الصفحة الأساسية > 5.0 دراسات ومعالجات > الأطر الجماهيرية ودراساتها > دور مواقع التواصل الاجتماعي في التغيير مدخل نظري
د. بشرى جميل الراوي
قدمت النظريات والدراسات الإعلامية كثيراً من الاجتهادات حول مفهوم الإعلام الاجتماعي ودائرة التأثير، ومنها نظرية التسويق الاجتماعي التي تتناول كيفية ترويج الأفكار التي تعتنقها النخبة في المجتمع، لتصبح ذات قيمة اجتماعية معترَف بها.
ووفّر ظهور شبكات التواصل الاجتماعي فتحاً ثورياً، نقل الإعلام إلى آفاق غير مسبوقة، وأعطى مستخدميه فرصاً كبرى للتأثير والانتقال عبر الحدود بلا قيود ولا رقابة إلا بشكل نسبي محدود. إذ أوجد ظهور وسائل التواصل الاجتماعي قنوات للبث المباشر من جمهورها في تطور يغير من جوهر النظريات الاتصالية المعروفة، ويوقف احتكار صناعة الرسالة الإعلامية لينقلها إلى مدى أوسع وأكثر شمولية، وبقدرة تأثيرية وتفاعلية لم يتصوّرها خبراء الاتصال.
وإن الخبرة والتسهيلات الجديدة التي وفرها الإنترنت في مجال التنظيم والاتصال والإعلام غيرت المعادلة القديمة التي كانت تضطر قوى التغيير إلى الاعتماد على دعم دول أخرى في نضالها السياسي، كما كان الحال في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين.
لذا فإن حركات الإصلاح والتغيير في عالمنا العربي والإسلامي مدعوة اليوم إلى الاستفادة من ثورة الإنترنت إلى أقصى الحدود، في مجالات التنظيم والإدارة والاتصال والإعلام والنضال السياسي وغير ذلك من جوانب معترك الحياة، فهل نستوعب المدلول التاريخي لثورة الإنترنت؟.
وإسقاطاً على التجارب العالمية في الحالتين "التونسية والمصرية" تقوم وسائل الإعلام وَفْق نظرية التسويق الاجتماعي بإثارة وعي الجمهور عن طريق الحملات الإعلامية التي تستهدف تكثيف المعرفة لتعديل السلوك بزيادة المعلومات المرسلة، للتأثير على القطاعات المستهدَفة من الجمهور، وتدعم الرسائلَ الإعلامية بالاتصالات الشخصية، كذلك الاستمرار في عرض الرسائل في وسائل الاتصال، عندها يصبح الجمهور مهتماً بتكوين صورة ذهنية عن طريق المعلومات والأفكار، وهنا تسعى الجهة القائمة بالاتصال إلى تكوين صورة ذهنية لربط الموضوع بمصالح الجمهور وتطلعاته. وفي خطوة لاحقة تبدأ الجهة المنظمة بتصميم رسائل جديدة للوصول إلى نتائج سلوكية أكثر تحديداً كاتخاذ قرار، ثم تأتي مرحلة صناعة أحداث معيَّنة لضمان استمرار الاهتمام بالموضوع وتغطيتها إعلامياً وجماهيرياً، ثم حثِّ الجمهور على اتخاذ فعل محدد معبِّر عن الفكرة، عن طريق الدعوة لتبنِّي الأفكار التي تركز عليها الرسائل الاتصالية. اذن من يصنع التغيير: إن السؤال الذي يجب الإجابة عنه بعد تكرار المشهد التونسي في مصر وتوسع "اطلس الانتفاضات الشعبية العربية" هو: هل تلعب وسائل الإعلام، دوراً داعماً في التغيير الاجتماعي عن طريق تقوية المجال الجماهيري؟.
إن ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وفرت "فتحاً تاريخياً" نقل الإعلام إلى آفاق غير مسبوقة وأعطى مستخدميه فرصاً كبرى للتأثير والانتقال عبر الحدود بلا رقابة إلا بشكل نسبي محدود. وابرز حراك الشباب العربي الذي تمثل بالثورات التي شهدتها بعض الدول العربية قدرة هذا النوع من الإعلام على التأثير في تغيير ملامح المجتمعات، وإعطاء قيمة مضافة في الحياة السياسية، وانذار لمنافسة الإعلام التقليدي.
استخدم الشباب في بداية الأمر مواقع التواصل الإجتماعي للدردشة ولتفريغ الشحن العاطفية، ولكن يبدو أن موجة من النضج سرت، وأصبح الشباب يتبادلون وجهات النظر، من أجل المطالبة بتحسين إيقاع الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية ومن هنا تشكلت حركات الرفض الشبابية التي إنتظمت في تونس مروراً بمصر واليمن وليبيا والبحرين والأردن. وتخطت تلك الأفكار الرافضة للسياسات بسهولة عبر شبكات التواصل الإجتماعي الوطن العربي.
واستخدم كبار الشخصيات هذه الوسائل الجديدة واقتطعوا وقتاً معيناً من الأنشطة الأخرى لصالحها، لإيمانهم بأنها البوابة الحقيقة والجادة للتواصل وسماع الناس والمواطنين، وبهذا سيتغير المشهد الإعلامي قريباً بشكل واضح للعيان في عالمنا العربي.
ولهذا تثير علاقة مواقع التواصل الاجتماعي بالإعلام إشكاليات عدة، لايمكن اختزالها في الابعاد التقنية المستحدثة في مجال البث والتلقي، إذ تجعلها عاملاً محدداً للتحولات الثقافية وتستبعد أنماط التواصل الجديدة. ولهذا سيعتمد بحثنا على المفاهيم النظرية القادرة على تحليل الاشكال الإمبيريقية لمواقع التواصل الاجتماعي، بالاعتماد على نماذج الاتصال، لفهم الظاهرة كحقل تتفاعل فيه التقنية والتواصل كعملية اجتماعية معقدة، وايضاً من منطلق مقاربة خصوصيته كممارسة إعلامية، أفرزتها الوسائط الإعلامية الجديدة التي تعمل داخل بيئة تواصلية متغيرة تسهم في تشكيلها تقنيات المعلومات والاتصال. وتستعرض الدراسة مجموعة من التعريفات، وتحليل الرؤى النظرية التي اتيح للباحثة الاطلاع عليها، التي يتم تداولها لدى المتخصصين في هذا المجال. ونصل بعد ذلك الى جملة من الخلاصات لمجموعة الرؤى المطروحة عن مواقع التواصل الاجتماعي وعن مداخل فهمه.
1- تكمن أهمية هذا البحث في أنّه من البحوث التي تعنى بموضوعات العصر وتنامي دور الشباب في رسم خريطة التغيير السياسي في الوطن العربي.
2- مواقع التواصل الاجتماعي، التي من الممكن اذا "وظفت من ان تسهم في إعلاء قيم المعرفة والنقد والمراجعة وحوار الذات، وهي القيم التي ينطلق منها أي مشروع تنموي ثقافي"(1).
3-"عدّ مواقع التواصل الاجتماعي إعلاماً بديلاً: ويقصد به "الموقع الذي يمارس فيه النقد. ويولد أفكاراً وأساليب لها أهميتها، وأيضاً طرقاً جديدة للتنظيم والتعاون والتدريب بين إفراد المجتمع. وربما الأكثر أهمية، يشير الى أن البديل يتناول الموضوعات الحساسة في الآليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتوترات بين السيطرة والحرية، وبين العمل والبطالة، وبين المعارضة والحكومة"، ومن ثم يتضاءل البديل إلى إن يصبح نمطاً، للاتصال الجماهيري"(2).
4- تعدّ مواقع التواصل الاجتماعي وسيلة للتواصل بين الحكام وصناع القرار والجمهور، اذ يؤدي غياب الحوار، إلى اختلال العلاقة بينهما.
لا تمثل مواقع التواصل الاجتماعي العامل الأساس للتغيير في المجتمع، لكنها اصبحت عامل مهم في تهيئة متطلبات التغيير عن طريق تكوين الوعي, في نظرة الإنسان إلى مجتمعه والعالم. فالمضمون الذي تتوجّه به عبر رسائل إخبارية أو ثقافية أو ترفيهية أو غيرها، لا يؤدي بالضرورة إلى إدراك الحقيقة فقط، بل انه يسهم في تكوين الحقيقة، وحل اشكالياتها.
ولكن لكي يحدث التغيير في المجتمعات العربية، لا بد من أن يصاحبه تغيير في "الذهنيات والعقليات"
، وفي البنية الثقافية ككل حتى يتم التأقلم مع الأوضاع الجديدة. وبالمقابل كل ما يطرأ من تبدل قيمي أو مفاهيمي "ايجابي" يحدث تغييراً في الممارسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تؤثر في بناء المجتمع العربي. وتشكل تكنولوجيا الاتصال البنية التحتية لصياغة ونشر ثقافة تفرض قيمها، بهدف ضبط السلوك الإنساني بما يتلاءم مع النظام العالمي الجديد، أي عوامل إنتاج معرفي. ووفقاً لهذا ينطلق البحث من تساؤلات عدة:
1- ما هي شبكات التواصل الاجتماعي ؟
2- ما هو الدور الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في انتفاضات الشعوب العربية ؟
3- هل يمكن أن يكون لتأثير وتطبيقات هذا الاعلام الجديد صيرورة اجتماعية وسياسية مستقبلاً، وتصبح مجتمعاتنا العربية عبارة عن تكتلات سوسيولوجية رقمية "مجتمعات افتراضية" ؟
4- هل تعدّ مواقع التواصل الاجتماعي "إعلام بديل" ؟.
