المعركة-فصلية
خلف العدو دائماً ولا اشتباك إلا معه....

Categories

الصفحة الأساسية > 3.0 الخلاصات > تجارب وثورات > هزيمة الصهاينة كيف خسرت إسرائيل الحرب على لبنان

13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2015

هزيمة الصهاينة كيف خسرت إسرائيل الحرب على لبنان

الحلقة الاولى

الصراع مع إسرائيل صراع فريد من نوعه, فوجود هذا الكيان الصهيونى فى قلب الأمة العربية والإسلامية, بالإضافة إلى نهجه الاستيطانى والإرهابى, جعل من طبيعة الصراع التنوع والاختلاف, فهو ليس صراعا يمكن حسمه فى جولة واحدة من حرب طالت أو قصرت, بل هو صراع تتنوع فيه الأدوات والوسائل التى تحقق هدف طرفى الصراع, وهذا الصراع يمكن أن يكون على شكل حروب نظامية بين جيوش دولتين أو أكثر, كما حدث فى حروب أعوام 1956 و1967 و1973, ويمكن أن يكون بين جيش الاحتلال والتنظيمات المسلحة المقاومة, ومن هنا جاءت الحرب الأخيرة على لبنان فى يوليو 2006. فمنذ أن انسحبت إسرائيل من جنوب لبنان عام 2000م, وهى تشعر بالمذلة والمهانة من أن حزبا سياسيا يحمل السلاح دفاعا عن أرضه استطاع أن يقف وجها لوجه أمام جيش يقول عن نفسه أنه " جيش لا يقهر ", واستطاع أن يسبب صداعا دائما فى رأس كل من يتولى الحكم فى إسرائيل.
ومنذ الانسحاب الإسرائيلى من لبنان ازدادت القوة المعنوية والتسليحية لحزب الله, فى ذات الوقت الذى ازداد فيه القلق من تنامى هذه القوة لدى الصهاينة وقادة إسرائيل, غير أن هذا القلق كان يتم ترجمته فى عقول حكام إسرائيل بأنه يمكن القضاء عليه بوسيلة واحدة هى " القوة ", فهذه هى الوسيلة الوحيدة التى يفهمها هؤلاء القادة, فمنذ أن بدأ التفكير فى زرع هذا الكيان لم يكن فى جعبتهم سوى " القوة " لتحقيق أغراضهم, مستعينين بقوى الاستعمار السابقة والحالية, والتى كثيرا ما نجحت فى تحقيق أهدافهم من خلال استخدامهم لهذه القوة, لكن هذه المرة اختلف الأمر.. ولم يستطع قادة إسرائيل أن يديروا معركة القوة, أو أن يحققوا أهدافهم.
لقد دخلت إسرائيل الحرب على لبنان وهى تعتقد أنها منتصرة لا محالة, فليس هناك مقارنة تذكر بين آلة الحرب الإسرائيلية وتسليح حزب الله, والذى ظنوا أنه مهما يبلغ من قوة فلن يستطيع الصمود أمام جبروت الآلة الإسرائيلية.
ورغم أن هذا العدوان كان مبيتا له من قبل, ولكنهم كانوا ينتظرون فقط التوقيت المناسب لدفع آلتهم الحربية للقضاء على حزب الله والمقاومة فى جنوب لبنان, لكن حزب الله فاجئهم بالفعل, فكان لابد من رد الفعل, وهذا جزء من نجاح حزب الله, فصاحب المبادرة دائما هو المنتصر, ومن يقوم برد الفعل غالبا ما يكون أداؤه أقل من المتوقع, وهذا ما كانت إسرائيل تستخدمه دائما فى صراعها مع العرب, فكانت تضعهم دائما فى موقف رد الفعل والدفاع المستمر, ولكن هذه المرة جعلها حزب الله فى موقف رد الفعل, الذى تخيلت أنه رغم ذلك تستطيع تحقيق النصر بسهولة, وهو ما جعلها تشن حربها فقط بعد يومين من اختطاف الأسيرين الإسرائيليين.
ودارت رحى الحرب لمدة ثلاثة وثلاثين يوما, فى حرب كانت إسرائيل تعتقد أنها لن تتجاوز عدة أيام, وكان كل يوم يمر على هذه الحرب يكبد إسرائيل مزيد من الإخفاقات والفشل والخسائر على كل مستويات الحرب.
فكيف خسرت إسرائيل الحرب على لبنان؟ وهل كانت الخسارة بالفعل أكبر مما توقعت؟ هذا ما سنرصده فى هذا الكتاب عبر نواحيه المتعددة, ليس على المستوى الحربى فقط, ولكن على جميع المستويات الأخرى: الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والسياسية والإعلامية.
غير أننا نود أن نلفت نظر القارىء, أن هذا الكتاب لا يبحث فى الجوانب المختلفة للحرب, ولا يرصد كل ما حدث فيها, فلسنا هنا فى مجال بحث الجرائم الإسرائيلية التى ارتكبتها فى الحرب, فهذا معلوم للكافة, وما ترتكبه من جرائم ومذابح على مدار تاريخها يحتاج إلى كتاب مفصل – ندعو الله أن يعيننى أن أتمه – كما أنه فى هذه الحرب تحديدا كان واضحا للعيان.
وما يهمنى فى هذا السياق, وفى هذه اللحظة التاريخية, هو رصد النصر الاستراتيجى الذى حققه حزب الله, وتبيان كيف كانت الهزيمة الإسرائيلية, وربما كان من الأهمية رصد حجم الدمار الذى أصاب لبنان وبنيته التحتية وعدد شهدائه, لكنى رأيت أن ذلك نوع من جلد الذات, فليس من المعقول أن نكون فى لحظة انتصار طال انتظارها, ونتحدث عن هزيمتنا وخسائرنا التى ألمت بنا, وليس هذا تقليلا من حجم ما خسرناه من أرواح الشهداء, ولا تقليلا من حجم الدمار الذى أصاب لبنان, ولكنى رأيت أن علينا إبراز النصر الذى تحقق, وإيضاح كيف حدث, وعلينا أن نرى كيف انكشف أمامنا العدو مهزوما فى كافة النواحى.
كما أننا لن نتحدث فى هذا الكتاب عن المواقف الأمريكية والغربية الداعمة لإسرائيل, فهذا أيضا مما أصبح معلوما من السياسة بالضرورة, ولن نستهلك الوقت فى شرحه, بل الواجب أن يستثمر الوقت فى محاربته.
لقد انتصرت الأمة العربية والإسلامية, نصرا عزيزا غاليا, فى حربها الأخيرة مع إسرائيل, ويحق لكل عربى مسلم أن ينسب هذا النصر لنفسه طالما كان مؤيدا للمقاومة وداعما لها, كما قال السيد حسن نصر الله فى خطابه عقب النصر, ولذا كان واجبا علينا إبراز هذا النصر, والاعتزاز به, والفخر بنتائجه, وتوضيح كيفيته لكل من ينتمى إلى هذه الأمة.

- سقوط الأسطورة:

