عمل جميع الكومونات في ضربات يوجهونها ضد الرأسمال، في تحطيم مقاومة الرأسماليين، في نقل الملكية الخاصة للسكك الحديدية والمصانع والأرض وغيرها إلى الأمة بأسرها، إلى المجتمع بأسره، أفلا يكون ذلك من المركزية؟ أليس ذلك بالمركزية الديموقراطية المستقيمة أشد الاستقامة؟ بله المركزية البروليتارية؟
لا يمكن البتة أن يخطر لبرنشتين ببال احتمال مركزية طوعية، توحيد طوعي للكومونات في أمة، تلاحم طوعي للكومونات البروليتارية في أمر تحطيم السيادة البرجوازية وآلة الدولة البرجوازية. فبرنشتين، شأنه شأن جميع ذوي الذهنية البرجوازية الصغيرة، يتصور المركزية بمثابة شيء لا يمكن فرضه والإبقاء عليه إلاّ من أعلى، وعن طريق دواوين الموظفين والطغمة العسكرية.
لقد أشار ماركس عمدا، وكأنه توقع إمكانية تشويه نظراته، إلى أن اتهام الكومونة بالرغبة في القضاء على وحدة الأمة وفي إلغاء السلطة المركزية هو من التزوير المتعمد. وقد تقصد ماركس استعمال تعبير «تنظيم وحدة الأمة» لكيما يعارض المركزية البرجوازية والعسكرية البيروقراطية بالمركزية البروليتارية الواعية والديموقراطية.
ولكن… قد استمعت لو ناديت حيا. والحال، أن الانتهازيين في الاشتراكية-الديموقراطية الحديثة لا يريدون بتاتا أن يسمعوا بالقضاء على سلطة الدولة، ببتر الطفيلي.
5- القضاء على الطفيلي، على الدولة
لقد أوردنا أقوال ماركس المناسبة وعلينا أن نردفها بأقوال أخرى له.
لقد كتب ماركس:
«… إن النصيب المعتاد للابداع التاريخي الجديد أنه يعتبر صنوا لأشكال قديمة أو حتى لأشكال بائدة للحياة الاجتماعية تشبهها مؤسسات جديدة بعض الشبه. وهكذا، أن هذه الكومونة الجديدة التي تحطم (bricht-تكسر) سلطة الدولة الحديثة اعتبرت بمثابة بعث لكومونات العصور الوسطى… بمثابة اتحاد للدول الصغيرة (مونتيسكيو، الجيرونديون)،… بمثابة شكل مضخم للكفاح القديم ضد التمركز المفرط…
… إن التنظيم الكوموني كان سيعيد إلى الجسم الإجتماعي جميع القوى التي ابتلعتها حتى ذلك الحين «الدولة»، تلك الزائدة الطفيلية التي تقتات على حساب المجتمع وتعيق تقدمه الحر. وهذا وحده كان يكفي لأن يتقدم بعث فرنسا…
…أن التنظيم الكوموني كان سيضع المنتجين الريفيين تحت القيادة الروحية للمدن الرئيسية في كل منطقة ويؤمن لهم هناك، في شخص عمال المدن، الممثلين الطبيعيين لمصالحهم. إن وجود الكومونة انطوى في حد ذاته، وكشيء بديهي، على الإدارة الذاتية المحلية، ولكن ليس كنقيض لسلطة الدولة التي تغدو منذ الآن زائدة».
«القضاء على سلطة الدولة» التي كانت «زائدة طفيلية»، «بتر»ها، «تحطيم»ها؛ «سلطة الدولة تغدو منذ الآن زائدة» -بهذه التعابير تكلم ماركس عن الدولة في تقديره وتحليله لخبرة الكومونة.
كتب كل ذلك منذ نصف قرن تقريبا ويتأتي الآن أن نقوم بما يشبه الحفريات لنوصل إلى إدراك الجماهير الغفيرة تعاليم الماركسية غير مشوهة. فعندما حل عهد الثورات البروليتارية الكبرى الجديدة، في هذا العهد بالضبط نسوا الاستنتاجات التي خلص إليها ماركس من تتبع آخر ثورة كبرى حدثت في حياته.
«…إن تعدد الشروح التي استتبعتها الكومونة وتعدد المصالح التي وجدت فيها تعبيرا عنها يثبتان أنها كانت شكلا سياسيا مرنا للغاية، بينما كانت جميع الأشكال السابقة للحكومة أشكالا للإضطهاد من حيث جوهرها. وكان سر الكومونة الحقيقي هو هذا: كانت، من حيث الجوهر، حكومة الطبقة العاملة، كانت نتاج كفاح طبقة منتجين ضد طبقة المستأثرين، كانت الشكل السياسي الذي اكتشف أخيرا والذي كان يمكن في ظله أن يتحقق التحرر الاقتصادي للعمل…
ولولا هذا الشرط الأخير لكان التنظيم الكوموني أمرا مستحيلا ولكان غشا…»
لقدانصرف الطوباويون إلى «اكتشاف» الأشكال السياسية التي ينبغي أن تحدث في ظلها إعادة تنظيم المجتمع على أساس الاشتراكية. وقد أشاح الفوضويون بوجوههم عن مسألة الأشكال السياسية بوجه عام. وقبل الانتهازيون في الاشتراكية-الديموقراطية البرلمانية كحد لا يمكن تخطيه وعفروا جباههم في الركوع والسجود أمام هذا «المعبود» وأعلنوا من الفوضوية كل نزعة إلى تحطيم هذه الأشكال.
لقد استخلص ماركس من كامل تاريخ الاشتراكية والنضال السياسي أنه لا بد للدولة أن تزول وأن الشكل الإنتقالي لزوالها (الانتقال من الدولة إلى اللادولة) سيكون «البروليتاريا المنظمة في طبقة سائدة». ولكن ماركس لم يأخذ على عاتقه اكتشاف الأشكال لهذا المستقبل. لقد اقتصر على تتبع التاريخ الفرنسي بصورة دقيقة، على تحليله وعلى استخلاص الاستنتاج الذي قادت إليه سنة 1851: تقترب الأمور من تحطيم آلة الدولة البرجوازية.
وعندما اندلعت حركة البروليتاريا الثورية الجماهيرية أخذ ماركس، رغم إخفاق هذه الحركة، رغم قصرها، رغم ضعفها البين، في دراسة ما اكتشفته من أشكال.
الكومونة هي الشكل الذي «اكتشفته أخيرا» الثورة البروليتارية والذي يمكن في ظله أن يتحقق التحرر الاقتصادي للعمل.
الكومونة هي أول محاولة تقوم بها الثورة البروليتارية لتحطيم آلة الدولة البرجوازية والشكل السياسي الذي «أُكتشف أخيرا» والذي يمكن ويجب أن يستعاض به عن المحطَّم.
وسنرى فيما يأتي من البحث أن الثوريين الروسيين في سنتي 1905 و1917 تابعتا قضية الكومونة في حالة أخرى وفي ظروف أخرى وأنها تثبتان تحليل ماركس التاريخي العبقري.
تتمة. شروح اضافية لإنجلس
لقد تقدم ماركس بما هو أساسي في مسألة أهمية خبرة الكومونة. وقد رجع إنجلس مرارا إلى الموضوع نفسه شارحا تحليل ماركس واستنتاجاته وموضحا الوجوه الأخرى في المسألة بقوة وجلاء مما يجعل من الضروري تناول هذه الشروح بوجه خاص.
1-«مسألة المساكن»
كان انجلس قد راعى خبرة الكومونة في مؤلفه عن مسائل المساكن (سنة 1872) حين تناول فيه عدة مرات مهام الثورة حيال الدولة. وما يستوقف النظر أنه قد بين بوضوح، استنادا إلى هذا الموضوع الملموس، من جهة، وجوه الشبه بين الدولة البروليتارية والدولة الراهنة، ومن الجهة الأخرى، وجوه التباين أو الإنتقال إلى القضاء على الدولة.
«ما السبيل إلى حل مسألة السكن؟ تحل هذه المسألة في المجتمع الحالي تماما كما تحل كل مسألة اجتماعية أخرى: بالتوازن التدريجي بين العرض والطلب اقتصاديا، وهذا حل يثير المسألة بحد ذاته مجددا، أي أنه لا يعطي أي حل. وكيف تحل الثورة الاجتماعية هذه المسألة؟ إن هذا لا يتوقف فقط على ظروف الزمان والمكان، بل يتوقف كذلك على مسائل أبعد مدى بكثير، وبين الرئيسية منها مسألة إزالة التضاد بين المدينة والريف. ولما كنا لانريد الانصاف إلى اختراع أشكال طوباوية لتنظيم المجتمع المقبل يكون الوقوف عند هذه المسائل أكثر من لغو. بيد أن ثمة أمرا واضحا: يوجد في المدن الكبرى الآن عدد كاف من عمارات السكنى يكفي ليسد على الفور الحاجة الحقيقية إلى المساكن شريطة أن يستفاد من هذه العمارات بالشكل المعقول. ولا يحقق ذلك بطبيعة الحال إلاّ عن طريق مصادرة عمارات المالكين الحاليين وعن طريق جعلها مساكن للعمال الذين لا مساكن لهم أو الذين يسكنون في شقاق مزدحمة جداً. ومذ تظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية يصبح هذا التدبير الذي تفرضه المصلحة العامة أمرا هين التحقيق شأنه شأن سائر العمليات التي تقوم بها الدولة الحالية لمصادرة الشقات واشتغالها» (ص 22، الطبعة الألمانية، سنة 1887).
إن البحث هنا لا يدور حول تغيير شكل سلطة الدولة، بل يتناول مضمون نشاطها وحسب. إن مصادرة واشتغال المساكن يجريان بأمر من الدولة الحالية أيضا. والدولة البروليتارية، من وجهة النظر الشكلية، «تصدر» كذلك «الأوامر» باشغال الشقات ومصادرة البيوت. ولكن الواضح هو أن الجهاز التنفيذي القديم، جهاز الموظفين المرتبطين بالبرجوازية، لن يكون على العموم أهلا لتنفيذ أوامر الدولة البروليتارية.
«…ولا بد من أن نلاحظ أن تملك الشعب العامل بالفعل لجميع أدوات العمل، لكامل الصناعة، هو النقيض المباشر «للشراء» الذي يقول به برودون. ففي الحالة الأخيرة يصبح كل عامل بمفرده مالكا لمسكن، ولقطعة أرض فلاحية لأدوات عمل. وفي الحالة الأولى يظل «الشعب العامل» المالك الجماعي للبيوت والمصانع وأدوات العمل. وهذه البيوت والمصانع الخ.، لا نحسب أنها ستعطي لأشخاص منفردين أو لجمعيات منفردة للاستفادة منها دون تغطية التكاليف، وذلك على الأقل في مرحلة الانتقال. كما أن القضاء على ملكية الأرض لا يفرض القضاء على الريع العقاري، بل تحويله إلى المجتمع، وان بشكل مكيف. وعليه، كان التملك الفعلي لجميع أدوات العمل من قبل الشعب العامل لا ينفي بأي حال بقاء التأجير والاستئجار» (ص 68).
إن المسألة المبحوثة في هذه الفقرة، ونعني بها مسألة الأسس الاقتصادية لاضمحلال الدولة، هي موضوع بحثنا في الفصل التالي. يتحدث انجلس هنا باحتراس شديد إذ بقول: «لا نحسب» أن الدولة البروليتارية ستوزع المساكن دون أجور، «على الأقل في مرحلة الإنتقال». فتأجير المساكن التي هي ملك للشعب كله إلى هذه العائلة أو تلك مقابل أجرة، يفرض قبض هذه الأجرة ونوعا من الرقابة وتحديد هذا المعدل أو ذاك في توزيع المساكن. وكل هذا يقتضي شكلا ما من أشكال الدولة، ولكنه لا يقتضي بتاتا جهازا عسكريا وبيروقراطيا خاصا مع موظفين يتمتعون بامتيازات خاصة. أمّا الإنتقال إلى حالة يصبح معها بالإمكان إعطاء المساكن دون مقابل، فإنه منوط بـ«اضمحلال» الدولة بصورة تامة.
وإذا تحدث انجلس عن انتقال اتباع بلانكي إلى موقف الماركسية المبدئي بعد الكومونة وتحت تأثير خبراتها، صاغ هذا الموقف في سياق الحديث بالشكل التالي:
«… ضرورة عمل البروليتاريا السياسي وديكتاتوريتها، باعتبار ذلك انتقالا إلى إلغاء الطبقات ومعها الدولة…» (ص 55).
ولعل هواة النقد الحرفي أو لعل «مبيدي الماركسية» البرجوازيين يرون تناقضا بين هذا الإعتراف بـ«إلغاء الدولة» وإنكار هذه الصيغة، باعتبارها فوضوية، في الفقرة التي أوردناها أعلاه من «ضد دوهرينغ». ولا مجال للاستغراب إذا ما وضع الإنتهازيون انجلس نفسه في عداد «الفوضويين». ففي الوقت الحاضر، يعد الاشتراكيون-الشوفينيون أكثر فأكثر إلى اتهام الأمميين بالفوضوية.
لقد علمت الماركسية على الدوام أن الدولة تلغي مع إلغاء الطبقات. فالفقرة المعروفة من الجميع في «ضد دوهرينغ» بصدد «اضمحلال الدولة» تتهم الفوضويين لا بمجرد قولهم بإلغاء الدولة، بل بأنهم يروجون بزعم مفاده أن بالإمكان إلغاء الدولة «بين عشية وضحاها».
وبما أن النزعة «الاشتراكية-الديموقراطية» السائدة اليوم قد شوهت تماما موقف الماركسية من الفوضوية في مسألة القضاء على الدولة، فمن المفيد جدا أن نذكر بجدال لماركس وانجلس مع الفوضويين.
2- جدال مع الفوضويين
يعود هذا الجدال إلى سنة 1872. لقد نشر ماركس وإنجلس في مجموعة اشتراكية ايطالية مقالين ضد أتباع برودون و«أنصار الحكم الداتي» أو «خصوم السلطة»، ولم يصدر هذان المقالان في «Neue Zeit» مترجمين إلى الألمانية إلاّ في سنة 1913.
كتب ماركس ساخرا من الفوضويين ومن إنكارهم للسياسة:
«… إذا كان نضال الطبقة العاملة السياسي يتخذ أشكالا ثورية، وإذا ما أقام العمال ديكتاتوريتهم الثورية مقام ديكتاتورية البرجوازية، فهم يقترفون بذلك جريمة منكرة، جريمة إهانة المبادئ، لأن العمال لكيما يسدوا حاجاتهم اليومية الحقيرة الفظة، لكيما يحطموا مقاومة البرجوازية، يعطون الدولة شكلا ثوريا وعابرا بدلا من أن يلقوا أسلحتهم ويلغوا الدولة… » («Neue Zeit» 1913-1914 السنة 32، المجلد 1، ص40).
إن ماركس بدحضه للفوضويين لم يستنكر غير هذا النوع من «إلغاء» الدولة! إنه لم يعترض على الفقرة القائلة بأن الدولة ستزول مع زوال الطبقات أو أنها ستلغى مع إلغاء الطبقات، لم يعترض إلاّ على الفكرة القائلة بعدول العمال عن استخدام السلاح، عن استخدام العنف المنظم. أي عن الدولة التي يتوجب عليها أن تخدم الهدف التالي: «تحطيم مقاومة البرجوازية».
يتعمد ماركس الإشارة –لكيلا يشوهوا مغزى نضاله ضد الفوضوية –إلى «الشكل الثوري والعابر» للدولة الضرورية للبروليتاريا. لا تحتاج البروليتاريا إلى الدولة إلاّ لزمن محدود. نحن لسنا بتاتا في خلاف مع الفوضويين في مسألة إلغاء الدولة باعتبار ذلك هدفا. إنما نحن نجزم بأن من الضروري لبلوغ هذا الهدف أن تستخدم مؤقتا أدوات ووسائل وأساليب سلطة الدولة ضد المستثمرين، كما أن إلغاء الطبقات يستلزم، كأمر موقوت، ديكتاتورية الطبقة المظلومة. يختار ماركس الشكل الأحد والأوضح لطرح المسألة ضد الفوضويين: أينبغي للعمال إذ يسقطون نير الرأسماليين أن «يلقوا السلاح» أم أن يستخدموه ضد الرأسماليين لتحطيم مقاومتهم؟ وما هو استخدام السلاح بصورة منتظمة من جانب طبقة ضد أخرى إن لم يكن «شكلاًعابرا» للدولة؟
فليسأل كل اشتراكي-ديموقراطي نفسه: هل يطرح هو نفسه مسألة الدولة بهذا الشكل في الجدال مع الفوضويين؟ هل كانت الأكثرية الكبرى من الأحزاب الاشتراكية الرسمية في الأممية الثانية تطرح هذه المسائل بهذا الشكل؟ يبسط انجلس هذه الأفكار نفسها بتفصيل أكبر جدا وتعابير أسهل جدا. إنه يسخر قبل كل شيء من اضطراب تفكير أنصار برودون الذين سموا أنفسهم «خصوم السلطة»، أي أنهم أنكروا كل سلطان، كل خضوع، كل سلطة. يقول إنجلس: خذوا أي معمل أو سكة حديد أو سفينة في عرض البحار. أفليس من الواضح أن عمل هذه المؤسسات التكنيكية المعقدة القائمة على استخدام الآلات والتعاون المنهجي بين كثرة من الأشخاص يستحيل بدون نوع من الخضوع، وبالتالي، بدون نوع من سلطان أو سلطة؟ وكتب إنجلس:
«… إذا ما اعترضت بهذه الحجج على خصوم السلطة الأشد تعنتا فهم لا يستطيعون أن يجيبوني بغير جواب واحد: «أجل! هذا صحيح. ولكن لا يدور الحديث هنا عن السلطان الذي نمحضه لمندوبينا، بل على تكليف معين». إن هؤلاء الناس يحسبون أننا نستطيع تغيير أمر ما إذا ما غيرنا اسمه…».
وبعد ان بين إنجلس بهذا الشكل أن السلطان والحكم الذاتي هما من المفاهيم النسبية وأن ميدان تطبيقهما يتغير تبعا لمختلف مراحل التطور الاجتماعي وأن من الحماقة فهمهما كمطلقات، وبعد أن أضاف أن ميدان استخدام الآلات والانتاج الضخم يتسع باستمرار، إنتقل من البحث العام حول السلطان إلى مسألة الدولة.
وقد كتب:
«لو اقتصر أنصار الحكم الذاتي على القول بأن التنظيم الاجتماعي المقبل لن يسمح بالسلطان إلاّ ضمن الحدود التي تفرضها ظروف الإنتاج بالضرورة، لا مكن التفاهم معهم. ولكنهم عميان حيال جميع الوقائع التي تجعل السلطان أمرا ضروريا، وهم يناضلون بحماسة ضد الكلمة.
لماذا لا يقتصر خصوم السلطة على الصياح ضد السلطان السياسي، ضد الدولة؟ فجميع الاشتراكيين متفقون على أن الدولة تزول ومعها السلطان السياسي بنتيجة الثورة الاجتماعية المقبلة، أي أن الوظائف الاجتماعية تفقد طابعها السياسي وتتحول إلى مجرد وظائف إدارية تسهر على المصالح الاجتماعية. ولكن خصوم السلطة يطلبون إلغاء الدولة السياسية دفعة واحدة، قبل أن تلغى العلاقات الاجتماعية التي نشأت عنها الدولة. إنهم يطلبون أن يكون إلغاء السلطة أول عمل تقوم به الثورة الاجتماعية.