مفهوم "مواقع التواصل الاجتماعي" مثير للجدل، نظرا لتداخل الآراء والاتجاهات في دراسته. عكَس هذا المفهوم، التطور التقني الذي طرأ على استخدام التكنولوجيا، وأُطلق على كل ما يمكن استخدامه من قبل الأفراد والجماعات على الشبكة العنكبوتية العملاقة.
الإعلام الاجتماعي: "وهو المحتوى الإعلامي الذي يتميز بالطابع الشخصي، والمتناقَل بين طرفين أحدهما مرسِل والآخر مستقبِل، عبر وسيلة/ شبكة اجتماعية، مع حرية الرسالة للمرسِل، وحرية التجاوب معها للمستقبِل".
وتشير ايضاً إلى: "الطرق الجديدة في الاتصال في البيئة الرقمية بما يسمح للمجموعات الأصغر من الناس بإمكانية الإلتقاء والتجمع على الإنترنت وتبادل المنافع والمعلومات، وهي بيئة تسمح للإفراد والمجموعات بإسماع صوتهم وصوت مجتمعاتهم إلى العالم اجمع"(1).
ويعرف زاهر راضي مواقع التواصل الاجتماعي: "منظومة من الشبكات الإلكترونيّة التي تسمح للمشترك فيها بإنشاء موقع خاص به، و من ثم ربطه عن طريق نظام اجتماعي إلكتروني مع أعضاء آخرين لديهم الإهتمامات والهوايات نفسها"(2).
وتضع كلية شريديان التكنولوجية Sheridan تعريفاً اجرائياً للإعلام الجديد بأنه: "انواع الاعلام الرقمي الذي يقدم في شكل رقمي وتفاعلي، ويعتمد على اندماج النص والصورة والفيديو والصوت, فضلا عن استخدام الكومبيوتر كآلية رئيسة له في عملية الانتاج والعرض, اما التفاعلية فهي تمثل الفارق الرئيس الذي يميزه وهي اهم سماته"(3). ويمكن تقسيم مواقع التواصل الاجتماعي بالاعتماد على التعريفات السابقة الى الاقسام الآتية:
1- شبكة الانترنت Online وتطبيقاتها، مثل الفيس بوك، وتويتر، اليوتيوب، والمدونات، ومواقع الدردشة، والبريد الالكتروني... فهي بالنسبة للإعلام، تمثل المنظومة الرابعة تضاف للمنظومات الكلاسيكية الثلاث.
2- تطبيقات قائمة على الادوات المحمولة المختلفة ومنها اجهزة الهاتف الذكية والمساعدات الرقمية الشخصية وغيرها. وتُعدّ الاجهزة المحمولة منظومة خامسة في طور التشكل.
3- انواع قائمة على منصة الوسائل التقليدية مثل الراديو والتلفزيون "مواقع التواصل الاجتماعي للقنوات والاذاعات والبرامج" التي اضيفت اليها ميزات مثل التفاعلية والرقمية والاستجابة للطلب.
ويمكن ان نخلص إلى شبه اتفاق، أن مواقع التواصل الاجتماعي تشير إلى حالة من التنوع في الاشكال والتكنولوجيا والخصائص التي حملتها الوسائل المستحدثة عن التقليدية، لاسيما فيما يتعلق باعلاء حالات الفردية Individuality والتخصيص Customization ، وتأتيان نتيجة لميزة رئيسة هي التفاعلية. فإذا ما كان الاعلام الجماهيري والاعلام واسع النطاق وهو بهذه الصفة وسم اعلام القرن العشرين, فإن الاعلام الشخصي والفردي هو اعلام القرن الجديد. وما ينتج عن ذلك من تغيير انقلابي للنموذج الاتصالي الموروث بما يسمح للفرد العادي ايصال رسالته إلى من يريد في الوقت الذي يريد، وبطريقة واسعة الاتجاهات وليس من أعلى الى اسفل وفق النموذج الاتصالي التقليدي. فضلا عن تبني هذه المواقع تطبيقات الواقع الافتراضي وتحقيقه لميزات الفردية والتخصيص وتجاوزه لمفهوم الدولة الوطنية والحدود الدولية(1).
لا يعمل الإعلام في فراغ بل يستمد من السياقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، سواء كانت محلية أو قومية أو إقليمية أو دولية. ولكي نفهم أهمية مواقع التواصل الاجتماعي "الإعلام البديل" يجب أن نضعها في النظريات السياسية والديمقراطية التي وفرت سنداً نظرياً وفكرياً لهويتها وممارستها، ويتطلب مراجعة بعض المقاربات على مستويات عدة، يلتزم بعضها الجوانب المتعلقة بالتطورات في تكنولوجيا الاتصال, وبعضها يعلق على الموضوع من جانب الدراسات الاجتماعية والسياسية وغيرها, بما يمثل مدخلا لفهم خصائص الاعلام الجديد:
فتشدد نماذج الديمقراطية القائمة على المشاركة على أهمية "مشاركة المواطنين الحقيقيين وانخراطهم الأكثر فاعلية ونشاط في الديمقراطية، ولذلك فهي تنتقد الفصل الراديكالي للمواطنين عن السلطة والنخب والمؤسسات الديمقراطية عن طريق التمثيل". "وإن وجود المؤسسات النيابية على المستوى القومي ليس كافياً للديمقراطية، فلكي تتحقق المشاركة القصوى من جانب الشعب جميعه على ذلك المستوى، يجب أن تحدث تنشئة اجتماعية أو "تدريب اجتماعي" على الديمقراطية في مجالات أخرى لكي يتسنى تطوير الاتجاهات والصفات السيكولوجية الضرورية. وهذا التطوير يحدث عن طريق عملية المشاركة ذاتها"(1).
وتطرح أوجه التنظير للإعلام تساؤلات حول مفهوم New Media وممارساته فهل تعبر مرحلته هذه عن انتقال أدوات الاتصال وتطبيقاته من المؤسسات إلى الجمهور؟ أو كما يرى البعض بظهور أنماط جديدة من الأشكال الإعلامية، إن النقد الموجه للإعلام الجديد يتمحور حول ضرورة تحديد المجالات التي يتحرك فيها هذا الصنف من الإعلام، فإمكانية الوصول إلى نموذج نظري للإعلام الجديد والراديكالي لا يتم عن طريق ما هو موجه من نقد للإعلام السائد بل إنطلاقا من مخرجات وتجارب وسائل الإعلام التي تطرح نفسها كبديل عن الإعلام الرسمي التقليدي. ويذهب بعض النقاد إلى الدعوة لدراسة الإعلام الجديد ليس إنطلاقا مما يجب أن يكون عليه بل عن طريق ما هو عليه، وهو ما سيمكننا من الحكم عليه إنطلاقا من مقدرته على عرض بدائل في مواجهة الإمبراطورية الإعلامية السائدة(2).
كما أن حصر الإعلام البديل في الرؤية القائلة بأنه عبارة عن حركة مضادة للثقافة الجماهيرية السائدة إجراء نظري قاصر، فالإعلام الجديد منتج أيضا لثقافة إتصالية بديلة، وعادة ما يكون في تعارض مع ما هو سائد. ويقع بين مفترق مناهج نظرية متداخلة فهو يعاني من طابعه المهمش خارج السياق الإجتماعي وخصوصيته في كونه بديل عن النظام الإعلامي القائم. ولهذا ركزت بعض المداخل على خدمة المجتمع ويعدّ مواقع التواصل الاجتماعي، او إعلام المواطن وغيرها من التسميات، بأنها جزء من المجتمع المدني. "وطرح فكرة مجتمعات الممارسة ذات الصلة، بوجود ممارسة مشتركة ومجتمع الممارسة هو مشروع مشترك يوجد تفاعل متبادل بين الأفراد العاملين فيه وله مجموعة من الموارد المشتركة"(3).
ويعبر وينجر وزملاؤه عن هذه الفكرة كالتالي: "مجتمعات الممارسة عبارة عن جماعات من البشر يشتركون في غاية واحدة ومجموعة من المشكلات، ويقومون بتعميق معرفتهم وخبراتهم في هذه الناحية عن طريق التفاعل بصورة مستمرة". ولقد أظهر تحليل تأثير تكنولوجيات الاتصال على الحياة اليومية أن المجتمعات المحلية لا تتشكل فقط في المساحات الجغرافية المحددة بل ايضاً في الفضاء الاليكتروني وتسمى "المجتمعات الافتراضية"(4).