عندما فكر قادة إسرائيل فى شن حرب على لبنان, كانوا يريدون التلويح بذراع إسرائيل الطويلة, والقدرة على حماية العنق, وتأمين السكان المستوطنين المجلوبين من دول العالم المختلفة إلى أرض الميعاد الآمنة, والتى – بالطبع – لم تعد آمنة.
صحيح أن الجيش الإسرائيلى استخدم الطائرات الأمريكية الحديثة فى هدم العمارات وقتل المدنيين, واستخدم الأسلحة المحرمة دوليا, لكنه لم يخرج من هذه الحرب سليما, فقد كانت المقاومة اللبنانية, وصواريخ حزب الله, أحد عناصر كشف الأسطورة, وفضح التصورات والغرور الإسرائيلى, ربما يكون اللبنانيون قد خسروا كثيرا فى هذه الحرب, لكن الإسرائيليون أيضا – وللمرة الأولى - يشعرون بمرارة الهروب إلى الملاجىء, كما ساقتهم أقدارهم ليذوقوا شعور ملايين اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين لسنوات طويلة.
إن أولمرت أخذ قرار الحرب بناء على معلومات استخباراتية خاطئة, حول حجم قدرات حزب الله القتالية، واستغلت واشنطن الموقف, ودفعته للسير قدما بمغامرة عسكرية تحمل أبعادا وأهدافا أكبر بكثير مما كان ينوى تحقيقه. حتى سارت الأمور خارج نطاق السيطرة، خصوصا بعد الضربات التى تعرض لها الجيش الإسرائيلى من مقاتلى الحزب, وقصف المدن والمستعمرات فى عمق شمال إسرائيل. لقد تحطمت هيبة الردع التى تفتخر بها، وموقفها اليوم سيخلف تداعيات سلبية كبيرة فى إطار صراعها للبقاء.
أهداف الحرب:
كان قررا دخول الحرب من الجانب الإسرائيلى إستراتيجيا واضحا, فمع أول أيام الحرب أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى " إيهود أولمرت " أن هذه الحرب لها هدفان رئيسيان:
• الأول: استعادة الجنديين الأسيرين.
• الثانى: نزع سلاح حزب الله وطرده إلى ما بعد الليطانى, وفرض معادلة سياسية جديدة داخل المجتمع اللبنانى.
وإذا كانت هذه هى الأهداف المعلنة من قادة إسرائيل, فإن هناك قائمة أخرى من الأسباب التى لم يعلنوها, فلبنان هى البلد العربى الوحيد الذى اتسمت مواجهته مع إسرائيل بالطابع "الشعبى", أى أن الشعب هو الذى تولى مهمة الصراع, والمواجهة معها عبر فصائل المقاومة المختلفة.
ونظرا لتركيبة لبنان السياسية, ووجود قوى سياسية متعددة من مختلف التيارات الإسلامية والقومية واليسارية, إضافة إلى وجود الفصائل السياسية الفلسطينية, ومنظمة التحرير الفلسطينية فى وقت من الأوقات, جعل للصراع مع إسرائيل طبيعة خاصة فى لبنان, وهو فى حد ذاته ما أكسب قوى المقاومة اللبنانية الخبرة السياسية والعسكرية اللازمة للاستمرار فى إدارة الصراع.
ومع خروج منظمة التحرير الفلسطينية, والاجتياح الشامل للبنان عام 1982, بدأت تنتقل تدريجيا قيادة المقاومة المسلحة إلى زعامة لبنانية إسلامية تمثلت فى الحزب الوليد آنذاك "حزب الله".
وعندما تزعم حزب الله المقاومة المسلحة ضد إسرائيل, وعبر سنوات متعددة, قاد خلالها حربا شرسة لإخراج الاحتلال, والتى تم تتويجها بالفعل بخروج إسرائيل من الشريط الحدودى بجنوب لبنان ما عدا مزارع شبعا.
وخلال هذه الفترة ساعدت المتغيرات الإقليمية والدولية حزب الله على عقد تحالف استراتيجى, مع كل من سوريا وإيران, خاصا بعد أن أثبت الحزب جدارته فى ميدان المواجهة السياسية والعسكرية مع إسرائيل, مما مكنه من الحصول على الدعم السياسى والمالى والعسكرى من هذه الدول, تثبيتا له أمام عدو يستمد قوته ودعمه المالى والعسكرى والسياسى من قوى كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكافة الدول الغربية.
واستطاع حزب الله أن يتسلح بأسلحة عسكرية متطورة نسبيا, وبالإضافة إلى طبيعة الحزب الإيديولوجية, وسياجه الأمنى الذى يصعب اختراقه, وسلوك عناصره الذى يتسم بحسن الخلق وصدق المواقف, استطاع الحزب أن يصمد فى وجه إسرائيل.
ورغم أن الحزب فى الأساس حركة مقاومة مسلحة, إلا أنه فى عام 2003 بدأ فى المشاركة السياسية الفاعلة داخل لبنان, وشارك للمرة الأولى فى تشكيل الحكومة, ليشكل بهذه المشاركة سياجا سياسيا يحميه ويحمى سلاحه من تهمة الإرهاب, التى طالما رددتها إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية على مدار السنوات الماضية لكل حركة مقاومة.
ثم جاء إغتيال رفيق الحريرى رئيس وزراء لبنان الأسبق فى فبراير 2005, وما تبعه من خروج القوات السورية من لبنان, ثم نجاح حركة حماس فى انتخابات فلسطين, وتشكيلها للحكومة الفلسطينية.
مما خلق وضعا جديدا, خاصا فى ظل الحديث الأمريكى المتكرر عن محاولة فرض الديمقراطية, وإعادة صياغة المنطقة, عبر مخطط الشرق الأوسط الكبير الذى روجوا له منذ بدأ اتفاقيات "الاستسلام" فى أوسلو.
كل ما تحدثنا عنه من عوامل كان مقدمة لإلتقاء المصلحة الأمريكية الإسرائيلية لتفتيت المنطقة, والسعى إلى خلقها من جديد طبقا للمعايير الأمريكية الإسرائيلية, ولذا كان من الطبيعى أن تكون لبنان هى الساحة الملائمة, والتى تم تجهيز أرضيتها عبر سلسلة من الإغتيالات السياسية, التى كانت لبنان قد نسيتها, وكان من السهل إيجاد مبررات للغزو والاحتلال الإسرائيلى, وهو ما كان مخطط له أن يتم فى أكتوبر, أو مع نهاية العام على أقصى تقدير, غير أن عملية " الوعد الصادق" التى قام بها حزب الله, وأسر بها الجنديين الإسرائيليين, عجلت بالبدء فى المشروع, غير أن سير المعركة أثبت فشل أهداف إسرائيل, وانتهت المعركة بدون استعادة الجنديين الأسيرين, وبدون فرض معادلة سياسية جديدة فى لبنان, بل على العكس, انتهت الحرب وقد دعم حزب الله مكانته بين جموع اللبنانيين, وازدادت شعبيته إلى درجة لم يصل إليها من قبل.
لقد تكبد الجيش الإسرائيلى خسائر كبيرة ماديا ومعنويا, وفشل فى أغلب المعارك التى خاضها, مما ألجأه إلى قصف المدنيين وتدمير البنية التحتية للبنان, كنوع من التعويض لفشلهم فى المواجهة العسكرية, ولمحاولة إثارة سخط الشعب اللبنانى على حزب الله, واستطاع جيش صغير مثل حزب الله الذى لا يتعدى الخمسة آلاف مقاتل أن يخرج متعادلا مع جيش دولة منظم وكامل التسليح بأحدث تكنولوجيا, ليحقق أفضل نتيجة لمعارك الدول العربية كلها مع إسرائيل.
لقد كان حجم الإنجاز ماديا ومعنويا كبيرا, فلم يدخل الجيش الإسرائيلى أية قرية أو بلدة على طول الجنوب اللبنانى إلا وتلقى أقسى الضربات التى أوجعته, وفى القتال البرى لم يظهر أى وهن من مقاتلى حزب الله, أو أى علامات لنقص الذخائر أو المعدات أو الرجال, بينما ظهر ذلك كثيرا فى صفوف الجيش الإسرائيلى, حيث كانت الفرق الإسرائيلية تعانى من نقص الذخيرة, ونقص فى المؤن من الطعام والمياه, والإمدادات الأخرى.
واستطاعت الضربات الصاروخية أن تدمر نظرية الأمن الإسرائيلى التى كانت قائمة على عدة مبادىء, منها نقل المعركة خارج الكيان الإسرائيلى, وتأمين الداخل, لأنه لا يوجد عمق استراتيجى, إضافة إلى عدم استطالة زمن الحرب لصعوبة استمرار التعبئة العامة نظرا لقلة عدد السكان. غير أن كل ذلك تحطم أمام الضربات الصاروخية لحزب الله, فالصواريخ وصلت حتى " الخضيرة " وهى أشبه بضواحى " تل أبيب ", والمعركة كانت داخل الكيان الإسرائيلى منذ اليوم الأول, إلى جانب أن الجبهة الداخلية الإسرائيلية لم تعد مؤمنة, إذ أصيب الجمهور الإسرائيلى بحالة من الهلع والخوف والفزع لم تعد تخفى على أحد, إضافة إلى المعاناة التى حدثت من استطالة زمن الحرب واستدعاء الاحتياطى, وما نتج عن ذلك من توقف الإنتاج والعمل فى شمال إسرائيل, وإغلاق ميناء حيفا, وحالات الهروب إلى جنوب إسرائيل, أو حتى الهروب إلى خارج إسرائيل كلها, وأصبح المجتمع مشلولا بنسبة تتراوح بين 60 إلى 70%.
لقد غاب عن ذهن قادة إسرائيل أن حزب الله الذى حرر جنوب لبنان, وأرغم الإسرائيليين على الفرار, هو نفسه الذى يدافع عن أرضه, معتمدا على الدعوة للجهاد فى سبيل الله, وهو جيش يتحمل الصبر والحروب الطويلة, على العكس من الجيش الإسرائيلى الذى لا يخوض إلا الحروب الخاطفة.
وعلى الجانب الآخر أظهرت الحرب مدى البراعة التى يتحلى بها رجال المقاومة اللبنانية فى حزب الله, ومدى الجهد المبذول لتجهيزهم تقنيا ومعنويا, مما أذهل الجيش الإسرائيلى وأربك حساباته, فاضطر إلى تغيير الكثير من تكتيكاته, مما جعل أقصى أمنية له مع نهاية الحرب "إضعاف حزب الله", وليس القضاء عليه, أو نزع سلاحه, كما كانت الأمنيات فى بداية الحرب, مع أن إسرائيل فى حروبها كانت تسعى دائما إلى هزيمة العرب, وليس إلى مجرد تحقيق أهداف استراتيجية طويلة المدى.
كما غيرت هذه الحرب كثيرا من النظريات, وعلى رأسها نظرية الأمن الإسرائيلى التى اعتمدت على الطائرة والدبابة المحصنة, فلم تعد الطائرة كافية لإخضاع المقاومة, ولم تعد الدبابة محصنة, بعد اختراق الدبابة الميركافا, وأصبح على الإسرائيليين أن يترجلوا, وأن يقاتلوا كما يقاتل البشر وجها لوجه, وهذا غير ممكن بالنسبة لهم, خاصة فى حروب لم يعد معظم الإسرائيليين مستعدين للتضحية فيها, على خلاف المراحل الأولى لتأسيس الكيان الصهيونى.
دوى المفاجآت:
كانت المفاجآت المتوالية التى ظهرت من حزب الله خلال المعركة هى مقدمة للنصر, فأول المفاجآت هى اختطاف الجنديين الإسرائيليين, وهى المفاجأة التى وضعت إسرائيل فى موضع رد الفعل للمرة الأولى, ثم توالت المفاجآت, ولم تكن تصريحات السيد/ حسن نصر الله أثناء الحرب عنتريات ميكروفونية, بل هى تصريحات تعتمد على قوة موجودة بالفعل, فكان تصريحه بإمكان الوصول إلى حيفا وما بعد حيفا صادقا حين صرح به, ولم يكن البعض يصدق أن باستطاعة حزب الله فعلها, ولكن الحرب أثبتت أن ذلك ممكنا, فقد استطاع حزب الله قصف منطقة " العفولة " الواقعة بعد حيفا بالصواريخ من نوع " خيبر 1 ", فى إشارة قوية وواضحة إلى بدء مرحلة جديدة من القتال والتحدى والمواجهة, ولقد اعترفت القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلى بأن حزب الله أطلق للمرة الأولى صواريخ أرض – أرض من نوع " زلزال " والتى يبلغ مداها 100كم, ورأسها المتفجر يزن حوالى 100كجم طبقا للمصادر العسكرية الإسرائيلية, أى خمس أضعاف ما يحمله صاروخ " الكاتيوشا " العادى.
لقد عجزت آلة الحرب الإسرائيلية فى مواجهة صواريخ حزب الله من طراز " كاتيوشا " و " رعد1 " و " رعد2 ", بعد أن واصل حزب الله قصفه للمستعمرات والمدن الإسرائيلية التى شملت مدن حيفا وعكا وصفد وطبرية ونهاريا, وعشرات المستعمرات فى الجليل الأعلى, وبات واضحا أمام العالم مدى العجز الذى ينتاب إسرائيل ومنظومتها الدفاعية الصاروخية, وهذا العجز كان بسبب سرعة الحركة لهذه الصواريخ, وطيرانها السريع جدا, وعدم استطاعة اعتراضها فى الجو نظرا لأن فترة طيرانها سريعة وقصيرة وعلى ارتفاع منخفض بما لا يسمح للصواريخ الدفاعية بالقيام باعتراضها, كما أن هجوم حزب الله الصاروخى قائم على عنصر المفاجأة, والخفة فى الحركة, فلم تستطع إسرائيل فهم من يضرب حزب الله وأين يضرب.
ولنرصد معا فى هذا الكتاب الفشل الذى أحرزته إسرائيل من مغامرتها غير المحسوبة فى حربها على لبنان, والتداعيات التى ترتبت على ذلك.