فهل رأى هؤلاء السادة ثورة في يوم ما؟ إن الثورة هي دون شك سلطة ما بعدها سلطة، الثورة هي عمل يفرض به قسم من السكان إرادته على القسم الآخر بالبنادق، بالحرب، بالمدافع، أي بوسائل لا يعلو سلطانها سلطانا. ويأتي على الحزب الغالب أن يحافظ بالضرورة على سيادته عن طريق الخوف الذي توجيه أسلحته للرجعيين. فلو لم تستند كومونة باريس إلى سلطان الشعب المسلح ضد البرجوازية فهل كان بإمكانها أن تصمد أكثر من يوم واحد؟ وهلا يحق لنا أن نلومها، بالعكس، لأنها لم تلجأ لهذا السلطان إلاّ قليلا جداً؟ وهكذا أحد أمرين: أمّا أن خصوم السلطة لا يعرفون ما يقولون، وفي هذه الحالة لا يعملون غير خلق التشويش، وأمّا أنهم يعرفون وفي هذه الحالة يخونون قضية البروليتاريا. وهم في الحالتين لا يخدمون غير الرجعية» (ص 39).
إن هذه الفقرة تتطرق إلى مسائل ينبغي بحثها بالإتصال مع موضوع العلاقة بين السياسة والاقتصاد عند اضمحلال الدولة (ونتناول هذا الموضوع في الفصل التالي). ومن هذه المسائل المتعلقة بتحول الوظائف الاجتماعية عن وظائف سياسية إلى مجرد وظائف إدارية ومسألة «الدولة السياسية». وهذا التعبير الأخير الذي يمكنه بصورة خاصة أن يستدعي سوء الفهم يشير إلى عملية اضمحلال الدولة: فالدولة الآخذة بالاضمحلال يمكن نعتها عند درجة معينة من اضمحلالها بالدولة اللا سياسية.
والأمر الأبلغ في دلالته في فقرة إنجلس هذه هو مرة أخرى كيفية طرح المسألة ضد الفوضويين. فالاشتراكيون-الديموقراطيون الراغبون في أن يكونوا تلامذة لإنجلس قد تجادلوا مع الفوضويين ملايين المرات ابتداء من سنة 1873 ولكنهم لم يجادلوا كما يمكن ويجب أن يجادل الماركسيون. إن التصور الفوضوي لإلغاء الدولة هو تصور مشوش وغير ثوري، -هكذا طرح إنجلس المسألة. فالفوضويون لا يريدون أن يروا الثورة على وجه الضبط في نشوئها وتطورها، في مهامها الخاصة حيال العنف والسلطان والسلطة والدولة.
إن انتقاد الفوضوية المألوف لدى الاشتراكيين-الديموقراطيين المعاصرين قد اقتصر على هذا الإبتذال البرجوازي الصغير الصرف: «نحن نعترف بالدولة، أمّا الفوضويون فلا!». وهذا الابتذال لا يمكنه طبعا إلاّ يبعد العمال المفكرين والثوريين ولو لحد محدود. أمّا إنجلس فيدلي برأي آخر: إنه يؤكد أن جميع الاشتراكيين يعترفون بأن الدولة تزول بنتيجة الثورة الاشتراكية. ثم يطرح بصورة ملموسة الثورة، أي بالضبط تلك المسألة التي يتحاشاها في المعتاد الاشتراكيون-الديموقراطيون الإنتهازيون تاركينها، إن أمكن القول، لينفرد الفوضويون في «دراستها». وما أن طرح إنجلس هذه المسألة حتى تناول رأسا لبها: أما كان ينبغي للكومونة أن تلجأ لحد أكبرإلى السلطة الثورية للدولة، أي إلى سلطة البروليتاريا المسلحة والمنظمة في طبقة سائدة؟
‘ن الاشتراكية-الديموقراطية الرسمية السائدة تتحاشى في المعتاد مسألة مهام البروليتاريا الملموسة في الثورة أمّا بمجرد تهكم التافه البرجوازي الصغير وأمّا، في أحسن الحالات، بسفسطة التهرب: «من يعش ير». وهكذا حصل الفوضويون على حق اتهام هذه الاشتراكية-الديموقراطية بأنها تخون واجباتها في أمر تربية العمال تربية ثورية. لقد استفاد إنجلس من خبرة الثورة البروليتارية الأخيرة بالضبط لكيما يدرس بالشكل الملموس الأتم ما وكيف ينبغي على البروليتاريا أن تفعله حيال البنوك وحيال الدولة على السواء.
3- رسالة إلى بيبل
من أروع، إن لم يكن الأروع، ما ورد في مؤلفات ماركس وانجلس بصدد مسألة الدولة الفقرة التالية في رسالة وجهها إنجلس إلى بيبل في 18-28 مارس سنة 1875. ونقول بين معترضتين أن هذه الرسالة قد نشرها بيبل لأول مرة، على ما نعلم، في المجلد الثاني من مذكراته («ذكريات من حياتي») الصادرة في 1911، أي بعد مضي 36 سنة على تحريرها وإرسالها.
فقد كتب إنجلس إلى بيبل، منتقداً نفس مشروع برنامج غوتا الذي انتقده ماركس أيضا في رسالته الشهيرة إلى براكه، ومتطرقا بصورة خاصة إلى مسألة الدولة قائلا.
«…الدولة الشعبية الحرة صارت إلى دولة حرة. والدولة الحرة تعني من الناحية اللغوية دولة حرة إزاء مواطنيها، إي دولة ذات حكومة مستبدة. وينبغي الكف عن كل هذه الثرثرة بصدد الدولة ولاسيما بعد الكومونة التي لم تبق دولة بمعنى الكلمة الأصلي. لقد كفانا ما فقأ الفوضويون عيوننا بـ«الدولة الشعبية»، رغم أنه قد قيل دون لبس أو غموض في مؤلف ماركس ضد برودون ثم في «البيان الشيوعي» أن الدولة مع إقامة النظام الإجتماعي الاشتراكي تحل نفسها بنفسها (sich auflost) وتزول. ولما كانت الدولة عبارة عن مؤسسة ذات طابع عابر وحسب يتأتى استخدامها في النضال، في الثورة، لقمع الخصوم بالقوة، فإن الحديث عن الدولة الشعبية الحرة هو مجرد لغو: فما دامت البروليتاريا بحاجة إلى الدولة، فهي لا تحتاجها من أجل الحرية، بل من أجل قمع خصومها، وعندما يصبح بالإمكان الحديث عن الحرية، عندئذ تزول الدولة بوصفها دولة. ولذا نحن نقترح الاستعاضة في كل مكان عن كلمة الدولة بكلمة «مشاعة» (Gemeinwesen)، هذه الكلمة الألمانية القديمة الرائعة التي يتفق معناها ومعنى الكلمة الفرنسية «كومونة»» (ص 321-322 من الطبعة الألمانية).
ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذه الرسالة تتناول برنامجا حزبيا انتقده ماركس في رسالة مؤرخة بعد هذه الرسالة ببضعة أسابيع فقط (رسالة ماركس مؤرخة في 5 مايو سنة 1875)، وأن إنجلس كان يعيش آنذاك مع ماركس في لندن. ولذا عندما قال إنجلس «نحن» في عبارته الأخيرة فهو دون شك يقترح باسمه وباسم ماركس على زعيم حزب العمال الألماني شطب كلمة «الدولة» من البرنامج والاستعاضة عنها بكلمة «مشاعة».
وكم كان ناح بشأن «الفوضوية» متزعمو «الماركسية» الحالية المكيفة تبعا لما يروق للإنتهازيين لو اقترح عليهم إدخال مثل هذا التصحيح على البرنامج!
فلينوحوا. فالبرجوازية ستمدحهم على ذلك.
أمّا نحن فسنتابع عملنا. وعند إعادة النظر في برنامج حزبنا لا ريب في أنه ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار نصيحة إنجلس وماركس، لكيما نكون أقرب من الحقيقة، لكيما نوجه بصورة أصح نضال الطبقة العاملة في سبيل تحررها. أغلب الظن أنه لا يوجد بين البلاشفة خصوم لنصيحة إنجلس وماركس. ولعل الصعوبة لن تكون في غير إيجاد الاصطلاح. ففي الألمانية كلمتان «للمشاعة» إختار منهما إنجلس الكلمة التي لا تعني مشاعة على حدة، بل مجموعة مشاعات، نظام المشاعات. أمّا الروسية فلا توجد مثل هذه الكلمة، وقد يقتضي الأمر اختيار كلمة «كومونة» الفرنسية، مع أن ذلك يخلق أيضا بعض الإرتباك.
«لم تبق الكومونة دولة بمعنى الكلمة الأصلي» -هذا هو تأكيد انجلس الأهم نظريا. وهذا التأكيد مفهوم تماما بعد ما عرضناه أعلاه. فقد كفت الكومونة عن أن تكون دولة ما دام لم يتأت عليها أن تقمع أكثرية السكان، بل الأقلية (المستثمِرين)، وقد حطمت آلة الدولة البرجوازية؛ وبدلا من القوة الخاصة للقمع، برز على المسرح السكان أنفسهم. وكل هذا ارتداد عن الدولة بمعناها الخاص. ولو توطدت الكومونة لـ«اضمحل» فيها تلقائيا ما بقي من آثار الدولة، ولما كان عليها أن «تلغي» مؤسسات الدولة: فإن هذه ستبطل بقدر ما لا يبقى لها ما تقوم به.
«يفقأ الفوضويون عيوننا بـ«الدولة الشعبية»». عندما قال انجلس ذلك كان يقصد بالدرجة الأولى باكونين وحملاته على الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان. ويعتبر إنجلس هذه الحملات صحيحة بمقدار ما يكون مفهوم «الدولة الشعبية»، شأنه شأن «الدولة الشعبية الحرة» سخيفا وخارقا عن الاشتراكية. وقد سعى انجلس إلى تقويم نضال الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان ضد الفوضويين وإلى جعل هذا النضال صحيحا من الناحية المبدئية وإلى تطهيره من الأوهام الانتهازية بصدد «الدولة». ولكن وأحر قلباه! لقد ظلت رسالة انجلس مدة ست وثلاثين سنة مطوية في صندوق. وسنرى فيما يأتي أن كاوتسكي، حتى بعد نشر هذه الرسالة، قد استمر يكرر بعناد، في الجوهر، نفس الأخطاء التي حذر منها إنجلس.
وقد وجه بيبل لانجلس رسالة جوابية مؤرخة في 21 من سبتمبر سنة 1875، قال فيها فيما قال أنه «يوافقه تماما» على آرائه بشأن مشروع البرنامج وأنه لام ليبكنخت على تنازله (ص 334 من الطبعة الألمانية لمذكرات بيبل. المجلد 2). ولكن إذا ما أخذنا كراس بيبل «أهدافنا» وجدنا فيه آراء غير صحيحة أبدا بشأن الدولة:
«الدولة القائمة على السيادة الطبقية ينبغي أن تحول إلى دولة شعبية» (الطبعة الألمانية لـ«Unsere Ziele»، سنة 1886، ص14).
هذا ما جاء في الطبعة التاسعة (التاسعة!) من كراس بيبل! ولا مجال للاستغراب إذا ما تشربت الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية هذه الآراء الانتهازية بشأن الدولة لكثرة ما كررت بعناد، لا سيما وأن إيضاحات إنجلس الثورية قد خبئت في الصندوق، وجميع ظروف الحياة كانت «تنسى» الثورة لأمد طويل.
4-انتقاد مشروع برنامج ارفورت
عند بحث التعاليم الماركسية بشأن الدولة لا يمكن للمرء أن يغفل إنتقاد إنجلس لمشروع برنامج ارفورت، في رسالة الانتقاد التي أرسلها إلى كاوتسكي في 29 من يونيو 1891 والتي لم تنشر في «Neue Zeit» إلاّ بعد مضي عشر سنوات، ذلك لأن هذا الإنتقاد يتناول بالضبط وبصورة رئيسية النظرات الإنتهازية في الاشتراكية-الديموقراطية حول مسائل تنظيم الدولة.
ونشير في سياق الحديث إلى أن انجلس أدلى كذلك في مسائل الاقتصاد بملاحظة قيمة جداً تبين كيف استطاع بسبب ذلك أن يستشف لحد ما مهام عهدنا، العهد الإمبريالي. وها هي ذي هذه الملاحظة: فبصدد كلمة «اللا منهجية» (Planlosigkeit) الواردة في مشروع البرنامج لوصف الرأسمالية كتب إنجلس:
«…إذا كنا ننتقل من الشركات المساهمة إلى التروستات التي تخضع لنفسها وتحتكر فروعا صناعية برمتها، فهذا ليس فقط نهاية الإنتاج الخاص، بل إنما هو كذلك نهاية أللا منهجية» «Neue Zeit»، السنة 20، المجلد 1، سنتي 1901-1902، ص8)
نحن هنا حيال الأمر الأساسي في التقدير النظري للرأسمالية الحديثة، أي للإمبريالية، ونعني أن الرأسمالية تتحول إلى رأسمالية احتكارية. ولا بد من الإشارة إلى كلمة «رأسمالية»، لأن الغلطة الشائعة جدا هي الزعم الاصلاحي البرجوازي القائل أن الرأسمالية الاحتكارية أو رأسمالية الدولة الاحتكارية لم تبق رأسمالية وأنه يمكن أن يطبق عليها إسم «اشتراكية الدولة» وإلى ما هنالك. يقينا أن التروستات لم تعط وهي لا تعطي حتى الآن ولا تستطيع أن تعطي المنهاجية الكاملة. ولكن بمقدار ما تعطي المنهاجية وبمقدار ما يحسب طواغيت رأس المال سلفا مقادير الانتاج في النطاق الوطني أو حتى العالمي وبمقدار ما يضبطونه بصورة منهاجية، نبقى على كل حال في ظل الرأسمالية، وأن من مرحلة جديدة لها، ولكن في ظل الرأسمالية على التأكيد. أمّا «قرب»هذه الرأسمالية من الاشتراكية فينبغي أن يكون لممثلي البروليتاريا الحقيقيين حجة تدعم أقتراب الثورة الإشتراكية وسهولتها وإمكان تحقيقها وضرورتها الملحة العاجلة، ولا ينبغي أن يكون بوجه حجة للوقوف موقف التغاضي من إنكار هذه الثورة ومن تجميل الرأسمالية، الأمر الذي ينهمك فيه جميع الإصلاحيين.
ولكن لنعد إلى مسألة الدولة. يعطي انجلس هنا إشارات ثمينة جدا في ثلاث نواح: أولا، في مسألة الجمهورية، وثانيا، بصدد علاقة المسألة القومية بتنظيم الدولة، وثالثا، بصدد الإدارة الذاتية المحلية.
أمّا فيما يخص الجمهورية، فإن إنجلس قد جعل منها مركز الثقل في انتقاده لمشروع برنامج ايرفورت. وإذا ما تذكرنا مدى الأهمية التي اكتسبها برنامج ارفورت في كامل الاشتراكية-الديموقراطية العالمية وإذا ما تذكرنا كيف غدا نموذجا للأممية الثانية بأكملها، يمكننا أن نقول دون مغالاة أن إنجلس ينتقد هنا الانتهازية في الأممية الثانية بأكملها.
لقد كتب إنجلس:
«ثمة نقص كبير في مطالب المشروع السياسية. فهو خال مما (التشديد لانجلس) كان ينبغي قوله بالضبط».
وبعد ذلك يوضح أن الدستور الألماني هو، أساسا، نسخة عن دستور سنة 1850 الرجعي منتهى الرجعية وأن الريخستاغ ليس، على حد تعبير ولهلم ليبكنخت، غير «ورقة تين الحكم المطلق» وأن الرغبة في تحقيق «تحويل جميع أدوات العمل إلى ملكية عامة» على أساس الدستور الذي أعطى الدول الصغيرة واتحاد الدويلات الألمانية الصبغة الشرعية هي «سخافة بينة».
«تناول هذا الموضوع أمر خطير». هذا ما أضافه إنجلس الذي كان يعرف خير معرفة أن وضع مطلب الجمهورية علنا في البرنامج لا يمكن في ألمانيا. ولكن إنجلس لا يرضخ ببساطة لهذا الإعتبار الذي يكتفي بع «الجميع». بل يستطرد: «ولكنه يجب تحريك القضية على كل حال بهذا الشكل أو ذاك. وتظهر مدى ضرورة ذلك الانتهازية الشائعة (einreibende) اليوم بالذات في قسم كبير من الصحافة الاشتراكية-الديموقراطية. فلخشيتهم من بعث مفعول قانون مكافحة الاشتراكيين أو لتذكرهم بعض ما أدلي به في ظل هذا القانون من تصريحات قبل أوانيها، يريدون الآن من الحزب أن يعترف بأن الأوضاع القانونية الراهنة في ألمانيا كافية لتحقيق جميع مطالبه بصورة سلمية…»
أمّا أن الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان قد تصرفوا بدافع الخشية من بعث مفعول القانون الإستثنائي، فإن إنجلس يطرح هذا الواقع الأساسي في المقدمة، وينعته، بلا مواربة، بالإنتهازية، ويعلن أن الحلم بالطريق «السلمي» هو أمر باطل تماما، وذلك بالضبط نظرا لعدم وجود الجمهورية والحريات في ألمانيا. وقد كان إنجلس على ما يكفي من الاحتراس لكيما يبقي يديه طليقتين. فهو يعترف بأن «في الإمكان» في البلدان الجمهورية أو التي توجد فيها الحريات بصورة وافية جدا «تصور» («تصور» وحسب!) التطور السلمي إلى الإشتراكية، ولكنه يكرر قائلا أن في ألمانيا،
«…في ألمانيا، حيث الحكومة كلية الجبروت تقريبا وحيث مجلس الريخستاغ وسائر المؤسسات التمثيلية الأخرى لا تملك من السلطة الحقيقية شيئا، ان ينادي داع لذلك، فإنما يعني أنه يرفع ورقة التين عن الحكم المطلق.
«…ومثل هذه السياسة لا تستطيع في نهاية الأمر غير جر الحزب إلى طريق الضلال. يضعون في المقام الأول مسائل سياسية عامة مجردة ويسترون بهذا الشكل المسائل الملموسة المباشرة التي تفرض نفسها في جدول الأعمال عند أول أحداث هامة، عند أول أزمة سياسية. وهل يمكن أن تكون نتيجة ذلك غير واقع أن الحزب يجد نفسه فجأة وفي الساعة الحاسمة في حالة عجز، غير واقع أن الحزب يجد نفسه في حالة الغموض وانعدام الوحدة حيال المسائل الحاسمة، لأنه لم يسبق له أبدا أن بحث هذه المسائل…
إن هذا النسيان للاعتبارات الكبرى، الجذرية حرصا على مصالح اليوم العريضة، وهذا الركض وراء النجاحات العريضة، وهذا النضال من أجلها دونما حساب للعواقب، وهذه التضحية بمستقبل الحركة في سبيل الحاضر، إن كل ذلك قد تكون له دوافع «نزيهة» أيضا. ولكن هذا هو الإنتهازية، وهو يبقى الانتهازية، ولعل الانتهازية «النزيهة» هي أخطر الانتهازيات…
وإذا كان ثمة أمر لا شك فيه فهو واقع أن حزبنا والطبقة العاملة لا يمكنهما الوصول إلى السيادة إلاّ في ظل شكل سياسي هو كالجمهورية الديموقراطية. حتى أن هذه الأخيرة هي الشكل الخاص لديكتاتورية البروليتاريا كما برهنت ذلك الثورة الفرنسية الكبرى…»
يكرر إنجلس في هذه الفقرة بصيغة واضحة كل الوضوح تلك الفكرة الأساسية التي تخللت جميع مؤلفات ماركس، نعني أن الجمهورية الديموقراطية هي أقصر الطرق إلى ديكتاتورية البروليتاريا. لأن هذه الجمهورية، مع أنها لا تزيل لأي قدر سيادة رأس المال وبالتالي ظلم الجماهير والنضال الطبقي، تفضي حتما إلى توسيع هذا النضال وتسعيره وكشفه وتشديده لدرجة أن إمكانية تأمين مصالح جماهير المظلومين الجذرية، متى ؟هرت هذه الإمكانية، تتحقق حتما وبوجه الحصر في ديكتاتورية البروليتاريا وفي قيادة هذه الجماهير من قبل البروليتاريا. وهذه أيضا بالنسبة للأممية الثانية بأكملها «كلمات منسية» من الماركسية، وقد أظهر نسيانها بجلاء خارق تاريخ حزب المناشفة خلال نصف السنة الأولى من ثورة سنة 1917 الروسية.