ويمكن أن تعمل مواقع التواصل الاجتماعي على تفعيل الطاقات المتوافرة لدى الإنسان ويوجهها للبناء والإبداع في إطار "تطوير القديم وإحلال الجديد من قيم وسلوك، وزيادة مجالات المعرفة للجمهور، وازدياد قدرتهم على التقمص الوجداني وتقبلهم للتغيير، وبهذا فإن الاتصال له دور مهم، ليس في بثَ معلومات، بل تقديم شكل الواقع، واستيعاب السياق الاجتماعي والسياسي الذي توضع فيه الأحداث"(1).
وقد ارتكزت البحوث العلمية حول وسائل الاتصال الحديثة على نموذجين تفسيريين، الأول، ويتمثل في الحتمية التكنولوجية، وينطلق من قناعة بأن قوة التكنولوجيا هي وحدها المالكة لقوة التغيير في الواقع الاجتماعي، والنظرة التفاؤلية للتكنولوجيا تهلل لهذا التغيير، وتراه رمزا لتقدم البشرية، وعاملا لتجاوز إخفاقها في مجال الاتصال الديمقراطي والشامل الذي تتقاسمه البشرية. والنظرة التشاؤمية التي ترى التكنولوجيا وسيلة للهيمنة على الشعوب المستضعفة، والسيطرة على الفرد، فتقتحم حياته الشخصية وتفكك علاقاته الاجتماعية(2).
أما النموذج الثاني، ويتمثل في الحتمية الاجتماعية التي ترى أن البُنى الاجتماعية هي التي
تتحكم في محتويات التكنولوجيا وأشكالها، أي أن القوى الاجتماعية المالكة لوسائل الاعلام هي
التي تحدد محتواها. وإن البحوث النوعية التي تتعمق في دراسة الاستخدام الاجتماعي لتكنولوجية الاتصال لا تنطلق من النموذجين، لأنها لا تؤمن بأن ما هو تقني ويتمتع بديناميكية قوية، يوجد في حالته النهائية، كما أن البُنى الاجتماعية ليست منتهية البناء. ولعل هذه الحقيقة تنطبق أكثر على المجتمعات العربية التي تعرف حركية اجتماعية متواصلة لم تفض إلى صقل اجتماعي تتمايز فيه البنى الاجتماعية والسياسية، فالقوى الاجتماعية المتدافعة، في المنطقة العربية، مازالت قيد الصياغة والتشُّكل. كما أن المنطلقات الفلسفية للبحوث الكمية لا تسمح بالاعتقاد بوجود خط فاصل بين ما هو تقني وما هو اجتماعي، لأنهما يتفاعلان، باستمرار، في الحياة اليومية. بمعنى أن البعد الفكري للمنهج النوعي يسمح بالملاحظة الدقيقة لكيفية ولوج ما هو تقني في الحياة الاجتماعية، ولا يعطي الفرصة للأشخاص الذين يتعاملون مع وسائل الاتصال الحديثة بتشخيص ما هو تقني أو اجتماعي فقط، بل يسمح بإبراز تمثلهم لما هو تقني، والذي على أساسه يتضح استخدامهم له(3).
وقد أدى النمو الهائل في استخدام الانترنت، جعلت الباحثين في مجال الاستخدامات والإشباعات يزيدون من اهتماماتهم، والتحول من كيف يستخدم الأفراد الانترنت إلى دراسة الأسباب والدوافع التي تدفعهم لاستخدام هذا الوسيط – وقد أكد Rosengren & Windahl، أن نموذج الاستخدامات والإشباعات يركز على الفرد المستخدم لوسائل الاتصال ويبني سلوكه الاتصالي على أهدافه بشكل مباشر، فضلاً عن أنه يختار من بين البدائل الوظيفية ما يستخدمه لكي يشبع احتياجاته. ولتحديد استخدامات الوسائل التكنولوجية الحديثة، فإن كثير من الدراسات السابقة تحققت من الافتراض بوجود ارتباط بين الدوافع الشخصية والدوافع المتعلقة بالوسيلة، ولتجديد دوافع الاستخدام. وأن الناس يستخدمون الكمبيوتر لإشباع ما يلي(1):
أ- الحاجات الشخصية على سبيل المثال السيطرة، الاسترخاء، السعادة والهروب.
ب- الحاجات التي يمكن إشباعها تقليدياً من الوسيلة مثل التفاعل الاجتماعي وتمضية الوقت
والعادة واكتساب المعلومات والتسلية.
ويعدّ المدخل، مدخلاً اتصالياً سيكولوجياً، فقد افترض وجود جمهور نشط له دوافع شخصية ونفسية واجتماعية، تدفعه لاستخدام الانترنت كوسيلة تتنافس مع غيرها من الوسائل لإشباع احتياجاته، وتطبيقاً على ذلك فإن فئات جمهور مستخدمي الانترنت أكثر نشاط ومشاركة في العملية الاتصالية بتأثير التفاعلية التي يتميز بها الاتصال الرقمي، وبالتالي فإننا نتوقع أن يتخذ الفرد قراره في الاستخدام عن وعي كامل بحاجاته التي يريد إشباعها، ويتمثل الاستخدام في اتجاهين: الاتصال بالآخرين عن طريق الوسائل المتاحة على الانترنت، سواء كان المستخدم مرسلاً أو مستقبلاً. وتصفح المواقع المختلفة لتلبية الحاجات.
وتطبيقاً على مدخل الاستخدامات والإشباعات تتضح الدوافع التالية لاستخدام الانترنت:
1- كبديل عن الاتصال الشخصي.
2- الإدراك الذاتي عن الجماعات المختلفة من الناس.
3- تعلم السلوكيات المناسبة.
4- كبديل أقل تكلفة عن الوسائل الأخرى.
5- المساندة المتبادلة مع الآخرين.
6- التعلم الذاتي.
7- التسلية والأمان والصحبة.
ويحصر مدخل نيغروبونتي Negroponte الميزات التي يتحلى بها الاعلام الجديد في: "استبداله الوحدات المادية بالرقمية، وتشبيك عدد غير محدود من الاجهزة مع بعضها البعض, ويلبي الاهتمامات الفرديةIndividual Interests والاهتمامات العامة, أي أن الرقمية تحمل قدرة المخاطبة المزدوجة للاهتمامات والرغبات وهي حالة لا يمكن تلبيتها بالاعلام القديم. والميزة الاكثر أهمية, هي أن هذا الاعلام خرج من أسر السلطة التي كانت تتمثل في قادة المجتمع والدولة إلى أيدي الناس جميعا"(1).
ويشترك فين كروسبي مع نيغروبونتي في الافكار نفسها، ويعقد مقارنة بين الاعلام الجديد والقديم عن طريق النماذج الكلاسيكية, ابتداء من اول نموذج اتصالي بين البشر, الاتصال الشخصي, وله حالتان تميزانه(2):
1- يملك كل فرد من طرفي الاتصال درجة من درجات السيطرة المتساوية على المحتوى المتبادل بين الطرفين.
2- يحمل المحتوى ترميزا يؤكد حالة الفردية التي تحقق احتياجات ومصالح صاحب المحتوى.
3- التحكم المتساوي وميزة الفردية ينخفضان في حالة ازدياد عدد المشاركين في العملية الاتصالية, مما جعل خبراء الاتصال يطلقون عليه الاتصال من نقطة الى اخرى او من فرد لآخر One-to-one.
النموذج الثاني: الاعلام الجديد ويتميز حسب كروسبي بما يأتي(1):
1- يمكن للرسائل الفردية ان تصل في وقت واحد الى عدد غير محدود من البشر.
2- ان كل واحد من هؤلاء البشر له درجة السيطرة نفسها ودرجة الاسهام المتبادل نفسها.
وتصف نظرية ثراء وسائل الإعلام Media Richness Theory لدراسة معايير الاختيار بين الوسائل الإعلامية التكنولوجية وفقاً لدرجة ثرائها المعلوماتي، وتوضح أن فعالية الاتصال يعتمد على القدر الذي تستخدم به الوسيلة، وتركز بشكل أكبر على الأشكال التفاعلية للاتصال فى اتجاهين بين القائم بالاتصال والجمهور المستقبل للرسالة، وطبقاً للنظرية فإن الوسائل الإعلامية التى توفر رجع صدى تكون أكثر ثراء، فكلما قل الغموض كلما كان الاتصال الفعال أكثر حدوثاً، فثراء المعلومات يقوم بتخفيض درجة الغموض وإيجاد مساحة من المعاني المشتركة باستخدام وسيلة اتصالية معينة. وتفترض هذه النظرية فرضين أساسين هما(3):
الفرض الأول: أن الوسائل التكنولوجية تمتلك قدراً كبيراً من المعلومات، فضلاً عن تنوع المضمون المقدم من خلالها وبالتالي تستطيع هذه الوسائل التغلب على الغموض والشك الذي ينتاب الكثير من الأفراد عند التعرض لها.