- الفشل المخابراتى:
لا يمكن الحديث عن أى حرب دون الحديث عن دور المخابرات فيها, فالمعلومات هى التى تساعد العسكريين على تحقيق أهدافهم, وبدون هذه المعلومات لا يمكن تحقيق النصر, ولقد دخلت إسرائيل الحرب على لبنان والمعلومات المخابراتية التى لديها تكاد تصل إلى العدم, فمع استمرار الحرب ثبت أن كل أجهزة المخابرات الإسرائيلية فشلت فى معرفة من تحارب. لقد كانت هناك ثمانى وحدات مخابراتية إسرائيلية تعمل على تجنيد العملاء وجمع المعلومات حول لبنان وحزب الله, لكنها بدلا من تنسيق جهودها راحت تضارب الواحدة ضد مصالح وأنشطة الأخرى, إلى درجة أن إحدى هذه الوحدات أفشلت عمليات عسكرية واستخباراتية ذات قيمة, ووقف الإسرائيليون عاجزون عن استيعاب ما يحدث على أرض الواقع, وغير قادرون على قول الحقيقة.
وليس أدل على الفشل فى هذا المجال من الأمر المضحك حينما أعلنت إسرائيل عن اختطاف الأمين العام لحزب الله السيد/ حسن نصر الله, ثم ما لبث العالم أن اكتشف أن الشخص المختطف ما هو إلا إنسان عادى, ولكنه يحمل نفس اسم الأمين العام لحزب الله, وطبقا لما أذاعته إحدى وكالات الأنباء أثناء الحرب, فقد اعترف ضابط كبير فى سلاح الجو الإسرائيلى بعدم توفر معلومات استخباراتية كاملة حول ما حدث فى المنطقة القريبة من الشريط الحدودى فى جنوب لبنان, ومنعهم ذلك من الاستعداد بالشكل المطلوب للرد على الصواريخ قصيرة المدى برا وجوا والتى يطلقها حزب الله.
وكشف الضابط عن أن حزب الله أرسل خلال الحرب أربع طائرات بدون طيار, وتم إسقاط إثنتين منها, وكان يمكن لإحداها لو حملت مواد ناسفة الوصول إلى تل أبيب والانفجار فى موقع عسكرى حساس. وقال أنه قد تم رصد تلك الطائرات مصادفة لأن الرادار المستخدم ليس معدا لرصد طائرات كهذه, كما اعترف الضابط بأن سلاح الجو لم يستطع شل فاعلية صواريخ الكاتيوشا نظرا لوجود فجوة معلوماتية, حيث استخدم سلاح الجو الإسرائيلى صورا جوية تعود إلى عام 2002, ولا تشمل الأبنية التى أقيمت فى المدن اللبنانية منذ ذلك الوقت, وهذا ما يؤكد فشل الجانب الاستخباراتى فى هذه الحرب.
وعلى الجانب الآخر نجد أن ما فشلت فيه أجهزة المخابرات الإسرائيلية, نجح حزب الله فى القيام به, فمع بدايات الحرب كشف حزب الله لأجهزة الأمن اللبنانية عن 36 مرشدا لإسرائيل, كانوا يساعدون الطائرات الإسرائيلية فى تحديد مواقع حزب الله, بالإضافة إلى اختراق مخابرات حزب الله لشبكة الهواتف المحمولة فى إسرائيل, وقيامهم بإرسال رسائل نصية باللغة الإنجليزية تقول: " الآن الآن الآن.. أخرج من بيتك.. حزب الله سيضرب المنطقة, الحكومة الإسرائيلية تخدعكم ", وهى الرسائل التى اعترف الإسرائيليون بأنها بثت الرعب فى قلوبهم.
وقد اعترفت صحيفة " معاريف " بأن قوات إسرائيلية اكتشفت عند مهاجمتها لمقر تابع لحزب الله فى " بنت جبيل " أن لحزب الله قدرة على التنصت على خطوط المحمول وخطوط التليفون الأرضية فى إسرائيل, كما أقر الجيش الإسرائيلى بأنه ثبت قدرة حزب الله على التنصت على شبكة اللاسلكى الخاصة بالجيش الإسرائيلى, وأرقام تليفونات سرية, وهو ما وصفه ضابط مخابرات إسرائيلى بأنه أكبر عملية اختراق للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية على مدار تاريخها.
كذلك ظهر الفشل الاستخباراتى خلال المعركة فى نواحى متعددة, منها على سبيل المثال ما حدث عندما قصف حزب الله البارجة الإسرائيلية " حانيت " فى مياه البحر المتوسط, حيث أكدت تقارير طاقم السفينة أنه لم تصل أية معلومات مخابراتية إليهم تكشف النقاب عن قدرات حزب الله الصاروخية, أو امتلاك حزب الله لصواريخ تستطيع ضرب حاملة الطائرات, مما أدى إلى وقوع ما وصفته التقارير بالكارثة.
وتعليقا على الفشل المخابراتى الإسرائيلى علقت صحيفة " معاريف " قائلة: "إن من أبرز شواهد الخلل والقصور فى الحرب ضد حزب الله هو محاولة رئيس المخابرات الإسرائيلية (الموساد) "مائير داجان" الهرب من إسرائيل والسفر إلى واشنطن أثناء الحرب بحجة الحصول على معلومات حول أنشطة حزب الله, إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلى أدرك محاولة "داجان" للتنصل من المسئولية, وأوعز إليه بالبقاء فى إسرائيل لحضور جلسات مجلس الوزراء المصغر الذى كان يعقد جلساته يوما بعد الآخر, معتبرا أن إقدام "مائير داجان" على هذه الخطوة يعد هروبا من ميدان القتال وخيانة عظمى لدولة إسرائيل".
ولنعلم كيف انتصر حزب الله على دولة إسرائيل فى المجال المخابراتى, نذهب إلى تقرير نشرته صحيفة " معاريف " أثناء الحرب, حول منظومة الجمع الاستخباراتى الموجود لدى حزب الله, استندت فيه إلى المواد والوثائق التى عثرت عليها قوات الاحتلال فى مواقع ومراكز تابعة للمقاومة خلال توغلها داخل الأراضى اللبنانية.
وقال التقرير أنه وسط الكميات الكبيرة من الأسلحة المتطورة التى وجدوها, تم العثور على وثائق استخباراتية باللغة العربية, وصفتها الصحيفة بأنها مثيرة للقلق, وتدل على أن حزب الله عمل بشكل منهجى على جمع عدد كبير من المعلومات عن الجيش الإسرائيلى ووحداته المختلفة.
ومن بين هذه الوثائق كراسات إرشاد تتضمن معلومات عن كل وحدات الجيش الإسرائيلى, وطرق التعرف عليها من خلال رموزها وشعاراتها.
وأشار التقرير إلى أن هذه الكراسات تتناول الأسلحة المختلفة, وتشرح بالتفصيل توزيع وحداتها العسكرية, إضافة إلى كراسات أخرى تهتم بسلاح الجو الإسرائيلى, تشرح تاريخه وتطور أسرابه وأنواع الطائرات المستخدمة سابقا وحاليا, وفى نهاية التقرير ذكرت الصحيفة أنه ما تم ضبطه من هذه الكراسات يظهر تعمقا فى فهم حجم القوات والقواعد والرموز التى يستخدمها الجيش الإسرائيلى, وتفرد الكراسات التى تم ضبطها, فصولا مطولة عن الذراع البرية فى الجيش الإسرائيلى, تتناول, من بين أمور عدة, ألوية المشاة وتسليحها المتنوع وأماكن انتشارها, ومواقع قيادتها, فضلا عن شروحا مفصلة حول مسيرة الانضمام إلى هذه الألوية, ومسار تقدم المجند فيها, والفترات والدورات التى يحتاج إلى تجاوزها فى هذا السياق, أما فى ما يتعلق بسلاح المدرعات, فقالت الصحيفة أن الكراسات تظهر تعمقا فى فهم حجم القوات فيه, ومواقع القواعد وأسماء الكتائب ورموز الوحدات المختلفة, ونقلت "معاريف" عن ضابط رفيع المستوى فى الجيش الإسرائيلى قوله: لقد جمعنا معلومات استخبارية كثيرة من خنادق وبيوت مقاتلى حزب الله, ونحن نعمل على دراستها, هناك كراسات تحتوى على معلومات تثير قلقنا, إن المعلومات التى وجدناها أشعلت عندنا الضوء الأحمر. وهو ما يكشف عن أنه إذا كان هذا ما قد تم ضبطه, فكيف يكون حجم المعلومات الاستخباراتية التى جمعها حزب الله ولم يتم الكشف عنها؟
لقد رأينا فى هذه الحرب دروسا واقعية جديدة, من أن الأقمار الصناعية والطائرات التجسسية ليست كافية لكشف الأسرار, إذا لم تكن مخترقا من الداخل, وإذا قمت بالحد الأدنى من وسائل التمويه. باختصار فإن الاستخبارات الإسرائيلية والأمريكية المتعاونة معها, يمكن أن تحصل على رقم صفر بارتياح شديد, إنهم لا يعرفون شيئا عن حزب الله إلا أن مكاتبه الرئيسية فى الضاحية الجنوبية, وهذه معلومة علنية فى علم الكافة.
ومن أطرف ما تم الكشف عنه مؤخرا فى إسرائيل, أن لجنة تحقيق أمريكية عالية المستوى حضرت إلى تل أبيب, للتحقيق فى كيفية سيطرة حزب الله على نظام الاتصالات فى الجيش الإسرائيلى والتنصت على كافة مكالمات القيادة, وفك الشفرة المعقدة الأمريكية الصنع. وقالت المصادر إن وفد الخبراء يدرس أيضا نظام التشفير الالكترونى, الذى أتبعه حزب الله لمنع إسرائيل من السيطرة على نظام اتصالاته.
إذن فإن الانتصار التكنولوجى فى هذه الحرب كان من أخطر زوايا ودروس هذه المواجهة. والتى أكدت أن الأسطوانة المشروخة التى ظل حكامنا يرددونها حول الفجوة التكنولوجية مع الغرب وإسرائيل أصبحت أسطوانة ممجوجة، ومجرد إعلان للفشل والاستسلام، بدلا من العمل الجدى للقضاء عليها. ومن هنا فإن العدو الصهيونى الأمريكى يعانى الآن من انكشاف استراتيجى تكنولوجى، وعليه أن يعيد النظر فى صناعاته الالكترونية، وعمليات التشويش الالكترونى، والعمل الاستخبارى، وصناعة الميركافا، والبوارج الحربية.. الخ الخ, وهذه عمليات تحتاج إلى شهور وسنين من زاوية البحث المعملى ثم من زاوية الإنتاج الصناعى.