لقد تناول إنجلس مسألة الجمهورية الإتحادية من زاوية التركيب القومي للسكان وكتب:
«ماذا ينبغي أن يحل محل ألمانيا الحالية؟» (ذات الدستور الملكي الرجعي والتقسيم الذي لا يقل رجعية إلى دول صغيرة، هذا التقسيم الذي يخلد خصائص «البروسية» بدلا من أن يذيبها في ألمانيا ككل). «في رأيي لا تستطيع البروليتاريا أن تطبق غير شكل جمهورية موحدة لا تتجزأ. ما تزال الجمهورية الإتحادية ضرورية حتى الآن، بوجه عام، في أراضي الولايات المتحدة المترامية الأطراف، رغم أنها أخذت تصبح منذ الآن عقبة في شرقها. وهي تكون خطوة إلى الأمام في إنجلترا حيث تعيش في الجزيرتين أربع أمم وحيث توحد جنبا إلى جنب، رغم كون البرلمان واحدا، ثلاثة أنظمة تشريعية. وهي قد غذت في سويسرا الصغيرة من أمد بعيد عقبة. وإذا كان لا يزال من الممكن هناك الصبر على الجمهورية الاتحادية فذلك لسبب واحد هو أن سويسرا تكتفي بدور عضو سلبي صرف في نظام الدول الأوروبية. والتنظيم الإتحادي على النمط السويسري يكون بالنسبة لألمانيا خطوة هائلة إلى وراء. ثمة نقطتان تميزان الدولة الاتحادية عن الدولة الموحدة كليا هما واقع أن لكل دولة منفردة منضمة إلى الإتحاد تشريعها المدني والجزائي الخاص ونظامها القضائي الخاص، ثم واقع أنه إلى جانب مجلس الشعب يوجد مجلس ممثلين عن الدول يصوت فيه كل كانتون (ولاية) بوصفه كانتونا بصرف النظر عما إذا كان كبيرا أم صغيرا». والدولة الإتحادية في ألمانيا شكل إنتقالي إلى دولة موحدة تماما. ولا ينبغي الرجوع إلى وراء بـ«الثورة من أعلى» في سنتي 1866 و1870، بل اتمامها بـ«حركة من أسفل».
إن إنجلس لا يقف موقف عدم الاكتراث من مسألة أشكال الدولة، وليس هذا وحسب، بل يحاول بالعكس أن يحلل بأقصى الدقة الأشكال الانتقالية بالذات، لكيما يحدد، تبعا للخصائص التاريخية الملموسة لكل حالة بعينها، الأمر التالي: انتقالا من أي شيء إلى أي شيء يعتبر الشكل الإنتقالي المعني.
إن إنجلس شأنه شأن ماركس يدافع، من وجهة نظر البروليتاريا والثورة البروليتارية، عن المركزية الديموقراطية، عن الجمهورية ككل لا يتجزأ. وهو يرى في الجمهورية الإتحادية أما حالة استثنائية وعقبة تعيق التطور وأما انتقالا من الملكية إلى الجمهورية المركزية، «خطوة إلى الأمام» في ظروف خاصة معينة. وبين هذه الظروف الخاصة، تبرز المسألة القومية.
إننا لا نرى عند إنجلس ولا عند ماركس، بالرغم من انتقادهما دونما رحمة لرجعية الدول الصغيرة ولتغطية هذه الرجعية بالمسألة القومية في حالات معينة، ولو ظلاّ في النزوع إلى التهرب من المسألة القومية –الخطيئة التي كثيرا ما يقترفها الماركسيون الهولنديون والبولونيون الذين ينطلقون من النضال المشروع تماما ضد النزعة القومية البرجوازية الصغيرة الضيقة في دولتـ«هم» الصغيرتين.
فحتى في إنجلترا، حيث يبدو أن الظروف الجغرافية ووحدة اللغة وتاريخ قرون عديدة قد «وضعت حدا» للمسألة القومية بالنسبة لمختلف المناطق الصغيرة بانجلترا، حتى في انجلترا يحسب انجلس الحساب لواقع بين هو كون المسألة القومية ما تزال قائمة، ولذلك يعترف بالجمهورية الاتحادية «خطوة إلى الأمام». وبديهي أنه لا يوجد هنا ولو ظل للعدول عن انتقاد نواقص الجمهورية الإتحادية وعن الدعاية والنضال الحازمين تماما في سبيل جمهورية ديموقراطية مركزية موحدة.
ولكن انجلس لم يفهم المركزية الديموقراطية قط بالمعنى البيروقراطي الذي يعطيه لهذا المفهوم الأيديولوجيون البرجوازيون وصغار البرجوازيين ومن هؤلاء الفوضويون. فالمركزية في نظر إنجلس لا تنفي بتاتا الإدارة الذاتية المحلية الواسعة النطاق التي، في حالة ذود «الكومونات» والمقاطعات طوعا عن وحدة الدولة، تزيل دون شك كل مظهر من مظاهر البيروقراطية وكل مظهر من مظاهر «إصدار الأوامر» من أعلى.
وقد كتب انجلس مطورا مفاهيم الماركسية البرنامجية بصدد الدولة:
«…وهكذا، جمهورية موحدة ولكن ليس كالجمهورية الفرنسية الحالية التي ليست سوى عبارة عن امبراطورية بدون إمبراطور مؤسسة في سنة 1798. فمن سنة 1792 إلى سنة 1798، كانت كل محافظة فرنسية وكل بلدية (Gemeinde) تمارس الادارة الذاتية الكاملة على النمط الأمريكي، وينبغي أن يحقق ذلك عندنا أيضا. أمّا مسألة كيف ينبغي أن تنظم الإدارة الذاتية وكيف يمكن الاستغناء عن الدواوينية، فهو ما أظهرته وبرهنته لنا أمريكا والجمهورية الفرنسية الأولى، وهو ما تظهره أيضا لنا الآن كندا وأوستراليا والمستعمرات الإنجليزية الأخرى. ومثل هذه الإدارة الذاتية على صعيد الأقاليم (المحافظات) والبلديات في منظمات حرة أكثر جدا، مثلا، من الاتحادية السويسرية، حيث الولاية في الحقيقة مستقلة جذا حيال البوند» (أي حيال الدولة الاتحادية بمجموعها) «ولكنها مستقلة كذلك حيال القضاء (Bezirk) وحيال البلدية. فحكومات الولايات تعين مديري الأقضية (Statthalter) ومديري البوليس، الأمر المعدوم تماما في بلدان اللغة الانجليزية، وهو ما يتوجب علينا أن نستأصله تماما عندنا في المستقبل كالمحافظين ومديري الأقضية البروسيين» (المفوضين، مدراء الشرطة، المحافظين وبوجه عام جميع الموظفين الذين يعينون من أعلى). ووفقا لذلك يقترح انجلس أن تصاغ في البرنامج مادة الإدارة الذاتية بالشكل التالي: «الادارة الذاتية التامة في الأقاليم» (المديريات أو المحافظات)، «في القضاء والبلدية عن طريق موظفين ينتخبون على أساس حق الانتخاب العام؛ إلغاء جميع السلطات المحلية والإقليمية التي تعينها الدولة».
سبق لي أن أشرت في جريدة «البرافدا» (العدد 68 الصادر في 28 مايو سنة 1917) التي أغلقتها حكومة كيرنسكي وغيره من الوزراء «الاشتراكيين» إلى أنه في هذه النقطة –التي ليست طبعا بالوحيدة قط- قد ارتد أصحابنا الممثلون الاشتراكيون المزعومون للديموقراطية المزعومة الثورية المزعومة ارتدادا فاضحا عن الديموقراطية*. ومفهوم أن يكون هؤلاء الناس الذين ربطوا أنفسهم بـ«ائتلاف» مع البرجوازية الامبريالية قد بقوا صما حيال هذه الملاحظات.
ومن أقصى الأهمية الاشارة إلى أن انجلس، اعتمادا على الوقائع، قد دحض على أساس مثل دقيق للغاية وهما من الأوهام المنتشرة جدا، ولاسيما بين الديموقراطية البرجوازية الصغيرة، مؤداه أن الجمهورية الاتحادية تعني حتما حريات أوفى مما في الجمهورية المركزية. وهذا غير صحيح. فالوقائع التي ذكرها انجلس بخصوص الجمهورية الفرنسية المركزية في سنوات 1792-1798 والجمهورية السويسرية الاتحادية تدحض هذا الزعم. إن الجمهورية المركزية الديموقراطية حقا قد أعطت حريات أوفى مما أعطته الجمهورية الاتحادية. أو بعبارة أخرى: إن أوفى حرية عرفتها التاريخ على الصعيد المحلي وعلى صعيد المحافظة والخ.، قد أعطتها الجمهورية المركزية، لا الجمهورية الاتحادية.
إن هذا الواقع، شأنه شأن مسألة الجمهورية الاتحادية والجمهورية المركزية والادارة الذاتية الملية بوجه عام كانت دعايتنا الحزبية ولا تزال لا تخصص لهما قدرا كافيا من الإهتمام.
5-مقدمة سنة 1891 لمؤلف ماركس «الحرب الأهلية»
في مقدمة الطبعة الثانية من مؤلف «الحرب الأهلية في فرنسا» -وهذه المقدمة تحمل تاريخ18 مارس سنة 1891 ونشرت لأول مرة في مجلة «Neue Zeit»- يعطي انجلس، إلى جانب ما أعطاه، عرضا من ملاحظات قيمة حول المسائل ذات الصلة بالموقف من الدولة، تلخيصا رائع الوضوح لدروس الكومونة. وهذا التلخيص المعمق بكل خبرة مرحلة عشرين سنة تفصل المؤلف عن الكومونة والموجه خصيصا ضد «الايمان الأعمى الخرافي بالدولة» المنتشر في ألمانيا يمكن أن يوصف بحق بأنه آخر كلمة للماركسية في المسألة التي نبحثها.
يلاحظ انجلس: بعد كل ثورة في فرنسا كان العمال مسلحين «ولذلك كان تجريد العمال من السلاح هو أول المقتضيات بالنسبة للبرجوازيين المتربعين على دسة الحكم. ولذا، بعد كل ثورة ينتصر فيها العمال ينشب نضال جديد ينتهي بهزيمتهم…»
إن حاصل خبرة الثورات البرجوازية مقتضب بمقدار بلاغة مدلوله. إن جوهر القضية، بما في ذلك بصدد مسألة الدولة (هل توجد أسلحة لدى الطبقة المظلومة؟) قد شير إليه هنا بصورة رائعة. وهذا الجوهر عينه هو ما يتحاشاه في الغالب الأساتذة الواقعون تحت تأثير الأيديولوجية البرجوازية شأنهم شأن الديموقراطيين صغار البرجوازيين. ففي ثورة سنة 1917 الروسية أولى «المنشفي»، «الماركسي –هو- أيضا»، تسيريتيلي شرف (شرف كافينياك!) إفشاء سر الثورات البرجوازية هذا. لقد زل لسان تسيريتيلي في خطابه «التاريخي»، في 11 يونيو، وأعلن أن البرجوازية قد قررت نزع أسلحة عمال بتروغراد متظاهرا طبعا بأن هذا القرار من عندياته وبأنه ضرورة تفرضها مصلحة «الدولة» بوجه عام!.
إن الخطاب التاريخي الذي القاه تسيريتيلي في 11 يونيو سيكون طبعا لكل مؤرخي ثورة سنة 1917 دليلا من أوضح الأدلة يظهر كيف انتقلت كتلة الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة التي يتزعمها السيد تسيريتيلي إلى جانب البرجوازية، ضد البروليتاريا الثورية.
وثمة ملاحظة أخرى أبداها انجلس عرضا تتصل أيضا بمسألة الدولة وتتعلق بالدين. فمن المعروف أن الاشتراكية الديموقراطية الألمانية، بمقدار ما كانت تتفسخ وتوغل في الانتهازية، كانت تنزلق أكثر فأكثر نحو تأويل خاطئ مبتذل للصيغة المعروفة: «إعلان الدين قضية شخصية». فهذه الصيغة كانت يؤوّل بشكل يبدو منه أن الدين قضية شخصية حتى بالنسبة لحزب البروليتاريا الثوري!! وضد هذه الخيانة التامة بالذات لبرنامج البروليتاريا الثوري قد ثار انجلس الذي لم يلاحظ في سنة 1891 غيرأضعف بواكير الانتهازية في حزبه، الأمر الذي جعله يصوغ عباراته بأشد الاحتراس:
«ولما كان العمال وحدهم تقريبا، أو ممثلوهم المعترف بهم، هم الذين يجلسون في الكومونة، فقد حملت المقررات التي اتخذتها طابعا بروليتاريا صريحا. وهذه المقررات، أمّا أنها نصت على اجراء اصلاحات تخلت البرجوازية الجمهورية عنها لمجرد الجبن الدنيء، وتشكل الأساس الضروري لقيام الطبقة العاملة بالنشاط الحر. ومثل ذلك تحقيق المبدأ القائل أن الدين بالنسبة للدولة هو مسألة شخصية بحتة. واما أن الكومونة أصدرت أوامر كانت في مصلحة الطبقة العاملة بصورة مباشرة وأحدثت، من ناحية جزئية، شقا عميقا في نظام المجتمع القديم…»
لقد تعمد انجلس الإشارة إلى عبارة «بالنسبة للدولة»، مصوبا الضربة لا إلى جفن بل إلى حدقة عين الانتهازية الألمانية التي أعلنت الدين قضية شخصية بالنسبة للحزب وهبطت بهذا الشكل بحزب البروليتاريا الثورية إلى مستوى البرجوازية الصغيرة «ذات التفكير الحر» والمبتذلة غاية الإبتدال والمستعدة للموافقة على وجود المرء خارج نطاق الدين، ولكنها تتخلى عن مهمة النضال الحزبي ضد أفيون الدين الذي يخبل الشعب.
إن مؤرخ الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية في المستقبل، عندما يبحث عن أسباب إفلاسها المشين في سنة 1914، سيجد مادة وفيرة حول هذه المسألة، ابتداءا نت التصريحات المراوغة التي تفتح الباب على مصراعيه أمام الانتهازية، والواردة في مقالات الزعيم الفكري لهذا الحزب كاوتسكي، وانتهاء بموقف الحزب من «Los-von-Kirche-Bewegung» (حركة الانفصال عن الكنيسة) في سنة 1913.
ولكن لنر الآن كيف اخص انجلس بعد مضي عشرين سنة على الكومونة الدروس التي أعطتها للبروليتاريا المناضلة.
وإليكم أية دروس وضعها انجلس في المقام الأول:
«…إن السلطة الظالمة التي تمتعت بها الحكومة المركزية السابقة والجيش والشرطة السياسية والبيروقراطية التي كان نابليون قد أنشأها في سنة 1798، والتي تسلمتها منذ ذلك الحين كل حكومة جديدة كأداة مرغوب فيها واستخدمتها ضد أعدائها –إن هذه السلطة بالتحديد كان ينبغي أن تسقط في كل مكان في فرنسا تماما كما سقطت في باريس.
لقد كان على الكومونة أن تدرك منذ بداية الأمر بأن الطبقة العاملة، وقد جاءت إلى الحكم، لا تستطيع أن تستمر في تصريف الأمور بواسطة جهاز الدولة القديم؛ وأنه ينبغي على الطبقة العاملة، لكي لا تفقد ثانية السيادة التي ظفرت بها للتو، أن تطيح، من جهة، بجهاز الاضطهاد القديم جميعه، الذي كان يستخدم سابقا ضدها، كما كان عليها، من جهة أخرى، أن تحمي نفسها من نوابها وموظفيها بالإعلان أنهم جميعا, ودون استتناء، عرضة للسحب والاستبدال في أي وقت كان…»
يشير انجلس المرة بعد المرة إلى أن الدولة تبقى الدولة، ليس فقط في ظل النظام الملكي، بل أيضا في ظل الجمهورية الديموقراطية، بمعنى أنها تحتفظ بسمتها المميزة الرئيسية: تحويل المواظفين، «خدم المجتمع»، هيئاته، إلى أسياد له.
«… وللحيلولة دون تحول الدولة وأجهزة الدولة على هذا النحو من خدم للمجتمع إلى أسياد له – وهو تحول لا مناص منه في جميع الدول السابقة- لجأت الكومونة إلى وسيلتين صائبيتن: أولا، عينت في جميع الوظائف –الادارية والقضائية والتعليمية- أشخاصا منتخبين على أساس حق الاقتراع العام وأقرت في الوقت نفسه حق سحب هؤلاء المنتخبين في أي وقت بقرار من منتخبيهم. ثانيا، لم تدفع لجميع الموظفين، كبارا وصغارا، الاّ الأجور التي يتقاضاها العمال الآخرون. كان أعلى مرتب تدفعه الكومونة على العموم هو 6000 فرنك*. وبهذه الطريقة أقيم حاجز أمين في وجه الراكض وراء المناصب الرابحة وفي وجه الوصولية، حتى بغض النظر عن التفويضات الملزمة التي كانت تصدر للمندوبين في الهيئات التمثيلية، والتي أدخلتها الكومونة بالإضافة إلى ذلك…»
يقترب انجلس هنا من ذلك الحد الذي يستوقف النظر حيث، من جهة، تتحول الديموقراطية المستقيمة إلى اشتراكية وتتطلب من الجهة الأخرى الاشتراكية. ذلك لأن إلغاء الدولة يقتضي تحويل وظائف الدولة إلى عمليات من المراقبة والحساب بسيطة بحيث تصبح من متناول وفي طاقة الأكثرية الكبرى من السكان وثم جميع السكان عن آخرهم. وإزالة الوصولية بصورة تامة تقتضي أن لا تصبح المناصب «المشرّفة» في خدمة الدولة، حتى ولو كانت لا تدر دخلا، جسورا للقفز إلى المناصب ذات المداخيل الكبيرة في البنوك والشركات المساهمة، كما يحدث دائما في جميع البلدان لرأسمالية حتى ذات الحريات الأوفى.
ولكن انجلس لا يقترف الخطأ الذي يقترفه، مثلاً، بعض الماركسيين في مسألة حق الأمم في تقرير مصيرها: فهم يقولون أن هذا الحق يستحيل في ظل الرأسمالية ولا لزوم له في ظل الاشتراكية. ومثل هذا الرأي الذي يدعي الذكاء والمغلوط في الواقع يمكن تكراره بصدد كل مؤسسة ديموقراطية بما في ذلك دفع المرتبات المتواضعة للموظفين، لأن الديموقراطية المستقيمة كل الإستقامة مستحيلة في ظل الرأسمالية، أمّا في ظل الاشتراكية فتضمحل كل ديموقراطية.
وهذه سفسطة من نوع تلك المزحة القديمة: هل يصبح الانسان أصلع إذا ما سقطت من رأسه شعرة؟
تطوير الديموقراطية حتى النهاية والبحث عن أشكال هذا التطوير والتحقق منها فعلاً الخ.، كل هذا هو مهمة من مهام النضال من أجل الثورة الاجتماعية. فما من ديموقراطية، إذا أخذت على حدة، تعطي الاشتراكية، ولكن الديموقراطية في الحياة «لا تؤخذ» قط «على حدة» بل «تؤخد مع المجموع»، وتؤثر تأثيرها على الاقتصاد أيضا وتحفز تطوره وتتعرض لتأثيرالتطور الاقتصادي، الخ.. هذا هو دياليكتيك التاريخ الحي.