الفرض الثاني: هناك أربعة معايير أساس لترتيب ثراء الوسيلة مرتبة من الأعلى إلى الأقل من حيث درجة الثراء وهي سرعة رد الفعل، قدرتها على نقل الإشارات المختلفة باستخدام تقنيات تكنولوجية حديثة مثل: الوسائط المتعددة، والتركيز الشخصي على الوسيلة، واستخدام اللغة الطبيعية.
وبرزت نظرية التسويق الاجتماعي بين نظريات الاتصال المعاصرة، لتجمع بين نتائج بحوث الإقناع وانتشار المعلومات، في إطار حركة النظم الاجتماعية والاتجاهات النفسية، بما يسمح بانسياب المعلومات وتأثيرها، عن طريق وسائل الاتصال الحديثة ومنها "مواقع التواصل الاجتماعي"، وتنظيم استراتيجيات عن طريق هذه النظم المعقدة، لاستغلال قوة وسائل وأساليب الاتصال الحديثة لنشر طروحات وايديولوجيات يراد نشرها في المجتمع.
اصبحت تتشكل بفضل شبكة الإنترنت فضاءات تواصلية عدة هي بمثابة أمكنة إفتراضية، نتحدث عبر غرف الحوار والدردشة، بدون حدود وبدون تاريخ، ونتعامل مع هذه الفضاءات بعدّها أمكنة، ذات شحنة ثقافية يكون الحوار والتواصل اساسها. ويعدّ المكان الإفتراضي مصطلحا حديث التداول الفكري، "ويقصد به كل ما له صلة بالفضاء التخيلي، بشقه المادي والمتمثل في إبداع سبل جديدة في هندسة تكنلوجيات الإفتراضي وبشقه الإعتباري، يضم أنشطة عالمنا الواقعي المعتاد، أو في إمكانه أن يضمها جميعها ويضم أشياء جديدة أخرى".
ومن بين مزايا المكان الإفتراضي هو نهاية فوبيا المكان، إن الخوف من المكان دليل على تملكنا لمكان آخر، وعندما ندخل في منظومة المكان الإفتراضي نصبح لا نخشي شيئا بحكم عدم مقدرتنا على تملك الإفتراضي بإعتباره فضاء، لذلك وصفت شبكة الإنترنت كفضاء إفتراضي بأكثر الأمكنة تحررية، وعدم مقدرة أي طرف إمتلاكها(1).
ومن الخصائص البارزة للإنترنت، تتجلّى في قيام نظام الإنترنت، على معادلة زمنيّة تجمع في الوقت ذاته، السّرعة اللّحظيّة، وسرعة الطّواف، وهذا ما عنه البعض بالزّمن العالمي الذي هوّ بمثابة الزّمن العابر "للحدود بين القارّات والمجتمعات واللّغات عبر طرقات الإعلام المتعدّد، التي تنقل الصّور والرّسائل بالسّرعة القصوى من أيّ نقطة في الأرض إلى أيّ نقطة أخرى"، ويقابل هذا الزمن، ما أسماه الدكتور عبد الله الحيدري" بالزّمن الميدياتيكي"، وصورة ذلك هوّ أنّ حياة الفرد اليوم ظلّت متصلة اتصالا لا فكاك منه بوسائل الإعلام والاتصال الإلكترونيّة إلى حدّ تفكّك الرّوابط الحميميّة الأسريّة والاجتماعيّة الأخرى.
فالزمن الميدياتيكي هوّ الزمن الذي نحقّقه في صلاتنا المستمرّة مع وسائل الاتصال بوصفنا أفرادا اجتماعيين ولا يعدو أن يكون زمنا وسائطيّا لاعتمادنا، في الإنتاج والتفكير والتواصل والتفاعل، على تقنيات الإعلام والاتصال، ويحتضن ميول الأفراد واتجاهاتهم بوصفهم متابعين، مستهلكين ومنتجين للصّناعات الإعلاميّة المتدفّقة بأقدار لم يشهدها تاريخ صناعة المضامين، كلّ مجتمع ينتج تمثّله للزمن عن طريق الأنشطة التي يقوم بها، في المقابل كل مجتمع تقوده منظومة القيم الميدياتيكيّة إلى بناء تمثّله للزّمن(1).
ويتسم المجتمع الافتراضي بمجموعة من السمات الآتية(2):
1- المرونة وانهيار فكرة الجماعة المرجعيّة بمعناها التقليدي، فالمجتمع الافتراضي لا يتحدّد بالجغرافيا بل الاهتمامات المشتركة التي تجمع معاً اشخاصاً لم يعرف كلٌ منهم الآخر بالضرورة قبل الالتقاء إليكترونياً.
2- لم تعد تلعب حدود الجغرافيا دوراً في تشكيل المجتمعات الافتراضيّة، فهي مجتمعات لا تنام، يستطيع المرء أن يجد من يتواصل معه في المجتمعات الافتراضيّة على مدار الساعة.
3- ومن سماتها وتوابعها أنّها تنتهي إلى عزلة، على ما تعد به من انفتاح على العالم وتواصل مع الآخرين. هذه المفارقة يلخّصها عنوان كتاب لشيري تيركل "نحن معا، لكنّنا وحيدانً/ وحيدون: لماذا أصبحنا ننتظر من التكنولوجيا أكثر مما ينتظر بعضنا من بعض؟"(3). فقد أغنت الرسائل النصيّة القصيرة، وما يكتبون ويتبادلون على الفيسبوك والبلاك بيري عن الزيارات. من هنا لم تعد صورة الأسرة التي تعيش في بيت واحد بينما ينهمك كلّ فرد من أفرادها في عالمه الافتراضي الخاص، لم تعد مجرّد رسم كاريكاتيري، بل حقيقة مقلقة تحتاج مزيدا من الانتباه والاهتمام.
4- لا تقوم المجتمعات الافتراضيّة على الجبر أو الإلزام بل تقوم في مجملها على الاختيار.
5- في المجتمعات الافتراضيّة وسائل تنظيم وتحكّم وقواعد لضمان الخصوصيّة والسريّة، قد يكون مفروضا من قبل القائمين، وقد يمارس الأفراد أنفسهم في تلك المجتمعات الحجب أو التبليغ عن المداخلات والمواد غير اللائقة أو غير المقبولة.
6- أنّها فضاءات رحبة مفتوحة للتمرّد والثورة – بداية من التمرّد على الخجل والانطواء وانتهاء بالثورة على الأنظمة السياسيّة.
7- تتسم المجتمعات الافتراضية بدرجة عالية من اللامركزية وتنتهي بالتدريج إلى تفكيك مفهوم الهويّة التقليدي. ولا يقتصر تفكيك الهويّة على الهويّة الوطنيّة أو القومية بل يتجاوزها إلى الهويّة الشخصية، لأنَّ من يرتادونها في احيان كثيرة بأسماء مستعارة ووجوه ليست وجوههم، وبعضهم له أكثر من حساب(1).
جدلية قيم حتمية تقنية الاتصال والمجتمع
يكمن النظر للتغير الاجتماعي برؤية "حتمية" التحول في ثلاثة مسارات. أولهما، ما يعرف "بالحتمية التقنية"Technological Determinism . وثانيهما، ما يعرف "بالحتمية الاجتماعية"Social Determinism، وإن لكلا المسارين وجهات نظر تدعم تفسيره، إلا إن التفسير الذي قدمه بعض المفكرين "في اختلاف معدل التغير في كل من الثقافة المادية واللامادية، نتيجة التأثير التقني في المجتمعات يعدّ الأساس في التحليل الاجتماعي لتقنية الاتصال"، مع احتمال "حدوث تصادم بين التغير التقني والتغير الثقافي"، ويترتب عليه خلل وظيفي مما يؤثر في تفكير أفراد المجتمع، وتتوتر القيم والإيديولوجيات السائدة(2).
وتبرز الحتمية الاجتماعية في مقابل الحتمية التقنية على أساس "أنّ القوى الاجتماعية بأنواعها تمتلك زمام تطور التكنولوجيا، وتؤثر في تطويرها وتوجيهها. واشتهر في هذا الاتجاه، الأمريكي لزلي وايت". وقدم وايت الطرح التالي: "إن النسيج الاجتماعي هو الثقافة المتقدمة بخطى التكنولوجيا، وتبنى المجتمعات البشرية ثقافيا بواسطة المادية التكنولوجية، وتبنى اجتماعيا بفعل التطور الاجتماعي، بمعنى جدلية الاجتماع/ التقنية"(3).
"وتعدّ وسائل الاتصال عنصرا أساسا في المجتمع، لكن النظر إليها على أنها أساس عملية التغير الاجتماعي ينقلها إلى دائرة "الحتمية"، وهذا ما رفضه علم الاجتماع المعاصر. وتؤدي الثقافة اللامادية، كالإيديولوجيات السياسية والاجتماعية إلى تغير واسع في حياة المجتمع، أكثر من تأثير الثقافة المادية في بعدها التكنولوجي، ولكن يصعب قياس هذه التغيرات "التغير المادي واللامادي"، مما أدى إلى إطلاق النظرة النسبية".