- الخسائر العسكرية:
لم يكن موافقة إسرائيل على وقف إطلاق النار, إلا بعد ما تنبهت لحجم الخسائر التى تتكبدها يوميا على جميع المستويات, ولكن كان المستوى الذى يهم قادتها هو المستوى العسكرى. ففى هذه الحرب كشفت التقارير أن الجيش الإسرائيلى قتل منه 343 جنديا أثناء المواجهات مع حزب الله, إضافة غلى 617 جريحا, أما دبابات " الميركافا " التى تتبجح بها إسرائيل فتم تدمير 165 دبابة, إضافة إلى 96 آلية عسكرية بين ناقلات جنود وجرافات عسكرية وسيارات, بالإضافة إلى 4 طائرات أسقطها مقاتلو حزب الله. هذا إلى جانب الإنفاق العسكرى اليومى الذى الذى وصل إلى حوالى 15 مليون دولار, وهو ما ترتب عليه زيادة الإنفاق العسكرى الكلى إلى أكثر من 400مليون دولار, بالإضافة إلى التعويضات التى سوف تدفعها إسرائيل لعائلات القتلى, والتى تقارب قيمتها 600مليون دولار. وإذا أضفنا أن إسرائيل استنفذت ما نسبته 90% من ذخائر القوات الإسرائيلية فإننا نعلم حجم الخسائر الإسرائيلية بدقة.
وتقدر بعض المصادر الإسرائيلية جملة خسائر إسرائيل من الحرب بحوالى 23مليار شيكل, أى ما يقارب خمسة مليارات دولار, وهو ما يمثل 10% من ميزانية الدولة, وحوالى نصف ميزانية وزارة الدفاع, لكن هذه الخسارة هى خسائر أولية, وتتعلق بالأضرار التى وقعت على شمال إسرائيل وما أصاب الجيش من خسائر فى الأسلحة والمعدات, وتوقف بعض المصانع عن الإنتاج, لكن الخسائر غير المنظورة والتى لم يعلن عنها إلى الآن هى تلك التى أصابت الصناعة العسكرية الإسرائيلية, فإسرائيل اكتسبت فى العقود الأخيرة موقعا عالميا فى تصنيع وتصدير الأسلحة, بزعم انتصاراتها على الجيوش العربية, مما جعلها من أكبر الدول المنتجة والمصدرة للصناعات العسكرية التى توفر لها ما يزيد عن 40% من مجمل عوائد صادراتها.
ويذكر أحد التقارير المختصة فى صناعة السلاح أن لدى إسرائيل ما يزيد عن 150 شركة للصناعات العسكرية المتطورة, وبعائدات سنوية تزيد عن 3.5 مليار دولار.
ولكن بعد انتهاء الحرب, وبعد الخسائر العسكرية التى ألحقها حزب الله بالجيش الإسرائيلى, أصبح مصير هذه الصناعات العسكرية مجهولا. فقد ألغت تركيا عقدا بقيمة 500مليون دولار كانت مخصصة لاستيراد الدبابة "ميركافا ", إضافة إلى اهتزاز الثقة بشكل عام فى الصناعة العسكرية الإسرائيلية.
سقوط لواء " الصفوة ":
الخسائر العسكرية الإسرائيلية امتدت من العنصر البشرى إلى التسليح, كما امتدت إلى طبيعة تكوين الجيش الإسرائيلى ذاته, فها هو ما أسموه بلواء الصفوة " جولانى " يسقط فى مستنقع " بنت جبيل " و" مارون الراس " سقوطا مدويا, وهذا اللواء يعتبر أفضل ألوية المشاة المقاتلة فى الجيش الإسرائيلى, وعادة ما يشعر الإسرائيليون الذين خدموا فى صفوف هذا اللواء بالفخر بسبب ما يسمونه بـ " تراث البطولة " الذى خلفه هذا اللواء. ودائما ما تقوم هيئة الأركان بالجيش الإسرائيلى بتكليف هذا اللواء بالعمليات الخاصة خلف خطوط "العدو", وينسب لهذا اللواء احتلال هضبة الجولان عام 1967, ومعظم رؤساء هيئة أركان الجيش الإسرائيلى سبق لهم أن خدموا فى هذا اللواء, وهو اللواء الذى أسسه " بن جوريون " عام 1948.
ونظرا للدور الذى يقوم به هذا اللواء, كانت مهمته فى حرب لبنان التقدم واحتلال قرى " بنت جبيل " و" مارون الراس ", ظنا منهم أن موازين القوى ستكون لصالحهم, ولكن أرض الواقع أثبتت أن المقاومة تستطيع مواجهة هذا اللواء, ولم يتمكن هذا اللواء لأيام طويلة من احتلال هذه القرى, بل ورغم التفوق العسكرى استطاع مقاتلوا حزب الله أن يكبدوه خسائر كبيرة فى المعدات والأفراد, مما اضطره إلى الانسحاب من هذه القرى.
لقد كانت موقعة " مارون الراس " أول مواجهة برية, ودخلها جنود لواء " جولانى " وهم على يقين من أنهم سيلقنون مقاتلى حزب الله درسا لن ينسوه, ولكنهم هم الذين تلقوا الدرس, فطوال أيام المعركة فشلت القيادة العسكرية الإسرائيلية " لوجيستيا " فى إيصال الإمدادات إليهم إلا عن طريق الجو, لأن البر غير آمن ومفخخ بعشرات المقاتلين المدربين على حرب العصابات, وبدأ جنود " الصفوة " يتساقطون.
وهذا من الناحية العسكرية يعد فشلا " لوجيستيا " أيضا حيث فشل الجيش الإسرائيلى فى كثير من معاركه فى إيصال المؤن من طعام ومياه وأسلحة إلى جنوده, الأمر الذى أكد سلامة ما كان يخطط له حزب الله فى إدارة المعركة, خصوصا عندما ركز على ضرب خطوط جيش العدو, وإمداداته, وعرقلة تقدمه.
سقوط القيادة:
وهل من دليل آخر على مدى العجز العسكرى الذى واجهته إسرائيل, من قرار رئيس الأركان الإسرائيلى بعزل الجنرال " أدوى أدم " قائد المنطقة الشمالية - الذى تخوض قواته المعركة ضد حزب الله - فى أثناء المعركة ذاتها؟
لقد وصفت وسائل الإعلام الإسرائيلية القرار بأنه " زلزال فى الجيش", وقالت إذاعة الجيش تعليقا عليه: " إنه يعبر عن حجم الإحباط الذى يسود القيادة العسكرية والسياسية من تعثر المعركة فى مواجهة حزب الله, وعجز الجيش الإسرائيلى عن حسمها, بالرغم من أن الرجل يعمل إلى جواره الكثير من الجنرالات, وتحت أمرته أكثر من عشرة آلاف جندى يواجهون عدة مئات من مقاتلى حزب الله ".
وهذه الخطوة تدل بشكل لا يقبل الجدل, أن الجنرال أدم فشل فى منصبه, أى فى إدارة المعركة فى لبنان, وأنه أخفق فى عدة مهمات قامت بها قوات الاحتلال أما مقاتلى حزب الله, مما اضطر رئيس الأركان الإسرائيلى "دان حلوتس" أن يخالف عرفا عسكريا راسخا, يقضى بعدم تغيير القادة أثناء المعركة, إلا فى حالة واحدة, وهى أقتراب الهزيمة العسكرية, بما يحويه من تخبط واضح على جبهة القتال.
وهذا الأمر الذى نتحدث عنه, لم يحدث فى تاريخ الجيش الإسرائيلى من قبل, إلا مرة واحدة, أثناء حرب رمضان (أكتوبر 1973), حيث اضطرت قيادة الجيش الإسرائيلى فى ذلك الحين إلى تغيير قائد المنطقة الجنوبية, المسئول عن المعارك على الجبهة المصرية, حينما شعرت أيضا إسرائيل بالهزيمة.
ولقد استطاع حزب الله من خلال إطلاق أربعة آلاف صاروخ على إسرائيل طيلة فترة الحرب أن يربك القيادة العسكرية الإسرائيلية, بعد أن أصابت الصواريخ قواعد عسكرية فى شمال إسرائيل للمرة الأولى فى تاريخها, بما فيها مقر قيادة المنطقة العسكرية الشمالية فى " صفد ", ومقر قيادة اللواء الغربى فى مستوطنة " الشومرة ", وقاعدة سلاح الجو الرئيسية فى المنطقة الشمالية, وقاعدة تخزين الأسلحة قرب " صفد ", وموقع " سرغا " العسكرى, ومقر قيادة العمليات الجوية فى جبل "ميرون".
ولم تكن كل تلك الإخفاقات التى منى بها الجيش الإسرائيلى, فبعد وقف إطلاق النار, وفى محاولة جديدة للعدوان, قام الجيش الإسرائيلى بعملية إنزال جوى لكوماندوز فى بلدة " بوداى " شرق لبنان, غير أن وحدات من مقاتلى حزب الله تصدت لهذه القوة, وأجبرتها على الانسحاب, مخلفة ورائها عتادها وأسلحتها, وقد اعترفت إسرائيل بمقتل ضابط وإصابة جنديين - أحدهما إصابته خطيرة - فى عملية الإنزال الفاشلة تلك.