يستطرد انجلس:
«… هذا التفجير (Sprengung) لسلطة الدولة السابقة والاستعاضة عنها بسلطة جديدة، ديموقراطية حقا، إنما جاء وصفهما بالتفصيل في الفصل الثالث من «الحرب الأهلية». ولكنه كان من الضروري أن نقف هنا وقفة قصيرة مرة أخرى عند بعض ملامح هذه الاستعاضة، لأن الإيمان الخرافي بالدولة قد إنتقل، في ألمانيا بوجه التحديد، من الفلسفة إلى الوعي العام للبرجوازية وحتى لكثير من العمال. فالدولة، وفق تعاليم الفلاسفة، مملكة الله على الأرض، الدولة هي المجال الذي تتحقق فيه أو ينبغي أن تتحقق فيه الحقيقة والعدالة الأزليتان. ومن هنا ينبثق الاحترام الخرافي للدولة ولكل ما يتصل بها، وهو احترام يترسخ بسهولة أكبر لكون الناس معتادين، منذ الطفولة، أن يتصوروا أن الشؤون والمصالح التي تعود إلى المجتمع بأسره لا يمكن تحقيقها والحفاظ عليها إلاّ بالطريقة المتبعة في الماضي، أي بواسطة الدولة وموظفيها الذين يمنحون المناصب الرابحة. ويتصور الناس أنهم يخطون إلى أمام خطوة خارقة في جرأتها إذا تخلوا عن الإيمان بالملكية الوراثية وأصبحوا من أنصار الجمهورية الديموقراطية. أما في الحقيقة، فإن الدولة ليست إلاّ جهازا لقمع طبقة من قبل طبقة أخرى، وهذا ما يصدق على الجمهورية الديموقراطية بدرجة لا تقل إطلاقا عن صدقه على الملكية. والدولة، حتى في أحسن الحالات، شر ترثه البروليتاريا المنتصرة في الكفاح من أجل السيطرة الطبقية. والبروليتاريا المنتصرة شأنها في ذلك شأن الكومونة، ستضطر إلى بتر أسوأ جوانب هذا الشر في الحال حتى يحين ذلك الوقت الذي يستطيع فيه جيل تربى في ظروف اجتماعية جديدة حرة أن يطرح عفاشة الدولة بكاملها فوق كوم النفايات».
لقد حذر انجلس الألمان من أن ينسوا في حالة الاستعاضة عن الملكية بالجمهورية أسس الاشتراكية في مسألة الدولة بوجه عام. ويبدو تحذيره الآن درسا موجها بصورة مباشرة إلى السادة تسيريتيلي وتشيرنوف وأضرابهما الذين أظهروا في نشاطهم «الائتلافي» إيمانا خارقا بالدولة وخشوعا خرافيا أمامها!
ملاحظتان أيضا: 1) إذا كان انجلس يقول أن الدولة تظل «جهازا لاضطهاد طبقة لطبقة أخرى» في الجمهورية الديموقراطية «بدرجة لا تقل» عمّا في الملكية، فإن ذلك لا يعني بتاتا أن البروليتاريا يجب ألاّ تكترث بشكل الاضطهاد الطبقي الأكثر سعة وحرية وسفورا يسهل إلى حد كبير جدا للبروليتاريا نضالها في سبيل القضاء على الطبقات بوجه عام.
2) لماذا لا يستطيع أن يطرح بصورة تامة عفاشة الدولة هذه بكاملها إلاّ جيل جديد؟ إنه سؤال يتعلق بمسألة تجاوز الديموقراطية وهي التي ننتقل لتناولها.
6-إنجلس ومسألة تجاوز الديموقراطية
تأتى لانجلس أن يفصح عن رأيه في هذا الموضوع في سياق الحديث بمسألة عدم الدقة العلمية في تسمية «الاشتراكي-الديموقراطي».
فإن انجلس، في المقدمة التي وضعها لمجموعة مقالاته التي نشرها في سنوات العقد الثامن وتناول فيها شتى المواضيع وبصورة رئيسية المواضيع «الأممية» («Internationales aus dem « Volksstaat » »*) –تلك المقدمة المؤرخة في 3 يناير 1894، أي قبل وفاته بسنة ونصف-، قد كتب أنه يستعمل في جميع المقالات كلمة «الشيوعي» لا تعبير «اشتراكي-ديموقراطي»، مع أنه يبقى غير دقيق (Unpassend، غير ملائم) بالنسبة لحزب برنامجه الاقتصادي ليس مجرد برنامج اشتراكي بوجه عام، ولكنه شيوعي بصورة مباشرة، بالنسبة لحزب هدفه السياسي النهائي هو تجاوز الدولة بأكملها وبالتالي الديموقراطية أيضا. إن أسماء الأحزاب السياسية الحقيقية (التشديد لانجلس) لا تنطبق عليها كل الانطباق بحال؛ فالحزب يتطور، في حين يبقى الاسم»
إن رجل الدياليكتيك انجلس قد ظل حتى آخر أيامه أمينا للديالكتيك. فهو يقول: لقد كان لدينا، ماركس وأنا، اسم للحزب رائع، دقيق من الناحية العلمية، لكن لم يكن هناك حزب حقيقي، أي حزب بروليتاري جماهيري. والآن (أواخر القرن التاسع عشر) يوجد حزب حقيقي، ولكن اسمه غير صحيح من الناحية العلمية. لا بأس، «ماشية»، المهم أن يتطور الحزب، المهم ألاّ يخفي عليه عدم الدقة العلمية في تسميته والاّ يعيقه عن التطور في الاتجاه الصحيح!
لعل ظريفا من الظرفاء يأخذ في تعزيتنا نحن البلاشفة أيضا على طريق إنجلسك: عندنا حزب حقيقي، وهو يتطور على ما يرام؛ «ماشية» هذه الكلمة الفارغة الشوهاء «بولشفيك»§ التي تفصح بتاتا عن شيء غير ظرف عرضي صرف وهو حصولنا في مؤتمر بروكسيل-لندن في سنة 1903 على الأكثرية… وقد اتردد الآن، بعد أن تحمل حزبنا في يوليوز وغشت من ملاحقات الجمهوريين وديموقراطيين صغار البرجوازيين «الثورية» ما جعل كلمة «بولشفيك» محترمة جدا في عيون الشعب بأسره، وبعد أن دلت هذه الملاحقات، علاوة على ذلك، على تلك الخطوة التاريخية الهائلة التي خطاها حزبنا إلى الأمام في تطوره الفعلي، قد أتردد أنا أيضا بصدد اقتراحي الذي عرضته في أبريل بشأن تغيير اسم حزبنا. ولربما عرضت على رفاقي «حلاّ وسطا»: أن نسمي أنفسنا الحزب الشيوعي على أن نبقي كلمة بلاشفة بين قوسين…
ولكن مسألة اسم الحزب هي أقل أهمية إلأى ما لا يقاس من مسألة موقف البروليتاريا الثورية من الدولة.
إن المحاكمات المعتادة عن الدولة تحتوي دائما تلك الغلطة التي حذر انجلس هنا من الوقوع فيها والتي أشرنا إليها عرضا فيما سبق من البحث. ونعني: يغيب عن البال دائما أن الغاء الدولة هو إلغاء الديموقراطية أيضا وأن اضمحلال الدولة هو اضمحلال الديموقراطية.
لاول وهلة يبدو هذا التأكيد مستغربا جدا وغير مفهوم. ولعل هناك من تخامره الخشية، فيحسب أننا نتوقع حلول نظام اجتماعي لا يراعى فيه مبدأ خضوع الأقلية للأكثرية، لأنه، ما هي الديموقراطية إن لم تكن الاعتراف بهذا المبدأ؟
كلا. الديموقراطية وخضوع الأقلية للأكثرية ليسا بالشيء ذاته. الديموقراطية هي دولة نعترف بخضوع الأقلية للأكثرية، أي منظمة لممارسة العنف بصورة دائمة حيال طبقة من قبل طبقة أخرى، أو حيال قسم من السكان من قبل قسم آخر.
إن هدفنا النهائي هو القضاء على الدولة، أي على كل عنف منظم دائم، كل عنف حيال الناس بوجه عام. نحن لا نتوقع حلول نظام اجتماعي لا يراعى فيه مبدأ خضوع الأقلية للأكثرية. ولكننا نطمح إلى الاشتراكية، ونحن مقتنعون من أنها ستصير إلى شيوعية فتزول نظرا لذلك كل ضرورة إلى استخدام العنف حيال الناس بوجه عام، إلى خضوع إنسان لإنسان، قسم من السكان لآخر، لأن الناس سيعتادون مراعاة الشروط الأولية للحياة في المجتمع بدون عنف وبدون خضوع.
وللتنويه بعنصر العادة هذا، تحدث انجلس عن جيل حديد «تربى في ظروف اجتماعية جديدة حرة، يستطيع أن يطرح عفاشة الدولة بكاملها فوق النفايات» -كل دولة بما في ذلك الدولة الجمهورية الديموقراطية.
ولإيضاح ذلك يقتضي الأمر بحث مسألة الأسس الاقتصادية لاضمحلال الدولة.
الأسس الاقتصادية لاضمحلال الدولة
ان الشرح الأكثر تفصيلا لهذه المسألة هو الشرح الذي أعطاه ماركس في مبحثه «نقد برنامج غوتا» (رسالة إلى براكه مؤرخة في 5 ماي سنة 1875، لم تنشر إلاّ في سنة 1891 في «Neue Zeit» 9 ،1 وصدرت بالروسية في طبعة على حدة). إن القسم الجدلي في هذا المبحث الرائع، والذي يتلخص في انتقاد اللاسالية قد أبقي في الظل، إن أمكن القول، قسمه الإيجابي ونعني تحليل الصلة بين تطور الشيوعية واضمحلال الدولة.
1- صياغة ماركس للمسألة
إذا قورنت الرسالة التي وجهها ماركس إلى براكه في 5 ماي سنة 1875 مقارنة سطحية بالرسالة التي وجهها إنجلس إلى بيبل في 28 مارس سنة 1875 والتي بحثناها أعلاه، فقد يبدو أن ماركس «نصير للدولة» أشد بكثير من انجلس وأن الفرق بين نظرات الكاتبين إلى الدولة كبير جدا.
يقترح انجلس على بيبل الكف تماما عن الثرثرة بصدد الدولة وشطب كلمة الدولة تماما من البرنامج والاستعاضة عنها بكلمة «مشاعة»؛ حتى أن انجلس يعلن أن الكومونة لم تبق دولة بمعنى الكلمة الخاص. في حين أن ماركس يتحدث حتى عن «نظام الدولة المقبل في المجتمع الشيوعي»، أي أنه يبدو كأنه يعترف بضرورة الدولة حتى في ظل الشيوعية.
ولكن مثل هذه النظرة تكون غير صحيحة من أساسها. فإمعان النظر يظهر أن نظرتي ماركس وإنجلس بشأن الدولة واضمحلالها متفقتان تماما وأن عبارة ماركس المذكورة تتعلق بالضبط بنظام الدولة المضمحلة.
واضح أنه لا يمكن أن يدور الحديث بحال عن تحديد ساعة «الاضمحلال» المقبل، لاسيما وهو حتما عبارة عن عملية طويلة. إن الفرق الظاهري بين ماركس وانجلس ناشئ عن الفرق بين المواضيع التي تناولاها والمهام التي أرادا حلها. فالمهمة التي وضعها انجلس نصب عينيه هي أن يبرهن لبيبل بجلاء ووضوح وبالخط العريض كل بطلان الأوهام (التي يؤمن بها لاسال لحد كبير) الشائعة بصدد الدولة. ولم يتناول ماركس هذه المسألة إلاّ عرضا، موجها انتباهه لموضوع آخر: تطور المجتمع الشيوعي.
إن نظرية ماركس بأكملها هي عبارة عن تطبيق لنظرية التطور –بشكلها الأتم والأكمل والمنسجم والغني المضمون- على الرأسمالية المعاصرة. وطبيعي إذن أن يكون ماركس قد واجه مسألة تطبيق هذه النظرية كذلك على انهيار الرأسمالية المقبل وعلى التطور المقبل للشيوعية المقبلة.
وعلى أساس أية وقائع يمكن طرح مسألة التطور المقبل للشيوعية المقبلة؟
على أساس واقع أن الشيوعية تنشأ من الرأسمالية وتتطور تاريخيا من الرأسمالية وأنها نتيجة لفعل قوة اجتماعية أولدتها الرأسمالية. لا يرى المرء عند ماركس حتى ولا ظل محاولة لنسج الطوبويات ولبذل الجهود دون طائل لتخمين ما لا تمكن معرفته. فماركس يطرح مسألة الشيوعية كما يطرح عالم الطبيعيات مسألة تطور نوع جديد، لنقل مثلا، من الأنواع البيولوجية بعد أن عرف مصدره واتضح الاتجاه الذي يسلكه تطوره.
يبدأ ماركس قبل كل شيء بنبذ التشويش الذي يدخله برنامج غوتا في مسألة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
وقد كتب:
«… إن المجتمع الحالي إنما هو المجتمع الرأسمالي القائم في جميع البلدان المتمدنة وقد تطهر إلى هذا الحد أو ذاك من عناصر القرون الوسطى وعدلته إلى هذا الحد أو ذاك التطور التاريخي في كل بلد من البلدان وتطور إلى هذا الحد أو ذاك. أمّا «الدولة الحالية»، فإنها، على العكس تختلف ضمن حدود كل بلد. فهي في الإمبراطورية البروسية الألمانية غيرها في سويسرا، وهي في انجلترا غيرها في الولايات المتحدة. «فالدولة الحالية» إذن مجرد وهم من الأوهام.
ومع ذلك، فإن مختلف الدول في مختلف البلدان المتمدنة تتصف جميعها بطابع مشترك، رغم نوع أشكالها، وهو أنها تقوم في تربة المجتمع البرجوازي الحديث المتطور تطورا رأسماليا لهذه الدرجة أو تلك. فلديها بالتالي معالم مشتركة جوهرية. وبهذا المعنى يمكن الحديث عن أمّا «الدولة الحالية» خلافا للمستقبل، حيث يزول أصلها الحالي، وهو المجتمع البرجوازي.
ثم يوضع السؤال التالي: أي تحول يطرأ على الدولة في المجتمع الشيوعي؟ وبتعبير آخر: ايه وظائف اجتماعية مماثلة للوظائف الحالية للدولة تظل قائمة في المجتمع الشيوعي؟ العلم وحده يستطيع الجواب عن هذا السؤال؛ ولن ندفع القضية إلى امام قيد شعرة ولو قرنا بألف طريقة كلمة «الشعب» بكلمة «الدولة»…».
وبعد أن سخر ماركس بهذا الشكل من كل هذه الثرثرة عن «الدولة الشعبية» بين كيف تنبغي صياغة المسالة وكأنما ينبه إلى أن إعطاء الجواب العلمي لا يمكن إلاّ بالاستناد إلى المعطيات الثابتة علميا.
إن أول ما أثبته بدقة تامة نظرية التطور كلها والعلم كله بوجه عام وما نسيه الطوباويون وينساه الانتهازيون الحاليون الذين يخشون الثورة الإشتراكية هو واقع أنه لا بد تاريخيا من طور خاص أو مرحلة خاصة للانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية.
2- الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية
يستطرد ماركس:
«… بين المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي تقع مرحلة تحول الرأسمالي تحولا ثوريا إلى المجتمع الشيوعي. وتناسبها مرحلة انتقال سياسية أيضا، لا يمكن أن تكون الدولة فيها سوى الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا…»
ويستند استنتاج ماركس هذا إلى تحليل ذلك الدور الذي تلعبه البروليتاريا في المجتمع الرأسمالي الراهن وإلى وقائع تطور هذا المجتمع وإلى واقع أن مصالح البروليتاريا والبرجوازية المتضادة لا يمكن التوفيق بينهما.
فيما مضى كانت المسألة تطرح بالشكل الآتي: يتوجب على البروليتاريا، لكيما تكتسب حريتها، أن تسقط البرجوازية وأن تظفر بالسلطة السياسية وأن تقيم ديكتاتوريتها الثورية.
أمّا الآن فتطرح المسألة بشكل يختلف بعض الشيء: إن الانتقال من المجتمع الرأسمالي بسبيل التطور نحو الشيوعية إلى المجتمع الشيوعي يستحيل بدون «مرحلة انتقال سياسية». ولا يمكن لدولة هذه المرحلة أن تكون غير الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا.
فما هو موقف هذه الديكتاتورية من الديموقراطية؟
لقد رأينا أن «البيان الشيوعي» يضع، ببساطة، جنبا إلى جنب مفهومي: «تحول البروليتاريا إلى طبقة سائدة» و«اكتساب الديموقراطية». وعلى أساس كل ما عرض أعلاه يمكننا أن نحدد بمزيد من الدقة كيف تتغير الديموقراطية في الإنتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية.
في المجتمع الرأسمالي، في حالة تطوره الأكثر ملاءمة، نرى ديموقراطية تامة لهذا الحد أو ذاك في الجمهورية الديموقراطية. ولكن هذه الديموقراطية مضغوطة على الدوام في إطار ضيق من الاستثمار الرأسمالي، وهي تبقى لذلك على الدوام، في الجوهر، ديموقراطية للأقلية، للطبقات الموسرة وحدها، الأغنياء وحدهم. إن الحرية في المجتمع الرأسمالي تبقى على الدوام تقريبا على ما كانت عليه الحرية في الجمهوريات اليونانية القديمة: حرية لمالكي العبيد، فالعبيد الأجراء الحاليون يظلون، بحكم ظروف الاستثمار الرأسمالي، رازحين تحت أثقال العوز والبؤس لحد «لا يبالون معه بالديموقراطية»، «لا يبالون بالسياسة»، لحد تبعد معه أكثرية السكان، في حالة سير الأحداث في مجراها العادي السلمي، عن الاشتراك في الحياة السياسية والاجتماعية.
ولعل صحة هذا التأكيد يثبتها على أوضح شكل مثال ألمانيا، وذلك بالضبط لأن الشرعية الدستورية قد استمرت في هذه الدولة بثبات ودوام مدهشين زهاء نصف قرن (1871-1914)، ولأن الاشتراكية-الديموقراطية قد استطاعت خلال هذه الفترة أن تفعل أكثر بكثير مما في البلدان الأخرى «للاستفادة من الشرعية» ولتنظم في حزب سياسي نسبة كبيرة من العمال لا تضارعها نسبة في أي بلد في الدنيا.
فما هي، يا ترى، هذه النسبة العليا من العبيد الأجراء الواعين والنشطاء سياسيا التي عرفها المجتمع الرأسمالي؟ مليون عضو في حزب الاشتراكيين-الديموقراطيين من أصل 15 مليونا من العمال الأجراء! ثلاثة ملايين عامل منظمين في النقابات من أصل 15 مليونا!
إن ديموقراطية المجتمع الرأسمالي هي ديموقراطية لأقلية ضئيلة، ديموقراطية الأغنياء. وإذا ما أمعنا النظر في آلية الديموقراطية الرأسمالية، رأينا في كل شيء وفي كل خطوة –في التفاصيل «التافهة»- التافهة حسبما يزعم- للحق الانتخابي (قيد الاقامة، استثناء النساء، الخ)، وفي طريقة عمل المؤسسات التمثيلية، وفي العقبات الفعلية القائمة في وجه حق الاجتماع (الأبنية العامة ليست «للصعاليك»!) وفي التنظيم الرأسمالي الصرف للصحافة اليومية والخ.، والخ.، نرى الديموقراطية مغلولة بقيد فوق قيد. وهذه القيود وعمليات الشطب والاستثناءات والعقبات المقررة بالنسبة للفقراء تبدوا تافهة لا سيما في نظر من لم يعرف بنفسه العوز قط ولم يعرف عن كثب حياة جماهير الطبقات المظلومة (وهذا هو حال تسعة أعشار، إن لم يكن تسعة وتسعون بالمائة من الصحفيين والساسة البرجوازيين)، ولكن هذه القيود بمجملها تبعد وتدفع الفقراء عن السياسة، عن الاشتراك النشيط في الديموقراطية.
لقد أدرك ماركس بكل الوضوح فحوى الديموقراطية الرأسمالية هذه، إذ قال في تحليله لخبرة الكومونة: يسمح للمظلومين مرة في كل عدة سنوات بأن يقرروا: مَن مِن ممثلي الطبقة الظالمة سيمثلهم ويقمعهم في البرلمان!.