ثم ظهر مفهوم الحتمية المعلوماتية في بداية الألفية الثالثة، إذ "لم يعد يقاس مدى تقدم الدول، على أساس نتاجها القومي، بل: إجمالي نتاجها المعلوماتي القومي". وأهم المفكرين في هذا، هو سكوت لاش عالم الاجتماع، إذ اهتم بالتغير المعاصر في عصر "ما بعد الحداثة"، ونبه إلى تناقض عصر ما بعد الحداثة، لأنه يفرض على الإنسان صعوبة العيش فيه دون أدواته الاتصالية التي تربطه بالمجتمع. فمثلاً، "لا نستطيع العمل من دون هاتف نقال، أو الحاسوب، ..."، أي أشكال تقنية للحياة الاجتماعية. ويؤكد سكوت لاش "انه تصبح لإشكال الحياة خصائص جديدة عن طريق العمل بالتكنولوجيا، واهم هذه الخصائص: هي أن "تتسطح أشكال الحياة، ويتفاعل كل شيء عن طريق وسائل الاتصال"(1).
ولا يمكن القول إن عوامل التغير يمكن تعليلها بعامل وحيد، إذ يبين الواقع تساند عوامل عدة، "اقتصادية، وتعليمية، وأيدي عاملة، وجغرافية، وتكنولوجيا، وقادة مخلصون، وإعلام مسؤول، وإيديولوجيا موجهة"، تتفاعل هذه العوامل لإحداث التغير. لذلك يصعب تحديد العامل الفاصل في التغير، بشكل ديناميكي عبر الزمن. "ولكن نستطيع القول أن الثقافة فقدت السيطرة على المجال التقني، وتحولت إلى أداة تطوع ما تفرضه هذه التكنولوجيا من متطلبات. ويبرز ذلك في تقليد "الحتمية التقنية" ثم لاحقاً في "الحتمية الإعلامية"".
يُعدّ التحوّل عبر التطوّر التكنولوجي هوّ جوهر الإعلام، ومايبدو اليوم جديداً يصبح قديماً بظهور تقنية جديدة، ألم يكن الإعلام جديدا مع ظهور الطباعة، والصحافة، والإذاعة، والتلفزيون كلّ ذلك لأن طبيعة التحوّل التي تقود إليها التقنية، في بعدها العلمي والإيديولوجي، تقتضي النّظر في أمر ما يسمّيه ماكلوهان بالحتميّة التكنولوجيّة. اذن مفهوم الاعلام الجديد هو في واقع الامر يمثل مرحلة انتقالية من ناحية الوسائل(2).
ويبدو للباحثة مفهوم الاعلام البديل, من الافضل اعتماده Alternative Media اذ يستقي دلالته من جمهوريته، فالجمهور اتخذوا مواقع التواصل الاجتماعي بديلاً عن الوسائل الإعلامية التقليدية: ويقصد بها "الموقع الذي يمارس فيه النقد. وتولد أفكاراً وطرقاً جديدة للتنظيم والتعاون والتدريب بين إفراد المجتمع. وربما الأكثر أهمية، يشير الى أن البديل يتناول الموضوعات الحساسة في الآليات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتوترات بين السيطرة والحرية، وبين العمل والبطالة، وبين المعارضة والحكومة"، "ومن ثم يتضاءل البديل إلى إن يصبح نمطاً، للاتصال الجماهيري". وينحدر الإعلام البديل من مرجعية عفوية وغير منظمة تأخذ من مبدأ حرية التعبير والإستقلال عن كل الإلتزامات الأيديولوجية أو الإقتصادية القائمة دون أية قيود وهو ما يشير إلى أن الإعلام البديل هو حصيلة مواقف فكرية، تعمل بالإعتماد على قاعدة التشكل الذاتي. وبعيدا عن النظرة القيمية، يجب أن نتعامل مع هذه الظاهرة الإتصالية والإعتراف بها بحثيا وتأطيرها ضمن تحولات المثل الجماعية التى تشقها العديد من الإفرازات ومنتجة لسلطات رمزية خصوصية(1).
أما عند "جمعية النشر البديل" الأمريكية، فإنها تشير إلى معايير ثلاثة يمكن عن طريقها تمييز ما هو بديل عن ما هو سائد ومهيمن من الإعلام(2):
1- يجب أن لا يكون المنشور ذو صبغة تجارية.
2- يجب أن يتجه إلى تقديم عنصر المسؤولية الإجتماعية أي خدمة الصالح العام.
3- على الناشر أن يقدم نفسه بإعتباره ناشرا يعبر عن تيار الإعلام البديل.
عن طريق هذه المعايير في توصيف ما هو إعلام بديل نستشعر أن دعاة هذا التوجه يسعون أكثر لكسب رأسمال رمزي أكثر من إنخراطهم في تحقيق رأسمال مادي. يمكن عن طريق ما تبين إستدراك أن الإعلام البديل يقدم نفسه بشكل مثالي ويتسم بالنقاوة الفكرية والأيديولوجية. وهكذا يمكننا إعتبار أن الإعلام البديل كان وراءه المواطن العادي أو المواطن الذي يحمل بديلا راديكاليا وثوريا كما هو الحال مع المدونات عبارة عن إعلام مضاد للمشهد الإعلامي السائد.
ويسعى الإعلام البديل للتوصل الى حلول سياسية تسمح للشعوب بالتأكيد على تفردها الثقافي. وعلى الرغم من تنوع الآراء في استكشاف قدرته، فان ما يطلق عليه ليدبيتر "التفاؤل المقاتل" مطلوب، لان الابداع يشيع الأمل، ويقوم على التنوع والانفتاح، والاستقلال، والتقدم التراكمي لا الثوري، وليس امامنا الا الأمل في أن المجتمع لم يكتمل بعد، وأنه مازال يتطور ويتغير للافضل. ومن هنا فان مضمون الإعلام البديل هو تجريب "سياسات الأمل"(3).
ويمكن أن تزدهر فيه مبادرات المجتمع المدني، فتعددية الفاعلين وحدها هي التي يمكن أن تختار تنمية ثقافية ديموقراطية وتقديم هويات عدة، وافكار جديدة عن التقدم والتنمية، في فضاءات لم تكن تتلاءم يوما معها، ويمكن ان يكون نتاجا للمقاومة والثقافة المحلية.
وتقول ماكروبي أن "الإعلام البديل سياسة ترغب في تحويل نقاد اجتماعيين وسياسيين غاضبين الى ناجحين"(4).
ويمكن تحديد الاعلام البديل "الاجتماعي" "كنسق فكري وعملي يبحث عن الرقي بالمجتمع كفاعل أو كموضوع للاتّصال". ويبدو أنّ الاعلام البديل وبشكل ملموس هو الفرصة للمجتمع المدني ليقدّم مكوناته المختلفة، ليتعرفوا بعضهم على بعض وليتحاوروا في ما بينهم، وهو الامكانية المفتوحة لكلّ مواطن للدخول بحرية وبفعالية للاتّصال مع مواطن آخر أو مجموعة أخرى في جوّ من التسامح والاحترام المتبادل"(1).
ويمكن أن تؤول هذه الآلية للاعلام البديل الفعلي الى مستويات عدّة(2):
1- البحث عن التفاعلية الحقيقية، "مشاركة الجمهور في فعل الاتّصال".
2- نظرة مختلفة أو بديلة للحياة السياسية والثقافية والاجتماعية.
3- أنماط معالجة اعلامية تخرج عن الأمور المطروقة.
4- يُعدّ متلقي الرسالة شريكاً جديراً باللاستقلالية، وليس متلقياً سلبياً.
5- لكلّ محاور الخيار بأن يجيب بطريقة لا تكون معدة سلفاً من قبل المرسل.
ويبدو أن للإعلام البديل مهمة تتمثل في وضع الأفراد المهمّشين والمجموعات في علاقة اتصال في ما بينهم. وايضاً رهاناً استراتيجياً، فهو لا ينفصل عن التنشيط الاجتماعي، إذ إنه في احترام الحرية الشخصية لِكُلّ فرد، فهو لذلك يستهدف تفعيل تجارب الحوار مابين الثقافات والاثنيات التي تتعايش وهي تتصادم وتتجاهل بعضها البعض.
وعلى الرغم من ذلك يفتقر الإعلام الى الوضوح، بالنسبة الى مجاله ومداه، ليس هناك اتفاق على حدود مقبولة، وكما يؤكد امبرتو ايكو: "في كل قرن، تعكس الطريقة التي تقوم عليها الاشكال الاعلامية الطريقة التي يرى بها العلم والثقافة المعاصرة الواقع". وقد يعني هذا ان اشكال الإعلام الجديد تعكس علم الشك، والنسبية، والفوضى "الأوصاف المشتركة للثقافة المعاصرة"(3).
ويحاول "الاعلام البديل" التركيز على حرية الرأي والتعبير ولكن كفاعل منتصر لا كفاعل منهزم أي كفاعل إيجابي انفلتت أفكاره ومواقفه من سلطة الرقابة، عبر هامش الحرية التي يخلقها هذا الفاعل أو عن طريق مقولة "مجال اللايقين"(4).