- سقوط أسطورة الدبابة " ميركافا ":
الدبابة " ميركافا " هى عروس الدبابات الإسرائيلية, ودرة جبين الجيش الإسرائيلى, والتى يطلقون عليها " جبل الصلب الذى لا يتبدد ", وكانت تحوطها هالة من التقديس حول قدراتها ومناعتها, ولكن فى هذه الحرب انتابت القوات الإسرائيلية حالة من الذهول إثر تساقط هذه الدبابة الواحدة تلو الأخرى, فالدبابة التى كانوا يتخيلون أنها محصنة مائة بالمائة ضد التفجير, استطاع حزب الله أن يقلب هذه المعتقدات رأسا على عقب ويثبت زيفها على أرض الواقع, فكانت صواريخ حزب الله تعرف جيدا طريقها إلى الدبابة الأسطورة, وظهر نجاح الجانب المخابراتى فى حزب الله فى معرفة العيب الوحيد فى تصميم الدبابة, وما إن يصيب الصاروخ هذا الجزء حتى تنفجر فى الحال, وأصبحت "الميركافا" وجبة شهية لمقاتلى حزب الله, مما دفع بالصحف والدوريات العسكرية الإسرائيلية إلى القول بأن حزب الله قد نجح فى " تحييد " درة الصناعة الحربية الإسرائيلية, حيث تم تدمير ما يقرب من 165 دبابة فى هذه الحرب, بالإضافة إلى إعطاب عدد آخر غير قليل.
الطريف أن وسائل الإعلام الإسرائيلية حاولت تدارك التدهور المستمر والمتزايد فى سمعة " الميركافا " فقالت: " أنها أثبتت كفاءتها, وأن أفراد الطاقم الأربعة خرجوا من إحداها سالمين بعدما أصيبت بضربة مزدوجة من صاروخين مضادين للدبابات ", ولكنها اعترفت أن هذا النجاح لم يفلح فى إخفاء إحباط الجنود الذين صعقوا من هول المفاجأة.
ولتدمير الدبابة " الميركافا " مغزى خاص بعيدا عن كونها خسارة فى العدد والعتاد الباهظ الثمن والهيبة الإسرائيلية, فهى تعتبر كسرا لهامة آلة الحرب الإسرائيلية, بالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية, حيث قامت تركيا بإلغاء صفقة مع إسرائيل بملايين الدولارات لاستيراد الدبابة, بالإضافة إلى تحطم مشروع إسرائيل لتسويق هذه الدبابة إلى كل من الصين وأفريقيا وبعض الدول الأوروبية الصغيرة.
ومن الواضح أن خسائر الصهاينة فى دباباتهم بشكل خاص تعنى ضربة مذلة للصناعات العسكرية الإسرائيلية فهذا الأسطول من الدبابات المسماة "ميركافا" أى "العاصفة" أو "جبل الصلب الذى لا يتبدد" قد تبدد مؤخرا على أيدى رجالات حزب الله.
فهذه الدبابات تعتبر فخر الصناعة العسكرية الإسرائيلية, حيث تعتبرها قيادة الجيش الإسرائيلى الدبابة الأكثر تأمينا لحياة طاقمها من بين مختلف أنواع الدبابات فى العالم، ويتغنى القادة العسكريون الصهاينة بها باعتبارها الأكثر "تدريعا ومنعة" أمام المقذوفات المضادة للدبابات بالإضافة إلى أنها الأقدر على المناورة والعمل فى ظروف بيئية صعبة.
لكن هذه المواصفات القتالية التى تبدو قياسية من الناحية النظرية لم تثبت كفاءتها أمام ضربات مقاتلى حزب الله.
وتعود قصة صناعة دبابة الميركافا إلى حرب عام 1967, حين فرضت فرنسا حظرا تجاريا على إسرائيل آنذاك, بسبب بدئها العدوان على الدول العربية، وهو ما دفعها إلى التعاقد مع بريطانيا على إنتاج مشترك للدبابة "تشيفتين", لكن بريطانيا انسحبت آنذاك بسبب ضغوط عربية, وألغت الصفقة، وحينها بدأت إسرائيل بالخطوات الأولى لتصنيع دبابة محلية لأول مرة, وخرجت "الميركافا1" للنور عام 1979 وتم تسليحها بمدفع من عيار "105" ملم, وصممت بحيث تناسب الطبيعة الوعرة لشمال إسرائيل ومرتفعات الجولان السورية المحتلة, وشاركت فى غزو لبنان عام 1982.
وتميزت دبابة الميركافا بمحرك الديزل فى جزئها الأمامى, وحجرة القتال فى مؤخرتها، حيث يوفر هذا التصميم الحماية بالإضافة إلى تصميم البرج والتدريع الخاص.
وفى عام 1983 أنتجت الصناعات العسكرية "الميركافا 2", حيث ركزت آنذاك الصناعات العسكرية الإسرائيلية على ملاءمتها لحروب المدن, بعد خبرة معارك لبنان, ولذلك أضيف إليها رشاش مضاد للأفراد عيار "60" ملم, مع إدخال بعض التحسينات على تدريعها ونظام السيطرة على النيران.
وفى عام 1990 ظهرت إلى الوجود "ميركافا 3" أو الجيل الثالث من هذه الدبابات, حيث تم تزويدها بقدرة نيرانية أعلى من خلال المدفع من عيار "120" ملم ذى البطانة الملساء, كما أدخلت تحسينات على تدريعها وبرجها, وظهر نوع من "ميركافا 3" المحسن الذى أطلق عليه الصقر.
وفى عام 2004 ظهر الجيل الرابع لهذه الدبابة "ميركافا 4", ودخل الخدمة بالجيش الإسرائيلى بنفس مدفع الجيل الثالث "120" ملم, مع إجراء بعض التحسينات على نظام السيطرة على النيران والتدريع.
أخطاء عسكرية إسرائيلية:
فى صحيفة "معاريف" الإسرائيلية كتب بليكس بريش فصلا آخر من فصول الإخفاقات الإسرائيلية خلال العدوان على لبنان فقال: "انتهت حرب لبنان، لكن الإخفاقات ونقاط الخلل التى حصلت فيها لا تزال تظهر فى التحقيقات لتذهل كل من يسمع. فهذه مثلا القصة التى لا تصدق لمقاتلى الاحتياط من فرقة المظليين. ففى التحقيق روى المقاتلون أن طائرة من نوع "هيركوليس" من سلاح الجو أرسلت لإنزال مؤن للقوات فى منطقة "رشاف" وقد أنزلت خطأ شحنة تتضمن 100 صاروخ "لاو" و500 قنبلة يدوية، مباشرة إلى أيدى مقاتلى العدو.
وتحدث جنود من لواء خاص للمظليين فى الاحتياط, عن سلسلة نقاط خلل شديدة حدثت خلال القتال فى جنوب لبنان، سبق لهم أن طرحوها فى التحقيقات التنفيذية التى أجريت فى نهاية القتال. وقال أحد المقاتلين: "ألقت الطائرة الرزمة وفُتحت المظلة، لكن الرزمة هبطت فى منطقة لا نسيطر عليها وكان واضحا أن فيها قوات لحزب الله. فهمنا فورا أن هذه المعدات ذهبت، وأغلب الظن سقطت فى يد حزب الله. وبعد وقت قصير وصلت تعليمات من إحدى القيادات العليا بأن نذهب لجلب الرزمة لأنه محظور أن تسقط فى يد العدو. ولكن بالطبع لم نذهب إلى هناك، ولا نعرف ما كان مصير هذا السلاح".
وكان يفترض فى القوات أن تحتل قرية "رشاف" فى غضون يومين, وقيل لها أن فى انتظارها مقاومة طفيفة نسبيا. ولكن عندما وصل المقاتلون إلى القرية اصطدموا بوضع مغاير, وطال احتلال القرية ليتواصل أكثر من أسبوع. وروى المقاتلون أن إحدى المعارك فى القرية كادت تنتهى بكارثة: نار قواتنا على قواتنا. وقال أحدهم: "شخصنا جنديين قرب مبنى، كانا يعتمران خوذتين حربيتين تلمعان فى الليل. فهمنا أنهما مخربان وطلبنا الإذن بإطلاق النار عليهما. أطلق القناص رصاصة واحدة ولم يصب. أطلق رصاصة أخرى ولم يصب. وعندها دخل الجنديان اللذان شخصناهما المبنى. طلبنا الإذن بتوجيه مروحية قتالية إلى المنزل، وتلقينا الإذن".
وأفاد المقاتلون أن الإذن بتوجيه مروحية قتالية إلى المنزل أصدره قائد اللواء الكولونيل دانى, ووصلت المروحية إلى المنزل وحاولت القوة على الأرض الإشارة إلى المنزل بواسطة الليزر، ولكن عندما لم تنجح فى ذلك بسبب خلل ما، بدأت القوات تشرح للمروحية عن المكان من خلال رقم المنزل على الصورة الجوية. ووافق قائد اللواء للمروحية على إطلاق النار بحسب رقم المنزل. وأضاف المقاتل: "كنا طوال الوقت نطلق النار ومن المنزل يطلقون النار علينا، وفى واقع الأمر كنا طوال الوقت نطلق النار الواحد على الآخر. وفى اللحظة الأخيرة قرر الجنود أن يفحصوا مرة أخرى الأمر ورفعوا من المنزل خوذة حربية على فوهة بندقية. وعندها تبين أن المنزل الذى ظننا أن فيه مخربين كان مليئا بجنود جيش الدفاع الإسرائيلى". وقال الجنود أن قائد اللواء نفسه الذى أذن بالنار كان فى المنزل ذاته, ووافق خطأ للمروحية القتالية على إطلاق النار عليه. وعلم من وحدة التحقيق العسكرية تعقيبا على ذلك بان التحقيق لم ينته بعد.
مجزرة الدبابات فى وادى السلوكى:
لا شك أن الحرب الأخيرة ستظل تشغل وسائل الإعلام والمحللين فترة طويلة، إلا أن اليومين الأخيرين سيظل لهما مساحة خاصة فى كافة التقارير والتحقيقات والتحليلات. خاصة وأنه قد قتل فى هذين اليومين 34 جنديا إسرائيليا وأصيب أكثر من 100 آخرين، كما دمرت العشرات من الدبابات والمدرعات، فى ظل تردد وتخبط القيادة الإسرائيلية بشأن مواصلة الحرب البرية والوصول إلى نهر الليطانى، من أجل تحقيق إنجاز عسكرى يرضى الرأى العام الإسرائيلى، فى أجواء كانت توحى بقرب اتخاذ قرار بوقف إطلاق النار.
وفى هذا السياق، نشر موقع "معاريف" على شبكة الانترنت تقريرا تناول "مجزرة الدبابات" التى وقعت فى اليومين الأخيرين من الحرب، فى وادى السلوكى، والذى بحسب التقارير الإسرائيلية كان "البوابة" لاحتلال جنوب لبنان. ويتناول التقرير التردد والتخبط فى إصدار القرارات بالتحرك، والذى كلف جيش الاحتلال الإسرائيلى، بحسب الرواية الإسرائيلية، 12 جنديا، بينهم عدد من كبار الضباط، و16 دبابة.
كما يشير التقرير، فى الوقت نفسه، إلى القدرات القتالية لمقاتلى المقاومة اللبنانية، سواء على مستوى قراءة التحركات العسكرية الإسرائيلية والتحرك بما يتناسب مع ذلك، أو معرفتهم بالمركبات المدرعة واستخدام الصواريخ المضادة الملائمة.
وبينما يغفل التقارير جوانب كثيرة، كانت قد أوردت بعضها التقارير الإسرائيلية، ولعل أهمها الروح القتالية لمقاتلى المقاومة اللبنانية بالمقارنة مع الجندى الإسرائيلى، يعزو التقرير أهمية كبيرة إلى الأخطاء العملياتية وسوء استخدام دبابات الميركافا من قبل الجنود، والصواريخ الروسية المضادة للدبابات، حيث تجلت فى حرب لبنان الثانية للجنود والضباط والجمهور الحقيقية المؤلمة: الدبابات الأقوى والأضخم لا تقوى على الصمود أمام مقاتل مدرب مسلح بصاروخ كتف!!
وفيما يلى نص التقرير لما أسمته المقاومة اللبنانية بـ "مجزرة الدبابات"، بحسب الرواية الإسرائيلية:
تلقت الكتيبة 162، بقيادة غاى تسور، أمرا بالتحرك باتجاه نهر السلوكى، جنوب لبنان، فى يوم الثلاثاء السادس من أغسطس. وكان الهدف هو فتح "البوابة" المؤدية إلى احتلال جنوب لبنان. وبدأ اللواء النظامى 401، بقيادة موطى كيدور، المسلحة بدبابات "الميركافا 4"، التحرك فى المنطقة يوم الأربعاء، وعلى رأسها قوات الهندسة، بعد أن قام سلاح الجو والمدفعية بـ"تليين" المنطقة. وبعد ساعات معدودة أصدر المستوى السياسى أمرا بوقف تحرك القوات.
تلقى اللواء 401 القرار بغضب، وذلك بسبب المخاوف الكبيرة من تحول الدبابات إلى أهداف سهلة عندما تكون فى وضع ثابت (غير متحرك). وبعد يوم واحد فقط، تجدد التحرك ثانية باتجاه السلوكى، إلا أنه بعد مرور 5 ساعات أجبرت القوات على التوقف. وارتفعت حدة الغضب، فكل جندى فى كتيبة مدرعات يدرك أن التحرك الموضعى يستدعى الهجمات بالقذائف المضادة للدبابات. ولذلك تقرر، بالتشاور مع قائد الكتيبة، تسور، مواصلة التحرك البطىء باتجاه السلوكى.
فى مساء يوم الجمعة، قرابة الساعة 16:45، بعد ثلاثة أيام من صدور الأمر الأول، قرر رئيس الحكومة ووزير الأمن التحرك باتجاه الهدف, والبدء باحتلال جنوب لبنان. وقد صدر القرار بعد أن بدأت تظهر بوادر اتفاق لوقف إطلاق النار بمصادقة الأمم المتحدة, وفى الساعة 01:00 بدأ التحرك. وفى الساعة 20:00 كانت قوافل الدبابات تشق طريقها فى"المعبر الإجبارى".
قائد الكتيبة يطمئن، إلا أن الدبابات دخلت فى كمين المقاومة, وقدر قائد اللواء 401" كيدور" أنه طالما امتد زمن الانتظار فى المكان نفسه، قبل بدء التحرك باتجاه نهر السلوكى، فإن حزب الله سوف يقرأ التحركات ويستعد بما يتلاءم, وحذر كيدور قائد الكتيبة من الخطر الماثل، إلا أن تسور طمأنه, وادعى أن قوات كتيبة الجوالة التابعة للواء "الناحال"، سوية مع كتيبة أخرى، سوف تنتشر فى المنطقة وتضمن عدم تعرض الدبابات إلى خطر الإصابة بالصواريخ المضادة.
استغل حزب الله الاستخدام غير الحكيم للقوات المدرعة، واستعد ما يقارب 60 مقاتلا فى المنطقة، وبحوزتهم كميات كبيرة من الصواريخ المضادة للدبابات، والتى تعتبر الأفضل فى العالم، وهى من طراز "كورنيت". كما تم وضع الخلايا التى تعمل على إطلاق قذائف الهاون فى المنطقة على أهبة الاستعداد.
ومع بزوغ فجر الأحد، تمكنت القوات، بقيادة كيدور، من عبور العقبة الأصعب، ووصلت بضعة دبابات فقط إلى قمة الجبل، ولكن بثمن باهظ جدا, 8 مدرعات وأربعة من جنود المشاة قتلوا فى معركة "السلوكى"، وبين القتلى اثنان من ضباط كتائب الدبابات، وضابط فى فرقة المدرعات.
وجه كبار الضباط فى الجيش انتقادات حادة على الحملة العسكرية التى بدأت فى الدقيقة التسعين من أجل التأثير على الرأى العام الإسرائيلى واللبنانى، وإثبات قدرات الجيش. إلا أن النتائج كانت أقسى من أن تعتبر نجاحا للحملة، بعد أن تقرر وقف إطلاق النار. وكان الجيش بحاجة إلى 30 ساعة من أجل إخراج الدبابات من "كمين النار" الذى أعده حزب الله. وكانت معركة السلوكى الوحيدة فى الحرب التى اخترقت فيها الصواريخ المضادة للدبابات دروع دبابة الميركافا 4.
ويحاول أحد كبار الضباط فى قيادة الشمال تصحيح الانطباع القاسى الذى نشأ عن طريق البحث عن "نصف الكأس الملىء"، فيقول:" لو لم يتم التوقيع على وقف إطلاق النار، لكانت هذه المعركة هى الأهم فى هذه الحرب".. يقول ذلك بالرغم من أن الحملة بدأت بعد أن أصبح واضحا أنه سيتم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
وبنفس الروح، يعترف الضابط بأنه لم يتم تنفيذ كل شىء بموجب الخطط. " كان هناك الكثير من التحديات فى هذه المعركة. قتل ثلاثة جنود فى اليوم الأول كنتيجة لإصابة دبابة ميركافا 4، وقتل 4 جنود مشاة. وكانت هذه المعركة الأهم فى هذه الحرب كلها، فقد فتحت "البوابة" لاحتلال جنوب لبنان. وكنا ملزمين بسلوك هذا الممر من أجل التقدم إلى الأمام".
أثناء السيطرة على المنطقة، اجتاز "الممر الإجبارى" 24 دبابة، أصيب 11 منها بصواريخ حزب الله المضادة للدبابات. وأثناء تسلق الجبل، لم يقتل جنود، وإنما أصيبت الدبابات. لم تخترق الصواريخ المضادة للدبابات الميركافا4. وعندما حاول ضابط الكتيبة تسلق المحور المؤدى إلى قمة الجبل، علق فى منتصف الطريق، وذلك بسبب القصف الذى قام به سلاح الطيران قبل يومين فى المنطقة، وبالنتيجة علقت 5 دبابات أخرى، ولم تتمكن من صعود الجبل، وأصبحت كـ "الأوز فى مرمى الصياد".
أدرك حزب الله ذلك بسرعة فائقة، وبدأ بعملية "لينش" على الدبابات، حيث أطلق مقاتلو حزب الله صواريخهم المتطورة من نوع "كورنيت" الروسية، التى تعتبر الأفضل فى العالم. ويقول أحد الضباط فى وحدة المدرعات "سمعنا صرخات الرعب فى أجهزة الإتصال".
طلب الجنود من الدبابات المساعدة، ولكن لم يكن بإمكانها ذلك. فالمروحيات الحربية والمدفعية لم تكن قادرة على ذلك لأن خلايا كثيرة من "ناحال" كانت منتشرة فى المنطقة من أجل منع إطلاق الصواريخ المضادة للدبابات، وخشى سلاح الجو من إصابتهم, وأصدر قائد اللواء 401 تعليماته للدبابات بالدوس على دواسة الوقود والهروب من المكان، إلا أن ذلك استغرق وقتا، كان كافيا لإصابة الدبابات.
وبحسب قائد اللواء "كانت هناك مشاكل مهنية وخطيرة. ولكن يجب أن نتذكر أننا لم نتدرب على ذلك فترة طويلة. ومن الواضح أن التدريب على تفعيل الدبابات لم يكن كافيا.. قائد الدبابة لم يتدرب على التحرك فى الليل.. قائد الكتيبة لم يعرف كيف يحرك القوات.. لم يجر أى تدريب جدى.. علينا استكمال الفجوات الكبيرة فى تدريبات كثيرة.