ولكن التطور إلى الأمام، من هذه الديموقراطية الرأسمالية –الضيقة حتما والتي تبعد الفقراء خلسة والتي هي، بسبب ذلك، نفاق وكذب كلها- لا يجري ببساطة، مباشرة ودون عقبات في اتجاه «ديموقراطية أوفى فأوفى» كما يصور الأمر الأساتذة الليبراليون والانتهازيون صغار البرجوازيين. لا. إن التطور إلى الأمام، أي نحو الشيوعية، يمر عبر ديكتاتورية البروليتاريا، ولا طريق له غير هذه الطريق، لأنه ما من طبقة أخرى أو طريق آخر لتحطيم مقاومة المستثمِرين الرأسماليين.
وقد أفصح انجلس عن ذلك بجلاء رائع في رسالته إلى بيبل إذ قال كما يذكر القارئ : «أن البروليتاريا بحاجة إلى الدولة لا من أجل الحرية، بل من أجل قمع خصومها، وعندما يصبح بالإمكان الحديث عن الحرية، عندئذ لن تبقى الدولة».
ديموقراطية من أجل الأكثرية الكبرى من الشعب وقمع بالقوة، أي استثناء المستثمِرين، ظالمي الشعب من الديموقراطية، -هذا هو التغير الذي يطرأ على الديموقراطية أثناء الانتقال من الرأسمالية إلى الشيوعية.
في المجتمع الشيوعي فقط، عندما تحطم مقاومة الرأسماليين بصورة نهائية، عندما يتلاشى الرأسماليون، عندما تنعدم الطبقات (أي عندما ينعدم التباين بين أعضاء المجتمع من حيث علاقتهم بوسائل الانتاج الاجتماعية)، عندئذ فقط «تزول الدولة وتصبح بالإمكان الحديث عن الحرية». عندئذ فقط تصبح في الإمكان وتتحقق الديموقراطية الكاملة حقا، الديموقراطية الخالية حقا من كل قيد. وعندئذ فقط، تأخذ الديموقراطية بالاضمحلال بحكم ظرف بسيط هو أن الناس المعتوقين من العبودية الرأسمالية ومما لا يحصى من أهوال الاستثمار الرأسمالي وفظاعاته، وحماقاته وسفالاته سيعتادون شيئا فشيئا مراعاة القواعد الأولية للحياة في المجتمع، القواعد المعروفة منذ قرون والتي كررت ألوف السنين في جميع الكتب، سيعتادون مراعاتها دونما عنف، دونما قسر، دونما خضوع، بدون الجهاز المعد خصيصا للقسر والمسمى بالدولة.
إن تعبير «الدولة تضمحل» هو تعبير اختير بتوفيق كبير، لأنه يشير بوقت معا إلى تدرج هذه العملية وإلى عفويتها. وأن العادة وحدها يمكنها أن تفعل هذا الفعل ولا ريب في أنها ستفعله، لأننا نلاحظ من حولنا ملايين المرات كيف يعتاد الناس بسهولة مراعاة قواعد الحياة في المجتمع الضرورية لهم، إذا كان الاستثمار معدوما، إذا لم يكن هناك ما يثير الاستياء ويدعو إلى الإحتجاج والانتفاض ويستلزم القمع.
وعلى ذلك نرى أن الديموقراطية في المجتمع الرأسمالي هي ديموقراطية بتراء، حقيرة، زائفة، هي ديموقراطية للأغنياء وحدهم، للأقلية. أمّا ديكتاتورية البروليتاريا، مرحلة الانتقال إلى الشيوعية، فهي تعطي لأول مرة الديموقراطية للشعب، للأكثرية، بمحاذاة القمع الضروري للأقلية، للمستثمِرين. والشيوعية وحدها هي التي تستطيع أن تعطي الديموقراطية كاملة حقا، وبمقدار ما تتكامل بمقدار ما تزول الحاجة إليها فتضمحل من نفسها.
وبعبارة أخرى: في ظل الرأسمالية نرى الدولة بمعنى الكلمة الأصلي، بمعنى آلة خاصة لقمع طبقة من قبل طبقة أخرى، وبالتحديد: قمع الأكثرية من قبل الأقلية. وبديهي أن هذا الأمر –قمع الأكثرية المستثمَرة بصورة دائمة من قبل الأقلية المستثمِرة- يتطلب لنجاحه منتهى الشراسة، منتهى الوحشية في القمع، يتطلب بحارا من الدماء، وهذا هو الطريق الذي تسير عليه البشرية وهي في حالة العبودية والقنانة والعمل المأجور.
وبعد. في مرحلة الإنتقال من الرأسمالية إلأى الشيوعية يظل القمع أمرا ضروريا، ولكنه يغدو قمعا للأقلية المستثمِرة من جانب الأكثرية المستثمَرة، ويبقى الجهاز الخاص، الآلة الخاصة للقمع، أي «الدولة»، أمرا ضروريا، ولكنها دولة انتقالية، أي أنها لم تبق الدولة بمعنى الكلمة الأصلي، لأن قمع الأقلية المستثمِرة من قبل الأكثرية، عبيد العمل المأجور في الأمس، هو نسبيا أمر هين بسيط وطبيعي لحد يجعله يكلف من الدماء أقل كثيرا مما يكلفه قمع انتفاضات العبيد أو الفلاحين الأقنان أو العمال الأجراء، لحد يكلف البشرية أقل بكثير، وهو يتلاءم وجعل الديموقراطية تشمل من السكان أكثرية ساحقة لحد تأخذ معه بالزوال الحاجة إلى آلة خاصة للقمع. وبديهي أن المستثمِرين عاجزين عن قمع الشعب بدون آلة في منتهى التعقيد تعد لهذه المهمة. ولكن الشعب يستطيع قمع المستثمِرين حتى بـ«آلة» في منتهى البساطة، تقريبا بدون «آلة»، بدون جهاز خاص، بمجرد تنظيم الجماهير المسلحة (ونلاحظ، مستبقين البحث، على غرار سوفياتات نواب العمال والجنود).
وأخيرا، الشيوعية هي وحدها التي تجعل الدملة أمرا لا لزوم له البتة، لأنه لا يبقى عندئذ أحد ينبغي قمعه، «أحد» بمعنى الطبقة، بمعنى النضال المنتظم ضد قسم معين من السكان. نحن لسنا بطوبويين، ونحن لا ننكر أبدا إمكانية وحتمية وقوع تجاوزات من أفراد كما لا ننكر ضرورة قمع مثل هذه التجاوزات. ولكن هذا الأمر لا يحتاج، أولا، إلى آلة خاصة للقمع، إلى جهاز خاص للقمع –فالشعب المسلح نفسه يقوم به ببساطة ويسر كما تقوم كل جماعة من الناس المتمدنين حتى في المجتمع الراهن بتفريق متشاجرين أو الحيلولة دون الإعتداء على امرأة. وثانيا، نحن نعلم أن السبب الإجتماعي الجذري للمخالفات التي تتجلى في الإخلال بقواعد الحياة في المجتمع هو استثمار الجماهير وعوزها وبؤسها. وعندما يزول هذا السبب الرئيسي تأخذ التجاوزات لا محالة بـ«الإضمحلال». نحن لا نعلم بأية سرعة وبأي تدرج، ولكننا نعلم أنها ستضمحل. ومع اضمحلالها تضمحل الدولة أيضا.
إن ماركس، دون أن ينساق مع الطوبويات، قد عرف بالتفصيل ما يمكن تعريفه الآن بصدد هذا المستقبل، ونعني الفرق بين الطور (الدرجة، المرحلة) الأسفل والطور الأعلى من المجتمع الشيوعي.
3- الطور الأول من المجتمع الشيوعي
في «نقد برنامج غوتا» فند ماركس بالتفصيل ودحض فكرة لاسال القائلة بأن العامل ينال في ظل الاشتراكية «نتاج العمل كاملا» أو «غير مبتور». وقد بين ماركس أنه لا بد من أن تطرح من مجمل العمل الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع بأسره مخصصات احتياط ومخصصات لتوسيع الإنتاج ومخصصات لاستبدال الماكينات «المستهلكة» الخ.، ثم من رصيد الاستهلاك مخصصات للانفاق على جهاز الإدارة والمدارس والمستشفيات وملاجئ الشيوخ وغير ذلك.
فعوضا عن عبارة لاسال العامة، الغامضة والمبهمة («إعطاء العامل نتاج العمل كاملا») يبين ماركس بوضوح كيف ينبغي على المجتمع الاشتراكي بالضرورة أن يدير الأمور. إن ماركس يحلل تحليلا ملموسا ظروف الحياة في مجتمع ستنعدم فيه الرأسمالية ويقول:
«إننا نواجه هنا» (عند تحليله لبرنامج حزب العمال) «ليس مجتمعا شيوعيا تطور على أسسه الخاصة، بل مجتمعا يخرج لتوه من المجتمع الرأسمالي بالذات؛ مجتمع لا يزال، من جميع النواحي، الاقتصادية والأخلاقية والفكرية، يحمل طابع المجتمع القديم الذي خرج من أحشائه».
إن هذا المجتمع الشيوعي المنبثق لتوه من أحشاء الرأسمالية والذي يحمل من جميع النواحي طابع المجتمع القديم يسميه ماركس بالطور «الأول» أو الأدنى من المجتمع الشيوعي.
فإن وسائل الإنتاج لا تبقى ملكا خاصا لأفراد. إن وسائل الإنتاج تخص المجتمع كله. وكل عضو من أعضاء المجتمع يقوم بقسط معين من العمل الضروري اجتماعيا وينال من المجتمع إيصالاً بكمية العمل التي يقوم به. وبموجب هذا الإيصال ينال من المخازن العامة لبضائع الإستهلاك الكمية المناسبة من المنتوجات. وبعد طرح كمية العمل التي توجب للمخصصات العامة، ينال كل عامل إذن من المجتمع بمقدار ما أعطاه.
ويبدو أنن في ملكوت «السماواة».
ولكن عندما يقول لاسال، آخذا بعين الإعتبار هذه الأوضاع الإجتماعية (التي تسمى عادة الإشتراكية ويسميها ماركس الطور الأول من الشيوعية)، بأن هذا «توزيع عادل»، بأن هذا «حق متساو لكل فرد في كمية متساوية من منتوجات العمل»، فهو يخطئ ويوضح ماركس خطأه بقوله:
نحن هنا في الواقع إزاء «الحق المتساوي»، ولكنه ما يزال «حقا برجوازيا» يفترض، ككل حق، عدم المساواة. إن كل حق هو مقياس واحد على أناس مختلفين ليسوا في الواقع متشابهين ولا متساويين، ولذا فإن «الحق المتساوي» هو إخلال بالمساواة وهو غبن. وفي الحقيقة، إن كل فرد ينال لقاء قسط ميساو من العمل الاجتماعي قسطا متساويا من المنتوجات الاجتماعية (بعد طرح المخصصات المذكورة).
بيد أن الناس ليسوا متساوين: أحدهم قوي والآخر ضعيف، أحدهم متزوج والآخر أعزب، لدى أحدهم عدد أكبر من الأطفال ولدى الآخر عدد أقل الخ..
ويستنتج ماركس:
«…لقاء العمل المتساوي، وبالتالي لقاء الأسهام المتساوي في الصندوق الاجتماعي للاستهلاك يتلقى أحدهم بالفعل أكثر من الآخر، ويصبح إذن أغنى من الآخر والخ.. ةلاجتناب جميع هذه المصاعب لا ينبغي أن يكون الحق متساويا، بل ينبغي أن يكون غير متساو…»
وعلى ذلك لا يمكن بعد للمرحلة الأولى من الشيوعية أن تعطي العدالة والمساواة: تبقى فروق في الثروة وهي فروق مجحفة، ولكن استثمار الإنسان للانسان يصبح أمرا مستحيلا، لأنه يصبح من غير الممكن للمرء أن يستولي كملكية خاصة على وسائل الإنتاج، على المعامل والآلات والأرض وغير ذلك. زإذ دحض ماركس عبارة لاسال الغامضة على النمط البرجوازي الصغير بصدد «المساواة» و«العدالة» بوجه عام، قد أظهر مجرى تطور المجتمع الشيوعي المضطر في البدء إلى القضاء فقط على ذلك «الغبن» الذي يتلخص في تملك أفراد لوسائل الإنتاج، ولكنه عاجز عن أن يقضي دفعة واحدة على الغبن الثاني الذي يتلخص بتوزيع مواد الاستهلاك «حسب العمل» (لا حسب الحاجة).
(لا حسب الحاجة).
إن الاقتصاديون المبتذلون ومنهم الأساتذة البرجوازيون بمن فيهم «صاحبنا» توغان يولمون الاشتراكيين على الدوام زاعمين أنهم ينسون أن الناس غير متساوين و«يحلمون» بإزالة هذه اللا مساواة. وهذا اللوم ان برهن على شيء فإنما يبرهن فقط كما نرى، على أن السادة الأيديولوجيين البرجوازيين جهال جهلا مطبقا.
إن ماركس، عدا أنه يحسب الحساب بدقة لحتمية اللا مساواة بين الناس، يأخذ بعين الاعتبار كذلك أن مجرد انتقال وسائل الانتاج إلى ملكية عامة للمجتمع كله («الاشتراكية» بمعنى الكلمة المعتاد) لا يزيل نواقص التوزيع واللا مساواة في «الحق البرجوازي» الذي يظل سائدا ما دامت المنتوجات توزع «حسب العمل».
ويستطرد ماركس:
«… ولكنها تلك مصاعب محتومة لا مناص منها في الطور الأول من المجتمع الشيوعي كما يخرج من المجتمع الرأسمالي بعد مخاض طويل وعسير. فالحق لا يمكن أبدا أن يكون في مستوى أعلى من النظام الاقتصادي ومن درجة تمدن المجتمع التي تناسب هذا النظام…»
وعليه، إن «الحق البرجوازي» في الطور الأول من المجتمع الشيوعي (الذي يسمى عادة بالاشتراكية) لا يلغي بصورة تامة، بل يلغي بصورة جزئية، فقط بالمقدار الذي بلغه الانقلاب الاقتصادي، أي فقط حيال وسائل الانتاج. «فالحق البرجوازي» يعترف بها ملكا خاصا لأشخاص منفردين. أمّا الاشتراكية فتجعلها ملكا عاما. بهذا المقدار ليس غير، يسقط «الحق البرجوازي».
ولكنه يبقى مع ذلك في جزئه الآخر، يبقى بصفة ضابط (محدد) لتوزيع المنتجات وتوزيع العمل بين أعضاء المجتمع. «من لا يعمل لا يأكل»، هذا المبدأ تلاشتراكي قد طبق؛ «لقاء كمية متساوية من العمل كمية متساوية من المنتوجات»، وهذا المبدأ الاشتراكي الآخر قد طبق أيضا. ولكن ذلك ليس بالشيوعية بعد. إن ذلك لا يزيل بعد «الحق البرجوازي» الذي يعطي الناس غير المتساوين مقابل كمية من العمل غير متساوية (غير متساوية فعلا) كمية متساوية من المنتوجات.
يقول ماركس أن هذا «نقص»، ولكن لا مفر منه في الطور الأول من الشيوعية، لأنه لا يمكن الظن، بدون الوقوع في الطوبوية، بأن الناس، بعد اسقاطهم للرأسمالية، يتعلمون على الفور العمل في صالح المجتمع بدون أية أحكام حقوقية، ناهيك عن إلغاء الرأسمالية لايعطي فوراً ممهدات اقتصادية لمثل هذا التغير.
ولا وجود لأحكام عير أحكام «الحق البرجوازي». ولذا تبقى الحاجة إلى دولة تصون الملكية العامة لوسائل الإنتاج وبذلك تصون تساوي العمل وتساوي توزيع المنتوجات.
تضمحل الدولة، لأنه ينعدم الرأسماليون وتنعدم الطبقات فيستحيل بالتالي قمع أية طبقة.
ولكن الدولة لا تضمحل بعد بصورة تامة، لأنه تبقى صيانة «الحق البرجوازي» الذي يكرس اللا مساواة الفعلية. ولاضمحلال الدولة بصورة تامة يقتضي الأمر الشيوعية الكاملة.
4- الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي
يستطرد ماركس:
«… في الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد أن يزول إخضاع الأفراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي؛ وحين لا يبقى العمل مجرد وسيلة للعيش، بل يغدو الحاجة الأولى في الحياة؛ وحين تتنامى القوة المنتجة مع تطور الأفراد من جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثورة الجماعية بفيض وغزارة، -حينذاك فقط، يصبح بالإمكان تجاوز الأفق الضيق للحق البرجوازي تجاوزا تاما، ويصبح بإمكان المجتمع أن يسجل على رايته: «من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته»».
الآن فقط، يمكننا أن نقدر كل صحة ملاحظات انجلس عندما سخر دونما رحمة من سخافة الجمع بين كلمتي «الحرية» و«الدولة». فما بقيت الدولة، لا وجود للحرية، وعندما تحل الحرية تنعدم الدولة.
إن الأساس الاقتصادي لاضمحلال الدولة اضمحلالاً تاما هو تطور الشيوعية إلى حد عال يزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي، ويزول بالتالي ينبوع من أهم ينابيع اللا مساواة الإجتماعية الراهنة، مع العلم أنه ينبوع تستحيل إزالته فورا استحالة تامة بمجرد تحويل وسائل الانتاج ملكا اجتماعيا، بمجرد مصادرة أملاك الرأسماليين.
إن هذه المصادرة ستفسح في المجال لتطور القوى المنتجة تطورا هائلا، وإذ نرى إلى أي حد هائل تعيق الرأسمالية الآن هذا التطور، وأي قدر كبير من الأمور يمكن دفعه إلى الأمام على أساس التكتيك الحديث المتوفرة اليوم، يحق لنا أن نقول موقنين كل أن مصادرة أملاك الرأسماليين تسفر لا محالة عن تطور قوى المجتمع البشري المنتجة تطورا هائلا. ولكن ما لا نعرفه وما لا نستطيع معرفته هو درجة سرعة هذا التطور لاحقا وسرعة بلوغه حد القطيعة مع تقسيم العمل، حد إزالة التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي،حد صيرورة العمل «الحاجة الأولى في الحياة».
ولذا لا يحق لنا أن نتكلم إلاّ عن حتمية اضمحلال الدولة، مشيرين إلى أن هذه العملية تستغرق وقتا طويلا وإلى توقفها على درجة سرعة تطور الطور الأعلى من الشيوعية وتاركين مسألة وقت هذا الاضمحلال أو أشكاله الملموسة معلقة، لأنه لا يوجد ما يلزم لحل هذه المسائل.
لا يمكن للدولة أن تضمحل تماما إلاّ عندما يطبق المجتمع قاعدة «من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته»، أي عندما يعتاد الناس مراعاة القواعد الأساسية للحياة في المجتمع ويصبح عملهم منتجا بحيث يشرعون يعملون طوعا حسب كفاءاتهم. وعدنئد يتم تخطي هذا «الأفق الضيق للحق البرجوازي» الذي يجعل المرء يحسب على غرار شيلوك –فلا يعمل نصف ساعة زيادة على ما يعمل آخر، أو لا يقبض أجرة أقل من أجرة الآخر. وعندئذ لن يتطلب توزيع المنتجات تقنينا من قبل المجتمع لكمية المنتوجات التي ينالها كل فرد، فكل فرد سيأخذ بحرية «حسب حاجاته».
من السهل، من وجهة النظر البرجوازية، إعلان مثل هذا النظام الاجتماعي «طوبوية محضا» والسخرية من الاشتراكيين لأنهم يعدون كل مواطن بأنه سيحق له أن يأخذ من المجتمع بدون أية مراقبة لعمله أي مقدار من السكاكر أو السيارات أو أجهزة البيانو وغير ذلك. وبمثل هذه السخريات تتملص أكثرية «العلماء» البرجوازيين حتى الآن مظهرين بذلك جهلهم ودفاعهم المغرض عن الرأسمالية.