ويقود الإعلام البديل ظاهرة إبراز الحقائق، وتتشكل الاجندة الإعلامية، عن طريق الأحداث البارزة التي تفرض نفسها. ولهذا يتوجب من المجتمع المدني بذل جهود كبيرة ليكون جزءاً من الاحداث، فيغري الإعلام ويخيف الحكام، وإعادة الأمور إلى نصابها ليست مستحيلة. وعندما نتحدّث عن الانترنت وعن الثورة الاتصاليّة وعن كيفيّة استثمارها وتوظيفها من قبل مكوّنات المجتمع، فإنّنا نتحدّث بالضرورة عن الصحف الالكترونيّة والمدونات ومواقع الفيس بوك وتويتر واليوتيوب وغيرها من التطبيقات، والتي لم تعدّ تنتظر الحصول على التأشيرة الحكوميّة ولم تعدّ القيود القانونيّة عائقا أمام تحرّكاتها، بل أصبحت تشكّل أهم مجال لتجاوز الخطوط الحمراء. ونظرا لنجاحها وقدرتها على التعبير عن مطالب وتطلّعات الفئات المهمّشة تشهد مواقع التواصل الاجتماعي تزايد في عددها وعدد مستعمليها، وأسهمت في الآونة الأخيرة في جذب الأنظار لعدد من القضايا أثارت الرأي العام وأرغمت حكومات كثيرة في اتخاذ قرارات ضد رغبتها.
وتم ازالة الحدود والصراعات السياسية الكثيرة على يد الإعلام البديل، وأهم إنجاز في الإعلام البديل هو الاهتمام بحق التعبير، مما ادى الى استثارة غضب الكثير من الحكومات العربية، وأصبحت تضع في حساباتها هذه الوسيلة. فتداول الأحداث ذات التوجه السياسي أرغم بعض الحكومات على اتخاذ قرارات أو التراجع عن قرارات بسبب الاحتجاج الجماهيري. ويوجد اصناف لمستعملي، "المتلقين او الجمهور"، الإعلام البديل(1):
الصنف الأوّل: وتمثله الطبقات الشعبيّة المهمشة والذين يستعملون في العادة الإشاعات والنكت الشعبية والسياسيّة كإعلام بديل لها، ولما يوفره لهم من حصانة وعدم المسائلة القانونيّة لأنّ عمليّة تناقل النكت والإشاعات لا تتضمّن اسم منتجيها، فضلاً عن إمكانية تحويرها من متقبّل إلى آخر، ونصبح لا نميّز بين الراوي والمنتج.
الصنف الآخر: وتمثله فئة النخب سواء أكانت منتمية للأحزاب السياسيّة أو لمنظمات المجتمع المدني أو كانت مجرّد شخصيات مستقلّة. ونظرا لامتلاكها المستوى التعليمي والموقع الاجتماعي المتميّز فإنّ إعلامها البديل يكون عادةٍ أكثر تطوّراً وأكثر انسجاماً مع مستحدثات المجتمع الذي يعيشون فيه، لاسيما وأنّهم يشكّلون الركيزة الأساس للمجتمع المدني.
الصنف الثالث، ويتمثل في فئة النخب الشبابيّة المهمّشة أي أصحاب الشهادات وخرّيجي الجامعات. وعرفت شكلين من التهميش، تهميش السلطة لها والمجتمع المدني وذلك لحرمانها من المواقع الاجتماعيّة المرموقة سواء داخل المجتمع أو داخل المجتمع المدني.
وأصبح الحديث عن قضايا الشأن العام لا يستقيم دون تفكيك آليات تشكل المجال الإعلامي، فالتعرض لمشاكل الناس محليا ودوليا هو كلام عن كيف نحاور الأنا والآخر، ولكل شخص الحق في تأسيس اعلامه. "وإن تحولات الإعلام العربي متعددة الأوجه ولاسيما الثقافية والسياسية وعلى أمل أن تتحول تدريجيا إلى هاجس فكري ذي صلة بقضايا تحديث المجتمع وليس فقط الوقوف عند دائرة التوظيف الحيني. إذ اصبح السياسي يفرد أهمية في إدارته للشأن العام لقيمة الإعلام، وكذلك عند فئات مجتمعية أخرى، ويعدّ هذا عنصر حيوي يجعلنا ندخل في حلقة جديدة إسمها تواصل الأفكار بين الناس وصاحب القرار وذلك بغض النظر عن وجاهة أو ضعف تلك الآراء. إن تحويل قضايا الشأن العام إلى هم يومي على واجهة وسائل الإتصال مرحلة مهمة لأي إمكانية للتغيير". "ويؤدي عرض الأفكار حتماً للتعدد، والتعدد هو طريق التواصل والحوار بين الناس. وأصبحت شيئا فشيئا توجد رغبة ربما تبدو محتشمة لإعلان قضايا خلافية في المجتمع للعموم، وهو مدخل الديمقراطية والجدل الإجتماعي الذي يمكن عن طريقه القيام بالإصلاح والمصالحة بين النظام السياسي ورعاياه من زاوية تواصلية إعلامية، وأننا اليوم وإذا ما أردنا أن نفهم علينا أن لا نكون متفرجين بل أيضا ناقدين"(1).
وبالنسبة للعالم العربي الذي كان ولازال يشكو منذ مدة طويلة من تحيز الإعلام الغربي ضده ومن عدم قدرته على إيصال صورته الحقيقية إلى تلك المجتمعات الغربية فإنه لم يعد أمامه أي عذر يمكن ترديده، فشبكات الإنترنت فتحت المجال أمام الجميع لوضع مايريدونه على الشبكة ليكون متاحاً أمام العالم لرؤيته. المهم أن يكون هناك استعداد حقيقي للإستثمار في هذه الوسيلة والأهم من ذلك استثمارها بالشكل السليم والمناسب.
إن نشوء هذا الفضاء الجديد من الحرية اسهم في التحول النوعي الذي طرأ على استخدام الشبكات الاجتماعية على الإنترنت، من كونها أداة للترفيه، والتواصل، إلى أداة للتنظير والتنظيم والقيادة، ثم إلى وسيلة فعّالة لنقل الحدث، ومتابعة الميدان، ومصدراً أولياً لوسائل الإعلام العالمية.
صحيح أن الإعلام وحده لا يصنع التغيير، وأن التغيير هو نتاج إرادة عامة، يحركها دافع الناس الطبيعي نحو هذا التغيير، والإعلام إنما هو أداة من مجموعة أدوات. ويقول ميشيل فوكو إن الثورة الإيرانية انتشرت بشريط الكاسيت، ولم يقل إن شريط الكاسيت "الذي كان في حينه إعلاما بديلاً" هو الذي صنع الثورة! لذلك إن هذه الإرادة بدون وسائل الإعلام الجديد قد لا تساوي شيئاً، والعكس صحيح! فما جرى هو نتاج عوامل تفاعلت مع بعضها لتنتج لنا تغييرا بأسلوب لم يعهده عالمنا العربي من قبل، وغيّر أنماط حياتهم، مضفياً عليها مزيداً من التفاعل، والتواصل. فهل من سبيل إلى جهد منظم، لتوظيفه من أجل قضيتنا العادلة كما يفعل أعداؤنا من أجل قضاياهم غير العادلة؟!.
وأصبحنا بفضل هذه الثورة أمام إعلام جديد لا يحتاج إلى أي رأسمال، كل رأسمالك هو هاتفك النقال وكاميرا وحاسوبك الشخصي. ولا يمكن لإعلام الجديد الاستغناء عن الإعلام التقليدي وأنه لن يتحقق له الرواج إلا إذا استخدمه الإعلام التقليدي وأشار إليه ونقل عنه، فالكثير من الأحداث كان السبق فيها للمدونين أو لبعض المواقع الإلكترونية. ويعتقد الكثيرون أن الإعلام الجديد هو الإعلام القادم، فالكثير من التلفزيونات اليوم يمكن توقف بثها المباشر وتعرض خدماتها على الإنترنت، وأصبح الكثير من القنوات التلفزيونية لديها حسابات مثلا على الـ YouTube و الـ Facebook و الـ Twitter.
وعند ظهور مواقع التواصل، فإن العرب إجمالا قاموا باستخدامه اولا، وقبل كل شيء، كأداة للطرح السياسي، وذلك لعدم وجود اعلام محايد او مؤسسات للمجتمع المدني او نشاط سياسي في الشارع العربي. ولكن هناك مبالغة في الدور الفعلي لمواقع التواصل في تغيير واقع السياسة. وإن دور اعضاء مجموعات فايسبوك او المشاركين هو في غالب الاحيان رمزي، ولا يتعدى حدود الشكليات. لذلك، فإن النشاط السياسي في الانترنت لا يترجم بالضرورة الى تغيير او نشاط سياسي فعلي في الشارع العربي. وبالرغم من النشاط الكبير على الانترنت في مصر، الا ان التغيير السياسي الحقيقي لم يولد في الانترنت، بل تولد في الشارع، وجاء الاعلام الجديد مكملا له، وهذا بسبب الامية التي تعاني منها الشعوب العربية.