- الفشل البحرى:
لم يكد يمر يومان على بدء الحرب, حتى كان حزب الله ينتصر نصرا من نوع جديد, ففى هذا اليوم ثبت فشل استخباراتى آخر من حيث عدم استطاعة إسرائيل تحديد نوعية الصواريخ التى يملكها حزب الله, وقدرات هذه الصواريخ, حيث استطاع حزب الله قصف البارجة البحرية الإسرائيلية " أحادى حانتى " من نوع " ساعر " قبالة شاطىء بيروت, مما أدى إلى إغراقها, وهذه البارجة من أحدث البوارج التى يملكها سلاح البحرية الإسرائيلى, وتعد من أكثرها حماية وقدرة على التمويه, وتفادى رادارات الطائرات الحربية والسفن الأخرى, وهى واحدة من أحدث ثلاث بوارج امتلكتها البحرية الإسرائيلية, وهى تزن ما يقرب من 1300 طن ومؤهلة للبقاء فى البحر لمدة 20 يوما بدون التزود بالوقود, وتحمل طاقما مكونا من 64 شخص.
لقد نفت إسرائيل أولا الخبر جملة وتفصيلا، ثم تحدثت عن إصابات طفيفة, وعرضت صورا لبارجة شبيهة, لم يكن بها سوى "خدشين بسيطين" هما آثار تلك العملية، ثم تحدثت فى ما بعد عن إضرار بالغة، ثم عن شحن السفينة إلى داخل فلسطين المحتلة ثم أعلنت عن أربعة جنود بحريين مفقودين.
وهكذا صدرت مواقف متناقضة وبلاغات متنوعة، لنكتشف حجم الاضطراب فى الإعلام العسكرى الصهيونى.
وبدا التناقض على أشده فى تصوير إسرائيل طريقة قصف البارجة، فبعد أن صور "الفجوتين الصغيرتين" على جسم البارجة المزيفة، عاد ليقول أن القصف تم من "طائرة من دون طيار" دون أن يشير كيف يمكن لصاروخ نزل من فوق أن يحدث هاتين الفجوتين، بل دون أن يفسر لنا كيف يمكن لهاتين الفجوتين البسيطتين أن تؤديا إلى فقدان أربع جنود.
ونظرا لخسارتها الهائلة فى هذه البارجة, فقد حاولت إسرائيل التعتيم إعلاميا على هذه الحادثة التى كشفت العجز الإسرائيلى فى مواجهة الصواريخ التى يطلقها حزب الله, وقد أعلن فيما بعد حزب الله عن تدمير بارجة أخرى وزورق بحرى إسرائيلى.
اعترافات عسكرية إسرائيلية:
العجز الإسرائيلى فى الحرب على لبنان امتد إلى الجنود والضباط بالجيش الإسرائيلى, وبدا من تصريحاتهم كيف أصيبوا بخيبة الأمل فى معاركهم, وكيف فوجئوا بالرد القاسى من حزب الله, وبالمقاومة الباسلة دفاعا عن الأرض, فالقدرة القتالية لجنود حزب الله من أهم المفاجآت التى اكتشفتها إسرائيل فى هذه الحرب, ففى إعلان واضح للفشل الإسرائيلى فى الحرب اعترف أحد كبار الضباط بأن القيادة العسكرية الإسرائيلية لديها شعور مؤكد بالإخفاق, وقال: " لقد ارتكبنا ذنبا فاحشا فى هذه الحرب ".
وفى صحيفة " الجارديان " البريطانية نشرت رسالة مفتوحة كتبها قائد لواء احتياط قاتل فى لبنان, يقول فيها: " إن جنود لوائه فقدوا الثقة بقيادتهم العسكرية العليا, والقرارات التى صدرت كانت باردة من قبل متخذيها, وكان هذا واضحا فى كل مكان من الجبهة. لقد عبر عدم اتخاذ قرار حاسم بالنسبة لنا عدم احترام عميق لرغبتنا بالإنضمام لوحداتنا, وجعلنا نشعر بأننا مهملون ".
وتعلق صحيفة " الجارديان " على هذه الرسالة بقولها: " إنه من غير العادى أن يتحدث الجنود الإسرائيليون علنا ضد قادتهم, بيد أن هناك موجة غير عادية من النقد فى هذه الأيام تلقى الضوء وتظهر العجز العسكرى الظاهر, والاستخباراتى الواضح حول القدرة القتالية لحزب الله, فالقوات الإسرائيلية المدرعة قد بوغتت من الخلف بضربات الصواريخ المضادة للدبابات, والتى أحدثت خسائر فادحة فى دبابات الميركافا ".
ويجمع ضباط وجنود - من الذين شاركوا بالحرب وتمكنوا من العودة أحياء - على الصعوبة والمفاجآت التى واجهوها فى الحرب, والإحباط الذى يشعرون به, ويروون المصاعب التي يواجهونها مع " عدو صعب " يقرون بأنه فاجأهم بقدراته فى " معركة قاسية ", ويروى هؤلاء الجنود كيف أن الصواريخ المضادة للدبابات كانت تشكل الرعب الأكيد بالنسبة للجيش الإسرائيلى, مضيفا أن الجنود كانوا لا يستطيعون البقاء فى أى منزل, فهم لا يعرفون من أين يهاجمون.
ويروى الجنود الإسرائيليون كيف تمكن المقاومون بحزب الله من اختراق اتصالات الجيش الإسرائيلى, مما أدى إلى تعطيلها, وإخفاق الجيش الإسرائيلى فى معرفة الأماكن التى يتواجد بها قياديو الحزب, والأهداف العسكرية المحتملة, ويعترف أحد الضباط فى نهاية حواره بأن حزب الله ما زال يملك المئات من قواعد الصواريخ وآلاف الصواريخ.
وتروى صحيفة " واشنطن بوست " عن أحد الجنود الإسرائيليين العائدين من إحدى المعارك - التى قتل فيها 14 جنديا وتم تدمير سبع دبابات إسرائيلية فيها - قوله: " لا ندرى من أين يأتون إلينا, فعندما يريدون أن ننتبه لوجودهم, نقصف من الخلف ".
وننقل هنا ما قالته صحيفة "ديفنس نيوز" الأمريكية فى أحدى تعليقاتها على الحرب: إن الجنود الإسرائيليين تفاجأوا بقوة الحزب وشراسة مقاتليه ومتانة تحصيناته . إنهم يستخدمون شبكات أنفاق كبيرة فى أماكن عديدة على امتداد خطوط الجبهة الأمامية فى الجنوب, وهذه الأنفاق تتصل بمخابىء تحت الأرض يصل عمق بعضها إلى عشرين قدما, تستخدم كمراكز قيادة وسيطرة ومخازن للذخيرة والصواريخ. كما أن نوعية الأسلحة المتطورة لمقاتلى حزب الله, خصوصا تلك المضادة للدروع أعاقت تحرك الدبابات الإسرائيلية.
وفى لقاء أجرته صحيفة " يديعوت أحرونوت " مع الجنود الذين شاركوا فى الحرب, قال أحد الجنود: " إنه لم تكن هناك خطة واضحة للحرب ", مشيرا إلى أنه وزملائه لم يكونوا يعرفون أين يذهبون وماذا يفعلون, كما كان هناك تغيير مستمر فى الأوامر بشكل جنونى, فكلما ذهبنا إلى قرية يتغير الأمر بالتوجه إلى قرية أخرى ", وهذا ما يبين مدى الارتباك الحادث فى صفوف القيادة العسكرية الإسرائيلية. وفى السياق ذاته قال جندى آخر: " أنه كانت هناك بلبلة فى تخطيط العمليات الحربية, وهناك عتاد وغذاء وصلت إلى الجبهة فى اليوم الأخير, وبقيت فى منطقة المقاومة الإسلامية حيث ظفر بها حزب الله ".
وقال جندى إسرائيلى آخر: " إن الطائرات كانت تلقى الطعام أحيانا فى مناطق يسيطر عليها حزب الله ".
ويروى جندى آخر تفاصيل الظروف الصعبة التى مر بها الجيش الإسرائيلى, وكيف أنهم كانوا يمشون 17 كم على الأقدام حاملين زملائهم الجرحى, لدرجة فقدان أحد الجنود وعيه من الجوع والعطش.
وأضاف أنه كان هناك عجز واضح فى التنسيق أثناء العمليات العسكرية, حيث كان يلتقى الجنود مع قوات إسرائيلية أخرى, ولا يعرفون أنهم فى نفس المنطقة.
وأكد ضابط فى الجيش الإسرائيلى أن أكثر ما فاجأه هو أنه لا توجد يد توجه الأمور, كأننا نسينا أسس القتال الأساسية, وحاربنا دون براعة, ودون قوة, ودون تصميم, فى الوقت نفسه يقول أحد المسعفين الإسرائيليين إنه دخل إلى الجنوب اللبنانى بدون المواد الأساسية لعلاج الجرجى.
ولصحيفة "واشنطن بوست" روى بعض الجنود الإسرائيليين ذكرياتهم عن المعركة, فقال العريف الإسرائيلى "افياتار شاليف" عن اللحظة التى لمح فيها مقاتلا من حزب الله على مسافة قريبة منه, وهو يحمل صاروخا يستعد لإطلاقه فيقول: طلبنا طوافة قتالية، دخلنا إلى أحد المنازل، اتخذنا وضعا دفاعيا وبدأنا بالصلاة.. لا يمكن لك فى هذه الحالة إلا أن تتخيل بقعة ضوء حمراء تدخل من النافذة.
ومن موقعه فى إحدى القرى اللبنانية، يسمع الجندى "الون جلنيك" أصوات انفجارات قذائف حزب الله تقترب منه أكثر فأكثر. تسقط إحداها على بعد أمتار منه, فيلقيه ضغطها ووميضها أرضا. يزحف وهو يرتجف إلى مكان آمن, مطلقا كل الشتائم التى يعرفها, لم يصب بأذى لكن كلامه راح يخرج مضطربا ومتلعثما.
يقول الجندى جلنيك: أدركت أننا نقاتل جيشا حقيقيا منظما، هؤلاء أشخاص يعلمون جيدا ماذا يفعلون. أما الرقيب عساف فيؤكد أن القتال ضد حزب الله "محبط للغاية"، ويضيف: إنها لمفاجأة فى كونهم يقاتلون بهذا الشكل وما زالوا صامدين، كنت أتوقع أن ينتهى الأمر خلال أسبوعين.
وفى واقعة مشابهة، يقول الجندى "رون ايفان": من مسافة معينة ترى ضوءا أحمر ثم وميضا أبيض، تسمع بعدها صوت القذائف. يضيف: يا الهى! تشعر بالهواء يتموج من حولك كاصطدام هائل.
ويقر الجنود بأن العمليات ضد حزب الله تعنى مواجهة مقاتلين "مستعدين للمجابهة"، ويستخدمون القنص والقذائف.
ويقول العريف "ماتان تايلر" من لواء ناحال أنه فى الكثير من الأوقات نستطيع رؤيتهم فقط عندما يريدون أن يلفتوا أنظارنا, ثم نجدهم يضربوننا من الخلف، ويتابع مضطربا: إنه أمر مرعب، لا تشعر أنك ضعيف, ولكنك تشعر أنك مهدد، هناك دائما شىء مجهول.
ويضيف تايلر: لا يمكنك أن تستخف بقدرة حزب الله، إنهم أسياد أرض المعركة، يعرفون المكان أفضل منا، يعلمون الأماكن التى يمكنهم الاختباء فيها, والوقت الذى يمكنهم أن يتنقلوا فيه، كما أنهم يعلمون جيدا أين نحن.
أما "شمويل اوين"، و"براين واكسمان"، و"ديفيد غروس"، وهم ثلاثة أمريكيين جاءوا إلى إسرائيل للتطوع فى الجيش تعبيرا عن ولائهم للصهيونية، فيؤكدون أن المعركة ضد حزب الله تخطت كل التوقعات.
ويشير "اوين" إلى أن الجنود الإسرائيليين كانوا فى السابق يتحدثون عن الحرب ضد لبنان على سبيل النكتة، ويضيف: ربما توقعنا أنها ستكون حربا كبيرة، ولكن الآن، اللعنة، إنها حرب غريبة كليا.
أما "واكسمان"، فيؤكد أنه أصيب بالذهول من طريقة تحصن "العدو" وتخفيه، ويضيف:اعتقد أن الجيش الإسرائيلى تفاجأ منذ البداية، هناك خنادق لا نعرف موقعها، كما أننا لا نعلم من أين تنطلق القذائف، ويتابع:الأمر صعب للغاية، نواجه حرب عصابات يشنها أشخاص منظمون للغاية.
وبدوره، يؤكد "غروس" أن الحرب "بطيئة جدا" ويشير إلى أن "مثل هذا الأمر يصيبنا بالجنون"، معربا عن شكوكه فى نجاح إسرائيل فى وقف الصواريخ قائلا: تشعر أنك تقوم بإبعادهم لكنهم ما زالوا يستطيعون إطلاق الصواريخ بشكل أكبر، إنه أمر محبط.
ويشير الملازم "ايتامار آبو" إلى الصعوبة التى يعانى منها فى شرح الموقف لسكان مستوطنته عندما يزورهم فى أجازته، فيقول:عندما تسقط الكاتيوشا على بيت أحد الأشخاص، سيكون من الصعب أن تشرح له أن الأمور تسير على نحو جيد، سيطالبك دوما بإنهاء الوضع، ويتابع:اعتقد أن ما نقوم به يساعد, ولكن لا أحد يعلم كيف ومتى ستنتهى هذه الحرب، التهديد سيستمر على حدودنا.