الجهل، لأنه لم يخطر لأي اشتراكي ببال أن «يعد» بحلول الطور الأعلى من تطور الشيوعية. أمّا فيما يخص نبوءة الاشتراكيين العظام بحلوله فهي تفترض إنتاجية عمل غير إنتاجية العمل الحالية وإنسانا غير الإنسان الحالي التافه الذي يستطيع، على غرار تلاميذ مدرسة اللاهوت الذين وصفهم الكاتب بوميالوفسكي، أن يتلف «لوجه الشيطان» الثروات العامة ويطلب المستحيل.
وما لم يحل الطور «الأعلى» من الشيوعية يطالب الاشتراكيون برقابة صارمة جدا من جانب المجتمع ومن جانب الدولة على مقياس العمل ومقياس الاستهلاك، ولكن هذه الرقابة يجب أن تبدأ من مصادرة أملاك الرأسماليين، من رقابة العمال على الرأسماليين، وألاّ تمارسها دولة الموظفين، بل دولة العمال المسلحين.
أمّا الدفاع المغرض عن الرأسمالية من قبل الأيديولوجيين البرجوازيين (وأذنابهم من أمثال السادة تسيريتيلي وتشيرنوف وشركاهما) فيتلخص بالضبط في كونهم يستعيضون بالجدال والثرثرة حول المستقبل البعيد عن مسألة الساعة، المسألة الملحة في سياسة اليوم: مصادرة أملاك الرأسماليين وتحويل جميع المواطنين إلى شغيلة ومستخدمين في «سنديكا» كبير واحد، ونعني الدولة بأكملها، وإخضاع كامل عمل هذا السنديكا بأكمله إخضاعا تاما لدولة ديموقراطية حقا، لدولة سوفييتات نواب العمال والجنود.
أمّا في الجوهر فإن الأستاذ العلامة وفي اثره التافه الضيق الأفق وفي اثره السادة تسيريتيلي وتشيرنوف وأضرابهما، عندما يتكلمون عن الطوباويات الخرقاء ووعود البلاشفة الديماغوجية وعن استحالة «تطبيق» الاشتراكية، إنما يقصدون بالضبط الطور الأعلى أو المرحلة العليا للشيوعية، هذه المرحلة التي لم يفكر أحد «بتطبيقها»، فضلا عن الوعد بذلك، لأن «تطبيقها» أمر مستحيل بوجه عام.
هنا وصلنا إلى مسألة الفرق العلمي بين الاشتراكية والشيوعية، هذه المسألة التي تطرق لإليها انجلس في الفقرة التي أوردناها أعلاه بصدد عدم صحة تسمية «الاشتراكيين-الديموقراطيين». أغلب الظن أن الفرق من الناحية السياسية بين الطور الأول أو الأدنى والطور الأعلى من الشيوعية سيصبح هائلا مع مر الزمن، ولكن من المضحك الاعتراف به في الوقت الحاضر، في ظل الرأسمالية، ولا يمكن لأحد أن يضعه في المقام الأول اللهم الاّ بعض الفوضويين (إذا ما بقي الفوضويين أناس لم يتعلموا شيئا بعد تحول كروبوتكين وغراف وكورنيليسين وأضرابهم من «نجوم» الفوضوية، «على غرار بليخانوف»، إلى اشتراكيين-شوفينيين، أو إلى فوضويي خنادق حسب تعبير غي، أحد الفوضويين القلائل الذين احتفظوا بالشرف والضمير).
بيد أن الفرق العملي بين الاشتراكية والشيوعية واضح. فما يدعونه في المعتاد بالاشتراكية، قد سماه ماركس بالطور «الأول» أو الأدنى من المجتمع الشيوعي. وبما أن وسائل الإنتاج تصبح ملكا عاما فإن كلمة «الشيوعية» قابلة للتطبيق على هذا الطور أيضا، شريطة ألاّ ينسى المرء أن هذه ليست بالشيوعية الكاملة. والأهمية الكبرى لشروح ماركس تتلخص في كونه قد طبق بانسجام في هذه النقطة أيضا الدياليكتيك المادي، نظرية التطور، ناظرا إلى الشيوعية كشيء ينشأ عن الرأسمالية. فبدلا من التعاريف الكلامية المختلفة و«المخترعة» والنقاش العقيم حول الكلمات (ما هي الاشتراكية وما هي الشيوعية) يعطي ماركس تحليلا لما يمكن تسميته درجات نضج الشيوعية اقتصاديا.
فالشيوعية في طورها الأول، في درجاتها الأولى، لا يمكن بعد أن تكون ناضجة تماما من الناحية الاقتصادية، لا يمكن أن تكون خالية تماما من تقاليد أو آثار الرأسمالية. ومن هنا هذه الظاهرة الطريفة، -بقاء «الأفق الضيق للحق البرجوازي» في الشيوعية خلال طورها الأول. وواضح أن الحق البرجوازي حيال توزيع منتجات الاستهلاك يتطلب حتما دولة برجوازية، لأن الحق لا شيء بدون جهاز يستطيع القسر على مراعاة أحكام الحق.
ويستنتج أنه في الشيوعية لا يبقى لزمن معين الحق البرجوازي وحده، بل أيضا الدولة البرجوازية –بدون البرجوازية!
وقد يبدو ذلك تناقضا أو مجرد تلاعب دياليكتيكي من ذهن، الأمر الذي كثيرا ما يتهم به الماركسية الناس الذين لم يبذلوا أي جهد ليدرسوا مضمونها العميق منتهى العمق.
أمّا في الحقيقة فإن الحياة ترينا في كل خطوة، في الطبيعة وفي المجتمع، بقايا القديم في الجديد. وماركس لم يدخل في الشيوعية بصورة كيفية قطعة من الحق «البرجوازي»، بل إنما أخذ ما هو، اقتصاديا، وسياسيا، أمر لا مناص منه في مجتمع ينشأ من أحشاء الرأسمالية.
للديموقراطية أهمية كبرى في نضال الطبقة العاملة ضد الرأسماليين، في سبيل تحررها. ولكن الديموقراطية ليست البتة بحد لا يمكن تخطيه، فهي ليست غير مرحلة من المراحل في الطريق من الاقطاعية إلى الرأسمالية ومن الرأسمالية إلى الشيوعية.
الديموقراطية تعني المساواة. ولا حاجة لتبيان مدى أهمية نضال البروليتاريا من أجل المساواة وشعار المساواة إذا ما فهم هذا الشعار فهما صحيحا بمعنى القضاء على الطبقات. ولكن الديموقراطية لا تعني غير المساواة الشكلية. فما أن تحقق مساواة جميع أعضاء المجتمع حيال تملك وسائل الانتاج، أي المساواة في العمل، المساواة في الأجور، حتى تطرح أمام البشرية لا مناص مسألة السير إلى أبعد، من المساواة الشكلية إلى المساواة الفعلية، إلى تحقيق قاعدة «من كل حسب كفاءاته ولكل حسب حاجاته». ونحن لا نعرف ولا يمكننا أن نعرف عبر أية مراحل وعن طريق أي تدابير عملية ستسير البشرية نحو هذا الهدف الأعلى. ولكن من المهم أن نتفهم مدى بطلان الفكرة البرجوازية الشائعة التي تزعم أن الاشتراكية شيء ما ميت، جامد، ثابت لا يتغير، في حين أن حركة التقدم السريع في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والفردية، الحركة الجماهيرية فعلا وحقا التي تشترك فيها أكثرية السكان ثم جميع السكان لا تبدأ في الحقيقة إلاّ مع الاشتراكية.
الديموقراطية هي شكل للدولة، نوع من أنواعها. ولذا فهي، ككل دولة، استعمال العنف حيال الناس بصورة منتظمة ودائمة. هذا من جهة، ولكنها من الجهة الأخرى، تعني الاعتراف الشكلي بالمساواة بين المواطنين، الاعتراف للجميع بحق متساو في تحديد شكل بناء الدولة وفي ذاتها. وهذا بدوره يرتبط بكون الديموقراطية عند درجة معينة من تطورها، أولا، ترص ضد الرأسمالية الطبقة الثورية، البروليتاريا، وتمكنها من أن تحطم وتمحو عن وجه الأرض آلة الدولة البرجوازية –حتى ولو كانت برجوازية جمهورية- والجيش النظامي والشرطة والدواوينية وتستعيض عن كل هذا بآلة دولة أكثر ديموقراطية، تظل مع ذلك آلة دولة بشخص جماهير العمال المسلحين ثم باشتراك الشعب كله في الميليشيا.
هنا «يتحول الكم إلى كيف»: فمثل هذه الدرجة من تطور الديموقراطية مرتبطة بالخروج من إطار المجتمع البرجوازي وبدء إعادة بنائه على أسس اشتراكية, فإذا ما اشترك الجميع حقا في إدارة الدولة تصبح الرأسمالية عاجزة عن الصمود. وتطور الرأسمالية يكوّن بدوره الممهدات لكيما يستطيع «الجميع» حقا الاشتراك في إدارة الدولة. ومن هذه الممهدات انعدام الأمية إنعداما تاما، الأمر الذي قد حققه عدد من البلدان الرأسمالية الأكثر تقدما، ثم وجود الملايين من العمال الذين «علمهم وعودهم على النظام» الجهاز الكبير المعقد ذو الطابع الاجتماعي: البريد، السكك الحديدية، المعامل الكبرى، المتاجر الكبرى، البنوك والخ.،الخ..
وعند وجود مثل هذه الممهدات الاقتصادية يمكن كل الامكان، بعد اسقاط الرأسماليين والموظفين، الانتقال إلى الاستعاضة عنهم حالا، بين عشية وضحاها، في أمر رقابة الانتاج والتوزيع، في أمر حساب العمل والمنتوجات، بالعمال المسلحين، بالشعب المسلح كله. (ولا يجوز الخلط بين الرقابة والحساب ومسألة الملاكات ذات الثقافة العلمية من مهندسين وخبراء زراعيين وغيرهم: فهؤلاء السادة يعملون اليوم خاضعين للرأسماليين، وسيعملون إذا بصورة أفضل خاضعين للعمال المسلحين).
الحساب والرقابة هما الأمر الرئيسي اللازم لأجل «ضبط» الطور الأول من المجتمع الشيوعي ولأجل عمله بشكل صائب. فجميع المواطنين يصبحون آنذاك مستخدمين تستأجرهم الدولة التي هي العمال المسلحون. وجميع المواطنين يصبحون مستخدمين وعمالا في «سنديكا» واحد تابع للشعب كله، تابع للدولة. وكل القضية هي أن يعملوا على قدم المساواة مراعين بصورة صحيحة مقياس العمل وأن ينالوا الأجور على قدم المساواة. وقد جعلت الرأسمالية من هذا الحساب وهذه الرقابة أمرا بسيطا غاية البساطة، عمليات من المراقبة والتسجيل يسيرة لحد خارق هي في طاقة كل إنسان غير أمي لا تعدو العمليات الحسابية الأربع واعطاء الايصالات اللازمة*.
وعندما تأخذ اكثرية الشعب بالقيام بصورة مستقلة وفي كل مكان بهذا الحساب وهذه الرقابة على الرأسماليين (الذين يتحولون آنئذ إلى مستخدمين) وعلى السادة المثقفين الذين يحتفظون بالعادات الرأسمالية، عندئذ تصبح هذه الرقابة عامة حقا، شاملة، ذات طابع شعبي عام، ولا يبقى بالامكان التملص منها، و«لا تبقى للفرار منها ملاذ».
سيصبح المجتمع كله مكتبا واحدا ومعملا واحدا يتساوى فيه الجميع في العمل وفي الأجور.
بيد أن هذا النظام «المعملي» الذي تشمل به البروليتاريا المجتمع كله بعد أن تنتصر على الرأسماليين وتسقط المستثمِرين ليس بحال من الأحوال بمثلنا الأعلى ولا بهدفنا النهائي، ليس إلاّ درجة ضرورية لتطهير المجتمع بشكل جذري من فظائع وشنائع الاستثمار الرأسمالي ولمتاعبه السير إلى الأمام.
ومذ يتعلم جميع أعضاء المجتمع أو، على الأقل، أكثريتهم الكبرى ادارة الدولة بأنفسهم، مذ يأخذون هذا الأمر بأيديهم و«يرتبون» الرقابة على أقلية الرأسماليين الضئيلة، على الأفندية الراغبين في الإحتفاظ بالعادات الرأسمالية، على العمال الذين أفسدتهم الرأسمالية حتى أعماقهم، مذ ذاك تأخذ بالزوال الحاجة إلى كل إدارة بوجه عام. وبمقدار ما تتكامل الديموقراطية، يقترب وقت زوال الحاجة إليها. وبمقدار ما تكون الديموقراطية أوفى في «الدولة» المؤلفة من العمال المسلحين والتي «لم تبق دولة بمعنى الكلمة الأصلي»، تبدأ كل دولة في الإضمحلال بصورة أسرع.
ذلك لأنه عندما يتعلم الجميع الادارة ويديرون في الواقع بصورة مستقلة الانتاج الاجتماعي، ويحققون بصورة مستقلة الحساب والرقابة على الطفيليين والأفندية والمحتالين ومن على شاكلتهم من «حفظة تقاليد الرأسمالية» -عندئذ يصبح التهرب من حساب الشعب ورقابته على التأكيد أمرا عسير المنال وأمرا نادرا جدا يصحبه في أكبر الظن عقاب سريع وصارم (لأن العمال المسلحين أناس عمليون وليسوا من نوع المثقفين العاطفيين، وعليه من المستبعد أن يسمحوا لأحد بالإستهانة بهم) بحيث أن ضرورة مراعاة القواعد الأساسية البسيطة للحياة في كل مجتمع بشري ستتحول، بسرعة كبيرة، إلى عادة.
وعندئذ ينفتح على مصراعيه باب الانتقال من الطور الأول للمجتمع الشيوعي إلى طوره الأعلى وفي الوقت نفسه إلى اضمحلال الدولة اضمحلالا تاما.
ابتدال الانتهازيين للماركسية
إن مسألة موقف الدولة من الثورة الاجتماعية وموقف الثورة الاجتماعية من الدولة لم تشغل بال كبار النظريين والصحفيين في الأممية الثانية (1889-1914) إلاّ قليلا جدا، شأنهما شأن مسألة الثورة بوجه عام. ولكن السمة المميزة الأساسية لسير التعاظم التدريجي للانتهازية الذي أفضى إلى افلاس الأممية الثانية في سنة 1914 هي واقع أنهم حتى عندما كانوا يجدون أنفسهم وجها لوجه حيال هذه المسألة كانوا يسعون لتجنبها أو لا يلاحظونها.
ويمكن القول بوجه عام أن تشويه الماركسية وابتذالها التام قد نشأ عن التهرب من مسألة موقف الثورة البروليتاريا من الدولة، التهرب المفيد للانتهازية والمغذي لها.
ولوصف هذه العملية المؤسفة ولو بصورة مقتضبة نأخذ أشهر نظريي الماركسية، بلخانوف وكاوتسكي.
1- جدال بليخانوف مع الفوضويين
لقد كرس بليخانوف لموقف الفوضوية حيال الاشتراكية كراسا خاصا عنوانه: «الفوضوية والاشتراكية»، صدر بالألمانية في سنة 1894.
لقد تحايل بليخانوف في معالجة هذا الموضوع فتجنب بصورة تامة المسألة الملحة، مسألة الدولة بوجه عام! ويستلفت النظر في كراسه قسمان: قسم تاريخي أدبي يتضمن مواد قيمة عن تطور آراء شتيرنير وبرودون وغيرهما، والآخر مبتذل جدا يتضمن محاكمات من النوع الرخيص مفادها أنه لا يمكن التمييز بين الفوضوي وقاطع الطريق.
إن الجمع بين الموضوعين مضحك جدا ومميز جدا لكامل نشاط ليخانوف في عشية الثورة وأثناء المرحلة الثورية في روسيا: فهكذا بالضبط أظهر بليخانوف نفسه في سنوات 1905-1917: نصف عقائدي ونصف تافه يحبو في السياسة في ذنب البرجوازية.
لقد رأينا ماركس وانجلس في جدالهما مع الفوضوين يبينان بأكبر الدقة وجهة نظرهما بشأن موقف الثورة من الدولة. فانجلس عندما أصدر في سنة 1891 مؤلف ماركس «نقد برنامج غوتا» قد كتب: «كنا (أي انجلس وماركس) حينذاك، وما كادت تمضي سنتان على مؤتمر الأممية (الأولى) في لاهاي، في معمعان المعركة ضد باكونين وأتباعه من الفوضويين».
لقد حاول الفوضويون أن يعلنوا كومونة باريس ذاتها بأنها «كومونتهم»، إن أمكن القول، أي أنها تثبت تعاليمهم، ولكنهم لم يفهموا البتة دروس الكومونة ولا تحاليل ماركس لهذه الدروس. لم تعط الفوضوية أي شيء يشبه الحقيقة ولو شبها تقريبا حول السؤالين السياسيين الملموسة: أينبغي تحطيم آلة الدولة القديمة؟ وبأي شيء تنبغي الاستعاضة عنها؟
غير أن الحديث عن «الفوضوية والاشتراكية» مع تجنب مسألة الدولة بصورة تامة ومع عدم ملاحظة كامل تطور الماركسية قبل الكومونة وبعدها يعني الانزلاق لا مناص إلى الانتهازية. لأن الانتهازية لا تحتاج إلى شيء كحاجتها إلى عدم طرح هذين السؤالين اللذين أوردناهما الآن وإلى إغفالهما إغفالا تاما. إذ أن هذا بحد ذاته انتصار للانتهازية.
2- جدال كاوتسكي مع الانتهازيين
لا شك في أن العدد المترجم إلى اللغة الروسية من مؤلفات كاوتسكي ليس له مثيل في أية لغة أخرى. وليس من باب الصدف أن يمزح بعض الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان قائلين أنهم يقرؤون كاوتسكي في روسيا أكثر مما يقرؤونه في ألمانيا (ونقول بين معترضتين أن في هذه المزحة من المضمون التاريخي العميق قدرا أكبر جدا مما يتصور الذين ابتدعوها: فالحقيقة أن العمال الروس، إذ أظهروا في سنة 1905 إقبالا خارقا غير مألوف على خير ما جاد به الأدب الاشتراكي-الديموقراطي في العالم وإذ تلقوا من تراجم وطبعات هذه الكتب ما لم يسمع بمثله في بلدان العالم الأخرى، قد نقلوا ذلك بسرعة، إن أمكن القول، إلى صعيد حركتنا البروليتارية الفتية، الخبرة الكبرى المتوفرة لدى بلاد مجاورة خطت شوطا أبعد في مضمار التقدم).
وقد اكتسب كاوتسكي عندنا شهرة كبيرة بجداله مع الانتهازيين وعلى رأسهم برنشتين، فضلا عن عرضه للماركسية عرضا سهل المنال. ولكن ثمة واقعا يكاد يكون مجهولا لا يجوز للمرء اغفاله إذا ما وضع نصب عينيه مهمة تتبع انزلاق كاوتسكي إلى الاضطراب الفكري المشين جدا وإلى الدفاع عن الاشتراكية-الشوفينية أثناء الأزمة الكبرى في سنتي 1914-1915. وهو واقع أن كاوتسكي قد تردد كثيرا قبل أن ينبري ضد أبرز ممثلي الانتهازية في فرنسا (ميليران وجوريس) وفي ألمانيا (برنشتين). فمجلة «زاريا» الماركسية التي كانت تصدر في شتوتغارت خلال سنتي 1901-1902 والتي كانت تدافع عن الأفكار البروليتارية الثورية قد اضطرت إلى الجدال مع كاوتسكي وإلى أن تنعت القرار الأبتر المبهم ذا الطابع التوفيقي إزاء الانتهازيين الذي عرضه كاوتسكي في سنة 1900 في المؤتمر الاشتراكي العالمي في باريس بأنه قرار «مطاطي». وقد صدرت في المطبوعات الألمانية رسائل لكاوتسكي تظهر أن تردده لم يكن أقل قبل هجومه على برنشتين.