وقام الإعلام الجديد بدور ملموس في حشد وتوجيه المتظاهرين، لكنه لم يكن مفصليا في تسيير الاحداث. في مصر، استمرت المظاهرات بشكل كبير بعد قطع خدمات الانترنت. وكذلك، في اليمن، يقتصر عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي على عدد صغير، لا يواكب حجم الاحداث في الشارع اليمني. لذلك، فإن حشد المتظاهرين وتوجيههم لم يتم بشكل اساس عن طريق الاعلام الجديد. ولكن نقطة الاتفاق الرئيس هي عن دور الإعلام الجديد في إيصال صوت الشارع العربي الى أنحاء العالم، من دون شك، كان لأفلام يوتيوب "والنشاط التويتري" دور كبير في حشد الاهتمام الدولي لقضايا الاستبداد في بعض دول العالم العربي.
ولا يزال دور الحكومات العربية في الاعلام الجديد غامضا، وقد يؤدي وجودها في مواقع التواصل الاجتماعي الى تغيير شكل المداولات السياسية. ففي المستقبل القريب، اذا كان هناك توظيف مثالي من قبل الحكومات العربية فسيكون هناك وجه آخر مختلف تماماً للاعلام عما نعيشه اليوم. وفي حال انخراط الناشطين في مؤسسات المجتمع المدني، فإن الطرح السياسي على تويتر وغيره سيصل الى مرحلة اكبر من النضج الفكري. سيؤسس المجتمع المدني الى خطاب سياسي جديد وسيكون له أثر في المداولات القائمة اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي.
والاعلام الجديد هو باختصار مرحلة انتقالية من الركود الى الوعي السياسي، وبالتأكيد مرحلة انتقالية في تغيير شكل الحكومات العربية والمجتمع المدني. لذلك، فإننا قد نرى في المستقبل القريب ركودا سياسيا في مواقع التواصل الاجتماعي، يعوض عنه بنشاط حقيقي في منظمات المجتمع المدني والعملية السياسية.
جيل التغيير هو المصطلح الذي يصبو إليه الشاب العربي، والذي سيقوم تدريجيا بالانتقال من الكتابة الشكلية على الانترنت الى التأثير الحقيقي في العملية السياسية، عند حدوث ذلك، فإننا سنشهد تحولا من كون الاعلام الجديد منبرا سياسيا الى أداة اجتماعية، وسيجد الخطاب السياسي مساحة اكبر وتأثيرا أوضح(1).
وتتأتى القابلية على التغير من المقدرة على ذلك, ومن الاستطاعة لإدراكه, أيا ما تكن المعوقات. ويجند الفرد كما الجماعة بموجبه, قدراتهما على العطاء والتضحية, حتى وإن تطلب الأمر لبلوغ ذلك, التسليم في الرزق أو الطموح أو الحياة, لأن المطلب أقوى بكثير. القابلية هنا لا تحتكم إلى مصلحة خاصة, فردية ومباشرة, ولا تنبني على تطلع لإدراك هذه المنفعة الذاتية أو تلك, مادية كانت أو رمزية. إنها مصلحة الجماعة والمجموعة.
وما أفرزته الأحداث الجديدة في منطقة الشرق الأوسط، والتي لم يجر توصيفها علميا بعد، هل هي ثورات شعبية، أم حركات تغيير، أم احتجاجات شعبية...تجاوزت الأطر الإيديولوجية لمثيلاتها سابقا، فما يحدث، نتج جراء اليأس الذي يصيب الشباب من أن الثروات المادية التي يملكها الحكام العرب، والتي يسخرها الغرب لصالح شعوبه، لم تأت بأي نفع على شعوبنا العربية، هذا اليأس المتراكم لا يحتاج إلى أي فكر ثوري يشحذ همم الناس بقدر ما يحتاج إلى مشاركة المختلفين في الرأي للمشاركة في الحال، وهذا ما ظهر واضحا أن المظاهرات التي جرت في العراق ألغت عمليا مفهوم الطوائف والديانات والفئات القومية، وأعطت مثالا أن مثل هذه التقسيمات هي من صنع السياسيين وليس من صنع الواقع العراقي(2).
وعلينا أن نفهم أن للتغيير ثقافته، ولا يمكن أن نفرض على أي تغيير شعبي كبير ومتعدد الأطراف أية ثقافة مسبقة، شخصيا تابعت مواقف الأحزاب التقدمية من الأوضاع في تونس ومصر والعراق والسودان واليمن، فوجدت أن هذه الأحزاب تريثت في المواقف، ولكنها أيدت التغيير، هي لا تريد أن تكون بديلا عن حركات الشباب، وفي الوقت نفسه لا تريد أن تتسلم قيادة الشباب، فشعارات اليوم من المرونة والوضوح لم تجد لها بعد أرضية مفاهيمية، وقد شهدنا في ميدان التحرير في مصر كيف أن النكتة تحولت إلى شعارات، وكانت مؤثرة في استقطاب الإعلام، هذا الموقف الجدلي سيكون هو الأكثر صوابا من المواقف التي تقف ضد التغيير، أو تلك التي لا يعنيها التغيير. وبالتأكيد لدينا في العراق هذه المواقف كلها، وعلى الشباب أن يعوا جيدا أن نجاح أية مواقف لا يعني نهاية الصراع، ومشروع الشباب الثوري دون غيره لا يقف عند إنجاز أو شكل حكم، بل يستمر دون توقف، لاسيما في منطقة لم تحصل من التقدم والحداثة إلا القليل..
لم يرفع الفكر العربي المعاصر معرفيا من شأن فكرة الاتصال، ليظهر علينا الاتصال الرقمي مع بداية الألفية دون سلاح معرفي نحتمي به. ولاتكمن قيمة الاتصال في ما في الفكرة من قيمة علمية أو سياسية أي ما في الإنتاج الفكري من صحة أو خطأ بل في التسويق لها، حسب المفهوم الحديث للمعرفة لتداول مضامينها ليترك الحكم للمجتمع وحده وهل به المناعة الثقافية الكافية "لغربلة" المضامين قبل الحكم على الوعاء. أن الحكم القيمي على الأفكار هو حكم قيمي على التقنية أيضا التي لا يجب أن نحد من انتشارها وإلا ستنمو سوقا سوداء لأفكار متطرفة، وإرهابية. وتاريخيا لا يمكن أن نتجاهل أن الحكم القيمي ذو الخلفية الدينية أو السياسية أو الثقافية هو الذي كان وراء إقصاء أكثر من فكرة داخل المجتمعات العربية باسم الدين أو الهوية أو معاداة الاستعمار أو الإمبريالية(1).
إن التلاقح الحضاري الذي ولّده انتقال المعلومة عبر الانترنت قد رسخ قيم وثقافة البلد المصدِّر للمعلومة والتكنولوجية في آن واحد، وينشأ عن هذه الحتمية التكنولوجية حالة ما يسمى بالصدمة الالكترونية التي سرعان ما تتحول بالبلدان المستوردة من الانبهار بالواقع الافتراضي إلى الاصطدام بالواقع الحقيقي للبلد المصدِّر. ولعل من بين الأسباب القوية للتفاوت الرقمي بين دول الشمال والجنوب يحتل عامل الأمية المسؤولية واسهم في اتساع الهوة الرقمية.
وايضاً عربيا يعود سبب تعطل آلة التسويق لتبادل الأفكار إلى عنصرين متلازمين يمكن تلخيصهما في إشكالية وعي الحرية وإدراك التقنية وهي معضلة فكرية إجرائية في كيف يمكن أن نفهم أن لا قيمة للفكرة مهما كانت طبيعتها إلا إذا شاعت بين الناس. وحتى يمكن بلوغ ذلك فلا بد أن تكون حركة الوسائط الحاملة للأفكار"التقنية" شائعة الملكية وتحررية من حيث المضمون. إن تخلف الديمقراطية وممارستها في الوطن العربي لا يعود فقط إلى حصرها في بوتقة الشعار السياسي بل إن التخلف الديمقراطي يعود أيضا إلى تخلف في فهم أوعية الديمقراطية ووسائطها في الفكر العربي. ويؤدي هذا الرفض إلى نبذ انتشار الفكر وشيوعه وتداوله لأن التداول على السلطة وهو العمود الفقري للديمقراطية بالمفهوم الحديث ما هو إلا تداول على أفكار وتصورات ومناهج في كيف ندير الشأن العام بعد أن يقول الشعب كلمته في من ينوبه عبر الاقتراع. ولا قيمة للاقتراع الذي يضفي إلى تداول السلطات والرؤساء والبرلمانات والحكومات إذا لم تتوفر معركة فكرية عادلة على واجهة وسائل الإعلام التي هي الفيصل في تقريب صورة كل طرف سياسي إلى المواطن مهما كانت خلفيته الثقافية عن مشكلات الشأن العام(2).