وتنقل صحيفة "نيويورك تايمز" عن ضباط وجنود إسرائيليين تأكيدهم أن حزب الله "مدرّب كجيش ومجهز كدولة"، ويشير أحدهم إلى أن مقاتلى الحزب مدربون بشكل جيد ويتمتعون بكفاءة عالية، مضيفا: أنهم مجهزون بسترات واقية ومناظير للرؤية الليلية، ووسائل اتصالات.
من جهة ثانية، يتحدث الإسرائيليون استنادا إلى الصحيفة، عن امتلاك حزب الله لمنظومة اتصالات متطورة عبر الأقمار الصناعية، بالإضافة إلى أنواع من الصواريخ الروسية المضادة للدبابات، والتى تعتبر الأكثر تطورا فى العالم، إذ يوجه البعض منها سلكيا، فيما يوجه البعض الآخر عبر الليزر، وهى قادرة على حمل رؤوس تفجير مزدوجة، بحيث يحدث الانفجار الأول فجوة فى الدبابة المستهدفة, فيما يؤدى الانفجار الثانى إلى إلحاق اكبر قدر من الإصابات البشرية، وإلى جانب استخدامها ضد الدبابات، يقوم مقاتلو المقاومة بإطلاق هذه الصواريخ على المنازل التى يختبئ فيها الجنود الإسرائيليون فتحدث تأثيرا مشابها: خرقا للجدار ثم انفجار فى الداخل، مع الإشارة إلى أنهم استطاعوا أن يدمروا من خلالها أكثر الدبابات الإسرائيلية تطورا "الميركافا".
ويؤكد الجنرال الإسرائيلى "يوسى كبرماسير"، أن مقاتلى الحزب يستطيعون استخدام هذه الصواريخ بدقة من مسافة ثلاثة كيلومترات.
ويقول "ديفيد من نون" من لواء ناحال، إن الصواريخ المضادة للدبابات تشكل الرعب الأكبر بالنسبة للجيش الإسرائيلى، مضيفا أن الجنود لا يستطيعون البقاء فى أى منزل، فهم لا يعرفون من أين يهاجمون. إلا أن أكثر ما يقلق الإسرائيليين هو استخدام مقاتلى الحزب لشبكة أنفاق يخرجون منها لإطلاق صواريخ محمولة على الكتف، ثم يختفون مجددا.
الكولونيل "موردخاى كاهان"، قائد وحدة "ايغوز" فى لواء "غولانى"، تحدث لصحيفة "يديعوت احرونوت" عن أسوأ أيام المعركة، عندما خسرت وحدته أحد ضباطها وعددا من جنودها, فى بلدة مارون الراس على يد مقاتلين من حزب الله. فيؤكد: لا نعلم أين سنلاقيهم, قد يكون ذلك فى خندق أو فى كهف. ويشير كاهان إلى أن مخازن حزب الله ليست مجرد كهف طبيعى, إنها حفر مجهزة بالسلالم ومداخل الطوارئ والمخارج.
ويصف الرقيب يوسف، وهو عنصر استطلاع للواء "بارام" من فصيلة عسكرية، أن أحد الخنادق التى وجدها الجيش الإسرائيلى قرب بلدة مارون الراس كانت على عمق أكثر من 25 قدما، وتحتوى على شبكة من الأنفاق وغرف للتخزين، ومداخل ومخارج عدة، ومجهزة بكاميرا مراقبة موصولة على شاشة فى الأسفل لتمكين المقاتلين من التربص بالجنود الإسرائيليين.
وتعتمد المقاومة أيضا على زرع العبوات ضد جنود الاحتلال، فى محاولاتها لإعاقة تقدمهم. وفى حين استطاعت القوات الإسرائيلية مواجهة العبوات السلكية عبر قطع الأسلاك, والتشويش على العبوات اللاسلكية (التى تفجر عبر موجات راديوية)، قام حزب الله بتطوير أجهزة التحكم بحيث بات يستخدم أجهزة خلوية وحتى شعاعية.
ويقول الإسرائيليون أن عدد مقاتلى الحزب يتراوح ما بين الألفين إلى الأربعة آلاف عنصر، إضافة إلى عدد اكبر من متطوعين يقدمون خدمات لوجستية متفرقة. كما يشيرون إلى المرونة التنظيمية للحزب، بحيث أن قواته العسكرية تتوزع على مناطق ثلاث، تتمتع كل واحدة منها بنوع من الاستقلالية.
ولا يقتصر الحديث عن قدرة حزب الله على جنود وضباط جيش الاحتلال، إذ لا يخفى المسئول الأسبق لقوات الأمم المتحدة فى جنوب لبنان "تيمور غوكسيل" إعجابه بالتزام عناصر الحزب وتنظيمهم، مؤكدا أنهم لا يخافون الجيش الإسرائيلى أبدا بعدما قاتلوه لمدة 18 عاما. ويشير إلى أن بمقدور حزب الله أن يضايق الجيش الإسرائيلى وأن يدرس عيوبه، فالحزب بات يثق بأنه يقاتل جيشا عاديا لديه العديد من نقاط الضعف والحماقات.
ويصف "غوكسيل" مقاتلى الحزب بأنهم يتمتعون بالصبر والحرص, والقدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية التى توضح لهم قوة النيران الإسرائيلية, وقدرة الجيش على التحرك. ويضيف: يعلم الحزب جيدا أن المعركة غير متكافئة, لكنه يعلم أيضا أنه يقاتل على أرضه, والى جانب شعبه.
ويقول "غوكسيل" إن مقاتلى الحزب يرصدون كل التفاصيل حول عدوهم، كما أنهم يقيمون عملياتهم جيدا, سواء لجهة أخطائهم وردة فعل الجيش الإسرائيلى، مشيرا إلى أنهم قادرون على أخذ الإسرائيليين إلى معركة مفتوحة واستدراجهم إلى مناطق مجهزة جيدا بعيدا عن خطوط الإمداد.
إلا أن التعليق الأكثر تعبيرا عن إخفاق إسرائيلى كبير، هو ما نقلته صحيفة "الجارديان" عن مراسليها الذين تجولوا فى طرقات جنوب لبنان فوصفوها بأنها أكثر طرق العالم خطورة، إذ لم يجدوا أى اثر للجيش الإسرائيلى باستثناء ما يدل على "فشله": الدبابات المحروقة.
ومن ضمن المعارك القاسية التى ذاق بها الجنود الإسرائيليون طعم الموت واكتووا بـ"جحيم المقاومة" كما قالوا, كانت بجوار بلدة الغندورية أثناء اجتيازهم وادى حجير(السلوكى).
وتحت عنوان "وادى الدموع" أفردت صحيفة "يديعوت أحرونوت" شهادات موسعة روى فيها الناجون من الجنود تفاصيل المصيدة المبللة بالدماء التى نصبتها المقاومة بإحكام, واستعادوا لحظات الهلع بمرارة بالغة.
وكان أفراد وحدة المدرعات رقم 401 قد تمكنوا من التقاط أنفاسهم فقط, عند عودتهم من منطقة السلوكى فى القطاع الغربى.
وتنقل الصحيفة على لسان أحد الضباط العائدين أن "وادى السلوكى" شهد واحدة من أكثر معارك المواجهة قساوة ومأساوية التى شهدها الجيش الإسرائيلى. وفى هذه المعركة أعطبت 10 من بين 12 دبابة وقتل 12 جنديا.
وتتعالى داخل الجيش انتقادات بشأن التحضيرات التى سبقت هذه المعركة وإدارتها, بعدما أدخل رتل دبابات ميركافا لاجتياز وادى السلوكى فى منطقة شديدة الانحدار, فحولته لهدف ثابت لنيران المقاومة, التى كانت تكمن فيها بعدما ظنوا أنه تم تطهيرها بواسطة وحدة مشاة من فرقة "الناحل".
وكشف أحد قادة الجيش للإذاعة العامة أن المعركة فى وادى السلوكى خططت لتكون معركة على الوعى, تهدف لتقديم البرهان بأن الاعتقاد بعجز الجيش عن مواجهة حرب العصابات, هو اعتقاد خاطئ, والإثبات لحزب الله من هو سيد الموقف على الأرض.
واعتبر الجنود أن إرسالهم للموت المحتوم من أجل معركة على الوعى, أو من أجل صورة, إهانة كبيرة، وعلق أحدهم على ذلك بالقول "أرسلونا كى نجلب صور مخربين قتلى أو رافعى الأيادى, وبدلا من إحراز انتصار نفسى واحتلال وعى الآخر, تلقينا العكس كيدا مرتدا وقاتلا".
وروى أحد الجنود أنهم أرسلوا بغية التقدم نحو الليطانى, بعدما أبلغوا بأن المنطقة طهرت من عناصر حزب الله. وأضاف "لكن حينما بلغنا منحدرات الوادى, استهدفنا جنود حزب الله بالصواريخ المضادة للدروع بدون رحمة من القرى المنتشرة فى نقاط تعلو المكان".
وقال أحد الجنود "كنا نظن أن المنطقة مطهرة, وسرعان ما اكتشفنا أننا ولجنا الجحيم, حيث بلغتنا الصواريخ من كافة الجهات, دون أن يتوقع أحد منا أن نقع بمثل هذه المصيدة. هذا فشل ذريع".
ولفت جندى آخر إلى أن المعارك كانت صعبة للغاية, منوها إلى عدم التنسيق بين القوات فى الميدان, وإلى الفرق الواسع بين ما قيل لهم, وبين ما جرى فى الواقع.
وذكر آخر: "حسبنا أننا داخلون لمنطقة نظيفة, وإذا بالنيران تصوب علينا من مخابئ ومنازل. عندما أصيبت الدبابة الأولى فهمنا أن الكابوس قد بدأ. أعرف أن الصاروخ الأول ليس الأكثر خطرا, إنما الرشقة التى تليه. كان هذا مرعبا, فأنت تفكر فورا أين يمكنك الاختباء, وتكاد تموت خوفا من المجهول".
وأضاف: "كانت هذه نار الجحيم, ولا تعرف متى ستطالك, وفى سرك تصلى لأن تنتهى الهجمة, لتسمع بالجهاز اللاسلكى أن الآليات لم تصب, وأن أفرادها بخير, ولكن هذا لم يحدث. ينبغى التحقيق فيما شهدناه فى وادى السلوقى فبعد أن ظننا أننا نوشك على العودة مبتهلين ومبتسمين ورافعين الرايات عدنا بدون زملائنا".
وكانت وسائل الإعلام الإسرائيلية نقلت شهادات مماثلة من قرية "دبل" التى اصطاد فيها عناصر المقاومة العشرات من الجنود الإسرائيليين داخل أحد منازلها, وكبدوهم تسعة قتلى وعددا كبيرا من الجرحى.
وروى أحد الجنود لإذاعة "الجيش اليوم" أن عشرات الجنود تقدموا نحو قرية "دبل" وسط تعليمات متلعثمة ومبهمة، ودخلوا أحد المنازل الصغيرة وناموا بعد أن كلفوا أحدهم بحراسة الباب. وتابع: "بعد ثلاث ساعات استيقظنا على دوى انفجارات, ظانين أن الجيش قصفنا خطأ, وفور قيام القائد بفتح الباب كى يجلب جهاز الاتصال دخل الصاروخ الأول, وغرقنا بغمامة من الغبار وسط صيحات المصابين. لم أعرف إذا كنت حيا أم ميتا, وفعلا أحسست أننى فى الجحيم, ولاحقا فهمنا أن ذخائرنا انفجرت أيضا".
وذكر الشاهد أن تسعة جنود قتلوا فيما أصيب عشرون, وتطرق إلى هرب الجنود المصابين إلى تلة مجاورة منتظرين طيلة ثلاث ساعات من يأتى لإسعافهم قبل أن يهربوا للحدود مشيا على الأقدام.
ويقول جندى إسرائيلى كان قد شاهد استهداف إحدى الطائرات: "فجأة سمعنا صوت انفجار كأنها سدادة عملاقة سحبت من عنق زجاجة، رفعت عينى ورأيت الصاروخ منطلقا إلى الطائرة فأصابها فى طرفها وتصاعدت النيران، لهيب وردى قوى. كل القوات التى تواجدت هناك تسمرت فى مكانها ونظرت، رأينا الصاروخ يضرب الطائرة، وفجأة مالت المروحية على جانبها، وسقطت فى المنحدر، مثل سفينة تغرق، وبدأت المتفجرات والوقود التى بداخلها تنفجر. وقال أحد الجنود ممن وقفوا إلى جانبى: أنا مذهول أنا لا أصدق، إنه كما فى الأفلام.

- طـارق الكـركـيت

الطريق الى القتال الشهداء الخمسة افكار ثورية ازمات المشروع الصهيوني حول المقاومة

4 من الزوار الآن

871345 مشتركو المجلة شكرا
المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي أسرة التحرير والمقالات تعبر عن كتابها - شبكة الجرمق