ولكن ثمة أهمية أكبر بما لا يقاس لواقع أننا نلاحظ الآن، عندما نستقصي تاريخ خيانة كاوتسكي الحديثة للماركسية، في جداله بالذات مع الانتهازيين وفي طرحه وتناوله للمسألة، انحرافا دائما نحو الانتهازية في مسألة الدولة على وجه الدقة.
فلنأخذ أول مؤلف كبير لكاوتسكي ضد الانتهازية، كتابه: «برنشتين والبرنامج الاشتراكي-الديموقراطي». لقد فند كاوتسكي برنشتين. ولكن البليغ الدلالة هو الآتي.
في «ممهدات الاشتراكية» التي اشتهرت شهرة هيروسترات يتهم برنشتين الماركسية بـ«البللانكية» (التهمة التي وجهها الانتهازيون والبرجوازيون الليبراليون في روسيا منذ ذلك الحين آلاف المرات لممثلي الماركسية الثورية، للبلاشفة). هذا ويتناول برنشتين بصورة خاصة مؤلف ماركس «الحرب الأهلية في فرنسا» ويحاول، دونما نجاح كما رأينا، أن يثبت أن وجهة نظر ماركس بصدد دروس الكومونة مطابقة لوجهة نظر برودون. ويستوقف انتباه برنشتين بصورة خاصة الاستنتاج الذي أشار إليه ماركس في مقدمة سنة 1872 «للبيان الشيوعي» والذي ينص: «لا تستطيع الطبقة العاملة الاكتفاء بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة واستعمالها لأهدافها الخاصة».
وقد «أُعجب» برينشتين بهذه الصيغة إلى حد أنه كررها في كتابه ما لا يقل عن ثلاث مرات مفسرا اياها تفسيرا محرفا أبعد التحريف، تفسيرا انتهازيا.
وقد رأينا أن ماركس يريد أن يقول أنه ينبغي على الطبقة العاملة أن تحطم، تكسر، تفجر (Spregung، تفجير، التعبير الذي استعمله انجلس) آلة الدولة بأكملها. أمّا رأي برنشتين فيستفاد منه أن ماركس قد حذر الطبقة العاملة بهذه الكلمات من الافراط في الاندفاع الثوري عند الاستيلاء على السلطة.
يتعذر على المرء أن يتصور تشويها أخشن وأشنع لفكرة ماركس.
فكيف كان سلوك كاوتسكي في تفنيده المفصل للملاحم البرنشتينية؟.
لقد تجنب تبيان كل عمق التشويه الانتهازي للماركسية في هذه النقطة. فقد أورد الفقرة المذكورة من مقدمة انجلس لمؤلف ماركس، لا تستطيع الاكتفاء بالاستيلاء على آلة الدولة جاهزة، ولكنها بوجه عام تستطيع الاستيلاء عليها، ولم يزد على ذلك. أمّا أن برنشتين قد نسب إلى ماركس فكرة معاكسة تماما لفكرته الحقيقية وأن ماركس قد وضع أمام الثورة البروليتارية منذ سنة 1852 مهمة «تحطيم» آلة الدولة فعن كل ذلك لم ينبس كاوتسكي ببنت شفة.
وقد كانت النتيجة أن السمة الأساسية التي تميز الماركسية عن الانتهازية في مسألة مهام الثورة البروليتارية قد امست مطموسة عند كاوتسكي!
وقد كتب كاوتسكي «ضد» برنشتين قائلا:
«يمكننا أن نترك للمستقبل بكل راحة ضمير أمر تقرير مسألة ديكتاتورية البروليتاريا» (ص 172 من الطبعة الألمانية).
إن هذا ليس بجدال ضد برنشتين، ولكنه في الجوهر تنازل أمامه، تخل عن مواقع للإنتهازية، لأن الانتهازيين لا يريدون في هذا الظرف أكثر من أن «يترك الناس للمستقبل بكل راحة ضمير» جميع المسائل الجذرية بشأن مهام الثورة البروليتارية.
إن ماركس وانجلس قد علما البروليتاريا في غضون أربعين سنة، من سنة 1852 إلى سنة 1891، حيال خيانة الانتهازيين للماركسية خيانة تامة في هذه النقطة، فيستعرض عن مسألة ما إذا كان من الضروري تحطيم هذه الآلة بمسألة الاشكال الملموسة لهذا التحطيم ويلوذ بظل حقيقية مبتذلة «لا جدال فيها» (ولا جدوى منها) وهي أننا لا نستطيع أن نعرف سلفا الأشكال الملموسة!!
إن هوة تفصل ماركس عن كاوتسكي من حيث موقفهما من واجب الحزب البروليتاري في أمر إعداد الطبقة العاملة للثورة.
ولنأخذ مؤلف كاوتسكي التالي، الأنضج، والمكرس لحد كبير كذلك لتفنيذ الانتهازية. ونعني كراسه «الثورة الاجتماعية». في هذا الكراس جعل المؤلف من مسألة «الثورة البروليتارية» و«النظام البروليتاري» موضوعه الخاص. وقد أعطى المؤلف أفكارا كثيرة قيمة جدا، ولكنه تجنب مسألة الدولة بالذات. وفي جميع مقاطع الكراس يدور الحديث عن الاستيلاء على سلطة الدولة وحسب، أي أنه اختار صيغة هي تنازل أمام الانتهازيين ما دامت تسلم بالاستيلاء على السلطة بدون تحطيم آلة الدولة. إن كاوتسكي في سنة 1902 يبعث على وجه الدقة ما أعلن ماركس في سنة 1872 أنه قد «شاخ» في برنامج «البيان الشيوعي».
لقد تناول كاوتسكي في كراسه بباب خاص «أشكال وسلاح الثورة الاجتماعية»؛ وفي هذا الباب تحدث عن الاضراب السياسي الجماهيري والحرب الأهلية وكذلك عن «أداتي قوة الدولة الكبرى الحديثة: الدواوينية والجيش»، ولكنه لم ينبس بحرف عمّا علّمت الكومونة العمال. وواضح أنه ليس عبثا حذر انجلس، ولاسيما الاشتراكيين الألمان، من «الخشوع الخرافي» أمام الدولة.
يبسط كاوتسكي الأمر على النحو الآتي: البروليتاريا الظافرة «تحقق البرنامج الديموقراطي»، ويشرح أحكام هذا البرنامج. وهو لم ينبس بحرف عمّا أعطته سنة 1871 من جديد في مسألة الاستعاضة عن الديموقراطية البرجوازية بالديموقراطية البروليتارية. وقد تملص كاوتسكي بعبارات مبتدلة «رصينة» الرنين:
«بديهي أننا لن نصل إلى السيادة في ظل الأوضاع الحالية. فالثورة نفسها تفترض نضالا طويلا يطال الأعماق يتسنى له أن يغير بناءنا السياسي والاجتماعي الحالي».
وهذا «بديهي» دون شك، كحقيقة أن الخيل تأكل الشعير وأن نهر الفولغا يصب في بحر قزوين. ومن المؤسف فقط أن تتخذ هذه العبارة الفارغة الطنانة بصدد النضال الذي «يطال الأعماق» وسيلة لتجنب مسألة حيوية للبروليتاريا الثورية هي مسألة معرفة فيما يتجلى «عمق» ثورتها هي حيال الدولة، حيال الديموقراطية، خلافا للثورات السابقة، غير البروليتارية.
وبتجنب هذه المسألة يتنازل كاوتسكي في الواقع أمام الانتهازية في هذه النقطة الجوهرية جدا، ويعلن ضدها في القول حربا ضروسا مؤكدا أهمية «فكرة الثورة» (ولكن هل من قيمة لهذه «الفكرة» إذا ما تهيب المرء أن ينشر بين العمال الدروس الملموسة التي أعطتها الثورة؟) أو قائلا أن «المثالية الثورية في المقام الأول» أو معلنا أنه «من المشكوك فيه» أن يكون العمال الإنجليز في الوقت الحاضر «غير برجوازيين صغار».
لقد كتب كاوتسكي:
«في المجتمع الاشتراكي يمكن أن تتواجد جنبا إلى جنب… مختلف أشكال المشاريع: البيروقراطية(؟؟) والتريديونيونية والتعاونية والفردية»… «توجد مثلا مشاريع لا يمكنها الاستغناء عن التنظيم البيروقراطي (؟؟) كالسكك الحديدية. في السكك الحديدية يمكن للتنظيم الديموقراطي أن يتخذ الشكل التالي: ينتخب العمال مندوبين يشكلون نوعا من البرلمان، وهذا البرلمان يقرر نظام العمل ويراقب عمل الجهاز البيروقراطي. وثمة مشاريع أخرى يمكن وضعها تحت إشراف نقابات العمال، وهناك نوع ثالث من المشاريع يمكن تنظيمه على أساس المبدأ التعاوني» (ص 148 و115 من الترجمة الروسية، طبعة جنيف، سنة 1903).
وهذا الرأي خاطئ، وهو عبارة عن خطوة إلى وراء بالمقارنة مع ما أوضحه ماركس وإنجلس في السبعينيات استنادا إلى دروس الكومونة.
من وجهة نظر ما يزعم بضرورة التنظيم «البيروقراطي» لا تختلف السكك الحديدية بشيء على الاطلاق عن جميع مشاريع الصناعة الآلية الكبيرة بوجه عام، عن أي معمل، عن أي مخزن كبير، عن أي مشروع زراعي بأسمالي كبير. في جميع هذه المشاريع يفرض التكنيك دون شك على كل عامل النظام الصارم ومراعاة الدقة التامة في القيام بالعمل الموكل إليه، والا يتوقف العمل كله أو تتعطل الآلة ويفسد المنتوج. وفي جميع أمثال هذه المشاريع سيقوم العمال طبعا بـ«انتخاب مندوبين يشكلون نوعا من برلمان».
ولكن بيت القصيد كله في واقع أن هذا «النوع من البرلمان» لن يكون برلمانا بمعنى المؤسسات البرلمانية البرجوازية. كل بيت القصيد في واقع أن هذا «النوع من البرلمان» لن يقتصر على أن «يقرر نظام العمل ويراقب عمل الجهاز البيروقراطي» كما يتصور كاوتسكي الذي لا يتعدى تفكيره إطار البرلمانية البرجوازية. يقينا أن هذا «النوع من البرلمان» الذي يتألف في المجتمع الاشتراكي من مندوبي العمال «سيقرر نظام العمل ويراقب العمل» «الجهاز»، ولكن هذا الجهاز لن يكون «بيروقراطيا». فالعمال، إذ يستولون على السلطة السياسية، يكسرون الجهاز البيروقراطي القديم، يحطمونه حتى الأساس، ولا يتركون منه حجرا على حجر ويستعيضون عنه بجهاز جديد يتألف من العمال والمستخدمين أنفسهم، الذين ستتخذ على الفور ضد تحولهم إلى بيروقراطيين التدابير التي حددها ماركس وانجلس بتفصيل: 1) ليس فقط انتخابهم بل أيضا إمكانية سحبهم في كل وقت، 2) رواتب لا تزيد على أجرة العامل، 3) الانتقال فورا إلى قيام الجميع بوظائف المراقبة والإشراف، إلى تحول الجميع إلى «بيروقراطيين» لزمن ما لكيلا يستطيع أحد بسبب ذلك أن يصبح «بيروقراطيا».
إن كاوتسكي لم يعمل الفكر بتاتا بكلمات ماركس: «لم تكن الكومونة هيئة برلمانية، بل هيئة عاملة، تتمتع بالسلطتين التشريعية والتنفيذية في الوقت عينه».
إن كاوتسكي لم يفهم بتاتا الفرق بين البرلمانية البرجوازية التي تجمع الديموقراطية (لا للشعب) والبيروقراطية (ضد الشعب) وبين الديموقراطية البروليتارية التي ستتخذ على الفور تدابير بغية اجتثاث البيروقراطية من الأصول والتي سيكون في طاقتها السير بهذه التدابير حتى النهاية، حتى القضاء التام على البيروقراطية، حتى إقامة الديموقراطية الكاملة من أجل الشعب.
لقد أظهر كاوتسكي هنا نفس «الخشوع الخرافي» أمام الدولة، نفس «الإيمان الخرافي» بالبيروقراطية.
ولننتقل إلى آخر وأحسن مؤلفات كاوتسكي ضد الانتهازيين، إلى كراسه «طريق السلطة» (وأحسب أنه لم يصدر بالروسية، لأنه صدر عندما كانت الرجعية في روسيا على أشدها، في سنة 1909). وهذا الكراس خطوة كبيرة إلى الأمام ما دام الحديث فيه لا يدور عن البرنامج الثوري بوجه عام كما هو حال كراس سنة 1899 ضد برنشتين ولا عن مهام الثورة الاجتماعية بصرف النظر عن زمن حدوثها كما هو حال كراس «الثورة الإجتماعية» (سنة 1902)، بل عن ظروف ملموسة تحملنا على الاعتراف بأن «عصر الثورات»يحل.
لقد أشار المؤلف بوضوح إلى اشتداد التناقضات الطبقية بوجه عام وإلى الامبريالية التي تلعب دورا كبيرا بخاصة في هذا الأمر. بعد «المرحلة الثورية في سنوات 1879-1871» في غرب أوروبا، بدأت من سنة 1905 مرحلة مماثلة في الشرق. إن الحرب العالمية تقترب بسرعة مقلقة. «لقد دخلنا المرحلة الثورية». «إنه ليبدأ العصر الثوري».
إن هذه العبارات واضحة كل الوضوح. وأن كراس كاوتسكي هذا يجب أن يكون مقياسا للمقارنة بين ما كان من المتوقع أن تكون عليه الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية قبل الحرب الإمبريالية وبين مدى انحطاطها المشين (ومعها كاوتسكي نفسه) عند اندلاع الحرب. وقد كتب كاوتسكي في الكراس الذي نتناوله: «إن الحالة الراهنة تنطوي على خطر إمكان اعتبارنا (أي الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية) بسهولة معتدلين أكثر مما نحن في الواقع». ولكن تبين أن الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني هو في الواقع أكثر اعتدالا وانتهازية مما كان يبدو عليه!
والبليغ أبلغ الدلالة أن كاوتسكي، بعد أن أعلن بكل الوضوح أن عصر الثورات قد بدأ، تجنب من جديد مسألة الدولة حتى في الكراس المخصص، كما قال هو نفسه، لبحث مسألة «الثورة السياسية» بالذات.
ومن مجمل وقائع تجنب المسألة والسكوت عنها والتملص منها نشأ بالضرورة هذا الانتقال التام إلى الانتهازية، الأمر الذي يترتب علينا أن نتناوله الآن.
وكأني بالاشتراكية-الديموقراطية الألمانية تعلن بشخص كاوتسكي: أحتفظ بنظراتي الثورية (سنة 1899). أعترف خاصة بأن الثورة الاجتماعية البروليتارية أمر محتوم (1902), أعترف بأن عصر الثورات البروليتارية حيال الدولة أتقهقر إلى الوراء بالمقارنة مع ما قاله ماركس سنة 1852 (1912).
هكذا بالضبط طرحت المسألة مجابهة في جدال كاوتسكي مع بانيكوك.
3- جدال كاوتسكي مع بانيكوك.
لقد انبرى بانيكوك ضد كاوتسكي بوصفه أحد ممثلي التيار «الراديكالي اليساري» الذي كان يضم في صفوفه روزا لوكسمبورغ وكارل رادك وغيرهما، التيار الذي كان يذود عن التكتيك الثوري ويوحده الاعتقاد بأن كاوتسكي ينتقل إلى موقف «الوسط» المتأرجح دونما مبدئية بين الماركسية والانتهازية. وقد تأكدت صحة تأكدت صحة هذه النظرة بصورة تامة أثناء الحرب، عندما كشف تيار «الوسط» (المدعو غلطا بالماركسي) أو «الكاوتسكية» عن كل حقارته الشنيعة.
في مقال «الأعمال الجماهيرية والثورة» («Neue Zeit»، 1912، 30، 2) تطرق بانيكوك إلى مسألة الدولة ونعت موقف كاوتسكي بأنه «راديكالية سلبية»، بأنه «نظرية الانتظار السلبي». «إن كاوتسكي لا يريد أن يرى سير الثورة» (ص 616). وإذ طرح بانيكوك المسألة بهذا الشكل وصل إلى الموضوع الذي يهمنا نحن، إلى مهام الثورة البروليتارية حيال الدولة. وقد كتب:
«إن نضال البروليتاريا ليس مجرد نضال ضد البرجوازية في سبيل سلطة الدولة، بل إنما هو نضال ضد سلطة الدولة… فمضمون الثورة البروليتارية هو تحطيم أدوات قوة الدولة وإزاحتها (حرفيا: حلها، Auflösung) بأدوات قوة البروليتاريا… ولا يتوقف النضال إلاّ عندما يتحقق، كنتيجته النهائية، تحطيم منظمة الدولة بصورة نهائية. إن منظمة الأكثرية تبرهن تفوقها بقضائها على منظمة الأقلية السائدة» (ص 548).
إن الصيغة التي أعرب بها بانيكوك عن أفكاره تشوبها نواقص كبيرة جدا. ولكن الفكرة واضحة على كل حال. وخليق بنا أن نرى كيف حاول كاوتسكي دحضها. فقد كتب:
«حتى الآن كان التضاد بين الاشتراكيين-الديموقراطيين والفوشويين في كون الأولين يريدون الاستيلاء على سلطة الدولة بينما يريد الآخرون تحطيمها. أمّا بانيكوك فيريد هذا وذاك» (ص 724).
وإذا كان عرض بانيكوك يشكو الغموض ونقص الدقة (فضلاً عمّا في مقاله من نواقص أخرى لا علاقة لها بالموضوع الذي نبحثه) فإن كاوتسكي قد أخذ بالضبط فحوى الأمر المبدئي الذي رسمه بانيكوك. وفي المسألة المبدئية الجذرية حاد كاوتسكي بصورة تامة عن موقف الماركسية وانتقل إلى الإنتهازية بصورة تامة. فقد حدد الفرق بين الاشتراكيين-الديموقراطيين والفوضويين بصورة غير صحيحة بتاتا، وشوه الماركسية وابتدلها بصورة نهائية.
إن الفرق بين الماركسيين والفوضويين يتلخص: 1) في كون الأولين، إذ يستهدفون القضاء التام على الدولة، يعترفون بأن هذا الهدف غير ممكن التحقيق إلاّ بعد قضاء الثورة الاشتراكية على الطبقات وكنتيجة لإقامة الاشتراكية التي تؤدي إلى اضمحلال الدولة؛ وفي كون الآخرين يريدون القضاء التام على الدولة بين عشية وضحاها، دون أن يفهموا الشروط التي تجعل هذا الأمر قابل التحقيق. 2) في كون الأولين يعترفون بأن من الضروري للبروليتاريا أن تحطم بصورة تامة، بعد استيلائها على السلطة السياسية، آلة الدولة القديمة وأن تستعيض عنها بآلة جديدة تتألف من منظمة العمال المسلحين على طراز الكومونة؛ وفي كون الآخرين يقولون بتحطيم آلة الدولة متصورين بغموض تام ما تستعيض به البروليتاريا عنها وكيف تستفيد من السلطة الثورية؛ حتى أن الفوضويين ينكرون ديكتاتوريتها الثورية. 3) في كون الأولين يطالبون أعداد البروليتاريا للثورة عن طريق الاستفادة من الدولة الراهنة، أمّا الفوضويون فينكرون ذلك.
إن بانيكوك هو الذي يمثل الماركسية ضد كاوتسكي في هذا الجدال، لأن ماركس ذاته قد علم أن البروليتاريا لا تستطيع الاكتفاء بمجرد الاستيلاء على سلطة الدولة بمعنى انتقال جهاز الدولة القديم إلى أيد جديدة، بل ينبغي عليها تحطيم هذا الجهاز وكسره والاستعاضة عنه بجهاز جديد.