وإن إعلاما واتصالا لا يسهم في تحديد أوليات المجتمع السياسية والثقافية والاقتصادية لا يمكنه أن يكون فاعلا في أي مشروع يسعى لتداول سلمي على السلطة كنتيجة حتمية لتداول أهم التصورات حول كيف ندير الشأن العام بالاعتماد على الرأي العام الذي تسهم وسائل الإعلام الحرة في بلورته بشكل محايد وموضوعي بعيدا عن أي توظيف اقتصادي أو سياسي.
في النهاية فإن المجتمعات-سوسيولوجيا-تعدّ ظاهرة على قدر كبير من التعقيد حتى نجزم أنه من السهل أن تأتى نماذج سياسية أو اقتصادية أو فكرية قادرة بكل بساطة وبالاعتماد على التقنية الذكية للاتصالات على إحداث تغيير وبشكل جذري في بنية المجتمعات انطلاقا فقط من كونها تقنية فعالة حتى وإن كانت هذه التقنية في مجال الإعلام. إن بين الظاهر تقنيا في الاتصال اليوم والنتيجة الاجتماعية غدا تظهر اختلافات قد تصل في بعض الأحيان إلى التناقض. إن حركة المنظمات المهنية والجمعيات الأهلية والمجتمع المدني والفرد وهي ما يمكن أن نطلق عليها بالفعل السوسيولوجي عنصر فعال ومحدد أساس في مسيرة التقنية الاتصالية في علاقتها بالموروث الإعلامي(1).
ويمكننا القول أيضا بأن هذه الشبكات قد اسهمت في رفع مستوى الوعي لدى الشعوب، وتأكدها من أنها هي مصدر الشرعية، تمنحها لمن تشاء وتزيحها متى بدا لها ذلك. وأن هذه الشبكات قد أفرزت قيما جديدة, لعل أهمها بالمطلق القبول بالآخر في تنوعه واختلافه وتباينه, مادامت المطالب موحدة والمصير مشترك. ويمكننا القول بالمحصلة، إن هذه الشبكات أبانت بأن ثمة شعوبا حية ويقظة, حتى وإن خضعت لعقود من الظلم والاستبداد.
وتوصلت الباحثة الى نتائج عدة:
1- مواقع التواصل الاجتماعي وسائل يستخدمها من يشاء، لنشر الأخبار والآراء بشكل مكتوب أو مسموع أو مرئي، "متعدد الوسائط.
2- استخدم الشباب شبكات التواصل الإجتماعي للدردشة ولتفريغ الشحن العاطفية، ومن ثم أصبح الشباب يتبادلون وجهات النظر الثقافية والأدبية والسياسية.
3- عدّ مواقع التواصل الاجتماعي إعلاماً بديلاً: ويقصد به "الموقع الذي يمارس فيه النقد".
4- لا تمثل مواقع التواصل الاجتماعي العامل الأساس للتغيير في المجتمع، لكنها اصبحت عامل مهم في تهيئة متطلبات التغيير عن طريق تكوين الوعي.
5- اصبحت تتشكل بفضل شبكة الإنترنت فضاءات تواصلية عدة هي بمثابة أمكنة إفتراضية، وإن من بين مزاياها نهاية فوبيا المكان.
6- أنّها فضاءات مفتوحة للتمرّد والثورة – بداية من التمرّد على الخجل والانطواء وانتهاء بالثورة على الأنظمة السياسيّة.
7- يكمن النظر للتغير الاجتماعي برؤية "حتمية" التحول في ثلاثة مسارات. أولهما، ما يعرف "بالحتمية التقنية"، وثانيهما، ما يعرف "بالحتمية الاجتماعية"، ثم الحتمية المعلوماتية.
8- ان المستخدمين يسعون أكثر لكسب رأسمال رمزي من وراء إنخراطهم في هذا الإعلام أكثر من إنخراطهم في تحقيق رأسمال مادي، ويمكن أن تزدهر فيه مبادرات المجتمع المدني.
9- يفتقر الإعلام الجديد الى الوضوح، بالنسبة الى مجاله ومداه، وقد يعني هذا ان اشكال الإعلام الجديد تعكس علم الشك، والنسبية، والفوضى الأوصاف المشتركة للثقافة المعاصرة.
10- تتشكل الاجندة الإعلامية لمواقع التواصل الاجتماعي، عن طريق الأحداث البارزة التي تفرض نفسها.
11- ان التغيير السياسي الحقيقي لم يولد في الانترنت، بل تولد في الشارع، وجاء الاعلام الجديد مكملا له.
12- إن تخلف الديمقراطية وممارستها في الوطن العربي يعود إلى تخلف في فهم أوعية الديمقراطية ووسائطها في الفكر، ويؤدي هذا إلى نبذ انتشار الفكر وشيوعه وتداوله لأن التداول على السلطة ما هو إلا تداول على أفكار وتصورات ومناهج.
مصادر البحث
1- د. عبد الغني عماد،((سوسيولوجيا الثقافة- المفاهيم والإشكاليات من الحداثة إلى العولمة))، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
2- مجموعة مؤلفين،((التقرير العربي الأول للتنمية الثقافية))، بيروت، مؤسسة الفكر العربي، 2008م.
جون هارتلي وآخرون،((الصناعات الإبداعية))، ترجمة: بدر السيد سليمان الرفاعي، الكويت، عالم المعرفة، 2007م، ج.1
3- زاهر راضي، "استخدام مواقع التواصل الاجتماعي في العالم العربي"، مجلة التربية، ع15 ، جامعة عمان الأهلية، عمان، 2003م.
4- د. عباس مصطفى صادق، "الاعلام الجديد: دراسة في مداخله النظرية وخصائصه العامة"، البوابة العربية لعلوم الإعلام والاتصال، 2011م.
5- عباس مصطفى صادق، "الإعلام الجديد: المفاهيم والوسائل والتطبيقات"، عمان، دار الشروق، 2008م.
6- أولجا جوديس بيلي، بيلي كاميرتس، نيكوكاربنتيير، "فهم الإعلام البديل"، ترجمة: علا أحمد إصلاح، القاهرة، مجموعة النيل العربية، 2009م.
7- دنيس مكويل،((الإعلام وتأثيراته - دراسات في بناء النظرية الإعلامية))، ترجمة: عثمان العربي،1993م .
8- د. مي العبد الله، (( الاتصال والديمقراطية))، بيروت، دار النهضة العربية،2005م .
9- د. نصر الدين لعياضي، "الرهانات الابستمولوجية والفلسفية للمنهج الكيفي/ نحو أفاق جديدة لبحوث الإعلام والاتصال في المنطقة العربية"، أبحاث المؤتمر الدولي، "الإعلام الجديد: تكنولوجيا جديدة... لعالم جديد"، جامعة البحرين، من 7-9 ابريل 2009م، ص18.
10- د. عزة مصطفى الكحكي، "استخدام الانترنت وعلاقته بالوحدة النفسية وبعض العوامل الشخصية لدى عينة من الجمهور بدولة قطر"، أبحاث المؤتمر الدولي، "الإعلام الجديد: تكنولوجيا جديدة... لعالم جديد"، جامعة البحرين، من 7-9 ابريل 2009م، من ص269 الى ص272.
11- د. عبد الله زين الحيدري، "الإعلام الجديد: النظام والفوضى"، أبحاث المؤتمر الدولي، "الإعلام الجديد: تكنولوجيا جديدة... لعالم جديد"، جامعة البحرين، من 7-9 ابريل 2009م، ص128.
12- د. بهاء الدين محمد مزيد، "المجتمعات الافتراضية بديلاً للمجتمعات الواقعية/ كتاب الوجوه نموذجاً"، جامعة الامارات العربية المتحدة، 2012م.
13- د.علي محمد رحومة،((الانترنت والمنظومة التكنو-اجتماعية))، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م.
14- د.نهوند القادري، "قراءة في ثقافة الفضائيات العربية الوقوف على تخوم التفكيك"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2008م.
15- د.جمال الزرن،((تدويل الاعلام العربي، الوعاء ووعي الهوية))، دمشق، دار صفحات، 2007م.
16- سعيد بن جبلي،((رصد الاعلام الجديد وعلاقته بالرأي العام- سلاح المهمشين العرب))، في ثالث أيام مهرجان القاهرة للإعلام، الثلاثاء4/12/2007م.
17 - د. جمال الزرن، "هندسة المكان الإفتراضي منتجة لخطاب ثقافي"، مدونة مقعد وراء التلفزيون.
19- د.عبد الله الزين الحيدري،((ما المقصود بالزمن الميدياتيكي؟))، مدونة أجيال.
21- عبد العزيز طرابزوني، "حقيقية الإعلام الجديد في الربيع العربي.. ومستقبله".
http://www.majalla.com/arb/2011/10/article55228614
22- ياسين النصير، "ثقافة التغيير"، مجلة الرافدين.
http://www.alrafidayn.com/index.php.
23- د. جمال الزرن، "أنسنة" أو الثقافي في تكنولوجيات الاتصال والفضاء العام، مدونة مقعد وراء التلفزيون.
9 من الزوار الآن
916812 مشتركو المجلة شكرا