يخرج كاوتسكي عن الماركسية إلى الانتهازيين، لأنه يتلاشى عنده كليا تحطيم آلة الدولة هذا غير المقبول إطلاقا من قبل الانتهازيين فيبقى لديهم منفذ بمعنى تفسير «الاستيلاء» على أنه مجرد كسب الأكثرية.
ويسلك كاوتسكي سلوك حفظة الحديث بغية ستر تشويهه للماركسية: فهو ينتر «فقرة» يقتبسها من ماركس نفسه. فقد كتب ماركس في سنة 1850 مؤكدا ضرورة «تركيز القوة بحزم في يدي سلطة الدولة». ويسأل كاوتسكي متهللاً: ألا يريد بانيكوك هدم «المركزية»؟
إن هذا مجرد بهلوانية تشبه محاولة برنشتين لإثبات تطابق نظرات الماركسية والبرودونية بصدد الاستعاضة عن المركزية بالاتحادية.
إن «الفقرة» التي أوردها كاوتسكي هي غير مناسبة. فالمركزية أمر ممكن مع آلة الدولة القديمة والجديدة على حد سواء. فإذا ما وحد العمال طوعا قواهم المسلحة، يكون ذلك من المركزية، لكنها مركزية تقوم على «التحطيم التام» لجهاز الدولة المتمركز والجيش النظامي والشرطة والبيروقراطية. إن كاوتسكي يسلك تماما سلوك المحتالين إذ يغفل آراء ماركس وانجلس المعروفة جدا بصدد الكومونة ليبتر فقرة لا علاقة لها بالموضوع.
ويستطرد كاوتسكي:
«… لعل بانيكوك يريد إلغاء وظائف الموظفين في الدولة؟ ولكننا لا نستغني عن الموظفين لا في منظمات الحزب ولا في المنظمات النقابية، فضلا عن إدارة الدولة. إن برنامجنا لا يطلب القضاء على موظفي الدولة، بل انتخاب الموظفين من قبل الشعب… لا يدور الحديث عندنا الآن حول الشكل الذي يتخذه جهاز الإدارة في «الدولة المقبلة»، بل حول ما إذا كان نضالنا السياسي يقضي على (حرفيا: يحل، auflöst) سلطة الدولة قبل استيلائنا عليها (التشديد لكاوتسكي). أية وزارة يمكن القضاء عليها مع موظفيها؟» ثم يعدد كاوتسكي وزارات المعارف والعدلية والمالية والحربية. «لا. إن نضالنا السياسي ضد الحكومة لن يلغي أية وزارة من الوزارات الراهنة…أكرر لتلافي سوء التفاهم: ليست القضية قضية الشكل الذي تضفيه الاشتراكية-الديموقراطية الظافرة على «دولة الغد»، بل قضية الكيفية التي تغير بها معارضتنا الدولة الراهنة (ص725).
وهذه هي الشعوذة عينها. لقد طرح بانكوك مسألة الثورة بالذات. وقد أعرب عن ذلك بوضوح في عنوان مقاله وفي الفقرات المقتبسة. أمّا كاوتسكي فهو بقفزه إلى مسألة «المعارضة» يستعيض بالضبط عن وجهة النظر الثورية بوجهة النظر الانتهازية. فالحاصل عنده كما يلي: اليوم معارضة، أمّا ما بعد الاستيلاء على السلطة فسنرى. الثورة تتوارى! وهو بالذات ما يحتاجه الانتهازيون.
لا يدور الحديث عن المعارضة ولا عن النضال السياسي بوجه عام، بل إنما يدور عن الثورة عينها. أمّا الثورة فتتلخص في كون البروليتاريا تحطم «جهاز الادارة» وكامل جهاز الدولة مستعيضة عنه بجهاز جديد قوامه العمال المسلحون. يظهر كاوتسكي «خشوعا خرافيا» أمام «الوزارات»، ولكن لمَ لا تمكن الاستعاضة عنها، لنقل مثلاً، بلجان من الاختصاصيين لدى سوفييتات (مجالس) نواب العمال والجنود التي تمارس كامل السيادة والسلطة؟
إن فحوى الأمر ليس البتة في ما إذا كانت «الوزارات» ستبقى أو تقوم «لجان اختصاصيين» أو أية مؤسسات أخرى؛ فليس لهذا الأمر أهمية. إم فحوى الأمر في ما إذا كانت ستبقى آلة الدولة القديمة (المرتبطة بالبرجوازية بآلاف الروابط والمشبعة حتى أعماقها بروح المحافظة والجمود)، أم أنها ستحطم ويستعاض عنها بآلة جديدة. فالثورة ليست في أن تسود وتحكم بواسطة آلة جديدة بعد أن تحطم القديمة- إن كاوتسكي يطمس هذه الفكرة الماركسية الأساسية، أو أنه لم يفهمها بتاتا.
فسؤال بشأن الموظفين يظهر بصورة بينة أنه لم يفهم دروس الكومونة وتعاليم ماركس. «نحن لا نستغني عن الموظفين لا في المنظمات الحزبية ولا في المنظمات النقابية…»
نحن لا نستغني عن الموظفين في ظل الرأسمالية، في ظل سيادة البرجوازية. فالرأسمالية تظلم البروليتاريا وتستعبد جماهير الشغيلة. وفي ظل الرأسمالية تكون الديموقراطية مقيدة، مكبوسة، بتراء، يشوهها كل ظرف عبودية العمل المأجور وفاقة الجماهير وبؤسها. ولهذا السبب، وما من سبب آخر، يفسد الموظفين في منظماتنا السياسية والنقابية (أو بالأصح يظهرون ميلاً إلى الفساد) من جراء ظروف الرأسمالية ويظهرون الميل إلى التحول إلى بيروقراطيين، أي إلى أشخاص ذوي امتيازات منفصلين عن الجماهير ويقفون فوقها.
هذا هو جوهر البيروقراطية. وما لم تصادر أملاك الرأسماليين، ما لم تسقط البرجوازية، يظل حتما شيء من «البيروقراطية» حتى في الموظفين البروليتاريين.
والحاصل عند كاوتسكي هو كما يلي: ما دام هنالك مسؤولون ينتخبون، يبقى بالتالي الموظفون في ظل الاشتراكية وتبقى البيروقراطية! وهذا هو الغلط عينه. فبمثل الكومونة نفسها، بين ماركس أن المسؤولين في ظل الاشتراكية يكفون عن أن يكونوا «بيروقراطيين»، «موظفين»، يكفون بمقدار ما يطبق، عدا مبدأ انتخابهم، كذلك مبدأ سحبهم في أي وقت، إضافة إلى تخفيض الرواتب إلى المستوى المتوسط لأجر العامل، وإضافة إلى الاستعاضة عن المؤسسات البرلمانية بمؤسسات «عاملة، أي تصدر القوانين وتنفذها».
وفي الجوهر، تظهر جميع حجج كاوتسكي ضد بانيكوك ولا سيما حجته الرائعة حيث يقول أننا لا نستغني عن الموظفين لا في المنظمات النقابية ولا في المنظمات الحزبية، أنّ كاوتسكي يكرر «الحجج» القديمة التي أشهرها برنشتين ضد الماركسية بوجه عام. فإن برنشتين، في كتابه «ممهدات الاشتراكية» المشبع بروح الارتداد، يشن الحرب على أفكار الديموقراطية «البدائية»، على ما يسميه بـ«الديموقراطية العقائدية»- تفويضات الزامية، مسؤولون لا يكافأون، تمثيل مركزي عاجز الخ.. وللبرهان على بطلان هذه الديموقراطية «البدائية» يستشهد برنشتين بخبرة التريديونيونات الإنجليزية كما يشرحها الزوجان ويب. ويقول أن التريديونيونات، في غضون سبعين سنة من تطورها «في ظل الحرية التامة» كما يزعم، (ص 137 من الطبعة الألمانية)، قد اقتنعت بعدم صلاح الديموقراطية البدائية واستعاضت عنها بالديموقراطية العادية: بالجمع بين البرلمانية والبيروقراطية.
وفي الحقيقة لم تتطور التريديونيونات «في ظل الحرية التامة»، بل في ظل العبودية الرأسمالية التامة التي لا يمكن طبعا في ظلها «الاستغناء» عن جملة من التنازلات أمام الشر السائد، أمام العنف، أمام الباطل وإبعاد الفقراء عن أمور الإدارة «العليا». وفي ظل الاشتراكية ينبعث حتما الكثير من وجوه الديموقراطية «البدائية»، لأن جمهور السكان يرتفع لأول مرة في تاريخ المجتمعات المتحضرة إلى الاشتراك المستقل ليس فقط في التصويت والانتخابات، بل أيضا في الإدارة اليومية. ففي ظل الاشتراكية سيقوم الجميع بوظائف الإدارة بالتناوب ويعتادون بسرعة على أن يحكم أحد.
إن ماركس ذا العقل العبقري النقاد المحلل قد رأى في التدابير العملية التي اتخذتها الكومونة ذلك الإنعطاف الذي يخشاه الانتهازيون ولا يريدون الاعتراف به لجبنهم ولعدم رغبتهم في قطع كل صلة بالبرجوازية والذي لا يريد الفوضويون أن يروه أمّا لتسرعهم وأمّا لأنهم لا يفهمون ظروف التغيرات الاجتماعية الكبرى بوجه عام. «لا ينبغي حتى التفكير بتحطيم آلة الدولة القديمة، إذ كيف لنا أن نستغني عن الوزارات والموظفين»، -هكذا يفكر الانتهازي المبتذل حتى الصميم والذي فضلا عن أنه لا يؤمن في الجوهر بالثورة ولا بقوتها الخلاقة، يخافها خوفا مميتا (كما يخافها المناشفة والاشتراكيون-الثوريون عندنا).
«لا ينبغي التفكير إلاّ بتحطيم آلة الدولة القديمة، لا حاجة إلى التعميق في الدروس الملموسة التي أعطتها الثورات البروليتارية السابقة ولا الى تحليل ما وكيف نستعيض به عمّا نحطمه» -هكذا يحاكم الفوضوي (خير الفوضويين طبعا، لا الذي يتبع السادة كروبوتكين وشركاه ويحبو في ذنب البرجوازية)؛ ولذا يخلص الفوضوي إلى تكتيك اليأس، لا إلى تكتيك نشاط ثوري جريء لا يعرف الهوادة ويضع نصب عينيه مهام ملموسة ويأخذ في الوقت نفسه بعين الاعتبار الظروف الواقعية المحيطة بحركة الجماهير.
يعلمنا ماركس أن نتجنب الوقوع في غلطتين، يعلمنا أن نتحلى بأكبر الجرأة في تحطيم آلة الدولة القديمة عن آخرها ويعلمنا في الوقت نفسه طرح المسألة بصورة ملموسة: لقد استطاعت الكومونة في غضون عدة أسابيع أن تشرع ببناء آلة دولة جديدة، بروليتارية بهذا الشكل، متخذة التدابيرالمذكورةأعلاه بقصدضمان ديموقراطية أوفى واستئصال البيروقراطية. فلنأخذ إذن عن الكومونيين جرأتهم الثورية، ولنرَ فيما اتخذوه من تدابير عملية صورة أولى لتدابير عملية ملحة ممكنة التطبيق على الفور، وعندئذ، بسيرنا في هذه الطريق، نستأصل شأفة البيروقراطية.
ويضمن إمكان هذا الاستئصال واقع أن الاشتراكية تنقص يوم العمل وتستنهض الجماهير إلى الحياة الجديدة، وتضع أكثرية السكان في ظروف تمكن الجميع بدون استثناء من القيام بـ«وظائف الدولة»، وهذا ما يؤدي إلى الاضمحلال التام للدولة، كل دولة.
يستطرد كاوتسكي:
«… لا يمكن بحال أن تكون مهمة الاضراب الجماهيري تحطيم سلطة الدولة، لا يمكنها أن تكون إلاّ في حمل الحكومة على التنازل في مسألة ما معينة أو في الاستعاضة عن حكومة معادية للبروليتاريا بحكومة تلبي (entgegenkommende) مطالبها… ولكن هذا» (أي انتصار البروليتاريا على الحكومة المعادية) «لا يمكنه في حال من الأحوال ولا في أي ظرف من الظروف أن يفضي إلى تحطيم سلطة الدولة، لا يمكنه أن يسفر إلاّ عن بعض تغير (Verschiebung) في نسبة القوى في داخل سلطة الدولة… إن هدف نضالنا السياسي يبقى إذن كما هو الآن، الاستيلاء على سلطة الدولة عن طريق اكتساب الأكثرية في البرلمان وجعل البرلمان سيد الحكومة» (ص 726، 727، 732).
هذه هي الانتهازية المحضة، أحقر الانتهازية، الارتداد عن الثورة فعلا مع الاعتراف بها قولا، إن فكرة كاوتسكي لا تمضي أبعد من «حكومة تلبي مطالب البروليتاريا» -وهي خطوة إلى الوراء في اتجاه التفاهة وضيق الأفق بالمقارنة مع سنة 1848 عندما نادى «البيان الشيوعي» بـ«تنظيم البروليتاريا في طبقة سائدة».
يتأتى على كاوتسكي أن يحقق ما يهواه من «الوحدة» مع شيدمان وبليخانوف وفاندرفيلده وأضرابهم الموافقين جميعهم على النضال من أجل حكومة «تلبي مطالب البروليتاريا».
أمّا نحن فسنقدم على قطع صلتنا بخونة الاشتراكية هؤلاء وسنناضل من أجل هدم آلة الدولة القديمة بأكملها لكيما تصبح البروليتاريا المسلحة نفسها حكومة. وهما «أمران مختلفان كل الاختلاف».
يتأتى على كاوتسكي أن يكون بصحبة الجماعة المستطابة: جماعة ليغين ودافيد وبليخانوف وبوتروسوف وتسيريتيلي وتشيرنوف ومن لف لفهم من الموافقين كل الموافقة على النضال من أجل «تغيير نسبة القوى داخل سلطة الدولة»، من أجل «اكتساب الأكثرية في البرلمان وجعل البرلمان سيد الحكومة المطلق»، -إنه هدف نبيل منهى النبل يقبله الانتهازيون بقضه وقضيضه، ويبقى معه كل شيء في إطار الجمهورية البرجوازية البرلمانية.
أمّا نحن فسنقدم على قطع صلتنا بالانتهازيين وستكون البروليتاريا الواعية بأكملها معنا في النضال، لا من أجل «تغيير نسبة القوى»، بل من أجل إسقاط البرجوازية، من أجل تحطيم البرلمانية البرجوازية، من أجل جمهورية ديموقراطية من طراز الكومونة أو جمهورية سوفييتات نواب العمال والجنود، من أجل الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا.
*******
في الاشتراكية العالمية تيارات تيامن أكثر من كاوتسكي، منها «المجلة الاشتراكية الشهرية» في ألمانيا (ليغين ودافيد وكولب وكثيرون غيرهم بمن فيهم السكانينافيان ستاونينغ وبرانتينغ) وأتباع جوريس وفاندرفيلده في فرنسا وبلجيكا وتوراتي وتريفيس وغيرهم من ممثلي الجناح اليميني في الحزب الإيطالي والفابيون و«المستقلون» («حزب العمال المستقل» الذي كان في الواقع على الدوام في تبعية الليبراليين) في انجلترا ومن على شاكلتهم. إن جميع هؤلاء السادة الذين يلعبون دورا جسيما غالبا ما يكون الدور الراجح في النشاط البرلماني وفي المنشورات الحزبية ينكرون على المكشوف ديكتاتورية البروليتاريا ويطبقون الانتهازية السافرة. «فديكتاتورية» البروليتاريا في نظر هؤلاء السادة «تناقض» الديموقراطية!! وفي الجوهر لا يوجد بينهم وبين الديموقراطيين صغار البرجوازيين أي فرق جدي.
ونظرا لهذا يحق لنا أن نخلص إلى استنتاج مفاده أن الأممية الثانية في الأغلبية الساحقة من ممثليها الرسميين قد انزلقت تماما إلى الإنتهازية. ولم يقتصر الأمر على نسيان خبرة الكومونة، بل إنما تعداه إلى تشويهها. إنهم لم يبينوا لجماهير العمال أنه تقترب الساعة التي يتوجب عليهم فيها أن ينهضوا ويحطموا آلة الدولة القديمة وأن يستعيضوا عنها بجديدة محولين بهذا الشكل سيادتهم السياسية إلى قاعدة لتحويل المجتمع على الأساس الاشتراكي، بل كانوا يلقنون الجماهير النقيض. وقد فسروا «الاستيلاء على السلطة» بشكل يترك ألف منفذ للانتهازية.
إن تشويه وإغفال مسألة موقف الثورة البروليتارية من الدولة لم يمكنهما إلاّ يلعبا دورا جسيما في الوقت الذي غدت فيه الدول، وقد قوت جهازها العسكري بنتيجة التنافس الإمبريالي، وحوشا حربية تزهق الملايين من الأرواح لكيما تحسم وتفصل فيما إذا كانت السيطرة على العالم لإنجلترا أو لألمانيا، لهذا الرأسمال المالي أو ذاكث
تنبيه إلى القارئ في الطبعة الأولى
كتب هذا الكراس في غشت وشتنبر سنة 1917. وقد وضعت منهاج الفصل التالي، السابع «خبرة ثورتي سنة 1905 وسنة 1917 الروسيتين». ولكن لم يتسن لي أن أكتب من هذا الفصل أي سطر عدا العنوان، فقد «أعاقتني» الأزمة السياسية، عشية ثورة أكتوبر سنة 1917. ومن شأن مثل هذه «العقبة» أن تدخل السرور فعلا على قلب المرء. ولكني أعتقد أني سأرجئ لزمن طويل الجزء الثاني من هذا الكراس (الذي يتناول «خبرة ثورتي سنة 1905 وسنة 1917 الروسيتين»)، إذ أن تطبيق «خبرة الثورة» أطيب وأجدى من الكتابة عنها.
المؤلف
بتروغراد
30 نونبر سنة 1917
كتب في غشت –شتنبر سنة 1917؛ كتبت الفقرة 3 من الفصل 2 قبل 17 ديسمبر 1918
صدر في سنة 1918 ببتروغراد في كتاب على حدة عن دار الطبع والنشر «جيزن أي زنانييه» («الحياة والمعرفة»)
ص ص 1-120
المجلد 33.
الملاحظات:
* إضافة إلى الطبعة الثانية.
* راجع مقال لينين «مسألة مبدئية» . الناشر.
* هذا المبلغ يعادل تقريبا، من الناحية الروسية، 2400 روبل ويقرب من 6000 روبل حسب السعر الحالي. ولا يغتفر قط سلوك أولئك البلاشفة الذين يقترحون، مثلا، أن تكون الرواتب 9000 روبل في بلديات المدن ولا يقترحون أن يكون الراتب الأقصى في نطاق الدولة كلها 6000 روبل، وهو مبلغ كاف.
* «في المواضيع الأممية من «الدولة الشعبية»». الناشر.
§ «بولشفيك» (بولشفي) اشتقاق من كلمة «بولشنستفو» التي تعني بالروسية «الأكثرية». المترجم.
* عندما يقتصر القسم الرئيسي من وظائف الدولة على الحساب والرقابة من قبل العمال أنفسهم، عندئذ تكف الدولة عن أن تكون «دولة سياسية»،عندئذ «تتحول الوظائف العامة من وظائف سياسية إلى مجرد وظائف إدارية» (راجع ما تقدم، الفصل الرابع، المقطع الثاني حول جدال انجلس مع الفوضويين).
•0 ثم يأتي في المخطوطة: •1 «الفصل السابع
خبرة ثورتي سنة 1905 وسنة 1917 الروسيتين
إن الموضوع المشار إليه في العنوان هذا الفصل من السعة بحيث يمكن وينبغي أن تكرس له مجلدات. ويتأتى علينا أن نقتصر في هذا الكراس بطبيعة الحال على الدروس الرئيسية التي تعطيها هذه الخبرة والتي تخص مباشرة مهام البروليتاريا في الثورة حيال سلطة الدولة » (وعلى هذا تنقطع المخطوطة) الناشر
9 من الزوار الآن
917334 مشتركو المجلة شكرا